الغرة
المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة مقدمة
المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الحمد لله على آلائه، والشكر له على جزيل عطائه، وأفضل الصلاة والسلام على
سيد أصفيائه، محمد أفضل الخليقة وخاتم أنبيائه، وعلى آله وأصحابه وأوليائه.
وبعد: فقد أشار إلى من طاعته قرض يلزمني أداؤه، وامتثاله فرض يجب عليّ
قضاؤه. وهو الأمير الفاضل والكريم الباذل، مفخر الأمراء، كهف الفقراء، ذو
الأخلاق المرضية، والأوصاف السنية، ولي الأيادي والنعم، صاحب السيف والقلم،
المتعيّن بين أمثاله بمحبة العلم كالعلم، الأمير الكبير صرغتمش الملكي
الناصري، نور الله بالعلوم النافعة بصيرته، وحسن سيرته وسريرته، وأدام عليه
نعمته وبهجته، وحرس من الآفات مهجته، وأبقاه في خير وعافية لأهله ومحبيه،
ويبلغه من خيري الدنيا والآخرة ما يؤمله ويرتجيه، أن أترجم بالعربية كتاب
الطريقة البهائية، الذي صنفه الإمام فخر الدين للسلطان المرحوم بهاء الدين
بالفارسية، وأزيد عليه دلائل وأجوبة من جانب الإمام الأعظم أبي حنيفة رضي
الله عنه وأرضاه وجعل الجنة مثواه. فبادرت إلى امتثال أمره بالجد والهناء
فجاء بحمد الله كما يرتضيه العلماء، ويثني عليه الفضلاء، وسميته "بالغرة
المنيفة في تحقيق بعض مسائل الإمام أبي حنيفة" والله المستعان وعليه
التكلان.
(1/13)
كتاب الطهارة
مسألة: يجوز إزالة النجاسة من البدن والثوب بكل مائع طاهر يمكن إزالتها به
كالخل وماء الورد عند أبي حنيفة رضي الله عنه وهو إحدى الروايتين عن أبي
يوسف رحمه الله، وقال: الشافعي رضي الله عنه: لا يجوز إلا بالماء، وهو قول
محمد رحمه الله. [حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه:
الأول: ما روى مجاهد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "ما كان لإحدانا
إلا ثوب تحيض فيه فإذا أصابه شيء من دم قالت بريقها فمصعته بظفرها، والمصع:
الحك بالظفر لاستخراج الدم فإذا زالت النجاسة بالريق فبالخل وماء الورد
أولى. أخرجه البخاري، وفي رواية الترمذي: "فإن أصابه شيء من دم بلته بريقها
ثم قصعته، والقصع: هو الدلك".
الثاني: قوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} 1. فإنه مطلق فمن قيد بالماء
فقد زاد على النص من غير دليل.
الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع
مرات" أمر بالغسل مطلقا فيجري على إطلاقه، والغسل غير مختص بالماء، قال:
الشاعر:
فيا حسنها إذ يغسل الدمع كحلها
الرابع: ما رواه أبو داود عن بكار بن يحيى قال: "حدثتني جدتي،
__________
1سورة المدثر: الآية 4.
(1/15)
قالت: دخلت على أم سلمة رضي الله عنها زوج
النبي صلى الله عليه وسلم فسألتها امرأة من قريش عن الصلاة في ثوب الحائض،
فقالت: قد كان يصيبنا الحيض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلبث
إحدانا أيام حيضها ثم تطهر فتنظر الثوب الذي كانت تلتف فيه فإن أصابه دم
غسلناه وصلينا فيه وإن لم يكن أصابه شيء تركناه ولم يمنعنا ذلك أن نصلي
فيه. فقول أم سلمة غسلنا مطلق غير مقيد بالماء فيجرى على إطلاقه كما مر.
الخامس: دلالة النص وهو أنه لما زالت النجاسة بالماء فبالخل وماء الورد
أولى، لأن تأثير الخل في قلع النجاسة أكثر لأنه قال: ع للأثر وماء الورد
مذهب للرائحة الكريهة.
السادس: القياس وهو أن المائع قال: ع للنجاسة والطهورية بعلة القلع وإزالة
النجاسة المجاورة إذ الثوب كان طاهرا قبل إصابة النجاسة وإزالة النجاسة كما
تحصل بالماء تحصل بسائر المائعات المزيلة لها فإذا زالت النجاسة بقي الثوب
طاهراً ولهذا لو قطع موضع النجاسة بالمقراض طهر الثوب.
حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغسل ثيابه بالماء ولم ينقل عنه
أنه صلى الله عليه وسلم غسلها بالخل ومتابعته واجبة، لقوله تعالى:
{فَاتَّبِعُوهُ} 1. فلزم على الأمة غسل الثوب بالماء دون الخل.
الجواب عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما غسل الثياب بالماء لكثرته
وسهولة إصابته وقلة الخل وماء الورد فلا يدل على عدم جواز الغسل بغيره إن
لم يمنع عن ذلك بل أمره بالغسل مطلقا كما مر، ونحن نتبعه حيث تجوز إزالة
النجاسة بالماء مع الزيادة وإنما تلزم المخالفة لو منع عن الإزالة بغير
الماء ولم ينقل ذلك.
__________
1 سورة الأنعام: الآية 153.
(1/16)
الثاني: ما أخرجه الترمذي عن أسماء بنت أبي
بكر رضي الله عنها أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الثوب يصيبه
الدم من الحيض فقال: النبي صلى الله عليه وسلم: "حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه
بالماء" قيد غسل الثوب بالماء فلا يجوز بغيره.
الجواب عنه: أن ذكر الماء لا يدل على نفي ما عداه فإن مفهوم اللقب ليس بحجة
بالاتفاق وقد جاز الاستنجاء بغير الأحجار اتفاقاً مع التقييد بالأحجار في
قوله صلى الله عليه وسلم: "فليستنج بثلاثة أحجار" على أن ذكر الماء خرج
مخرج الغالب لا مخرج الشرط والصفة، فإذا خرجت مخرج الغالب لا يقتضي النفي
عما عداها كما في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ}
1. فاسم الجنس أوفى.
الثالث: أن الثوب إذا تنجس يبقى نجساً إلى وجود استعمال المطهر والمطهرية
حكم شرعي فلا يعرف إلا منه ولم يرد في الشرع الأمر إلا بمطهرية الماء قال:
تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} 2. ولم يقل خلا
طهوراً فظهر أنه لا يطهر الثوب إلا الماء.
فالجواب عنه: كما مر من أن ذكر الشيء لا يدل على نفي ما عداه وأن ذكر الماء
خرج مخرج الغالب.
الرابع: أن في غسل النجاسة بالخل وماء الورد إضاعة المال وهو منهي عنه
لقوله صلى الله عليه وسلم: "نهى عن إضاعة المال".
الجواب عنه: إنما كان إضاعة لو استعمل بلا غرض وأي غرض أعظم من حصول
الطهارة إذ لو لم نجوز إزالة النجاسة بالخل وماء الورد تلزم الصلاة مع
النجاسة إذا لم يجد الماء ووجد الخل لأجل إضاعة خل قيمته فليس3 على أنا
نفرض المسألة: في موضع يكون فيه أعز بحيث تكون قيمة
__________
1 سورة النساء: الآية 23.
2 سورة الفرقان: الآية 48.
3 فليس: بضم الفاء، تصغير الفلس.
(1/17)
قدح من الماء ألف قدح من الخل ففي هذه
الصورة لو أوجبنا استعمال الماء كان إضاعة للمال على أن الإضاعة لا تقتضي
عدم حصول الطهارة بعد زوال النجاسة كما في القطع بالمقراض.
الخامس: أنه لو استعمل الخل في إزالة النجاسة يصير حراماً وتحريم الطعام
الطاهر لا يجوز لقوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} 1.
الجواب عنه: أن هذا بعينه وارد في الماء فإنه جاز استعماله وإن كان فيه
تحريم الماء الطاهر، على أنه جاز ذلك لغرض صحيح كما بينا، على أن النص ورد
في تحريم النبي صلى الله عليه وسلم مارية القبطية على نفسه فالمراد من
تحريم النبي صلى الله عليه وسلم غير ما ذكره.
السادس: أن الطهارة عن النجاسة أقوى من الطهارة عن الحدث لأن الأول: ى
حقيقية والثاني: حكمية وبالاتفاق لا يقيد الخل وماء الورد طهارة الحدث فلا
يفيد أيضاً طهارة الخبث.
الجواب عنه: بالفرق بينهما وهو أن النص جعل الماء مطهراً للحدث غير معقول
المعنى لأنه لا نجاسة على الأعضاء عيناً لتزول به فيقتصر على ما ورد به
الشرع وهو الماء بخلاف النجاسة الحقيقية فإن الإزالة ثمة معقولة وهي حاصلة
بالمائعات أيضاً ولم يذكر الإمام لأبي حنيفة إلا القياس.
ثم قال: دلائلنا من النصوص ودليلكم من القياس والنص أولى منه ففي هذا القول
قلة الإنصاف وكثرة الاعتساف فإن الدلائل المذكورة لنا أيضاً من النصوص فإن
لم يعلم بها فهو دليل على عدم إطلاعه على مدارك العلماء فكيف تجزم بأن
دليلنا قياس فقط وإن علم بها ولم يذكرها ترويجا لدلائله الضعيفة فذلك أشنع
فهو كما قيل:
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة ... وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
__________
1 سورة التحريم: الآية 1.
(1/18)
مسألة: الوضوء: يجوز بدون النية عند الإمام
أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، وعند الشافعي رحمه الله لا يجوز بدونهما.
حجة الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه:
الأول: ما رواه مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: يا رسول الله:
"إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة؟ فقال: "لا إنما يكفيك أن
تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين الماء عليك فتطهرين" فما زاد على
الجواب النية وقد علمنا أنه عليه الصلاة والسلام أراد تعليمها صفة الغسل
المجزي فلو كانت النية شرطاً لعلمها.
الثاني: أن الله تعالى: أمر في آية الوضوء بغسل الأعضاء الثلاثة ومسح الرأس
ولم يزد عليها فلو كانت النية شرطاً لذكرها.
الثالث: أنه لو شرطنا النية في الوضوء والغسل يلزم منه الزيادة على الكتاب
بخبر الواحد وهو نسخ فلا يجوز.
الرابع: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين علم الأعرابي أركان الوضوء لم
يذكر فيها النية.
الخامس: أن الماء خلق مطهراً طبعاً فلا يحتاج التطهير إلى النية كما لا
يحتاج في حصول الري به إليها.
حجة الإمام الشافعي رحمه الله من وجوه:
الأول: قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} 1.
فإذا لم يقصد رفع الحدث لا يرتفع عنه.
الجواب عنه: أن رفع الحدث بالماء لا يتوقف على القصد لكونه مطهرا طبعاً.
والمراد بالنص والله أعلم أن ليس للإنسان إلا ثواب ما سعى ونحن
__________
1 سورة النجم:39.
(1/19)
نقول بموجبه فإنه لا يحصل له ثواب الوضوء
بدون النية، إذ الثواب لا يحصل إلا بالقربة ولا يقع قربة إلا بالنية عندنا
أيضاً، ولكنه يقع مفتاحاً للصلاة بدونها.
الثاني: أن الوضوء عبادة لأنه مأمور به وكل مأمور به عبادة محتاج إلى
النية؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} 1. والإخلاص لا يتحقق إلا بالنية فالوضوء لا
يصح إلا بالنية.
الجواب عنه: لا نسلم أن كل عبادة تحتاج إلى النية فإن تطهير الثوب مأمور به
وعبادة بقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} 2. وستر العورة بقوله تعالى:
{خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} 3. أي استروا عورتكم عند كل
صلاة، واستقبال القبلة بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ} 4. وأداء الأمانة بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ
أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} 5. وغير ذلك ومع هذا لا
يشترط لهذه الأشياء النية، على أن العبادة على نوعين: مقصودة لذاتها
كالصلاة وهي لا تصح إلا بالنية، وغير مقصودة لذاتها بل هي وسيلة لغيرها
كالوضوء وغيره من الشرائط فإنه لا يراعى وجودها قصداً فيتحقق بدون النية،
وهذا لأن النص مطلق فيقتضي كون الإخلاص شرطاً في العبادة المطلقة الكاملة.
الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس للمرء من عمله إلا ما نوى" فالوضوء
الذي لا يكون منويا لا يرفع الحدث.
الجواب عنه: أن معنى الحديث "ليس للمرء من ثواب عمله إلا
__________
1 سورة البينة: الآية 5
2 سورة المدثر:4.
3 سورة الأعراف: الآية 31.
4سورة البقرة: الآية 144
5سورة النساء: الآية 58.
(1/20)
ما نوى". ونحن نقول بموجبه، فإن الثواب لا
يحصل له بالوضوء إلا إذا نوى.
الرابع: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا وضوء لمن لم يسم الله عليه" ومعلوم
أن من لم ينو لم يذكر اسم الله عليه فلا يصح وضوءه.
الجواب عنه: أن هذا الحديث لا دلالة له على اشتراط النية، وإنما يدل على
اشترط التسمية والخصم لا يقول به، والنية غير التسمية.
الخامس: إنا اتفقنا على أن الوضوء المنوي أفضل من غيره فالوضوء الذي كان
النبي صلى الله عليه وسلم يفعله ما يكون إلا منويا لأن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يفعل ما هو الأفضل فيجب على الأمة الاتباع، لقوله تعالى:
{فَاتَّبِعُوهُ} 1. فعلم أن النية واجبة في الوضوء.
ثم قال: لا يجب على الأمة المتابعة في جميع الأفعال، وإلا يلزم أن يجوز
للأمة التزوج بالتسع. قلنا: العام المخصوص حجة فيما بقي والمتابعة في ذلك
كان واجباً لولا قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} 2.
الجواب عنه: المتابعة عبارة عن إتيان الفعل على الصفة التي أتى بها النبي
صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أتى بها على سبيل
الندب فيجب علينا إتيانها على تلك الصفة إذ لو وجب علينا لكان مخالفة لا
اتباعاً، فنحن متبعون له والخصم مخالفه في الصفة.
مسألة: الترتيب في الوضوء ليس بشرط عند أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، وعند
الشافعي رحمه الله شرط. حجة الإمام أبي حنيفة رحمه الله من وجوه:
__________
1سورة الأنعام: الآية 153
2 سورة النساء: الآية 3.
(1/21)
الأول: قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا
وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} 1. الآية وجه التمسك أنه تعالى عطف بعض
الأعضاء على البعض بحرف الواو، وهو لمطلق الجمع عند الجمهور دون الترتيب.
الثاني: ما ذكره أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم: تيمم فبدأ بذراعيه
ثم بوجهه. فترك النبي صلى الله عليه وسلم الترتيب في التيمم، فلو كان شرطاً
لما تركه. وإذا لم يكن شرطاً في التيمم لا يكون شرطاً في الوضوء لعدم
القائل بالفصل.
الثالث: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم، نسي مسح الرأس في وضوئه
فتذكره بعد فراغه فمسح ببلل كفه وهو دليل ظاهر على أن الترتيب ليس بشرط.
الرابع: ما رواه الدارقطني عن علي رضي الله عنه أنه قال: "ما أبالي إذا
أتممت وضوئي بأي أعضائي بدأت" وكذلك روى عن ابن مسعود، وبه قال: سعيد بن
المسيب وعطاء والنخعي والثوري رحمهم الله.
الخامس: أن الركن تطهير الأعضاء وذلك حاصل بدون الترتيب ألا ترى أنه لو
انغمس بنية الوضوء أجزأه ولم يوجد الترتيب.
حجة الشافعي رحمه الله من وجوه:
الأول: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} 2. الآية والفاء للتعقيب ويقتضي بداية الوجه عقيب
القيام إلى الصلاة فيثبت الترتيب في الجميع لعدم القائل بالفصل.
الجواب عنه: أن المذكور في الآية كلمتان الفاء والواو وهو لمطلق الجمع كما
مر فكان العمل بهما أولى من ترك العمل بأحدهما فيكون مقتضى الآية إعقاب غسل
جملة الأعضاء من غير اشتراط الترتيب.
الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور
__________
1 سور المائدة: الآية 6.
2سورة المائدة: الآية 6.
(1/22)
مواضعه، فيغسل وجهه، ثم يغسل ذراعيه، ثم
يمسح برأسه، ثم يغسل رجليه، وكلمة ثم للترتيب.
الجواب عنه: أن الحديث ليس بصحيح، ولو صح لحملت كلمة ثم على الواو كما في
قوله تعالى: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} 1. توفيقاً بين هذا الحديث وبين ما
روينا على أنه لو عمل بهذا الحديث يلزم الزيادة على الكتاب بخبر الواحد،
فإنه يقتضي مطلق الجمع والزيادة نسخ فلا يجوز بخبر الواحد.
الثالث: قوله صلى الله عليه وسلم: "ابدؤوا بما بدأ الله تعالى" والله
تعالى: بدأ بالوجه فيكون الترتيب شرطاً.
الجواب عنه: أن الحديث وقع جواباً عن سؤال الصحابة حين اشتبه عليهم أمر
البداية بالصفا والمروة، فقالوا: بماذا نبدأ يا رسول الله فلا تكون كلمة ما
للعموم إذ لو كانت للعموم يلزم أن يكون الترتيب واجباً بين الصلاة والزكاة
لأن الله تعالى بدأ بالصلاة في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ} 2. على أنه لا يمكن حمله على الترتيب لئلا يلزم الزيادة على
الكتاب بخبر الواحد.
مسألة: الخارج النجس من غير السبيلين كالدم، والقيح، والقيء، ملء الفم ينقض
الوضوء عند أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله، وهو مذهب العشرة المبشرين
بالجنة، وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابت وأبي موسى الأشعري وأبي الدرداء
وصدور التابعين كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء والحسن البصري وغيرهم
من جمهور العلماء.
وعند الشافعي رحمه الله، لا ينقض.
__________
1 سورة يونس: الآية 46.
2 سورة البقرة: الآية 43.
(1/23)
حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه:
الأول: ما رواه الدارقطني وابن ماجة عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قاء أحدكم في صلاته أو قلس فلينصرف وليتوضأ
ثم ليبن على صلاته ما لم يتكلم".
الثاني: ما رواه الدارقطني عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "ليس في القطرة والقطرتين وضوء إلا أن يكون سائلاً".
الثالث: عن سلمان رضي الله عنه قال: قال: له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أحدث لما حدث بك وضوءاً".
الرابع: ما أخرجه الدارقطني، عن تميم الداري رضي الله عنه: "الوضوء من كل
دم سائل".
الخامس: عن زيد بن علي عن أبيه عن جده، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "القلس حدث". رواه الخلال.
السادس: عن معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "قاء فتوضأ، فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت له ذلك
فقال: "صدق أنا صببت له وضوءاً". رواه أحمد وقال: الترمذي: حديث حسين
المعلم أصح شيء في الباب.
السابع: ما رواه البيهقي، أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال: "يعاد الوضوء
من سبع من نوم غالب، وقيء ذارع، وتقطار بول، ودم سائل، ودسعة تملأ الفم،
والقهقهة في الصلاة والإغماء".
الثامن: عن علي رضي الله عنه حين عد الأحداث أو دسعة تملأ الفم وعن ابن
عباس رضي الله عنهما "إذا كان القيء يملأ الفم أوجب الوضوء". قال: الخطابي:
أكثر الفقهاء على انتقاض الوضوء بسيلان الدم، وهو أقوى في الاتباع وروى
مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا رعف انصرف وتوضأ،
ثم رجع فبنى ولم يتكلم ولأن المؤثر في انتقاض الطهارة
(1/24)
خروج النجاسة من السبيلين وإليه الإشارة في
قوله عليه الصلاة والسلام:: "فإنهما دم عرق انفجر" وقد وجد ذلك المعنى في
الخارج النجس من غير السبيلين فوجد الانتقاض.
حجة الشافعي رحمه الله من وجوه:
الأول: ما رواه الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم: "احتجم وصلى ولم
يتوضأ ولم يزد على غسل حجامته".
الجواب عنه: أن ما ذكرناه من الأحاديث قول وهذا فعل والقول مقدم على الفعل،
أو نقول ما ذكرناه مثبت وهذا ناف والمثبت أولى من النافي، ولئن سلم التعارض
فالترجيح فيما ذكرنا لأنه أحوط في باب العبادة، إذ المراد بالاحتجام قص
الأظفار وحلق الشعر دفعاً للتعارض وهو لا ينقض الوضوء.
الثاني: ما رواه الدارقطني أن النبي صلى الله عليه وسلم: قاء ولم يتوضأ.
وروى عنه أنه قاء ولم يتوضأ، فغسل فمه فقيل له: ألا تتوضأ وضوء الصلاة
فقال: "هكذا الوضوء من القيء".
الجواب عنه: أن هذا الحديث غريب فلا يعارض ما ذكرناه، أو يحمل على ما دون
ملء الفم توفيقاً بين الأحاديث وهو الظاهر من حال النبي صلى الله عليه
وسلم، فإن كثرة القيء إنما تنشأ من كثرة الأكل والنبي صلى الله عليه وسلم
لم يشبع مدة عمره، أو يحتمل أنه كان ذلك في غير وقت الصلاة؛ فلا يحتاج إلى
الوضوء فاكتفى بذلك.
الثالث: ما رواه أبو داود أن أنصاريا رمى في فيه في غزوة ذات الرقاع، فنزعه
حتى رمى ثلاثة أسهم وهو في الصلاة فلم يقطعها فلما فرغ من صلاته نبه صاحبه
المهاجري ما بالأنصاري من الدماء قال: سبحان الله هلا نبهتني أول ما رميت؟
فقال: كنت في سورة أقرؤها فلم أحب أن أقطعها.
والجواب عنه: من وجوه:
(1/25)
الأول: أن الدماء التي خرجت من ثلاثة أسهم
أصابت ثوبه وبدنه بلا شك ولا تجوز الصلاة معها بالاتفاق ولا يمكن إنكار ذلك
فإنه قد رآه المهاجري بالليل حتى هاله ما رأى من الدماء فلما لم يدل مضيه
في الصلاة على جواز الصلاة مع النجاسة كذلك لم يدل على أن الدم لا ينقض
الوضوء.
الثاني: أنه فعل واحد من الصحابة فلعله كان مذهباً له، أو كان غير عالم
بحكمه ولم ينقل أنه عرف النبي صلى الله عليه وسلم حاله وقدره ولم ينكر
عليه، أو يجعل له ذهول في ذلك الوقت غير كون الدم ناقضاً، ولئن سلم ففعل
الصحابي ليس بحجة عند الشافعي فكيف يحتج به.
الثالث: أن البخاري رواه تعليقا وهو ليس بحجة.
الرابع: أنه لا معارضة بين ما ذكرنا من قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله
وبين فعل الصحابي، ولو سلم التعارض فالترجيح معنا، لأن مذهبنا مروي عن أكثر
الصحابة وهو أحفظ، وأحاديثنا أصح وأكثر والترجيح بالكثرة ثابت عندهم وعند
بعض أصحابنا، لأن ما ذكرناه مثبت وما ذكره ناف والمثبت أولى.
الحجة الرابعة له: أنه لو كان القيء الكثير مبطلاً للوضوء لكان القليل
أيضاً مبطلاً له كالبول والغائط فلما سلم أبو حنيفة أن القليل غير ناقض لزم
أن الكثير أيضاً غير ناقض.
الجواب عنه: أن هذا قياس في مقابلة النص الذي ذكرنا فلا يقبل، أو نقول
الفرق ثابت بين القليل والكثير، وهو أن الناقض هو الخارج النجس والفم له
حكم الظاهر من وجه وحكم الباطن من وجه بدليل أن المضمضة لا تفسد صومه وكذا
لو بلع بصاقه لا يفسد صومه أيضاً عملاً بالشبيهين فالقيء الكثير أعطى له
حكم الخارج، فإنه يمكن ضبطه نظراً إلى الوجهين.
ثم قال: دلائلنا نصوص ودليلكم قياس والنص أولى.
فالجواب عنه: أن ما ذكرناه نصوص صحيحة وما ذكره ضعيف كما مر تحقيقه.
(1/26)
|