الجوهرة النيرة على مختصر القدوري

[كِتَابُ الْعَارِيَّةِ]
(كِتَابُ الْعَارِيَّةِ) هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْعَرِيَّةِ وَهِيَ الْعَطِيَّةُ وَقِيلَ مَنْسُوبَةٌ إلَى الْعَارِ؛ لِأَنَّ طَلَبَهَا عَارٌ وَشَنَارٌ فَعَلَى هَذَا يُقَالُ الْعَارِيَّةُ بِالتَّشْدِيدِ؛ لِأَنَّ يَاءَ النَّسَبِ مُشَدَّدَةٌ وَالْعَارَةُ لُغَةٌ فِي الْعَارِيَّةِ قَالَ الْحَرِيرِيُّ حَتَّى إنَّ بِزَّتِي هَذِهِ عَارَةٌ وَبَيْتِي لَا يَطُوفُ بِهِ فَارَةٌ أَيْ لَا يَدُورُ وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ تَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَسُمِّيَتْ عَارِيَّةً لِتَعَرِّيهَا عَنْ الْعِوَضِ وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَكُونَ الْعَيْنُ قَابِلَةً لِلِانْتِفَاعِ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا حَتَّى لَا تَكُونَ عَارِيَّةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ إلَّا قَرْضًا وَالْعَارِيَّةُ غَيْرُ لَازِمَةٍ حَتَّى إنَّ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا مَتَى شَاءَ وَتَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (الْعَارِيَّةُ جَائِزَةٌ) أَيْ مُفِيدَةٌ لِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّهَا نَوْعُ إحْسَانٍ وَفِعْلُ خَيْرٍ قَوْلُهُ (وَهِيَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ) وَهَذَا قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ وَعَامَّةِ أَصْحَابِنَا.
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ هِيَ إبَاحَةُ الْمَنَافِعِ بِمِلْكِ الْغَيْرِ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَمْلِكُ أَنْ يُعِيرَ، وَلَوْ كَانَتْ إبَاحَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُعِيرَهَا كَمَنْ أُبِيحَ لَهُ طَعَامٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُبِيحَهُ لِغَيْرِهِ وَجْهُ قَوْلِ الْكَرْخِيِّ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَمْلِيكًا لَجَازَ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَهَا كَمَا قُلْنَا فِي الْإِجَارَةِ لَمَّا كَانَتْ تَمْلِيكًا لِلْمَنَافِعِ جَازَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَجِّرَهَا قُلْنَا امْتِنَاعُ إجَارِهِ الْعَارِيَّةِ لَيْسَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ لَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُعِيرَ مَلَّكَهُ الْمَنَافِعَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّهُ عَنْهَا مَتَى شَاءَ فَلَوْ جَازَ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ لَتَعَلَّقَ بِالْإِجَارَةِ الِاسْتِحْقَاقُ فَقُطِعَ حَقُّ الْمُعِيرِ مِنْهَا فَلِهَذَا الْمَعْنَى لَمْ تَجُزْ إجَارَتُهَا.

قَوْلُهُ (وَتَصِحُّ بِقَوْلِهِ أَعَرْتُك وَأَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ وَمَنَحْتُك هَذَا الثَّوْبَ وَحَمَلْتُك عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الْهِبَةَ وَأَخْدَمْتُك هَذَا الْعَبْدَ وَدَارِي لَك سُكْنَى وَدَارِي لَك عُمْرَى

(1/350)


سُكْنَى) أَمَّا قَوْلُهُ أَعَرْتُك فَهُوَ صَرِيحُ الْعَارِيَّةِ وَأَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ عَارِيَّةً أَيْضًا؛ لِأَنَّهَا لَا تُطْعَمُ فَعُلِمَ أَنَّهُ أَرَادَ الْمَنْفَعَةَ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ كَانَ إبَاحَةً لِلْعَيْنِ وَقَوْلُهُ مَنَحْتُك هَذَا الثَّوْبَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَارِيَّةِ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ، وَلَوْ كَانَتْ تَقْتَضِي مِلْكَ الْعَيْنِ لَمْ يَجِبْ رَدُّهَا الْمِنْحَةُ بِكَسْرِ الْمِيمِ الْعَطِيَّةُ يُقَالُ مَنَحَهُ يَمْنَحُهُ وَيَمْنَحُهُ بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا إذَا أَعْطَاهُ شَيْئًا كَذَا فِي الصِّحَاحِ وَقَوْلُهُ عُمْرَى سُكْنَى بَيَانٌ لِلْمَنْفَعَةِ وَتَوْقِيتُهَا بِعُمُرِهِ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهُ سُكْنَاهَا مُدَّةَ عُمُرِهِ وَقَوْلُهُ إذَا لَمْ يُرِدْ بِهِ الْهِبَةَ رَاجِعٌ إلَى مَنَحْتُك وَحَمَلْتُك فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ بِهِمَا إلَّا أَنَّهُ أَرَادَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة: 68] وَلَمْ يَقُلْ بَيْنَ ذَلِكُمَا. قَوْلُهُ وَأَخْدَمْتُك هَذَا الْعَبْدَ صَرِيحٌ فِي تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي اسْتِخْدَامِهِ. وَقَوْلُهُ وَدَارِي لَك سُكْنَى أَيْ سُكْنَاهَا لَك.

قَوْلُهُ (وَلِلْمُعِيرٍ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعَارِيَّةِ مَتَى شَاءَ) ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ وَهِيَ تَحْدُثُ حَالًا فَحَالًا فَمَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ قَبْضٌ فَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ.

قَوْلُهُ (وَالْعَارِيَّةُ أَمَانَةٌ إنْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَمْ يَضْمَنْ) قَالَ عَبْدُ السَّلَامِ لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ فَإِنْ شَرَطَ فِيهَا الضَّمَانَ كَانَتْ مَضْمُونَةً بِالشَّرْطِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ حِينَ اسْتَعَارَ مِنْهُ أَدْرُعًا، وَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ أَغَصْبًا تَأْخُذُهَا يَا مُحَمَّدُ؟ فَقَالَ بَلْ عَارِيَّةً مَضْمُونَةً فَأَخَذَهَا بِشَرْطِ الضَّمَانِ.
وَفِي الْيَنَابِيعِ لَوْ قَالَ أَعِرْنِي دَابَّتَك أَوْ ثَوْبَك فَإِنْ ضَاعَ فَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ فَالشَّرْطُ لَغْوٌ وَلَا يَضْمَنُ. وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ وَالْإِجَارَةُ لَا يُضْمَنَانِ أَبَدًا، وَلَوْ شَرَطَ فِيهِمَا الضَّمَانَ، وَإِنَّمَا يُضْمَنَانِ بِالتَّعَدِّي كَذَا فِي الْكَرْخِيِّ وَقَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا تَعَدَّى ضَمِنَ؛ لِأَنَّ لِلتَّعَدِّي تَأْثِيرًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ فِي الْوَدِيعَةِ ضَمِنَهَا فَعَلَى هَذَا إذَا اسْتَعَارَ دَابَّةً إلَى مَوْضِعٍ سَمَّاهُ فَجَاوَزَ بِهَا ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فَعَطِبَتْ ضَمِنَ قِيمَتَهَا؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فَصَارَ بِرُكُونِهِ فِيهِ غَاصِبًا فَلِهَذَا ضَمِنَ فَإِنْ رَجَعَ بِهَا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي اسْتَعَارَهَا إلَيْهِ فَعَطِبَتْ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الضَّمَانِ.
وَقَالَ زُفَرُ يَبْرَأُ اعْتِبَارًا الْوَدِيعَةِ إذَا تَعَدَّى فِيهَا الْمُودَعُ ثُمَّ أَزَالَ التَّعَدِّيَ وَلَنَا أَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ الضَّمَانُ بِالتَّعَدِّي فَلَا يَبْرَأُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى صَاحِبِهَا كَالْغَاصِبِ.

قَوْلُهُ (وَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُؤَجِّرَ مَا اسْتَعَارَهُ) فَإِنْ آجَرَهُ فَعَطِبَ ضَمِنَ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ دُونَ الْإِجَارَةِ وَالشَّيْءُ لَا يَتَضَمَّنُ مَا فَوْقَهُ وَلِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَارِيَّةِ الرُّجُوعُ وَتَعَلُّقُ الْمُسْتَأْجِرِ بِهَا يَمْنَعُ ذَلِكَ فَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ فَإِنْ آجَرَهَا ضَمِنَ حِينَ سَلَّمَهَا، وَإِنْ شَاءَ الْمُعِيرُ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ ثُمَّ إنْ ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ آجَرَ مِلْكَهُ وَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَأْجِرُ رَجَعَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَارِيَّةٌ فِي يَدِهِ دَفْعًا لِضَرَرِ الْغَرُورِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ. قَوْلُهُ (وَلَهُ أَنْ يُعِيرَهُ إذَا كَانَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ) ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ وَإِذَا كَانَتْ تَمْلِيكًا فَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا جَازَ لَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ عَلَى حَسَبِ مَا مَلَكَ، وَإِنَّمَا شَرْطٌ أَنْ لَا يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ دَفْعًا لِمَزِيدِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُعِيرِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِاسْتِعْمَالِهِ لَا بِاسْتِعْمَالِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعِيرَ إذَا صَدَرَتْ مُطْلَقَةً بِأَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ شَيْءٌ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ وَيُعِيرَ غَيْرَهُ لِلْحَمْلِ وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ وَيُرْكِبَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَطْلَقَ فَلَهُ أَنْ يُعِيرَ حَتَّى لَوْ رَكِبَ بِنَفْسِهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ رُكُوبُهُ، وَلَوْ أَرْكَبَ غَيْرَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْكَبَ بِنَفْسِهِ حَتَّى لَوْ فَعَلَهُ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَيَّنَ الْإِرْكَابُ فَأَمَّا إذَا اسْتَعَارَهَا لِيَرْكَبَهَا هُوَ أَوْ اسْتَعَارَ ثَوْبًا لِيَلْبَسَهُ هُوَ فَأَرْكَبَهَا غَيْرَهُ أَوْ أَلْبَسَهُ غَيْرَهُ فَتَلِفَ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهَا مُقَيَّدَةٌ هُنَا بِرُكُوبِهِ وَلُبْسِهِ، وَإِنْ اسْتَعَارَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا هُوَ فَأَعَارَهَا غَيْرَهُ فَسَكَنَهَا لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ الدُّورَ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَعْمِلِ.

قَوْلُهُ (وَعَارِيَّةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قَرْضٌ) ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ تَمْلِيكُ الْمَنَافِعِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ أَعْيَانِهَا، وَكَذَا الْمَعْدُودُ الَّذِي لَا يَتَفَاوَتُ كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ عَارِيَّةُ

(1/351)


الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ قَرْضًا إذَا أَطْلَقَ الْعَارِيَّةَ أَمَّا إذَا اسْتَعَارَهَا لِيُعَايِرَ بِهَا مِيزَانًا أَوْ يَزِينَ بِهَا دُكَّانًا كَانَتْ عَارِيَّةً لَا قَرْضًا فَإِنْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.

قَوْلُهُ (وَإِذَا اسْتَعَارَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ فِيهَا أَوْ يَغْرِسَ نَخْلًا جَازَ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا وَيُكَلِّفَهُ قَلْعَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ) ؛ لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ تُوجِبُ الِاسْتِرْجَاعَ فَيُكَلَّفُ تَفْرِيغُهَا قَوْلُهُ (فَإِنْ لَمْ يُوقِفْ الْعَارِيَّةَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ) يَعْنِي فِي نُقْصَانِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مُغْتَرٌّ غَيْرُ مَغْرُورٍ حَيْثُ اغْتَرَّ بِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَوْثِقَ مِنْهُ بِالْوَعْدِ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالْعَارِيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ فَلَمْ يَكُنْ مَغْرُورًا وَالرُّجُوعُ إنَّمَا يَجِبُ بِالْغُرُورِ.

قَوْلُهُ (وَإِنْ وَقَّتَ الْعَارِيَّة فَرَجَعَ قَبْلَ الْوَقْتِ ضَمِنَ الْمُعِيرُ مَا نَقَصَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ بِالْقَلْعِ) ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ بِتَوْقِيتِ الْمُدَّةِ قَالَ فِي الْهِدَايَةِ إذَا وَقَعَتْ الْعَارِيَّةُ وَرَجَعَ قَبْلَ الْوَقْتِ صَحَّ رُجُوعُهُ وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ خُلْفِ الْوَعْدِ وَيَضْمَنُ الْمُعِيرُ مَا نَقَصَ الْبِنَاءُ وَالْغَرْسُ بِالْقَلْعِ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهُ حَيْثُ وَقَّتَ لَهُ،
وَالظَّاهِرُ هُوَ الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ، وَقَالَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ أَنَّهُ يَضْمَنُ صَاحِبُ الْأَرْضِ لِلْمُسْتَعِيرِ قِيمَةَ غَرْسِهِ وَبِنَائِهِ وَيَكُونَانِ لَهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُسْتَعِيرُ أَنْ يَرْفَعَهُمَا وَلَا يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُمَا فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ، وَقَالُوا إذَا كَانَ فِي الْقَلْعِ ضَرَرٌ بِالْأَرْضِ فَالْخِيَارُ إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ أَصْلٍ وَالْمُسْتَعِيرُ صَاحِبُ تَبَعٍ وَالتَّرْجِيحُ بِالْأَصْلِ، وَإِنْ اسْتَعَارَهَا لِيَزْرَعَهَا لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُ حَتَّى يَحْصُدَ الزَّرْعَ وَقَّتَ أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ؛ لِأَنَّ لِلزَّرْعِ نِهَايَةً مَعْلُومَةً فَيُتْرَكُ إلَى أَنْ يُسْتَحْصَدَ، وَإِنَّمَا يُتْرَكُ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ حَتَّى لَا يَتَضَرَّرَ الْمُعِيرُ مُرَاعَاةً لِلْحَقَّيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْغَرْسُ؛ لِأَنَّهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ.

قَوْلُهُ (وَأُجْرَةُ الْعَارِيَّةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ) ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ وَاجِبٌ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ وَفِي الْوَدِيعَةِ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى صَاحِبِهَا وَفِي الرَّهْنِ مُؤْنَةُ رَدِّ الرَّهْنِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَنَفَقَةُ الْمُسْتَعَارِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَعَلَفُ الدَّابَّةِ الْمُسْتَعَارَةِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ وَالْكِسْوَةُ عَلَى الْمُعِيرِ وَلَوْ اسْتَعَارَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَعَلَيْهِ نَفَقَتُهُ، وَإِنْ أَعَارَهُ مَوْلَاهُ فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْمَوْلَى فَالِاسْتِعَارَةُ أَنْ يَقُولَ أَعِرْنِي عَبْدَك وَالْإِعَارَةُ أَنْ يَقُولَ الْمَوْلَى خُذْ عَبْدِي وَاسْتَخْدِمْهُ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ مِنْ الْمُسْتَعِيرِ قَوْلُهُ (وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمُسْتَأْجَرَةِ عَلَى الْمُؤَجِّرِ) ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ التَّمْكِينُ وَالتَّخْلِيَةُ دُونَ الرَّدِّ فَإِنَّ مَنْفَعَةَ قَبْضِهِ شَامِلَةٌ لِلْمُؤَجَّرِ مَعْنًى. قَوْلُهُ (وَأُجْرَةُ رَدِّ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ عَلَى الْغَاصِبِ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الرَّدُّ وَالْإِعَادَةُ إلَى يَدِ الْمَالِكِ لِأَنَّهُ نَقَلَهَا مِنْ مَالِكِهَا غَصْبًا.

قَوْلُهُ (وَإِذَا اسْتَعَارَ دَابَّةً فَرَدَّهَا إلَى إصْطَبْلِ صَاحِبِهَا فَهَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ؛ لِأَنَّ إصْطَبْلَه يَدُهُ، وَلَوْ رَدَّهَا إلَى الْمَالِكِ فَالْمَالِكُ يَرُدُّهَا إلَى الْإِصْطَبْلِ وَلِأَنَّهُ أَتَى بِالتَّسْلِيمِ الْمُتَعَارَفِ وَفِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّهَا إلَى مَالِكِهَا وَلَا إلَى وَكِيلِهِ فَكَانَ مُضَيِّعًا لَهَا وَمَنْ اسْتَعَارَ دَابَّةً فَرَدَّهَا مَعَ عَبْدِهِ أَوْ أَجِيرِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَالْمُرَادُ بِالْأَجِيرِ أَنْ يَكُونَ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً بِخِلَافِ الْأَجِيرِ مُيَاوَمَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ، وَكَذَا إذَا رَدَّهَا مَعَ عَبْدِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ أَوْ أَجِيرِهِ لَمْ يَضْمَنْ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَرْضَى بِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا رَدَّهَا إلَيْهِ فَهُوَ يَرُدُّهُ إلَى عَبْدِهِ، وَقِيلَ هَذَا فِي الْعَبْدِ الَّذِي يَقُومُ عَلَى الدَّوَابِّ وَقِيلَ فِيهِ وَفِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَإِنْ رَدَّهَا مَعَ أَجْنَبِيٍّ ضَمِنَ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَا يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَمْلِكُ الْإِيدَاعَ؛ لِأَنَّهُ دُونَ الْإِعَارَةِ.

قَوْلُهُ (وَإِنْ اسْتَعَارَ عَيْنًا فَرَدَّهَا إلَى دَارِ الْمَالِكِ وَلَمْ يُسَلِّمْهَا إلَيْهِ ضَمِنَ) وَفِي نُسْخَةٍ لَمْ يَضْمَنْ وَكَذَا هُوَ فِي شَرْحِهِ لَمْ يَضْمَنْ غَيْرَ أَنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَشَارَ إلَى أَنَّهُ فِي آلَاتِ الْمَنْزِلِ.
وَفِي الْهِدَايَةِ إنْ اسْتَعَارَ عَبْدًا وَرَدَّهُ إلَى دَارِ الْمَالِكِ وَلَمْ يُسَلِّمْهُ لَمْ يَضْمَنْ فَإِنْ كَانَتْ

(1/352)


الْعَارِيَّةُ عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا لَا يَبْرَأُ حَتَّى يَرُدَّهُ إلَى الْمُعِيرِ وَهُوَ مَعْنَى مَا فِي مَتْنِ الْكِتَابِ. قَوْلُهُ (وَإِنْ رَدَّ الْوَدِيعَةَ إلَى دَارِ الْمَالِكِ وَلَمْ يُسَلِّمْهَا إلَيْهِ ضَمِنَ) وَكَذَا الْمَغْصُوبُ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ فَسْخُ فِعْلِهِ وَذَلِكَ بِالرَّدِّ إلَى الْمَالِكِ دُونَ غَيْرِهِ الْوَدِيعَةُ لَا يَرْضَى الْمَالِكُ بِرَدِّهَا إلَى الدَّارِ وَلَا إلَى يَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ارْتَضَى ذَلِكَ لَمَا أَوْدَعَهَا بِخِلَافِ الْعَوَارِيِّ؛ لِأَنَّ فِيهَا عُرْفًا حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْعَارِيَّةُ عَقْدَ جَوْهَرٍ لَمْ يَرُدَّهَا إلَّا إلَى الْمُعِيرِ لِعَدَمِ الْعُرْفِ فِيهِ وَمَنْ أَعَارَ أَرْضًا لِلزِّرَاعَةِ يَكْتُبُ الْمُعَارُ إنَّك قَدْ أَطْعَمْتَنِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَكْتُبُ أَنَّك قَدْ أَعَرْتَنِي؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْإِعَارَةِ مَوْضُوعَةٌ لَهُ وَالْكِتَابَةُ بِالْمَوْضُوعِ أَوْلَى كَمَا فِي إعَارَةِ الدَّارِ وَلَهُ أَنَّ لَفْظَ الْإِطْعَامِ أَدَلُّ عَلَى الْمُرَادِ؛ لِأَنَّهَا تَخُصُّ الزِّرَاعَةَ وَالْإِعَارَةُ تَنْتَظِمُ الزِّرَاعَةَ وَغَيْرَهَا كَالْبِنَاءِ وَنَحْوِهِ فَكَانَتْ الْكِتَابَةُ بِهَا أَوْلَى بِخِلَافِ الدَّارِ فَإِنَّهَا لَا تُعَارُ إلَّا لِلسُّكْنَى.

[مَسَائِلُ فِي الْعَارِيَّةِ]
(مَسَائِلُ) قَالَ فِي الْوَاقِعَاتِ رَجُلٌ اسْتَعَارَ دَابَّةً فَنَامَ الْمُسْتَعِيرُ فِي الْمَفَازَةِ وَمِقْوَدُهَا فِي يَدِهِ فَجَاءَ إنْسَانٌ فَقَطَعَ الْمِقْوَدَ وَذَهَبَ بِهَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَلَوْ مَدَّ الْمِقْوَدَ فَانْتَزَعَهُ مِنْ يَدِهِ وَلَمْ يَشْعُرْ بِذَلِكَ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ غَيْرُ مُضَيِّعٍ وَهَا هُنَا مُضَيَّعٌ، وَهَذَا إذَا نَامَ مُضْطَجِعًا أَمَّا إذَا نَامَ قَاعِدًا لَا يَضْمَنُ، وَلَوْ كَانَ الْمِقْوَدُ لَيْسَ فِي يَدِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضَيِّعٍ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ إذَا نَامَ قَاعِدًا فَسُرِقَتْ الْوَدِيعَةُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَالْمُودَعُ وَالْمُسْتَعِيرُ فِي هَذَا سَوَاءٌ نَصَّ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا السَّرَخْسِيُّ.

رَجُلٌ اسْتَعَارَ كِتَابًا لِيَقْرَأَ فِيهِ فَوَجَدَ فِيهِ خَطَأً إنْ عَلِمَ أَنَّ صَاحِبَ الْكِتَابِ يَكْرَهُ إصْلَاحَهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُصْلِحَهُ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَإِنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَكْرَهُ إصْلَاحَهُ جَازَ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ لَهُ دَلَالَةً وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْإِصْلَاحَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ.

رَجُلٌ اسْتَعَارَ ثَوْرًا فَاسْتَعْمَلَهُ ثُمَّ تَرَكَهُ فِي الْمَرْعَى فَضَاعَ إنْ عَلِمَ أَنَّ الْمُعِيرَ يَرْضَى بِكَوْنِهِ هُنَاكَ يَرْعَى وَحْدَهُ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ لَا يَضْمَنُ وَإِلَّا ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، رَجُلٌ طَلَبَ مِنْ آخَرَ ثَوْرًا عَارِيَّةً، فَقَالَ لَهُ غَدًا أُعْطِيك فَلَمَّا كَانَ مِنْ الْغَدِ أَخَذَهُ الْمُسْتَعِيرُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ وَاسْتَعْمَلَهُ وَمَاتَ فِي يَدِهِ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَإِنْ رَدَّهُ فَمَاتَ عِنْدَ صَاحِبِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.

امْرَأَةٌ أَعَارَتْ شَيْئًا بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ إنْ أَعَارَتْ مِنْ مَتَاعِ الْبَيْتِ مِمَّا يَكُونُ عَلَى أَيْدِي النِّسَاءِ عَادَةً فَضَاعَ لَا يُضْمَنُ.

وَلَوْ زَلَقَ مُسْتَعِيرُ السَّرَاوِيلِ فَتَخَرَّقَ

لَا يَضْمَنُ رَجُلٌ دَخَلَ الْحَمَّامَ فَاسْتَعْمَلَ آنِيَةَ الْحَمَّامِ فَانْكَسَرَتْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، وَكَذَا إذَا أَعْطَاهُ صَاحِبُ الْفُقَّاعِ كُوزَ الْفُقَّاعِ لِيَشْرَبَهُ فَسَقَطَ مِنْ يَدِهِ وَانْكَسَرَتْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِإِذْنِهِ
، وَلَوْ أَتَى إلَى سُوقِيٍّ يَبِيعُ الْآنِيَةَ وَأَخَذَ إنَاءً بِغَيْرِ إذْنِهِ لِيَنْظُرَ إلَيْهِ فَسَقَطَ مِنْ يَدِهِ فَانْكَسَرَتْ ضَمِنَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ