العناية
شرح الهداية (وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ
تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا
فِي عِدَّتِهَا رَضِيَتْ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ تَرْضَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
[بَابُ الرَّجْعَةِ]
لَمَّا كَانَتْ الرَّجْعَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْ الطَّلَاقِ طَبْعًا
أَخَّرَهَا وَضْعًا لِيُنَاسِبَ الْوَضْعُ الطَّبْعَ وَالرَّجْعَةُ
بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ، وَهِيَ عِبَارَةٌ عَنْ
اسْتِدَامَةِ مِلْكِ النِّكَاحِ. وَلَهَا شَرَائِطُ: إحْدَاهَا تَقْدِيمُ
صَرِيحِ لَفْظِ الطَّلَاقِ أَوْ بَعْضِ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ كَمَا
تَقَدَّمَ. وَالثَّانِيَةُ أَنْ لَا يَكُونَ بِمُقَابَلَتِهِ مَالٌ.
وَالثَّالِثَةُ أَنْ لَا يُسْتَوْفَى الثَّلَاثَةُ مِنْ الطَّلَاقِ.
وَالرَّابِعَةُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَدْخُولًا بِهَا. وَالْخَامِسَةُ
أَنْ تَكُونَ الْعِدَّةُ قَائِمَةً وَلَا خِلَافَ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا
لِأَحَدٍ لِثُبُوتِهَا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ.
(4/158)
وَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْعِدَّةِ
لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ سَمَّى
إمْسَاكًا وَهُوَ الْإِبْقَاءُ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الِاسْتِدَامَةُ فِي
الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ بَعْدَ انْقِضَائِهَا
(وَالرَّجْعَةُ أَنْ يَقُولَ رَاجَعْتُك أَوْ رَاجَعْت امْرَأَتِي) وَهَذَا
صَرِيحٌ فِي الرَّجْعَةِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ. قَالَ
(أَوْ يَطَأَهَا أَوْ يُقَبِّلَهَا أَوْ يَلْمِسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ
يَنْظُرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ) وَهَذَا عِنْدَنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
[أَلْفَاظ الرَّجْعَة]
وَ) أَلْفَاظُ (الرَّجْعَةِ أَنْ يَقُولَ رَاجَعْتُك) إنْ كَانَ فِي
حَضْرَتِهَا (أَوْ رَاجَعْت امْرَأَتِي) فِي الْغَيْبَةِ بِشَرْطِ
الْإِعْلَامِ أَوْ فِي الْحَضْرَةِ أَيْضًا، أَوْ يَقُولَ رَدَدْتُك أَوْ
أَمْسَكْتُك، أَوْ يَقُولَ أَنْتِ عِنْدِي كَمَا كُنْت، أَوْ أَنْتِ
امْرَأَتِي إنْ نَوَى الرَّجْعَةَ، وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي جَوَازِ
الرَّجْعَةِ بِالْقَوْلِ.
وَأَمَّا بِالْفِعْلِ مِثْلَ أَنْ (يَطَأَهَا أَوْ يُقَبِّلَهَا أَوْ
يَلْمِسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ يَنْظُرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ) فَهِيَ
صَحِيحَةٌ (عِنْدَنَا.
(4/159)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ
تَعَالَى عَلَيْهِ: لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ إلَّا بِالْقَوْلِ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ
النِّكَاحِ حَتَّى يَحْرُمَ وَطْؤُهَا، وَعِنْدَنَا هُوَ اسْتِدَامَةُ
النِّكَاحِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ وَسَنُقَرِّرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى، وَالْفِعْلُ قَدْ يَقَعُ دَلَالَةً عَلَى الِاسْتِدَامَةِ كَمَا
فِي إسْقَاطِ الْخِيَارِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ إلَّا بِالْقَوْلِ مَعَ
الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ
النِّكَاحِ) لِثُبُوتِ الْحِلِّ بِهَا، وَابْتِدَاءُ النِّكَاحِ لَا
يَصِحُّ بِالْوَطْءِ وَدَوَاعِيهِ؛ فَكَانَ الْوَطْءُ حَرَامًا كَمَا فِي
ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ. وَقُلْنَا: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ اسْتِدَامَةِ
النِّكَاحِ كَمَا بَيَّنَّا، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ؛ أَلَا تَرَى
أَنَّهُ سُمِّيَ إمْسَاكًا وَهُوَ الْإِبْقَاءُ. وَقَوْلُهُ
(وَسَنُقَرِّرُهُ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذُكِرَ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ
وَهُوَ قَوْلُهُ قُلْنَا إنَّهَا قَائِمَةٌ حَتَّى يَمْلِكَ مُرَاجَعَتَهَا
إلَخْ.
وَقَوْلُهُ وَالْفِعْلُ قَدْ يَقَعُ دَلَالَةً عَلَى الِاسْتِدَامَةِ)
جُزْءُ الدَّلِيلِ. وَقَوْلُهُ (كَمَا فِي إسْقَاطِ الْخِيَارِ) دَلِيلُهُ.
وَتَقْرِيرُهُ: الرَّجْعَةُ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ، وَالْفِعْلُ قَدْ
يَقَعُ دَلِيلًا عَلَى الِاسْتِدَامَةِ كَمَا فِي إسْقَاطِ الْخِيَارِ،
فَإِنَّ مَنْ بَاعَ جَارِيَةً عَلَى أَنَّهُ
(4/160)
وَالدَّلَالَةُ فِعْلٌ يَخْتَصُّ
بِالنِّكَاحِ وَهَذِهِ الْأَفَاعِيلُ تَخْتَصُّ بِهِ خُصُوصًا فِي
الْحُرَّةِ، بِخِلَافِ النَّظَرِ وَالْمَسِّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لِأَنَّهُ
قَدْ يَحِلُّ بِدُونِ النِّكَاحِ كَمَا فِي الْقَابِلَةِ وَالطَّبِيبِ
وَغَيْرِهِمَا، وَالنَّظَرُ إلَى غَيْرِ الْفَرْجِ قَدْ يَقَعُ بَيْنَ
الْمُسَاكِنَيْنِ وَالزَّوْجُ يُسَاكِنُهَا فِي الْعِدَّةِ، فَلَوْ كَانَ
رَجْعَةً لَطَلَّقَهَا فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا.
قَالَ (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ شَاهِدَيْنِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ وَطِئَهَا سَقَطَ الْخِيَارُ، كَمَا
إذَا أَسْقَطَ بِالْقَوْلِ، بَلْ هُنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ فِي الْبَيْعِ
يَحْتَاجُ إلَى رَفْعِ السَّبَبِ الْمُزِيلِ وَهُوَ الْبَيْعُ، أَمَّا
هَاهُنَا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى رَفْعِ الطَّلَاقِ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى
دَفْعِ مَا لَوْلَاهُ لَزَالَ وَالدَّفْعُ أَسْهَلُ مِنْ الرَّفْعِ.
وَلَمَّا كَانَ الثَّابِتُ بِالدَّلِيلِ أَنَّ بَعْضَ الْفِعْلِ قَدْ
يَقَعُ دَلَالَةً عَلَى الِاسْتِدَامَةِ احْتَاجَ إلَى أَنْ يُعَيِّنَهُ
فَقَالَ (وَالدَّلَالَةُ) أَيْ الدَّلِيلُ (فِعْلٌ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ،
وَهَذِهِ الْأَفَاعِيلُ تَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ) فَتَقَعُ دَلَالَةً.
وَقَوْلُهُ (خُصُوصًا فِي الْحُرَّةِ) لِبَيَانِ أَنَّ حِلَّ
الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا لَيْسَ إلَّا بِالنِّكَاحِ، وَأَمَّا فِي الْأَمَةِ
فَيَحِلُّ بِهِ وَبِمِلْكِ الْيَمِينِ أَيْضًا (بِخِلَافِ النَّظَرِ
وَالْمَسِّ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لِأَنَّهُ قَدْ يَحِلُّ بِدُونِ النِّكَاحِ
كَمَا فِي الْقَابِلَةِ وَالطَّبِيبِ) وَالْخَاتِنَةِ، وَالشَّاهِدِ فِي
الزِّنَا إذَا احْتَاجَ إلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، (وَالنَّظَرُ إلَى
غَيْرِ الْفَرْجِ قَدْ يَقَعُ بَيْنَ الْمُسَاكِنَيْنِ وَالزَّوْجُ
يُسَاكِنُهَا فِي الْعِدَّةِ، فَلَوْ كَانَ النَّظَرُ إلَيْهَا رَجْعَةً
لَطَلَّقَهَا فَتَطُولُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا) وَفِيهِ ضَرَرٌ بِهَا فَلَا
يَجُوزُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا
لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 231] .
قَالَ (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ) إذَا أَرَادَ
الرَّجْعَةَ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ لِاثْنَيْنِ
(4/161)
فَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ صَحَّتْ الرَّجْعَةُ)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ لَا
تَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَالْأَمْرُ
لِلْإِيجَابِ.
وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ عَنْ قَيْدِ الْإِشْهَادِ، وَلِأَنَّهُ
اسْتِدَامَةٌ لِلنِّكَاحِ، وَالشَّهَادَةُ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ فِي
حَالَةِ الْبَقَاءِ كَمَا فِي الْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ، إلَّا أَنَّهَا
تُسْتَحَبُّ لِزِيَادَةِ الِاحْتِيَاطِ كَيْ لَا يَجْرِيَ التَّنَاكُرُ
فِيهَا، وَمَا تَلَاهُ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَرَنَهَا
بِالْمُفَارَقَةِ وَهُوَ فِيهَا مُسْتَحَبٌّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
اشْهَدَا عَلَيَّ بِأَنِّي رَاجَعْت امْرَأَتِي (وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ
صَحَّتْ الرَّجْعَةُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: لَا
تَصِحُّ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ) وَهُوَ غَرِيبٌ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ
الْإِشْهَادَ عَلَى ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ وَيَجْعَلُهُ شَرْطًا عَلَى
الرَّجْعَةِ (لَهُمَا قَوْله تَعَالَى {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وَالْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ.
وَلَنَا إطْلَاقُ النُّصُوصِ فِي الرَّجْعَةِ عَنْ قَيْدِ الْإِشْهَادِ)
وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]
وقَوْله تَعَالَى {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة:
229] وقَوْله تَعَالَى {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة:
228] وقَوْله تَعَالَى {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا}
[البقرة: 230] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مُرْ
ابْنَك فَلْيُرَاجِعْهَا» وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّهُ) أَيْ الرَّجْعَةَ
بِمَعْنَى الرُّجُوعِ أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ (اسْتِدَامَةٌ
لِلنِّكَاحِ) كَمَا تَقَدَّمَ، وَالِاسْتِدَامَةُ إنَّمَا هِيَ حَالَةُ
الْبَقَاءِ (وَالشَّهَادَةُ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِي النِّكَاحِ حَالَ
الْبَقَاءِ) بِالِاتِّفَاقِ فَكَانَتْ (كَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ) فِي
أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِكَوْنِهِ حَالَةَ
الْبَقَاءِ (إلَّا أَنَّهَا) أَيْ الشَّهَادَةَ (مُسْتَحَبَّةٌ لِزِيَادَةِ
الِاحْتِيَاطِ كَيْ لَا يَجْرِيَ التَّنَاكُرُ فِيهَا) أَيْ فِي
الرَّجْعَةِ (وَمَا تَلَاهُ) يَعْنِي مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] (مَحْمُولٌ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى
الِاسْتِحْبَابِ دَفْعًا لِلتَّنَاكُرِ؛ فَكَانَ الْأَمْرُ لِلْإِرْشَادِ
إلَى مَا هُوَ الْأَوْفَقُ بِهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا
إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَرَنَهَا
بِالْمُفَارَقَةِ حَيْثُ قَالَ {أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ
وَأَشْهِدُوا} [الطلاق: 2] (وَهُوَ) أَيْ الْإِشْهَادُ (فِيهَا) أَيْ فِي
الْمُفَارَقَةِ (مُسْتَحَبٌّ) فَكَذَا فِي الرَّجْعَةِ.
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي
الْحُكْمِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] . وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِيمَا إذَا حُكِمَ
عَلَى إحْدَى الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَقَارِنَتَيْنِ بِحُكْمِ الْجُمْلَةِ
الْأُخْرَى، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ فِيهِ كُلُّ جُمْلَةٍ
مِنْ الْجُمْلَتَيْنِ مُسْتَقِلَّةٌ بِحُكْمِهَا، وَإِنَّمَا تَعْقُبُهُمَا
جُمْلَةٌ أُخْرَى تَعَلَّقَتْ بِهِمَا وَإِحْدَاهُمَا تَقْتَضِي
تَعَلُّقَهَا بِهَا مِنْ حَيْثُ الِاسْتِحْبَابُ، فَكَذَلِكَ الْأُخْرَى
لِئَلَّا يَلْزَمَ
(4/162)
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْلِمَهَا كَيْ لَا
تَقَعَ فِي الْمَعْصِيَةِ (وَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ فَقَالَ كُنْت
رَاجَعْتهَا فِي الْعِدَّةِ فَصَدَّقَتْهُ فَهِيَ رَجْعَةٌ، وَإِنْ
كَذَّبَتْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا) لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَمَّا لَا
يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِي الْحَالِ فَكَانَ مُتَّهَمًا إلَّا أَنَّ
بِالتَّصْدِيقِ تَرْتَفِعُ التُّهْمَةُ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهِيَ مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْلَافِ
فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ وَقَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ
. (وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ قَدْ رَاجَعْتُك فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ قَدْ
انْقَضَتْ عِدَّتِي لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ -) وَقَالَا: تَصِحُّ الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا صَادَفَتْ
الْعِدَّةَ إذْ هِيَ بَاقِيَةٌ ظَاهِرًا إلَى أَنْ تُخْبِرَ وَقَدْ
سَبَقَتْهُ الرَّجْعَةُ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لَهَا طَلَّقْتُك فَقَالَتْ
مُجِيبَةً لَهُ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلِأَبِي
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا صَادَفَتْ حَالَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ
(وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعْلِمَهَا) بِالرَّجْعَةِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ
يُعْلِمْهَا لَرُبَّمَا تَقَعُ الْمَرْأَةُ فِي الْمَعْصِيَةِ فَإِنَّهَا
قَدْ تَتَزَوَّجُ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهَا أَنَّ زَوْجَهَا لَمْ
يُرَاجِعْهَا وَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَيَطَأَهَا الزَّوْجُ الثَّانِي
فَكَانَتْ عَاصِيَةً وَزَوْجُهَا الَّذِي أَوْقَعَهَا فِيهِ مُسِيئًا
بِتَرْكِ الْإِعْلَامِ، وَلَكِنْ مَعَ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يُعْلِمْهَا
صَحَّتْ الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا اسْتِدَامَةٌ لِلْقَائِمِ وَلَيْسَتْ
بِإِنْشَاءٍ؛ فَكَانَ الزَّوْجُ بِالرَّجْعَةِ مُتَصَرِّفًا فِي خَالِصِ
حَقِّهِ، وَتَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ لَا يَتَوَقَّفُ
عَلَى عِلْمِ الْغَيْرِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَكُونُ عَاصِيَةً بِغَيْرِ عِلْمٍ؟ أُجِيبَ
بِأَنَّهَا إذَا تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ سُؤَالٍ وَقَعَتْ فِي الْمَعْصِيَةِ
لِأَنَّ التَّقْصِيرَ جَاءَ مِنْ جِهَتِهَا (وَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ
فَقَالَ قَدْ كُنْت رَاجَعْتهَا فِي الْعِدَّةِ؛ فَإِنْ صَدَّقَتْهُ فَهِيَ
رَجْعَةٌ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا لِأَنَّهُ أَخْبَرَ
عَمَّا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِي الْحَالِ) وَكُلُّ مَنْ فَعَلَ
كَذَلِكَ فَهُوَ مُتَّهَمٌ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا تَصِحَّ
الرَّجْعَةُ وَإِنْ صَدَّقَتْهُ أَيْضًا (إلَّا أَنَّ بِالتَّصْدِيقِ
تَرْتَفِعُ التُّهْمَةُ، وَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
وَهِيَ مَسْأَلَةُ الِاسْتِحْلَافِ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، وَقَدْ
مَرَّ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ) ،.
(وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ قَدْ رَاجَعْتُك فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ قَدْ
انْقَضَتْ عِدَّتِي) فَأَمَّا إنْ قَالَتْ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِكَلَامِ
الزَّوْجِ أَوْ بَعْدَ مُكْثٍ فَإِنْ كَانَ الثَّانِي تَصِحُّ الرَّجْعَةُ
بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ تَصِحَّ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ خِلَافًا لَهُمَا.
قَالَا: الرَّجْعَةُ صَادَفَتْ الْعِدَّةَ لِبَقَائِهَا ظَاهِرًا إلَى أَنْ
تُخْبِرَ، وَقَدْ سَبَقَتْ الرَّجْعَةُ فَكَانَتْ وَاقِعَةً فِي الْعِدَّةِ
وَهِيَ صَحِيحَةٌ لَا مَحَالَةَ (وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لَهَا طَلَّقْتُك
فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَقَعَ الطَّلَاقُ
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا صَادَفَتْ حَالَةَ
(4/163)
الِانْقِضَاءِ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي
الْإِخْبَارِ عَنْ الِانْقِضَاءِ فَإِذَا أَخْبَرَتْ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى
سَبْقِ الِانْقِضَاءِ وَأَقْرَبُ أَحْوَالِهِ حَالُ قَوْلِ الزَّوْجِ
وَمَسْأَلَةُ الطَّلَاقِ عَلَى الْخِلَافِ، وَلَوْ كَانَتْ عَلَى
الِاتِّفَاقِ فَالطَّلَاقُ يَقَعُ بِإِقْرَارِهِ بَعْدَ الِانْقِضَاءِ
وَالْمُرَاجَعَةُ لَا تَثْبُتُ بِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
الِانْقِضَاءِ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ الِانْقِضَاءِ)
إذْ لَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِإِخْبَارِهَا وَقَدْ أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ،
وَالْإِخْبَارُ يَقْتَضِي سَبْقَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ وَلَا دَلِيلَ عَلَى
مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ (وَأَقْرَبُ أَحْوَالِهِ حَالُ قَوْلِ الزَّوْجِ)
فَإِذَا صَادَفَتْ حَالَةَ الِانْقِضَاءِ لَا تَكُونُ مُعْتَبَرَةً. وَلَا
نُسَلِّمُ أَنَّ مَسْأَلَةَ الطَّلَاقِ عَلَى الْوِفَاقِ بَلْ عَلَى
الْخِلَافِ، وَلَئِنْ كَانَتْ عَلَى الِاتِّفَاقِ فَالطَّلَاقُ يَقَعُ
بِإِقْرَارِهِ
(4/164)
(وَإِذْ قَالَ زَوْجُ الْأَمَةِ بَعْدَ
انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا: قَدْ كُنْت رَاجَعْتهَا وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى
وَكَذَّبَتْهُ الْأَمَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَا: الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى) لِأَنَّ
بُضْعَهَا مَمْلُوكٌ لَهُ، فَقَدْ أَقَرَّ بِمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ
لِلزَّوْجِ فَشَابَهُ الْإِقْرَارَ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ، وَهُوَ يَقُولُ
حُكْمُ الرَّجْعَةِ يُبْتَنَى عَلَى الْعِدَّةِ وَالْقَوْلُ فِي الْعِدَّةِ
قَوْلُهَا، فَكَذَا فِيمَا يُبْتَنَى عَلَيْهَا، وَلَوْ كَانَ عَلَى
الْقَلْبِ فَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
بَعْدَ الِانْقِضَاءِ وَالْمُرَاجَعَةُ لَا تَثْبُتُ بِهِ.
(وَإِذَا قَالَ زَوْجُ الْأَمَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَدْ كُنْت
رَاجَعْتهَا) وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ؛ فَإِمَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمَوْلَى
وَالْأَمَةُ أَوْ يُكَذِّبَاهُ، أَوْ يُصَدِّقَهُ الْمَوْلَى وَتُكَذِّبَهُ
الْأَمَةُ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ صَحَّتْ الرَّجْعَةُ
بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي لَمْ تَصِحَّ بِالِاتِّفَاقِ إلَّا
إذَا بَرْهَنَ، وَإِنْ كَانَ الثَّالِثُ وَلَيْسَ لَهُ بَيِّنَةٌ
(فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: الْقَوْلُ
قَوْلُ الْمَوْلَى لِأَنَّ الْبُضْعَ مَمْلُوكٌ) لَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ
الْعِدَّةِ، وَمَعْنَاهُ مَنَافِعُ الْبُضْعِ، فَكَانَ الْإِقْرَارُ بِهَا
لِلزَّوْجِ إقْرَارًا بِمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ فَلَا مَرَدَّ لَهُ،
وَكَانَ كَالْإِقْرَارِ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ، بِأَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ
زَوْجُ أَمَتِهِ مِنْ فُلَانٍ (وَهُوَ) أَيْ أَبُو حَنِيفَةَ (يَقُولُ
حُكْمُ الرَّجْعَةِ يُبْتَنَى عَلَى بَقَاءِ الْعِدَّةِ) وَانْقِضَائِهَا،
وَكُلُّ مَا يُبْتَنَى عَلَى ذَلِكَ يُبْتَنَى عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ
الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ أَمِينًا (وَالْقَوْلُ فِي
الْعِدَّةِ قَوْلُهَا) فَحُكْمُ الرَّجْعَةِ يُبْتَنَى عَلَى قَوْلِهَا،
وَلَمْ يَذْكُرْ الْجَوَابَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالتَّزْوِيجِ لِظُهُورِهِ،
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمَّا صَدَّقَهُ فِي الرَّجْعَةِ لَمْ يَبْقَ لَهُ
حَقٌّ فِي مَنَافِعِ بُضْعِهَا، فَأَنَّى يَكُونُ لَهُ إقْرَارٌ بِمَا هُوَ
خَالِصُ حَقِّهِ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالتَّزْوِيجِ فَإِنَّهُ
إقْرَارٌ بِذَلِكَ وَكَانَ الْفَرْقُ بَيِّنًا، وَإِنْ كَانَ الرَّابِعُ
وَعَبَّرَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَلَوْ كَانَ عَلَى الْقَلْبِ
فَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى) لِأَنَّ مَنَافِعَ الْبُضْعِ
خَالِصُ حَقِّهِ وَالزَّوْجُ يَدَّعِيهَا عَلَيْهِ
(4/165)
وَكَذَا عِنْدَهُ فِي الصَّحِيحِ
لِأَنَّهَا مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ فِي الْحَالِ، وَقَدْ ظَهَرَ مِلْكُ
الْمُتْعَةِ لِلْمَوْلَى فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي إبْطَالِهِ،
بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالتَّصْدِيقِ فِي
الرَّجْعَةِ مُقِرٌّ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ عِنْدَهَا وَلَا يَظْهَرُ
مِلْكُهُ مَعَ الْعِدَّةِ (وَإِنْ قَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَقَالَ
الزَّوْجُ وَالْمَوْلَى لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُك فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا)
لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي ذَلِكَ إذْ هِيَ الْعَالِمَةُ بِهِ
. (وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ لَعَشْرَةِ
أَيَّامٍ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ وَإِنْ لَمْ تَغْتَسِلْ، وَإِنْ
انْقَطَعَ لِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ
حَتَّى تَغْتَسِلَ أَوْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ كَامِلٍ)
لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا مَزِيدَ لَهُ عَلَى الْعَشَرَةِ، فَبِمُجَرَّدِ
الِانْقِطَاعِ خَرَجَتْ مِنْ الْحَيْضِ فَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ
وَانْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ، وَفِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ يُحْتَمَلُ عَوْدُ
الدَّمِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْتَضِدَ الِانْقِطَاعُ بِحَقِيقَةِ
الِاغْتِسَالِ أَوْ بِلُزُومِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ
بِمُضِيِّ وَقْتِ الصَّلَاةِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ كِتَابِيَّةً
لِأَنَّهُ لَا يُتَوَقَّعُ فِي حَقِّهَا أَمَارَةٌ زَائِدَةٌ فَاكْتَفَى
بِالِانْقِطَاعِ، وَتَنْقَطِعُ إذَا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ
وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا تَيَمَّمَتْ انْقَطَعَتْ،
وَهَذَا قِيَاسٌ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ حَالَ عَدَمِ الْمَاءِ طَهَارَةٌ
مُطْلَقَةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَهِيَ مُنْكِرَةٌ (وَكَذَا عِنْدَهُ فِي الصَّحِيحِ لِأَنَّهَا
مُنْقَضِيَةُ الْعِدَّةِ فِي الْحَالِ) بِالِاتِّفَاقِ، وَبِالِانْقِضَاءِ
يَظْهَرُ مِلْكُ الْمُتْعَةِ لِلْمَوْلَى وَهِيَ تُبْطِلُهُ فَلَا يُقْبَلُ
قَوْلُهَا فِيهِ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَوْلَى
بِالتَّصْدِيقِ فِي الرَّجْعَةِ مُقِرٌّ بِقِيَامِ الْعِدَّةِ عِنْدَهَا.
أَيْ عِنْدَ الرَّجْعَةِ، وَلَا يَظْهَرُ مِلْكُهُ مَعَ الْعِدَّةِ فِي
هَذَا الْكَلَامِ إشَارَةً إلَى الْجَوَابِ عَنْ مَسْأَلَةِ التَّزْوِيجِ
كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ. قَوْلُهُ (وَإِنْ قَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ
عِدَّتِي) ظَاهِرٌ وَالضَّمِيرُ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى الِانْقِضَاءِ.
وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ لِعَشَرَةِ
أَيَّامٍ قَالَ (وَإِذَا انْقَطَعَ الدَّمُ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ)
كَلَامُهُ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ بِلُزُومِ حُكْمٍ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ بِمُضِيِّ
وَقْتِ الصَّلَاةِ) يَعْنِي أَنَّ الْوَقْتَ إذَا مَضَى صَارَتْ الصَّلَاةُ
دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ. وَقَوْلُهُ
(إذَا تَيَمَّمَتْ وَصَلَّتْ) أَطْلَقَ الصَّلَاةَ لِتَنَاوُلِ
الْمَكْتُوبَةِ وَغَيْرِهَا
(4/166)
حَتَّى يَثْبُتُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ
مَا يَثْبُتُ بِالِاغْتِسَالِ فَكَانَ بِمَنْزِلَتِهِ. وَلَهُمَا أَنَّهُ
مُلَوَّثٌ غَيْرُ مُطَهِّرٌ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ طَهَارَةً ضَرُورَةَ
أَنْ لَا تَتَضَاعَفَ الْوَاجِبَاتُ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَتَحَقَّقُ
حَالَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَا فِيمَا قَبْلَهَا مِنْ الْأَوْقَاتِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقَوْلُهُ (حَتَّى يَثْبُتَ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ) يُرِيدُ بِهِ دُخُولَ
الْمَسْجِدِ وَمَسَّ الْمُصْحَفِ وَقِرَاءَةَ الْقُرْآنِ وَإِبَاحَةَ
الصَّلَاةِ
(4/167)
وَالْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ أَيْضًا
ضَرُورِيَّةٌ اقْتِضَائِيَّةٌ، ثُمَّ قِيلَ تَنْقَطِعُ بِنَفْسِ الشُّرُوعِ
عِنْدَهُمَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَسَجْدَةَ التِّلَاوَةِ.
وَقَوْلُهُ وَالْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ أَيْضًا ضَرُورِيَّةٌ
اقْتِضَائِيَّةٌ) يَعْنِي أَنَّ ثُبُوتَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ مِنْ
ضَرُورَةِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ، أَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ
فَلِأَنَّهَا رُكْنُ الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا الْمَسْجِدُ فَلِأَنَّهُ مَكَانُ الصَّلَاةِ. وَأَمَّا سَجْدَةُ
التِّلَاوَةِ فَهِيَ مِنْ تَوَابِعِ الْقِرَاءَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ
تَقْرَأَ فِي صَلَاتِهَا آيَةَ السَّجْدَةِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ:
الْحَاصِلُ مِنْ دَلِيلِهِمَا أَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ ضَرُورِيَّةٌ
وَأَنَّ الضَّرُورَةَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ حَالَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَلَا
يَكُونُ قَبْلَهُ طَهَارَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا انْقِطَاعُ الرَّجْعَةِ.
وَقَدْ تَقَرَّرَ مِنْ الْأُصُولِ أَنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ لَا
يَتَعَدَّى مَوْضِعَهَا فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ لَا تَنْقَطِعَ
الرَّجْعَةُ وَإِنْ صَلَّتْ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ
(4/168)
وَقِيلَ بَعْدَ الْفَرَاغِ لِيَتَقَرَّرَ
حُكْمُ جَوَازِ الصَّلَاةِ
. (وَإِذَا اغْتَسَلَتْ وَنَسِيَتْ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا لَمْ يُصِبْهُ
الْمَاءُ، فَإِنْ كَانَ عُضْوًا فَمَا فَوْقَهُ لَمْ تَنْقَطِعْ
الرَّجْعَةُ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ انْقَطَعَتْ) قَالَ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ فِي
الْعُضْوِ الْكَامِلِ أَنْ لَا تَبْقَى الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا غَسَلَتْ
الْأَكْثَرَ. وَالْقِيَاسُ فِيمَا دُونَ الْعُضْوِ أَنْ تَبْقَى لِأَنَّ
حُكْمَ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ لَا يَتَجَزَّأُ.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ الْفَرْقُ أَنَّ مَا دُونَ الْعُضْوِ
يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ لِقِلَّتِهِ فَلَا يَتَيَقَّنُ بِعَدَمِ
وُصُولِ الْمَاءِ إلَيْهِ، فَقُلْنَا بِأَنَّهُ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ
وَلَا يَحِلُّ لَهَا التَّزَوُّجُ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ فِيهِمَا،
بِخِلَافِ الْعُضْوِ الْكَامِلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
أَوْ يَمْضِي عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الضَّرُورِيَّ مَتَى مَا ثَبَتَ ثَبَتَ بِجَمِيعِ
لَوَازِمِهِ وَمِنْ لَوَازِمِ ثُبُوتِ الطَّهَارَةِ عِنْدَ أَدَاءِ
الصَّلَاةِ انْقِطَاعُ الْحَيْضِ، وَمِنْ لَوَازِمِ انْقِطَاعِهِ مُضِيُّ
الْمُدَّةِ، وَمِنْ لَوَازِمِ مُضِيِّهَا انْقِطَاعُ الرَّجْعَةِ،
وَلَازِمُ لَازِمِ اللَّازِمِ لَازِمٌ فَيَثْبُتُ عِنْدَ ثُبُوتِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَعْلِهِمَا التَّيَمُّمَ طَهَارَةً ضَرُورِيَّةً
هَاهُنَا وَطَهَارَةً مُطْلَقَةً فِي بَابِ الْإِمَامَةِ وَجَعْلِ
مُحَمَّدٍ بِالْعَكْسِ فَقَدْ سَبَقَ هُنَاكَ مُسْتَوْفًى.
(وَإِذَا اغْتَسَلَتْ وَنَسِيَتْ شَيْئًا مِنْ بَدَنِهَا لَمْ يُصِبْهُ
الْمَاءُ فَإِنْ كَانَ عُضْوًا فَمَا فَوْقَهُ لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ
وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ عُضْوٍ كَأُصْبُعٍ وَنَحْوِهِ انْقَطَعَتْ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ) اعْلَمْ أَنَّ مُحَمَّدًا لَمْ
يَذْكُرْ فِي كُتُبِهِ مَوْضِعَ الْقِيَاسِ هَلْ هُوَ عُضْوٌ فَمَا
فَوْقَهُ أَوْ هُوَ مَا دُونَهُ، وَرُوِيَ أَنَّهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
فِي الْعُضْوِ فَمَا فَوْقَهُ، فَإِنَّ الْقِيَاسَ أَنْ تَنْقَطِعَ
الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا غَسَلَتْ أَكْثَرَ الْبَدَنِ، وَلِلْأَكْثَرِ
حُكْمُ الْكُلِّ فَكَأَنَّهَا أَصَابَ الْمَاءُ جَمِيعَ الْبَدَنِ، وَفِي
الِاسْتِحْسَانِ لَا تَنْقَطِعُ لِأَنَّ الْعِدَّةَ بَاقِيَةٌ لِعَدَمِ
الطَّهَارَةِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ فِيمَا دُونَهُ، فَالْقِيَاسُ أَنْ
تَبْقَى الرَّجْعَةُ لِبَقَاءِ الْحَدَثِ، وَالِاسْتِحْسَانُ أَنْ
تَنْقَطِعَ لِأَنَّ مَا دُونَ الْعُضْوِ يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ
لِقِلَّتِهِ فَلَا يُتَيَقَّنُ بِعَدَمِ وُصُولِ الْمَاءِ إلَيْهِ،
وَالْمُصَنِّفُ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَالْقِيَاسُ فِي
الْعُضْوِ الْكَامِلِ أَنْ لَا تَبْقَى الرَّجْعَةُ لِأَنَّهَا غَسَلَتْ
الْأَكْثَرَ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى قِيَاسِ أَبِي يُوسُفَ وَبِقَوْلِهِ
وَالْقِيَاسُ فِيمَا دُونَ الْعُضْوِ أَنْ لَا تَبْقَى لِأَنَّ حُكْمَ
الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ لَا يَتَجَزَّأُ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِ
مُحَمَّدٍ. وَذَكَرَ وَجْهَ الِاسْتِحْسَانِ وَبَيَّنَ الْفَرْقَ بَيْنَ
الْعُضْوِ الْكَامِلِ وَمَا دُونَهُ بِقَوْلِهِ إنَّ مَا دُونَ الْعُضْوِ
يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ لِقِلَّتِهِ فَلَا يُتَيَقَّنُ بِعَدَمِ
وُصُولِ الْمَاءِ إلَيْهِ فَقُلْنَا بِانْقِطَاعِهَا، حَتَّى لَوْ
تَيَقَّنَتْ بِعَدَمِ وُصُولِ الْمَاءِ إلَيْهِ بِأَنْ مَنَعَتْ قَصْدًا
لَمْ تَنْقَطِعْ الرَّجْعَةُ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى اسْتِحْسَانِ
مُحَمَّدٍ. وَقَالَ (بِخِلَافِ الْعُضْوِ الْكَامِلِ
(4/169)
لِأَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ
الْجَفَافُ وَلَا يَغْفُلُ عَنْهُ عَادَةً فَافْتَرَقَا. وَعَنْ أَبِي
يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: أَنَّ تَرْكَ الْمَضْمَضَةِ
وَالِاسْتِنْشَاقِ كَتَرْكِ عُضْوٍ كَامِلٍ. وَعَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ
مُحَمَّدٍ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا
دُونَ الْعُضْوِ لِأَنَّ فِي فَرْضِيَّتِهِ اخْتِلَافًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ
مِنْ الْأَعْضَاءِ.
(وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ وَلَدَتْ مِنْهُ وَقَالَ
لَمْ أُجَامِعْهَا فَلَهُ الرَّجْعَةُ) لِأَنَّ الْحَبَلَ مَتَى ظَهَرَ فِي
مُدَّةٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ جُعِلَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» وَذَلِكَ
دَلِيلُ الْوَطْءِ مِنْهُ وَكَذَا إذَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
لِأَنَّهُ لَا يَتَسَارَعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ) فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ
مَبْلُولًا عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ لِعَدَمِ الْغَفْلَةِ
عَنْهُ عَادَةً فَلَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى
اسْتِحْسَانِ أَبِي يُوسُفَ، فَانْظُرْ حِذْقَ الْمُصَنِّفِ فِي هَذَا
الْإِدْرَاجِ اللَّطِيفِ الَّذِي قَلَّمَا وَقَعَ مِثْلُهُ لِغَيْرِهِ،
جَزَاهُ اللَّهُ عَنْ الْمُحَصِّلِينَ خَيْرًا (وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ
تَرْكَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ كَتَرْكِ عُضْوٍ كَامِلٍ)
وَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
ذَلِكَ وَهُوَ رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ حُكْمَ
الْحَيْضِ بَاقٍ لِكَوْنِهِمَا فَرْضَيْنِ فِي الْجَنَابَةِ (وَ) فِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى (عَنْهُ) وَهُوَ رِوَايَةُ الْكَرْخِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ
(هُوَ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (بِمَنْزِلَةِ مَا دُونَ الْعُضْوِ
لِأَنَّ فِي فَرْضِيَّتِهِ اخْتِلَافًا) فَإِنَّ الْمَضْمَضَةَ
وَالِاسْتِنْشَاقَ سُنَّتَانِ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَكَانَ
الِاحْتِيَاطُ فِي انْقِطَاعِ الرَّجْعَةِ (بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ
الْأَعْضَاءِ) فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِي فَرْضِيَّتِهِ.
قَالَ (وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ أَوْ وَلَدَتْ مِنْهُ
ثُمَّ طَلَّقَهَا وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا ثُمَّ أَرَادَ الرَّجْعَةَ)
فَلَهُ ذَلِكَ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِقَوْلِهِ لَمْ أُجَامِعْهَا لِأَنَّهُ
ظَهَرَ الْحَبَلُ فِي مُدَّةٍ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ لِكَوْنِ
الْمَسْأَلَةِ مَوْضُوعَةً فِي ذَلِكَ، وَمَتَى ظَهَرَ فِي مُدَّةٍ
يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ جُعِلَ مِنْهُ (لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» ) الْحَدِيثَ
(وَذَلِكَ) أَيْ جَعْلُ الْحَمْلِ مِنْهُ (دَلِيلُ الْوَطْءِ مِنْهُ،
وَكَذَا إذَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ
(4/170)
مِنْهُ جُعِلَ وَاطِئًا، وَإِذَا ثَبَتَ
الْوَطْءُ تَأَكَّدَ الْمِلْكُ وَالطَّلَاقُ فِي مِلْكٍ مُتَأَكِّدٍ
يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ وَيَبْطُلُ زَعْمُهُ بِتَكْذِيبِ الشَّرْعِ، أَلَا
تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَذَا الْوَطْءِ الْإِحْصَانُ فَلَأَنْ تَثْبُتَ
بِهِ الرَّجْعَةُ أَوْلَى. وَتَأْوِيلُ مَسْأَلَةِ الْوِلَادَةِ أَنْ
تَلِدَ قَبْلَ الطَّلَاقِ، لِأَنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ بَعْدَهُ تَنْقَضِي
الْعِدَّةُ بِالْوِلَادَةِ فَلَا تُتَصَوَّرُ الرَّجْعَةُ.
قَالَ: (فَإِنْ خَلَا بِهَا وَأَغْلَقَ بَابًا أَوْ أَرْخَى سِتْرًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
مِنْهُ جُعِلَ وَاطِئًا) لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِهِ (وَإِذَا
ثَبَتَ الْوَطْءُ تَأَكَّدَ الْمِلْكُ، وَالطَّلَاقُ فِي مِلْكٍ
مُتَأَكَّدٍ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ وَيَبْطُلُ زَعْمُهُ) أَنَّهُ لَمْ
يُجَامِعْهَا (بِتَكْذِيبِ الشَّارِعِ) وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ دَلَالَةً، وَقَوْلُهُ لَمْ
أُجَامِعْهَا صَرِيحٌ، وَالصَّرِيحُ يَفُوقُ الدَّلَالَةَ. وَالثَّانِي
أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَوْلِهِ لَمْ أُجَامِعْهَا لِسُقُوطِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ
لَهُ، وَتَكْذِيبُ الشَّارِعِ لَا يَرُدُّهُ، كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ
لِإِنْسَانٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِهِ ثُمَّ
وَصَلَتْ إلَيْهِ أُمِرَ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ وَإِنْ صَارَ
مُكَذَّبًا شَرْعًا.
وَأُجِيبَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الدَّلَالَةَ مِنْ الشَّارِعِ
وَالصَّرِيحَ مِنْ الْعَبْدِ وَدَلَالَةَ الشَّارِعِ أَقْوَى لِاحْتِمَالِ
الْكَذِبِ مِنْ الْعَبْدِ دُونَ الشَّارِعِ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّهُ
لَمْ يَتَعَلَّقْ هَاهُنَا بِإِقْرَارِهِ حَقُّ الْغَيْرِ وَالْمُوجِبُ
لِلرَّجْعَةِ وَهُوَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ ثَابِتٌ فَيَتَرَتَّبُ
عَلَيْهِ الْحُكْمُ لِثُبُوتِ الْمُقْتَضَى وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ،
بِخِلَافِ الْمُسْتَشْهَدِ بِهِ فَإِنَّ الْمَانِعَ ثَمَّ مَوْجُودٌ وَهُوَ
تَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِهِ. وَقَوْلُهُ (أَلَا تَرَى) تَوْضِيحٌ
لِقَوْلِهِ وَالطَّلَاقُ فِي مِلْكٍ مُتَأَكَّدٍ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ
وَبَيَانُ الْأَوْلَوِيَّةِ أَنَّ الْإِحْصَانَ لَهُ مَدْخَلٌ فِي وُجُودِ
الْعُقُوبَةِ وَمَعَ هَذَا يَثْبُتُ بِهَذَا الْوَطْءِ (فَلَأَنْ يَثْبُتَ
بِهِ الرَّجْعَةُ) الَّتِي لَيْسَتْ فِيهَا جِهَةُ الْعُقُوبَةِ (أَوْلَى)
وَقَوْلُهُ (وَتَأْوِيلُ مَسْأَلَةِ الْوِلَادَةِ) ظَاهِرٌ.
(فَإِنْ خَلَا بِهَا وَأَغْلَقَ بَابًا أَوْ أَرْخَى سِتْرًا) عَلَى
رِوَايَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ بِكَلِمَةِ أَوْ،
(4/171)
وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا ثُمَّ
طَلَّقَهَا لَمْ يَمْلِكْ الرَّجْعَةَ) لِأَنَّ تَأَكُّدَ الْمِلْكِ
بِالْوَطْءِ وَقَدْ أَقَرَّ بِعَدَمِهِ فَيُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ
وَالرَّجْعَةُ حَقُّهُ وَلَمْ يَصِرْ مُكَذَّبًا شَرْعًا، بِخِلَافِ
الْمَهْرِ لِأَنَّ تَأَكُّدَ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى يُبْتَنَى عَلَى
تَسْلِيمِ الْمُبْدَلِ لَا عَلَى الْقَبْضِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ
الْأَوَّلِ.
(فَإِنْ رَاجَعَهَا) مَعْنَاهُ بَعْدَمَا خَلَا بِهَا وَقَالَ لَمْ
أُجَامِعْهَا (ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ
صَحَّتْ تِلْكَ الرَّجْعَةُ) لِأَنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إذْ هِيَ
لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالْوَلَدُ يَبْقَى فِي الْبَطْنِ
هَذِهِ الْمُدَّةَ فَأُنْزِلَ وَاطِئًا قَبْلَ الطَّلَاقِ دُونَ مَا
بَعْدَهُ لِأَنَّ عَلَى اعْتِبَارِ الثَّانِي يَزُولُ الْمِلْكُ بِنَفْسِ
الطَّلَاقِ لِعَدَمِ الْوَطْءِ قَبْلَهُ فَيَحْرُمُ الْوَطْءُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَأَرْخَى سِتْرًا بِالْوَاوِ
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ (ثُمَّ قَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا
لَمْ يَمْلِكْ الرَّجْعَةَ لِأَنَّ تَأَكُّدَ الْمِلْكِ بِالْوَطْءِ وَقَدْ
أَقَرَّ بِعَدَمِهِ فَيَصْدُقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَالرَّجْعَةُ حَقُّهُ)
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا لِوُجُوبِ كَمَالِ الْمَهْرِ
وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ كَامِلًا إلَّا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ
الدُّخُولِ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَلَمْ يَصِرْ مُكَذَّبًا شَرْعًا لِأَنَّ تَأَكُّدَ
الْمَهْرِ الْمُسَمَّى يُبْتَنَى عَلَى تَسْلِيمِ الْمُبْدَلِ لَا عَلَى
الْقَبْضِ) وَمَعْنَاهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُكَذَّبًا شَرْعًا أَنْ لَوْ
كَانَ كَمَالُ الْمَهْرِ مُسْتَلْزِمًا لِلْقَبْضِ وَهُوَ الْوَطْءُ
وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِتَسْلِيمِ الْمُبْدَلِ
وَقَدْ حَصَلَ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ، إذْ التَّسْلِيمُ عِبَارَةٌ
عَنْ رَفْعِ الْمَوَانِعِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْلَمِ إلَيْهِ
وَيَقْدِرُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَقْبِضَهُ وَقَدْ وُجِدَ
ذَلِكَ وَالتَّسْلِيمُ غَيْرُ مُسْتَلْزِمٍ لِلْقَبْضِ فَلَا يَلْزَمُ
التَّكْذِيبُ (بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ) لِأَنَّ الْحَمْلَ
وَثُبُوتَ النَّسَبِ يَسْتَلْزِمُ الْقَبْضَ فَيَلْزَمُ التَّكْذِيبُ.
(فَإِنْ رَاجَعَهَا بَعْدَمَا خَلَا بِهَا وَقَالَ لَمْ أُجَامِعْهَا)
يَعْنِي وَإِنْ كَانَ لَا يَمْلِكُهَا (ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ
مِنْ سَنَتَيْنِ بِيَوْمٍ صَحَّتْ تِلْكَ الرَّجْعَةُ) أَيْ الرَّجْعَةُ
السَّابِقَةُ (لِأَنَّ النَّسَبَ ثَابِتٌ مِنْهُ لِعَدَمِ الْإِقْرَارِ
مِنْهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ) وَلِاحْتِمَالِ الْمُدَّةِ (فَإِنَّ
الْوَلَدَ يَبْقَى فِي الْبَطْنِ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ
إلَّا بِالدُّخُولِ فَأَنْزَلَ وَاطِئًا قَبْلَ الطَّلَاقِ دُونَ مَا
بَعْدَهُ) لِأَنَّ فِيمَا بَعْدَهُ يَكُونُ الْوَطْءُ حَرَامًا
(4/172)
وَالْمُسْلِمُ لَا يَفْعَلُ الْحَرَامَ
(فَإِنْ قَالَ لَهَا إذَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ ثُمَّ
أَتَتْ بِوَلَدٍ آخَرَ فَهِيَ رَجْعَةٌ) مَعْنَاهُ مِنْ بَطْنٍ آخَرَ
وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ
سَنَتَيْنِ إذَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ وَقَعَ
الطَّلَاقُ عَلَيْهِ بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ
فَيَكُونُ الْوَلَدُ الثَّانِي مِنْ عَلُوقٍ حَادِثٍ مِنْهُ فِي الْعِدَّةِ
لِأَنَّهَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيَصِيرُ مُرَاجِعًا
(وَإِنْ قَالَ كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ
ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بُطُونٍ مُخْتَلِفَةٍ فَالْوَلَدُ الْأَوَّلُ
طَلَاقٌ وَالْوَلَدُ الثَّانِي رَجْعَةٌ وَكَذَا الثَّالِثُ) لِأَنَّهَا
إذَا جَاءَتْ بِالْأَوَّلِ وَقَعَ الطَّلَاقُ وَصَارَتْ مُعْتَدَّةً،
وَبِالثَّانِي صَارَ مُرَاجِعًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجْعَلُ
الْعَلُوقَ بِوَطْءٍ حَادِثٍ فِي الْعِدَّةِ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ الثَّانِي
بِوِلَادَةِ الْوَلَدِ الثَّانِي لِأَنَّ الْيَمِينَ مَعْقُودَةٌ
بِكَلِمَةِ كُلَّمَا وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ، وَبِالْوَلَدِ الثَّالِثِ
صَارَ مُرَاجِعًا لِمَا ذَكَرْنَا، وَتَقَعُ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ
بِوِلَادَةِ الثَّالِثِ وَوَجَبَتْ الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ لِأَنَّهَا
حَائِلٌ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ حِينَ وَقَعَ الطَّلَاقُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
لِزَوَالِ الْمِلْكِ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ: يَعْنِي إلَّا إلَى عِدَّةٍ
لِأَنَّ الْفَرْضَ عَدَمُ الْوَطْءِ قَبْلَهُ لِأَنَّهُ أَنْكَرَهُ بَعْدَ
الْخَلْوَةِ وَالْمُسْلِمُ لَا يَفْعَلُ الْحَرَامَ، وَإِنْ كَانَتْ
مَوْطُوءَةً قَبْلَ الطَّلَاقِ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الدُّخُولِ
وَذَلِكَ يَعْقُبُ الرَّجْعَةَ فَكَانَتْ الرَّجْعَةُ صَحِيحَةً.
قَالَ (فَإِنْ قَالَ لَهَا إذَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ) وَمَنْ عَلَّقَ
طَلَاقَ امْرَأَتِهِ بِوِلَادَتِهَا فَوَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ وَلَدَتْ
وَلَدًا، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ
أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الثَّانِي فَالْوِلَادَةُ الثَّانِيَةُ لَا تَكُونُ
دَلِيلَ الرَّجْعَةِ فَيَكُونُ الطَّلَاقُ قَدْ وَقَعَ بِالْوَلَدِ
الْأَوَّلِ وَانْقَضَتْ الْعِدَّةُ بِالْوَلَدِ الثَّانِي، وَمَا ثَمَّ
دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ وَطِئَهَا بَعْدَ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ فَلَا
يَثْبُتُ بِهِ الرَّجْعَةُ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ وَهُوَ الْمَذْكُورُ
فِي الْكِتَابِ فَهِيَ رَجْعَةٌ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ الثَّانِيَةَ
رَجْعَةٌ، وَوَجْهُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ.
وَقَوْلُهُ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ) إنْ لِلْوَصْلِ: أَيْ
لِمَا كَانَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ لَا تَفَاوُتَ بَعْدَ
ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْوِلَادَةُ الثَّانِيَةُ فِي أَقَلَّ مِنْ
سَنَتَيْنِ وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فِي ثُبُوتِ
الرَّجْعَةِ لِأَنَّ الْوَلَدَ الثَّانِيَ مُضَافٌ إلَى عُلُوقٍ حَادِثٍ
لَا مَحَالَةَ وَهُوَ بِالْوَطْءِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَكَانَ رَجْعَةً.
(وَإِنْ قَالَ كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ) عَلَى مَا
ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (لِمَا ذَكَرْنَا) إشَارَةٌ
إلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا بِالْوَلَدِ
الْأَوَّلِ إلَخْ.
(4/173)
(وَالْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ
تَتَشَوَّفُ وَتَتَزَيَّنُ) لِأَنَّهَا حَلَالٌ لِلزَّوْجِ إذْ النِّكَاحُ
قَائِمٌ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ الرَّجْعَةُ مُسْتَحَبَّةٌ وَالتَّزَيُّنُ
حَامِلٌ لَهُ عَلَيْهَا فَيَكُونُ مَشْرُوعًا (وَيُسْتَحَبُّ لِزَوْجِهَا
أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهَا حَتَّى يُؤْذِنَهَا أَوْ يُسْمِعَهَا خَفْقَ
نَعْلَيْهِ) مَعْنَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الْمُرَاجَعَةُ
لِأَنَّهَا رُبَّمَا تَكُونُ مُتَجَرِّدَةً فَيَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى
مَوْضِعٍ يَصِيرُ بِهِ مُرَاجِعًا ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَتَطُولُ الْعِدَّةُ
عَلَيْهَا (وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا حَتَّى يُشْهِدَ عَلَى
رَجْعَتِهَا) وَقَالَ زُفَرُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ: لَهُ
ذَلِكَ لِقِيَامِ النِّكَاحِ، وَلِهَذَا لَهُ أَنْ يَغْشَاهَا عِنْدَنَا.
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:
1] الْآيَةَ، وَلِأَنَّ تَرَاخِيَ عَمَلِ الْمُبْطِلِ لِحَاجَتِهِ إلَى
الْمُرَاجَعَةِ، فَإِذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ
ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُبْطِلَ عَمَلَ
عَمَلَهُ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ وَلِهَذَا تُحْتَسَبُ الْأَقْرَاءُ مِنْ
الْعِدَّةِ فَلَمْ يَمْلِكْ الزَّوْجُ الْإِخْرَاجَ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ
عَلَى رَجْعَتِهَا فَتَبْطُلُ الْعِدَّةُ وَيَتَقَرَّرُ مِلْكُ الزَّوْجِ.
وَقَوْلُهُ حَتَّى يُشْهِدَ عَلَى رَجْعَتِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقَوْلُهُ (وَالْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ تَتَشَوَّفُ وَتَتَزَيَّنُ)
التَّشَوُّفُ خَاصٌّ فِي الْوَجْهِ وَالتَّزَيُّنُ عَامٌّ تَفَعُّلٌ مِنْ
شُفْت الشَّيْءَ جَلَوْته وَدِينَارٌ مَشُوفٌ: أَيْ مَجْلُوٌّ وَهُوَ أَنْ
تَجْلُوَ الْمَرْأَةُ وَجْهَهَا وَتَصْقُلَ خَدَّيْهَا.
وَقَوْلُهُ إذْ النِّكَاحُ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا) يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ
التَّوَارُثَ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ جَمِيعُ أَحْكَامِ النِّكَاحِ
قَائِمٌ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ تَدْخُلُ هَذِهِ
الْمُطَلَّقَةُ فِيهِ وَيَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ
كَانَ النِّكَاحُ قَائِمًا بَيْنَهُمَا لَجَازَ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا
كَالَّتِي فِي نِكَاحِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ. أُجِيبَ
بِأَنَّهُ امْتَنَعَ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {لا تُخْرِجُوهُنَّ
مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فَإِنَّهُ نَزَلَ فِي الطَّلَاقِ
الرَّجْعِيِّ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ
ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] أَيْ لَعَلَّهُ يَبْدُو لَهُ فَيُرَاجِعَهَا
وَالْمُسَافَرَةُ بِهَا إخْرَاجٌ مِنْ الْبَيْتِ فَيَكُونُ مَنْهِيًّا
عَنْهَا. فَإِنْ قِيلَ: لِمَا لَا يَكُونُ نَفْسُ الْمُسَافَرَةِ دَلِيلًا
عَلَى الرَّجْعَةِ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْإِخْرَاجَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ
وَالرَّجْعَةَ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ. وَقَوْلُهُ
(وَلِأَنَّ تَرَاخِيَ عَمَلِ الْمُبْطِلِ) دَلِيلٌ مَعْقُولٌ عَلَى عَدَمِ
جَوَازِ الْمُسَافَرَةِ بِهَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ، وَتَقْرِيرُهُ تَرَاخِي
عَمَلِ الْمُبْطِلِ وَهُوَ الطَّلَاقُ لِحَاجَةِ الزَّوْجِ إلَى
الْمُرَاجَعَةِ وَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَيْهَا فَلَا تَرَاخِيَ. أَمَّا أَنَّ
التَّرَاخِيَ كَذَلِكَ فَقَدْ عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا عَدَمُ
حَاجَتِهِ إلَيْهَا فَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا حَتَّى انْقَضَتْ
الْمُدَّةُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ لَهُ إلَيْهَا، وَفِيهِ نَظَرٌ
لِأَنَّ كَلَامَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسَافَرَةَ لَا تَجُوزُ إذَا
انْقَضَتْ الْمُدَّةُ وَلَمْ يُرَاجِعْهَا، وَأَمَّا إذَا سَافَرَ بِهَا
وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ فَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ
ذَلِكَ وَالْكَلَامِ فِيهِ.
(4/174)
مَعْنَاهُ الِاسْتِحْبَابُ عَلَى مَا
قَدَّمْنَاهُ
(وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يُحَرِّمُ الْوَطْءَ) وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُحَرِّمُهُ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ
زَائِلَةٌ لِوُجُودِ الْقَاطِعِ وَهُوَ الطَّلَاقُ. وَلَنَا أَنَّهَا
قَائِمَةٌ حَتَّى يَمْلِكَ مُرَاجَعَتَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا لِأَنَّ
حَقَّ الرَّجْعَةِ ثَبَتَ نَظَرًا لِلزَّوْجِ لِيُمْكِنَهُ التَّدَارُكُ
عِنْدَ اعْتِرَاضِ النَّدَمِ، وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ اسْتِبْدَادَهُ
بِهِ، وَذَلِكَ يُؤْذِنُ بِكَوْنِهِ اسْتِدَامَةً لَا إنْشَاءً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَرِدُ أَنْ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ
بِالْمُدَّةِ الْعِدَّةَ.
وَأَمَّا إذَا أُرِيدَ بِهَا مُدَّةُ الْإِقَامَةِ فَلَا يَرِدُ، وَفِيهِ
نَظَرٌ لِأَنَّ عَمَلَ الْمُبْطِلِ أُخِّرَ إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ
بِالْإِجْمَاعِ دُونَ مُدَّةِ الْإِقَامَةِ، وَلَعَلَّ الصَّوَابَ أَنَّ
عَدَمَ جَوَازِ الْمُسَافَرَةِ أَيْضًا يَثْبُتُ بِالتَّبْيِينِ كَعَمَلِ
الْمُبْطِلِ؛ وَإِذَا ظَهَرَ عَدَمُ الْحَاجَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ
الْمُبْطِلَ عَمَلُ عَمَلِهِ مِنْ وَقْتِ وُجُودِهِ؛ وَلِهَذَا يَحْتَسِبُ
الْأَقْرَاءَ مِنْ الْعِدَّةِ، وَلَوْ كَانَ عَمَلُ الْمُبْطِلِ
مُقْتَصِرًا عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَمَا احْتَسَبَ الْأَقْرَاءَ
الْمَاضِيَةَ مِنْ الْعِدَّةِ كَمَا لَمْ تُحْتَسَبْ فِي قَوْلِهِ إذَا
حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّ تِلْكَ الْحَيْضَةَ غَيْرُ مُحْتَسَبَةٍ
مِنْ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ شَرْطُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ، وَإِذَا لَمْ
يَقْتَصِرْ عَمَلُ الْمُبْطِلِ عَلَى وَقْتِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَلْ
كَانَ مِنْ وَقْتِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ كَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ
الرَّجْعِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْمَبْتُوتَةِ تَقْدِيرًا حِينَ لَمْ يُرِدْ
الرَّجْعَةَ فَكَأَنَّمَا أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إخْرَاجَ الْمَبْتُوتَةِ
إلَى السَّفَرِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ إخْرَاجَ الْمُطَلَّقَةِ
الرَّجْعِيَّةِ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى رَجْعَتِهَا فَتَبْطُلَ
الْعِدَّةُ وَيَتَقَرَّرُ مِلْكُ النِّكَاحِ.
وَقَوْلُهُ عَلَى مَا قَدَّمْنَا) يَعْنِي فِي أَوَائِلِ الْبَابِ حَيْثُ
قَالَ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى الرَّجْعَةِ شَاهِدَيْنِ، وَإِنْ
لَمْ يُشْهِدْ صَحَّتْ الرَّجْعَةُ
(وَالطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يُحَرِّمُ الْوَطْءَ. وَقَالَ
الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُحَرِّمُهُ لِأَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ
بِالزَّوْجِيَّةِ وَالزَّوْجِيَّةُ زَائِلَةٌ لِوُجُودِ الْقَاطِعِ وَهُوَ
الطَّلَاقُ. وَلَنَا أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ قَائِمَةٌ وَلِهَذَا يَمْلِكُ
مُرَاجَعَتَهَا مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا) بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ كَانَتْ
زَائِلَةً لَكَانَتْ أَجْنَبِيَّةً فَلَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ بِدُونِ
رِضَاهَا، وَهَذَا الْمِقْدَارُ كَانَ كَافِيًا فِي الِاسْتِدْلَالِ
لَكِنَّهُ اسْتَظْهَرَ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ حَقَّ الرَّجْعَةِ يَثْبُتُ
نَظَرًا لِلزَّوْجِ لِيُمْكِنَهُ التَّدَارُكُ عِنْدَ اعْتِرَاضِ
النَّدَمِ، وَهَذَا الْمَعْنَى: أَيْ ثُبُوتُهُ نَظَرًا لَهُ يُوجِبُ
اسْتِبْدَادَهُ بِهِ: أَيْ بِالرَّجْعَةِ بِتَأْوِيلِ الرُّجُوعِ إذْ لَوْ
لَمْ يَكُنْ مُسْتَبِدًّا بِهِ لَمَا تَمَّ النَّظَرُ لِأَنَّهُ قَدْ لَا
تَرْضَى الْمَرْأَةُ بِالرَّجْعَةِ فَحَقُّ الرَّجْعَةِ يُوجِبُ
اسْتِبْدَادَ الزَّوْجِ بِالرَّجْعَةِ (وَاسْتِبْدَادُهُ بِذَلِكَ يُؤْذِنُ
بِكَوْنِهِ اسْتِدَامَةً لَا إنْشَاءً)
(4/175)
إذْ الدَّلِيلُ يُنَافِيهِ وَالْقَاطِعُ
أَخَّرَ عِلْمَهُ إلَى مُدَّةٍ إجْمَاعًا أَوْ نَظَرًا لَهُ عَلَى مَا
تَقَدَّمَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا دُونَ الثَّلَاثِ فَلَهُ أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَ انْقِضَائِهَا) لِأَنَّ حِلَّ
الْمَحَلِّيَّةِ بَاقٍ لِأَنَّ زَوَالَهُ مُعَلَّقٌ بِالطَّلْقَةِ
الثَّالِثَةِ فَيَنْعَدِمُ قَبْلَهُ، وَمَنْعُ الْغَيْرِ فِي الْعِدَّةِ
لِاشْتِبَاهِ النَّسَبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
إذْ الدَّلِيلُ الدَّالُّ عَلَى الِاسْتِبْدَادِ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ
الْقِيَاسِ يُنَافِي أَنْ تَكُونَ الرَّجْعَةُ إنْشَاءً لِأَنَّ الزَّوْجَ
لَا يَسْتَبِدُّ بِهِ وَالِاسْتِدَامَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا فِي
الْقَائِمِ وَكَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ قَائِمَةً. وَقَوْلُهُ (وَالْقَاطِعُ)
جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ لِوُجُودِ الْقَاطِعِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ وُجُودَ
الْقَاطِعِ لَا يُنَافِي قِيَامَ الزَّوْجِيَّةِ لِأَنَّهُ أَخَّرَ
عَمَلَهُ إلَى مُدَّةٍ إجْمَاعًا أَوْ نَظَرًا لَهُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ:
يَعْنِي قَوْلَهُ يَثْبُتُ لِلزَّوْجِ نَظَرًا لَهُ فَكَانَ كَالْبَيْعِ
الَّذِي فِيهِ الْخِيَارُ تَأَخَّرَ عَمَلُ الْبَيْعِ فِي اللُّزُومِ إلَى
مُدَّةٍ نَظَرًا لِمَنْ لَهُ الْخِيَارُ.
[فَصْلٌ فِيمَا تَحِلُّ بِهِ الْمُطَلَّقَةُ]
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا يُتَدَارَكُ بِهِ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ
ذَكَرَ مَا يُتَدَارَكُ بِهِ غَيْرُهُ مِنْ الطَّلْقَاتِ فِي فَصْلٍ عَلَى
حِدَةٍ (وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا دُونَ الثَّلَاثِ فَلَهُ أَنْ
يَتَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَ انْقِضَائِهَا لِأَنَّ حِلَّ
الْمَحَلِّيَّةِ) وَهُوَ كَوْنُهَا آدَمِيَّةً لَيْسَتْ مِنْ
الْمُحَرَّمَاتِ (بَاقٍ لِأَنَّ زَوَالَهُ مُعَلَّقٌ بِالطَّلْقَةِ
الثَّالِثَةِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ}
[البقرة: 230] عَلَى مَا نَذْكُرُهُ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ
قَبْلَهُ. وَرُدَّ بِأَنَّ الشَّرْطَ يُوجِبُ الْوُجُودَ عِنْدَ الْوُجُودِ
دُونَ الْعَدَمِ عِنْدَ الْعَدَمِ عِنْدَنَا.
وَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَعْدُومٌ بِعَدَمِهِ الْأَصْلِيِّ إذْ الْعِلَّةُ
لَمْ تَصِرْ عِلَّةً بَعْدُ، وَإِذَا كَانَ حِلُّ الْمَحَلِّ بَاقِيًا
جَازَ نِكَاحُهَا فِي الْعِدَّةِ وَبَعْدَ انْقِضَائِهَا. فَإِنْ قِيلَ:
هَذَا تَعْلِيلٌ فِي مُقَابَلَةِ النَّصِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا
تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}
[البقرة: 235] نَهَى
(4/176)
وَلَا اشْتِبَاهَ فِي إطْلَاقِهِ
(وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا فِي الْحُرَّةِ أَوْ ثِنْتَيْنِ فِي
الْأَمَةِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ نِكَاحًا
صَحِيحًا وَيَدْخُلَ بِهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا أَوْ يَمُوتَ عَنْهَا)
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ
مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
عَنْ الْعَزْمِ عَلَى نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ مُطْلَقًا، وَالتَّعْلِيلُ
فِي مُقَابَلَتِهِ بَاطِلٌ.
أَجَابَ بِقَوْلِهِ وَمَنْعُ الْغَيْرِ فِي الْعِدَّةِ لِاشْتِبَاهِ
النَّسَبِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ مَنْعُ الْغَيْرِ عَنْ
الْعَزْمِ عَلَى نِكَاحِ الْمُعْتَدَّةِ لِأَنَّ الْمَانِعَ اشْتِبَاهُ
النَّسَبِ وَلَا اشْتِبَاهَ فِي إطْلَاقِهِ: أَيْ فِي تَجْوِيزِ نِكَاحِ
مُعْتَدَّتِهِ، إذْ الِاشْتِبَاهُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ اخْتِلَافِ
الْمِيَاهِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي مُعْتَدَّةِ الْغَيْرِ.
وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِالصَّغِيرَةِ وَالْآيِسَةِ وَعِدَّةِ الْوَفَاةِ
قَبْلَ الدُّخُولِ وَمُعْتَدَّةِ الصَّبِيِّ وَالْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ
وَالثَّالِثَةِ فَإِنَّهُ لَا اشْتِبَاهَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ، وَلَا
يَجُوزُ التَّزَوُّجُ فِي الْعِدَّةِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ بَيَانُ
الْحِكْمَةِ وَحِكْمَةُ الْحُكْمِ تُرَاعَى فِي الْجِنْسِ لَا فِي كُلِّ
فَرْدٍ، لَا بَيَانُ الْعِلَّةِ لِوُجُودِ التَّخَلُّفِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ
الصُّوَرِ. وَأَقُولُ كَمَا ذَكَرْت: اشْتِبَاهُ النَّسَبِ مَانِعٌ عَنْ
جَوَازِ النِّكَاحِ فِي عِدَّةِ الْغَيْرِ وَهَذَا صَادِقٌ. وَأَمَّا
أَنَّهُ مُلْزَمٌ جَوَازُهُ إذَا عُدِمَ هَذَا الْمَانِعُ فَلَيْسَ
بِلَازِمٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ مَانِعٌ آخَرُ وَهُوَ جِهَةُ
التَّعَبُّدِ
(وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ ثَلَاثًا فِي الْحُرَّةِ أَوْ ثِنْتَيْنِ فِي
الْأَمَةِ لَمْ تَحِلَّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ نِكَاحًا صَحِيحًا وَيَدْخُلَ بِهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا أَوْ
يَمُوتَ عَنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ
مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَالْمُرَادُ
(4/177)
فَالْمُرَادُ الطَّلْقَةُ الثَّالِثَةُ،
وَالثِّنْتَانِ فِي حَقِّ الْأَمَةِ كَالثَّلَاثِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ،
لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ عَلَى مَا عُرِفَ
ثُمَّ الْغَايَةُ نِكَاحُ الزَّوْجِ مُطْلَقًا، وَالزَّوْجِيَّةُ
الْمُطْلَقَةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ، وَشَرْطُ الدُّخُولِ
ثَبَتَ بِإِشَارَةِ النَّصِّ وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ النِّكَاحُ عَلَى
الْوَطْءِ حَمْلًا لِلْكَلَامِ عَلَى الْإِفَادَةِ دُونَ الْإِعَادَةِ إذْ
الْعَقْدُ اُسْتُفِيدَ بِإِطْلَاقِ اسْمِ الزَّوْجِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة: 230] الطَّلْقَةُ
الثَّالِثَةَ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ (وَالثِّنْتَانِ فِي
الْأَمَةِ كَالثَّلَاثِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ
لِحِلِّ الْمَحَلِّيَّةِ) لِكَوْنِهِ نِعْمَةً وَالْعُقْدَةُ الْوَاحِدَةُ
لَا تَتَجَزَّأُ فَكَمُلَتْ عَلَى مَا عُرِفَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ أَنْ
يَكُونَ النِّكَاحُ صَحِيحًا لِأَنَّ الْغَايَةَ نِكَاحُ زَوْجٍ آخَرَ
مُطْلَقًا حَيْثُ لَمْ يُقَيَّدْ بِصِحَّةٍ وَلَا فَسَادٍ، وَالْمُطْلَقُ
يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ عَلَى مَا عُرِفَ فِي الْأُصُولِ
(وَالزَّوْجِيَّةُ الْمُطْلَقَةُ) أَيْ الْكَامِلَةُ (إنَّمَا تَثْبُتُ
بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ) وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ الدُّخُولُ بِهَا إمَّا
بِإِشَارَةِ الْكِتَابِ
(4/178)
أَوْ يُزَادَ عَلَى النَّصِّ بِالْحَدِيثِ
الْمَشْهُورِ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا
تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَذُوقَ عُسَيْلَةَ الْآخَرِ» رُوِيَ
بِرِوَايَاتٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ طَرِيقَةُ بَعْضِ الْمَشَايِخِ
وَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ النِّكَاحُ فِي قَوْله تَعَالَى {حَتَّى تَنْكِحَ}
[البقرة: 230] عَلَى الْوَطْءِ حَمْلًا لِلْكَلَامِ عَلَى الْإِفَادَةِ
دُونَ الْإِعَادَةِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ اُسْتُفِيدَ بِإِطْلَاقِ اسْمِ
الزَّوْجِ فِي قَوْلِهِ {زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، فَلَوْ
حَمَلْنَا النِّكَاحَ عَلَى الْعَقْدِ كَانَ ذَلِكَ تَأْكِيدًا
وَالتَّأْسِيسُ أَوْلَى مِنْ التَّأْكِيدِ، وَأَمَّا بِالْحَدِيثِ
الْمَشْهُورِ وَهُوَ حَدِيثُ رِفَاعَةَ بْنِ وَهْبٍ الْقُرَظِيِّ «طَلَّقَ
امْرَأَتَهُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - وَهِيَ تَمِيمَةُ، وَقِيلَ عَائِشَةُ بِنْتُ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ عَتِيكٍ فَتَزَوَّجَتْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ
الزُّبَيْرِ الْقُرَظِيَّ ثُمَّ طَلَّقَهَا فَأَتَتْ النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ
رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، وَإِنِّي نَكَحْت بَعْدَهُ عَبْدَ
الرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ الْقُرَظِيَّ، وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ
الْهُدْبَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-: لَعَلَّك تُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ، لَا حَتَّى
تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك» وَقَدْ رُوِيَ بِرِوَايَاتٍ
مُخْتَلِفَةٍ فِي بَعْضِهَا بِلَفْظِ الْغَيْبَةِ كَمَا ذُكِرَ فِي
الْكِتَابِ، وَفِي بَعْضِهَا بِلَفْظِ الْخِطَابِ كَمَا رُوِيَتْ وَهُوَ
الْمَذْكُورُ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ يَجُوزُ
الزِّيَادَةُ بِهِ عَلَى الْكِتَابِ وَنُسَخِ إطْلَاقِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا
ذَلِكَ فِي التَّقْرِيرِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَتَمِّ
(4/179)
وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِيهِ سِوَى
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ. وَقَوْلُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ حَتَّى لَوْ
قَضَى بِهِ الْقَاضِي لَا يَنْفُذُ، وَالشَّرْطُ الْإِيلَاجُ دُونَ
الْإِنْزَالِ لِأَنَّهُ كَمَالٌ وَمُبَالَغَةٌ فِيهِ وَالْكَمَالُ قَيْدٌ
زَائِدٌ
(وَالصَّبِيُّ الْمُرَاهِقُ فِي التَّحْلِيلِ كَالْبَالِغِ) لِوُجُودِ
الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَهُوَ الشَّرْطُ بِالنَّصِّ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
فَلْيُطْلَبْ ثَمَّةَ (وَلَا خِلَافَ لِأَحَدٍ فِيهِ) أَيْ فِي اشْتِرَاطِ
الدُّخُولِ سِوَى سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ بِشْرٍ
الْمَرِيسِيِّ.
وَقَوْلُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ) لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ
الْمَشْهُورِ وَلِهَذَا (إذَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ) أَيْ بِقَوْلِ سَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيِّبِ (لَا يَنْفُذُ، وَالشَّرْطُ الْإِيلَاجُ دُونَ
الْإِنْزَالِ؛ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ كَمَالٌ وَمُبَالَغَةٌ فِيهِ) أَيْ فِي
الدُّخُولِ، وَالْكَمَالُ قَيْدٌ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَا
دَلِيلَ عَلَيْهِ، بَلْ الدَّلِيلُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِهِ لِأَنَّهُ
ذَكَرَ الْعُسَيْلَةَ وَهِيَ تَصْغِيرُ الْعَسِيلَةِ وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنْ
إصَابَةِ حَلَاوَةِ
(4/180)
وَمَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
يُخَالِفُنَا فِيهِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا بَيَّنَّاهُ. وَفَسَّرَهُ
فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَقَالَ: غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ وَمِثْلُهُ
يُجَامِعُ جَامَعَ امْرَأَتَهُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ وَأَحَلَّهَا
عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنْ تَتَحَرَّك
آلَتُهُ وَيَشْتَهِي، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَيْهَا لِالْتِقَاءِ
الْخِتَانَيْنِ وَهُوَ سَبَبٌ لِنُزُولِ مَائِهَا وَالْحَاجَةِ إلَى
الْإِيجَابِ فِي حَقِّهَا، أَمَّا لَا غُسْلَ عَلَى الصَّبِيِّ وَإِنْ
كَانَ يُؤْمَرُ بِهِ تَخَلُّقًا قَالَ (وَوَطْءُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ لَا
يُحِلُّهَا) لِأَنَّ الْغَايَةَ نِكَاحُ الزَّوْجِ
(وَإِذَا تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ التَّحْلِيلِ فَالنِّكَاحُ مَكْرُوهٌ)
لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَعَنَ اللَّهُ
الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
الْجِمَاعِ وَهِيَ تَحْصُلُ بِالْإِيلَاجِ، وَكَانَ التَّصْغِيرُ دَالًّا
عَلَى عَدَمِ الشِّبَعِ بِالْإِنْزَالِ.
[الصَّبِيُّ الْمُرَاهِقُ فِي التَّحْلِيلِ]
(وَمَالِكٌ يُخَالِفُنَا فِيهِ) أَيْ فِي اشْتِرَاطِ الْإِيلَاجِ دُونَ
الْإِنْزَالِ، وَيَشْتَرِطُ الْإِنْزَالَ وَهُوَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ
الْبَالِغِ فَلَا يَكُونُ الصَّبِيُّ الْمُرَاهِقُ كَالْبَالِغِ فِي
إفَادَةِ التَّحْلِيلِ (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا بَيَّنَّاهُ) أَنَّ
الْإِنْزَالَ كَمَالٌ وَمُبَالَغَةٌ فِيهِ وَهُوَ قَيْدٌ لَا دَلِيلَ
عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ (فَسَّرَهُ) أَيْ الْمُرَاهِقُ (فِي الْجَامِعِ
الصَّغِيرِ وَقَالَ: غُلَامٌ لَمْ يَبْلُغْ إلَخْ) وَهُوَ ظَاهِرٌ. قَالَ
(وَوَطْءُ الْمَوْلَى أَمَتَهُ لَا يُحِلُّهَا) إذَا طَلَّقَ امْرَأَةً
ثِنْتَيْنِ وَهِيَ أَمَةُ الْغَيْرِ فَوَطِئَهَا الْمَوْلَى بَعْدَ
انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَمْ تَحِلَّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ غَايَةَ
الْحُرْمَةِ نِكَاحُ الزَّوْجِ وَالْمَوْلَى لَا يُسَمَّى زَوْجًا. قَالَ
فِي شَرْحِ الْأَقْطَعِ: رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ
وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَرَخَّصَ فِي ذَلِكَ عُثْمَانُ
وَزَيْدٌ وَقَالَا: هُوَ زَوْجٌ، فَقَامَ عَلِيٌّ مُغْضَبًا كَارِهًا لِمَا
قَالَا وَقَالَ: لَيْسَ بِزَوْجٍ.
(وَلَوْ تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ التَّحْلِيلِ) بِأَنْ قَالَ تَزَوَّجْتُك
عَلَى أَنْ أُحِلَّك أَوْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ (فَالنِّكَاحُ
مَكْرُوهٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَعَنَ
اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» ) فَإِنَّ مَحْمَلَهُ
اشْتِرَاطُ التَّحْلِيلِ فِي الْعَقْدِ كَمَا ذَكَرْنَا، إذْ لَوْ أَضْمَرَ
ذَلِكَ فِي قَلْبِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ اللَّعْنَ. وَقِيلَ مَعْنَى
(4/181)
وَهَذَا هُوَ مَحْمَلُهُ (فَإِنْ
طَلَّقَهَا بَعْدَمَا وَطِئَهَا حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ) لِوُجُودِ الدُّخُولِ
فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ إذْ النِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ وَعَنْ أَبِي
يُوسُفَ أَنَّهُ يُفْسِدُ النِّكَاحَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُؤَقَّتِ
فِيهِ وَلَا يُحِلُّهَا عَلَى الْأَوَّلِ لِفَسَادِهِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ
أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ لِمَا بَيَّنَّا، وَلَا يُحِلُّهَا عَلَى
الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ الشَّرْعُ فَيُجَازَى
بِمَنْعِ مَقْصُودِهِ كَمَا فِي قَتْلِ الْمُوَرِّثِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
قَوْلِهِ هُوَ مَحْمَلُهُ الْكَرَاهَةُ مَحْمَلُ الْحَدِيثِ لِإِفْسَادِهِ
(فَإِنْ طَلَّقَهَا) يَعْنِي الَّذِي شَرَطَ التَّحْلِيلَ (بَعْدَمَا
وَطِئَهَا حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ لِوُجُودِ الدُّخُولِ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ،
إذْ النِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ
يُفْسِدُ النِّكَاحَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمُوَقَّتِ) كَأَنَّهُ قَالَ
تَزَوَّجْتُك إلَى وَقْتِ كَذَا (وَلَا يُحِلُّهَا عَلَى الزَّوْجِ
الْأَوَّلِ لِفَسَادِهِ) فَإِنَّ مِنْ شُرُوطِ التَّحْلِيلِ صِحَّةَ
النِّكَاحِ كَمَا تَقَدَّمَ (وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ
لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ
(وَلَا يُحِلُّهَا عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ اسْتَعْجَلَ مَا أَخَّرَهُ
الشَّرْعُ) لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ الْعُمُرِ فَيَقْتَضِي الْحِلَّ
عَلَى الْأَوَّلِ بَعْدَ مَوْتِ الثَّانِي، فَبِشَرْطِ التَّحْلِيلِ
يَصِيرُ مُسْتَعْجِلًا لِلْحِلِّ (فَيُجَازَى بِمَنْعِ مَقْصُودِهِ كَمَا
فِي قَتْلِ الْمُورَثِ) وَذُكِرَ فِي رَوْضَةِ الزَّنْدَوَسْتِيِّ أَنَّ
أَبَا حَنِيفَةَ
(4/182)
(وَإِذَا طَلَّقَ الْحُرَّةَ تَطْلِيقَةً
أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ
ثُمَّ عَادَتْ إلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ عَادَتْ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ
وَيَهْدِمُ الزَّوْجُ الثَّانِي مَا دُونَ الثَّلَاثِ كَمَا يَهْدِمُ
الثَّلَاثَ. وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يَهْدِمُ مَا دُونَ
الثَّلَاثِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
قَالَ: النِّكَاحُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ جَائِزٌ حَتَّى إذَا لَمْ
يُطَلِّقْهَا الثَّانِي بَعْدَ وَطْئِهِ إيَّاهَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي
عَلَى ذَلِكَ، وَتَحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ إذَا طَلَّقَهَا الثَّانِي
بِرَأْيِهِ أَوْ بِأَمْرِ الْقَاضِي إيَّاهُ. قَالَ الْإِمَامُ ظَهِيرُ
الدِّينِ: هَذَا الْبَيَانُ لَمْ يُوجَدْ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْكُتُبِ.
(وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ تَطْلِيقَةً أَوْ تَطْلِيقَتَيْنِ
وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ ثُمَّ عَادَتْ إلَى
الزَّوْجِ الْأَوَّلِ عَادَتْ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ، وَيَهْدِمُ
الزَّوْجُ الثَّانِي) التَّطْلِيقَةَ وَالتَّطْلِيقَتَيْنِ كَمَا يَهْدِمُ
الثَّلَاثَ يَعْنِي أَنَّهُ يَجْعَلُ ذَلِكَ الْبَاقِيَ مِنْ الْمِلْكِ
الْأَوَّلِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا تَحْرُمُ الْحُرْمَةَ الْغَلِيظَةَ
إلَّا إذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا جَمْعًا أَوْ فُرَادَى (عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ) وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ
عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ (وَقَالَ مُحَمَّدٌ) وَزُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ
(لَا يَهْدِمُ) وَيَبْقَى الزَّوْجُ مَالِكًا بِمَا بَقِيَ مِنْ
الْأَوَّلِ، وَتَحْرُمُ الْحُرْمَةُ الْغَلِيظَةُ إذَا انْتَهَى ذَلِكَ،
وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَعِمْرَانَ بْنِ
حُصَيْنٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ
(4/183)
لِأَنَّهُ غَايَةٌ لِلْحُرْمَةِ بِالنَّصِّ
فَيَكُونُ مَنْهِيًّا، وَلَا إنْهَاءَ لِلْحُرْمَةِ قَبْلَ الثُّبُوتِ.
وَلَهُمَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَعَنَ اللَّهُ
الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
فَأَخَذَ الشُّبَّانُ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِقَوْلِ الْمَشَايِخِ مِنْ
الصَّحَابَةِ، وَالْمَشَايِخُ مِنْ الْفُقَهَاءِ بِقَوْلِ الشُّبَّانِ مِنْ
الصَّحَابَةِ. اسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ بِأَنَّ الزَّوْجَ الثَّانِيَ غَايَةٌ
لِلْحُرْمَةِ بِالنَّصِّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا
تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]
عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَكُلُّ مَا كَانَ غَايَةً لِلْحُرْمَةِ فَهُوَ
مِنْهُ لَهَا؛ لِأَنَّ الْمُغَيَّا يَنْتَهِي بِالْغَايَةِ فَيَكُونُ
الزَّوْجُ الثَّانِي مَنْهِيًّا لِلْحُرْمَةِ، وَلَا انْتِهَاءَ
لِلْحُرْمَةِ قَبْلَ ثُبُوتِهَا، وَلَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ قَبْلَ وُقُوعِ
الثَّلَاثِ (وَلَهُمَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
«لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» ) وَوَجْهُ
الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ أَهْلَ الْحَدِيثِ أَوْرَدُوهُ فِي بَابِ مَا جَاءَ
فِي الزَّوْجِ الثَّانِي، وَكَانَ الْمُرَادُ بِالْمُحَلِّلِ
(4/184)
سَمَّاهُ مُحَلِّلًا وَهُوَ الْمُثَبِّتُ
لِلْحِلِّ
(وَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَقَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي
وَتَزَوَّجْت وَدَخَلَ بِي الزَّوْجُ وَطَلَّقَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي
وَالْمُدَّةُ تَحْتَمِلُ ذَلِكَ جَازَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُصَدِّقَهَا إذَا
كَانَ فِي غَالِبِ ظَنِّهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
الزَّوْجَ الثَّانِيَ (سَمَّاهُ مُحَلِّلًا وَهُوَ الْمُثْبِتُ لِلْحِلِّ)
ثُمَّ الْحِلُّ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ الْحِلَّ
السَّابِقَ، أَوْ حِلًّا جَدِيدًا لَا سَبِيلَ إلَى الْأَوَّلِ
لِاسْتِلْزَامِهِ تَحْصِيلَ الْحَاصِلِ فَتَعَيَّنَ الثَّانِي،
وَبِالضَّرُورَةِ يَكُونُ غَيْرَ الْأَوَّلِ، وَالْأَوَّلُ حِلٌّ نَاقِصٌ
وَكَانَ الْجَدِيدُ كَامِلًا، وَهُوَ مَا يَكُونُ بِالطَّلْقَاتِ
الثَّلَاثِ، فَإِنْ قِيلَ: سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُحَلِّلَ هُوَ الْمُثْبِتُ
لِلْحِلِّ وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حِلًّا جَدِيدًا لَكِنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ
يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا
ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ مَحْمَلَهُ هُوَ شَرْطُ التَّحْلِيلِ وَذَلِكَ
لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا. وَالثَّانِي أَنَّ
الْحِلَّ قَبْلَ ذَلِكَ ثَابِتٌ فَيُصْرَفُ إلَى مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ
عَمَلًا بِالْحَقِيقَةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا لِقَوْلِهِ
وَهُوَ مَحْمَلُهُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدَهُمَا مَا ذَكَرْت وَلَيْسَ
بِمَرْضِيٍّ. وَالثَّانِيَ أَنَّ مَحْمَلَهُ الْكَرَاهَةُ لَا الْفَسَادُ،
وَحِينَئِذٍ يَنْدَفِعُ الْأَمْرُ الْأَوَّلُ، فَإِنَّ الْحِلَّ وَإِنْ
كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ ثَابِتٌ لَكِنَّ إطْلَاقَ الْمُحَلِّلِ يَقْتَضِي أَنْ
يَكُونَ الزَّوْجُ الثَّانِي عَلَى الْإِطْلَاقِ مُحَلِّلًا، فَصَرْفُهُ
إلَى بَعْضِ الصُّوَرِ تَقْيِيدٌ بِلَا دَلِيلٍ، وَالثَّابِتُ بِهِ غَيْرُ
الثَّابِتِ قَبْلَهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فَكَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ
ثَلَاثًا وَغَيْرَهَا سَوَاءً وَبِهِ يَنْدَفِعُ الْأَمْرُ الثَّانِي.
(وَإِذَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَقَالَتْ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي)
(4/185)
لِأَنَّهُ مُعَامَلَةٌ أَوْ أَمْرٌ
دِينِيٌّ لِتَعَلُّقِ الْحِلِّ بِهِ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِمَا
مَقْبُولٌ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ إذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ
تَحْتَمِلُهُ. وَاخْتَلَفُوا فِي أَدْنَى هَذِهِ الْمُدَّةِ
وَسَنُبَيِّنُهَا فِي بَابِ الْعِدَّةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ وَاخْتَلَفُوا فِي أَدْنَى هَذِهِ الْمُدَّةِ) قَالَ أَبُو
حَنِيفَةَ: لَا تَصْدُقُ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا. وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: تَصْدُقُ فِي تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا،
وَتَخْرِيجُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي آخِرِ
جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الطُّهْرِ، وَحَيْضُهَا أَقَلُّ الْحَيْضِ
ثَلَاثَةٌ، وَطُهْرُهَا أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا،
فَالثَّلَاثَةُ إذَا كَانَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ كَانَتْ تِسْعَةً
وَالطُّهْرَانِ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، فَلِذَلِكَ صَدَقَتْ فِي تِسْعَةٍ
وَثَلَاثِينَ يَوْمًا لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ أَخْبَرَتْ بِمَا هُوَ
مُحْتَمَلٌ فَوَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهَا.
وَأَمَّا تَخْرِيجُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ
طَلَّقَهَا فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ تَحَرُّزًا عَنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ فِي
الطُّهْرِ بَعْدَ الْجِمَاعِ، وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا
لِأَنَّهُ لَا غَايَةَ لِأَكْثَرِ الطُّهْرِ فَقَدَّرْنَاهُ بِأَقَلِّهِ،
وَحَيْضُهَا خَمْسَةٌ لِأَنَّ مِنْ النَّادِرِ أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا
أَقَلَّ الْحَيْضِ، أَوْ يَمْتَدَّ إلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ فَيُعْتَبَرُ
الْوَسَطُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ خَمْسَةٌ فَثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ كُلُّ
طُهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ، وَثَلَاثُ
حِيَضٍ كُلُّ حَيْضٍ خَمْسَةٌ يَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَذَلِكَ
سِتُّونَ يَوْمًا، وَهَذَا عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ.
وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ
طَلَّقَهَا فِي آخِرِ الطُّهْرِ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ تَطْوِيلِ
الْعِدَّةِ وَاجِبٌ، وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي آخِرِ الطُّهْرِ أَقْرَبُ
إلَى التَّحَرُّزِ عَنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ ثُمَّ حَيْضُهَا عَشَرَةٌ،
لِأَنَّا لَمَّا قَدَّرْنَا طُهْرَهَا بِأَقَلِّ الْمُدَّةِ نَظَرًا لَهَا
يُقَدَّرُ حَيْضُهَا بِأَكْثَرِ الْمُدَّةِ نَظَرًا لِلزَّوْجِ، وَثَلَاثُ
حِيَضٍ كُلُّ حَيْضَةٍ عَشَرَةٌ ثَلَاثُونَ، وَطُهْرَانِ كُلُّ طُهْرٍ
خَمْسَةَ عَشَرَ فَذَلِكَ سِتُّونَ يَوْمًا.
وَقَوْلُهُ وَسَنُبَيِّنُهَا فِي بَابِ الْعِدَّةِ) قَالَ فِي
النِّهَايَةِ:
(4/186)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَوَالَةُ حَوَالَةً غَيْرَ رَابِحَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ
يَذْكُرْهَا فِي بَابِ الْعِدَّةِ وَلَا فِي غَيْرِهِ. وَرُدَّ مِنْ حَيْثُ
اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى، أَمَّا اللَّفْظُ فَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا يُسَمَّى
وَعْدًا لَا حَوَالَةً، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ وَعْدٌ غَيْرُ
مُنَجَّزٍ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ فِي بَابِ
الْعِدَّةِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَعْدُهُ
مُنَجَّزًا فِي بَابِ الْعِدَّةِ مِنْ كِتَابٍ آخَرَ. وَأَقُولُ:
الْأَوَّلُ ظَاهِرٌ، وَالثَّانِي خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ |