اللباب في الجمع بين السنة والكتاب

 (كتاب الْفَرَائِض)

(بَاب فِي مِيرَاث الْبَنَات)

التِّرْمِذِيّ: عَن جَابر بن عبد الله قَالَ: " جَاءَت امْرَأَة سعد بن الرّبيع بابنتيها من سعد إِلَى رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ، فَقَالَت: يَا رَسُول الله هَاتَانِ ابنتا سعد بن الرّبيع، قتل أَبوهُمَا مَعَك يَوْم أحد شَهِيدا، وَإِن عَمهمَا أَخذ مَالهمَا فَلم يدع لَهما مَالا، وَلَا ينكحان إِلَّا وَلَهُمَا مَال. قَالَ: يقْضِي الله فِي ذَلِك. فَنزلت آيَة الْمِيرَاث، فَبعث رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِلَى عَمهمَا فَقَالَ: أعْط لابنتي سعد الثُّلثَيْنِ، وَأعْطِ أمهما الثّمن، وَمَا بَقِي فَهُوَ لَك ".

(2/797)


(بَاب مِيرَاث بنت الابْن مَعَ بنت الصلب)

البُخَارِيّ: عَن هزيل بن شُرَحْبِيل قَالَ: " جَاءَ رجل إِلَى أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وسلمان بن ربيعَة فَسَأَلَهُمَا عَن ابْنة، وَابْنَة ابْن، وَأُخْت لأَب وَأم، فَقَالَ: للابنة النّصْف، (وَللْأُخْت النّصْف، وائت ابْن مَسْعُود فَإِنَّهُ سيتابعني، فَأتى ابْن مَسْعُود) ، فَقَالَ: {لقد ضللت إِذا وَمَا أَنا من المهتدين} . سأقضي بَينهمَا بِمَا قضى بِهِ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : للابنة النّصْف ولابنة الابْن السُّدس تَكْمِلَة الثُّلثَيْنِ وَمَا بَقِي للْأُخْت ".
(بَاب الْجد يحجب الْإِخْوَة)

ذهب إِلَى ذَلِك أَبُو بكر، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَأَبُو هُرَيْرَة، وَأَبُو الدَّرْدَاء، وَأَبُو الطُّفَيْل عَامر بن وَاثِلَة، وَعبد الله بن عَبَّاس، وَعبد الله بن الزبير، وَعبادَة بن الصَّامِت، وَعمْرَان بن الْحصين، ومعاذ بن جبل، وَجَابِر بن عبد الله، وَأبي بن كَعْب (وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم أَجْمَعِينَ. وَهُوَ مَذْهَب عَطاء، وَابْن الْمسيب، وَمُجاهد،

(2/798)


وَطَاوُس، وَعبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود) ، وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَسَعِيد بن جُبَير، وَجَابِر بن زيد، ومروان بن الحكم رَحِمهم الله تَعَالَى.
(بَاب الْعَوْل)

مَرْوِيّ عَن عمر، وَعُثْمَان، وَعلي، وَالْعَبَّاس، وَابْن مَسْعُود، وَزيد، وَأبي مُوسَى، وَعَائِشَة رَضِي الله عَنْهُم، وَأخذ بِهِ عَامَّة الْفُقَهَاء وَخَالف ابْن عَبَّاس فِيهِ بعد موت عمر.
(بَاب الرَّد)

مُسلم: عَن عبد الله بن بُرَيْدَة، عَن أَبِيه قَالَ: " بَينا أَنا جَالس عِنْد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِذْ أَتَتْهُ امْرَأَة فَقَالَت: إِنِّي تَصَدَّقت على أُمِّي بِجَارِيَة وَإِنَّهَا مَاتَت، فَقَالَ: وَجب أجرك وردهَا عَلَيْك الْمِيرَاث ".
(بَاب الْمَرْأَة تَرث من دِيَة زَوجهَا)

التِّرْمِذِيّ: عَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: قَالَ عمر: " الدِّيَة على الْعَاقِلَة، وَلَا تَرث الْمَرْأَة من دِيَة زَوجهَا شَيْئا. فَأخْبرهُ الضَّحَّاك بن سُفْيَان الْكلابِي أَن

(2/799)


رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] (كتب إِلَيْهِ أَن) ورث امْرَأَة أَشْيَم الضبابِي من دِيَة زَوجهَا ". (قَالَ أَبُو عِيسَى) : هَذَا حَدِيث صَحِيح.
(ذكر مَا فِيهِ من الْغَرِيب:)

اسْم الرجل أَشْيَم، بِهَمْزَة مَفْتُوحَة، وشين سَاكِنة مُعْجمَة، وياء مُعْجمَة بثنتين من تَحت، وَمِيم. (الضبابِي) : بِكَسْر الضَّاد (الْمُعْجَمَة) ، وبائين معجمتين بِوَاحِدَة وَاحِدَة وَبَينهمَا ألف، وياء النِّسْبَة.
(بَاب فِي (تَوْرِيث) ذَوي الْأَرْحَام)

قَالَ الله تَعَالَى: {وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} .
التِّرْمِذِيّ: عَن عَائِشَة قَالَت: قَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : " الْخَال وَارِث من لَا وَارِث لَهُ ". حَدِيث (حسن) غَرِيب.
وَعنهُ: عَن سهل بن حنيف قَالَ: كتب عمر بن الْخطاب إِلَى أبي عُبَيْدَة أَن

(2/800)


رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] قَالَ: " الله وَرَسُوله مولى من لَا مولى لَهُ (وَالْخَال وَارِث من لَا وَارِث لَهُ) هَذَا حَدِيث حسن (صَحِيح) . وَإِلَى هَذَا ذهب أَكثر أهل الْعلم.
فَإِن قيل: هَذَا مثل مَا رُوِيَ (عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ) : " أَن رجلا مَاتَ على عهد رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَلم يدع وَارِثا إِلَّا عبدا هُوَ أعْتقهُ. فَأعْطَاهُ النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مِيرَاثه ". هَذَا حَدِيث حسن.
قيل لَهُ: لَيْسَ كَذَلِك، فَإِنَّهُ يحْتَمل وُجُوهًا مِنْهَا:
أَنه يكون دَفعه إِلَيْهِ لِأَنَّهُ وَرثهُ إِيَّاه بِمَا للْمَيت عَلَيْهِ من الْوَلَاء.
وَيحْتَمل أَن يكون مَوْلَاهُ (ذَا رحم لَهُ) فَدفع إِلَيْهِ مَاله بالرحم وَورثه (بِهِ) (لَا بِالْوَلَاءِ) أَلا ترَاهُ يَقُول فِي الحَدِيث من طَرِيق آخر: " وَلم يدع قرَابَة إِلَّا عبدا هُوَ أعْتقهُ ". فَأخْبر أَن العَبْد كَانَ قرَابَة فورثه بِالْقَرَابَةِ.
وَيحْتَمل أَن يكون دفع إِلَيْهِ مِيرَاثه لِأَن الْمَيِّت كَانَ أَمر بذلك، فَوضع رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مِيرَاثه حَيْثُ أَمر بِوَضْعِهِ. كَمَا رُوِيَ أَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قَالَ: " لَيْسَ حَيّ من الْعَرَب أَحْرَى أَن يَمُوت الرجل مِنْهُم وَلَا يعرف لَهُ وَارِث مِنْكُم معشر همذان. فَإِذا كَانَ كَذَلِك فليضع مَاله حَيْثُ أحب ".
وَيحْتَمل أَن يكون عَلَيْهِ السَّلَام أطْعم (الْوَلِيّ) الْأَسْفَل لفقره كَمَا للْإِمَام أَن يفعل ذَلِك فِيمَا فِي يَده من الْأَمْوَال الَّتِي لَا وَارِث لَهَا.

(2/801)


قَالَ الطَّحَاوِيّ: " وَسمعت ابْن أبي عمرَان يذكر أَن هَذَا التَّأْوِيل الآخر قد رُوِيَ عَن يحيى بن آدم رَحمَه الله ".
(بَاب الْإِرْث بالموالاة)

قَالَ الله تَعَالَى: {وَالَّذين عقدت أَيْمَانكُم فآتوهم نصِيبهم} وَالْمرَاد عقد الْمُوَالَاة نقلا عَن أَئِمَّة التَّفْسِير.
التِّرْمِذِيّ: عَن عبد الله بن موهب - وَقَالَ بَعضهم ابْن وهب - عَن تَمِيم الدَّارِيّ قَالَ: " سَأَلت النَّبِي [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مَا السّنة فِي الرجل من أهل الشّرك يسلم على يَد رجل من الْمُسلمين؟ فَقَالَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : هُوَ أولى النَّاس بمحياه ومماته ".
وَفِي لفظ ابْن مَاجَه: " مَا السّنة فِي الرجل من أهل الْكتاب ".
وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا حلف فِي الْإِسْلَام "، مَحْمُول على نفي الْحلف الَّذِي كَانُوا يتعاقدون عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة من أَن يَقُول: " دمي دمك، وهدمي هدمك،

(2/802)


وترثني وأرثك " فَكَانَ ذَلِك على التناصر على الْحق وَالْبَاطِل، فحظر الْإِسْلَام المناصرة على الْبَاطِل وَأوجب مَعُونَة الْمَظْلُوم على الظَّالِم. وَكَذَلِكَ كَانَ الْحلف فِي الْجَاهِلِيَّة (لتقدم المعاقد على الْقَرِيب) فَبَقيَ ذَلِك فِي الْإِسْلَام وَقدم الْقَرِيب عَلَيْهِ.
فَإِن قيل: الْآيَة مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: {وَأولُوا الْأَرْحَام بَعضهم أولى بِبَعْض} .
قيل لَهُ: الَّذِي ورد أَنَّهَا نسخت فِي حق التَّقْدِيم على الْإِرْث بِسَبَب الْقَرَابَة، أما نسخ الْإِرْث بهَا بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا نسلم. وَمَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ من حمل الحَدِيث على مَا ذَكرْنَاهُ أولى، لِأَن فِيهِ الْجمع بَين الْآيَة الَّتِي تلونا وَبَين الْخَبَرَيْنِ المتعارضين. والمصير إِلَى هَذَا أولى من القَوْل / بالنسخ الْمُؤَدِّي إِلَى إبِْطَال الْعَمَل بِالْآيَةِ وبالخبر الَّذِي روينَا أصلا ورأسا.
(بَاب فِي مِيرَاث الْمُرْتَد)

مَذْهَب عَليّ، وَعبد الله، وَزيد بن ثَابت، وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَسَعِيد بن الْمسيب، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَجَابِر بن زيد، وَعمر بن عبد الْعَزِيز، وَحَمَّاد بن الحكم، وَالثَّوْري، وَالْأَوْزَاعِيّ، وَشريك أَن الْمُرْتَد يَرِثهُ ورثته الْمُسلمُونَ إِذا مَاتَ أَو قتل على ردته، وَمَا اكْتَسبهُ فِي حَال الرِّدَّة فَهُوَ فَيْء. قَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ: " ظَاهر قَوْله تَعَالَى: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} . يَقْتَضِي تَوْرِيث الْمُسلم من الْمُرْتَد. إِذْ لم يفرق بَين (الْمَيِّت) الْمُسلم وَالْمُرْتَدّ ".
فَإِن قيل: يَخُصُّهُ قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا يَرث الْمُسلم الْكَافِر " كَمَا خص

(2/803)


تَوْرِيث الْكَافِر من الْمُسلم. وَهُوَ وَإِن كَانَ من آحَاد الْأَخْبَار فقد تَلقاهُ النَّاس بِالْقبُولِ، واستعملوه فِي منع تَوْرِيث الْمُسلم من الْكَافِر، فَصَارَ فِي حيّز الْمُتَوَاتر. وَلِأَن آيَة الْمَوَارِيث خَاصَّة بالِاتِّفَاقِ وأخبار الْآحَاد مَقْبُولَة فِي تَخْصِيص مثلهَا.
قيل لَهُ: فِي بعض أَلْفَاظ حَدِيث أُسَامَة " لَا يتوارث أهل ملتين، لَا يَرث الْمُسلم الْكَافِر "، فَأخْبر أَن المُرَاد إِسْقَاط التَّوَارُث بَين أهل الملتين، وَلَيْسَت الرِّدَّة بِملَّة قَائِمَة، لِأَنَّهُ وَإِن ارْتَدَّ إِلَى الْيَهُودِيَّة أَو النَّصْرَانِيَّة فَغير مقرّ عَلَيْهَا، فَلَيْسَ هُوَ مَحْكُوم لَهُ بِحكم أهل الْملَّة الَّتِي انْتقل إِلَيْهَا. فَإِنَّهُ لَا تحل ذَبِيحَته، وَإِن كَانَت امْرَأَة لَا يحل نِكَاحهَا. فَثَبت أَنَّهَا لَيست بِملَّة. وَقد ورد حَدِيث أُسَامَة مُفَسرًا بِهَذَا. وَمن أصل أبي حنيفَة أَن ملكه يَزُول بِالرّدَّةِ، فَإِذا قتل أَو مَاتَ انْتقل إِلَى الْوَارِث. وَمن أجل ذَلِك لَا يجوز تصرف الْمُرْتَد فِي مَاله الَّذِي اكْتَسبهُ فِي حَال الْإِسْلَام وَحِينَئِذٍ لم يُورث مُسلم من كَافِر.
لَيْسَ وَيمْتَنع تَوْرِيث الْحَيّ، قَالَ الله تَعَالَى: {وأورثكم أَرضهم وديارهم وَأَمْوَالهمْ} وَكَانُوا أَحيَاء. وعَلى أَنا نقلنا المَال إِلَى الْوَرَثَة بعد الْمَوْت فَلَيْسَ فِيهِ تَوْرِيث من الْحَيّ.
وَإِذا جعل مَاله لبيت المَال (فقد) ورثت مِنْهُ جمَاعَة الْمُسلمين وَهُوَ كَافِر حَيّ، إِذا لحق بدار الْحَرْب مُرْتَدا، فقد اجْتمع للْوَرَثَة الْقَرَابَة وَالْإِسْلَام فصاروا أولى. كمن اجْتمع لَهُ / قرب الْقَرَابَة وَالْإِسْلَام مَعَ من بعد نسبه وَهُوَ مُسلم. بِخِلَاف مَال الذِّمِّيّ، لِأَنَّهُ بعد مَوته لَيْسَ مُسْتَحقّا بِالْإِسْلَامِ، لِاتِّفَاق الْمُسلمين على أَن المَال لوَرثَته من أهل الذِّمَّة. واتفاق جَمِيع فُقَهَاء الْأَمْصَار على أَن مَال الْمُرْتَد يسْتَحق بِالْإِسْلَامِ على حسب الِاخْتِلَاف.
وَإِن مَاتَ الذِّمِّيّ لَا عَن وَرَثَة ذمَّة كَانَ بِمَنْزِلَة مَال وجده الإِمَام فِي دَار الْإِسْلَام

(2/804)


وَلَا مَالك لَهُ، كاللقطة الَّتِي لَا يعرف مستحقها، فتصرف فِي وُجُوه الْقرب. وَلَا يلْزم جعل مَا اكْتَسبهُ فِي حَال ردته فَيْئا، لِأَنَّهُ لَا يملكهُ ملكا صَحِيحا. فَصَارَ مَالا مغنوما كَسَائِر أَمْوَال أهل الْحَرْب. والغنائم لَيست بمستحقة لغانميها بِالْإِسْلَامِ بِدَلِيل رضخنا (للذِّمِّيّ) وَمن شَرط المَال المغنوم أَن يكون ملكه غير صَحِيح.
وَأما من أسلم بعد قسْمَة الْمِيرَاث، أَو أعتق، فَإِنَّهُ لَا مِيرَاث لَهُ. وَهُوَ قَول عَطاء، وَسَعِيد بن الْمسيب، وَسليمَان بن يسَار، وَأبي الزِّنَاد، لِأَن حكم الْمَوَارِيث قد اسْتَقر فِي الشَّرْع على وُجُوه مَعْلُومَة بحدوث الْمَوْت من غير شَرط الْقِسْمَة، فَوَجَبَ أَن لَا يَزُول ملك من اسْتحق شَيْئا بِإِسْلَام من أسلم كَمَا لَا يَزُول بعد الْقِسْمَة. وَحكم مَوَارِيث الْجَاهِلِيَّة لما لم يسْتَقرّ فطر الْإِسْلَام حملت عَلَيْهِ. وَلَا خلاف أَن من مَاتَ بعد مَا ورث مِيرَاثا قبل الْقِسْمَة أَن نصِيبه لوَرثَته. وَكَذَا لَو ارْتَدَّ لَا يبطل مِيرَاثه الَّذِي اسْتَحَقَّه. وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.

(2/805)