الكسب

الْفَصْل الثَّالِث

إِذا كَانَ الْمُعْطِي مُتَبَرعا والآخذ مفترضا بِأَنَّهُ كَانَ عَاجِزا عَن الْكسْب مُحْتَاجا إِلَى مَا يسد بِهِ رمقه فَعِنْدَ أهل الْفِقْه رَحِمهم الله الْمُعْطِي أفضل أَيْضا وَقَالَ أهل الحَدِيث أَحْمد بن حَنْبَل واسحاق بن رَاهَوَيْه رحمهمَا الله الْأَخْذ أفضل هُنَا لِأَنَّهُ بِالْأَخْذِ يُقيم بِهِ فرضا عَلَيْهِ والمعطي يتَنَفَّل وَقد بَينا أَن إِقَامَة الْفَرْض أَعلَى دَرَجَة من التَّنَفُّل وَلِأَن الْآخِذ لَو امْتنع من الْأَخْذ هُنَا كَانَ آثِما والمعطي لَو امْتنع من الْإِعْطَاء لم يكن آثِما إِذا كَانَ هُنَاكَ غَيره مِمَّن يُعْطِيهِ مِمَّا هُوَ فرض عَلَيْهِ وَالثَّوَاب مُقَابل بالعقوبة أَلا ترى أَن الله تَعَالَى هدد نسَاء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِضعْف مَا هدد بِهِ غَيْرهنَّ من النِّسَاء فَقَالَ عز وَجل {من يَأْتِ مِنْكُن بِفَاحِشَة مبينَة} الْآيَة ثمَّ جعل لَهُنَّ الثَّوَاب على الطَّاعَات ضعف مَا لغيرهن لقَوْله تَعَالَى {نؤتها أجرهَا مرَّتَيْنِ} فَإِذا كَانَ الْإِثْم هُنَا فِي حق الْآخِذ دون الْمُعْطِي فَلذَلِك للآخذ أَكثر من

(1/95)


مَا للمعطي وَلَكِن هَذَا كُله يشكل برد السَّلَام فَإِن السَّلَام سنة ورد السَّلَام فَرِيضَة ثمَّ مَعَ ذَلِك كَانَت الْبِدَايَة بِالسَّلَامِ أفضل من الرَّد على مَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالسَّلَامِ للبادي عشرُون حَسَنَة وللراد عشر حَسَنَات وَرُبمَا يَقُولُونَ الْآخِذ يسْعَى فِي إحْيَاء النَّفس والمعطي يسْعَى فِي تحصين النَّفس أَو فِي إنماء المَال وإحياء النَّفس أَعلَى دَرَجَة من إنماء المَال وَحجَّتنَا فِي ذَلِك بِمَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ الْيَد الْعليا خير من الْيَد السُّفْلى من غير تَفْصِيل بَين التَّنَفُّل بِالْأَدَاءِ وَبَين إِقَامَة الْفَرْض فَإِن قيل المُرَاد بِالْيَدِ الْعليا يَد الْفَقِير لِأَنَّهَا نائبة عَن يَد الشَّرْع فَإِن الْمُتَصَدّق يَجْعَل مَاله لله تَعَالَى خَالِصا بِأَن يُخرجهُ من ملكه ثمَّ يَدْفَعهُ إِلَى الْفَقِير ليَكُون كِفَايَة لَهُ من الله تَعَالَى وَالْفَقِير يَنُوب عَن الشَّرْع فِي الْأَخْذ من الْغَنِيّ وَبَيَان هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده} الْآيَة وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الصَّدَقَة تقع فِي يَد الرَّحْمَن فيربيها كَمَا يُربي أحدكُم فلوة حَتَّى تصير مثل أحد فَبِهَذَا تبين أَن المُرَاد بِالْيَدِ الْعليا يَد الْمُعْطِي وَلِأَن الْمُعْطِي يتَطَهَّر من الدنس

(1/96)


بالإعطاء والآخذ يتلوث وَبَيَان ذَلِك أَن الله تَعَالَى قَالَ {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة} الْآيَة فَعرفنَا أَن فِي آداء الصَّدَقَة معنى التَّطْهِير والتزكية وَفِي الْأَخْذ تلويث وَقد سمى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّدَقَة أوساخ النَّاس وسماها غسالة وَقَالَ يَا معشر بني هَاشم إِن الله كره لكم غسالة أَيدي النَّاس يَعْنِي الصَّدَقَة وَيدل عَلَيْهِ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُبَاشر الْإِعْطَاء بِنَفسِهِ فَكَانَ أَخذ الصَّدَقَة لنَفسِهِ حرَام عَلَيْهِ كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تحل الصَّدَقَة لمُحَمد وَلَا لآل مُحَمَّد وَتكلم النَّاس فِي حق سَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام فَمنهمْ من يَقُول مَا كَانَ يحل أَخذ الصَّدَقَة لسَائِر الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام أَيْضا وَلكنهَا كَانَت تحل لقراباتهم ثمَّ إِن الله تَعَالَى أكْرم نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن حرم الصَّدَقَة على قرَابَته إِظْهَارًا لفضيلته لتَكون درجتهم فِي هَذَا الحكم كدرجة الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم السَّلَام
وَقيل بل كَانَت الصَّدَقَة تحل لسَائِر الْأَنْبِيَاء وَهَذِه خُصُوصِيَّة لنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكيف مَا كَانَ لَا يجوز أَن يُقَال فِي تَحْرِيم الصَّدَقَة إعلاء الدَّرَجَات عَلَيْهِ معنى الْكَرَامَة والخصوصية لَهُ فَلَو كَانَ الْأَخْذ أفضل من الْإِعْطَاء بِحَال لما كَانَ فِي تَحْرِيم الْأَخْذ عَلَيْهِ وعَلى أهل بَيته معنى

(1/97)


الخصوصية والكرامة وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الشَّرْع ندب كل أحد إِلَى التَّصَدُّق وَندب كل أحد إِلَى التَّحَرُّز عَن السُّؤَال قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لثوبان رَضِي الله عَنهُ لَا تسْأَل النَّاس شَيْئا أعطوك أَو منعوك وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحكيم بن حزَام رَضِي الله عَنهُ إياك إياك أَن تسْأَل أحد شَيْئا أَعْطَاك أَو مَنعك وَكَانَ بَعْدَمَا سمع هَذِه الْمقَالة لَا يسْأَل أحدا شَيْئا وَلَا يَأْخُذ من أحد شَيْئا حَتَّى كَانَ عمر بن الْخطاب يعرض عَلَيْهِ نصِيبه مِمَّا يعْطى فَكَانَ لَا يَأْخُذهُ وَيَقُول لست آخذ من أحد شَيْئا بَعْدَمَا قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قَالَ وَكَانَ عمر رَضِي الله عَنهُ يشْهد عَلَيْهِ حَقه وَيَقُول يَا أَيهَا النَّاس قد أشهدتكم عَلَيْهِ أَنِّي عرضت عَلَيْهِ وَهُوَ يَأْبَى وَبِهَذَا تبين أَن الْإِعْطَاء أفضل من الْأَخْذ وَقَالَ الله تَعَالَى {يَحْسبهُم الْجَاهِل أَغْنِيَاء من التعفف} الْآيَة يَعْنِي من التعفف عَن السُّؤَال وَا 4 لأخذ وَقَالَ صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم من إستعف أعفه الله وَمن اسْتغنى أغناه الله وَمن فتح على نَفسه بَابا من الْمَسْأَلَة فتح الله عَلَيْهِ سبعين بَابا من الْفقر فَإِذا كَانَ التعفف من الْأَخْذ كَانَ الْإِقْدَام على

(1/98)


الْأَخْذ ترك التعفف من حَيْثُ الصُّورَة فَلهَذَا كَانَ الْمُعْطِي أفضل من الْآخِذ وَفِي كل خير
وَقَالَ وكل مَا كَانَ الْأكل فِيهِ فرضا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يكون مثابا على الْأكل لِأَنَّهُ يتَمَثَّل بِهِ الْأَمر فيتوصل بِهِ إِلَى أَدَاء الْفَرَائِض من الصَّوْم وَالصَّلَاة فَيكون بِمَنْزِلَة السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة وَالطَّهَارَة لأَدَاء الصَّلَاة وَالْأَصْل فِيهِ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُؤجر الْمُؤمن فِي كل شئ حَتَّى اللُّقْمَة يَضَعهَا فِي فِيهِ وَفِي حَدِيث آخر قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُؤجر الْمُؤمن فِي كل شئ حَتَّى فِي مضاجعة أَهله فَقيل إِنَّه يقْضِي شَهْوَته أفيؤجر على ذَلِك قَالَ أَرَأَيْت لَو وَضعهَا فِي غير حلّه أما كَانَ يُعَاقب على ذَلِك وبمثله نستدل هُنَا فَنَقُول لَو ترك الْأكل فِي مَوضِع كَانَ فرضا عَلَيْهِ

(1/99)


كَانَ معاقبا على ذَلِك فَإِذا أكل كَانَ مثابا عَلَيْهِ وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفضل دِينَار الْمَرْء دِينَار يُنْفِقهُ على أَهله فَإِذا كَانَ هُوَ مثابا فِيمَا يُنْفِقهُ على غَيره فَفِي مَا يُنْفِقهُ على نَفسه أولى
قَالَ وَلَا يكون محاسبا فِي ذَلِك وَلَا معاتبا وَلَا مهاقبا لِأَنَّهُ مثاب على ذَلِك كَمَا هُوَ مثاب على إِقَامَة الْعِبَادَات فَكيف يكون معاتبا عَلَيْهِ أَو محاسبا وَالْأَصْل فِيهِ حديثان أَحدهمَا حَدِيث أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أَكلَة أكلتها مَعَك فِي بَيت أبي الْهَيْثَم بن التيهَان فِي من لحم وخبز وشعير وزيت أهوَ من النَّعيم الَّذِي نسْأَل عَنهُ يَوْم الْقِيَامَة وتلا قَوْله تَعَالَى {ثمَّ لتسألن يَوْمئِذٍ عَن النَّعيم} فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَا أَبَا بكر إِنَّمَا ذَلِك للْكفَّار أما علمت أَن الْمُؤمن لَا يسْأَل عَن ثَلَاث قَالَ وَمَا هن يَا رَسُول الله قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يواري بِهِ سوءته وَمَا يُقيم بِهِ صلبه وَمَا يكنه من الْحر وَالْبرد ثمَّ هُوَ مسؤول بعد ذَلِك عَن كل نعْمَة
وَالثَّانِي حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ضِيَافَة رجل فَأتي بعذق فِيهِ تمر وَبسر وَرطب وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لتسألن عَن هَذَا يَوْم الْقِيَامَة فَأخذ عمر رَضِي الله عَنهُ العذق وَجعل ينفضه حَتَّى تناثر على الأَرْض وَيَقُول ونسأل عَن هَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(1/100)


وَالله لتسألن عَن كل نعْمَة حَتَّى الشربة من المَاء الْبَارِد إِلَّا عَن ثَلَاث كسرة تقيم بهَا صلبك أَو خرقَة تواري بهَا سوءتك أَو كن يكنك من الْحر وَالْبرد
قَالَ فِي الْكتاب وَهَذَا قَول عمر وَعُثْمَان وَعلي وَابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُم أَن الْمَرْء لَا يُحَاسب على هَذَا الْمِقْدَار وَكفى بإجماعهم حجَّة فَمن دج عمره بِهَذَا أَو كَانَ قانعا رَاضِيا دخل الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب لحَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من هدي لِلْإِسْلَامِ وقنع بِمَا آتَاهُ الله تَعَالَى دخل الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب وَقيل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا يُوفى الصَّابِرُونَ أجرهم بِغَيْر حِسَاب} أَنه الَّذِي يصبر على هَذَا الْمِقْدَار الَّذِي لَا بُد مِنْهُ
ثمَّ بعده التَّنَاوُل إِلَى مِقْدَار الشِّبَع مُبَاح على الْإِطْلَاق لقَوْله تَعَالَى {قل من حرم زِينَة الله} الاية فَعرفنَا أَن ذَلِك الْقدر لَيْسَ بِمحرم فَإِذا لم يكن محرما فَهُوَ مُبَاح على الْإِطْلَاق وَكَذَلِكَ أكل الخبيص والفواكه وأنواع الحلاوات من السكر وَغير ذَلِك مُبَاح لكنه دون مَا تقدم حَتَّى أَن الِامْتِنَاع مِنْهُ والاكتفاء بِمَا دونه أفضل لَهُ فَكَانَ تنَاول هَذِه النعم رخصَة والامتناع مِنْهَا عَزِيمَة فَذَلِك أفضل لحديثين رويا فِي الْبَاب

(1/101)


أَحدهمَا حَدِيث الصّديق رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ أُتِي بقدح قد لت بِعَسَل وَبرد فقربه إِلَى فِيهِ ثمَّ رده وَأمر بالتصدق بِهِ على الْفُقَرَاء وَقَالَ أَرْجُو أَن لَا أكون من الَّذين يُقَال لَهُم {أَذهَبْتُم طَيِّبَاتكُمْ} الْآيَة فَفِي هَذَا دَلِيل أَن تنَاول ذَلِك مُبَاح لِأَنَّهُ قربه إِلَى فِيهِ وَفِيه دَلِيل أَن الِامْتِنَاع مِنْهُ أفضل
وَالثَّانِي حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ بِأَنَّهُ اشْترى جَارِيَة وَأمر بهَا فزينت لَهُ وأدخلت عَلَيْهِ فَلَمَّا رَآهَا بَكَى وَقَالَ أَرْجُو أَن لَا أكون من الَّذين يتوصلون إِلَى جَمِيع شهواتهم فِي الدُّنْيَا ثمَّ دَعَا شَابًّا من الْأَنْصَار لم يكن تَحْتَهُ إمرأة فأهداها لَهُ وتلا قَوْله تَعَالَى {ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة} الْآيَة وَلِأَن أفضل مناهج الدّين طَرِيق الْمُرْسلين عَلَيْهِم السَّلَام وَقد كَانَ طريقهم الِاكْتِفَاء بِمَا دون هَذَا فِي عَامَّة الْأَوْقَات وَكَذَا نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرُبمَا أصَاب فِي بعض الْأَوْقَات من ذَلِك على مَا رُوِيَ أَنه قَالَ لأَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم يَوْمًا لَيْت لنا ملبقا نأكله فجَاء بِهِ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ فِي قَصْعَة فَقيل أَنه أصَاب مِنْهُ وَقيل لم يصب وَأمر بالتصدق بِهِ
ثمَّ فِيمَا تقدم من تنَاول الْخبز إِلَى الشِّبَع لَا حِسَاب عَلَيْهِ سوى الْعرض على مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قَوْله

(1/102)


عز وَجل {فَسَوف يُحَاسب حسابا يَسِيرا} فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَاك الْعرض يَا بنت أبي بكر أما علمت أَن من نُوقِشَ لِلْحسابِ عذب وَمعنى الْعرض بَيَان الْمِنَّة وتذكير النعم وَالسُّؤَال أَنه هَل قَامَ بشكرها فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى {فَأَما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ} الْآيَة أَن الْعرض فِي مثل هَذَا
وَأما فِي إقتضاء الشَّهَوَات من الْحَلَال وَتَنَاول اللَّذَّات فَهُوَ محاسب على ذَلِك غير معاقب عَلَيْهِ وَهُوَ معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي صفة الدُّنْيَا حلالها حِسَاب وحرامها عَذَاب
وَالدَّلِيل على أَن الِاكْتِفَاء بِمَا دون ذَلِك أفضل حَدِيث الضَّحَّاك رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ جَاءَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وافدا من قومه وَكَانَ متنعما فيهم قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا طَعَامك يَا ضحاك قَالَ اللَّحْم وَالْعَسَل وَالزَّيْت ولب الْبر قَالَ ثمَّ يصير مَاذَا فَقَالَ ثمَّ يصير إِلَى مَا يُعلمهُ رَسُول الله فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله ضرب للدنيا مثلا بِمَا يخرج من ابْن آدم ثمَّ قَالَ لَهُ إياك أَن تَأْكُل فَوق الشِّبَع

(1/103)


قد بَين لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن طَعَامه وَإِن كَانَ لذيذا طيبا فِي الِابْتِدَاء فَإِنَّهُ يصير إِلَى الْخبث وَالنَّتن فِي الِانْتِهَاء فَهُوَ مثل الدُّنْيَا وَفِي هَذَا بَيَان أَن الِاكْتِفَاء بِمَا دون ذَلِك أفضل
وَفِي حَدِيث الْأَحْنَف بن قيس رَحمَه الله أَنه كَانَ عِنْد عمر رَضِي الله عَنهُ فَأتى بقصعة فِيهَا خبز شعير وزيت فَجعل عمر رَضِي الله عَنهُ يَأْكُل من ذَلِك وَيَدْعُو الْأَحْنَف إِلَى أكله وَكَانَ لَا يسيغه ذَلِك فَذكر الْأَحْنَف ذَلِك لحفصة وَقَالَ إِن الله تَعَالَى وسع على أَمِير الْمُؤمنِينَ فَلَو وسع على نَفسه وَجعل طَعَامه طيبا فَذكرت ذَلِك لعمر رَضِي الله عَنهُ فَبكى وَقَالَ أَرَأَيْت لَو أَن ثَلَاثَة إصطحبوا فَتقدم أحدهم فِي طَرِيق وَالثَّانِي بعده ثمَّ خالفهم الثَّالِث فِي الطَّرِيق أَكَانَ يدركهم فَقَالَت لَا قَالَ فقد تقدم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يصب من شهوات الدُّنْيَا شَيْئا وَأَبُو بكر رَضِي الله عَنهُ بعده كَذَلِك فَلَو اشْتغل عمر بِقَضَاء الشَّهَوَات فِي الدُّنْيَا مَتى يدركهم فَفِي هَذَا بَيَان أَن الِاكْتِفَاء بِمَا دون ذَلِك أفضل
وَفِي الْحَاصِل الْمَسْأَلَة صَارَت على أَرْبَعَة أوجه فَفِي مِقْدَار مَا يسد بِهِ رمقه ويتقوى على الطَّاعَة هُوَ مثاب غير معاتب وَفِيمَا زَاد على ذَلِك إِلَى حد الشِّبَع هُوَ مُبَاح لَهُ محاسب على ذَلِك حسابا يَسِيرا بِالْعرضِ وَفِي قَضَاء الشَّهَوَات ونيل اللَّذَّات من الْحَلَال هُوَ مرخص لَهُ فِيهِ محاسب على ذَلِك مطَالب بشكر النِّعْمَة وَحقّ الجائعين وَفِي مَا زَاد على الشِّبَع هُوَ معاقب فَإِن الْأكل فَوق الشِّبَع حرَام وَقد بَينا هَذَا
وَفِي الْكتاب قَالَ أكرهه وَمرَاده التَّحْرِيم على مَا رُوِيَ أَن أَبَا

(1/104)


حنيفَة رَحمَه الله قيل لَهُ إِذا قلت فِي شئ أكرهه مَا رَأْيك قَالَ الْحُرْمَة أقرب وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا روينَا أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا تجشأ أحدكُم فَلْيقل اللَّهُمَّ لَا تفتنا والجشأ من الْأكل فَوق الشِّبَع فَفِي هَذَا بَيَان أَن الْأكل فَوق الشِّبَع من أَسبَاب المقت وَسبب المقت ارْتِكَاب الْحَرَام وَهَذَا كُله فِيمَا اكْتَسبهُ من حلَّة فَأَما مَا اكْتَسبهُ من غير حلَّة فَهُوَ معاقب على التَّنَاوُل مِنْهُ فِي غير حَالَة الضَّرُورَة الْقَلِيل وَالْكثير فِيهِ سَوَاء لحَدِيث أبي بكر رَضِي الله عَنهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ كل لحم نبت من السُّحت فَالنَّار أولى بِهِ وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا اكْتسب الْمَرْء درهما من غير حلَّة يُنْفِقهُ على أَهله ويبارك لَهُ فِيهِ أَو يتَصَدَّق بِهِ فَيقبل مِنْهُ أَو يخلفه وَرَاء ظَهره إِلَّا كَانَ ذَلِك زَاده إِلَى النَّار وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من اكْتسب من حَيْثُ شَاءَ وَلَا يُبَالِي أدخلهُ الله النَّار من أَي بَاب كَانَ وَلَا يُبَالِي وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لسعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ طيب طعمتك أَو قَالَ أكلتك تستجب دعوتك وَفِي حَدِيث 2 أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(1/105)


قَالَ فِي بَيَان النَّاس بعده يصبح أحدهم أَشْعَث أغبر يَقُول يارب ومطعمه حرَام ومشربه حرَام وملبسه حرَام وغذي بالحرام فَأَنِّي يُسْتَجَاب لَهُ وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أَشْرَاط السَّاعَة الدِّرْهَم الْحَلَال فيهم أعز من أَخ فِي الله وَالْأَخ فِي الله أعز فيهم من دِرْهَم حَلَال
قَالَ فِي الْكتاب وَكَذَلِكَ أَمر اللبَاس يَعْنِي أَنه مأجور فِيمَا يواري بِهِ سوءته وَيدْفَع أَذَى الْحر وَالْبرد عَنهُ ويتمكن من إِقَامَة الصَّلَاة وَمَا زَاد على ذَلِك مُبَاح لَهُ وَترك الأجود من الثِّيَاب والاكتفاء بِمَا دون ذَلِك أفضل كَمَا فِي الطَّعَام لما رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لبس ثوبا معلما ثمَّ نَزعه وَقَالَ شغلني علمه عَن صَلَاتي كلما وَقع بَصرِي عَلَيْهِ وَعَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه دفع ثوبا لَهُ إِلَى عَامله ليرقعه فَقدر عَلَيْهِ ثوبا آخر وجاءه بالثوبين فَأخذ عمر رَضِي الله عَنهُ ثَوْبه ورد الآخر وَقَالَ ثَوْبك أَجود وألين وَلَكِن ثوبي أشف للعرق وَعَن على رَضِي الله عَنهُ أَنه كَانَ يكره التزين بالزي الْحسن وَيَقُول أَنا ألبس من الثِّيَاب مَا يَكْفِينِي لعبادة رَبِّي فِيهِ فَعرفنَا أَن الِاكْتِفَاء بِمَا دون الأجود أفضل لَهُ وَإِن كَانَ يرخص لَهُ فِي لبس ذَلِك
ثمَّ حول الْكَلَام إِلَى فصل آخر حَاصله دَار على فصل لَهُ وَهُوَ

(1/106)


أَن مساعي أهل التَّكْلِيف ثَلَاثَة أَنْوَاع نوع مِنْهَا للمرء كالعبادات وَنَوع مِنْهَا عَلَيْهِ كالمعاصي وَنَوع مِنْهَا يحْتَمل لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ وَذَلِكَ الْمُبَاحَات من الْأَقْوَال كَقَوْلِك أكلت أَو شربت أَو قُمْت أَو قعدت وَمَا أشبه ذَلِك هَذَا مَذْهَب أهل الْفِقْه رَحِمهم الله
وَقَالَت الكرامية مساعي أهل التَّكْلِيف نَوْعَانِ لَهُم وَعَلَيْهِم وَلَيْسَ شئ من مساعيهم فِي حد الْأَعْمَال لقَوْله تَعَالَى {فَمَاذَا بعد الْحق إِلَّا الضلال} فقد قسم الْأَشْيَاء قسمَيْنِ لَا فاصل بَينهمَا أما الْحق وَهُوَ مَا يكون للمرء والضلال وَهُوَ مَا على الْمَرْء وَقَالَ الله تَعَالَى {لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا مَا اكْتسبت} وَمَا للتعميم فَتبين بِهَذَا أَن جَمِيع مَا يكتسبه الْمَرْء لَهُ أَو عَلَيْهِ وَقَالَ الله تَعَالَى {من عمل صَالحا فلنفسه} الْآيَة فَتبين بِهَذَا أَن عمله لَا يَنْفَكّ عَن أحد هذَيْن إِمَّا صَالح أَو سيء وَفِي كتاب الله تَعَالَى أَن جَمِيع مَا يتَلَفَّظ الْمَرْء مَكْتُوب قَالَ الله تَعَالَى {مَا يلفظ من قَول} الْآيَة وَفِيه بَيَان أَن جَمِيع مَا يَفْعَله الْمَرْء مَكْتُوب قَالَ الله تَعَالَى {وكل شَيْء فَعَلُوهُ فِي الزبر} وَفِيه دَلِيل أَنه يحضر جَمِيع مَا عمله فِي مِيزَانه عِنْد الْحساب قَالَ الله تَعَالَى {ووجدوا مَا عمِلُوا حَاضرا}

(1/107)


وَمَا للتعميم فَدلَّ أَنه لَيْسَ شئ من ذَلِك يهمل وَالْمعْنَى فِيهِ من وَجْهَيْن أَحدهمَا مواثيق الله تَعَالَى على عباده لَازِمَة لَهُم فِي كل حَال يَعْنِي من قَوْله {واعبدوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا} وَقَالَ عز وَجل {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس} الاية فإمَّا أَن يكون هُوَ موقنا بِهَذَا الْعَهْد والميثاق فَيكون ذَلِك لَهُ أَو تَارِكًا فَيكون عَلَيْهِ إِذْ لَا تصور لشئ سوى هَذَا
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الْمُبَاح الَّذِي لضرورته إِمَّا أَن يكون من جنس مَاله أَن يكون مقربا لَهُ مِمَّا يحل وَيكون هُوَ مَأْمُورا بِهِ أَو مُبْعدًا لَهُ مِمَّا لَا يحل فَيكون ذَلِك لَهُ أَو يكون مقربا لَهُ مِمَّا لَا يحل ومبعدا لَهُ مِمَّا يحل فَيُؤْمَر بِهِ فَيكون ذَلِك عَلَيْهِ فَعرفنَا أَن جَمِيع مساعيه غير خَارج من أَن تكون لَهُ أَو عَلَيْهِ
وَحجَّتنَا فِي ذَلِك أَن الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم وَمن بعدهمْ من التَّابِعين وَالْعُلَمَاء رَحِمهم الله اتَّفقُوا أَن من أَفعَال الْعباد مَا هُوَ مَأْمُور بِهِ أَو مَنْدُوب إِلَيْهِ وَذَلِكَ عبَادَة لَهُم وَمِنْه مَا هُوَ مَنْهِيّ عَنهُ وَذَلِكَ عَلَيْهِم وَمِنْه مَا هُوَ مُبَاح وَمَا كَانَ مُبَاحا فَهُوَ غير مَوْصُوف بِأَنَّهُ مَأْمُور بِهِ أَو مَنْدُوب إِلَيْهِ أَو مَنْهِيّ عَنهُ وعرفنا أَن هُنَا قسم ثَالِث ثَابت بطرِيق الْإِجْمَاع لَيْسَ ذَلِك للمرء وَلَا على الْمَرْء وَلَا يتَبَيَّن هَذَا من الْقسمَيْنِ الآخرين إِلَّا بِحكم وَهُوَ أَن يكون مهملا لَا يُثَاب على فعله وَلَا يُعَاقب على تَركه لِأَن مَا يكون

(1/108)


لَهُ فَهُوَ مثاب عَلَيْهِ قَالَ الله تَعَالَى {وَمن عمل صَالحا فلأنفسهم يمهدون} الْآيَة قَالَ الله تَعَالَى {إِن أَحْسَنْتُم أَحْسَنْتُم لأنفسكم} وَمَا يكون عَلَيْهِ فَهُوَ معاقب على ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى {وَإِن أسأتم فلهَا} أَي فعلَيْهَا وَإِذا كَانَ فِي أَفعاله وأقواله مَا لَا يُثَاب عَلَيْهِ وَلَا يُعَاقب عرفنَا أَنه مهمل وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن الله تَعَالَى قَالَ {لَا يُؤَاخِذكُم الله بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانكُم} فالتنصيص على نفي الْمُؤَاخَذَة فِي يَمِين بِاللَّغْوِ يكون تنصيصا على أَنه لَا يُثَاب عَلَيْهِ وَإِذا ثَبت بِالنَّصِّ أَنه لَا يُثَاب عَلَيْهِ وَلَا يُعَاقب عرفنَا أَنه مهمل وَقَالَ الله تَعَالَى {وَلَيْسَ عَلَيْكُم جنَاح فِيمَا أخطأتم بِهِ} وَلَا إِشْكَال أَنه لَا يُثَاب على مَا أَخطَأ بِهِ وَقد انْتَفَت الْمُؤَاخَذَة بِالنَّصِّ فَعرفنَا بِأَنَّهُ مهمل قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رفع عَن أمتِي الْخَطَأ وَالنِّسْيَان الحَدِيث مَعْنَاهُ أَن الْإِثْم مَرْفُوع عَنْهُم وَلَا شكّ أَنهم لَا يثابون على ذَلِك فَإِذا قد ثَبت بِهَذِهِ النُّصُوص أَن مَا لَا ينَال الْمَرْء بِهِ الثَّوَاب لَا يكون معاتبا عَلَيْهِ فَإِن يكون ذَلِك مُحْتملا لَا يُوصف بِأَنَّهُ للمرء أَو عَلَيْهِ لِأَن مَاله خَاص فِيمَا ينْتَفع بِهِ فِي الْآخِرَة وَمَا عَلَيْهِ خَاص فِيمَا يضرّهُ فِي الْآخِرَة وَفِي أَفعاله وأقواله مَا لَا يَنْفَعهُ وَلَا يضرّهُ فِي الْآخِرَة فَكَانَ ذَلِك مهملا

(1/109)


ثمَّ اخْتلف الْفُقَهَاء رَحِمهم الله أَن مَا يكون مهملا من الْأَفْعَال والأقوال هَل يكون مَكْتُوبًا على العَبْد أم لَا
قَالَ بَعضهم إِنَّه لَا يكْتب عَلَيْهِ لِأَن الْكِتَابَة لَا تكون من غير فَائِدَة والفائدة منفعَته بذلك فِي الاخرة والمعاتبة مَعَه على ذَلِك مِمَّا يكون خَارِجا عَن هذَيْن الْوَجْهَيْنِ فَلَا فَائِدَة فِي كِتَابَته عَلَيْهِ
وَأكْثر الْفُقَهَاء رَحِمهم الله على أَن ذَلِك كُله مَكْتُوب عَلَيْهِ قَالَ الله تَعَالَى {ونكتب مَا قدمُوا وآثارهم} الْآيَة إِلَّا أَنهم قَالُوا بَعْدَمَا كتب جَمِيع ذَلِك عَلَيْهِ يبْقى فِي ديوانه ماهو مهمل وَبَيَانه فِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخ مَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} وَفِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِذا صعد الْملكَانِ بِكِتَاب العَبْد فَإِن كَانَ أَوله وَآخره حَسَنَة يمحى مَا بَين ذَلِك من السَّيِّئَات وَإِن لم يكن ذَلِك فِي أَوله وَآخره يبْقى جَمِيع ذَلِك عَلَيْهِ
وَالَّذين قَالُوا بمحو المهمل من الْكتاب إختلفوا فِيهِ قَالَ بَعضهم إِنَّمَا يمحى ذَلِك فِي الأثانين والأخمسة وَهُوَ الَّذِي وَقع عِنْد النَّاس أَنه تعرض الْأَعْمَال فِي هذَيْن الْيَوْمَيْنِ أَي يمحى من الدِّيوَان فيهمَا مَا هُوَ مهمل لَيْسَ فِيهِ جَزَاء وَأَكْثَرهم على أَنه إِنَّمَا يمحى ذَلِك يَوْم

(1/110)


الْقِيَامَة وَالْأَصْل حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا وَقد ذكره مُحَمَّد رَحمَه الله فِي الْكتاب أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ الدَّوَاوِين عِنْد الله ثَلَاثَة ديوَان لَا يعبأ بِهِ شَيْئا وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ جَزَاء خير أَو شَرّ وديوان مظالم الْعباد فَلَا بُد فِيهِ من الْإِنْصَاف والانتصاف والديوان الثَّالِث مَا فِيهِ جَزَاء من خير أَو شَرّ وَهَذَا حَدِيث صَحِيح مَقْبُول عِنْد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة رَحِمهم الله
لَكِن اخْتلفُوا فِي الدِّيوَان الَّذِي لَا يعبأ بِهِ شَيْئا قيل هُوَ المهمل الَّذِي قُلْنَا إِنَّه لَيْسَ فِيهِ جَزَاء خير وَلَا شَرّ وَقيل مَا هُوَ بَين العَبْد وَبَين ربه فَمَا لَيْسَ فِيهِ حق الْعباد فَإِن الله تَعَالَى عَفْو كريم قَالَ الله تَعَالَى {مَا يفعل الله بعذابكم} الْآيَة وَقيل بل هُوَ الصَّغَائِر فَإِنَّهَا مغْفُور لمن اجْتنب الْكَبَائِر قَالَ الله تَعَالَى {إِن تجتنبوا كَبَائِر مَا تنهون عَنهُ نكفر عَنْكُم سَيِّئَاتكُمْ} الْآيَة فَهُوَ الدِّيوَان الَّذِي لَا يعبأ بِهِ شَيْئا وَقيل المُرَاد أَعمال الْكفَّار مَا هُوَ فِي صُورَة طَاعَة فَإِنَّهُ لَا يعبأ بِهِ شَيْء إِذا لم يُؤمنُوا أَي لَا يَنْفَعهُمْ ذَلِك لِأَن الشّرك غير مغْفُور لَهُ قَالَ الله تَعَالَى {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ} وَلَا قيمَة لأعمالهم مَعَ الشّرك قَالَ الله تَعَالَى {وَقدمنَا إِلَى مَا عمِلُوا} الْآيَة وَالْأَظْهَر

(1/111)


هُوَ القَوْل الأول الَّذِي لَا يعبأ بِهِ
وَالْقسم الثَّالِث الَّذِي بَينا أَنه مُبَاح لَيْسَ للمرء وَلَا عَلَيْهِ فَهَذَا الَّذِي لَا يعبأ بِهِ شئيا فَإِنَّهُ قد فسر ذَلِك بقوله وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ جَزَاء خير وَلَا شَرّ وَذكر فِي الْكتاب عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ فِي قَوْله تَعَالَى {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} أَن المُرَاد محو بعض الْأَسْمَاء من ديوَان الأشقياء وَالْإِثْبَات فِي ديوَان السُّعَدَاء ومحو بعض الْأَسْمَاء من ديوَان السُّعَدَاء والأثبات فِي ديوَان الأشقياء وَأهل التَّفْسِير رَحِمهم الله إِنَّمَا يروون هَذَا عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ كَانَ يَقُول فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ إِن كنت قد كتبت أسماءنا فِي ديوَان الأشقياء فامحها من ديوَان الأشقياء وأثبتها فِي ديوَان السُّعَدَاء فَإنَّك قلت فِي كتابك وقولك الْحق {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} الْآيَة فَأَما ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَالرِّوَايَة الظَّاهِرَة عَنهُ أَن المحو وَالْإِثْبَات فِي كل شئ لَا فِي السَّعَادَة والشقاوة والحياة وَالْمَوْت وَمن الْفُقَهَاء رَحِمهم الله من أَخذ بالرواية الأولى فَقَالُوا إِنَّا نرى الْكَافِر يسلم وَالْمُسلم يرْتَد وَالصَّحِيح يمرض وَالْمَرِيض يبرأ فَكَذَا نقُول يجوز أَن يشقى السعيد ويسعد الشقي من غير أَن يتَغَيَّر علم الله فِي كل أحد و {لله الْأَمر من قبل وَمن بعد} {وَيفْعل الله مَا يَشَاء} {يحكم مَا يُرِيد} وعَلى ذَلِك حملُوا قَوْله تَعَالَى {فَمنهمْ شقي وَسَعِيد} وَأَكْثَرهم على أَن الصَّحِيح الرِّوَايَة الثَّانِيَة عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا فَإِنَّهُ أقرب إِلَى مُوَافقَة الحَدِيث الْمَشْهُور السعيد من سعد فِي بطن أمه والشقي من شقي فِي بطن أمه وَتَأْويل قَوْله تَعَالَى {يمحو الله مَا يَشَاء وَيثبت} يمحو مَا لَا يعبأ بِهِ من ديوَان العَبْد مِمَّا لَيْسَ

(1/112)


فِيهِ جَزَاء خير وَلَا شَرّ وَإِثْبَات مَا فِيهِ الْجَزَاء على مَا بَينا فِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا الدَّوَاوِين عِنْد الله ثَلَاثَة ولأجله أورد مُحَمَّد رَحمَه الله هَذَا الحَدِيث على إِثْر ذَلِك الحَدِيث وَقيل المُرَاد محو الْمعرفَة من قلب الْبَعْض وإثباتها فِي قلب الْبَعْض فَيكون هَذَا نَظِير قَوْله تَعَالَى {يضل من يَشَاء وَيهْدِي من يَشَاء} أَو المُرَاد المحو وَالْإِثْبَات فِي الْمَقْسُوم لكل عبد من الرزق والسلامة وَالْبَلَاء وَالْمَرَض وَمَا أشبه ذَلِك
ثمَّ روى حَدِيث الصّديق رَضِي الله عَنهُ حَيْثُ سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ أَكلَة أكلتها مَعَك فِي بَيت أبي الْهَيْثَم بن التيهَان وَقد روينَا الحَدِيث بِتَمَامِهِ زَاد فِي آخر الحَدِيث فَأَما الْمُؤمن فشكره إِذا وضع الطَّعَام بَين يَدَيْهِ أَن يَقُول بِسم الله وَإِذا فرغ يَقُول الْحَمد لله وَهَذِه الزِّيَادَة لم يذكرهَا أهل الحَدِيث فِي كتبهمْ وَمُحَمّد رَحمَه الله موثوق بِهِ فِيمَا يروي وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا كَلَام مُحَمَّد رَحمَه الله ذكره بعد رِوَايَة الحَدِيث وَقد رُوِيَ فِي معنى هَذَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ إِذا وضع الطَّعَام بَين يَدي الْمُؤمن فَقَالَ بِسم الله وَإِذا فرغ قَالَ الْحَمد لله تحاتت ذنُوبه وَلَو كَانَت مثل زبد الْبَحْر كَمَا تحات ورق الشّجر وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَمد لله عَن كل نعْمَة وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو جعلت الدُّنْيَا كلهَا لقْمَة فابتلعها مُؤمن فَقَالَ الْحَمد لله كَانَ مَا أُوتِيَ بِهِ خيرا مِمَّا أُوتِيَ وَهُوَ كَذَلِك فَإِن الله تَعَالَى وصف الدُّنْيَا بالقلة والحقارة قَالَ

(1/113)


الله تَعَالَى {قل مَتَاع الدُّنْيَا قَلِيل} وَذكر الله أَعلَى وَأطيب فِي قَوْله الْحَمد لله ذكر الله تَعَالَى بطرِيق التَّعْظِيم وَالشُّكْر فَيكون خيرا من جَمِيع الدُّنْيَا
ثمَّ قَالَ وَيكرهُ للرِّجَال لبس الْحَرِير فِي غير حَالَة الْحَرْب وَهَذِه الْمَسْأَلَة لَيست من مسَائِل هَذَا الْكتاب فَإِنَّهُ صنف هَذَا الْكتاب فِي الزّهْد على مَا حُكيَ أَنه لما فرغ من تصنيف الْكتب قيل لَهُ أَلا تصنف فِي الْوَرع والزهد شَيْئا فَقَالَ صنفت كتاب الْبيُوع ثمَّ أَخذ فِي تصنيف هَذَا الْكتاب فَاعْترضَ لَهُ دَاء فجف دماغه وَلم يتم مُرَاده فيحكى لَهُ أَنه قيل لَهُ فهرس لنا مَا كنت تُرِيدُ أَن تصنفه ففهرس لَهُم ألف بَاب كَانَ يُرِيد أَن يصنف فِي الزّهْد والورع وَلِهَذَا قَالَ بعض الْمُتَأَخِّرين رَحِمهم الله موت مُحَمَّد رَحمَه الله واشتغال أبي يُوسُف رَحمَه الله بِالْقضَاءِ رَحْمَة على أَصْحَاب أبي حنيفَة رَحمَه الله فَإِنَّهُ لَوْلَا ذَلِك لصنفوا مَا أتعب المقتبسين وَهَذَا الْكتاب أول مَا صنف فِي الزّهْد والورع فَذكر فِي آخِره بعض الْمسَائِل الَّتِي تلِيق بذلك من مَسْأَلَة لبس الْحَرِير وَالْأَصْل فِيهِ مَا رُوِيَ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج ذَات يَوْم وَالذَّهَب بِيَمِينِهِ وَالْحَرِير بِشمَالِهِ وَقَالَ هَذَانِ حرامان على ذُكُور أمتِي حل

(1/114)


لأثها وَلبس الْحَرِير فِي غير حَالَة الْحَرْب مَكْرُوه وَفِي حَالَة الْحَرْب كَذَلِك فِي قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله وَفِي قَوْلهمَا إِذا كَانَ ثخينا يدْفع بِمثلِهِ السِّلَاح فَلَا بَأْس بلبسه فِي حَالَة الْحَرْب وَمَا يكون سداه غير حَرِير أَو لحْمَته غير حَرِير فَلَا بَأْس بلبسه فِي غير حَالَة الْحَرْب نَحْو الْقِتَال وَمَا أشبه ذَلِك وَقد تقدم بَيَان هَذِه الْفُصُول فِي الْكتب
قَالَ وَلَا بَأْس بِأَن يتَّخذ الرجل فِي بَيته سريرا من ذهب وَفِضة وَعَلِيهِ الْفرش من الديباج يتجمل بذلك للنَّاس من غير أَن يقْعد أَو ينَام عَلَيْهِ فَإِن ذَلِك مَنْقُول عَن السّلف من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ رُوِيَ أَن الْحسن وَالْحُسَيْن رَضِي الله عَنْهُمَا من تزوج بَينهمَا بشاه باتو على حسب مَا اخْتلف فِيهِ الروَاة زينت بَيته بالفرش من الديباج والأواني المتخذة من الذَّهَب وَالْفِضَّة فَدخل عَلَيْهِ بعض من بَقِي من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَضي الله عَنْهُم فَقَالَ مَا هَذَا فِي بَيْتك يَابْنَ رَسُول الله فَقَالَ هَذِه إمرأة تَزَوَّجتهَا فَأَتَت بِمثل هَذِه الْأَشْيَاء وَلم أستحسن منعهَا من ذَلِك وَعَن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة رَحمَه الله أَنه زين دَاره بِمثل هَذَا فَعَاتَبَهُ فِي ذَلِك بعض الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم فَقَالَ إِنَّمَا أَتَجَمَّل للنَّاس بِهَذَا وَلست أستعمله وَإِنَّمَا أفعل

(1/115)


ذَلِك لكيلا يشْتَغل قلب أحد بِي وَلَا ينظر إِلَيّ بِغَيْر جميل فَعرفنَا أَنه بِهَذَا إِذا اتَّخذهُ الْمَرْء على هَذَا الْقَصْد لم يكن بِهِ بَأْس وَإِن كَانَ الِاكْتِفَاء بِمَا دونه أفضل وَيدخل هَذَا فِي معنى قَوْله تَعَالَى {قل من حرم زِينَة} الْآيَة وَالَّذِي قَالَ لَا يقْعد عَلَيْهِ وَلَا ينَام قَول مُحَمَّد رَحمَه الله أَيْضا فَأَما على قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله فَلَا بَأْس بِالْجُلُوسِ وَالنَّوْم عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الْمَكْرُوه اللّبْس والملبوس يصير تبعا للابس فَأَما مَا يجلس وينام عَلَيْهِ فَلَا يصير تبعا لَهُ فَلَا بَأْس بِهِ
قَالَ وَلَا بَأْس بِأَن ينقش الْمَسْجِد بالجص والساج وَمَاء الذَّهَب قَالَ رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ شَيخنَا الإِمَام رَحمَه الله يَقُول تَحت اللَّفْظ إِشَارَة إِلَى أَنه لَا يُثَاب على ذَلِك فَإِنَّهُ قَالَ لَا بَأْس وَهَذَا اللَّفْظ لدفع الْحَرج لَا لإِيجَاب الثَّوَاب مَعْنَاهُ يَكْفِيهِ أَن ينجو من هَذَا رَأْسا بِرَأْس وَهُوَ الْمَذْهَب عِنْد الْفُقَهَاء رَحِمهم الله وَأَصْحَاب الظَّوَاهِر يكْرهُونَ ذَلِك ويؤثمون من فعله قَالُوا لِأَن فِيهِ مُخَالفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا اخْتَار من الطَّرِيقَة فَإِنَّهُ لما قيل لَهُ أَلا نهدم مسجدك ثمَّ نبنيه فَقَالَ لَا عرش كعرش مُوسَى أَو قَالَ عَرِيش كعريش مُوسَى وَكَانَ سقف مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من جريد وَكَانَ يكف إِذا مُطِرُوا حَتَّى كَانُوا يَسْجُدُونَ فِي المَاء والطين وَعَن

(1/116)


عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه مر بِمَسْجِد مزين مزخرف فَجعل يَقُول لمن هَذِه الْبيعَة وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك لكراهيته هَذَا الصَّنِيع فِي الْمَسَاجِد وَلما بعث الْوَلِيد بن عبد الملك أَرْبَعِينَ ألف دِينَار ليزين بهَا مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمر بهَا على عمر بن عبد العزيز رَحمَه الله تَعَالَى فَقَالَ الْمَسَاكِين أحْوج إِلَى هَذَا المَال من الأساطين وَالْأَصْل فِيهِ مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ من أَشْرَاط السَّاعَة أَن تزخرف الْمَسَاجِد وتعلى المنارات وَقُلُوبهمْ خاوية من الْإِيمَان
وَلَكنَّا نقُول لَا بَأْس بذلك لما فِيهِ من تَكْثِير الْجَمَاعَة وتحريض النَّاس على الِاعْتِكَاف فِي الْمَسْجِد وَالْجُلُوس فِيهِ لانتظار الصَّلَاة وَفِي كل ذَلِك قربَة وَطَاعَة والأعمال بِالنِّيَّاتِ ثمَّ الدَّلِيل على أَنه لَا بَأْس بذلك مَا رُوِيَ أَن أول من بنى مَسْجِد بَيت الْمُقَدّس دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَام ثمَّ أتمه سُلَيْمَان عَلَيْهِ السَّلَام بعده وزينه حَتَّى نصب على الْقبَّة الكبريت الْأَحْمَر وَكَانَ أعز وأنفس شَيْء وجد فِي ذَلِك الْوَقْت فَكَانَ يضئ من ميل وَكن الغزالات يغزلن بضوئها بالليالي من مَسَافَة ميل وَالْعَبَّاس بن عبد الْمطلب رضى الله عَنهُ أول من زين الْمَسْجِد الْحَرَام بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعمر بن الْخطاب زين مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(1/117)


وَزَاد فِيهِ وَكَذَلِكَ عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ بعده بنى الْمَسْجِد بِمَالِه وَزَاد فِيهِ وَبَالغ فِي تزيينه فَدلَّ أَن ذَلِك لَا بَأْس بِهِ وَإِن تَأْوِيل مَا رُوِيَ بِخِلَاف هَذَا مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي آخر الحَدِيث وَقُلُوبهمْ خاوية من الْإِيمَان أَي يزينون الْمَسَاجِد وَلَا يداومون على إِقَامَة الصَّلَاة فِيهَا بِالْجَمَاعَة أَو المُرَاد التزيين بِمَا لَيْسَ بِطيب من الْأَمْوَال أَو على قصد الرِّيَاء والسمعة فعلى ذَلِك يحمل ليَكُون جمعا بَين الْآثَار وهذ كُله إِذا فعل الْمَرْء هَذَا بِمَال نَفسه مِمَّا اكْتَسبهُ من حلَّة فَأَما إِذا فعله بِمَال الْمَسْجِد فَهُوَ آثم فِي ذَلِك وَإِنَّمَا يفعل بِمَال الْمَسْجِد مَا يكون فِيهِ إحكام الْبناء فَأَما التزين فَلَيْسَ من إحكام الْبناء فِي شَيْء حَتَّى قَالَ مَشَايِخنَا رَحِمهم الله للمتولي أَن يجصص الْحَائِط بِمَال الْمَسْجِد وَلَيْسَ لَهُ أَن ينقش الجص بِمَال الْمَسْجِد وَلَو فعله كَانَ ضَامِنا لِأَن فِي التجصيص إحكام الْبناء وَفِي النقش بعد التجصيص توهين الْبناء لَا إحكامه فَيضمن الْمُتَوَلِي مَا ينْفق على ذَلِك من مَال الْمَسْجِد
قَالَ أَلا ترى الرجل قد يَبْنِي لنَفسِهِ دَارا وينقش سقفها بِمَاء الذَّهَب فالا يكون آثِما فِي ذَلِك يُرِيد بِهِ أَنه فِيمَا ينْفق على دَاره للتزيين يقْصد بِهِ مَنْفَعَة نَفسه خَاصَّة وَفِيمَا ينْفق على الْمَسْجِد للتزيين منفعَته وَمَنْفَعَة غَيره فَإِذا جَازَ لَهُ أَن يصرف مَاله إِلَى مَنْفَعَة نَفسه بِهَذَا الطَّرِيق فلإن يجوز صرفه إِلَى منفعَته وَمَنْفَعَة غَيره كَانَ أولى وَقد أمرنَا فِي الْمَسَاجِد بالتعظيم وَلَا شكّ أَن معنى التَّعْظِيم يزْدَاد بالتزيين فِي قُلُوب بعض النَّاس من الْعَوام فَيمكن أَن يُقَال بِهَذَا الطَّرِيق يُؤجر على مَا فعله وَفِي الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يُثَاب الْمُؤمن على إِنْفَاق مَاله فِي كل شئ إِلَّا فِي الْبُنيان زَاد فِي بعض الرِّوَايَات مَا خلا الْمَسَاجِد فَإِن ثبتَتْ هَذِه الزِّيَادَة فَهُوَ دَلِيل

(1/118)


على أَنه يُثَاب فِيمَا ينْفق فِي بِنَاء الْمَسَاجِد وتزيينها
وعَلى هَذَا أَمر اللبَاس فَلَا بَأْس للرجل أَن يتجمل بِلبْس أحسن الثِّيَاب وأجودها فقد كَانَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جُبَّة فنك عَملهَا من الْحَرِير فَكَانَ يلبسهَا فِي الأعياد والوفود إِلَّا أَن الأولى أَن يَكْتَفِي بِمَا دون ذَلِك فِي الْمُعْتَاد من لبسه على مَا رُوِيَ أَن ثوب مهنة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ كَأَنَّهُ ثوب دهان
وَكَذَلِكَ لَا بَأْس بِأَن يتسرى بِجَارِيَة حَسَنَة فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ كل مَا كَانَ عِنْده من الْحَرَائِر تسرى حَتَّى استولد مَارِيَة أم ابراهيم رَضِي الله عَنْهُمَا وَعلي رَضِي الله عَنهُ مَعَ كل مَا كَانَ عِنْده من الْحَرَائِر كَانَ يتسرى حَتَّى استولد أم مُحَمَّد بن الحنيفية رَضِي الله عَنهُ فَعرفنَا أَنه لَا بَأْس بذلك وَالْأَصْل فِي هَذَا قَوْله تَعَالَى {قل من حرم زِينَة الله} الْآيَة
وَقَالَ لَو أَن النَّاس قنعوا بِمَا دون ذَلِك وعمدوا إِلَى الفضول فقدموها لآخرتهم كَانَ خيرا لَهُم وَالْأَصْل فِيهِ حَدِيث أبي ذَر رَضِي الله عَنهُ فَإِنَّهُ كَانَ يتشبث بِأَسْتَارِ الْكَعْبَة فِي أَيَّام الْمَوْسِم وينادي بِأَعْلَى صَوته أَلا من قد عرفني فقد عرفني وَمن لم يعرفنِي فَأَما أَبُو ذَر جُنْدُب بن جُنَادَة صَاحب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِن أحدكُم إِذا أَرَادَ سفرا استعد لسفره فَمَا لكم لَا تستعدون لسفر الْآخِرَة وَأَنْتُم تستيقنون أَنه لابد لكم مِنْهُ أَلا وَمن

(1/119)


أَرَادَ سفرا فِي الدُّنْيَا فَإِن بدا لَهُ أَن يرجع يُمكنهُ وَإِذا طلب الْقَرْض وجد وَإِن استوهب رُبمَا يُوهب لَهُ وَلَا يُوجد شئ من ذَلِك فِي سفر الْآخِرَة
وَسُئِلَ يحيى بن معَاذ رَضِي الله عَنهُ مَا لنا نتيقن بِالْمَوْتِ وَلَا نحبه فَقَالَ إِنَّكُم أَحْبَبْتُم الدُّنْيَا فكرهتم أَن تجعلوها خلفكم وَلَو قدمتم محبوبكم لأحببتم اللحوق بِهِ فَعرفنَا أَن الْأَفْضَل أَن يكْتَفى من الدُّنْيَا بِمَا لَا بُد لَهُ مِنْهُ وَيقدم لآخرته مَا هُوَ زِيَادَة على ذَلِك مِمَّا إكتسبه وَلكنه لَو إستمتع بِشَيْء من ذَلِك فِي الدُّنْيَا بَعْدَمَا إكتسبه من حلَّة لم يكن بِهِ بَأْس
وَالْقَوْل بتأثيم من ينْفق على نَفسه وَعِيَاله مِمَّا اكْتَسبهُ من حلَّة وَأدّى حق الله تَعَالَى مِنْهُ غير سديد إِلَّا أَن أفضل الطّرق طرق الْمُرْسلين عَلَيْهِم السَّلَام وَقد بَينا أَنهم اكتفوا من الدُّنْيَا بِمَا لابد لَهُم مِنْهُ خُصُوصا نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهُ لما عرض لَهُ مَفَاتِيح خَزَائِن الأَرْض ردهَا وَقَالَ أكون عبدا نَبيا أجوع يَوْمًا وَأَشْبع يَوْمًا فَإِذا جعت صبرت وَإِذا شبعت شكرت وَلكنه مَعَ هَذَا فِي بعض الْأَوْقَات قد كَانَ يتَنَاوَل بعض الطَّيِّبَات حَتَّى رُوِيَ أَنه قَالَ يَوْمًا لَيْت لنا خبز بر قد لبق بِسمن وَعسل فنأكله فَصنعَ

(1/120)


ذَلِك عُثْمَان رَضِي الله عَنهُ وَجَاء بِهِ فِي قَصْعَة فَقيل إِنَّه لم يتَنَاوَل من ذَلِك وَالأَصَح أَنه تنَاول بعضه ثمَّ أَمر بالتصدق بِمَا بَقِي مِنْهُ وَقد أهدي لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جدي سمين مشوي فَأكل مِنْهُ مَعَ أَصْحَابه رَضِي الله عَنْهُم وَقد تنَاول مَا أُتِي بِهِ من الشَّاة المسمومة حِين قدم بَين يَدَيْهِ الْحمل المشوي قَالَ لبَعْضهِم ناولني الذِّرَاع فبهذه الْآثَار تبين أَنه كَانَ يتَنَاوَل فِي بعض الْأَوْقَات لبَيَان أَن ذَلِك لَا بَأْس بِهِ وَكَانَ يَكْتَفِي بِمَا دون ذَلِك فِي عَامَّة الْأَوْقَات لبَيَان أَن ذَلِك أفضل على مَا رُوِيَ أَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا كَانَت تبْكي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتقول يامن لم يلبس الْحَرِير وَلم يشْبع من خبز الشّعير فَصَارَ الْحَاصِل أَن الِاقْتِصَار على أدنى مَا يَكْفِيهِ عَزِيمَة وَمَا زَاد على ذَلِك من التنعم والنيل من اللَّذَّات رخصَة وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِن الله يحب أَن يُؤْتى بِرُخصِهِ كَمَا يحب أَن يُؤْتى بِعَزَائِمِهِ وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعثت بالحنيفية السمحة وَلم أبْعث بالرهبانية الصعبة فَعرفنَا أَنه إِن ترخص بالإصابة من التنعم فَلَيْسَ لأحد أَن يؤثمه فِي ذَلِك وَإِن ذمّ نَفسه وَكسر شَهْوَته فَذَلِك أفضل لَهُ وَيكون من الَّذين يدْخلُونَ الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب على مَا رُوِيَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إِن الله وَعَدَني أَن يدْخل سبعين ألفا من أمتِي الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب فَقيل من هم يَا رَسُول الله قَالَ هم الَّذين لَا يسْتَرقونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ

(1/121)


وَفِي رِوَايَة ثمَّ زَاد لي مَعَهم سبعين ألف وَفِي رِوَايَة ثمَّ أَضْعَف لي مَعَ الْفَرِيق الأول وَالْآخر سبعين ألفا وَفِي الحَدِيث الْمَعْرُوف أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا تَزُول قدما عبد يَوْم الْقِيَامَة حَتَّى يسْأَل عَن أَربع عَن عمره فِيمَا أفناه وَعَن شبابه فِيمَا أبلاه وَعَن مَاله من أَيْن اكْتَسبهُ وَإِلَى أَي مَحل صرفه فَإِذا صرف المَال إِلَى مَا فِيهِ ابْتِغَاء مرضاة الله تَعَالَى كَانَ الْحساب فِي السُّؤَال أَهْون عَلَيْهِ مِنْهُ إِذا صرفه إِلَى شهوات بدنه
قَالَ وَالَّذِي على الْمَرْء أَن يتَمَسَّك بِهِ من الْخِصَال الَّتِي يحمد على ذَلِك أَشْيَاء مِنْهَا التَّحَرُّز عَن إرتكاب الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن وَمِنْهَا الْمُحَافظَة على أَدَاء الْفَرَائِض والمداومة على ذَلِك فِي أَوْقَاتهَا وَمِنْهَا التَّحَرُّز

(1/122)


عَن السُّحت وإكتساب المَال فِي غير حلَّة وَمِنْهَا التَّحَرُّز عَن ظلم كل أحد من مُسلم أَو معاهد فَأَما فِيمَا وَرَاء ذَلِك فقد وسع الله تَعَالَى الْأَمر علينا فَلَا نضيقه على أَنْفُسنَا وَلَا على أحد من الْمُؤمنِينَ
قَالَ مُحَمَّد بن سَمَّاعَة رَحمَه الله قَالَ مُحَمَّد رَحمَه الله وَهَذَا الَّذِي ثَبت فِي هَذَا الْكتاب قَول عمر وَعُثْمَان وَعلي وَابْن عَبَّاس وَغَيرهم من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرَضي عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَزفر وَمن بعدهمْ من الْفُقَهَاء رَحِمهم الله وَبِذَلِك كُله نَأْخُذ وَالله أعلم بِالصَّوَابِ وَالْحَمْد لله وَحده وَصلى الله تَعَالَى على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَصَحبه وحسبنا الله وَنعم الْوَكِيل
تمّ كتاب الْكسْب لمُحَمد بن حسن الشَّيْبَانِيّ

(1/123)