العناية شرح الهداية

 (الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ الْمُسْلِمِ إذَا مَلَكَ نِصَابًا مِلْكًا تَامًّا وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ) أَمَّا الْوُجُوبُ فَلِقَوْلِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
أَدَاءِ الصَّلَاةِ عَلَى ظَهْرِهَا. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ الْمَجْزَرَةِ، وَالْمَزْبَلَةِ، وَالْمَقْبَرَةِ، وَالْحَمَّامِ، وَقَوَارِعِ الطُّرُقِ، وَمَعَاطِنِ الْإِبِلِ، وَفَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ» .

[كِتَابُ الزَّكَاةِ]
قَرَنَ الزَّكَاةَ بِالصَّلَاةِ اقْتِدَاءً بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ حَسَنَةٌ لِمَعْنًى فِي نَفْسِهَا بِدُونِ الْوَاسِطَةِ، وَالزَّكَاةَ مُلْحَقَةٌ بِهَا وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ. وَالزَّكَاةُ فِي اللُّغَةِ: عِبَارَةٌ عَنْ النَّمَاءِ، يُقَالُ زَكَا الزَّرْعُ إذَا نَمَا، وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ: اسْمٌ لِفِعْلِ أَدَاءِ حَقٍّ يَجِبُ لِلْمَالِ يُعْتَبَرُ فِي وُجُوبِهِ الْحَوْلُ وَالنِّصَابُ لِأَنَّهَا تُوصَفُ بِالْوُجُوبِ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ دُونَ الْأَعْيَانِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ الْمُؤَدَّى لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَلَا يَصِحُّ الْإِيتَاءُ إلَّا فِي الْعَيْنِ، وَسَبَبُهَا مِلْكُ النِّصَابِ النَّامِي، وَشَرْطُهَا الْحُرِّيَّةُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْإِسْلَامُ وَالْخُلُوُّ عَنْ الدَّيْنِ وَكَمَالُ نِصَابٍ حَوْلِيٍّ، وَصِفَتُهَا الْفَرْضِيَّةُ، وَحُكْمُهَا الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَةِ التَّكْلِيفِ فِي الدُّنْيَا وَالنَّجَاةُ مِنْ الْعِقَابِ وَالْوُصُولُ إلَى الثَّوَابِ فِي الْعُقْبَى.
قَالَ (الزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْحُرِّ) أَيْ فَرِيضَةٌ لَازِمَةٌ بِالْكِتَابِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَالسُّنَّةِ الْمَعْرُوفَةِ وَهِيَ «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» الْحَدِيثَ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ

(2/153)


تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ» وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ.
وَالْمُرَادُ بِالْوَاجِبِ الْفَرْضُ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَاشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ كَمَالَ الْمِلْكِ بِهَا، وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ لِمَا نَذْكُرُهُ، وَالْإِسْلَامُ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ وَلَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الْكَافِرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مِلْكِ مِقْدَارِ النِّصَابِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
لَمْ يُنْكِرْهَا أَحَدٌ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا، وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْ لَفْظِ الْفَرْضِ إلَى الْوَاجِبِ إمَّا لِأَنَّ بَعْضَ مَقَادِيرِهَا وَكَيْفِيَّاتِهَا ثَابِتَةٌ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، أَوْ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ أَحَدِهِمَا فِي مَوْضِعِ الْآخَرِ جَائِزٌ مَجَازًا، وَإِنَّمَا قَالَ مِلْكًا تَامًّا احْتِرَازًا عَنْ مَالِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُ مِلْكُ الْمَوْلَى، وَإِنَّمَا لِلْمُكَاتَبِ فِيهِ مِلْكُ الْيَدِ، وَعَنْ مَالِ الْمَدْيُونِ فَإِنَّ

(2/154)


لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدَّرَ السَّبَبَ بِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْحَوْلِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ يَتَحَقَّقُ فِيهَا النَّمَاءُ، وَقَدَّرَهَا الشَّرْعُ بِالْحَوْلِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» وَلِأَنَّهُ الْمُتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْفُصُولِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْغَالِبُ تَفَاوُتُ الْأَسْعَارِ فِيهَا فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ. ثُمَّ قِيلَ: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْأَمْرِ، وَقِيلَ عَلَى التَّرَاخِي لِأَنَّ جَمِيعَ الْعُمْرِ وَقْتُ الْأَدَاءِ، وَلِهَذَا لَا تُضْمَنُ بِهَلَاكِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
صَاحِبَ الدَّيْنِ يَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مِلْكًا نَاقِصًا وَكَلَامُهُ فِيهِ ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ) يَعْنِي يَكُونُ الِاعْتِبَارُ بِهِ دُونَ حَقِيقَةِ الِاسْتِنْمَاءِ، حَتَّى إذَا ظَهَرَ النَّمَاءُ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ تَجِبُ الزَّكَاةُ.
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ قِيلَ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ) وَهُوَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ، فَإِنَّهُ قَالَ: يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ. وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ: مَنْ أَخَّرَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. وَفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحَجِّ فَقَالَ: لَا يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ الْحَجِّ وَيَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ فِي الزَّكَاةِ حَقَّ الْفُقَرَاءِ فَيَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ

(2/155)


النِّصَابِ بَعْدَ التَّفْرِيطِ.
(وَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ زَكَاةٌ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ: هِيَ غَرَامَةٌ مَالِيَّةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
حَقِّهِمْ، وَأَمَّا الْحَجُّ فَخَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ وَيَأْثَمُ بِتَأْخِيرِ الْحَجِّ، لِأَنَّ الزَّكَاةَ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ، أَمَّا الْحَجُّ فَهُوَ مُؤَقَّتٌ كَالصَّلَاةِ، فَرُبَّمَا لَا يُدْرِكُ الْوَقْتَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَمَوْضِعُهُ أُصُولُ الْفِقْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ زَكَاةٌ) هُوَ الْمَوْعُودُ بِقَوْلِهِ لِمَا نَذْكُرُهُ وَقَوْلُهُ (هِيَ غَرَامَةٌ مَالِيَّةٌ)

(2/156)


فَتُعْتَبَرُ بِسَائِرِ الْمُؤَنِ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَصَارَ كَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ. وَلَنَا أَنَّهَا عِبَادَةٌ فَلَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالِاخْتِيَارِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ، وَلَا اخْتِيَارَ لَهُمَا لِعَدَمِ الْعَقْلِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
أَيْ وُجُوبُ شَيْءٍ مَالِيٍّ اسْتَعَارَ لَفْظَ الْغَرَامَةِ لِلْوُجُوبِ لِمَا أَنَّ حَقِيقَةَ الْغَرَامَةِ هِيَ أَنْ لَا يَلْزَمَ الْإِنْسَانَ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ كَأَنَّهُ يَقُولُ الزَّكَاةُ وَاجِبٌ مَالِيٌّ وَكُلُّ مَا هُوَ وَاجِبٌ مَالِيٌّ يَجِبُ عَلَيْهِ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ فَالزَّكَاةُ تَجِبُ عَلَيْهِ وَيُؤَدِّي عَنْهُ الْوَلِيُّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ (وَلَنَا أَنَّهَا عِبَادَةٌ) لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مَا يَأْتِي بِهِ الْمَرْءُ عَلَى خِلَافِ هَوَى نَفْسِهِ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ رَبِّهِ وَالزَّكَاةُ وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» الْحَدِيثَ، وَغَيْرُهَا عِبَادَةٌ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ هِيَ وَكُلُّ مَا هُوَ عِبَادَةٌ (لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالِاخْتِيَارِ تَحْقِيقًا لِلِابْتِلَاءِ وَلَا اخْتِيَارَ لَهُمَا لِعَدَمِ الْعَقْلِ)

(2/157)


بِخِلَافِ الْخَرَاجِ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ. وَكَذَا الْغَالِبُ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعٌ، وَلَوْ أَفَاقَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إفَاقَتِهِ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فِي الصَّوْمِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -. فَإِنْ قِيلَ: الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْإِيمَانُ عَلَى أَصْلِكُمْ يَصِحُّ مِنْ الصَّبِيِّ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بِاخْتِيَارٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ فَلْتَصِحَّ الزَّكَاةُ بِمِثْلِهِ مِنْ الِاخْتِيَارِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي اُنْتُقِضَ قَوْلُكُمْ وَكُلُّ مَا هُوَ عِبَادَةٌ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالِاخْتِيَارِ. فَالْجَوَابُ أَنَّهَا إنَّمَا تَصِحُّ بِاخْتِيَارِ قَوْلِهِ فَلْتَصِحَّ الزَّكَاةُ بِمِثْلِهِ مِنْ الِاخْتِيَارِ. قُلْنَا: غَيْرُ مُتَصَوَّرٍ لِأَنَّ ذَلِكَ اخْتِيَارٌ لَا يَسْتَلْزِمُ ضَرَرًا لِعَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ، وَهَذَا الِاخْتِيَارُ يَسْتَلْزِمُ الضَّرَرَ فَلَا يَكُونُ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْخَرَاجِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَصَارَ كَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ. وَقَوْلُهُ (وَكَذَا الْغَالِبُ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ) لِمَا أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعُشْرِ الْأَرْضُ النَّامِيَةُ بِالْخَارِجِ، فَبِاعْتِبَارِ الْأَرْضِ وَهِيَ الْأَصْلُ كَانَتْ الْمُؤْنَةُ أَصْلًا، وَبِاعْتِبَارِ الْخَارِجِ وَهُوَ وَصْفُ الْأَرْضِ كَانَ شَبَهُهَا بِالزَّكَاةِ وَالْوَصْفُ تَابِعٌ لِلْمَوْصُوفِ فَكَانَ مَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعًا. فَإِنْ قِيلَ: سَبَبُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ النِّصَابُ النَّامِي وَالنِّصَابُ أَصْلٌ وَالنَّمَاءُ وَصْفٌ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي الزَّكَاةِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ أَصْلًا. فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُؤْنَةَ مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْبَقَاءِ كَالنَّفَقَةِ، وَالزَّكَاةُ لَيْسَتْ سَبَبًا لِبَقَاءِ الْمَالِ وَتَمَامُهُ قَرَّرْنَاهُ فِي التَّقْرِيرِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ أَفَاقَ) يَعْنِي الْمَجْنُونَ (فِي بَعْضِ السَّنَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِفَاقَةِ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ) يَعْنِي إذَا كَانَ مُفِيقًا فِي جُزْءٍ مِنْ السَّنَةِ أَوَّلِهَا أَوْ آخِرِهَا قَلَّ أَوْ كَثُرَ بَعْدَ مِلْكِ النِّصَابِ تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ. كَمَا لَوْ أَفَاقَ فِي جُزْءٍ مِنْ

(2/158)


وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَكْثَرُ الْحَوْلِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِيِّ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ مَجْنُونًا يُعْتَبَرُ الْحَوْلُ مِنْ وَقْتِ الْإِفَاقَةِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
شَهْرِ رَمَضَانَ فِي يَوْمٍ أَوْ لَيْلَةٍ لَزِمَهُ صَوْمُ الشَّهْرِ كُلِّهِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَرِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ لِمَا أَنَّ السَّنَةَ لِلزَّكَاةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّهْرِ لِلصَّوْمِ، وَالْإِفَاقَةُ فِي جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ كَالْإِفَاقَةِ فِي جَمِيعِهِ فِي وُجُوبِ صَوْمِ جَمِيعِ الشَّهْرِ فَكَذَا هَذَا (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَكْثَرُ الْحَوْلِ) فَإِنْ كَانَ مُفِيقًا فِيهِ فَقَدْ غَلَبَتْ الصِّحَّةُ الْجُنُونَ فَصَارَ كَجُنُونِ سَاعَةٍ فَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا فِيهِ كَانَ كَالْمَجْنُونِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ (وَلَا فَرْقَ بَيْنَ) الْجُنُونِ (الْأَصْلِيِّ) وَهُوَ أَنْ يُدْرِكَ مَجْنُونًا (وَالْعَارِضِيِّ) وَهُوَ أَنْ يُدْرِكَ مُفِيقًا ثُمَّ يُجَنَّ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ: يَعْنِي إذَا أَفَاقَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ سَوَاءٌ كَانَ الْجُنُونُ أَصْلِيًّا أَوْ عَارِضِيًّا لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُ الْإِفَاقَةُ فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِ (وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ) فِي الْأَصْلِيِّ (أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْحَوْلُ مِنْ وَقْتِ الْإِفَاقَةِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ) لِأَنَّ التَّكْلِيفَ لَمْ يَسْبِقْ هَذِهِ الْحَالَةَ فَصَارَتْ الْإِفَاقَةُ بِمَنْزِلَةِ بُلُوغِ الصَّبِيِّ، وَأَمَّا إذَا طَرَأَ الْجُنُونُ فَإِنْ اسْتَمَرَّ

(2/159)


(وَلَيْسَ عَلَى الْمُكَاتَبِ زَكَاةٌ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِوُجُودِ الْمُنَافِي وَهُوَ الرِّقُّ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ.
(وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَهُوَ مِلْكُ نِصَابٍ تَامٍّ. وَلَنَا أَنَّهُ مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ فَاعْتُبِرَ مَعْدُومًا كَالْمَاءِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَطَشِ وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمَهْنَةِ (وَإِنْ كَانَ مَالُهُ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ زَكَّى الْفَاضِلَ إذَا بَلَغَ نِصَابًا) لِفَرَاغِهِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
سَنَةً سَقَطَ لِأَنَّهُ اسْتَوْعَبَ مُدَّةَ التَّكَالِيفِ وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُعْتَبَرْ.
قَالَ (وَلَيْسَ عَلَى الْمُكَاتَبِ زَكَاةٌ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَيْسَ لَهُ مِلْكٌ تَامٌّ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ
(وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ) وَلَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ سَوَاءٌ كَانَ لِلَّهِ كَالزَّكَاةِ أَوْ لِلْعِبَادِ كَالْقَرْضِ، وَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَأَرْشِ الْجِرَاحَةِ وَمَهْرِ الْمَرْأَةِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ النُّقُودِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا وَسَوَاءٌ كَانَ حَالًا أَوْ مُؤَجَّلًا (فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَهُوَ مِلْكُ نِصَابٍ تَامٍّ) فَإِنَّ الْمَدْيُونَ مَالِكٌ لِمَالِهِ لِأَنَّ دَيْنَ الْحُرِّ الصَّحِيحِ يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَالِهِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ (وَلَنَا أَنَّهُ مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ) أَيْ مُعَدٌّ لِمَا يَدْفَعُ الْهَلَاكَ حَقِيقَةً أَوْ تَقْدِيرًا لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَجْلِ قَضَاءِ الدَّيْنِ دَفْعًا لِلْحَبْسِ وَالْمُلَازَمَةِ عَنْ نَفْسِهِ، وَكُلُّ مَا هُوَ كَذَلِكَ اُعْتُبِرَ مَعْدُومًا كَالْمَاءِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَطَشِ لِنَفْسِهِ أَوْ دَابَّتِهِ وَثِيَابِ الْمَهْنَةِ، وَهَذَا أَيْضًا رَاجِعٌ إلَى نُقْصَانِ الْمِلْكِ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ وَلَا قَضَاءَ فَكَانَ مِلْكًا نَاقِصًا.
وَقَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ مَالُهُ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ) ظَاهِرٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ

(2/160)


وَالْمُرَادُ بِهِ دَيْنٌ لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ حَتَّى لَا يَمْنَعَ دَيْنٌ النَّذْرَ وَالْكَفَّارَةَ، وَدَيْنُ الزَّكَاةِ مَانِعٌ حَالَ بَقَاءِ النِّصَابِ لِأَنَّهُ يُنْتَقَصُ بِهِ النِّصَابُ، وَكَذَا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ خِلَافًا لِزُفَرَ فِيهِمَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
الْمَدْيُونَ إذَا كَانَ لَهُ صُنُوفٌ مِنْ الْأَمْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ وَالدَّيْنُ يَسْتَغْرِقُ بَعْضَهَا صُرِفَ أَوَّلًا إلَى النُّقُودِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ صُرِفَ إلَى عُرُوضِ التِّجَارَةِ دُونَ السَّائِمَةِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ مِنْهُ صُرِفَ إلَى مَالِ الْقِنْيَةِ، فَإِنْ كَانَ لَهُ نَصِيبٌ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ يُصْرَفُ إلَى أَقَلِّهَا زَكَاةً حَتَّى إنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَى الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ وَلَا يُصْرَفُ إلَى الْبَقَرِ، ثُمَّ الْمَالِكُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ صَرَفَهُ إلَى الْغَنَمِ وَإِنْ شَاءَ إلَى الْإِبِلِ لِاتِّحَادِ الْوَاجِبِ فِيهِمَا، وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ مَا كَانَ أَنْفَعَ لِلْفُقَرَاءِ لَا يُصْرَفُ الدَّيْنُ إلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ (وَالْمُرَادُ دَيْنٌ لَهُ مُطَالِبٌ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (حَالَ بَقَاءِ النِّصَابِ وَكَذَا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ) صُورَتُهُ: رَجُلٌ مَلَكَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَمَضَى عَلَيْهِ حَوْلَانِ لَيْسَ عَلَيْهِ زَكَاةُ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ وُجُوبَ زَكَاةِ السَّنَةِ الْأُولَى صَارَ مَانِعًا عَنْ وُجُوبِهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِانْتِقَاصِ النِّصَابِ بِزَكَاةِ الْأُولَى، وَلَوْ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمِائَتَيْنِ فَاسْتُهْلِكَ النِّصَابُ قَبْلَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ ثُمَّ اسْتَفَادَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَحَالَ الْحَوْلُ عَلَى الْمُسْتَفَادِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ الْمُسْتَفَادِ لِأَنَّ وُجُوبَ زَكَاةِ النِّصَابِ الْأَوَّلِ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ بِسَبَبِ الِاسْتِهْلَاكِ فَمَنَعَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ.
وَقَوْلُهُ (خِلَافًا لِزُفَرَ فِيهِمَا) أَيْ فِي النِّصَابِ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ الزَّكَاةُ وَفِي النِّصَابِ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ دَيْنُ الِاسْتِهْلَاكِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ هَذَيْنِ

(2/161)


وَلِأَبِي يُوسُفَ فِي الثَّانِي عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ لِأَنَّ لَهُ مُطَالِبًا لِأَنَّهَا وَهُوَ الْإِمَامُ فِي السَّوَائِمِ وَنَائِبُهُ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فَإِنَّ الْمُلَّاكَ نُوَّابُهُ.
(وَلَيْسَ فِي دُورِ السُّكْنَى وَثِيَابِ الْبَدَنِ وَأَثَاثِ الْمَنَازِلِ وَدَوَابِّ الرُّكُوبِ وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَسِلَاحِ الِاسْتِعْمَالِ زَكَاةٌ) لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَلَيْسَتْ بِنَامِيَةٍ أَيْضًا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
الدَّيْنَيْنِ مَانِعَيْنِ عَنْ الزَّكَاةِ لِأَنَّهُ لَا مُطَالِبَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ فَصَارَ كَدَيْنِ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَبِي يُوسُفَ فِي الثَّانِي) أَيْ فِي النِّصَابِ الَّذِي وَجَبَ فِيهِ دَيْنُ الِاسْتِهْلَاكِ (عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ) أَيْ عَلَى مَا رَوَى عَنْهُ أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ لَهُ مُطَالِبًا وَهُوَ الْإِمَامُ فِي السَّوَائِمِ وَنَائِبُهُ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فَإِنَّ الْمُلَّاكَ نُوَّابُهُ) دَلِيلُنَا، وَهَذَا لِأَنَّ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] يُثْبِتُ لِلْإِمَامِ حَقَّ الْأَخْذِ مِنْ كُلِّ مَالٍ، وَكَذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَلِيفَتَانِ بَعْدَهُ كَانُوا يَأْخُذُونَ إلَى أَنْ فَوَّضَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي خِلَافَتِهِ أَدَاءَ الزَّكَاةِ عَنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ إلَى مُلَّاكِهَا لِمَصْلَحَةٍ هِيَ أَنَّ النَّقْدَ مَطْمَعُ كُلِّ طَامِعٍ، فَكَرِهَ أَنْ يُفَتِّشَ السُّعَاةُ عَلَى التُّجَّارِ مَسْتُورَ أَمْوَالِهِمْ، فَفَوَّضَ الْأَدَاءَ إلَيْهِمْ وَحَقُّ الْأَخْذِ لِلسَّاعِي لِغَرَضِ الثُّبُوتِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا مَرَّ عَلَى الْعَاشِرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ الزَّكَاةَ فَيُطَالِبَهُ وَيَحْبِسَهُ وَلِذَلِكَ مَنَعَ وُجُوبَ الزَّكَاةِ، وَبِهَذَا فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ دَيْنِ الزَّكَاةِ وَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ، فَإِنَّ دَيْنَ النِّصَابِ الْمُسْتَهْلَكِ لَا مُطَالِبَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ، بِخِلَافِ النِّصَابِ الْقَائِمِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَمُرَّ بِهِ عَلَى الْعَاشِرِ فَتَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ حِينَئِذٍ.
وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَلَيْسَتْ بِنَامِيَةٍ) يَعْنِي أَنَّ الشَّغْلَ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَعَدَمَ النَّمَاءِ كُلٌّ مِنْهُمَا مَانِعٌ عَنْ وُجُوبِهَا وَقَدْ اجْتَمَعَا هَاهُنَا، أَمَّا كَوْنُهَا مَشْغُولَةً بِهَا فَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَارٍ يَسْكُنُهَا وَثِيَابٍ يَلْبَسُهَا،

(2/162)


وَعَلَى هَذَا كُتُبُ الْعِلْمِ لِأَهْلِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَأَمَّا عَدَمُ النَّمَاءِ فَلِأَنَّهُ إمَّا خِلْقِيٌّ كَمَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَوْ بِالْإِعْدَادِ لِلتِّجَارَةِ وَلَيْسَا بِمَوْجُودَيْنِ هَاهُنَا.
وَقَوْلُهُ (وَعَلَى هَذَا كُتُبُ الْعِلْمِ) يَعْنِي أَنَّهَا تَمْنَعُ وُجُوبَهَا إذَا لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَتْ مَعَ أَهْلِهَا أَوْ مَعَ غَيْرِهِ لِعَدَمِ النَّمَاءِ، وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُ (لِأَهْلِهَا) غَيْرُ مُفِيدٍ هَاهُنَا، وَإِنَّمَا يُفِيدُ فِي حَقِّ الْمَصْرِفِ، فَإِنَّ أَهْلَ كُتُبِ الْعِلْمِ إذَا كَانَتْ لَهُ كُتُبٌ تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَيْهَا لِلتَّدْرِيسِ وَنَحْوِهِ جَازَ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَإِلَّا فَلَا.

(2/163)


وَآلَاتُ الْمُحْتَرَفِينَ لِمَا قُلْنَا.
(وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ فَجَحَدَهُ سِنِينَ ثُمَّ قَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يُزَكِّهِ لِمَا مَضَى) مَعْنَاهُ: صَارَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنْ أَقَرَّ عِنْدَ النَّاسِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ مَالِ الضِّمَارِ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ: الْمَالُ الْمَفْقُودُ، وَالْآبِقُ، وَالضَّالُّ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقَوْلُهُ (وَآلَاتُ الْمُحْتَرَفِينَ) قِيلَ يُرِيدُ بِهَا مَا يَنْتَفِعُ بِعَيْنِهِ وَلَا يَبْقَى أَثَرُهُ فِي الْمَعْمُولِ كَالصَّابُونِ وَالْحَرَضِ وَغَيْرِهِمَا كَالْقُدُورِ وَقَوَارِيرِ الْعَطَّارِ وَنَحْوِهَا لِكَوْنِ الْأَجْرِ حِينَئِذٍ مُقَابَلًا بِالْمَنْفَعَةِ فَلَا يُعَدُّ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ. وَأَمَّا مَا يَبْقَى أَثَرُهُ فِيهِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى الصَّبَّاغُ عُصْفُرًا أَوْ زَعْفَرَانًا لِيَصْبُغَ لِلنَّاسِ بِالْأَجْرِ وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَإِنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إذَا بَلَغَ نِصَابًا لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ الْأَجْرِ مُقَابَلٌ بِالْعَيْنِ. وَقَوْلُهُ (لِمَا قُلْنَا) يَعْنِي أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَامِيَةٍ.
قَالَ (وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ فَجَحَدَهُ سِنِينَ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَمَنْ لَا تَجِبُ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْأَمْوَالِ الَّتِي لَا تَجِبُ فِيهَا، وَهُوَ مَا يُسَمَّى ضِمَارًا وَهُوَ الْغَائِبُ الَّذِي لَا يُرْجَى وُصُولُهُ، فَإِذَا رَجَّى فَلَيْسَ بِضِمَارٍ، كَذَا نَقَلَهُ الْمُطَرِّزِيُّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْإِضْمَارِ وَهُوَ التَّغْيِيبُ وَالْإِخْفَاءُ، وَمِنْهُ أَضْمَرَ فِي قَلْبِهِ، وَقَالُوا: الضِّمَارُ مَا يَكُونُ عَيْنُهُ قَائِمًا وَلَا يُنْتَفَعُ بِهِ كَالدَّيْنِ الْمَجْحُودِ وَالْمَالِ الْمَفْقُودِ وَالْعَبْدِ الْآبِقِ وَالْمَغْصُوبِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ.
وَقَوْلُهُ (مَعْنَاهُ: صَارَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنْ أَقَرَّ عِنْدَ النَّاسِ) إنَّمَا

(2/164)


وَالْمَغْصُوبُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَالْمَالُ السَّاقِطُ فِي الْبَحْرِ، وَالْمَدْفُونُ فِي الْمَفَازَةِ إذَا نَسِيَ مَكَانَهُ، وَاَلَّذِي أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مُصَادَرَةً. وَوُجُوبُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِسَبَبِ الْآبِقِ وَالضَّالِّ وَالْمَغْصُوبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
قَيَّدَ بِذَلِكَ احْتِرَازًا عَنْ مَسْأَلَةٍ تَأْتِي بَعْدَ هَذَا وَهِيَ قَوْلُهُ وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى جَاحِدٍ وَعَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَقَوْلُهُ (وَالْمَدْفُونُ فِي الْمَفَازَةِ إذَا نُسِيَ مَكَانُهُ) قَيَّدَ بِالْمَفَازَةِ احْتِرَازًا عَنْ الْمَدْفُونِ فِي أَرْضٍ لَهُ أَوْ كَرْمٍ أَوْ بَيْتٍ عَلَى مَا يَجِيءُ.

(2/165)


عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. لَهُمَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ وَفَوَاتُ الْيَدِ غَيْرُ مُخِلٍّ بِالْوُجُوبِ كَمَالِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا زَكَاةَ فِي الْمَالِ الضِّمَارِ وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَالُ النَّامِي وَلَا نَمَاءَ إلَّا بِالْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ وَلَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ. وَابْنُ السَّبِيلِ يَقْدِرُ بِنَائِبِهِ، وَالْمَدْفُونُ فِي الْبَيْتِ نِصَابٌ لِتَيَسُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ، وَفِي الْمَدْفُونِ فِي أَرْضٍ أَوْ كَرْمٍ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقَوْلُهُ (لَهُمَا) أَيْ لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ (أَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ) وَالْمَانِعُ مُنْتَفٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ تَحَقَّقَ لَا مَحَالَةَ أَمَّا تَحَقُّقُ السَّبَبِ فَلِأَنَّهُ مَلَكَ نِصَابًا تَامًّا عَلَى مَا مَرَّ وَأَمَّا انْتِفَاءُ الْمَانِعِ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ ثَمَّةَ مَانِعٌ لَكَانَ فَوَاتُ الْيَدِ وَهُوَ لَا يُخِلُّ بِالْوُجُوبِ كَمَالِ ابْنِ السَّبِيلِ (وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا زَكَاةَ فِي الْمَالِ الضِّمَارِ) وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ السَّبَبَ إلَخْ) دَلِيلٌ يَتَضَمَّنُ الْمُمَانَعَةَ، بِأَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّبَبَ قَدْ وُجِدَ لِأَنَّ السَّبَبَ (هُوَ الْمَالُ النَّامِي) وَهُوَ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ لِأَنَّ النَّمَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ، وَلَا قُدْرَةَ عَلَى الْمَالِ الضِّمَارِ.
وَقَوْلُهُ (وَابْنُ السَّبِيلِ يُقَدَّرُ بِنَائِبِهِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا كَمَالِ ابْنِ السَّبِيلِ: وَتَقْرِيرُهُ سَلَّمْنَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ، وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَانِعَ مُنْتَفٍ. قَوْلُهُ وَفَوَاتُ الْيَدِ غَيْرُ مُخِلٍّ بِالْوُجُوبِ قُلْنَا: مَمْنُوعٌ. قَوْلُهُ كَمَالِ ابْنِ السَّبِيلِ: قُلْنَا قِيَاسٌ فَاسِدٌ لِأَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ قَادِرٌ عَلَى التَّصَرُّفِ بِنَائِبِهِ، وَلِهَذَا لَوْ بَاع شَيْئًا مِنْ مَالِهِ جَازَ لِقُدْرَتِهِ عَلَى التَّسْلِيمِ بِنَائِبِهِ. وَقَوْلُهُ (وَالْمَدْفُونُ فِي الْبَيْتِ نِصَابٌ) أَيْ مُوجِبٌ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ (لِتَيَسُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ) لِكَوْنِ الْبَيْتِ بِيَدِهِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ فَيَصِلُ إلَيْهِ بِحَفْرِهِ (وَفِي الْمَدْفُونِ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ أَوْ كَرْمٍ اخْتِلَافُ مَشَايِخِ بُخَارَى) فَقِيلَ يَجِبُ لِإِمْكَانِ حَفْرِ جَمِيعِ الْأَرْضِ وَالْوُصُولِ إلَيْهِ، وَقِيلَ لَا تَجِبُ لِأَنَّ حَفْرَ جَمِيعِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَذِّرًا

(2/166)


وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى مُقِرٍّ مَلِيءٍ أَوْ مُعْسِرٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَيْهِ ابْتِدَاءً أَوْ بِوَاسِطَةِ التَّحْصِيلِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى جَاحِدٍ وَعَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَوْ عَلِمَ بِهِ الْقَاضِي لِمَا قُلْنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
كَانَ مُتَعَسِّرًا وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ
(وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى مُقِرٍّ مَلِيءٍ) أَيْ غَنِيٍّ مُقْتَدِرٍ (أَوْ مُعْسِرٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَيْهِ ابْتِدَاءً) أَيْ فِي الْمَلِيءِ (أَوْ بِوَاسِطَةِ التَّحْصِيلِ) يَعْنِي فِي الْمُعْسِرِ فَكَانَ مِنْ قَبِيلِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ عَلَى السُّنَنِ (وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى جَاحِدٍ وَعَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَوْ عَلِمَ الْقَاضِي بِهِ لِمَا قُلْنَا) يَعْنِي مِنْ إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَيْهِ.
قَالَ الْإِمَامُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ: وَلَوْ كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيمَا مَضَى لِأَنَّهُ لَا يُعَدُّ تَاوِيًا لِمَا أَنَّ حُجَّةَ الْبَيِّنَةِ فَوْقَ حُجَّةِ الْإِقْرَارِ، وَهَذَا رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ قَالَ: لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ لِمَا مَضَى وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً، إذْ لَيْسَ كُلُّ شَاهِدٍ يُقْبَلُ وَلَا كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ، وَفِي الْمُحَابَاةِ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي لِلْخُصُومَةِ ذُلٌّ، وَالْبَيِّنَةُ بِدُونِ الْقَضَاءِ لَا تَكُونُ مُوجِبَةً شَيْئًا بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي لِأَنَّ صَاحِبَ

(2/167)


وَلَوْ كَانَ عَلَى مُقِرٍّ مُفْلِسٍ فَهُوَ نِصَابٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ تَفْلِيسَ الْقَاضِي لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَجِبُ لِتَحَقُّقِ الْإِفْلَاسِ عِنْدَهُ بِالتَّفْلِيسِ. وَأَبُو يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي تَحَقُّقِ الْإِفْلَاسِ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْفُقَرَاءِ.
(وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً لِلتِّجَارَةِ وَنَوَاهَا لِلْخِدْمَةِ بَطَلَتْ عَنْهَا الزَّكَاةُ) لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِالْعَمَلِ وَهُوَ تَرْكُ التِّجَارَةِ (وَإِنْ نَوَاهَا لِلتِّجَارَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ حَتَّى يَبِيعَهَا فَيَكُونَ فِي ثَمَنِهَا زَكَاةٌ) لِأَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تَتَّصِلْ بِالْعَمَلِ إذْ هُوَ لَمْ يَتَّجِرْ فَلَمْ تُعْتَبَرْ، وَلِهَذَا يَصِيرُ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَلَا يَصِيرُ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا إلَّا بِالسَّفَرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
الدَّيْنِ هُنَاكَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْخُصُومَةِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يُلْزِمُهُ بِعِلْمِهِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَوْ كَانَ عَلَى مُقِرٍّ مُفَلَّسٍ) بِفَتْحِ اللَّامِ الْمُشَدَّدَةِ (فَهُوَ نِصَابٌ) أَيْ مُوجِبٌ لِلزَّكَاةِ (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِأَنَّ تَفْلِيسَ الْقَاضِي) أَيْ النِّدَاءَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أَفْلَسَ (لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ) فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ، وَلَوْ لَمْ يُفَلِّسْهُ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِالِاتِّفَاقِ لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ بِوَاسِطَةِ التَّحْصِيلِ كَمَا مَرَّ، فَكَذَا بَعْدَ التَّفْلِيسِ (وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَجِبُ) عَلَيْهِ (لِتَحَقُّقِ الْإِفْلَاسِ بِالتَّفْلِيسِ) وَلَمَّا صَحَّ التَّفْلِيسُ عِنْدَهُ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ التَّاوِي وَالْمَجْحُودِ (وَأَبُو يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي تَحَقُّقِ الْإِفْلَاسِ) حَتَّى تَسْقُطَ الْمُطَالَبَةُ إلَى وَقْتِ الْيَسَارِ (وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ) فَتَجِبُ لِمَا مَضَى إذَا قُبِضَ عِنْدَهُمَا (رِعَايَةً لِجَانِبِ الْفُقَرَاءِ)
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً لِلتِّجَارَةِ) ظَاهِرٌ وَحَاصِلُهُ أَنَّ النِّيَّةَ إذَا اقْتَرَنَتْ بِالْعَمَلِ وَجَبَ اعْتِبَارُهَا، وَإِذَا تَجَرَّدَتْ عَنْ الْعَمَلِ لَا تُعْتَبَرُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ

(2/168)


(وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِالْعَمَلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَرِثَ وَنَوَى التِّجَارَةَ) لِأَنَّهُ لَا عَمَلَ مِنْهُ، وَلَوْ مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْوَصِيَّةِ أَوْ النِّكَاحِ أَوْ الْخُلْعِ أَوْ الصُّلْحِ عَنْ الْقَوَدِ وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِاقْتِرَانِهَا بِالْعَمَلِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُقَارِنْ عَمَلَ التِّجَارَةِ، وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ عَلَى عَكْسِهِ.
(وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَّا بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِلْأَدَاءِ، أَوْ مُقَارِنَةٍ لِعَزْلِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
ثُبُوتُهُ بِالْجَوَارِحِ، وَالتِّجَارَةُ عَمَلُ الْجَوَارِحِ فَلَا تَتَحَصَّلُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لِأَنَّهَا تَصْلُحُ لِتَرْكِ الْفِعْلِ دُونَ إنْشَائِهِ.
قَالَ (وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ) مَبْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى وَنَوَى قُرِنَتْ نِيَّتُهُ بِالْعَمَلِ، وَإِذَا وَرِثَ وَنَوَى تَجَرَّدَتْ النِّيَّةُ عَنْ الْعَمَلِ لِمَا أَنَّ الْمِيرَاثَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ عَمَلِهِ وَصُنْعِهِ حَتَّى إنَّ الْجَنِينَ يَرِثُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ فِعْلٌ (وَلَوْ مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْوَصِيَّةِ) أَوْ بِغَيْرِهِمَا مِمَّا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ (وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِاقْتِرَانِهَا بِالْعَمَلِ وَهُوَ الْقَبُولُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُقَارِنْ عَمَلَ التِّجَارَةِ) لِأَنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الرَّجُلِ عَلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ يَدْخُلُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ كَالْإِرْثِ. وَنَوْعٌ يَدْخُلُ بِصُنْعِهِ وَهُوَ أَيْضًا عَلَى نَوْعَيْنِ: بِبَدَلٍ مَالِيٍّ كَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِهِ كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ، وَبِغَيْرِ بَدَلٍ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ، فَاَلَّذِي يَدْخُلُ بِغَيْرِ صُنْعِهِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةُ التِّجَارَةِ مُجَرَّدَةً بِالِاتِّفَاقِ، وَاَلَّذِي يَدْخُلُ بِبَدَلٍ مَالِيٍّ يُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةُ التِّجَارَةِ بِالِاتِّفَاقِ، وَاَلَّذِي يَدْخُلُ بِبَدَلٍ غَيْرِ مَالِيٍّ أَوْ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. قِيلَ قَوْلُهُ وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ تَصِحَّ فِيهِ نِيَّةُ التِّجَارَةِ لَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ كَمَنْ اشْتَرَى أَرْضًا عُشْرِيَّةً أَوْ خَرَاجِيَّةً بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ لَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةُ التِّجَارَةِ لِأَنَّ نِيَّةَ التِّجَارَةِ فِيهَا لَا تَصِحُّ، لِأَنَّهَا لَوْ صَحَّتْ لَزِمَ فِيهَا اجْتِمَاعُ الْحَقَّيْنِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْأَرْضُ وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَإِذَا لَمْ تَصِحَّ بَقِيَتْ الْأَرْضُ عَلَى مَا كَانَتْ. وَقَوْلُهُ (وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ عَلَى عَكْسِهِ) يَعْنِي مَا نَقَلَ الْإِسْبِيجَابِيُّ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ الْقَاضِي الشَّهِيدِ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي مُخْتَلِفِهِ هَذَا الِاخْتِلَافَ، عَلَى عَكْسِ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَنَّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا يَكُونُ لِلتِّجَارَةِ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَكُونُ لَهَا.
قَالَ (وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَّا بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِلْأَدَاءِ)

(2/169)


لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ فَكَانَ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةُ وَالْأَصْلُ فِيهَا الِاقْتِرَانُ، إلَّا أَنَّ الدَّفْعَ يَتَفَرَّقُ فَاكْتُفِيَ بِوُجُودِهَا حَالَةَ الْعَزْلِ تَيْسِيرًا كَتَقَدُّمِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ.
(وَمَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ سَقَطَ فَرْضُهَا عَنْهُ اسْتِحْسَانًا) لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْهُ فَكَانَ مُتَعَيِّنًا فِيهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ (وَلَوْ أَدَّى بَعْضَ النِّصَابِ سَقَطَ زَكَاةُ الْمُؤَدَّى عِنْدَ مُحَمَّدٍ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَائِعٌ فِي الْكُلِّ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَسْقُطُ لِأَنَّ الْبَعْضَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِكَوْنِ الْبَاقِي مَحَلًّا لِلْوَاجِبِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ فَلَا بُدَّ لَهَا مِنْ نِيَّةٍ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا إلَّا إذَا قَارَنَتْ الْعَمَلَ، فَإِنْ قَارَنَتْ الْأَدَاءَ فَظَاهِرٌ. وَإِنْ قَارَنَتْ عُزِلَ مِقْدَارُ الْوَاجِبِ فَلِمَا ذَكَرَ بِقَوْلِهِ (إلَّا أَنَّ الدَّفْعَ يَتَفَرَّقُ فَاكْتُفِيَ بِوُجُودِهَا حَالَةَ الْعَزْلِ تَيْسِيرًا) فَإِنَّا لَوْ شَرَطْنَا وُجُودَهَا عِنْدَ كُلِّ دَفْعٍ لَزِمَ الْحَرَجُ فَكَانَ كَتَقْدِيمِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ.
وَقَوْلُهُ (مَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ) أَيْ غَيْرَ نَاوٍ لَهَا (سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُهَا اسْتِحْسَانًا) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَسْقُطَ، قِيلَ: وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ النَّفَلَ وَالْفَرْضَ كِلَاهُمَا مَشْرُوعَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا ذَكَرَهُ (أَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْهُ) أَيْ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَهُوَ رُبُعُ الْعُشْرِ (فَكَانَ مُتَعَيِّنًا فِيهِ) أَيْ فِي الْجَمِيعِ، وَالْمُتَعَيِّنُ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّعْيِينِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: الْوَاجِبُ مُتَعَيِّنٌ بِتَعْيِينِ الْمُؤَدِّي أَوْ بِتَعْيِينِ الشَّارِعِ، لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ بِكَوْنِهِ خِلَافَ الْمَفْرُوضِ، وَالثَّانِي إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا لَمْ يُزَاحِمْهُ مُزَاحِمٌ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ النَّفَلَ مَشْرُوعٌ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مُتَعَيِّنٌ بِتَعْيِينِ الْمُؤَدِّي بِدَلَالَةِ حَالِهِ كَمَنْ أَطْلَقَ نِيَّةَ الْحَجِّ وَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ. وَالْمَفْرُوضُ عَدَمُ تَعْيِينِهِ نَصًّا لَا دَلَالَةً. وَلَوْ سَلَكَ هَاهُنَا الْمَسْلَكَ الَّذِي سَلَكْته فِي التَّقْرِيرِ وَهُوَ أَنْ يُقَالَ الزَّكَاةُ سَقَطَتْ عَنْهُ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا وَالسُّقُوطُ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ تَخْفِيفٌ عَلَيْهِ فَيُكْتَفَى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ تَيْسِيرًا لَعَلَّهُ كَانَ أَسْهَلَ مَأْخَذًا (وَلَوْ أَدَّى بَعْضَ النِّصَابِ سَقَطَتْ زَكَاةُ الْمُؤَدِّي عِنْدَ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَائِعٌ) فَلَوْ تَصَدَّقَ بِالْجَمِيعِ سَقَطَ الْجَمِيعُ، فَكَذَا إذَا تَصَدَّقَ بِالْبَعْضِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَسْقُطُ لِأَنَّ الْبَعْضَ الْمُؤَدَّى غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِمَحَلِّيَّةِ بَعْضِ الْوَاجِبِ الَّذِي يَخُصُّهُ لِكَوْنِ الْبَاقِي مَحَلًّا لِلْوَاجِبِ فَوُجِدَتْ

(2/170)