العناية شرح الهداية

 (بَابُ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَا) (وَإِذَا فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً عَنْوَةً) أَيْ قَهْرًا (فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَسَّمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ) كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْبَرَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
[بَابُ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَا]
أَخَّرَ بَابَ الْغَنَائِمِ وَحُكْمَهَا عَنْ فَصْلِ الْأَمَانِ لِأَنَّ الْإِمَامَ بَعْدَ الْمُحَاصَرَةِ إمَّا أَنْ يُؤَمِّنَهُمْ أَوْ يَقْتُلَهُمْ وَيَسْتَغْنِمَ أَمْوَالَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ الْأَمَانِ ذَكَرَ الْغَنَائِمَ وَقِسْمَتَهَا. وَالْغَنِيمَةُ مَا نِيلَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ عَنْوَةً وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ. وَحُكْمُهَا أَنْ تُخَمَّسَ وَالْبَاقِي بَعْدَ الْخُمُسِ لِلْغَانِمِينَ خَاصَّةً (وَإِذَا فَتَحَ الْإِمَامُ بَلْدَةً عَنْوَةً أَيْ قَهْرًا) قَالَ فِي النِّهَايَةِ: قَوْلُهُ قَهْرًا لَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لَهُ لُغَةً لِأَنَّ عَنَا عُنُوًّا بِمَعْنَى ذَلَّ وَخَضَعَ وَهُوَ لَازِمٌ وَقَهَرَ مُتَعَدٍّ، بَلْ يَكُونُ هُوَ تَفْسِيرُهُ مِنْ طَرِيقِ شُعُورِ الذِّهْنِ لِأَنَّ مِنْ الذِّلَّةِ يَلْزَمُ الْقَهْرُ أَوْ أَنَّ الْفَتْحَ بِالذِّلَّةِ يَسْتَلْزِمُ الْقَهْرَ (فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَسَمَهُ) أَيْ قَسَمَ الْبَلْدَةَ بِتَأْوِيلِ الْبَلَدِ (بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخَيْبَرَ،

(5/469)


(وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّ أَهْلَهُ عَلَيْهِ وَوَضَعَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أَرَاضِيهمْ الْخَرَاجَ) كَذَلِكَ فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِسَوَادِ الْعِرَاقِ بِمُوَافَقَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُحْمَدْ مَنْ خَالَفَهُ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَإِنْ شَاءَ أَقَرَّ أَهْلَهُ عَلَيْهِ وَوَضَعَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ وَعَلَى أَرَاضِيهِمْ الْخَرَاجَ، كَذَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِسَوَادِ الْعِرَاقِ بِمُوَافَقَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ) فَإِنْ قِيلَ: قَدْ خَالَفَهُ فِي ذَلِكَ جَمَاعَةٌ، أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَلَمْ يَحْمَدْ مَنْ خَالَفَهُ) يُرِيدُ بِهِ نَفَرًا يَسِيرًا مِنْهُمْ بِلَالٌ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ فَمَا حَالَ الْحَوْلُ وَفِيهِمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ: أَيْ مَاتُوا

(5/470)


وَفِي كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ قُدْوَةٌ فَيَتَخَيَّرُ.
وَقِيلَ الْأَوْلَى هُوَ الْأَوَّلُ عِنْدَ حَاجَةِ الْغَانِمِينَ، وَالثَّانِي عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ لِيَكُونَ عِدَّةً فِي الزَّمَانِ الثَّانِي، وَهَذَا فِي الْعَقَارِ. أَمَّا فِي الْمَنْقُولِ الْمُجَرَّدِ لَا يَجُوزُ الْمَنُّ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ الشَّرْعُ فِيهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
جَمِيعًا (وَفِي كُلٍّ مِنْ ذَلِكَ قُدْوَةٌ فَيَتَخَيَّرُ) وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ وَاحِدًا مِنْ الصَّحَابَةِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ يَصِيرُ قُدْوَةً عَلَى خِلَافِ مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذْ لَمْ يَصِلْ إلَى حَدِّ الْإِجْمَاعِ. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ فِعْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى أَيِّ جِهَةٍ فَعَلَهُ يُحْمَلُ عَلَى أَدْنَى مَنَازِلِ أَفْعَالِهِ وَهُوَ الْإِبَاحَةُ وَحِينَئِذٍ لَا يَسْتَوْجِبُ الْعَمَلَ لَا مَحَالَةَ، فَإِذَا ظَهَرَ دَلِيلُ الصَّحَابِيِّ جَازَ أَنْ يَعْمَلَ بِخِلَافِهِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَعَلَ ذَلِكَ وُجُوبًا، فَإِنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَعَلَ مَا فَعَلَ مُسْتَنْبِطًا مِنْ قَوْله تَعَالَى {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] بَعْدَ قَوْله تَعَالَى {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] فَيَكُونُ ثَابِتًا بِإِشَارَةِ النَّصِّ وَهِيَ تُفِيدُ الْقَطْعَ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ أَحَدَهُمَا يَتَعَيَّنُ بِفِعْلِ الْإِمَامِ كَالْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ كَمَا فِي خِصَالِ الْكَفَّارَةِ، فَفَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدَهُمَا وَعُمَرُ الْآخَرَ (وَقِيلَ) فِي التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ (الْأَوْلَى هُوَ الْأَوَّلُ عِنْدَ حَاجَةِ الْغَانِمِينَ) كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ (وَالثَّانِي عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ) كَمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (لِيَكُونَ عُدَّةً فِي الزَّمَانِ الثَّانِي، وَهَذَا) أَيْ إقْرَارُ أَهْلِ بَلَدٍ عَلَى بَلَدِهِمْ بِالْمَنِّ عَلَيْهِمْ (فِي الْعَقَارِ، أَمَّا فِي الْمَنْقُولِ الْمُجَرَّدِ فَلَا يَجُوزُ الْمَنُّ بِالرَّدِّ) بِأَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِمْ مَجَّانًا وَيُنْعِمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْمَنْقُولَ بِالْمُجَرَّدِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ بِالْمَنْقُولِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِلْعَقَارِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَ هَذَا وَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالرِّقَابِ وَالْأَرَاضِي يَدْفَعُ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ بِقَدْرِ مَا يَتَهَيَّأُ لَهُمْ الْعَمَلُ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهِ) أَيْ بِالْمَنِّ (الشَّرْعُ فِيهِ) أَيْ فِي الْمَنْقُولِ الْمُجَرَّدِ

(5/471)


وَفِي الْعَقَارِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ فِي الْمَنِّ إبْطَالَ حَقِّ الْغَانِمِينَ أَوْ مِلْكِهِمْ فَلَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ يُعَادِلُهُ، وَالْخَرَاجُ غَيْرُ مُعَادَلٍ لِقَتْلِهِ، بِخِلَافِ الرِّقَابِ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُمْ رَأْسًا بِالْقَتْلِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَاهُ، وَلِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا؛ لِأَنَّهُمْ كَالْأُكْرَةِ الْعَامِلَةِ لِلْمُسْلِمِينَ الْعَالِمَةِ بِوُجُوهِ الزِّرَاعَةِ وَالْمُؤَنِ مُرْتَفِعَةٌ مَعَ مَا أَنَّهُ يَحْظَى بِهِ الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدُ، وَالْخَرَاجُ وَإِنْ قَلَّ حَالًا فَقَدْ جَلَّ مَآلًا لِدَوَامِهِ، وَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِالرِّقَابِ وَالْأَرَاضِيِ يَدْفَعُ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ بِقَدْرِ مَا يَتَهَيَّأُ لَهُمْ الْعَمَلُ لِيَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْكَرَاهَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَفِي الْعَقَارِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ) فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمَنُّ فِيهِ. قَالَ (لِأَنَّ فِي الْمَنِّ إبْطَالَ حَقِّ الْغَانِمِينَ) عِنْدَكُمْ لِأَنَّ حَقَّهُمْ قَدْ ثَبَتَ وَتَأَكَّدَ بِالْإِحْرَازِ فَقَدْ صَارَ مُحْرَزًا بِفَتْحِ الْبَلْدَةِ وَإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ (أَوْ مَلَكَهُمْ) يَعْنِي عِنْدِي، فَإِنَّ الْمِلْكَ قَدْ ثَبَتَ لَهُمْ بِنَفْسِ الْإِحْرَازِ (فَلَا يَجُوزُ) يَعْنِي إبْطَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَقِّ وَالْمِلْكِ (مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ يُعَادِلُهُ) فَإِنْ قِيلَ: الْخَرَاجُ يُعَادِلُهُ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالْخَرَاجُ غَيْرُ مُعَادِلٍ لِقَتْلِهِ) فَإِنْ قِيلَ: فَالْحَقُّ أَوْ الْمِلْكُ ثَبَتَ فِي رِقَابِهِمْ أَيْضًا وَجَازَ لَهُ أَنْ لَا يَقْسِمَهَا. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (بِخِلَافِ الرِّقَابِ) يَعْنِي أَنَّ حَقَّهُمْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا (وَلِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّهُمْ رَأْسًا بِالْقَتْلِ) فَكَذَا لَهُ أَنْ يُبْطِلَهُ بِالْخَلْفِ وَهُوَ الْجِزْيَةُ، وَهَذَا لِأَنَّهَا خُلِقَتْ فِي الْأَصْلِ أَحْرَارًا وَالْمِلْكُ ثَبَتَ بِعَارِضٍ، فَالْإِمَامُ إذَا اسْتَرَقَّهُمْ فَقَدْ بَدَّلَ حُكْمَ الْأَصْلِ، فَإِذَا جَعَلَهُمْ أَحْرَارًا فَقَدْ بَقِيَ حُكْمُ الْأَصْلِ فَكَانَ جَائِزًا (وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا) يَعْنِي مِنْ فِعْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا) يَعْنِي أَنَّ تَصَرُّفَ الْإِمَامِ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ فِي إقْرَارِ أَهْلِهَا عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَوْ قَسَمَهَا بَيْنَهُمْ اشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَقَعَدُوا عَنْ الْجِهَادِ فَكَانَ يَكُرُّ عَلَيْهِمْ الْعَدُوُّ، وَرُبَّمَا لَا يَهْتَدُونَ لِذَلِكَ الْعَمَلِ أَيْضًا، فَإِذَا تَرَكَهَا فِي أَيْدِيهِمْ وَهُمْ عَارِفُونَ بِالْعَمَلِ صَارُوا (كَالْأُكْرَةِ) أَيْ الْمُزَارِعِينَ (الْعَامِلَةِ لِلْمُسْلِمِينَ الْعَالِمَةِ بِوُجُوهِ الزِّرَاعَةِ وَالْمُؤَنُ مُرْتَفِعَةٌ مَعَ مَا أَنَّهُ يَحْظَى بِهِ الَّذِينَ يَأْتُونَ مِنْ بَعْدُ) كَانَ فِيهِ نَظَرٌ لَا مَحَالَةَ فَيَكُونُ جَائِزًا. قَوْلُهُ (وَالْخَرَاجُ وَإِنْ قَلَّ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ وَالْخَرَاجُ غَيْرُ مُعَادِلٍ لِقَتْلِهِ وَتَقْرِيرِهِ الْخَرَاجَ وَإِنْ قَلَّ (حَالًا) لِكَوْنِهِ بَعْضَ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ فِي سَنَةٍ (فَقَدْ جَلَّ مَآلًا لِدَوَامِهِ) بِوُجُوبِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ. قَوْلُهُ (وَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ) ظَاهِرٌ.
وَقَوْلُهُ (لِيَخْرُجَ عَنْ حَدِّ الْكَرَاهَةِ) مَعْنَاهُ مَا قَالَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ، فَإِنْ مَنَّ عَلَيْهِمْ

(5/472)


قَالَ (وَهُوَ فِي الْأُسَارَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ) «لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ قَتَلَ» ، وَلِأَنَّ فِيهِ حَسْمَ مَادَّةِ الْفَسَادِ (وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ) لِأَنَّ فِيهَا دَفْعَ شَرِّهِمْ مَعَ وُفُورِ الْمَنْفَعَةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ (وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ) لِمَا بَيَّنَّاهُ (إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَالْمُرْتَدِّينَ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
بِرِقَابِهِمْ وَأَرَاضِيهِمْ وَقَسَمَ النِّسَاءَ وَالذُّرِّيَّةَ وَسَائِرَ الْأَمْوَالِ جَازَ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لِأَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِالْأَرَاضِيِ بِدُونِ الْمَالِ، وَلَا بَقَاءَ لَهُمْ بِدُونِ مَا يُمْكِنُ بِهِ تَرْجِيَةُ الْعُمُرِ إلَّا أَنْ يَدَعَ لَهُمْ مَا يُمْكِنُهُمْ بِهِ الْعَمَلُ فِي الْأَرَاضِي،
قَالَ (وَهُوَ فِي الْأَسَارَى بِالْخِيَارِ) الْإِمَامُ فِيمَا حَصَلَ تَحْتَ يَدِهِ مِنْ الْأَسَارَى مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ: إنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ «لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ قَتَلَ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ وَالنَّضْرَ بْنَ الْحَارِثِ بَعْدَمَا حَصَلَا فِي يَدِهِ، وَقَتَلَ بَنِي قُرَيْظَةَ بَعْدَ ثُبُوتِ الْيَدِ عَلَيْهِمْ» ، فَإِنْ أَسْلَمُوا سَقَطَ عَنْهُمْ الْقَتْلُ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ وَجَبَتْ لِلْبَقَاءِ عَلَى الْكُفْرِ، فَإِذَا زَالَ الْكُفْرُ سَقَطَ الْقَتْلُ (وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّهُمْ لِأَنَّ فِيهِ دَفْعَ شَرِّهِمْ مَعَ وُفُورِ الْمَنْفَعَةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ) فَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُمْ الرِّقُّ لِأَنَّ الرِّقَّ جَزَاءُ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ عَلَى مَا عُرِفَ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمُوا قَبْلَ الِاسْتِيلَاءِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ الْقَتْلُ وَالِاسْتِرْقَاقُ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ أَوْلَى النَّاسِ بِنَفْسِهِ قَبْلَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ وَالْأَخْذُ (وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ لِمَا بَيَّنَّا) مِنْ فِعْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. فَإِنْ قِيلَ {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] يُنَافِي تَرْكَ قَتْلِهِمْ فَلَا يَجُوزُ. أُجِيبَ بِأَنَّهُ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهِ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُسْتَأْمَنِ فَكَذَا فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بِفِعْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَوْلُهُ (إلَّا مُشْرِكِي الْعَرَبِ) اسْتِثْنَاءٌ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمْ أَحْرَارًا. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذِهِ الْأَدِلَّةُ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، وَالْأَدِلَّةُ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا لِأَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّ فِيهِ حَسْمَ مَادَّةِ الْقِتَالِ وَذَلِكَ وَاجِبٌ لَا مَحَالَةَ، ثُمَّ قَالَ: لِأَنَّ فِيهِ دَفْعَ شَرِّهِمْ مَعَ وُفُورِ الْمَنْفَعَةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ كَالْأَوَّلِ وَأَقْوَى. ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِمَا فَعَلَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِقَوْلِهِ لِمَا بَيَّنَّا، وَهُوَ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ مَا فَعَلَهُ وَاجِبًا وَإِلَّا لَزِمَ التَّخْيِيرُ بَيْنَ الْوَاجِبِ

(5/473)


عَلَى مَا نُبَيِّنُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ) لِأَنَّ فِيهِ تَقْوِيَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ أَسْلَمُوا لَا يَقْتُلُهُمْ لِانْدِفَاعِ الشَّرِّ بِدُونِهِ (وَلَهُ أَنْ يَسْتَرِقَّهُمْ) تَوْفِيرًا لِلْمَنْفَعَةِ بَعْدَ انْعِقَادِ سَبَبِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ إسْلَامِهِمْ قَبْلَ الْأَخْذِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ السَّبَبُ بَعْدُ (وَلَا يُفَادَى بِالْأُسَارَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا: يُفَادَى بِهِمْ أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ فِيهِ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَتْلِ الْكَافِرِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ. وَلَهُ أَنَّ فِيهِ مَعُونَةً لِلْكَفَرَةِ؛ لِأَنَّهُ يَعُودُ حَرْبًا عَلَيْنَا، وَدَفْعُ شَرِّ حَرْبِهِ خَيْرٌ مِنْ اسْتِنْقَاذِ الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَقِيَ فِي أَيْدِيهِمْ كَانَ ابْتِلَاءً فِي حَقِّهِ غَيْرَ مُضَافٍ إلَيْنَا، وَالْإِعَانَةُ بِدَفْعِ أَسِيرِهِمْ إلَيْهِمْ مُضَافٌ إلَيْنَا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَغَيْرِهِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَالْجَوَابُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمُورِ وَاجِبٌ وَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ بَيْنَهَا كَمَا فِي الْوَاجِبِ الْمُخَيَّرِ.
وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّهُمْ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَلَا يُفَادِي بِالْأَسَارَى) وَالْمُفَادَاةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، يُقَالُ فَادَاهُ إذَا أَطْلَقَهُ وَأَخَذَ فِدْيَتَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ وَلَا يُفَادِي بِالْأَسَارَى: أَيْ لَا يُعْطَى أَسَارَى الْكُفَّارِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ الْمَالُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ: يُفَادِي بِهِمْ أَسَارَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَجُوزُ الْفِدْيَةُ بِالْمَالِ. وَجَعَلَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ قَوْلَهُمَا أَظْهَرَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. وَوَجْهُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ أَنَّ فِيهِ تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ وَهُوَ أَوْلَى مِنْ قَتْلِ الْكَافِرِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ. وَقَوْلُهُ (وَلَهُ أَنَّ فِيهِ تَقْوِيَةً) فِي بَعْضِ النُّسَخِ مَعُونَةٌ ظَاهِرٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبْرُزَ هَذَا فِي مُبْرِزِ دَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِتَحَمُّلِ الضَّرَرِ الْخَاصِّ كَمَا مَرَّ فِي صُورَةِ الرَّمْيِ عِنْدَ التَّتَرُّسِ بِالْمُسْلِمِينَ.

(5/474)


أَمَّا الْمُفَادَاةُ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ الْمَذْهَبِ لِمَا بَيَّنَّا. وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ اسْتَدَلَّا بِأُسَارَى بَدْرٍ، وَلَوْ كَانَ أَسْلَمَ الْأَسِيرُ فِي أَيْدِينَا لَا يُفَادَى بِمُسْلِمٍ أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ لِأَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا إذَا طَابَتْ نَفْسُهُ بِهِ وَهُوَ مَأْمُونٌ عَلَى إسْلَامِهِ. قَالَ (وَلَا يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ) أَيْ عَلَى الْأُسَارَى خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ «مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَعْضِ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] » وَلِأَنَّهُ بِالْأَسْرِ وَالْقَسْرِ ثَبَتَ حَقُّ الِاسْتِرْقَاقِ فِيهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَأَمَّا الْمُفَادَاةُ بِأَخْذِ الْمَالِ مِنْهُمْ) فِي إطْلَاقِ أَسْرَاهُمْ (فَلَا تَجُوزُ فِي الْمَشْهُورِ مِنْ مَذْهَبِ أَصْحَابِنَا لِمَا بَيَّنَّا) أَنَّ فِيهِ تَقْوِيَةً أَوْ مَعُونَةً لِلْكَفَرَةِ بِعَوْدِهِمْ حَرْبًا عَلَيْنَا (وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ اسْتِدْلَالًا بِأُسَارَى بَدْرٍ) وَسَيَجِيءُ جَوَابُهُ. وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَيْهِمْ) الْمُرَادُ بِالْمَنِّ عَلَيْهِمْ هُوَ الْإِنْعَامُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَتْرُكَهُمْ مَجَّانًا مِنْ غَيْرِ اسْتِرْقَاقٍ وَلَا ذِمَّةٍ وَلَا قَتْلٍ (خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ يَقُولُ: «مَنَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بَعْضِ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ يَعْنِي أَبَا عَزَّةَ الْجُمَحِيَّ» (وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وَلِأَنَّهُ بِالْأَسْرِ وَالْقَسْرِ ثَبَتَ حَقُّ الِاسْتِرْقَاقِ فِيهِ) لِلْغَانِمِينَ.

(5/475)


فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِغَيْرِ مَنْفَعَةٍ وَعِوَضٍ، وَمَا رَوَاهُ مَنْسُوخٌ بِمَا تَلَوْنَا
(وَإِذَا أَرَادَ الْإِمَامُ الْعَوْدَ وَمَعَهُ مَوَاشٍ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى نَقْلِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ذَبَحَهَا وَحَرَقَهَا وَلَا يَعْقِرُهَا وَلَا يَتْرُكْهَا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتْرُكُهَا؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ ذَبْحِ الشَّاةِ إلَّا لِمَأْكَلَةٍ» .
وَلَنَا أَنَّ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ يَجُوزُ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِغَيْرِ مَنْفَعَةٍ وَعِوَضٍ) كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ الْمَغْنُومَةِ (وَمَا رَوَاهُ) مِنْ الْمَنِّ عَلَى أَبِي عَزَّةَ فَهُوَ (مَنْسُوخٌ بِمَا تَلَوْنَا) وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] وَكَذَلِكَ قِصَّةُ أُسَارَى بَدْرٍ، لِأَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ كَانَتْ آخِرَ مَا نَزَلَ، وَقَدْ تَضَمَّنَتْ وُجُوبَ الْقَتْلِ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] فَكَانَ نَاسِخًا لِمَا تَقَدَّمَ كُلِّهِ. وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ مَخْصُوصٌ خَصَّ مِنْهُ الذِّمِّيَّ وَالْمُسْتَأْمَنَ فَجَازَ أَنْ يَخُصَّ مِنْهُ الْأَسِيرَ قِيَاسًا عَلَيْهِمْ أَوْ بِحَدِيثِ أَبِي عَزَّةَ أَوْ غَيْرِهِمَا. وَالْجَوَابُ أَنَّ قِيَاسَ الْأَسِيرِ عَلَى الذِّمِّيِّ فَاسِدٌ لِوُجُودِ الذِّمَّةِ فِيهِ دُونَ

(5/476)


وَلَا غَرَضَ أَصَحُّ مِنْ كَسْرِ شَوْكَةِ الْأَعْدَاءِ، ثُمَّ يُحْرَقُ بِالنَّارِ لِيَنْقَطِعَ مَنْفَعَتُهُ عَنْ الْكُفَّارِ وَصَارَ كَتَخْرِيبِ الْبُنْيَانِ بِخِلَافِ التَّحْرِيقِ قَبْلَ الذَّبْحِ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَبِخِلَافِ الْعَقْرِ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ، وَتُحْرَقُ الْأَسْلِحَةُ أَيْضًا، وَمَا لَا يَحْتَرِقُ مِنْهَا يُدْفَنُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ الْكُفَّارُ إبْطَالًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
الْأَسِيرِ وَهِيَ الْمَنَاطُ، وَكَذَا عَنْ الْمُسْتَأْمَنِ لِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِ رَقَبَتِهِ، وَحَدِيثُ أَبِي عَزَّةَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْآيَةِ، وَغَيْرُهُمَا غَيْرُ مَوْجُودٍ أَوْ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَا يَصِحُّ التَّخْصِيصُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَالْمَوَاشِي جَمْعُ مَاشِيَةٍ وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالْمَأْكُلَةُ بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْحِهَا بِمَعْنًى، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ.

(5/477)


(وَلَا يُقَسِّمُ غَنِيمَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى يُخْرِجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَأَصْلُهُ أَنَّ الْمِلْكَ لِلْغَانِمِينَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ وَيَبْتَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ عِدَّةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ ذَكَرْنَاهَا فِي الْكِفَايَةِ. لَهُ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ الِاسْتِيلَاءُ إذَا وَرَدَ عَلَى مَالٍ مُبَاحٍ فِي الصَّيُودِ، وَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِيلَاءِ سِوَى إثْبَاتِ الْيَدِ وَقَدْ تَحَقَّقَ. وَلَنَا أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ بَيْعِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ» ، وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيهِ، وَالْقِسْمَةُ بَيْعٌ مَعْنًى فَتَدْخُلُ تَحْتَهُ، وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إثْبَاتُ الْيَدِ الْحَافِظَةِ وَالنَّاقِلَةِ وَالثَّانِي مُنْعَدِمٌ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى الِاسْتِنْقَاذِ وَوُجُودِهِ ظَاهِرًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
قَالَ (وَلَا يَقْسِمُ غَنِيمَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ) قِسْمَةُ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ جَازَ، وَالتَّأْخِيرُ إلَى الْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَحَبُّ إلَيَّ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لِلْغَانِمِينَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَهُ يَثْبُتُ. وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ عِدَّةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ ذَكَرْنَاهَا فِي الْكِفَايَةِ) أَيْ كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى. مِنْهَا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ الْغَنَائِمِ لَا لِحَاجَةِ الْغُزَاةِ أَوْ بَاعَ أَحَدُ الْغُزَاةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا لِعَدَمِ الْمِلْكِ، وَكَذَا لَوْ أَتْلَفَ أَحَدُهُمْ شَيْئًا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَضْمَنْ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمْ لَا يُورَثُ سَهْمُهُ، وَلَوْ لَحِقَ الْجَيْشَ مَدَدٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ شَارَكُوهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ.
وَقَوْلُهُ (لَهُ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ) ظَاهِرٌ. قَوْلُهُ (وَالثَّانِي) أَيْ إثْبَاتُ الْيَدِ النَّاقِلَةِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ (مُنْعَدِمٌ لِقُدْرَتِهِمْ) أَيْ لِقُدْرَةِ الْكَفَرَةِ عَلَى الِاسْتِنْقَاذِ (وَوُجُودِهِ) أَيْ وُجُودِ الِاسْتِنْقَاذِ (ظَاهِرًا) لِكَوْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي دِيَارِهِمْ.

(5/478)


ثُمَّ قِيلَ: مَوْضِعُ الْخِلَافِ تَرَتُّبُ الْأَحْكَامِ عَلَى الْقِسْمَةِ إذَا قَسَّمَ الْإِمَامُ لَا عَنْ اجْتِهَادٍ، لِأَنَّ حُكْمَ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِهِ. وَقِيلَ الْكَرَاهَةُ، وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُ قَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْأَفْضَلُ أَنْ يُقَسِّمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ. وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّ دَلِيلَ الْبُطْلَانِ رَاجِحٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقَوْلُهُ (ثُمَّ قِيلَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ) أَيْ أَنَّ مَوْضِعَ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا صَدَرَتْ الْقِسْمَةُ عَنْ الْإِمَامِ بِدُونِ الِاجْتِهَادِ هَلْ يَثْبُتُ حُكْمُ الْمِلْكِ لِمَنْ وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الْأَكْلِ وَالْوَطْءِ وَسَائِرِ الِانْتِفَاعِ أَوْ لَا؟ فَعِنْدَهُ يَثْبُتُ. وَعِنْدَنَا لَا يَثْبُتُ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ حُكْمَ الْمِلْكِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِهِ) أَيْ بِدُونِ الْمِلْكِ. مَعْنَاهُ أَنَّ تَرَتُّبَ هَذِهِ الْأَحْكَامِ دَلِيلُ ثُبُوتِ الْمِلْكِ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْعِلْمِ بِجَوَازِ الْقِسْمَةِ. فَعِنْدَهُ مُتَرَتِّبَةٌ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ الصَّادِرَةِ لَا عَنْ اجْتِهَادٍ فَيَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ. وَعِنْدَنَا لَيْسَتْ بِمُتَرَتِّبَةٍ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْكَ عِلَّةٌ لِتَرَتُّبِ الْأَحْكَامِ وَقَدْ وُجِدَ الْمَعْلُولُ فَيَلْزَمُ وُجُودُ الْعِلَّةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَخَلُّفُ الْمَعْلُولِ عَنْ الْعِلَّةِ وَعِنْدَنَا لَمْ يُوجَدْ الْمَعْلُولُ فَيَلْزَمُ عَدَمُ وُجُودِ الْعِلَّةِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَخَلُّفُ الْعِلَّةِ عَنْ الْمَعْلُولِ. وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْقِسْمَةَ بِقَوْلِهِ لَا عَنْ اجْتِهَادٍ لِيَظْهَرَ مَوْضِعُ الْخِلَافِ، فَإِنَّهُ إذَا قَسَمَ مُجْتَهِدًا جَازَ بِالِاتِّفَاقِ. قَوْلُهُ (وَقِيلَ الْكَرَاهَةُ) أَيْ حُكْمُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى مَذْهَبِنَا الْكَرَاهَةُ لَا عَدَمُ الْجَوَازِ لِمَا فِي الْقِسْمَةِ مِنْ قَطْعِ شَرِكَةِ الْمَدَدِ فَيَقِلُّ بِهَا رَغْبَتُهُمْ فِي اللُّحُوقِ بِالْجَيْشِ وَلِأَنَّهُ إذَا قَسَمَ تَفَرَّقُوا فَرُبَّمَا يَكُرُّ الْعَدُوُّ عَلَى بَعْضِهِمْ وَهَذَا أَمْرٌ وَرَاءَ مَا تَتِمُّ بِهِ الْقِسْمَةُ فَلَا يَمْنَعُ جَوَازَهَا (وَهِيَ كَرَاهَةُ تَنْزِيهٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ) فَإِنَّهُ قَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ الْأَفْضَلُ

(5/480)


إلَّا أَنَّهُ تَقَاعَدَ عَنْ سَلَبِ الْجَوَازِ فَلَا يَتَقَاعَدُ عَنْ إيرَاثِ الْكَرَاهَةِ.
(وَالرِّدْءُ وَالْمُقَاتِلُ فِي الْعَسْكَرِ سَوَاءٌ) لِاسْتِوَائِهِمْ فِي السَّبَبِ وَهُوَ الْمُجَاوَزَةُ أَوْ شُهُودُ الْوَقْعَةِ عَلَى مَا عُرِفَ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُقَاتِلْ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا (وَإِذَا لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجُوا الْغَنِيمَةَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ شَارَكُوهُمْ فِيهَا) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
أَنْ يَقْسِمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ هَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ عَلَى خِلَافِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَيْسَ بِمَشْهُورٍ فَإِنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَصْحَابِنَا، وَفِي غَيْرِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْأَفْضَلِيَّةُ مَنْقُولَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ. وَأَيْضًا قَوْلُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ يَدُلُّ عَلَى خِلَافِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَقِيلَ الْكَرَاهَةُ. وَفِي الْجُمْلَةِ هَذَا الْمَوْضِعُ لَا يَخْلُو عَنْ تَسَامُحٍ. وَالْمَخْلَصُ عَنْهُ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ وَلَا يَقْسِمُ غَنِيمَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ، فَقَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: الْمُرَادُ بِهِ عَدَمُ جَوَازِ الْقِسْمَةِ حَتَّى لَا تَثْبُتَ الْأَحْكَامُ الْمُتَرَتِّبَةُ عَلَى الْقِسْمَةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ بِهِ الْكَرَاهَةُ، وَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ الْأَوَّلِينَ. وَوَجْهُ الْكَرَاهَةِ أَنَّ دَلِيلَ الْبُطْلَانِ رَاجِحٌ لِكَوْنِهِ مُحَرِّمًا وَالْمُحَرِّمُ رَاجِحٌ عَلَى الْمُبِيحِ (إلَّا أَنْ تَقَاعَدَ عَنْ سَلْبِ الْجَوَازِ) بِالِاتِّفَاقِ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَيَجُوزُ مُطْلَقًا، وَأَمَّا عِنْدَنَا فَيَجُوزُ إذَا احْتَاجَ الْغُزَاةُ إلَى الثَّوْبِ وَالدَّابَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ (فَلَا يَتَقَاعَدُ عَنْ إيرَاثِ الْكَرَاهَةِ) لِأَنَّ الدَّلِيلَ الْمَرْجُوحَ لَمَّا لَمْ يَبْطُلْ بِالْكُلِّيَّةِ حَصَلَ مِنْ مُعَارَضَةِ الدَّلِيلِ الرَّاجِحِ وَالْمَرْجُوحِ الْكَرَاهَةُ كَمَا فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ.
قَالَ (وَالرِّدْءُ وَالْمُقَاتِلُ فِي الْعَسْكَرِ سَوَاءٌ) الرِّدْءُ هُوَ الْعَوْنُ، وَالْمُقَاتِلُ هُوَ الْمُبَاشِرُ فِي الْعَسْكَرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ سَوَاءٌ (لِاسْتِوَائِهِمْ فِي السَّبَبِ) وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الدَّرْبِ بِنِيَّةِ الْقِتَالِ عِنْدَنَا (أَوْ شُهُودِ الْوَقْعَةِ) عِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (عَلَى مَا عُرِفَ. وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُقَاتِلْ لِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ لِمَا ذَكَرْنَا) مِنْ الِاسْتِوَاءِ فِي السَّبَبِ. قَوْلُهُ (وَإِذَا لَحِقَهُمْ الْمَدَدُ) ظَاهِرٌ.

(5/481)


وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ عِنْدَنَا بِالْإِحْرَازِ أَوْ بِقِسْمَةِ الْإِمَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بِبَيْعِهِ الْمَغَانِمَ فِيهَا، لِأَنَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَتِمُّ الْمِلْكُ فَيَنْقَطِعُ حَقُّ شَرِكَةِ الْمَدَدِ. قَالَ (وَلَا حَقَّ لِأَهْلِ سُوقِ الْعَسْكَرِ فِي الْغَنِيمَةِ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ: يُسْهِمُ لَهُمْ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ» وَلِأَنَّهُ وَجَدَ الْجِهَادَ مَعْنًى بِتَكْثِيرِ السَّوَادِ.
وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ تُوجَدُ الْمُجَاوَزَةُ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ فَانْعَدَمَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ فَيُعْتَبَرُ السَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ وَهُوَ الْقِتَالُ فَيُفِيدُ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ فَارِسًا أَوْ رَاجِلًا عِنْدَ الْقِتَالِ، وَمَا رَوَاهُ مَوْقُوفٌ عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقَوْلُهُ (بِنَاءً عَلَى مَا مَهَّدْنَاهُ مِنْ الْأَصْلِ) يُرِيدُ مَا مَرَّ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ عِنْدَهُ هُوَ الْأَخْذُ وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ بِهِ، وَعِنْدَنَا أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْإِحْرَازُ. فَإِذَا شَارَكَ الْمَدَدُ الْجَيْشَ فِي الْإِحْرَازِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ السَّبَبُ شَارَكُوهُ فِي تَأَكُّدِ الْحَقِّ بِهِ كَمَا لَوْ الْتَحَقُوا بِهِمْ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ (وَإِنَّمَا تَنْقَطِعُ الْمُشَارَكَةُ بِالْإِحْرَازِ أَوْ بِقِسْمَةِ الْإِمَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ بِبَيْعِهِ الْمَغَانِمَ فِيهَا لِأَنَّ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَتِمُّ الْمِلْكُ فَتَنْقَطِعُ شَرِكَةُ الْمَدَدِ) (وَلَا حَقَّ لِأَهْلِ سُوقِ الْعَسْكَرِ فِي الْغَنِيمَةِ) بِإِطْلَاقِهِ يُفِيدُ نَفْيَ السَّهْمِ الْكَامِلِ وَالرَّضْخِ. وَكَذَا ذُكِرَ فِي الْمَبْسُوطِ. وَعُلِّلَ بِأَنَّ قَصْدَهُمْ التِّجَارَةُ لَا إعْزَازُ دِينِ اللَّهِ وَإِرْهَابُ الْعَدُوِّ (إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا) فَلَهُمْ السَّهْمُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يُسْهَمُ لَهُمْ فِي قَوْلٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ» وَلِأَنَّهُ وُجِدَ الْجِهَادُ مَعْنًى بِتَكْثِيرِ السَّوَادِ) وَقَوْلُهُ (وَلَنَا أَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ الْمُجَاوَزَةُ) وَاضِحٌ (وَمَا رَوَاهُ) مِنْ قَوْلِهِ: «الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ» (مَوْقُوفٌ عَلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) وَمِثْلُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ لَا يَرَى تَقْلِيدَ الصَّحَابِيِّ

(5/482)


أَنَّ تَأْوِيلَهُ أَنْ يُشْهِدَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ.
(وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لِلْإِمَامِ حَمُولَةٌ تُحْمَلُ عَلَيْهَا الْغَنَائِمُ قَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ قِسْمَةَ إيدَاعٍ لِيَحْمُوَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ يَرْتَجِعَهَا مِنْهُمْ فَيُقَسِّمَهَا) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ: هَكَذَا ذُكِرَ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ رِضَاهُمْ وَهُوَ رِوَايَةُ السِّيَرِ الْكَبِيرِ. وَالْجُمْلَةُ فِي هَذَا أَنَّ الْإِمَامَ إذَا وَجَدَ فِي الْمَغْنَمِ حَمُولَةً يَحْمِلُ الْغَنَائِمَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْحَمُولَةَ وَالْمَحْمُولَ مَالُهُمْ.
وَكَذَا إذَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَضْلُ حَمُولَةٍ لِأَنَّهُ مَالُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ لِلْغَانِمِينَ أَوْ لِبَعْضِهِمْ لَا يُجْبِرُهُمْ فِي رِوَايَةِ السِّيَرِ الصَّغِيرِ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إجَارَةٍ وَصَارَ كَمَا إذَا نَفَقَتْ دَابَّتُهُ فِي مَفَازَةٍ وَمَعَ رَفِيقِهِ فَضْلُ حَمُولَةٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
أَوْ تَأْوِيلُهُ أَنْ يَشْهَدَهَا عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ) أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُفَّارَ يَشْهَدُونَهَا وَلَيْسَ لَهُمْ شَيْءٌ
(وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ حَمُولَةٌ) بِفَتْحِ الْحَاءِ مَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ مِنْ بَعِيرٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ بَغْلٍ أَوْ حِمَارٍ (قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ قِسْمَةَ إيدَاعٍ) وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إجَارَةٍ) أَيْ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَهَذَا احْتِرَازٌ عَنْ إجَارَةٍ مُسْتَأْنَفَةٍ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى الْإِجَارَةِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ السَّفِينَةِ، فَإِنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ سَفِينَةً شَهْرًا فَمَضَتْ الْمُدَّةُ فِي وَسَطِ الْبَحْرِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ عَلَيْهَا إجَارَةٌ أُخْرَى بِأَجْرِ الْمِثْلِ بِغَيْرِ رِضَا الْمَالِكِ.
وَقَوْلُهُ (وَصَارَ كَمَا إذَا نَفَقَتْ دَابَّتُهُ) يَعْنِي فِي كَوْنِهِ ابْتِدَاءَ إجَارَةٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.

(5/483)


وَيُجْبِرُهُمْ فِي رِوَايَةِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ لِأَنَّهُ دَفْعُ الضَّرَرِ الْعَامِّ بِتَحْمِيلِ ضَرَرٍ خَاصٍّ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْغَنَائِمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ) لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ قَبْلَهَا، وَفِيهِ خِلَافُ الشَّافِعِيِّ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَصْلَ (وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ، وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ بَعْدَ إخْرَاجِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَنَصِيبُهُ لِوَرَثَتِهِ) لِأَنَّ الْإِرْثَ يَجْرِي فِي الْمِلْكِ، وَلَا مِلْكَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، وَإِنَّمَا الْمِلْكُ بَعْدَهُ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْهَزِيمَةِ يُورَثُ نَصِيبُهُ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فِيهِ عِنْدَهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ. .
قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَعْلِفَ الْعَسْكَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَيَأْكُلُوا مَا وَجَدُوهُ مِنْ الطَّعَامِ) قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَرْسَلَ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْحَاجَةِ، وَقَدْ شَرَطَهَا فِي رِوَايَةٍ وَلَمْ يَشْتَرِطْهَا فِي أُخْرَى. وَجْهُ الْأُولَى أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْغَانِمِينَ فَلَا يُبَاحُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا لِحَاجَةٍ كَمَا فِي الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ. وَجْهُ الْأُخْرَى قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «فِي طَعَامِ خَيْبَرَ كُلُوهَا وَاعْلِفُوهَا وَلَا تَحْمِلُوهَا» وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُدَارُ عَلَى دَلِيلِ الْحَاجَةِ وَهُوَ كَوْنُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ، لِأَنَّ الْغَازِيَ لَا يَسْتَصْحِبُ قُوتَ نَفْسِهِ وَعَلَفَ ظَهْرِهِ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِيهَا وَالْمِيرَةُ مُنْقَطِعَةٌ، فَبَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لِلْحَاجَةِ بِخِلَافِ السِّلَاحِ لِأَنَّهُ يَسْتَصْحِبُهُ فَانْعَدَمَ دَلِيلُ الْحَاجَةِ، وَقَدْ تُمَسُّ إلَيْهِ الْحَاجَةُ فَتُعْتَبَرُ حَقِيقَتُهَا فَيَسْتَعْمِلُهُ ثُمَّ يَرُدُّهُ فِي الْمَغْنَمِ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ، وَالدَّابَّةُ مِثْلُ السِّلَاحِ، وَالطَّعَامُ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَمَا يُسْتَعْمَلُ فِيهِ كَالسَّمْنِ وَالزَّيْتِ.
قَالَ (وَيَسْتَعْمِلُوا الْحَطَبَ) وَفِي بَعْضِ النَّسْخِ: الطِّيبَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقَوْلُهُ (وَيُجْبِرُهُمْ فِي رِوَايَةِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ) ظَاهِرٌ، وَيَكُونُ الْأَجْرُ مِنْ الْغَنَائِمِ يُبْتَدَأُ بِهِ قَبْلَ الْخُمُسِ، لِأَنَّ فِي هَذَا الِاسْتِئْجَارِ مَنْفَعَةً لِلْغَانِمِينَ فَهُوَ كَالِاسْتِئْجَارِ لِسَوْقِ الْغَنَمِ وَالرَّمَكِ، وَحَقُّ أَصْحَابِ الْحَمُولَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِئْجَارِ لِأَنَّ شَرِكَةَ الْمِلْكِ هِيَ الَّتِي لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الِاسْتِئْجَارِ لَا شَرِكَةَ الْحَقِّ كَمَا فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ. وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْغَنَائِمِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ) وَاضِحٌ مِمَّا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ (وَلَا مِلْكَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ) فِيهَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يُنَاقِضُ قَوْلَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ بِكُلٍّ مِنْهَا يَتِمُّ الْمِلْكُ. وَالْجَوَابُ أَنَّهُ تَرَكَ ذِكْرَ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبَيْعِ الْغَنَائِمِ فِيهَا هَاهُنَا اعْتِمَادًا عَلَى ذِكْرِهِ هُنَاكَ أَوْ لِأَنَّ ذَلِكَ لِعَارِضِ الْحَاجَةِ وَالِاعْتِبَارُ لِلْأُمُورِ الْأَصْلِيَّةِ. وَقَوْلُهُ (وَقَدْ بَيَّنَّاهُ) أَيْ فِي مَسْأَلَةِ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ.
قَوْلُهُ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَعْلِفَ الْعَسْكَرُ) أَيْ دَوَابَّهُمْ الْعَلَفَ (فِي دَارِ الْحَرْبِ) وَقَوْلُهُ لَمْ يُقَيِّدْهُ بِالْحَاجَةِ يَعْنِي الْقُدُورِيَّ فِي مُخْتَصَرِهِ (وَقَدْ شَرَطَهَا) يَعْنِي مُحَمَّدًا (فِي رِوَايَةٍ) هِيَ رِوَايَةُ السِّيَرِ الصَّغِيرِ (وَلَمْ يَشْتَرِطْهَا فِي أُخْرَى) وَهِيَ رِوَايَةُ السِّيَرِ الْكَبِيرِ، وَوَجْهُ كُلٍّ مِنْهُمَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (وَعَلَفَ ظَهْرِهِ) أَيْ دَابَّتَهُ وَاسْتَعَارَ لَفْظَ الظَّهْرِ لَهَا وَالْمِيرَةُ الطَّعَامُ (فَيُعْتَبَرُ حَقِيقَتُهَا) أَيْ حَقِيقَةُ الْحَاجَةِ فِي السِّلَاحِ. وَقَوْلُهُ (وَالدَّابَّةُ مِثْلُ السِّلَاحِ) يَعْنِي فِي اعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْحَاجَةِ لَكِنْ إذَا اُعْتُبِرَ حَاجَةُ الرُّكُوبِ، أَمَّا إذَا اُعْتُبِرَ فِيهَا الْأَكْلُ فَهِيَ كَالطَّعَامِ (وَيَسْتَعْمِلُوا الْحَطَبَ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الطِّيبُ) قِيلَ وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّ الْقُدُورِيَّ نَفْسَهُ قَالَ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ الْكَرْخِيِّ بِعَدَمِ

(5/484)


(وَيُدْهِنُوا بِالدُّهْنِ وَيُوقِحُوا بِهِ الدَّابَّةَ) لِمَسَاسِ الْحَاجَةِ إلَى جَمِيعِ ذَلِكَ (وَيُقَاتِلُوا بِمَا يَجِدُونَهُ مِنْ السِّلَاحِ، كُلُّ ذَلِكَ بِلَا قِسْمَةٍ) وَتَأْوِيلُهُ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ سِلَاحٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعُوا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا وَلَا يَتَمَوَّلُونَهُ) لِأَنَّ الْبَيْعَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمِلْكِ وَلَا مِلْكَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنَّمَا هُوَ إبَاحَةٌ وَصَارَ كَالْمُبَاحِ لَهُ الطَّعَامُ، وَقَوْلُهُ وَلَا يَتَمَوَّلُونَهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُمْ لَا يَبِيعُونَهُ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْعُرُوضِ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى ذَلِكَ، فَإِنْ بَاعَهُ أَحَدُهُمْ رَدَّ الثَّمَنَ إلَى الْغَنِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ عَيْنٍ كَانَتْ لِلْجَمَاعَةِ.
وَأَمَّا الثِّيَابُ وَالْمَتَاعُ فَيُكْرَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِلِاشْتِرَاكِ، إلَّا أَنَّهُ يُقَسِّمُ الْإِمَامُ بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا احْتَاجُوا إلَى الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ وَالْمَتَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ يُسْتَبَاحُ لِلضَّرُورَةِ فَالْمَكْرُوهُ أَوْلَى، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْمَدَدِ مُحْتَمَلٌ، وَحَاجَةُ هَؤُلَاءِ مُتَيَقَّنٌ بِهَا فَكَانَ أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْقِسْمَةَ فِي السِّلَاحِ، وَلَا فَرْقَ فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّهُ إذَا احْتَاجَ وَاحِدٌ يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ فِي الْفَصْلَيْنِ، وَإِنْ احْتَاجَ الْكُلُّ يُقَسِّمُ فِي الْفَصْلَيْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا احْتَاجُوا إلَى السَّبْيِ حَيْثُ لَا يُقَسِّمُ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ مِنْ فُضُولِ الْحَوَائِجِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِالطِّيبِ، أَمَّا الْحَطَبُ فَلِتَعَذُّرِ النَّقْلِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ جَازَ اسْتِعْمَالُهُ كَمَا فِي الْعَلَفِ.
وَأَمَّا الْإِدْهَانُ بِالدُّهْنِ فَالْمُرَادُ بِهِ الدُّهْنُ الْمَأْكُولُ كَالزَّيْتِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَأْكُولًا كَانَ صَرْفُهُ إلَى بَدَنِهِ كَصَرْفِهِ إلَى أَكْلِهِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ بَلْ يَرُدُّهُ إلَى الْغَنِيمَةِ. قَوْلُهُ (وَيُوقِحُوا بِهِ الدَّابَّةَ) التَّوْقِيحُ تَصْلِيبُ حَافِرِهَا بِالشَّحْمِ الْمُذَابِ إذَا خَفَى مِنْ كَثْرَةِ الْمَشْيِ، وَنُقِلَ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِالرَّاءِ مِنْ التَّرْقِيحِ وَهُوَ الْإِصْلَاحُ، قَالَ: هَكَذَا قَرَأْنَا عَلَى الْمَشَايِخِ. قَالَ صَاحِبُ الْمُغْرِبِ: وَالرَّاءُ خَطَأٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هَاهُنَا أَوْلَى وَأَلْيَقُ. قُلْت: هَذَا التَّعْلِيلُ إنْ كَانَ مَنْقُولًا عَنْهُ فَهُوَ مُنَاقَضٌ لِأَنَّ تَرْكَ الْأَوْلَى لَا يُسَمَّى خَطَأً.
وَقَوْلُهُ (وَتَأْوِيلُهُ إلَخْ) إنَّمَا احْتَاجَ الْمُصَنِّفُ إلَى هَذَا التَّأْوِيلِ؛ لِأَنَّهُ إذَا احْتَاجَ الْغَازِي إلَى اسْتِعْمَالِ سِلَاحِ الْغَنِيمَةِ بِسَبَبِ صِيَانَةِ سِلَاحِهِ لَا يَجُوزُ. وَقَوْلُهُ (وَقَدْ بَيَّنَّاهُ) إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ بِخِلَافِ السِّلَاحِ لِأَنَّهُ يَسْتَصْحِبُهُ إلَخْ. وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعُوا) أَيْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعُوا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ (وَلَا يَتَمَوَّلُونَهُ) أَيْ يَبِيعُونَهُ بِالْعُرُوضِ. وَقَوْلُهُ (عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ) يَعْنِي أَنَّهُ لَا مِلْكَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ، وَكَلَامُهُ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ فِي الْفَصْلَيْنِ) أَيْ فِي فَصْلِ السِّلَاحِ وَفَصْلِ الثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ.

(5/485)


قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ) مَعْنَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
قَالَ (وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ) إنَّمَا احْتَاجَ الْمُصَنِّفُ إلَى قَوْلِهِ مَعْنَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِيَقَعَ الِاحْتِرَازُ بِهِ عَنْ مُسْتَأْمَنٍ دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَأَسْلَمَ فِيهَا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ أَوْلَادَهُ وَأَمْوَالَهُ كُلَّهَا فَيْءٌ، وَالْفَيْءُ مَا نِيلَ مِنْ الْكُفَّارِ بَعْدَمَا تَضَعُ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا وَتَصِيرُ الدَّارُ دَارَ الْإِسْلَامِ.

(5/486)


(أَحْرَزَ بِإِسْلَامِهِ نَفْسَهُ) لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُنَافِي ابْتِدَاءَ الِاسْتِرْقَاقِ (وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ) لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا (وَكُلُّ مَالٍ هُوَ فِي يَدِهِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ» وَلِأَنَّهُ سَبَقَتْ يَدَهُ الْحَقِيقِيَّةَ إلَيْهِ يَدُ الظَّاهِرِينَ عَلَيْهِ (أَوْ وَدِيعَةً فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
قَوْلُهُ (لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُنَافِي ابْتِدَاءَ الِاسْتِرْقَاقِ) لِأَنَّهُ يَقَعُ جَزَاءً لِاسْتِنْكَافِهِ عَنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَنْكَفَ عَنْ عُبُودِيَّةِ رَبِّهِ جَازَاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ صَيَّرَهُ عَبْدَ عَبِيدِهِ، وَلَمَّا كَانَ مُسْلِمًا وَقْتَ الِاسْتِيلَاءِ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الِاسْتِرْقَاقِ وَهُوَ الِاسْتِنْكَافُ فَلَا يُوجَدُ الْمَشْرُوطُ، وَاحْتُرِزَ بِذَلِكَ عَنْ الِاسْتِرْقَاقِ حَالَةَ الْبَقَاءِ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُنَافِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ (وَأَوْلَادَهُ الصِّغَارَ وَكُلَّ مَالٍ) مَنْصُوبَانِ بِالْعَطْفِ عَلَى مَفْعُولِ أَحْرَزَ.

(5/487)


لِأَنَّهُ فِي يَدٍ صَحِيحَةٍ مُحْتَرَمَةٍ وَيَدُهُ كَيَدِهِ (فَإِنْ ظَهَرْنَا عَلَى دَارِ الْحِرَابِ فَعَقَارُهُ فَيْءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: هُوَ لَهُ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَصَارَ كَالْمَنْقُولِ.
وَلَنَا أَنَّ الْعَقَارَ فِي يَدِ أَهْلِ الدَّارِ وَسُلْطَانُهَا إذَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً، وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ. وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ هُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْيَدَ حَقِيقَةً لَا تَثْبُتُ عَلَى الْعَقَارِ عِنْدَهُمَا، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَثْبُتُ (وَزَوْجَتُهُ فَيْءٌ) لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ حَرْبِيَّةٌ لَا تَتْبَعُهُ فِي الْإِسْلَامِ (وَكَذَا حَمْلُهَا فَيْءٌ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ. هُوَ يَقُولُ إنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا كَالْمُنْفَصِلِ.
وَلَنَا أَنَّهُ جُزْؤُهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقَوْلُهُ (فِي يَدٍ صَحِيحَةٍ) احْتِرَازٌ عَنْ يَدِ الْغَاصِبِ. وَقَوْلُهُ (مُحْتَرَمَةٍ) احْتِرَازٌ عَنْ يَدِ الْحَرْبِيِّ. قَوْلُهُ (وَقِيلَ هَذَا) أَيْ كَوْنُ عَقَارِهِ (فَيْئًا) قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ فِي الْمَبْسُوطِ وَالْجَامِعِ الصَّغِيرِ، فَمَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ لَهُ إلَّا الْعَقَارَ فَإِنَّهُ فَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: أَسْتَحْسِنُ فِي الْعَقَارِ أَنْ أَجْعَلَهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُحْتَرَمٌ لَهُ كَالْمَنْقُولِ، وَهَذَا كَمَا تَرَى مُخَالِفٌ لِمَا فِي الْكِتَابِ بِاعْتِبَارِ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، إلَّا إنْ كَانَ عَنْهُ أَيْضًا رِوَايَتَانِ فَقَدْ هَانَ الْخَطْبُ إذْ ذَاكَ. قَوْلُهُ (عِنْدَهُمَا) أَيْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الْبِقَاعِ إنَّمَا تَثْبُتُ حُكْمًا وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ بِدَارِ الْأَحْكَامِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِيَدِهِ فِيهَا قَبْلَ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا وَبَعْدَ الظُّهُورِ يَدُ الْغَانِمِينَ فِيهَا أَقْوَى مِنْ يَدِهِ لِغَلَبَتِهِمْ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تَثْبُتُ
(وَزَوْجَتُهُ فَيْءٌ) لِأَنَّهَا كَافِرَةٌ لَا تَتْبَعُهُ فِي الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَتَزَوَّجُ الْكِتَابِيَّةَ وَتَبْقَى كِتَابِيَّةً وَلَا تَصِيرُ مُسْلِمَةً تَبَعًا لِزَوْجِهَا إذْ هُوَ مِنْ بَابِ الِاعْتِقَادِ (وَكَذَا حَمْلُهَا فَيْءٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) فِي الْحَمْلِ (هُوَ يَقُولُ إنَّهُ) أَيْ الْحَمْلَ (مُسْلِمٌ) بِتَبَعِيَّةِ أَبِيهِ وَالْمُسْلِمُ لَا يُسْتَرَقُّ كَالْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ (وَلَنَا أَنَّهُ جُزْؤُهَا) وَهِيَ قَدْ صَارَتْ فَيْئًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَثْنَى الْجَنِينُ

(5/488)


فَيَرِقُّ بِرِقِّهَا وَالْمُسْلِمُ مَحَلٌّ لِلتَّمَلُّكِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْمُنْفَصِلِ لِأَنَّهُ حُرٌّ لِانْعِدَامِ الْجُزْئِيَّةِ عِنْدَ ذَلِكَ (وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَيْءٌ) لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ حَرْبِيُّونَ وَلَا تَبَعِيَّةَ (وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ عَبِيدِهِ فَيْءٌ) لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَرَّدَ عَلَى مَوْلَاهُ خَرَجَ مِنْ يَدِهِ فَصَارَ تَبَعًا لِأَهْلِ دَارِهِمْ (وَمَا كَانَ مِنْ مَالِهِ فِي يَدِ حَرْبِيٍّ فَهُوَ فَيْءٌ) غَصْبًا كَانَ أَوْ وَدِيعَةً؛ لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِمُحْتَرَمَةٍ (وَمَا كَانَ غَصْبًا فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ. وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ فَيْئًا) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
فِي إعْتَاقِ الْأُمِّ كَمَا لَا يُسْتَثْنَى سَائِرُ أَجْزَائِهَا؛ فَكَمَا أَنَّ الْحَمْلَ لَا يَصِيرُ عَبْدًا عِنْدَ إعْتَاقِ الْأُمِّ مُسْتَثْنًى بِحَالٍ، فَكَذَا فِي الِاسْتِرْقَاقِ لَا يَصِيرُ الْجَنِينُ مُسْتَثْنًى بَعْدَمَا ثَبَتَ الرِّقُّ فِي الْأُمِّ. وَقَوْلُهُ (وَالْمُسْلِمُ مَحَلٌّ لِلتَّمَلُّكِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ إنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا. وَتَقْرِيرُهُ سَلَّمْنَا أَنَّهُ مُسْلِمٌ تَبَعًا لَكِنْ الْمُسْلِمُ مَحَلُّ التَّمَلُّكِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ، كَمَا إذَا تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ أَمَةَ الْغَيْرِ يَكُونُ الْوَلَدُ رَقِيقًا بِتَبَعِيَّةِ الْأُمِّ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ.
وَقَوْلُهُ (بِخِلَافِ الْمُنْفَصِلِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ كَالْمُنْفَصِلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ (وَأَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَيْءٌ، وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ عَبِيدِهِ فَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمَّا تَمَرَّدَ عَلَى مَوْلَاهُ خَرَجَ مِنْ يَدِهِ وَصَارَ تَبَعًا لِأَهْلِ الدَّارِ) وَأَهْلُ الدَّارِ فَيْءٌ، وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ فَلَيْسَ بِفَيْءٍ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعُهُ. وَقَوْلُهُ (وَمَا كَانَ مِنْ مَالِهِ فِي يَدِ حَرْبِيٍّ فَهُوَ فَيْءٌ غَصْبًا كَانَ أَوْ وَدِيعَةً لِأَنَّ يَدَهُ لَيْسَتْ بِمُحْتَرَمَةٍ) اُعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ مَا قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ إنَّمَا يَعْمَلُ بِوَصْفِ الْأَصْلِ لَا بِوَصْفِ نَفْسِهِ كَالتُّرَابِ مَعَ الْمَاءِ فِي التَّيَمُّمِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَرْبِيُّ مَقَامَ الْمُودَعِ الْمُسْلِمِ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ تَكُونَ يَدُهُ كَيَدِ الْمُسْلِمِ مُحْتَرَمًا نَظَرًا إلَى نَفْسِهِ لَا غَيْرَ مُحْتَرَمٍ نَظَرًا إلَى الْحَرْبِيِّ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ قِيَامَ يَدِ الْمُودَعِ عَلَى الْوَدِيعَةِ حَقِيقِيٌّ وَقِيَامَ يَدِ الْمَالِكِ عَلَيْهَا حُكْمِيٌّ، وَاعْتِبَارُ الْحُكْمِيِّ إنْ أَوْجَبَ الْعِصْمَةَ فَاعْتِبَارُ الْحَقِيقِيِّ يَمْنَعُهَا، وَالْعِصْمَةُ لَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً لِأَنَّ الْمَالَ فِي أَصْلِهِ عَلَى صِفَةِ الْإِبَاحَةِ وَعِصْمَتُهُ تَابِعَةٌ لِعِصْمَةِ الْمَالِكِ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ التَّبَعِيَّةُ أَنْ لَوْ ثَبَتَ يَدُ الْمَالِكِ الْمَعْصُومِ لَهُ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا مَعَ الِاحْتِرَامِ، لِأَنَّهُ بِدُونِ الِاحْتِرَامِ يُعَارِضُهَا جِهَةُ الْإِبَاحَةِ الْأَصْلِيَّةِ فَلَا تَثْبُتُ بِالشَّكِّ.
وَقَوْلُهُ (وَمَا كَانَ غَصْبًا فِي يَدِ مُسْلِمٍ) اخْتَلَفَ نُسَخُ الْهِدَايَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَبَعْضُهَا وَقَعَ هَكَذَا (وَمَا كَانَ غَصْبًا فِي يَدِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَا لَا يَكُونُ فَيْئًا، قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -:

(5/489)


كَذَا ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ. وَذَكَرُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ.
لَهُمَا أَنَّ الْمَالَ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ، وَقَدْ صَارَتْ مَعْصُومَةً بِإِسْلَامِهِ فَيَتْبَعُهَا مَالُهُ فِيهَا.
وَلَوْ أَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ فَيُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ وَالنَّفْسُ لَمْ تَصِرْ مَعْصُومَةً بِالْإِسْلَامِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
كَذَا ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ. وَذَكَرَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ) وَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ بِلَفْظٍ قَالَا، بَلْ لَيْسَ لِأَبِي يُوسُفَ فِيهِ ذِكْرٌ وَبَعْضُهَا وَقَعَ هَكَذَا، وَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ أَيْضًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمَذْكُورَ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَبَعْضُهَا وَقَعَ هَكَذَا فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَا يَكُونُ فَيْئًا. قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كَذَا ذَكَرَ الِاخْتِلَافَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ، وَذَكَرُوا فِي شُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمُطَابِقُ لِرِوَايَةِ السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَشَرْحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ (لَهُمَا أَنَّ الْمَالَ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ) لِكَوْنِهِ وِقَايَةً لَهَا (وَالنَّفْسُ صَارَتْ مَعْصُومَةً بِالْإِسْلَامِ فَيَبِعْهَا مَالَهُ فِيهَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ) أَيْ الْمَالَ الَّذِي غَصَبَهُ الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ مِنْ الْحَرْبِيِّ الَّذِي أَسْلَمَ (مَالٌ مُبَاحٌ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْصُومٍ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا؛ أَمَّا حَقِيقَةً فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا حُكْمًا فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ نَائِبِهِ لِكَوْنِهِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ وَهُوَ لَيْسَ بِنَائِبٍ. بِخِلَافِ الْمُودَعِ وَكُلُّ مَالٍ مُبَاحٍ يُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ بِلَا خِلَافٍ.
وَقَوْلُهُ (وَالنَّفْسُ لَمْ تَصِرْ مَعْصُومَةً بِإِسْلَامِهِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمَا وَقَدْ صَارَتْ مَعْصُومَةً بِإِسْلَامِهِ. وَتَقْرِيرُهُ: لَا نُسَلِّمُ صَارَتْ مَعْصُومَةً بِإِسْلَامِهِ (أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُتَقَوِّمَةٍ) حَتَّى لَا يَجِبَ الْقِصَاصُ وَالدِّيَةُ عَلَى قَاتِلِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ لَمْ تَكُنْ مَعْصُومَةً لَمَا كَانَتْ مُحَرَّمَ التَّعَرُّضِ كَالْحَرْبِيِّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ.

(5/490)


إلَّا أَنَّهُ مُحَرَّمٌ التَّعَرُّضُ فِي الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ مُكَلَّفًا وَإِبَاحَةُ التَّعَرُّضِ بِعَارِضِ شَرِّهِ وَقَدْ انْدَفَعَ بِالْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ خُلِقَ عُرْضَةً لِلِامْتِهَانِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ وَلَيْسَتْ فِي يَدِهِ حُكْمًا فَلَمْ تَثْبُتْ الْعِصْمَةُ.
(وَإِذَا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْلِفُوا مِنْ الْغَنِيمَةِ وَلَا يَأْكُلُوا مِنْهَا) لِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ ارْتَفَعَتْ، وَالْإِبَاحَةُ بِاعْتِبَارِهَا، وَلِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَأَكَّدَ حَتَّى يُوَرِّثَ نَصِيبَهُ وَلَا كَذَلِكَ قَبْلَ الْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ (وَمَنْ فَضَلَ مَعَهُ عَلَفٌ أَوْ طَعَامٌ رَدَّهُ إلَى الْغَنِيمَةِ) مَعْنَاهُ إذَا لَمْ تُقَسَّمْ. وَعَنْ الشَّافِعِيِّ مِثْلُ قَوْلِنَا. وَعَنْهُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ اعْتِبَارًا بِالْمُتَلَصِّصِ. وَلَنَا أَنَّ الِاخْتِصَاصَ ضَرُورَةُ الْحَاجَةِ وَقَدْ زَالَتْ، بِخِلَافِ الْمُتَلَصِّصِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَحَقَّ بِهِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ فَكَذَا بَعْدَهُ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ تَصَدَّقُوا بِهِ إنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَانْتَفَعُوا بِهِ إنْ كَانُوا مَحَاوِيجَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
أَجَابَ بِقَوْلِهِ (إلَّا أَنَّهَا مُحَرَّمُ التَّعَرُّضِ فِي الْأَصْلِ) يَعْنِي أَنَّ حُرْمَةَ التَّعَرُّضِ لَيْسَتْ لِكَوْنِهَا مَعْصُومَةً. وَإِنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النَّفْسَ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُحَرَّمُ التَّعَرُّضِ فِي الْأَصْلِ لِكَوْنِهَا مُكَلَّفَةً لِتَقُومَ بِمَا كُلِّفَتْ بِهِ (وَإِبَاحَةُ التَّعَرُّضِ) إنَّمَا هِيَ (بِعَارِضِ شَرِّهِ. وَقَدْ انْدَفَعَ بِالْإِسْلَامِ) فَعَادَتْ إلَى أَصْلِهَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا مَعْصُومَةٌ (بِخِلَافِ الْمَالِ لِأَنَّهُ خُلِقَ عُرْضَةً لِلِامْتِهَانِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلتَّمَلُّكِ) فَكَانَ الْمُقْتَضِي مَوْجُودًا وَالْمَانِعُ مُنْتَفِيًا لِأَنَّ الْمَانِعَ كَوْنُهُ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا مَعَ الِاحْتِرَامِ، وَهَذَا لَيْسَ فِي يَدِهِ حُكْمًا لِأَنَّ يَدَ الْغَاصِبِ لَيْسَتْ بِنَائِبَةٍ عَنْ يَدِ الْمَالِكِ فَلَمْ تَثْبُتْ الْعِصْمَةُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ أَحَدٍ فَكَانَ فَيْئًا.
قَوْلُهُ (وَإِذَا خَرَجَ الْمُسْلِمُونَ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (مَعْنَاهُ إذَا لَمْ تُقْسَمْ) يَعْنِي الْغَنِيمَةَ. وَقَوْلُهُ (اعْتِبَارًا بِالْمُتَلَصِّصِ) فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ دَارَ الْحَرْبِ مُغِيرِينَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَأَخَذُوا شَيْئًا فَهُوَ لَهُمْ، وَلَا يُخَمَّسُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ إذْ الْغَنِيمَةُ هُوَ الْمَأْخُوذُ قَهْرًا بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَهُوَ مُبَاحٌ سَبَقَتْ أَيْدِيهِمْ إلَيْهِ. قَوْلُهُ (وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ تَصَدَّقُوا بِهِ) أَيْ إذَا جَاءُوا بِمَا فَضَلَ مِنْ طَعَامٍ أَوْ عَلَفٍ أَخَذُوا مِنْ الْغَنِيمَةِ بَعْدَ قِسْمَةِ الْإِمَامِ

(5/491)


لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ اللُّقَطَةِ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ عَلَى الْغَانِمِينَ، وَإِنْ كَانُوا انْتَفَعُوا بِهِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ تُرَدُّ قِيمَتُهُ إلَى الْمَغْنَمِ إنْ كَانَ لَمْ يُقَسَّمْ، وَإِنْ قُسِّمَتْ الْغَنِيمَةُ فَالْغَنِيُّ يَتَصَدَّقُ بِقِيمَتِهِ وَالْفَقِيرُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِقِيَامِ الْقِيمَةِ مَقَامِ الْأَصْلِ فَأَخَذَ حُكْمَهُ.
(فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ) قَالَ (وَيُقَسِّمُ الْإِمَامُ الْغَنِيمَةَ فَيُخْرِجُ خُمُسَهَا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] اسْتَثْنَى الْخُمُسَ (وَيُقَسِّمُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ) «لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
الْغَنِيمَةَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَصَدَّقُوا بِهِ. وَيُقَالُ رَجُلٌ مَحُوجٌ: أَيْ مُحْتَاجٌ، وَقَوْمٌ مَحَاوِيجُ. وَقَوْلُهُ لِتَعَذُّرِ الرَّدِّ عَلَى الْغَانِمِينَ يَعْنِي لِتَفَرُّقِهِمْ.
وَقَوْلُهُ (فَأَخَذَ حُكْمَهُ) أَيْ أَخَذَتْ الْغَنِيمَةُ حُكْمَ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ضَمِيرَ الْغَنِيمَةِ عَلَى تَأْوِيلِ مَا يَقُومُ أَوْ عَلَى تَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ: يَعْنِي لَوْ كَانَ فَاضِلُ الْغَنِيمَةِ الَّذِي كَانَ مَعَهُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ فَقَدْ حَلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ فَكَذَا يَحِلُّ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْ قِيمَتِهِ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ تَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ.

[فَصْلٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ]
لَمَّا بَيَّنَ أَحْكَامَ الْغَنَائِمِ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ كَيْفِيَّةِ قِسْمَتِهَا، وَالْقِسْمَةُ عِبَارَةٌ عَنْ جَمْعِ النَّصِيبِ الشَّائِعِ فِي مَكَان مُعَيَّنٍ (وَيَقْسِمُ الْإِمَامُ الْغَنِيمَةَ فَيُخْرِجُ خُمُسَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] اسْتَثْنَى الْخُمُسَ) أَيْ أَخْرَجَهُ، اسْتَعَارَ الِاسْتِثْنَاءَ لِلْإِخْرَاجِ لِوُجُودِ مَعْنَاهُ فِيهِ (وَيَقْسِمُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ) بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] أَضَافَ الْغَنِيمَةَ إلَى الْغَانِمِينَ وَهُمْ الْغُزَاةُ ثُمَّ قَالَ تَعَالَى {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] فَكَانَ بَيَانَ ضَرُورَةِ أَنَّ بَقِيَّةَ الْأَخْمَاسِ لِلْغُزَاةِ، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَسَمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَلِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ لِلْغَانِمِينَ بِالْإِجْمَاعِ فَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ أَيْضًا إيصَالًا لِلْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ.

(5/492)


(ثُمَّ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (وَقَالَا: لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ) وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمًا» وَلِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْغِنَاءِ وَغِنَاؤُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْثَالِ الرَّاجِلِ؛ لِأَنَّهُ لِلْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالثَّبَاتِ، وَالرَّاجِلُ لِلثَّبَاتِ لَا غَيْرُ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا» فَتَعَارَضَ فِعْلَاهُ، فَيُرْجَعُ إلَى قَوْلِهِ وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ» كَيْفَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - «أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَسَّمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ»
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
ثُمَّ كَيْفِيَّةُ الْقِسْمَةِ أَنْ يُعْطِيَ الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا (عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَالَا: وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْفَارِسِ: ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ) وَرَوَوْا فِي ذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَالْغِنَاءِ بِالْمَدِّ وَالْفَتْحِ الْإِجْزَاءُ وَالْكِفَايَةُ وَالْكَرُّ الْحَمَلَةُ وَالْفَرُّ بِمَعْنَى الْفِرَارِ، وَالْفِرَارُ إذَا كَانَ لِأَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْكَرُّ أَشَدَّ كَانَ مِنْ الْجِهَادِ، وَالْفِرَارُ فِي مَوْضِعِهِ مَحْمُودٌ لِئَلَّا يَرْتَكِبَ الْمَنْهِيَّ الْمَذْكُورَ فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195] (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -) وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَكِنْ طَرِيقَةُ اسْتِدْلَالِهِ مُخَالِفَةٌ لِقَوَاعِدِ الْأُصُولِ، فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ الدَّلِيلَيْنِ إذَا تَعَارَضَا وَتَعَذَّرَ التَّوْفِيقُ وَالتَّرْجِيحُ يُصَارُ إلَى مَا بَعْدَهُ لَا إلَى مَا قَبْلَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ فَتَعَارَضَ فِعْلَاهُ فَيَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِ وَالْمَسْلَكُ الْمَعْهُودُ فِي مِثْلِهِ أَنْ يُسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ وَيَقُولُ فِعْلُهُ لَا يُعَارِضُ قَوْلَهُ لِكَوْنِ الْقَوْلِ أَقْوَى بِالِاتِّفَاقِ.

(5/493)


وَإِذَا تَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ تُرَجَّحَ رِوَايَةُ غَيْرِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا تَعَارَضَتْ رِوَايَتَاهُ تُرَجَّحُ رِوَايَةُ غَيْرِهِ) أَيْ سَلِمَتْ عَنْ الْمُعَارَضَةِ فَيُعْمَلُ بِهَا: يَعْنِي رِوَايَةَ ابْنِ عَبَّاسٍ

(5/494)


وَلِأَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ غِنَاؤُهُ مِثْلَيْ غِنَاءِ الرَّاجِلِ فَيَفْضُلُ عَلَيْهِ بِسَهْمٍ وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ مِقْدَارِ الزِّيَادَةِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَتِهِ فَيُدَارُ الْحُكْمُ عَلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ، وَلِلْفَارِسِ سَبَبَانِ النَّفْسُ وَالْفَرَسُ، وَلِلرَّاجِلِ سَبَبٌ وَاحِدٌ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُهُ عَلَى ضَعْفِهِ. .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقَوْلُهُ (فَيَكُونُ غِنَاؤُهُ مِثْلَ غِنَاءِ الرَّجُلِ) لِأَنَّ نَفْسَ الْفِرَارِ لَيْسَ بِمَحْمُودٍ، بَلْ الْفِرَارُ إنَّمَا يَحْسُنُ إذَا فُعِلَ لِأَجْلِ الْكَرِّ، فَيَكُونَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ (وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ مِقْدَارِ الزِّيَادَةِ لِتَعَذُّرِ مَعْرِفَتِهِ) يَعْنِي قَدْ يَزِيدُ الْفَارِسُ عَلَى فَارِسٍ آخَرَ وَالرَّاجِلُ عَلَى رَاجِلٍ آخَرَ فِي الْغِنَاءِ، وَالْوُقُوفُ عَلَى تِلْكَ الزِّيَادَةِ مُتَعَذَّرٌ لِأَنَّهَا تَظْهَرُ عِنْدَ الْمُسَايَفَةِ وَكُلٌّ مِنْهُمْ مَشْغُولٌ بِرُوحِهِ، وَإِذَا كَانَ مُتَعَذِّرًا وَلَهُ سَبَبٌ ظَاهِرٌ أُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ (وَلِلْفَارِسِ سَبَبَانِ نَفْسُهُ وَالْفَرَسُ، وَلِلرَّاجِلِ سَبَبٌ وَاحِدٌ) وَهُوَ نَفْسُهُ (فَكَانَ اسْتِحْقَاقُ الْفَارِسِ عَلَى ضِعْفِهِ)

(5/495)


(وَلَا يُسْهِمُ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: يُسْهِمُ لِفَرَسَيْنِ، لِمَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْهَمَ لِفَرَسَيْنِ» وَلِأَنَّ الْوَاحِدَ قَدْ يَعْيَا فَيَحْتَاجُ إلَى الْآخَرِ، وَلَهُمَا «أَنَّ الْبَرَاءَ بْنَ أَوْسٍ قَادَ فَرَسَيْنِ فَلَمْ يُسْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ» وَلِأَنَّ الْقِتَالَ لَا يَتَحَقَّقُ بِفَرَسَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَلَا يَكُونُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مُفْضِيًا إلَى الْقِتَالِ عَلَيْهِمَا فَيُسْهِمُ لِوَاحِدٍ، وَلِهَذَا لَا يُسْهِمُ لِثَلَاثَةِ أَفْرَاسٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
قَوْلُهُ وَلَا يُسْهَمُ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ) وَاضِحٌ. حَاصِلُ الدَّلِيلَيْنِ وُقُوعُ التَّعَارُضِ بَيْنَ رِوَايَتَيْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالرُّجُوعُ إلَى مَا بَعْدَهُمَا وَهُوَ الْقِيَاسُ بِقَوْلِهِ (وَلِأَنَّ الْقِتَالَ لَا يَتَحَقَّقُ بِفَرَسَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً) فَلَا يَكُونُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الدَّرْبِ مُفْضِيًا إلَى زِيَادَةِ الْغِنَاءِ بِالْقِتَالِ عَلَيْهِمَا فَيُسْهَمُ لِوَاحِدٍ وَلِهَذَا لَا يُسْهَمُ لِثَلَاثَةِ أَفْرَاسٍ.

(5/496)


وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْفِيلِ كَمَا أَعْطَى سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ سَهْمَيْنِ وَهُوَ رَاجِلٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقَوْلُهُ (وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْفِيلِ إلَخْ) اسْتِظْهَارٌ فِي تَقْوِيَةِ الدَّلِيلِ لِأَنَّ مَا رَوَاهُ لَمَّا سَقَطَ بِالْمُعَارَضَةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى

(5/497)


(وَالْبَرَاذِينُ وَالْعَتَاقُ سَوَاءٌ) لِأَنَّ الْإِرْهَابَ مُضَافٌ إلَى جِنْسِ الْخَيْلِ فِي الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] وَاسْمُ الْخَيْلِ يَنْطَلِقُ عَلَى الْبَرَاذِينِ وَالْعِرَابِ وَالْهَجِينِ وَالْمَقْرِفِ إطْلَاقًا وَاحِدًا، وَلِأَنَّ الْعَرَبِيَّ إنْ كَانَ فِي الطَّلَبِ وَالْهَرَبِ أَقْوَى فَالْبِرْذَوْنُ أَصَبْرُ وَأَلْيَنُ عَطْفًا، فَفِي كُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمَا مَنْفَعَةٌ مُعْتَبَرَةٌ فَاسْتَوَيَا.
(وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا فَنَفَقَ فَرَسُهُ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ، وَمَنْ دَخَلَ رَاجِلًا فَاشْتَرَى فَرَسًا اسْتَحَقَّ سَهْمَ رَاجِلٍ) وَجَوَابُ الشَّافِعِيِّ عَلَى عَكْسِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
جَوَابٍ عَنْهُ أَوْ تَأْوِيلٍ لَهُ (وَالْبَرَاذِينُ وَالْعَتَاقُ سَوَاءٌ) الْبَرَاذِينُ جَمْعُ بِرْذَوْنٍ وَهُوَ فَرَسُ الْعَجَمِ، وَالْعَتَاقُ الْكَرَائِمُ. يُقَالُ عَتَاقُ الْخَيْلِ وَالطَّيْرِ لِكَرَائِمِهِمَا، وَالْعِرَابُ خِلَافُ فَرَسِ الْعَجَمِ. وَالْهَجِينُ مَا يَكُونُ أَبُوهُ مِنْ الْكَوَادِنِ وَأُمُّهُ عَرَبِيَّةً، وَالْكَوْدَنُ الْبِرْذَوْنُ وَيُشْبِهُ بِهِ الْبَلِيدُ، وَالْمَقْرِفُ عَكْسُ الْهَجِينِ، وَإِنَّمَا تَصَدَّى لِذِكْرِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْبِرْذَوْنِ وَالْعَتَاقِ لِأَنَّ أَهْلَ الشَّامِ يَقُولَانِ لَا يُسْهَمُ لِلْبَرَاذِينِ وَرَوَوْا فِيهِ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاذًّا، وَحُجَّتُنَا مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ (أَلْيَنَ عَطْفًا) بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَكَسْرِهَا، فَمَعْنَى الْفَتْحِ الْإِمَالَةُ، وَمَعْنَى الْكَسْرِ الْجَانِبُ.
قَالَ (وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا) هَذَا الْبَيَانُ وَقْتَ إقَامَةِ السَّبَبِ الظَّاهِرِ مَقَامَ مَا يُوجِبُ زِيَادَةَ السَّهْمِ وَهُوَ

(5/498)


وَهَكَذَا رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَنَا حَالَةُ الْمُجَاوَزَةِ، وَعِنْدَهُ حَالَةُ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ لَهُ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْقَهْرُ وَالْقِتَالُ فَيُعْتَبَرُ حَالُ الشَّخْصِ عِنْدَهُ وَالْمُجَاوَزَةُ وَسِيلَةٌ إلَى السَّبَبِ كَالْخُرُوجِ مِنْ الْبَيْتِ، وَتَعْلِيقِ الْأَحْكَامِ بِالْقِتَالِ يَدُلُّ عَلَى إمْكَانِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَعَذَّرَ أَوْ تَعَسَّرَ تَعَلَّقَ بِشُهُودِ الْوَقْعَةِ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْقِتَالِ.
وَلَنَا أَنَّ الْمُجَاوَزَةَ نَفْسَهَا قِتَالٌ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُمْ الْخَوْفُ بِهَا وَالْحَالُ بَعْدَهَا حَالَةُ الدَّوَامِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقْتُ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ عِنْدَنَا. وَقَوْلُهُ (وَهَكَذَا) أَيْ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (رَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْفَصْلِ الثَّانِي) يَعْنِي مَا إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ رَاجِلًا ثُمَّ اشْتَرَى فَرَسًا وَقَاتَلَ فَارِسًا، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ (وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَنَا فِي وَقْتِ إقَامَةِ السَّبَبِ مَقَامَ ذَلِكَ حَالَةَ الْمُجَاوَزَةِ) أَيْ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ. قَالَ الْخَلِيلُ: الدَّرْبُ الْبَابُ الْوَاسِعُ عَلَى السِّكَّةِ وَعَلَى كُلِّ مَدْخَلٍ مِنْ مَدَاخِلِ الرُّومِ دَرْبٌ مِنْ دُرُوبِهَا، لَكِنْ الْمُرَادُ بِالدَّرْبِ هَاهُنَا هُوَ الْبَرْزَخُ الْحَاجِزُ بَيْنَ الدَّارَيْنِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ، حَتَّى لَوْ جَاوَزْت الدَّرْبَ دَخَلْت فِي حَدِّ دَارِ الْحَرْبِ، وَلَوْ جَاوَزَ أَهْلُ دَارِ الْحَرْبِ الدَّرْبَ دَخَلُوا فِي حَدِّ دَارِ الْإِسْلَامِ (وَعِنْدَهُ حَالَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ) أَيْ تَمَامُهَا وَهَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْهُ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ مُجَرَّدَ شُهُودِ الْوَقْعَةِ، وَدَلِيلُهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ الْمُصَنِّفُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ حَالَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ إلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَبِالدَّلِيلِ إلَى الْأُخْرَى لِأَنَّ قَوْلَهُ (يُعْتَبَرُ حَالُ الشَّخْصِ عِنْدَهُ) أَيْ عِنْدَ الْقِتَالِ إشَارَةٌ إلَى حَالِ شُهُودِ الْوَقْعَةِ لَا إلَى حَالِ انْقِضَائِهَا. وَقَوْلُهُ (وَالْمُجَاوَزَةُ وَسِيلَةٌ) رَدٌّ لِمَذْهَبِنَا. وَقَوْلُهُ (كَالْخُرُوجِ مِنْ مَبِيتٍ) يَعْنِي لِلْقِتَالِ، فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى السَّبَبِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي اعْتِبَارِ حَالِ الْغَازِي مِنْ كَوْنِهِ رَاجِلًا أَوْ فَارِسًا، وَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْوَسِيلَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَتَعْلِيقُ الْأَحْكَامِ) جَوَابٌ عَمَّا سَنَذْكُرُ فِي تَعْلِيلِنَا أَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ مُتَعَسِّرٌ. وَبَيَانُهُ أَنَّ الْأَحْكَامَ تَعَلَّقَتْ بِوُجُودِ الْقِتَالِ حَقِيقَةً كَإِعْطَاءِ الرَّضْخِ لِلصَّبِيِّ إذَا قَاتَلَ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَالْعَبْدُ وَالذِّمِّيُّ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مُتَعَسِّرًا لَمَا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا عُسْرَهُ لَكِنْ يَجِبُ تَعَلُّقُ حُكْمِ كَوْنِهِ رَاجِلًا أَوْ فَارِسًا بِحَالَةٍ هِيَ أَقْرَبُ إلَى الْقِتَالِ وَهِيَ شُهُودُ الْوَقْعَةِ لَا مُجَاوَزَةُ الدَّرْبِ (وَلَنَا أَنَّ الْمُجَاوَزَةَ نَفْسَهَا قِتَالٌ) لِأَنَّ الْقِتَالَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَقَعُ بِهِ لِلْعَدُوِّ خَوْفٌ، وَمُجَاوَزَةُ الدَّرْبِ قَهْرًا، وَشَوْكَةٌ تَحْصُلُ لَهُمْ الْخَوْفُ فَكَانَ قِتَالًا. وَإِذَا وُجِدَ أَصْلُ الْقِتَالِ فَارِسًا لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُهُ بِتَغَيُّرِ أَحْوَالِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ (حَالَةُ دَوَامِ الْقِتَالِ

(5/499)


وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا؛ وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ مُتَعَسِّرٌ؛ وَكَذَا عَلَى شُهُودِ الْوَقْعَةِ لِأَنَّ حَالَ الْتِقَاءِ الصَّفَّيْنِ فَتُقَامُ الْمُجَاوَزَةُ مَقَامَهُ إذْ هُوَ السَّبَبُ الْمُفْضِي إلَيْهِ ظَاهِرًا إذَا كَانَ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ فَيُعْتَبَرُ حَالُ الشَّخْصِ بِحَالَةِ الْمُجَاوَزَةِ فَارِسًا كَانَ أَوْ رَاجِلًا.
وَلَوْ دَخَلَ فَارِسًا وَقَاتَلَ رَاجِلًا لِضِيقِ الْمَكَانِ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ دَخَلَ فَارِسًا ثُمَّ بَاعَ فَرَسَهُ أَوْ وَهَبَ أَوْ أَجَّرَ أَوْ رَهَنَ فَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ اعْتِبَارًا لِلْمُجَاوَزَةِ.
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الرَّجَّالَةِ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ بِالْمُجَاوَزَةِ الْقِتَالُ فَارِسًا.
وَلَوْ بَاعَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَمْ يَسْقُطْ سَهْمُ الْفُرْسَانِ، وَكَذَا إذَا بَاعَ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ عِنْدَ الْبَعْضِ. وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَسْقُطُ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَرَضَهُ التِّجَارَةُ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ يَنْتَظِرُ عِزَّتَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَا) لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِدَوَامِ الْقِتَالِ لِأَنَّ الْفَارِسَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقَاتِلَ فَارِسًا دَائِمًا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَنْزِلَ فِي بَعْضِ الْمَضَايِقِ خُصُوصًا فِي الْمَشْجَرَةِ أَوْ فِي الْحِصْنِ أَوْ فِي الْبَحْرِ. وَقَوْلُهُ (وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ) وَاضِحٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا.

(5/500)


(وَلَا يُسْهِمُ لِمَمْلُوكٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ وَلَا ذِمِّيٍّ وَلَكِنْ يَرْضَخُ لَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْإِمَامُ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ لَا يُسْهِمُ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ وَكَانَ يَرْضَخُ لَهُمْ» وَلَمَّا اسْتَعَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالْيَهُودِ عَلَى الْيَهُودِ لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ: يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يُسْهِمْ لَهُمْ، وَلِأَنَّ الْجِهَادَ عِبَادَةٌ، وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ عَاجِزَانِ عَنْهُ وَلِهَذَا لَمْ يَلْحَقْهُمَا فَرْضُهُ، وَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُوَلَّى وَلَهُ مَنْعُهُ، إلَّا أَنَّهُ يَرْضَخُ لَهُمْ تَحْرِيضًا عَلَى الْقِتَالِ مَعَ إظْهَارِ انْحِطَاطِ رُتْبَتِهِمْ، وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ لِقِيَامِ الرِّقِّ وَتَوَهُّمِ عَجْزِهِ فَيَمْنَعُهُ الْمُوَلَّى عَنْ الْخُرُوجِ إلَى الْقِتَالِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
قَوْلُهُ (وَتَوَهُّمِ عَجْزِهِ) يَحْتَمِلُ أَنْ يَعْجِزَ الْمُكَاتَبُ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَيَعُودَ إلَى الرِّقِّ، وَحِينَئِذٍ كَانَ لِلْمَوْلَى وِلَايَةُ الْمَنْعِ فَيُمْنَعُ فِي الْحَالِ لِوُجُودِ التَّوَهُّمِ.

(5/501)


ثُمَّ الْعَبْدُ إنَّمَا يَرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ لِأَنَّهُ دَخَلَ لِخِدْمَةِ الْمُوَلَّى فَصَارَ كَالتَّاجِرِ، وَالْمَرْأَةُ يَرْضَخُ لَهَا إذَا كَانَتْ تُدَاوِي الْجَرْحَى، وَتَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى لِأَنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْقِتَالِ فَيُقَامُ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِعَانَةِ مَقَامَ الْقِتَالِ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ، وَالذِّمِّيُّ إنَّمَا يَرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ أَوْ دَلَّ عَلَى الطَّرِيقِ، وَلَمْ يُقَاتِلْ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنَّهُ يُزَادُ عَلَى السَّهْمِ فِي الدَّلَالَةِ إذَا كَانَتْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ السَّهْمَ إذَا قَاتَلَ؛ لِأَنَّهُ جِهَادٌ، وَالْأَوَّلُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ فِي حُكْمِ الْجِهَادِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
قَوْلُهُ لِأَنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْقِتَالِ) ظَاهِرٌ. وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَاجِزَةً لَمَا صَحَّ أَمَانُهَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ مِمَّنْ يُخَافُ مِنْهُ الْقِتَالُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْقِتَالِ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْأَمَانَ صِحَّتُهُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْقُدْرَةِ عَلَى حَقِيقَةِ الْقِتَالِ، بَلْ تَثْبُتُ بِشُبْهَةِ الْقِتَالِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِعَاجِزَةٍ عَنْ شُبْهَةِ الْقِتَالِ بِمَالِهَا وَعَبِيدِهَا، وَأَمَّا السَّهْمُ مِنْ الْغَنِيمَةِ فَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِحَقِيقَةِ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِتَالِ وَهِيَ عَاجِزَةٌ عَنْهَا (وَلَا يَبْلُغُ بِهِ السَّهْمُ إذَا قَاتَلَ لِأَنَّهُ جِهَادٌ) فَلَا يَبْلُغُ بِسَهْمِهِ سَهْمَ الْمُجَاهِدِينَ (وَالْأَوَّلُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ) أَيْ الدَّلَالَةُ لَيْسَتْ مِنْ عَمَلِ الْجِهَادِ فَكَانَتْ عَمَلًا كَسَائِرِ الْأَعْمَالِ فَيَبْلُغُ

(5/502)


(وَأَمَّا الْخُمُسُ فَيُقَسَّمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ: سَهْمٌ لِلْيَتَامَى وَسَهْمٌ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٌ لِابْنِ السَّبِيلِ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ وَيُقَدَّمُونَ، وَلَا يُدْفَعُ إلَى أَغْنِيَائِهِمْ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَهُمْ خُمُسُ الْخُمُسِ يَسْتَوِي فِيهِ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ، وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَيَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
أَجْرُهُ بَالِغًا مَا بَلَغَ.
قَالَ (وَأَمَّا الْخُمُسُ فَيُقْسَمُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ سَهْمٍ لِلْيَتَامَى وَسَهْمٍ لِلْمَسَاكِينِ وَسَهْمٍ لِأَبْنَاءِ السَّبِيلِ يَدْخُلُ فُقَرَاءُ ذَوِي الْقُرْبَى فِيهِمْ) أَيْ فِي الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ أَيْتَامَ ذَوِي الْقُرْبَى يَدْخُلُونَ فِي سَهْمِ الْيَتَامَى وَيُقَدَّمُونَ عَلَيْهِمْ، وَمَسَاكِينُ ذَوِي الْقُرْبَى يَدْخُلُونَ فِي سَهْمِ الْمَسَاكِينِ، وَأَبْنَاءُ السَّبِيلِ مِنْهُمْ يَدْخُلُونَ فِي أَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَسَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ الِاحْتِيَاجُ، غَيْرَ أَنَّ سَبَبَهُ مُخْتَلِفٌ فِي نَفْسِهِ مِنْ الْيُتْمِ وَالْمَسْكَنَةِ وَكَوْنُهُ ابْنَ السَّبِيلِ، ثُمَّ إنَّهُمْ مَصَارِفُ لَا مُسْتَحِقُّونَ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ صَرَفَ إلَى صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَازَ عِنْدَنَا كَمَا فِي الصَّدَقَاتِ (وَلَا يَدْفَعُ إلَى أَغْنِيَائِهِمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَهُمْ خُمُسُ الْخُمُسِ يَسْتَوِي فِيهِ غَنِيُّهُمْ وَفَقِيرُهُمْ، وَيُقْسَمُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَيَكُونُ لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ دُونَ غَيْرِهِمْ) مِنْ بَنِي عَبْدَ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ

(5/503)


لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ.
وَلَنَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ الرَّاشِدِينَ قَسَّمُوهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَاهُ وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ وَأَوْسَاخَهُمْ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ» وَالْعِوَضُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْمُعَوَّضُ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلِذِي الْقُرْبَى} [الأنفال: 41] مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ) فَيَشْتَرِكَانِ (وَلَنَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَسَمُوا الْخُمُسَ عَلَى ثَلَاثَةٍ عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا وَكَفَى بِهِمْ قُدْوَةً) وَلَمْ يُخَالِفْهُمْ أَحَدٌ فَكَانَ إجْمَاعًا. وَقَوْلُهُ (وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصْرَفْ إلَى أَغْنِيَائِهِمْ شَيْءٌ لِأَنَّهُ قَالَ «يَا بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ وَأَوْسَاخَهُمْ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا بِخُمُسِ الْخُمُسِ» وَالْعِوَضُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ الْمُعَوَّضُ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ) يَعْنِي أَنَّ الْمُعَوَّضَ وَهُوَ الزَّكَاةُ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى الْأَغْنِيَاءِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ عِوَضَ الزَّكَاةِ وَهُوَ خُمُسُ

(5/504)


وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَّلَ فَقَالَ: «إنَّهُمْ لَنْ يَزَالُوا مَعِي هَكَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ النَّصْرِ قُرْبُ النُّصْرَةِ لَا قُرْبُ الْقَرَابَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
الْغَنَائِمِ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِمْ لِأَنَّ الْعِوَضَ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ فَاتَ عَنْهُ الْمُعَوَّضُ وَإِلَّا لَا يَكُونُ عِوَضًا لِذَلِكَ الْمُعَوَّضِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدِيثُ إمَّا أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا صَحِيحًا أَوْ لَا، فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلَ وَجَبَ أَنْ يَقْسِمَ الْخُمُسَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَأَنْتُمْ تَقْسِمُونَهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَهُوَ مُخَالَفَةٌ مِنْكُمْ لِلْحَدِيثِ الثَّابِتِ الصَّحِيحِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِيَ لَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِهِ؟ أُجِيبَ بِأَنَّ لِهَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا إثْبَاتُ الْعِوَضِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي فَاتَ عَنْهُ الْمُعَوَّضُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَالثَّانِيَةُ جَعْلُهُ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ، وَلَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى انْتِفَاءِ الْخُمُسِ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَهُوَ فِعْلُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ عَلَى تَغْيِيرِ الْعِوَضِ مِمَّنْ فَاتَ عَنْهُ الْمُعَوَّضُ فَقُلْنَا بِهِ، كَمَا تَمَسَّكَ الْخَصْمُ عَلَى تَكْرَارِ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ بِمَا رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى حَمْزَةَ سَبْعِينَ صَلَاةً» وَهُوَ لَا يَقُولُ بِالصَّلَاةِ عَلَى الشَّهِيدِ، وَلَكِنْ يَقُولُ لِلْحَدِيثِ دَلَالَتَانِ، فَإِحْدَاهُمَا بَاقِيَةٌ وَإِنْ انْتَفَتْ الْأُخْرَى. فَإِنْ قِيلَ: لَوْ كَانَ مَا ذَكَرْتُمْ صَحِيحًا بِجَمِيعِ مُقَدِّمَاتِهِ لَمَا أَعْطَاهُمْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ. أَجَابَ بِقَوْلِهِ (وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَّلَ فَقَالَ: «إنَّهُمْ لَنْ يَزَالُوا مَعِي هَكَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» ) وَقِصَّتُهُ مَا رُوِيَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ قَالَ «لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ وَتَرَكَ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، فَانْطَلَقْت أَنَا وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ حَتَّى أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَؤُلَاءِ بَنُو هَاشِمٍ لَا نُنْكِرُ فَضْلَهُمْ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَك اللَّهُ بِهِ فِيهِمْ، فَمَا بَالُ إخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتهمْ وَتَرَكْتنَا وَقَرَابَتُنَا وَاحِدَةٌ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَنَا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَأَشَارَ إلَى نُصْرَتِهِمْ» وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ (دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّصِّ) أَعْنِي قَوْلَهُ وَلِذِي الْقُرْبَى (قُرْبُ النُّصْرَةِ لَا قُرْبُ الْقَرَابَةِ) وَالْمُرَادُ بِالنُّصْرَةِ نُصْرَةُ الِاجْتِمَاعِ فِي الشُّعَبِ لَا نُصْرَةُ الْقِتَالِ، يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ:

(5/505)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
«لَا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ» وَلِهَذَا يَصْرِفُ لِلنِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ لَا لِلْقَرَابَةِ وَقَدْ انْتَهَتْ النُّصُرَاتُ انْتَهَى الْإِعْطَاءُ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَنْتَهِي بِانْتِهَاءِ عِلَّتِهِ.

(5/506)


قَالَ (فَأَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْخُمُسِ فَإِنَّهُ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ تَبَرُّكًا بِاسْمِهِ، وَسَهْمُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَقَطَ بِمَوْتِهِ كَمَا سَقَطَ الصَّفِيُّ) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِرِسَالَتِهِ وَلَا رَسُولَ بَعْدَهُ وَالصَّفِيُّ شَيْءٌ كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ مِثْلَ دِرْعٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ جَارِيَةٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
قَالَ (فَأَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْخُمُسِ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ وَجْهِ سُقُوطِ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى بَيَّنَ وَجْهَ سُقُوطِ مَا سِوَى الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي النَّصِّ فَقَالَ: فَأَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْخُمُسِ يَعْنِي قَوْله تَعَالَى {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] (فَإِنَّهُ لِافْتِتَاحِ الْكَلَامِ تَبَرُّكًا بِذِكْرِهِ، وَسَهْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَقَطَ بِمَوْتِهِ كَمَا سَقَطَ الصَّفِيُّ) بِالْإِجْمَاعِ (لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِرِسَالَتِهِ) لِأَنَّ الْحُكْمَ مَتَى تَرَتَّبَ عَلَى الْمُشْتَقِّ فَيَكُونُ الْمُشْتَقُّ مِنْهُ عِلَّةً (وَلَا رَسُولَ بَعْدَهُ. وَالصَّفِيُّ شَيْءٌ كَانَ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ دِرْعٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ جَارِيَةٍ) اصْطَفَى ذَا الْفَقَارِ مِنْ غَنَائِمِ بَدْرٍ، وَاصْطَفَى

(5/507)


وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُصْرَفُ سَهْمُ الرَّسُولِ إلَى الْخَلِيفَةِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ (وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنُّصْرَةِ) لِمَا رَوَيْنَا.
قَالَ (وَبَعْدَهُ بِالْفَقْرِ) قَالَ الْعَبْدُ الضَّعِيفُ عَصَمَهُ اللَّهُ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ.
وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ: سَهْمُ الْفَقِيرِ مِنْهُمْ سَاقِطٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْإِجْمَاعِ، وَلِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ نَظَرًا إلَى الْمَصْرِفِ فَيُحَرِّمُهُ كَمَا حَرَّمَ الْعِمَالَةَ.
وَجْهُ الْأَوَّلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
صَفِيَّةَ مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يُصْرَفُ سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْخَلِيفَةِ، وَالْحُجَّةُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ) أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِقُّهُ بِرِسَالَتِهِ (وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنُّصْرَةِ لِمَا رَوَيْنَا) أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهُمْ لِلنُّصْرَةِ. لَا يُقَالُ: قَوْلُهُ وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى وَقَعَ مُكَرَّرًا حُكْمًا وَتَعْلِيلًا. لِأَنَّا نَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ أَوَّلًا كَانَ فِي حَيِّزِ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْقِسْمَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ، وَهَذَا نَقْلٌ لِكَلَامِ صَاحِبِ الْقُدُورِيِّ. قَالَ: أَيْ الْقُدُورِيُّ (وَبَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (بِالْفَقْرِ) قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَهَذَا) أَيْ اسْتِحْقَاقُهُمْ بِالْفَقْرِ (قَوْلُ الْكَرْخِيِّ: وَقَالَ الطَّحَاوِيُّ سَهْمُ الْفَقِيرِ مِنْهُمْ سَاقِطٌ أَيْضًا لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْإِجْمَاعِ) يَعْنِي قَوْلَهُ: وَلَنَا أَنَّ الْخُلَفَاءَ الْأَرْبَعَةَ الرَّاشِدِينَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَسَمُوهُ عَلَى ثَلَاثَةٍ، وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِمْ النَّصُّ أَوْ مَنَعُوا حَقَّ ذَوِي الْقُرْبَى فَكَانَ إجْمَاعُهُمْ دَالًّا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ اسْتِحْقَاقٌ لِأَغْنِيَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ. وَمَنَعَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْإِجْمَاعَ، وَسَنَدُهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قَالَ: كَانَ رَأْيُ عَلِيٍّ فِي الْخُمُسِ رَأْيَ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنْ كَرِهَ أَنْ يُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَالْإِجْمَاعُ بِدُونِ أَهْلِ الْبَيْتِ لَا يَنْعَقِدُ. وَقُلْنَا: لَا يَحِلُّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَتْرُكَ رَأْيَ نَفْسِهِ بِرَأْيِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ احْتِشَامًا لَهُ، فَإِنْ ثَبَتَ مَا رُوِيَ دَلَّ أَنَّهُ كَرِهَ الْمُخَالَفَةَ لِأَنَّهُ رَأَى الْحُجَّةَ مَعَهُمَا فَقَدْ خَالَفَهُمَا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمَسَائِلِ حِينَ ظَهَرَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ فِيهِ) أَيْ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى (مَعْنَى الصَّدَقَةِ) لِأَنَّ الْهَاشِمِيَّ الَّذِي يُصْرَفُ إلَيْهِ فَقِيرٌ، إذَا لَوْ لَمْ يَكُنْ فَقِيرًا لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَيْهِ بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَصْحَابِنَا، فَلَمَّا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الصَّدَقَةِ حُرِمَ ذَوُو الْقُرْبَى إيَّاهُ كَمَا حُرِمَ الْهَاشِمِيُّ الْعَامِلُ عَلَى الصَّدَقَةِ الْعِمَالَةُ وَهُوَ مَا يُعْطَى عَلَى عَمَلِهِ، وَقَدْ مَرَّ فِي بَابِ الزَّكَاةِ، وَهَذَا الدَّلِيلُ إنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى أَصْحَابِنَا فَهُوَ تَامٌّ، وَإِنْ كَانَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَيْسَ بِذَاكَ، لِأَنَّ كَوْنَ الْمَصْرِفِ فَقِيرًا لَيْسَ إلَّا فِي حَيِّزِ النِّزَاعِ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ (وَجْهُ الْأَوَّلِ) يَعْنِي قَوْلَ الْكَرْخِيِّ،

(5/508)


وَقِيلَ هُوَ الْأَصَحُّ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْطَى الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ، وَالْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْأَغْنِيَاءِ، أَمَّا فُقَرَاؤُهُمْ فَيَدْخُلُونَ فِي الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ.
(وَإِذَا دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ دَارَ الْحَرْبِ مُغِيرَيْنِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَأَخَذُوا شَيْئًا لَمْ يُخَمَّسْ) لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ هُوَ الْمَأْخُوذُ قَهْرًا وَغَلَبَةً لَا اخْتِلَاسًا وَسَرِقَةً، وَالْخُمُسُ وَظِيفَتُهَا، وَلَوْ دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُخَمَّسُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَذِنَ لَهُمْ الْإِمَامُ فَقَدْ الْتَزَمَ نُصْرَتَهُمْ بِالْإِمْدَادِ فَصَارَ كَالْمَنَعَةِ (فَإِنْ دَخَلَتْ جَمَاعَةٌ لَهَا مَنَعَةٌ فَأَخَذُوا شَيْئًا خُمِّسَ وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ الْإِمَامُ) لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ قَهْرًا وَغَلَبَةً فَكَانَ غَنِيمَةً، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ إذْ لَوْ خَذَلَهُمْ كَانَ فِيهِ وَهْنُ الْمُسْلِمِينَ، بِخِلَافِ الْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ نُصْرَتُهُمْ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقِيلَ هُوَ الْأَصَحُّ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْطَى الْفُقَرَاءَ مِنْهُمْ، وَالْإِجْمَاعُ انْعَقَدَ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْأَغْنِيَاءِ) يَعْنِي إجْمَاعَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ الرَّاشِدِينَ كَمَا مَرَّ (أَمَّا فُقَرَاؤُهُمْ فَيَدْخُلُونَ فِي الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَحْثِ، وَكَرَّرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لِلْإِيضَاحِ، وَإِنَّمَا قَالَ: وَقِيلَ هُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَبْسُوطِ اخْتَارَ قَوْلَ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ أَنَّ الْفُقَرَاءَ لَمْ يَكُونُوا مُسْتَحِقِّينَ، وَإِنَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْرِفُ إلَيْهِمْ مُجَازَاةً عَلَى النُّصْرَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهُمْ، وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ مُخْتَارُ الْقُدُورِيِّ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ قَوْلُهُ: وَسَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى كَانُوا يَسْتَحِقُّونَهُ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنُّصْرَةِ.
وَقَوْلُهُ (وَإِذَا دَخَلَ الْوَاحِدُ أَوْ الِاثْنَانِ) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُخَمَّسُ) ظَاهِرٌ. وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْعَدَدَ الْيَسِيرَ إنَّمَا يَدْخُلُونَ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ لَا لِإِعْزَازِ الدِّينِ، فَصَارَ كَتَاجِرٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ. فَإِنْ قُلْت: قَوْله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] مُطْلَقٌ فَيَجِبُ الْخُمُسُ وُجِدَ الْإِذْنُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ. أُجِيبَ بِأَنَّ الْغَنِيمَةَ اسْمٌ لِمَا هُوَ الْمَأْخُوذُ قَهْرًا وَغَلَبَةً وَمَا أَخَذَهُ اللِّصُّ سَرِقَةً وَمَا أَخَذَهُ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ خِلْسَةً فَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْغَنِيمَةِ. وَقَوْلُهُ (وَإِنْ دَخَلَ جَمَاعَةٌ لَهَا مَنَعَةٌ) الْمَنَعَةُ السَّرِيَّةُ. نَقَلَ النَّاطِفِيُّ عَنْ كِتَابِ الْخَرَاجِ لِابْنِ شُجَاعٍ: كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: إذَا دَخَلَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ فَغَنِمَ وَلَا عَسْكَرَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ لِلْمُسْلِمِينَ لَا يُخَمَّسُ مَا أَخَذَهُ حَتَّى يَصِيرُوا تِسْعَةً، فَإِذَا بَلَغُوا ذَلِكَ فَهُمْ سَرِيَّةٌ (قَوْلُهُ إذَا لَوْ خَذَلَهُمْ) أَيْ تَرَكَ عَوْنَهُمْ (كَانَ فِيهِ وَهَنُ الْمُسْلِمِينَ) أَيْ ضَعْفُهُمْ.

(5/509)


(فَصْلٌ فِي التَّنْفِيلِ) قَالَ (وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُنَفِّلَ الْإِمَامُ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَيُحَرِّضَ بِهِ عَلَى الْقِتَالِ فَيَقُولَ " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ " وَيَقُولَ لِلسَّرِيَّةِ قَدْ جَعَلْت لَكُمْ الرُّبُعَ بَعْدَ الْخُمُسِ) مَعْنَاهُ بَعْدَمَا رَفَعَ الْخُمُسَ لِأَنَّ التَّحْرِيضَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
[فَصْلٌ فِي التَّنْفِيلِ]
التَّنْفِيلُ نَوْعٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْغَنَائِمِ، فَفُصِلَ عَمَّا قَبْلَهُ بِفَصْلٍ، يُقَالُ نَفَلَ الْإِمَامُ الْغَازِيَ. أَيْ أَعْطَاهُ زَائِدًا عَلَى سَهْمِهِ بِقَوْلِهِ «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» (قَوْلُهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْفُلَ الْإِمَامُ) يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: كَلِمَةُ لَا بَأْسَ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا يَكُونُ تَرْكُهُ أَوْلَى لَيْسَ بِمُجْرًى عَلَى عُمُومِهِ، فَإِنَّ التَّنْفِيلَ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّهُ تَحْرِيضٌ وَالتَّحْرِيضُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] فَإِنْ قِيلَ: الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لِلْوُجُوبِ فَمَا الصَّارِفُ عَنْهُ إلَى الِاسْتِحْبَابِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ يُعَارِضُهُ دَلِيلُ قِسْمَةِ الْغَنَائِمِ فَانْصَرَفَ إلَى الِاسْتِحْبَابِ (قَوْلُهُ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا) تَسْمِيَةُ الشَّيْءِ بِاسْمِ مَا يَئُولُ إلَيْهِ

(5/510)


{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال: 65] وَهَذَا نَوْعُ تَحْرِيضٍ، ثُمَّ قَدْ يَكُونُ التَّنْفِيلُ بِمَا ذَكَرَ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ بِكُلِّ الْمَأْخُوذِ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْكُلِّ، فَإِنْ فَعَلَهُ مَعَ السَّرِيَّةِ جَازَ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ إلَيْهِ وَقَدْ يَكُونُ الْمَصْلَحَةُ فِيهِ (وَلَا يُنَفِّلُ بَعْدَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ) لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ قَدْ تَأَكَّدَ فِيهِ بِالْإِحْرَازِ. قَالَ (إلَّا مِنْ الْخُمُسِ) لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْغَانِمِينَ فِي الْخُمُسِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
قَوْلُهُ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ التَّنْفِيلُ بِمَا ذُكِرَ) يَعْنِي التَّنْفِيلَ بِالسَّلْبِ (وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِهِ) نَحْوَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَوْمَ بَدْرٍ بِسَيْفِ أَبِي جَهْلٍ وَكَانَ عَلَيْهِ فِضَّةٌ» (وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفُلَ بِكُلِّ الْمَأْخُوذِ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الْكُلِّ، وَإِنْ فَعَلَهُ مَعَ السَّرِيَّةِ جَازَ) لِمَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ: إذَا قَالَ الْإِمَامُ لِلْعَسْكَرِ جَمِيعًا مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ نَفْلًا بِالسَّوِيَّةِ بَعْدَ الْخُمُسِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّنْفِيلِ التَّحْرِيضُ عَلَى الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا خَصَّ الْبَعْضَ بِالتَّنْفِيلِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ مَا أَصَبْتُمْ فَهُوَ لَكُمْ، وَلَمْ يَقُلْ بَعْدَ الْخُمُسِ لِأَنَّ فِيهِ إبْطَالَ الْخُمُسِ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْغَنِيمَةِ وَإِبْطَالَ حَقِّ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ: وَقَوْلُهُ (لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْغَانِمِينَ فِي الْخُمُسِ) فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغَانِمِينَ فَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْأَصْنَافِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ جَوَازَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُنْفَلَ لَهُ جُعِلَ وَاحِدًا مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ فَلَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ إبْطَالُ حَقِّهِمْ إذْ يَجُوزُ صَرْفُ الْخُمُسِ عَلَى أَحَدِ الْأَصْنَافِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ مَصَارِفُ لَا مُسْتَحِقُّونَ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُنْفَلُ لَهُ الَّذِي جُعِلَ وَاحِدًا مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّلَاثَةِ فَقِيرًا لِأَنَّ الْخُمُسَ حَقُّ الْمُحْتَاجِينَ لَا حَقُّ الْأَغْنِيَاءِ فَجَعْلُهُ لِلْغَنِيِّ إبْطَالُ حَقِّ الْمُحْتَاجِينَ

(5/511)


(وَإِذَا لَمْ يَجْعَلْ السَّلْبَ لِلْقَاتِلِ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، وَالْقَاتِلُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: السَّلْبُ لِلْقَاتِلِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُسْهِمَ لَهُ وَقَدْ قَتَلَهُ مُقْبِلًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ نَصْبُ شَرْعٍ لِأَنَّهُ بَعَثَهُ لَهُ، وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ مُقْبِلًا أَكْثَرَ غِنَاءً فَيَخْتَصُّ بِسَلَبِهِ إظْهَارًا لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. وَلَنَا أَنَّهُ مَأْخُوذٌ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ فَيَكُونُ غَنِيمَةً فَيُقَسِّمُ الْغَنَائِمَ كَمَا نَطَقَ بِهِ النَّصُّ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِحَبِيبِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ «لَيْسَ لَك مِنْ سَلَبِ قَتِيلِك إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِك» وَمَا رَوَاهُ يَحْتَمِلُ نَصْبَ الشَّرْعِ وَيَحْتَمِلُ التَّنْفِيلَ فَنَحْمِلُهُ عَلَى الثَّانِي لِمَا رَوَيْنَاهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقَوْلُهُ (وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ (وَمَا رَوَاهُ يَحْتَمِلُ نَصْبَ الشَّرِّ وَيَحْتَمِلُ التَّنْفِيلَ) قِيلَ وَهُوَ الظَّاهِرُ لِأَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ نَصْبَ الشَّرْعِ إذَا قَالَ بِالْمَدِينَةِ فِي مَسْجِده وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ ذَلِكَ إلَّا يَوْمَ بَدْرٍ وَحُنَيْنٍ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّحْرِيضِ، وَكَمَا قَالَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَدْ قَالَ «مَنْ أَخَذَ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ» ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّنْفِيلِ فَكَذَلِكَ فِي السَّلَبِ (فَيُحْمَلُ عَلَى الثَّانِي) يَعْنِي عَلَى التَّنْفِيلِ (لِمَا رَوَيْنَا) مِنْ حَدِيثِ حَبِيبِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ دَفْعًا لِلتَّعَارُضِ.

(5/512)


وَزِيَادَةُ الْغِنَاءِ لَا تُعْتَبَرُ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.
(وَالسَّلَبُ مَا عَلَى الْمَقْتُولِ مِنْ ثِيَابِهِ وَسِلَاحِهِ وَمَرْكَبِهِ، وَكَذَا مَا كَانَ عَلَى مَرْكَبِهِ مِنْ السَّرْجِ وَالْآلَةِ، وَكَذَا مَا مَعَهُ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ مَالِهِ فِي حَقِيبَتِهِ أَوْ عَلَى وَسَطِهِ وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَلَيْسَ بِسَلَبٍ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
وَقَوْلُهُ (وَزِيَادَةُ الْغِنَاءِ) جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْقَاتِلَ مُقْبِلًا أَكْثَرُ غِنَاءً (قَوْلُهُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ) إشَارَةٌ إلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ مِقْدَارِ الزِّيَادَةِ، أَوْ مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْكَرَّ وَالْفَرَّ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فِي فَصْلِ كَيْفِيَّةِ الْقِسْمَةِ

(5/514)


وَمَا كَانَ مَعَ غُلَامِهِ عَلَى دَابَّةٍ أُخْرَى فَلَيْسَ بِسَلَبِهِ، ثُمَّ حُكْمُ التَّنْفِيلِ قَطَعَ حَقَّ الْبَاقِينَ، فَأَمَّا الْمِلْكُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ، حَتَّى لَوْ قَالَ الْإِمَامُ مَنْ أَصَابَ جَارِيَةً فَهِيَ لَهُ فَأَصَابَهَا مُسْلِمٌ وَاسْتَبْرَأَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا، وَكَذَا لَا يَبِيعُهَا. وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لَهُ أَنْ يَطَأَهَا وَيَبِيعَهَا، لِأَنَّ التَّنْفِيلَ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَهُ كَمَا يَثْبُتُ بِالْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبِالشِّرَاءِ مِنْ الْحَرْبِيِّ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ قَدْ قِيلَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
قَوْلُهُ لِمَا مَرَّ مِنْ قَبْلُ) إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ فِي بَابِ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتِهَا بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ إثْبَاتُ الْيَدِ الْحَافِظَةِ وَالنَّافِلَةِ فَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ تَثْبُتْ النَّافِلَةُ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِيلَاءُ، وَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِيلَاءُ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ. وَقَوْلُهُ (لِأَنَّ التَّنْفِيلَ يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ عِنْدَهُ) دَلِيلُهُ أَنَّ الْمَدَدَ لَا يُشَارِكُونَهُ فِيهَا (كَمَا يَثْبُتُ بِالْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ) وَهُوَ لَيْسَ بِمُتَّفَقٍ عَلَيْهِ لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ قِسْمَةُ الْإِمَامِ لَا تَعْدَمُ الْمَانِعَ مِنْ تَمَامِ الْقَهْرِ وَهُوَ كَوْنُهُمْ مَقْهُورِينَ دَارًا وَكَأَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ لِعَدَمِ شُهْرَتِهِ. وَقَوْلُهُ (وَوُجُوبُ الضَّمَانِ) مُرَاعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ. وَقَوْلُهُ (قَدْ قِيلَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ) خَبَرُهُ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: وَقَدْ قِيلَ بِالْوَاوِ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى قَوْلِهِ الْمِلْكُ: أَيْ يَثْبُتُ الْمِلْكُ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ لِلْمُنْفَلِ لَهُ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ مِنْ الْغُزَاةِ سَلَبَهُ الَّذِي أَصَابَهُ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ دَفْعًا لِشُبْهَةٍ تَرِدُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْمُتْلِفَ لِسَلَبِ مَنْ نَفَلَهُ الْإِمَامُ يَضْمَنُ لِأَنَّ

(5/515)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[العناية]
الْحَقَّ مُتَأَكَّدٌ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ الْخِلَافَ، فَوَرَدَ الضَّمَانُ شُبْهَةً عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الضَّمَانَ دَلِيلُ تَمَامِ الْمِلْكِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ الْوَطْءُ عَلَى مَذْهَبِهِمَا أَيْضًا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ، فَقَالَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ إنَّهُ أَيْضًا عَلَى الِاخْتِلَافِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَضْمَنُ. وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(5/516)