العناية
شرح الهداية (وَإِذَا أُحْصِرَ الْمُحْرِمُ بِعَدُوٍّ
أَوْ أَصَابَهُ مَرَضٌ فَمَنَعَهُ مِنْ الْمُضِيِّ جَازَ لَهُ
التَّحَلُّلُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَكُونُ
الْإِحْصَارُ إلَّا بِالْعَدُوِّ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ شُرِعَ
فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ؛ لِتَحْصِيلِ النَّجَاةِ وَبِالْإِحْلَالِ يَنْجُو
مِنْ الْعَدُوِّ لَا مِنْ الْمَرَضِ. وَلَنَا أَنَّ آيَةَ الْإِحْصَارِ
وَرَدَتْ فِي الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ
فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ وَالْحَصْرُ بِالْعَدُوِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
[بَابُ الْإِحْصَارِ]
لَمَّا كَانَ مِنْ الْإِحْصَارِ مَا هُوَ جِنَايَةٌ عَلَى الْمُحْرِمِ
أَعْقَبَهُ بَابَ الْجِنَايَاتِ بِبَابٍ عَلَى حِدَةٍ، تَقُولُ الْعَرَبُ:
أُحْصِرَ إذَا مَنَعَهُ خَوْفٌ أَوْ عَدُوٌّ أَوْ مَرَضٌ مِنْ الْوُصُولِ
إلَى إتْمَامِ حَجَّتِهِ أَوْ عُمْرَتِهِ، وَإِذَا حَبَسَهُ سُلْطَانٌ أَوْ
قَاهِرٌ مَانِعٌ يَقُولُونَ حُصِرَ، فَالْمُحْصَرُ مُحْرِمٌ مَمْنُوعٌ عَنْ
الْمُضِيِّ إلَى إتْمَامِ أَفْعَالِ مَا أَحْرَمَ لِأَجْلِهِ (فَإِذَا
أُحْصِرَ بِعَدُوٍّ أَوْ مَرَضٍ فَمُنِعَ مِنْ الْمُضِيِّ جَازَ لَهُ
التَّحَلُّلُ) وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حُصِرَ الْإِحْصَارُ
فِي الْعَدُوِّ وَقَالَ: الْمَرِيضُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ إلَّا
أَنْ يَكُونَ شَرَطَ ذَلِكَ عِنْدَ إحْرَامِهِ، وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ إلَى
أَنْ يَبْرَأَ (لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ شُرِعَ فِي حَقِّ
الْمُحْصَرِ لِتَحْصِيلِ النَّجَاةِ) بِالْإِحْلَالِ وَالنَّجَاةُ
بِالْإِحْلَالِ لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ الْعَدُوِّ وَلِأَنَّ مَا بِهِ مِنْ
الْمَرَضِ لَا يَزُولُ بِالتَّحَلُّلِ، بِخِلَافِ الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ
فَإِنَّ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ يَزُولُ بِالتَّحَلُّلِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ
إلَى أَهْلِهِ فَيَنْدَفِعُ عَنْهُ شَرُّ عَدُوِّهِ (وَلَنَا أَنَّ آيَةَ
الْإِحْصَارِ وَرَدَتْ فِي الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ
اللُّغَةِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا: الْإِحْصَارُ بِالْمَرَضِ وَالْحَصْرُ
بِالْعَدُوِّ) وَإِذَا وَرَدَتْ فِيهِ كَانَتْ
(3/124)
وَالتَّحَلُّلُ قَبْلَ أَوَانِهِ لِدَفْعِ
الْحَرَجِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ، وَالْحَرَجُ فِي
الِاصْطِبَارِ عَلَيْهِ مَعَ الْمَرَضِ أَعْظَمُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
دَلَالَتُهُ عَلَى الْإِحْصَارِ بِالْمَرَضِ أَقْوَى، وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ
وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ كَانَ مِنْ حَقِّ الْكَلَامِ أَنْ يَقُولَ
بِإِجْمَاعِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا تَعَلُّقَ
لَهُمْ بِوُرُودِ الْآيَةِ وَسَبَبِ نُزُولِهَا. وَالثَّانِي أَنَّهَا
نَزَلَتْ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَأَصْحَابِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَكَانَ الْإِحْصَارُ
بِالْعَدُوِّ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ مَعْنَاهُ بِدَلَالَةِ
إجْمَاعِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَجْمَعُوا عَلَى مَعْنًى دَلَّ ذَلِكَ
الْمَعْنَى أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ وَارِدَةً فِي الْإِحْصَارِ بِمَرَضٍ.
وَعَنْ الثَّانِي بِمَا قِيلَ النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ مُطْلَقَةٌ يُعْمَلُ
بِهَا عَلَى إطْلَاقِهَا مِنْ غَيْرِ حَمْلٍ عَلَى الْأَسْبَابِ
الْوَارِدَةِ هِيَ لِأَجْلِهَا.
وَقَوْلُهُ (وَالتَّحَلُّلُ قَبْلَ أَوَانِهِ) اسْتِدْلَالٌ بِمَعْقُولٍ
فِيهِ شَائِبَةُ التَّنَزُّلِ كَأَنَّهُ قَالَ: سَلَّمْنَا أَنَّ آيَةَ
الْإِحْصَارِ وَرَدَتْ فِي الْحَصْرِ بِالْعَدُوِّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ
الْإِحْصَارِ وَالْحَصْرِ، لَكِنَّ الْمَرَضَ مُلْحَقٌ بِهِ
بِالدَّلَالَةِ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ قَبْلَ أَوَانِهِ (لِدَفْعِ
الْحَرَجِ الْآتِي مِنْ قِبَلِ امْتِدَادِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَجُ فِي
الِاصْطِبَارِ عَلَى الْإِحْرَامِ مَعَ الْمَرَضِ أَعْظَمُ) لَا مَحَالَةَ
لِكَثْرَةِ احْتِيَاجِهِ مُدَاوَاةً وَمُدَارَاةً إلَى مَا هُوَ جِنَايَةٌ
عَلَى
(3/125)
وَإِذَا جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ (يُقَالُ
لَهُ ابْعَثْ شَاةً تُذْبَحُ فِي الْحَرَمِ وَوَاعِدْ مَنْ تَبْعَثُهُ
بِيَوْمٍ بِعَيْنِهِ يَذْبَحُ فِيهِ ثُمَّ تَحَلَّلَ) وَإِنَّمَا يَبْعَثُ
إلَى الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ قُرْبَةٌ، وَالْإِرَاقَةُ لَمْ
تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان عَلَى مَا مَرَّ فَلَا
يَقَعُ قُرْبَةً دُونَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
الْإِحْرَامِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا جَازَ التَّحَلُّلُ) يَعْنِي إذَا ثَبَتَ بِمَا
ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ جَوَازُ التَّحَلُّلِ لِلْمُحْصَرِ (يُقَالُ
لَهُ ابْعَثْ شَاةً تُذْبَحُ فِي الْحَرَمِ وَوَاعِدْ مَنْ تَبْعَثُهُ
بِيَوْمٍ بِعَيْنِهِ يُذْبَحُ فِيهِ ثُمَّ تَحَلَّلْ) وَهَذَا عَلَى قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُ
غَيْرُ مُؤَقَّتٍ فَيَحْتَاجُ إلَى الْمُوَاعَدَةِ لِيُعْرَفَ وَقْتُ
الْإِحْلَالِ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَدَمُ الْإِحْصَارِ فِي الْحَجِّ
مُوَقَّتٌ بِيَوْمِ النَّحْرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْمُوَاعَدَةِ فِيهِ،
وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْعُمْرَةِ، فَإِذَا بَعَثَ فَهُوَ
بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَقَامَ بِمَكَانِهِ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ لِأَنَّهُ
لَمَّا صَارَ مَمْنُوعًا مِنْ الذَّهَابِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْمَقَامِ
وَالِانْصِرَافِ.
قَالَ فِي النِّهَايَةِ: إنَّمَا قُيِّدَ بِقَوْلِهِ يُذْبَحُ فِيهِ ثُمَّ
يَتَحَلَّلُ لِأَنَّهُ إذَا ظَنَّ الْمُحْصَرُ بِهِ ذَبْحَ هَدْيِهِ
فَفَعَلَ مَا يَفْعَلُ الْحَلَالُ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَذْبَحْ
كَانَ عَلَيْهِ مَا عَلَى الَّذِي ارْتَكَبَ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ
لِبَقَاءِ إحْرَامِهِ، كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ قَاضِي خَانْ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - (وَإِنَّمَا يَبْعَثُ إلَى الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ
قُرْبَةٌ وَالْإِرَاقَةُ لَمْ تُعْرَفْ قُرْبَةً إلَّا فِي زَمَانٍ أَوْ
مَكَان عَلَى مَا مَرَّ) فَدَمُ الْإِحْصَارِ لَا يُعْرَفُ قُرْبَةً
بِدُونِ أَحَدِ هَذَيْنِ
(3/126)
فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ،
وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ
حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] فَإِنَّ الْهَدْيَ
اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَتَوَقَّتُ بِهِ؛
لِأَنَّهُ شُرِعَ رُخْصَةً وَالتَّوْقِيتُ يُبْطِلُ التَّخْفِيفَ. قُلْنَا:
الْمُرَاعَى أَصْلُ التَّخْفِيفِ لَا نِهَايَتُهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
فَلَا يَقَعُ بِهِ التَّحَلُّلُ) وَقَدْ عَيَّنَ الشَّارِعُ الْمَكَانَ
بِإِشَارَةٍ (قَوْلُهُ {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] فَإِنَّ الْهَدْيَ اسْمٌ لَمَا يُهْدَى
إلَى الْحَرَمِ) وَالْمَحِلُّ بِالْكَسْرِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَكَانِ
كَالْمَسْجِدِ وَالْمَجْلِسِ، نَهْيٌ عَنْ الْحَلْقِ حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَوْضِعَ حِلِّهِ، ثُمَّ فُسِّرَ الْمَحِلُّ بِقَوْلِهِ ثُمَّ
مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَيْنَ
الْبَيْتِ لِأَنَّهُ لَا تُرَاقُ فِيهِ الدِّمَاءُ فَكَانَ الْمُرَادُ بِهِ
الْحَرَمَ، وَهَذَا وَاضِحٌ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
لَا يَتَوَقَّتُ بِالْحَرَمِ لِأَنَّهُ شُرِعَ رُخْصَةً وَالتَّوْقِيتُ
يُبْطِلُ التَّخْفِيفَ. قُلْنَا: الْمُرَاعَى أَصْلُ التَّخْفِيفِ لَا
نِهَايَتُهُ) وَلِهَذَا لَمْ يَسْتَحِقَّ التَّخْفِيفَ مَتَى لَمْ يَجِدْ
الْهَدْيَ بَلْ يَبْقَى مُحْرِمًا أَبَدًا،؛ وَلِأَنَّ
(3/127)
وَتَجُوزُ الشَّاةُ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ
عَلَيْهِ الْهَدْيُ وَالشَّاةُ أَدْنَاهُ، وَتُجْزِيهِ الْبَقَرَةُ
وَالْبَدَنَةُ أَوْ سُبْعُهُمَا كَمَا فِي الضَّحَايَا، وَلَيْسَ
الْمُرَادُ بِمَا ذَكَرْنَا بَعْثَ الشَّاةِ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ
قَدْ يَتَعَذَّرُ، بَلْ لَهُ أَنْ يَبْعَثَ بِالْقِيمَةِ حَتَّى تُشْتَرَى
الشَّاةُ هُنَالِكَ وَتُذْبَحَ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ ثُمَّ تَحَلَّلَ
إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ،
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَقَالَ
أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ
«لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ عَامَ
الْحُدَيْبِيَةِ، وَكَانَ مُحْصَرًا بِهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ - بِذَلِكَ» . وَلَهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ إنَّمَا عُرِفَ
قُرْبَةً مُرَتَّبًا عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ فَلَا يَكُونُ نُسُكًا
قَبْلَهَا وَفَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
وَأَصْحَابُهُ لِيُعَرِّفَ اسْتِحْكَامَ عَزِيمَتِهِمْ عَلَى
الِانْصِرَافِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
نِهَايَتَهُ لَوْ كَانَتْ مُرَاعَاةً لَتَحَلَّلَ فِي الْحَالِ كَمَا قَالَ
مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُ.
وَقَوْلُهُ (وَتَجُوزُ الشَّاةُ) ظَاهِرٌ، وَذُكِرَ فِي الْمُحِيطِ أَنَّهُ
إذَا كَانَ مُعْسِرًا لَا يَجِدُ قِيمَةَ شَاةٍ أَقَامَ حَرَامًا حَتَّى
يَطُوفَ وَيَسْعَى كَمَا يَفْعَلُهُ فَائِتُ الْحَجِّ.
وَقَوْلُهُ (وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: عَلَيْهِ ذَلِكَ) أَيْ الْحَلْقُ
(وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ
مُحْصَرًا بِهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ» فَإِنْ قِيلَ: هَذَا
الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ الدَّلِيلِ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ ذَلِكَ
لِمَا أَنَّ مُجَرَّدَ فِعْلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - فِي الَّذِي لَا يُفْعَلُ قُرْبَةً دَلِيلُ الْوُجُوبِ
فَكَيْفَ إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ، وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ دَلِيلًا
عَلَى قَوْلِهِ وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَأَيْنَ
دَلِيلُهُ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ
فِيهَا رِوَايَتَانِ: فِي رِوَايَةٍ يَجُوزُ، وَفِي أُخْرَى وَاجِبٌ.
وَالْمُصَنِّفُ أَوْرَدَ دَلِيلَ رِوَايَةِ الْوُجُوبِ وَلَمْ يُورِدْ
دَلِيلَ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّ دَلِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَمُحَمَّدٍ يَصْلُحُ دَلِيلًا لَهَا.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ إنَّمَا عُرِفَ قُرْبَةً) يَعْنِي
أَنَّ كَوْنَ الْحَلْقِ قُرْبَةً عُرِفَ بِالنَّصِّ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ
فَيُرَاعَى فِيهِ جَمِيعُ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ مِنْ الْأَوْصَافِ
وَمِنْ جُمْلَتِهَا كَوْنُهُ (مُرَتَّبًا عَلَى أَفْعَالِ الْحَجِّ) فَلَا
يَكُونُ فِي غَيْرِ الْمُرَتَّبِ قُرْبَةٌ، وَأَمَّا حَلْقُ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ فَلِيَعْرِفَ
الْمُشْرِكُونَ اسْتِحْكَامَ عَزِيمَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الِانْصِرَافِ
فَيَأْمَنُوا جَانِبَهُمْ وَلَا يَشْتَغِلُوا بِمَكِيدَةٍ أُخْرَى بَعْدَ
الصُّلْحِ.
(3/128)
(وَإِنْ كَانَ قَارِنًا بَعَثَ بِدَمَيْنِ)
لِاحْتِيَاجِهِ إلَى التَّحَلُّلِ مِنْ إحْرَامَيْنِ، فَإِنْ بَعَثَ
بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَلَّلَ عَنْ الْحَجِّ وَيَبْقَى فِي إحْرَامِ
الْعُمْرَةِ لَمْ يَتَحَلَّلْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ
التَّحَلُّلَ مِنْهُمَا شُرِعَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ.
(وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ دَمِ الْإِحْصَارِ إلَّا فِي الْحَرَمِ، وَيَجُوزُ
ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - وَقَالَا: لَا يَجُوزُ الذَّبْحُ لِلْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ إلَّا
فِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَيَجُوزُ لِلْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ مَتَى شَاءَ)
اعْتِبَارًا بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ، وَرُبَّمَا
يَعْتَبِرَانِهِ بِالْحَلْقِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَلَّلٌ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
قَوْلُهُ (وَإِنْ كَانَ) الْمُحْصَرُ (قَارِنًا بَعَثَ بِدَمَيْنِ
لِاحْتِيَاجِهِ إلَى التَّحَلُّلِ عَنْ إحْرَامَيْهِ، فَإِنْ بَعَثَ
بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَلَّلَ عَنْ الْحَجِّ وَيَبْقَى فِي إحْرَامِ
الْعُمْرَةِ لَمْ يَتَحَلَّلْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ
التَّحَلُّلَ مِنْهُمَا شُرِعَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ) لِمَا رُوِيَ عَنْ
عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ «خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ
فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ
مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لَا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا»
وَبِالْهَدْيِ الْوَاحِدِ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُمَا فَلَا يَكُونُ لَهُ
أَنْ يَتَحَلَّلَ أَصْلًا. فَإِنْ قِيلَ: دَمُ الْإِحْصَارِ قَائِمٌ
مَقَامَ الْحَلْقِ فِي التَّحَلُّلِ وَالْقَارِنُ يَتَحَلَّلُ بِحَلْقٍ
وَاحِدٍ عَنْ الْإِحْرَامَيْنِ فَمَا بَالُهُ لَا يَتَحَلَّلُ عَنْهُمَا
بِهَدْيٍ وَاحِدٍ؟ أُجِيبَ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحَلْقَ فِي
الْأَصْلِ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ، وَإِنَّمَا صَارَ قُرْبَةً بِسَبَبِ
التَّحَلُّلِ فَكَانَ قُرْبَةً لِمَعْنًى فِي غَيْرِهِ كَالْوُضُوءِ
لِلصَّلَاةِ فَيَنُوبُ الْوَاحِدُ عَنْ الِاثْنَيْنِ كَالطَّهَارَةِ
الْوَاحِدَةِ تَكْفِي لِصَلَوَاتٍ كَثِيرَةٍ. وَأَمَّا الْهَدْيُ فَإِنَّهُ
شُرِعَ لِلتَّحَلُّلِ إلَّا أَنَّهُ قُرْبَةٌ مَقْصُودَةٌ بِدُونِ
التَّحَلُّلِ وَلِهَذَا جَازَ النَّذْرُ بِهِ، وَمَا هُوَ قُرْبَةٌ
مَقْصُودَةٌ بِنَفْسِهِ لَا يَنُوبُ الْوَاحِدُ فِيهِ عَنْ الِاثْنَيْنِ
كَأَفْعَالِ الصَّلَاةِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْحَلْقَ مَحْظُورُ
الْإِحْرَامِ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ قُرْبَةً بِسَبَبِ التَّحَلُّلِ. فَإِنْ
تَكَرَّرَ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ التَّحَلُّلُ وَاقِعًا
بِالْأَوَّلِ أَوْ بِالثَّانِي، فَإِنْ وَقَعَ بِالْأَوَّلِ كَانَ
الثَّانِي لَغْوًا، وَإِنْ وَقَعَ بِالثَّانِي كَانَ الْأَوَّلُ جِنَايَةً،
فَأَمَّا الذَّبْحُ فَلَيْسَ بِمَحْظُورِ الْإِحْرَامِ فَصَحَّ الْجَمْعُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ ذَبْحُ دَمِ الْإِحْصَارِ إلَّا فِي الْحَرَمِ)
إنَّمَا أَعَادَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ لِيَجْعَلَهَا تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ
وَيَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ زِيَادَةً فِي بَيَانِ أَنَّ
دَمَ الْإِحْصَارِ أَعْرَفُ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْمَكَانِ حَيْثُ لَمْ
يَخْتَلِفْ فِيهِ أَصْحَابُنَا مِنْ اخْتِصَاصِهِ بِالزَّمَانِ لِأَنَّهُ
مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
وَقَوْلُهُ (اعْتِبَارًا بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ) تَعْلِيلُ
عَدَمِ جَوَازِ الذَّبْحِ لِلْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ إلَّا فِي يَوْمِ
النَّحْرِ وَأَمَّا قَوْلُهُ (وَيَجُوزُ لِلْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ مَتَى
شَاءَ) فَبِالِاتِّفَاقِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَعْلِيلٍ (وَرُبَّمَا
يَعْتَبِرَانِهِ بِالْحَلْقِ إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَلِّلٌ)
فَكَمَا لَمْ يَجُزْ الْحَلْقُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فَكَذَلِكَ
الذَّبْحُ.
وَقَوْلُهُ (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ)
(3/129)
- رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ دَمُ
كَفَّارَةٍ حَتَّى لَا يَجُوزَ الْأَكْلُ مِنْهُ فَيَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ
دُونَ الزَّمَانِ كَسَائِرِ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ، بِخِلَافِ دَمِ
الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ؛ لِأَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ، وَبِخِلَافِ الْحَلْقِ؛
لِأَنَّهُ فِي أَوَانِهِ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَفْعَالِ الْحَجِّ وَهُوَ
الْوُقُوفُ يَنْتَهِي بِهِ.
قَالَ: (وَالْمُحْصَرُ بِالْحَجِّ إذَا تَحَلَّلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ
وَعُمْرَةٌ) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلِأَنَّ الْحَجَّةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ) جَوَابٌ
عَنْ اعْتِبَارِهِمَا صُورَةَ النِّزَاعِ بِهِمَا (لِأَنَّهُ) أَيْ دَمَ
الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ (دَمُ نُسُكٍ) وَمَا هُوَ دَمُ نُسُكٍ يَخْتَصُّ
بِالزَّمَانِ فَكَذَا هَذَا. وَقَوْلُهُ (وَبِخِلَافِ الْحَلْقِ) جَوَابٌ
عَنْ اعْتِبَارِهِمَا الْآخَرِ. وَبَيَانُهُ أَنَّ التَّحَلُّلَ عَلَى
نَوْعَيْنِ: تَحَلُّلٌ فِي أَوَانِهِ وَهُوَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى
أَفْعَالِ مَا أَحْرَمَ لِأَجْلِهِ، وَتَحَلُّلٌ قَبْلَ أَوَانِهِ وَهُوَ
مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ التَّوْقِيتِ
بِيَوْمِ النَّحْرِ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الْوُقُوفُ
بِعَرَفَةَ (وَهُوَ يَنْتَهِي بِهِ) أَيْ بِوَقْتِ الْحَلْقِ؛ لِأَنَّ
وَقْتَهُ يَمْتَدُّ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَا
بُدَّ أَنْ يَقَعَ الْحَلْقُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ. وَأَمَّا الثَّانِي
فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَدَاءِ الْأَفْعَالِ فَيَجُوزُ
تَقْدِيمُهَا لِعَدَمِ الضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى التَّوْقِيتِ
بِيَوْمِ النَّحْرِ وَمَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ الثَّانِي فَكَانَ قِيَاسُهُ
عَلَى الْأَوَّلِ قِيَاسًا مَعَ وُجُودِ الْفَارِقِ وَهُوَ بَاطِلٌ. قَالَ
صَاحِبُ الْأَسْرَارِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا
اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ
زَمَانٍ، فَاشْتِرَاطُهُ بِالْقِيَاسِ نَسْخٌ.
قَالَ (وَالْمُحْصَرُ بِالْحَجِّ إذَا تَحَلَّلَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ
وَعُمْرَةٌ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ -) قَالَا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ
الْحَجُّ فَلْيُحْلِلْ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ»
وَالْحَدِيثُ عَامٌّ فِي الَّذِي فَاتَهُ الْحَجُّ بِفَوَاتِ وَقْتِ
الْوُقُوفِ وَفَوَاتُهُ بِالْإِحْصَارِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
قَدْ فَاتَهُ عَرَفَةُ فَقُلْنَا بِوُجُوبِ الْعُمْرَةِ، وَأَمَّا
الْحَجَّةُ فَإِنَّهَا تَجِبُ قَضَاءً لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا. فَإِنْ
قِيلَ: الْعُمْرَةُ فِي فَائِتِ الْحَجِّ لِلتَّحَلُّلِ، وَالتَّحَلُّلُ
هَاهُنَا حَصَلَ بِالْهَدْيِ فَلَا حَاجَةَ إلَى
(3/130)
يَجِبُ قَضَاؤُهَا لِصِحَّةِ الشُّرُوعِ
فِيهَا وَالْعُمْرَةُ لِمَا أَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ (وَعَلَى
الْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ الْقَضَاءُ) وَالْإِحْصَارُ عَنْهَا يَتَحَقَّقُ
عِنْدَنَا. وَقَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَتَحَقَّقُ؛
لِأَنَّهَا لَا تَتَوَقَّتُ. وَلَنَا أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأَصْحَابَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
أُحْصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ وَكَانُوا عُمَّارًا؛ وَلِأَنَّ شَرْعَ
التَّحَلُّلِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي إحْرَامِ
الْعُمْرَةِ، وَإِذَا تَحَقَّقَ الْإِحْصَارُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إذَا
تَحَلَّلَ كَمَا فِي الْحَجِّ.
(وَعَلَى الْقَارِنِ حَجَّةٌ وَعُمْرَتَانِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
إيجَابِ الْعُمْرَةِ. قُلْنَا: هَذَا رَأْيٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ
لِمَا رَوَى سَالِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -
«أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: حَسْبُكُمْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ حُبِسَ أَحَدُكُمْ عَنْ الْبَيْتِ طَافَ
بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ
حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلًا» .
وَقَوْلُهُ (وَعَلَى الْمُحْصَرِ بِالْعُمْرَةِ الْقَضَاءُ) يَدُلُّ عَلَى
أَنَّ الْإِحْصَارَ عَنْ الْعُمْرَةِ مُتَصَوَّرٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ
غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ فِي الْعُمْرَةِ (لِأَنَّهَا لَا تَتَوَقَّتُ. وَلَنَا
أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ -
رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أُحْصِرُوا بِالْحُدَيْبِيَةِ وَكَانُوا
عُمَّارًا) صَحَّ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ أُحْصِرُوا بِالْعُمْرَةِ
بِالْحُدَيْبِيَةِ فَقَضَوْهَا مِنْ قَابِلٍ وَكَانَتْ تُسَمَّى عُمْرَةَ
الْقَضَاءِ (؛ وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ مَشْرُوعٌ لِدَفْعِ الْحَرَجِ
وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ، وَإِذَا تَحَقَّقَ
الْإِحْصَارُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ إذَا تَحَلَّلَ كَمَا فِي الْحَجِّ)
(وَعَلَى الْقَارِنِ حَجَّةٌ وَعُمْرَتَانِ أَمَّا
(3/131)
أَمَّا الْحَجُّ وَإِحْدَاهُمَا فَلِمَا
بَيَّنَّا، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّهُ مُخْرَجٌ مِنْهَا بَعْدَ
صِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا.
(فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا وَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَذْبَحُوهُ فِي
يَوْمٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ، فَإِنْ كَانَ لَا يُدْرِكُ
الْحَجَّ وَالْهَدْيَ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ بَلْ يَصْبِرَ
حَتَّى يَتَحَلَّلَ بِنَحْرِ الْهَدْيِ) لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنْ
التَّوَجُّهِ وَهُوَ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ، وَإِنْ تَوَجَّهَ لِيَتَحَلَّلَ
بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لَهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ فَائِتُ الْحَجِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
الْحَجُّ وَإِحْدَاهُمَا فَلِمَا بَيَّنَّا) يَعْنِي فِي الْمُفْرِدِ مِنْ
كَوْنِهِ بِمَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ (وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَلِأَنَّهُ
خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا)
وَقَوْلُهُ (فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا) قَالَ صَاحِبُ
النِّهَايَةِ: ذِكْرُ الْقَارِنِ هَاهُنَا وَقَعَ غَلَطًا ظَاهِرًا مِنْ
النَّاسِخِ، فَالصَّوَابُ أَنْ يُقَالَ: فَإِنْ بَعَثَ الْمُحْصَرُ.
وَبَيَانُ الْغَلَطِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ذَكَرَ فَإِنْ
بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا وَيَجِبُ عَلَى الْقَارِنِ بَعْثُ الْهَدْيَيْنِ
فَإِنَّهُ لَا يَتَحَلَّلُ بِالْوَاحِدِ لِأَنَّهُ ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا فِي
هَذَا الْبَابِ، فَإِنْ كَانَ قَارِنًا بَعَثَ بِدَمَيْنِ، وَالثَّانِي
أَنَّ الْمُصَنِّفَ جَمَعَ بَيْنَ رِوَايَتَيْ الْقُدُورِيِّ وَالْجَامِعِ
الصَّغِيرِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي هَذَيْنِ
الْكِتَابَيْنِ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ. وَأَقُولُ: لَمَّا كَانَ
كَلَامُ الْمُصَنِّفِ قَبْلَ هَذَا فِي الْقَارِنِ لَمْ يُرِدْ فَكَّ
النَّظْمِ فَقَالَ: فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا، وَالْهَدْيُ اسْمٌ
لِمَا يُهْدَى إلَى الْحَرَمِ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ دَمَيْنِ أَوْ دَمًا
وَاحِدًا أَوْ ثَوْبًا، وَكَانَ ذَكَرَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ دَمَانِ
وَهُمَا هَدْيُ الْقَارِنِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ
دَمَيْنِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ، وَلَا
هُوَ غَلَطٌ فِي الْكَلَامِ وَلَا مَنْ نَسَخَهُ، بَلْ رُبَّمَا لَوْ
قَالَ: فَإِنْ بَعَثَ الْمُحْصَرُ كَانَ مُلَبِّسًا فِي حَقِّ الْقَارِنِ،
وَلَوْ قَالَ هَدْيَيْنِ كَانَ غَيْرَ فَصِيحٍ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِجِنْسِ
مَا يُهْدَى فَلَا يُثَنَّى إلَّا إذَا قَصَدَ الْأَنْوَاعَ وَلَيْسَ
بِمَقْصُودٍ أَوْ الْعَدَدَ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِمَّا تَقَدَّمَ
فَلِهَذَا قَالَ: فَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ هَدْيًا (وَوَاعَدَهُمْ أَنْ
يَذْبَحُوهُ فِي يَوْمٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ) ثُمَّ إنَّ
هَاهُنَا وُجُوهًا أَرْبَعَةً بِحَسَبِ الْقِسْمَةِ الْعَقْلِيَّةِ،
لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ لَا يُدْرِكَ الْحَجَّ وَالْهَدْيَ أَوْ
يُدْرِكَهُمَا أَوْ يُدْرِكَ الْهَدْيَ دُونَ الْحَجِّ أَوْ بِالْعَكْسِ،
وَالْكُلُّ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ. فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ (لَا
يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ بَلْ يَصِيرُ حَتَّى يَحِلَّ بِنَحْرِ
الْهَدْيِ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنْ التَّوَجُّهِ وَهُوَ أَدَاءُ
الْأَفْعَالِ، وَإِنْ تَوَجَّهَ لِيَتَحَلَّلَ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ
فَلَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فَائِتُ الْحَجِّ) فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ فِي
مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ وَجَبَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالتَّوَجُّهِ
وَالتَّحَلُّلِ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ حَتْمًا كَفَائِتِ الْحَجِّ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ فِي حَقِّ فَائِتِ الْحَجِّ غَيْرُ
مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّحَلُّلُ، وَهَذَا
الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ لَهُ بِالْهَدْيِ الَّذِي بَعَثَهُ
(3/132)
(وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْحَجَّ
وَالْهَدْيَ لَزِمَهُ التَّوَجُّهُ) لِزَوَالِ الْعَجْزِ قَبْلَ حُصُولِ
الْمَقْصُودِ بِالْخَلَفِ، وَإِذَا أَدْرَكَ هَدْيَهُ صَنَعَ بِهِ مَا
شَاءَ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ وَقَدْ كَانَ عَيَّنَهُ لِمَقْصُودٍ اسْتَغْنَى
عَنْهُ (وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْهَدْيَ دُونَ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ)
لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَصْلِ (وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الْحَجَّ دُونَ
الْهَدْيِ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ) اسْتِحْسَانًا، وَهَذَا التَّقْسِيمُ
لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِهِمَا فِي الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ؛ لِأَنَّ
دَمَ الْإِحْصَارِ عِنْدَهُمَا يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ، فَمَنْ
يُدْرِكُ الْحَجَّ يُدْرِكُ الْهَدْيَ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى
قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي الْمُحْصَرِ
بِالْعُمْرَةِ يَسْتَقِيمُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِعَدَمِ تَوَقُّتِ الدَّمِ
بِيَوْمِ النَّحْرِ. وَجْهُ الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - أَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ وَهُوَ الْحَجُّ قَبْلَ حُصُولِ
الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ، وَهُوَ الْهَدْيُ. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ
أَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُ التَّوَجُّهُ لَضَاعَ مَالُهُ؛ لِأَنَّ
الْمَبْعُوثَ عَلَى يَدَيْهِ الْهَدْيُ يَذْبَحُهُ وَلَا يَحْصُلُ
مَقْصُودُهُ، وَحُرْمَةُ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ، وَلَهُ الْخِيَارُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
لِيُنْحَرَ عَنْهُ، فَلَهُ أَنْ يَقْتَصِرَ بِذَلِكَ ثُمَّ يَقْضِيَ
الْعُمْرَةَ، وَلَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ لِئَلَّا يَلْزَمَهُ قَضَاءُ
الْعُمْرَةِ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ
(لِزَوَالِ الْعَجْزِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْخَلَفِ)
كَالْمُكَفِّرِ بِالصَّوْمِ إذَا أَيْسَرَ قَبْلَ إتْمَامِ الْكَفَّارَةِ
بِهِ (وَإِذَا أَدْرَكَ هَدْيَهُ صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ
وَقَدْ كَانَ عَيَّنَهُ لِمَقْصُودٍ اسْتَغْنَى عَنْهُ) وَفِي الْوَجْهِ
الثَّالِثِ يَتَحَلَّلُ لِعَجْزِهِ عَنْ الْأَصْلِ، وَفِي الْوَجْهِ
الرَّابِعِ جَازَ لَهُ التَّحَلُّلُ (وَهَذَا التَّقْسِيمُ) يَعْنِي
الْوَجْهَ الرَّابِعَ (لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِهِمَا فِي الْمُحْصَرِ
بِالْحَجِّ) عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ (وَحُرْمَةُ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ) يَعْنِي كَمَا
أَنَّ خَوْفَ النَّفْسِ كَانَ عُذْرًا لَهُ فِي التَّحَلُّلِ فَكَذَلِكَ
الْخَوْفُ عَلَى مَالِهِ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَتَوَجَّهَ. فَإِنْ
قُلْت: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ
كَحُرْمَةِ النَّفْسِ مُخَالِفٌ لِمَا قَالَهُ فَخْرُ الْإِسْلَامِ
وَالْأُصُولِيُّونَ أَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ
فَجَازَ أَنْ يَكُونَ وِقَايَةً لِلنَّفْسِ، فَإِذَا أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ
عَلَى إتْلَافِ مَالِ غَيْرِهِ جَازَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ. فَالْجَوَابُ
أَنَّ حُرْمَةَ النَّفْسِ فَوْقَ حُرْمَةِ الْمَالِ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ
مَمْلُوكٌ مُبْتَذَلٌ فَأَيْنَ يُمَاثِلُ الْمَالِكُ الْمُبْتَذَلَ،
وَلَكِنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ تُشْبِهُ حُرْمَةَ النَّفْسِ مِنْ حَيْثُ
كَوْنُ إتْلَافِهِ ظُلْمًا لِقِيَامِ عِصْمَةِ صَاحِبِهِ فِيهِ، وَإِلَى
هَذَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِكَافِ التَّشْبِيهِ، فَإِنَّ الْمُشَابَهَةَ
بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لَا تَقْتَضِي اتِّحَادَهُمَا مِنْ جَمِيعِ
الْجِهَاتِ وَإِلَّا لَارْتَفَعَ التَّشْبِيهُ.
وَقَوْلُهُ (وَلَهُ الْخِيَارُ) يَعْنِي عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ،
لَمَا جَازَ
(3/133)
إنْ شَاءَ صَبَرَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ
أَوْ فِي غَيْرِهِ؛ لِيُذْبَحَ عَنْهُ فَيَتَحَلَّلُ، وَإِنْ شَاءَ
تَوَجَّهَ لِيُؤَدِّيَ النُّسُكَ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالْإِحْرَامِ
وَهُوَ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ (وَمَنْ
وَقَفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا) لِوُقُوعِ
الْأَمْنِ عَنْ الْفَوَاتِ.
(وَمَنْ أُحْصِرَ بِمَكَّةَ وَهُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ
فَهُوَ مُحْصَرٌ) ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ فَصَارَ
كَمَا إذَا أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ (وَإِنْ قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا
فَلَيْسَ بِمُحْصَرٍ) أَمَّا عَلَى الطَّوَافِ فَلِأَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ
يَتَحَلَّلُ بِهِ وَالدَّمُ بَدَلٌ عَنْهُ فِي التَّحَلُّلِ، وَأَمَّا
عَلَى الْوُقُوفِ فَلِمَا بَيَّنَّا، وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
لَهُ التَّحَلُّلُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ (إنْ شَاءَ صَبَرَ) إلَى أَنْ
يُنْحَرَ عَنْهُ الْهَدْيُ فِي الْمِيعَادِ فَيَتَحَلَّلَ (وَإِنْ شَاءَ
تَوَجَّهَ لِأَدَاءِ النُّسُكِ) لِزَوَالِ الْعَجْزِ (وَهُوَ أَفْضَلُ
لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ، وَمَنْ وَقَفَ
بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا) ؛ لِأَنَّ سَبَبَ حُكْمِ
الْإِحْصَارِ خَوْفُ الْفَوَاتِ وَقَدْ وَقَعَ الْأَمْنُ عَنْهُ لِقَوْلِهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ
تَمَّ حَجُّهُ» لَكِنَّهُ مُحَرَّمٌ عَنْ النِّسَاءِ حَتَّى يَطُوفَ
طَوَافَ الزِّيَارَةِ. وَعَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَعَةُ
دِمَاءٍ: دَمٌ لِتَرْكِ الْوُقُوفِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَدَمٌ لِتَرْكِ
رَمْيِ الْجِمَارِ. وَدَمٌ لِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ. وَدَمٌ لِتَأْخِيرِ
الْحَلْقِ. وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ
وَالْحَلْقِ شَيْءٌ. فَإِنْ قِيلَ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ازْدِيَادَ
مُدَّةِ الْإِحْرَامِ يُثْبِتُ حُكْمَ الْإِحْصَارِ كَمَا فِي إحْصَارِ
الْعُمْرَةِ وَهَاهُنَا قَدْ ازْدَادَتْ فَلْيَثْبُتْ حُكْمُهُ. أُجِيبَ
بِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ إلَّا فِي حَقِّ
النِّسَاءِ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُهُ بَعْضُ الدِّمَاءِ فَلَا يَتَحَقَّقُ
الْعُذْرُ الْمُوجِبُ لِلتَّحَلُّلِ.
وَقَوْلُهُ (وَمَنْ أُحْصِرَ بِمَكَّةَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (فَلِمَا
بَيَّنَّا) يَعْنِي قَوْلَهُ وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ لَا
يَكُونُ مُحْصَرًا. وَقَوْلُهُ (وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ)
يَعْنِي قَوْلَهُ وَمَنْ أُحْصِرَ بِمَكَّةَ (خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ)
(3/134)
تَعَالَى وَالصَّحِيحُ مَا أَعْلَمْتُك مِنْ التَّفْصِيلِ، وَاَللَّهُ
تَعَالَى أَعْلَمُ.
(وَمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَفَاتَهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ حَتَّى
طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ) ؛ لِمَا
ذَكَرْنَا أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ يَمْتَدُّ إلَيْهِ (وَعَلَيْهِ أَنْ
يَطُوفَ وَيَسْعَى وَيَتَحَلَّلَ وَيَقْضِيَ الْحَجَّ مِنْ قَابِلٍ وَلَا
دَمَ عَلَيْهِ) ؛ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ
فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَلْيَحْلِلْ
بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ» وَالْعُمْرَةُ لَيْسَتْ
إلَّا الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَهُوَ مَا ذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ:
سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ عَنْ الْمُحْرِمِ يُحْصَرُ فِي الْحَرَمِ فَقَالَ:
لَا يَكُونُ مُحْصَرًا، فَقُلْت: أَلَيْسَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ مِنْ
الْحَرَمِ؟ فَقَالَ: إنَّ مَكَّةَ يَوْمئِذٍ كَانَتْ دَارَ الْحَرْبِ
وَأَمَّا الْيَوْمُ فَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ فَلَا يَتَحَقَّقُ
الْإِحْصَارُ فِيهَا. قَالَ أَبُو يُوسُفَ: وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ: إذَا
غَلَبَ الْعَدُوُّ عَلَى مَكَّةَ حَتَّى حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْبَيْتِ فَهُوَ مُحْصَرٌ. قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَالصَّحِيحُ) مِنْ
الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَمْنُوعَ عَنْ الْوُقُوفِ وَالطَّوَافِ يَكُونُ
مُحْصَرًا بِاتِّفَاقِ أَصْحَابِنَا، وَإِذَا قَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا لَا
يَكُونُ مُحْصَرًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ (مَا أَعْلَمْتُك مِنْ
التَّفْصِيلِ) وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. |