اللباب في شرح الكتاب

كتاب السير.
- الجهاد فرضٌ على الكفاية، إذا قام به
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإذا أكره) الرجل (على الردة لم تبن امرأته منه) ؛ لأن الردة تتعلق بالاعتقاد، ألا ترى أنه لو كان قلبه مطمئناً بالإيمان لا يكفر، وفي اعتقاده الكفر شك، فلا تثبت البينونة بالشك، فإن قالت المرأة "قد بنت منك" وقال هو "قد أظهرت ذلك وقلبي مطمئن بالإيمان" فالقول قوله استحساناً؛ لأن اللفظ غير موضوع للفرقة، وهي بتبدل الاعتقاد، ومع الإكراه لا يدل على التهدل؛ فكان القول قوله، هداية.
كتاب السير
مناسبته للاكراه لا تخفى؛ فإن كلا منهما للزجر والرد إلى الوفاء، إلا أن الأول في المسلمين والكفار عام، بخلاف الثاني، فكان أولى بالاهتمام، والأول زاجر عن العصيان، والثاني عن الكفر والطغيان، فترقى من الأدنى إلى الأعلى كما في غاية البيان.
والسير - بكسر السين وفتح الياء - جمع سيرة، وهي: الطريقة في الأمور، وفي الشرع يختص بسير النبي صلى الله عليه وسلم في مغازيه، هداية. وترجم له الكثير بالجهاد، وهو لغة: مصدر جاهد في سبيل الله، وشرعا: الدعاء إلى الدين الحق وقتال من لم يقبله، كما في الشمنى.
(الجهاد فرض على الكفاية) ، لأنه لم يفرض لعينه، إذ هو إفساد في نفسه، (وإنما فرض لإعزاز دين الله ودفع الفساد عن العباد، وكل ما هو كذلك فهو فرض كفاية إذا حصل المقصود بالبعض، وإلا ففرض عين، كما صرح بذلك حيث قال: (إذا قام به

(4/114)


فريقٌ من الناس سقط عن الباقين، وإن لم يقم به أحدٌ أثم جميع الناس بتركه.
وقتال الكفار واجبٌ وإن لم يبدءونا، ولا يجب الجهاد على صبي، ولا على عبدٍ، ولا امرأة، ولا أعمى، ولا مقعدٍ، ولا أقطع.
وإن هجم العدو على بلدٍ وجب على جميع المسلمين الدفع: تخرج المرأة بغير إذن زوجها، والعبد بغير إذن المولى.
وإذا دخل المسلمون دار حربٍ فحاصروا مدينةً أو حصناً دعوهم إلى الإسلام، فإن أجابوهم كفوا عن قتالهم،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فريق من الناس سقط) الإثم (عن الباقين) ؛ لحصول المقصود بذلك كصلاة الجنازة ودفنها ورد السلام، فإن كل واحد منها إذا حصل من بعض الجماعة يسقط الفرض عن الباقين، وهذا إذا كان بذلك الفريق كفاية، أما إذا لم يكن بهم كفاية فرض على الأقرب فالأقرب من العدو إلى أن تحصل الكفاية (وإن لم يقم به أحدا أثم جميع الناس بتركه) لتركهم فرضا عليهم.
(وقتال الكفار واجب وإن لم يبدءونا) للنصوص العامة (ولا يجب الجهاد على صبي) لعدم التكليف (ولا عبد، ولا امرأة) لتقدم حق المولى والزوج (ولا أعمى، ولا مقعد، ولا أقطع) ؛ لأنهم عاجزون، والتكليف بالقدرة.
(فإن هجم العدو على بلد وجب على جميع المسلمين الدفع) حتى (تخرج المرأة بغير إذن زوجها، والعبد بغير إذن المولى) لأنه صار فرض عين كالصلاة والصوم، وفرض العين مقدم على حق الزوج والمولى.
(وإذا دخل المسلمون دار الحرب فحاصروا مدينة أو حصناً دعوهم) أولا (إلى الإسلام، فإن أجابوهم) إلى ذلك (كفوا عن قتالهم) لحصول المقصود، وقد

(4/115)


وإن امتنعوا دعوهم إلى أداء الجزية، فإن بذلوها فلهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم.
ولا يجوز أن بقاتل من لم تبلغه دعوة الإسلام، إلا بعد أن يدعوهم، ويستحب أن يدعو من بلغته الدعوة، ولا يجب ذلك، وإن أبوا استعانوا بالله تعالى عليهم وحاربوهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله) الحديث.
(وإن امتنعوا) عن الإسلام (دعوهم إلى أداء الجزية) إذا كانوا ممن تقبل منهم الجزية، بخلاف من لا تقبل منهم كالمرتدين وعبدة الأوثان من العرب، فإنه لا فائدة في دعائهم إلى قبول الجزية، لأنه لا يقبل منهم إلا الإسلام، قال الله تعالى {تقاتلونهم أو يسلمون} ، هداية (فإن بذلوها) أي قبلوا بذلها كانوا ذمة للمسلمين (فلهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم) لأنهم إنما بذلوها لذلك.
(ولا يجوز) للإمام (أن يقاتل) أحداً من (من لم تبلغه دعوة الإسلام إلا بعد أن يدعوهم) إليه، لأنهم بالعدوة إليه يعلمون أنا نقاتلهم على الدين، لا على سلب الأموال وسبي الذراري، فلعلهم يجيبون، فنكفى مؤنة القتال، ولو قاتلهم قبل الدعوة أثم للنهي، ولا غرامة لعدم العاصم وهو الدين أو الإحراز بالدار فصار كقتل الصبيان والنسوان، هداية (ويستحب أن يدعو من بلغته الدعوة) أيضاً، مبالغة في الإنذار (و) لكن (لا يجب ذلك) عليه، لأن الدعوة قد بلغتهم وقد صح أن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارون - أي غافلون - ونعمهم يستقي على الماء، جوهرة (وإن أبوا) أي امتنعوا عن الإسلام وبذل الجزية (استعانوا بالله تعالى عليهم وحاربوهم)

(4/116)


ونصبوا عليهم المجانيق، وحرقوهم، وأرسلوا عليهم الماء، وقطعوا أشجارهم وأفسدوا زروعهم، ولا بأس برميهم وإن كان فيهم مسلمٌ أسيرٌ أو تاجرٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأنه تعالى هو الناصر لأوليائه والمدمر لأعدائه (ونصبوا عليهم المجانيق) جمع منجنيق، قال في الصحاح: وهي التي يرمي بها الحجارة، معربة، وأصلها بالفارسية سنجي نيك: أي ما أجودني! وهي مؤنثة، وجمعها منجنيقات ومجانيق، وتصغيره مجينيق (قال الجواليقي في المعرب: "اختلف أهل العربية في المنجنيق، فقال قوم: الميم زائدة وقال آخرون: بل هي أصلية. وأخبرنا ابن بندار عن ابن رزمة عن أبي سعيد عن ابن دريد قال: أخبرنا أبو حاتم عن أبي عبيدة، قال: سألت أعرابياً عن حروب كانت بينهم، فقال كانت بيننا حروب عون، تفقأ فيها العيون، مرة نجنق، وأخرى ترشق. فقوله "تجنق" دال على أن الميم زائدة، ولو كانت أصلية لقال "تمجنق" وكان المازني يقول: الميم من نفس الكلمة والنون زائدة، لقولهم "مجانيق" فسقوط النون في الجمع كسقوط الياء في "عيضموز" إذا قلت "عضاميز". ويقال: "منجنيق" و "مجنيق" بفتح الميم وكسرها وقيل: الميم والنون في أوله أصليتان، وقيل: الميم أصلية والنون زائدة، وهو أعجمي معرب وحكى الفراء "منجنوق" بالواو، وحكى غيره "منجليق" وقد جنق المنجنيق، ويقال "جنق" [بالتضعيف] ، وقال جرير:
يلقى الزلازل أقوام دلفت لهم * بالمنجنيق وصبا بالملاطيس اهـ) ، اهـ. وقد نصبها النبي صلى الله عليه وسلم على الطائف (وحرقوهم) لأنه عليه الصلاة والسلام أحرق البويرة، وهي موضع بقرب المدينة (وأرسلوا عليهم الماء، وقطعوا شجرهم، وأفسدوا زورعهم) لأن في ذلك كسر شوكتهم وتفريق جمعهم.
(ولا بأس برميهم وإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر) ؛ لأنه قل

(4/117)


وإن تترسوا بصبيان المسلمين أو بالأسارى لم يكفوا عن رميهم ويقصدون بالرمي الكفار.
ولا بأس بإخراج النساء والمصاحف مع المسلمين إذا كان عسكراً عظيماً يؤمن عليه، ويكره إخراج ذلك في سريةٍ لا يؤمن عليها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما يخلو حصن من مسلم؛ فلو امتنع باعتباره لانسد بابه.
(وإن تترسوا بصبيان المسلمين أو بالأسارى لم يكفوا عن رميهم) ؛ لأنه يؤدي إلى أن يتخذوا ذلك ذريعة إلى إبطال قتالهم أصلا (و) لكن (يقصدون بالرمي الكفار) لأن المسلم لا يجوز اعتماد قتله؛ فإذا تعذر التمييز فعلا وأمكن قصداً التزم؛ لأن الطاعة بحسب الطاقة، وما أصابوه منهم لا دية عليهم ولا كفارة؛ لأن الجهاد فرض، والغرامات لا تقترن بالفروض كما في الهداية.
(ولا بأس بإخراج النساء والمصاحف) وكتب الفقه والحديث، وكل ما يجب تعظيمه، ويحرم الاستخفاف به (مع المسلمين إذا كان عسكراً عظيما يؤمن عليه) ؛ لأن الغالب هو السلامة، والغالب كالمتحقق (ويكره إخراج ذلك في سرية لا يؤمن عليها) ؛ لأن فيه تعريضهن على الضياع والفضيحة، وتعريض المصاحف على الاستخفاف؛ لأنهم يستخفون بها مغايظة للمسلمين، وهو التأويل الصحيح لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تسافروا بالقرآن في أرض العدو) ولو دخل مسلم إليهم بأمان لا بأس بأن يحمل معه المصحف إذا كانوا قوماً يوفون بالعهد، لأن الظاهر عدم التعرض، والعجائز يخرجن في العسكر العظيم لإقامة عمل يليق بهن، كالطبخ، والسقي، والمداواة. وأما الشواب فمقامهن في البيوت أدفع للفتنة، ولا يباشرن القتال، لأنه يستدل به على ضعف المسلمين،

(4/118)


ولا تقاتل المرأة إلا بإذن زوجها، ولا العبد إلا بإذن سيده، إلا أن يهجم العدو.
وينبغي للمسلمين أن لا يغدروا، ولا يغلوا، ولا يمثلوا، ولا يقتلوا امرأةً أو شيخاً فانياً ولا صبياً ولا أعمى ولا مقعداً، إلا أن يكون هؤلاء ممن له رأىٌ في الحرب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلا عند الضرورة، ولا يستحب إخراجهن للمباضعة والخدمة، فإن كانوا لابد مخرجين فبالإماء دون الحرائر، هداية.
(ولا تقاتل المرأة إلا بإذن زوجها، ولا العبد إلا بإذن سيده) ، لما تقدم أن حق الزوج والمولى مقدم (إلا أن يهجم العدو) ، لصيرورته فرض عين كما سبق.
(وينبغي للمسلمين أن لا يقدروا) أي يخونوا بنقض العهد (ولا يغلوا) أي: يسرقوا من الغنيمة (ولا يمثلوا) بالأعداء: بأن يشقوا أجوافهم ويرضخوا رءوسهم، ونحو ذلك، والمثلة المروية في قصة العرنيبن منسوخة بالنهي المتأخر، هو المنقول، هداية. قال في الجوهرة: وإنما تكره المثلة بعد الظفر بهم، أما قبله فلا بأس بها، اهـ (ولا يقتلوا امرأة، ولا شيخاً فانياً) وهو الذي فنيت قواه (ولا صبيا، ولا أعمى، ولا مقعداً) ؛ لأن هؤلاء ليسوا من أهل القتال، والمبيح للقتل عندنا المحاربة، فلو قاتل أحد منهم يقتل دفعاً لشره (إلا أن يكون أحد هؤلاء ممن له رأي في الحرب) فيقتل، لأن من له رأي يستعان برأيه أكثر مما يستعان

(4/119)


أو تكون المرأة ملكةً، ولا يقتلوا مجنوناً.
وإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب أو فريقاً منهم وكان في ذلك مصلحةٌ للمسلمين فلا بأس به، وإن صالحهم مدةٌ ثم رأى أن نقض الصلح أنفع نبذ إليهم وقاتلهم، وإن بدءوا بخيانة قاتلهم ولم ينبذ إليهم إذا كان ذلك باتفاقهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بمقاتلته (أو تكون المرأة ملكة) ، لأن في قتلها تفريقاً لجمعهم، وكذلك إذا كان ملكهم صبيا صغيراً وأحضروه معهم في الوقعة، وكان في قتله تفريق جمعهم - فلا بأس بقتله، جوهرة.
(ولا يقتلوا مجنوناً) ، لأنه غير مخاطب، إلا يقاتل فيقتل دفعاً لشره، غير أن الصبي والمجنون يقتلان ما داما يقاتلان، وغيرهما لا بأس بقتله بعد الأسر، لأنه من أهل العقوبة، لتوجه الخطاب نحوه، هداية.
(وإذا رأى الإمام أن يصالح أهل الحرب) على ترك القتال معهم (أو فريقاً منهم) مجاناً، أو على مال منا أو منهم (وكان في ذلك مصلحة للمسلمين فلا بأس به) لأن الموادعة جهاد معنى إذا كانت خيراً للمسلمين؛ لأن المقصود - وهو دفع الشر - حاصل به، بخلاف ما إذا لم يكن خيراً؛ لأنه ترك الجهاد صورة ومعنى، وتمامه في الهداية (فإن صالحهم مدة) معلومة (ثم رأى أن نقض الصلح أنفع للمسلمين نبذ إليهم) عهدهم (وقاتلهم) ؛ لأن المصلحة لما تبدلت كان النبذ جهاداً، وإيفاء العهد ترك للجهاد صورة ومعنى، ولابد من النبذ تحرزاً عن الغدر، ولابد من اعتبار مدة يبلغ خبر النبذ إلى جميعهم كما في الهداية.
(وإن بدءوا بخيانة قاتلهم ولم ينبذ إليهم إذا كان ذلك باتفاقهم) ؛

(4/120)


وإذا خرج عبيدهم إلى عسكر المسلمين فهم أحرارٌ.
ولا بأس بأن يعلف العسكر في دار الحرب، ويأكلوا ما وجدوه من الطعام.
ويستعملون الحطب، ويدهنون بالهدن، ويقاتلون بما يجدونه من السلاح بغير قسمة ذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأنهم صاروا ناقضين للعهد، فلا حاجة إلى نقضه، بخلاف ما إذا دخل جماعة منهم فقطعوا الطريق ولا منعة لهم، حيث لا يكون هذا نقضاً للعهد في حقهم، ولو كانت لهم منعة وقاتلوا المسلمين علانية يكون نقضاً للعهد في حقهم دون غيرهم؛ لأنه بغير إذن ملكهم؛ ففعلهم لا يلزم غيرهم، حتى لو كان بإذن ملكهم صاروا ناقضين للعهد، لأنه باتفاقهم معنى، هداية.
(وإذا خرج عبيدهم إلى عسكر المسلمين فهم أحرار) لأنهم أحرزوا أنفسهم بالخروج إلينا مراغمين لمواليهم، وكذا إذا أسلموا هناك ولم يخرجوا إلينا وظهرنا على دارهم فهم أحرار، ولا يثبت الولاء عليهم لأحد؛ لأن هذا عتق حكمي، جوهرة.
(ولا بأس أن يعلف العسكر في دار الحرب) دوابهم (ويأكلوا ما وجدوه من الطعام) كالخبز، واللحم، والسمن، والزيت: قال الزاهدي: وهذا عند الحاجة، وفي الإباحة من غير حاجة روايتان، اهـ.
(ويستعملون الحطب) وفي بعض النسخ: "الطيب" هداية (ويدهنون بالدهن) لمساس الحاجة إلى ذلك (ويقاتلون بما يجدونه من السلاح) ، كل ذلك (بغير قسمة) يعني إذا احتاج إليه، بأن انقطع سيفه، أو انكسر رمحه، أو

(4/121)


ولا يجوز أن يبيعوا من ذلك شيئاً ولا يتمولوه.
ومن أسلم منهم أحرز بإسلامه نفسه وأولاده الصغار وكل مالٍ هو في يده أو وديعةٍ في يد مسلمٍ أو ذميٍ، فإن ظهرنا على الدار فعقاره فئ وزوجته فئٌ وحملها فئٌ، وأولاده الكبار فئٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لم يكن له سلاح، وكذا إذا دعته حاجة إلى ركوب فرس من المغنم ليقاتل عليهم فلا بأس بذلك، فإذا زالت الحاجة ردت في الغنيمة، ولا ينبغي أن يستعمل من الدواب والثياب والسلاح شيئا لتبقى به دابته وثيابه وسلاحه، لأنه من الغلول؛ لاستعماله من غير حاجة، وتمامه في الجوهرة (ولا يجوز أن يبيعوا من ذلك) الطعام ونحوه (شيئاً، ولا يتمولوه) لأنه لم يملك بالأخذ، وإنما أبيح التناول للضرورة، فإذا باع أحدهم رد الثمن إلى المغنم.
(ومن أسلم منهم) في دار الحرب قبل أخذه (أحرز بإسلامه نفسه) ، لأن الإسلام ينافي ابتداء الاسترقاق (أولاده الصغار) لأنهم مسلمون تبعا لإسلامه، (وكل مال هو في يده) لسبقها إليه (أو وديعة في يد) معصوم الدم (مسلم أو ذمي) لأنه في صحيحة محترمة، ويده كيده (فإن ظهرنا على الدار فعقاره فئ) لأنه في يد أهل الدار، إذ هو من جملة دار الحرب، فلم يكن في يده حقيقة، (و) كذا (زوجته فئ) ، لأنها كافرة حربية، لا تتبعه في الإسلام (و) كذا (حملها فئ) ، لأنه جزء منها، فيتبعها في الرق والحرية، وإن كان تبعاً للأب في الإسلام، لأن المسلم محل للتملك تبعاً لغيره، بخلاف المنفصل، فإنه حر؛ لعدم الجزئية عند ذلك (و) كذا (أولاده الكبار فئ) لأنهم كفار حربيون، ولا تبعية لهم، لأنهم على حكم أنفسهم

(4/122)


ولا ينبغي أن يباع السلاح من أهل الحرب، ولا يجهز إليهم، ولا يفادون بالأسارى عند أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمدٌ: يفادى بهم أسارى المسلمين، ولا يجوز المن عليهم.
وإذا فتح الإمام بلداً عنوةً فهو بالخيار: إن شاء قسمه بين الغانمين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ولا ينبغي) بل يحرم، كما في الزيلعي (أن يباع السلاح) والكراع (من أهل الحرب) ؛ لما فيه من تقويتهم على قتال المسلمين، وكذا كل ما فيه تقوية لهم، كالحديد، والعبيد، ونحو ذلك (ولا يجهز) أي يتاجر بذلك (إليهم) قال في الغاية: أي لا يحمل إليهم التجار الجهاز، وهو المتاع، يعني هنا السلاح، اهـ.
(ولا يفادون بالأسارى عند أبي حنيفة) لأن فيه معونة للكفرة، لأنه يعود حرباً علينا، ودفع شر حرابه خير من استنقاذ الأسير المسلم؛ لأنه إذا بقي في أيديهم كان ابتلاء في حقه غير مضاف إلينا، والأعانة بدفع أسيرهم مضاف إلينا، (وقالا: يفادى بهم أسارى المسلمين) لأن فيه تخليص المسلم، وهو أولى من قتل الكافر والانتفاع به. قال الإسبيجاني: والصحيح قول أبي حنيفة، واعتمده المحبوبي، والنسفي، وغيرهما. قال الزاهدي: والمفاداة بالمال لا تجوز في ظاهر المذهب، كذا في التصحيح. وفي السير الكبير: أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة؛ استدلالا بأسارى بدر، ولو كان الأسير أسلم في أيدينا لا يفادى بمسلم أسير في أيديهم لأنه لا يفيد، إلا إذا طابت نفسه به وهو مأمون على إسلامه، هداية.
(ولا يجوز المن عليهم) ، لما فيه من إبطال حق الغانمين.
(وإذا فتح الإمام بلدة عنوة) أي قهراً (فهو) في العقار (بالخيار) بين أمرين: (إن شاء قسمه بين الغانمين) كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم

(4/123)


وإن شاء أقر أهله عليه ووضع عليهم الخراج، وهو في الأسارى بالخيار: إن شاء قتلهم، وإن شاء استرقهم، وإن شاء تركهم أحراراً ذمةً للمسلمين.
ولا يجوز أن يردهم إلى دار الحرب.
وإذا أراد العود ومعهم مواش فلم يقدروا على نقلها إلى دار الإسلام ذبحوها وحرقوها ولا يعقرونها ولا يتركونها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بخيبر (وإن شاء أقر أهله عليه، ووضع عليهم الخراج) كما فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق بموافقة الصحابة، رضوان الله تعالى عليهم، وفي كل من ذلك قدوة، فيتخير، وقيل: الأولى هو الأول عند حاجة الغانمين، والثاني عند عدم الحاجة، قيدنا بالعقار لأن المنقول لا يجوز المن فيه بالرد عليهم (وهو) أي الإمام (في الأسرى بالخيار) بين ثلاثة أمور: (إن شاء قتلهم) حسما لمادة الفساد (وإن شاء استرقهم) توفيراً لمنفعة الإسلام (وإن شاء تركهم أحراراً ذمة للمسلمين) إذا كانوا أهلا للذمة، كما فعل عمر رضي الله عنه بسواد العراق. قيدنا بكونهم أهل للذمة احترازا عن المرتدين ومشركي العرب كما سبق.
(ولا يجوز) للإمام (أن يردهم إلى دار الحرب) لما فيه من تقويتهم على المسلمين كما مر.
(وإذا أراد) الإمام (العود) إلى دار الإسلام (ومعه مواش فلم يقدر على نقلها إلى دار الإسلام ذبحها، و) بعده (حرقها) لأن ذبح الحيوان يجوز لغرض صحيح، ولا غرض أصح من كسر شوكة أعداء الله (ولا يعقرها) بأن يقطع قوائمها ويدعها حية؛ لما فيه من المثلة والتعذيب (ولا يتركها) لهم حية

(4/124)


ولا يقسم غنيمةً في دار الحرب حتى يخرجها إلى دار الإسلام، والردء والمقاتل في العسكر سواء.
وإذا لحقهم المدد في دار الحرب قبل أن يخرجوا الغنيمة إلى دار الإسلام شاركوهم فيها، ولا حق لأهل سوق العسكر في الغنيمة إلا أن يقاتلوا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولا معقورة، ولا من غير حرق، قطعاً لمنفعتهم بها.
(ولا يقسم) الإمام (غنيمة في دار الحرب) ، بل (حتى يخرجها إلى دار الإسلام) ، لأن الملك لا يثبت للغانمين إلا بالإحراز في دار الإسلام.
(والردء) أي المعين (والمقاتل في العسكر سواء) لاستوائهم في السبب وهو المجاوزة أو شهود الوقعة على ما عرف، وكذلك إذا لم يقاتل لمرض أو غيره، لما ذكرناه، هداية.
(وإذا لحقهم المدد) - وهو ما يرسل إلى الجيش ليزدادوا - وفي الأصل: ما يزاد به الشيء ويكثر، قهستاني (في دار الحرب قبل أن يخرجوا الغنيمة إلى دار الإسلام) وقبل القسمة وبيع الغنيمة، ولو بعد انقضاء القتال (شاركوهم فيها) لوجود الجهاد منهم معنى قبل استقرار الملك العسكر، ولذا ينقطع حق المشاركة بالإحراز، أو بقسمة الإمام في دار الحرب، أو ببيعه المغانم فيها؛ لأن بكل منها يتم الملك، فينقطع حق شركه المدد.
(ولا حق لأهل سوق العسكر في الغنيمة، إلا أن يقاتلوا) ؛ لأنهم لم يجاوزوا على قصد القتال؛ فانعدم السبب الظاهر، فيعتبر السبب الحقيقي - وهو قصد القتال - فيفيد الاستحقاق على حسب حاله، فارساً أو راجلا عند القتال، هداية

(4/125)


وإذا أمن رجلٌ حرٌ أو امرأةٌ حرةٌ كافراً أو جماعةً أو أهل حصنٍ أو مدينةٍ صح أمانهم، ولم يجز لأحدٍ من المسلمين قتلهم إلا أن يكون في ذلك مفسدة فينبذ إليهم الإمام.
ولا يجوز أمان ذمي، ولا أسيرٍ، ولا تاجرٍ يدخل عليهم.
ولا يجوز أمان العبد عند أبي حنيفة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإذا أمن رجل حر، أو امرأة حرة كافراً) واحداً (أو جماعة) من الكفار (أو أهل حصن، أو مدينة، صح أمانهم) ، لأنه من أهل القتال؛ إذ هو من أهل المنعة، فيحقق منه الأمان، ثم يتعدى إلى غيره، ولأن سببه - وهو الإيمان - لا يتجزأ؛ فكذا الأمان، فيتكامل كولاية النكاح (و) حيث صح أمانهم (لم يجز لأحد من المسلمين قتلهم) ولا التعرض لما معهم، والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (المسلمون "يد على من سواهم" تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم) أي: أقلهم، وهو الواحد، هداية (إلا أن يكون في ذلم مفسدة) تلحق المسلمين (فينبذ الإمام إليهم) أمانهم، كما إذا كان الأمان منهم ثم رأى المصلحة في النبذ كما مر.
(ولا يجوز أمان ذمي) ؛ لأنه متهم بهم، ولا ولاية له على المسلمين، (ولا أسير ولا تاجر يدخل عليهم) ؛ لأنهما مقهوران تحت أيديهم، فلا يخافونهما، والأمان يختص بمحل الخوف، ولأنهم كلما اشتد الأمر عليهم يجدون أسيرا أو تاجراً فيتخلصون بأمانه، فلا ينفتح باب الفتح، هداية.
(ولا يجوز أمان العبد عند أبي حنيفة) ، لأن الأمان عنده من جملة العقود

(4/126)


إلا أن يأذن له مولاه في القتال، وقال أبو يوسف ومحمد: يصح أمانه.
وإذا غلب الترك على الروم فسبوهم وأخذوا أموالهم ملكوها، فإن غلبنا على الترك حل لنا ما نجده من ذلك، وإذا غلبوا على أموالنا فأحرزوها بدارهم ملكوها، فإن ظهر عليها المسلمون فوجدوها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والعبد محجور عليه، فلا يصح عقده (إلا أن يأذن له مولاه في القتال) ؛ لأنه يصير مأذوناً؛ فيصح عقد الأمان منه (وقال أبو يوسف ومحمد: يصح أمانه) لأنه مؤمن ذو قوة وامتناع يتحقق منه الخوف، والأمان مختص بمحل الخوف.
قال جمال الإسلام في شرحه: وذكر الكرخي قول أبي يوسف مع أبي حنيفة وصح قول أبي حنيفة، ومشى عليه الأئمة البرهاني والنسفي وغيرهما، تصحيح.
(وإذا غلب الترك) جمع تركي (على الروم) جمع رومي، والمراد كفار الترك وكفار الروم (فسبوهم وأخذوا أموالهم) وسبوا ذراريهم (ملكوها) لأن أموال أهل الحرب ورقابهم مباحة فتملك بالأخذ (فإن غلبنا على الترك) بعد ذلك (حل لنا ما نجده من ذلك) الذي أخذه من الروم، اعتباراً بسائر أموالهم (وإذا غلبوا) أي الكفار (على أموالنا) ولو عبيداً أو إماء مسلمين (فأحرزوها بدارهم ملكوها) لأن العصمة من جملة الأحكام الشرعية، والكفار غير مخاطبين بها؛ فبقي في حقهم مالا غير معصوم، فيملكونه كما حققه صاحب المجمع في شرحه. قيد بالإحراز لأنهم قبل الإحراز بها لا يملكون شيئاً حتى لو اشترى منهم تاجر شيئاً قبل الإحراز ووجده مالكه أخذه بلا شيء (فإن ظهر عليهم) أي على دارهم (المسلمون) بعد ذلك (فوجدوها)

(4/127)


قبل القسمة فهي لهم بغير شيء، وإن وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة إن أحبوا، وإن دخل دار الحرب تاجرٌ فاشترى ذلك وأخرجه إلى دار الإسلام فمالكه بالخيار: إن شاء أخذه بالثمن الذي اشتراه به التاجر، وإن شاء ترك.
ولا يملك علينا أهل الحرب بالغلبة مدبرينا ومكاتبينا وأمهات أولادنا وأحرارنا، ونملك عليهم جميع ذلك، وإذا أبق عبدٌ لمسلم فدخل إليهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أي وجد المسلمون أموالهم (قبل القسمة) بين الغانمين (فهي لهم بغير شيء) ؛ لأ المالك القديم زال ملكه بغير رضاه؛ فكان له حق الأخذ نظرا له (وإن وجدوها بعد القسمة أخذوها بالقيمة إن أحبوا) لأن من وقع المال في نصيبه يتضرر بالأخذ منه مجانا؛ لأنه استحقه عوضاً عن سهمه في الغنيمة، فقلنا بحق الأخذ بالقيمة لما فيه من النظر للجانبين كما في الهداية (وإن دخل دار الحرب تاجر فاشترى ذلك) المال (وأخرجه إلى دار الإسلام فمالكه الأول بالخيار: إن شاء أخذه بالثمن الذي) كان (اشتراه به التاجر) من العدو، (وإن شاء ترك) لأنه يتضرر با"لأخذ مجاناً ألا يرى أنه دفع العوض بمقابلته فكان اعتدال النظر فيما قلنا، ولو اشتراه بعرض يأخذه بقيمة العرض، ولو وهبوه يأخذه بقيمته؛ لأنه ثبت له ملك خاص فلا يزال إلا بالقيمة، هداية.
(ولا يملك علينا أهل الحرب بالغلبة) علينا (مدبرينا وأمهات أولادنا ومكاتبينا وأحرارنا) لأنهم أحرار من وجه، والحر معصوم بنفسه، فلا يملك (ونملك عليهم) إذا غلبنا عليهم (جميع ذلك) لعدم عصمتهم.
(وإذا أبق عبد) من دارنا، سواء كان (لمسلم) أو ذمي (فدخل إليهم) أي إلى

(4/128)


فأخذوه لم يملكوه عند أبي حنيفة. وإن ند بعيرٌ إليهم فأخذوه ملكوه وإذا لم يكن للإمام حمولة يحمل عليها الغنائم قسمها بين الغانمين قسمة إيداعٍ ليحملوها إلى دار الإسلام ثم يرتجعها فيقسمها.
ولا يجوز بيع الغنائم قبل القسمة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دارهم (فأخذوه لم يملكوه عند أبي حنيفة) ؛ لظهور يده على نفسه بزوال يد مولاه فصار معصوما بنفسه، فلم يبق محلا للملك، وقالا: يملكونه، والصحيح قوله، واعتمده المحبوبي والنسفي وغيرهما، تصحيح. وإذا لم يثبت الملك لهم يأخذه المالك القديم بغير شيء، موهوباً كان أو مشترى أو مغنوماً، قبل القسمة وبعدها، إلا أن بعد القسمة يؤدي عوضه من بيت المال، لأنه لا يمكن إعادة القسمة.
(وإن ند) منا (بعير) أو فرس (إليهم فأخذوه ملكوه) لتحقق الاستيلاء إذ لا يد للعجماء.
(وإذا لم يكن للإمام حمولة) بفتح أوله - الإبل التي تحمل، وكذا كل ما احتمل عليه الحي من حمار أو غيره، سواء كانت عليه الأحمال أو لم تكن. صحاح.
(يحمل عليها الغنائم قسمها بين الغانمين قسمة إيداع ليحملوها إلى دار الإسلام ثم) إذا رجعوا إلى دار الإسلام (يرتجعها منهم فيقسمها) قسمة تمليك بينهم، فإن أبوا أن يحملوها أجبرهم على ذلك بأجر المثل في رواية السير الكبير؛ لأنه دفع ضرر عام بتحمل ضرر خاص، ولا يجبرهم على رواية السير الصغير، وتمامه في الهداية والدرر.
(ولا يجوز بيع الغنائم قبل القسمة) في دار الحرب؛ لأنها لا تملك قبلها

(4/129)


ومن مات من الغانمين في دار الحرب فلا حق له في الغنيمة، ومن مات منهم بعد إخراجها إلى دار الإسلام فنصيبه لورثته.
ولا بأس أن ينفل الإمام في حال القتال، ويحرض بالنفل على القتال فيقول: من قتل قتيلاً فله سلبه، أو يقول لسريةٍ: قد جعلت لكم الربع بعد الخمس، ولا ينفل بعد إحراز الغنيمة إلا من الخمس، وإذا لم يجعل السلب للقاتل فهو من جملة الغنيمة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(ومن مات من الغانمين في دار الحرب) قبل القسمة وبيع الغنيمة (فلا حق له في الغنيمة) لأن الإرث يجري في الملك، ولا ملك قبل ما ذكر كما مر (ومن مات منهم) أي الغانمين (بعد إخراجها) أي الغنيمة (إلى دار الإسلام) أو بعد قسمتها أو بيعها وتوفي في دار الحرب (فنصيبه لورثته) لأن حقهم قد استقر بما ذكر، فينتقل إلى الورثة.
(ولا بأس) بل يندب (بأن ينفل الإمام في حال القتال) وقبله بالأولى (ويحرض) أي يحث ويغرى (بالنفل على القتال) والنفل: إعطاء شيء زائد على سهم الغنيمة، وقد فسره بقوله (فيقول: من قتل قتيلا فله سلبه) وسيأتي معناه (أو يقول لسرية) وهي القطعة من الجيش (قد جعلت لكم الربع) أو النصف (بعد) رفع (الخمس) ؛ لما في ذلك من تقوية القلوب وإغراء المقاتلة على المخاطرة وإظهار الجلادة رغبةً في ذلك، وقد قال تعالى: {حرض المؤمنين على القتال} وهو نوع تحريض (ولا ينفل بعد إحراز الغنيمة) في دار الإسلام؛ لتأكد حق الغانمين بها، ولذا يورث عنهم (إلا من الخمس) ؛ لأن الرأي فيه إلى الإمام، ولا حق فيه للغانمين.
(وإذا لم يجعل) الإمام (السلب للقاتل) نفلاً (فهو من جملة الغنيمة

(4/130)


والقاتل وغيره فيه سواء. والسلب: ما على المقتول من ثيابه وسلاحه ومركبه.
وإذا خرج المسلمون من دار الحرب لم يجز أن يعلفوا من الغنيمة ولا يأكلوا منها.
ومن فضل معه علفٌ أو طعامٌ رده إلى الغنيمة.
ويقسم الإمام الغنيمة: فيخرج خمسها، ويقسم أربعة أخماسها بين الغانمين: للفارس سهمان، وللراجل سهمٌ عند أبي حنيفة، وقالا: للفارس ثلاثة أسهمٍ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والقاتل وغيره فيه) أي في سلبه (سواء) ؛ لأنه مأخوذ بقوة الجيش؛ فيكون غنيمة لهم (والسلب) هو (ما على المقتول من ثيابه وسلاحه ومركبه) وكذا ما على مركبه من السرج والآلة، وكذا ما معه على الدابة من مال في حقيبة أو على وسطه، وما عدا ذلك فليس بسلب، وما كان مع غلامه على دابة أخرى فليس بسلبه، هداية.
(وإذا خرج المسلمون من دار الحرب لم يجز) لهم (أن يعلفوا) دوابهم (من الغنيمة ولا يأكلوا منها) ؛ لأن حق الغانمين قد تأكد فيها كما مر (ومن فضل معه علف أو طعام رده إلى الغنيمة) إذا لم تقسم، وبعد القسمة تصدقوا به إن كانوا أغنياء وانتفعوا به إن كانوا محاويج؛ لأنه صار في حكم اللقطة لتعذر الرد، وتمامه في الهداية.
(ويقسم الإمام الغنيمة) بعد الإحراز بدار الإسلام كما تقدم (فيخرج) أولا (خمسها) للأصناف الثلاثة الآتية (ويقسم أربعة أخماسها) الباقية (بين الغانمين للفارس) أي لصاحب الفرس (سهمان، وللراجل) ضد الفارس (سهم عند أبي حنيفة وقالا: للفارس ثلاثة أسهم) وللراجل سهم، قال الإمام بهاء الدين في شرحه:

(4/131)


ولا يسهم إلا لفرسٍ واحدٍ، والبراذين والعتاق سواءٌ، ولا يسهم لراحلةٍ ولا بغلٍ.
ومن دخل دار الحرب فارساً فنفق فرسه استحق سهم فارسٍ، ومن دخل راجلاً فاشترى فرساً استحق سهم لراجلٍ.
ولا يسهم لمملوكٍ ولا امرأة ولا ذميٍ ولا صبيٍ، ولكن يرضخ لهم على حسب ما يراه الإمام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الصحيح قول أبي حنيفة، واختاره الإمام البرهاني والنسفي وصدر الشريعة وغيرهم تصحيح (ولا يسهم إلا لفرس واحد) لأن القتال لا يتحقق إلا على فرس واحد قال الإسبيجاني: هذا قول أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: يسهم للفرسين، والصحيح قولهما، وعليه مشى الأئمة المذكورون قبله، تصحيح (والبراذين) جمع برذون - التركي من الخيل (والعتاق) جمع عتيق - العربي منها (سواء) ؛ لأن اسم الخيل ينطلق على الكل، والإرهاب مضاف إليها، ولأن العربي إن كان في الطلب والهرب أقوى فالبرذون أصبر وألين عطفاً؛ فمن كل منهما منفعة معتبرة، فاستويا (ولا يسهم لراحلة) وهي المركب من الإبل ذكراً كان أو أنثى (ولا بغل) ولا حمار، فصاحب ما ذكر والراجل سواء، لأن المعنى الذي في الخيل معدوم فيهم (ومن دخل دار الحرب فارساً فنفق) أي هلك (فرسه) فشهد الوقعة راجلا (استحق سهم فارس، ومن دخل راجلا فاشترى) هناك (فرساً) فشهد الوقعة فارساً (استحق سهم راجل) لأن الوقوف على حقيقة القتال متعسر، وكذا شهود الوقعة؛ فتقام المجاوزة مقامه، لأنه السبب المفضي إليه ظاهراً إذا كان على قصد القتال، فيعتبر حال الشخص حالة المجاوزة فارساً أو راجلا (ولا يسهم لمملوك) ولا مكاتب (ولا امرأة ولا ذمي ولا صبي) ولا مجنون ولا معتوه (لكن يرضخ لهم) أي يعطيهم من الغنيمة (على حسب ما يراه الإمام)

(4/132)


وأما الخمس فيقسم على ثلاثة أسهمٍ: سهمٍ لليتامى، وسهمٍ للمساكين، وسهم لأبناء السبيل، ويدخل فقراء ذوي القربى فيهم، ويقدمون، ولا يدفع إلى أغنيائهم شيء.
وأما ذكر الله تعالى في الخمس فإنما هو لافتتاح الكلام تبركاً باسمه وسهم النبي صلى الله عليه وسلم سقط بموته كما سقط الصفي، وسهم ذوي القربى كانوا يستحقونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال في الهداية: ثم العبد إنما يرضخ له إذا قاتل؛ لأنه لخدمة المولى فصار كالتاجر، والمرأة يرضخ لها إذا كانت تداري الجرحى وتقوم على المرضى؛ لأنها عاجزة عن حقيقة القتال فيقام هذا النوع من الإعانة مقام القتال؛ والذمي إنما يرضخ له إذا قاتل أو دل على الطريق؛ لأن فيه منفعة للمسلمين، إلا أنه يزاد له على السهم في الدلالة إذا كانت فيه منفعة عظيمة. انتهى باختصار.
(وأما الخمس فيقسم على ثلاثة أسهم: سهم لليتامى) الفقراء (وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل) وهم المنقطعون عن مالهم، ويجوز صرفه لصنف واحد كما في الفتح عن التحفة (ويدخل فقراء ذوي القربى) من بني هاشم (فيهم) أي في الأصناف الثلاثة (و) لكن (يقدمون) على غيرهم، لعدم جواز الصدقة عليهم (ولا يدفع إلى أغنيائهم) منه (شيء) ؛ لأنه إنما يستحق بالفقر والحاجة (فأما ذكر الله تعالى في الخمس) في قوله جل ذكره: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه} (فإنما هو لافتتاح الكلام، تبركا باسمه تعالى، وسهم النبي صلى الله عليه وسلم سقط بموته كما سقط الصفي) وهو شيء كان يصطفيه النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه: أي يختاره من الغنيمة، مثل درع، وسيف، وجارية (وسهم ذوي القربى كانوا يستحقونه في زمن النبي صلى الله عليه وسلم

(4/133)


بالنصرة، وبعده بالفقر.
وإذا دخل الواحد أو الاثنان إلى دار الحرب مغيرين بغير إذن الإمام فأخذوا شيئاً لم يخمس.
وإن دخل جماعةٌ لها منعةٌ وأخذوا شيئاً خمس، وإن لم يأذن لهم الإمام وإذا دخل المسلم دار الحرب تاجراً فلا يحل له
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالنصرة) له، ألا يرى أنه علل فقال: (إنهم لن يزالوا معي هكذا في الجاهلية والإسلام) وشبك بين أصابعه (وبعده) أي بعد وفاته صلى الله عليه وسلم (بالفقر) لانقطاع النصرة.
(وإذا دخل الواحد) من المسلمين (أو الاثنان إلى دار الحرب مغيرين بغير إذن الإمام، فأخذوا شيئاً، لم يخمس) ، لأنه مال مباح أخذ على غير وجه الغنيمة لأنها مأخوذة قهراً وغلبة، لا اختلاساً وسرقة، والخمس وظيفة الغنيمة، قيد بكونه بغير إذا الإمام لأنه إذا كان بالإذن ففيه روايتان؛ والمشهور أنه يخمس؛ لأنه لما أذن لهم فقد التزم نصرتهم، كما في الهداية.
(وإن دخل جماعة لهم منعة) أي قوة (فأخذوا شيئاً خمس) ما أخذوه (وإن لم يأذن لهم الإمام) ؛ لأنه غنيمة لأخذه على وجه القهر والغلبة، ولأنه يجب على الإمام نصرتهم؛ إذ لو خذلهم كان فيه وهنٌ على المسلمين، بخلاف الواحد والاثنين؛ لأنه لا تجب عليه نصرتهم، هداية. قيد بالمنعة لأنه لو دخل جماعة لا منعة لهم بغير إذن فأخذوا شيئا لا يخمس لأنه اختلاس لا غنيمة، كما في الجوهرة.
(وإذا دخل المسلم دار الحرب) بأمان (تاجرا) أو نحوه (فلا يحل له

(4/134)


أن يتعرض لشيٍ من أموالهم ولا من دمائهم، وإن غدر بهم وأخذ شيئاً وخرج به ملكه ملكاً محظوراً، ويؤمر أن يتصدق به.
وإذا دخل الحربي إلينا مستأمناً لم يمكن أن يقيم في دارنا سنةً، ويقول له الإمام: إن أقمت تمام السنة وضعت عليك الجزية،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أن يتعرض لشيء من أموالهم، ولا) لشيء (من دمائهم) أو فروجهم، لأن ذلك غدر بهم، والغدر حرام، إلا إذا صدر غدر من ملكهم، أو منهم بعلمه، ولم يأخذوا على يدهم؛ لأن النقض يكون من جهتهم. قيد بالتاجر لأن الأسير غير مستأمن؛ فيباح له التعرض لمالهم ودمائهم، كما في الهداية.
(وإن) تعدى التاجر ونحوه، و (غدر بهم وأخذ شيئاً) من مالهم (وخرج به) عن دارهم (ملكه ملكا محظورا) لإباحة أموالهم، إلا أنه حصل بالغدر فكان خبيئاً؛ لأن المؤمنين عند شروطهم (ويؤمر أن يتصدق به) تفريغا لذمته وتداركا لجنايته.
(وإذا دخل الحربي إلينا مستأمناً) أي: طالبا للأمان (لم يمكن أن يقيم في دارنا سنة) فما فوقها؛ لئلا يصير عيناً لهم، وعوناً علينا (ويقول له الإمام) إذا أمنه وأذن له في الدخول إلى دارنا: (إن أقمت) في دارنا (تمام السنة وضعت عليك الجزية) ، والأصل: أن الحربي لا يمكن من إقامة دائمة في دارنا إلا بالاسترقاق أو الجزية؛ لأنه يصير عينا لهم، ودعونا علينا، فتلتحق المضرة بالمسلمين، ويمكن من الإقامة اليسيرة، لأن في منعها قطع الميرة والجلب، وسد باب التجارة، ففصلنا بينهما بسنة، لأنها مدة تجب فيها الجزية، فتكون الإقامة لمصلحة الجزية، هداية.
(يتبع ... )

(4/135)


فإن أقام أخذ منه الجزية، وصار ذمياً. ولم يترك أن يرجع إلى دار الحرب، وإن عاد إلى دار الحرب وترك وديعةً عند مسلمٍ أو ذميٍ أو ديناً في ذمتهم فقد صار دمه مباحاً بالعود وما في دار الإسلام من ماله على خطرٍ، فإن أسو أو قتل سقطت ديونه وصارت الوديعة فيئاً.
وما أوجف عليه المسلمون من أموال أهل الحرب بغير قتالٍ يصرف في مصالح المسلمين كما يصرف الخراج.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(فإن) رجع بعد ذلك قبل تمام السنة إلى وطنه فلا سبيل عليه، وإن (أقام) تمام السنة (أخذت منه الجزية، وصار ذميا) لالتزامه ذلك (ولم يترك) بعدها (أن يرجع إلى دار الحرب) ؛ لأن عقد الذمة لا ينقض. وللإمام أن يوقت في ذلك ما دون السنة كالشهر والشهرين كما في الهداية.
(وإن عاد) المستأمن (إلى دار الحرب) ولو إلى غير داره (وترك وديعة عند) معصوم (مسلم، أو ذمي، أو) ترك (دينا في ذمتهم؛ فقد صار دمه مباحاً بالعود) لبطلان أمانه (وما) كان (في دار الإسلام من ماله) فهو (على خطر) أي موقوف، لأن يد المعصوم عليه باقية (فإن أسر أو قيل سقطت ديونه) ، لأن يد من عليه الدين أسبق إليه من يد العامة، فيختص به؛ فيسقط (وصارت الوديعة) وما عند شريكه ومضاربه وما في بيته في دارنا (فيئاً) ، لأنها في يده حكما، لأن يد المودع والشريك والمضارب كيده، فيصير فيئاً تبعاً لنفسه.
(وما أوجف عليه المسلمون) أي أسرعوا إلى أخذه (من أموال أهل الحرب بغير قتال يصرف) جميعه (في مصالح المسلمين، كما يصرف الخراج)

(4/136)


وأرض العرب كلها عشرٍ، وهي: ما بين العذيب إلى أقصى حجرٍ باليمن بمهرة إلى حد الشام، والسواد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والجزية؛ لأنه حصل بقوة المسلمين من غير قتال؛ فكان كالخراج والجزية.
ولما أنهى الكلام على بيان ما يصير الحربي به ذميا، أخذ في بيان ما يؤخذ منه، وبيان العشر، تتميما للوظائف المالية، وقدم بيان العشر لما فيه من معنى العبادة، فقال:.
(وأرض العرب كلها عشر) ، لأن الخراج لا يجب ابتداء إلا بعقد الذمة، وعقد الذمة من مشرك العرب لا يصح (وهي) أي أرض العرب، أي حدها، (ما بين العذيب) بضم العين المهملة وفتح الذال المعجمة - قرية من قرى الكوفة (إلى أقصى) أي آخر (حجر) بفتحتين - واحد الأحجار بمعنى الصخرة كما وقع التحديد به في غير موضع (باليمن بمهرة) بفتح الميم وسكون الهاء - اسم موضع باليمن يسمى [باسم] مهرة بن حيدان أبي قبيلة تنسب إليه الإبل المهرية، فيكون قوله: "بمهرة" بدلا من قوله: "باليمن" كما في النهاية (إلى حد الشام) وفي المغرب عن أبي يوسف في الأمالي: حدود أرض العرب ما وراء حدود أرض الكوفة إلى أقصى صخرة باليمن - وهو مهرة - وقال الكرخي: هي أرض الحجاز وتهامة، ومكة، والطائف، والبرية - يعني: البادية - وقال محمد: أرض العرب من العذيب إلى مكة وعدن أبين إلى أقصى حجر باليمن بمهرة، اهـ باختصار. وهذه العبارات متقاربة يفسر بعضها بعضا؛ وعدن: بفتحتين - بلدة باليمن تضاف إلى بانيها؛ فيقال: عدن أبين كما في المصباح.
(والسواد) : أي سواد العراق، سمى سوادا لخضرة أشجاره وزروعه، وهو الذي فتح على عهد سيدنا عمر، فأقر أهله عليه، ووضع على رقابهم الجزية، وعلى أراضيهم

(4/137)


أرض خراجٍ، وهو: ما بين العذيب إلى عقبة حلوان، ومن العلث إلى عبادان.
وأرض السواد مملوكةٌ لأهلها: يجوز بيعهم لها، وتصرفهم فيها.
وكل أرضٍ أسلم أهلها عليها أو فتحت عنوةً وقسمت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الخراج (أرض الخراج) لأنه وظيفة أرض الكفار (وهي) أي أرض السواد، حدها عرضا (ما بين العذيب) المتقدمة (إلى عقبة حلوان) بضم الحاء المهملة، وسكون اللام - اسم بلدة مشهورة، بينها وبين بغداد نحو خمس مراحل، وهي طرف العراق من الشرق، سميت باسم بانيها، وهو حلوان بن عمران بن الحارث كما في المصباح (و) حدها طولا (من العلث) بفتح العين المهملة، وسكون اللام، وآخره ثاء مثلثة - قرية موقفة على العلوية، على شرق دجلة (إلى عبادان) بتشديد الباء الموحدة - حصن صغير على شط البحر، وقال في المغرب: حده طولا من حديثة الموصل إلى عبادان، وعرضا من العذيب إلى حلوان، اهـ. وقال في باب الحاء: حديثة الموصل: قرية، وهي أول حد السواد طولا، وحديثة الفرات: موضع آخر، وقال في باب الثاء: الثعلبية: من منازل البادية، ووصعها موضع العلث في حد السواد خطأ، اهـ. والظاهر من كلامه: أن كلا من العلث وحديثة الموصل حد للسواد، لكونهما متحاذيين: وأما التحديد بالثعلبية كما في بعض الكتب فخطأ، والله أعلم.
(وأرض السواد مملوكة لأهلها: يجوز بيعها لهم، وتصرفهم فيها) ؛ لأن الإمام إذا فتح أرضاً عنوة وقهراً كان بالخيار بين أن يقسمها بين الغانمين وبين أن يمتن بها على أهلها ويضع عليهم الجزية، والخراج جباية للمسلمين كما مر.
(وكل أرض أسلم أهلها) قبل أن يقدر عليها (أو فتحت عنوة وقسمت

(4/138)


بين الغانمين فهي أرض عشرٍ.
وكل أرضٍ فتحت عنوةً وأقر أهلها عليها فهي أرض خراجٍ.
ومن أحيا أرضاً مواتاً فهي عند أبي يوسف معتبرة بحيزها: فإن كانت من حيز أرض الخراج فهي خراجيةٌ، وإن كانت من حيز أرض العشر فهي عشريةً، والبصرة عنده عشريةٌ بإجماع الصحابة رضي الله عنهم، وقال محمدٌ: إن أحيا ببئرٍ حفرها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بين الغانمين فهي أرض عشر) ، لأنها وظيفة أرض المسلمين؛ لما فيه من معنى العبادة.
(وكل أرض فتحت عنوة وأقر أهلها عليها) وكذا إذا صالحهم الإمام (فهي أرض خراج) ؛ لما مر أنه وظيفة أرض الكفار، لما فيه من معنى العقوبة، قال في الهداية: ومكة مخصوصة من هذا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحها عنوة وتركها لأهلها، ولم يوظف الخراج، اهـ.
(ومن أحيا) من المسلمين (أرضاً مواتاً) أي غير منتفع بها (فهي عند أبي يوسف معتبرة بحيزها) أي بما يقرب منها (فإن كانت من حيز أرض الخراج فهي خراجية، وإن كانت من حيز أرض العشر فهي عشرية) لأن ما قارب الشيء يعطى حكمه (كفناء الدار له حكم الدار حتى يجوز لصاحبها الانتفاع به (والبصرة عنده) أي عنده أبي يوسف (عشرية بإجماع الصحابة) وكانت القياس أن تكون عنده خراجية، لأنها بحيز أرض الخراج، إلا أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وظفوا عليهم العشر؛ فترك القياس لإجماعهم، هداية (وقال محمد) تعتبر بشربها؛ إذ هو السبب للنماء (إن أحياها) بماء السماء أو (ببئر حفرها

(4/139)


أو عينٍ استخرجها أو ماء دجلة أو الفرات أو الأنهار العظام التي لا يملكها أحدٌ فهي عشريةٌ، وإن أحياها بماء الأنهار التي احتفرها الأعاجم مثل نهر الملك ونهر بزدجرد فهي خراجيةٌ، والخراج الذي وضعه عمر رضي الله عنه على أهل السواد من كل جريبٍ يبلغه الماء قفيزٌ هاشميٌ وهو الصاع ودرهم، ومن جريب الرطبة خمسة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو عين استخرجها، أو ماء دجلة أو الفرات، أو الأنهار العظام التي لا يملكها أحد) كسيحون وجيحون (فهي عشرية) لأنها مياه العشر (وإن أحياها بماء الأنهار التي احتفرها) أي شقها (الأعاجم) وذلك (مثل نهر الملك) كسرى أنوشروان، وهو نهر على طريق الكوفة من بغداد، وهو يستقي من الفرات، ومغرب (ونهر يزدجرد) بوزن بستعيب اسم ملك من ملوك العجم (فهي خراجية) قال في التصحيح: واختار قول أبي يوسف الإمام المحبوبي والنسفي، وصدر الشريعة، اهـ.
(والخراج الذي وضعه) أمير المؤمنين (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه (على السواد) هو (من كل جريب) بفتح الجيم التحتية وكسر الراء - قطعة أرض طولها ستون ذراعا وعرضها كذلك، قالوا: والأصل فيه المكيال، ثم سمي به المبذر، مغرب (يبلغه الماء) ويصلح للزراعة (قفيز هاشمي) مما يزرع فيها كما في شرح الطحاوي، وقال الإمام ظهير الدين: من حنطة أو شعير (وهو) أي القفيز الهاشمي (الصاع) النبوي (ودرهم) عطف على "قفيز" من أجود النقود، زيلعي (ومن جريب الرطبة) بفتح الراء - قال العيني: هي البرسيم ومثلها البقول (خمسة

(4/140)


دراهم، ومن جريب الكرم المتصل والنخل المتصل عشرة دراهم، وما سوى ذلك من الأصناف يوضع عليها بحسب الطاقة، فإن لم تطق ما وضع عليها نقصهم الإمام،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
دراهم، ومن جريب الكرم) شجر العنب، ومثله غيره (المتصل) بعضه ببعض بحيث تكون الأرض مشغولة به (والنخل المتصل) كذلك (عشرة دراهم) هذا هو المنقول عن عمر رضي الله عنه، فإنه بعث عثمان بن حنيف رضي الله عنه حتى مسح سواد العراق، وجعل حذيفة عليه مشرفاً، فبلغ ستا وثلاثين ألف ألف جريب، ووضع ذلك على ما قلنا، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم من غير نكير؛ فكان ذلك إجماعا منهم، ولأن المؤن متفاوتة، والكرم أخفها مؤنة والمزارع أكثرها مؤنة؛ ولرطاب بينهما؛ والوظيفة تتفاوت بتفاوتها؛ فجعل الواجب في الكرم أعلاها، وفي الزرع أدناها، وفي الرطبة أوساطها؛ هداية. قيد بالاتصال لأنها إذا كانت متفرقة بجوانب الأرض ووسطها مزروع لا شيء فيها، وكذا لو غرس أشجاراً غير مثمرة كما في البحر (وما سوى ذلك من) بقية (الأصناف) مما ليس فيه توظيف الإمام عمر رضي الله عنه كالبستان - وهو كل أرض يحوطها حائط، وفيها أشجار متفرقة يمكن الزرع تحتها - فلو ملتفة، أي: متصلة لا يمكن زراعة أرضها، فهو كرم كما في الدر (يوضع عليها بحسب الطاقة) ؛ لأن الإمام رضي الله تعالى عنه إنما اعتبر فيما وظف الطاقة، فنعتبرها فيما لا توظيف فيه، وغاية الطاقة نصف الخارج، لأن التنصيف عين الإنصاف؛ فلا يزاد عليه وإن أطاقت، وتمامه في الكافي (فإن لم تطق ما وضع عليها) بأن لم يبلغ الخارج ضعف الخراج (نقصهم الإمام) إلى قدر الطاقة وجوباً، وينبغي أن لا يزاد على النصف، ولا ينقص عن الخمس، كما في الدر عن الحدادي

(4/141)


وإن غلب الماء على أرض الخراج أو انقطع عنها أو اصطلم الزرع آفةٌ فلا خراج عليهم، وإن عطلها صاحبها فعليه الخراج.
ومن أسلم من أهل الخراج أخذ منه الخراج على حاله.
ويجوز أن شتري المسلم أرض الخراج من الذمي، ويؤخذ منه الخراج،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(وإن غلب الماء على أرض الخراج) حتى منع زراعتها (أو انقطع) الماء (عنها، أو اصطلم) أي استأصل (الزرع آفة) سماوية لا يمكن الاحتراز عنها كغرق وحرق وشدة برد (فلا خراج عليهم) لقوات التمكن من الزراعة، وهو النماء التقديري المعتبر في الخراج، حتى لو بقي من السنة ما يمكن الزرع فيه ثانياً وجب لوجود التمكن. قيدنا الآفة بالسماوية التي لا يمكن الاحتراز عنها لأنها إذا كانت غير سماوية ويمكن الاحتراز عنها كأكل القردة والسباع والأنعام لا يسقط، وقيد الاصطلام للزرع لأنه لو كان بعد الحصاد لا يسقط، وتمامه في البحر (وإن عطلها صاحبها) مع إمكان زراعتها (فعليه الخراج) لوجود التمكن، وهذا إذا كان الخراج موظفاً؛ أما إذا كان خراج مقاسمة فإنه لا يجب عليه شيء كما في الجوهرة عن الفوائد.
(ومن أسلم من أهل الخراج، أخذ منه الخراج على حاله) ؛ لأن الأرض قد اتصفت بالخراج؛ فلا تتغير بتغير المسالك.
(ويجوز أن يشتري المسلم أرض الخراج من الذمي) اعتبارا بسائر أملاكه (ويؤخذ منه) أي المسلم (الخراج) الذي عليها؛ لالتزامه ذلك دلالة، قال في الهداية: وقد صح أن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم اشتروا أراضي الخراج، وكانوا

(4/142)


ولا عشر في الخارج من أرض الخراج.
والجزية على ضربين: جزيةٌ توضع بالتراضي والصلح، فتقدر بحسب ما يقع عليه الاتفاق، وجزيةٌ يبتدئ الإمام وضعها إذا غلب على الكفار وأقرهم على أملاكهم، فيضع على الغني الظاهر الغنى في كل سنةٍ ثمانيةً وأربعين درهماً يأخذ منه في كل شهرٍ أربعة دراهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يؤدون خراجها؛ فدل ذلك على جواز الشراء وأخذ الخراج وأدائه للمسلم، من غير كراهة، اهـ.
(ولا عشر في الخارج من أرض الخراج) ؛ لأن الخراج يجب في أرض فتحت عنوة وقهراً، والعشر في أرض أسلم أهلها طوعاً، والوصفان لا يجتمعان في أرض واحدة، وسبب الحقين واحد - وهو الأرض النامية - إلا أنه يعتبر في العشر تحقيقاً وفي الخراج تقديراً، ولهذا يضافان إلى الأرض، وتمامه في الهداية.
(والجزية) بالكسر - وهي: اسم لما يؤخذ من أهل الذمة؛ لأنها تجزئ من القتل: أي تعصم، والجمع جزىً كلحية ولحىً (على ضربين) الضرب الأول (جزية توضع بالتراضي والصلح) قبل قهرهم والاستيلاء عليهم (فتقدر بحسب) أي بقدر (ما يقع عليه الاتفاق) ، لأن الموجب هو التراضي، فلا يجوز التعدي إلى غيره، تحرزاً عن الغدر بهم (و) الضرب الثاني (جزية يبتدئ الإمام وضعها إذا غلب) الإمام (على الكفار) واستولى عليهم (وأقرهم على أملاكهم) لما مر أنه مخير في عقارهم (فيضع على الغني الظاهر الغنى) وهو من يملك عشرة آلاف درهم فصاعدا (في كل سنة ثمانية وأربعين درهما) منجمة على الأشهر (يأخذ في كل شهر أربعة دراهم) وهذا لأجل التسهيل عليه، لا بيان للوجوب، لأنه بأول الحول كما

(4/143)


وعلى المتوسط الحال أربعةً وعشرين درهماً في كل شهرٍ درهمين، وعلى الفقير المعتمل اثني عشر درهماً في كل شهرٍ درهماً.
وتوضع الجزية على أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان من العجم، ولا توضع على عبدة الأوثان من العرب ولا على المرتدين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في البحر عن الهداية (و) يضع (على المتوسط الحال) وهو من يملك مائتي درهم فصاعدا (أربعة وعشرين درهما) منجمة أيضا (في كل درهمين، و) يضع (على الفقير) وهو من يملك ما دون المائتين، أو لا يملك شيئاً (المعتمل اثني عشر درهما) منجمة أيضاً (في كل شهر درهما) قال في البحر: وظاهر كلامهم أن حد الغنى والتوسط والفقر لم يذكر في ظاهر الرواية، ولذا اختلف المشايخ فيه، وأحسن الأقوال ما اختاره في شرح الطحاوي، ثم ذكر عبارته بمثل ما ذكرناه.
(وتوضع الجزية على أهل الكتاب) شامل اليهودي والنصراني، ويدخل في اليهود السامرية؛ لأنهم يدينون بشريعة موسى عليه الصلاة والسلام، إلا أنهم يخالفونهم في فروع، ويدخل في النصارى الفرنج والأرمن، وفي الخانية: وتؤخذ الجزية من الصابئة عند أبي حنيفة، خلافاً لهما، بحر (والمجوس) ولو من العرب لوضعه صلى الله عليه وسلم على مجوس هجر، والمجوس: جمع مجوسي، وهو من يعبد النار (وعبدة الأوثان) جمع وثن وهو الصنم، إذا كانوا (من العجم) لجواز استرقاقهم، فجاز ضرب الجزية عليهم.
(ولا توضع على عبدة الأوثان من العرب) ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نشأ بين أظهرهم؛ ونزل القرآن بلغتهم، فكانت المعجزة أظهر في حقهم فلم يعذروا في كفرهم (ولا) على (المرتدين) ، لكفرهم بعد الهداية للإسلام فلا يقبل منهما إلا الإسلام

(4/144)


ولا جزية على امرأةٍ، ولا صبيٍ، ولا زمنٍ، ولا أعمى، ولا فقيرٍ غير معتملٍ، ولا الرهبان الذين لا يخالطون الناس.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أو الحسام، وإذا ظهرنا عليهم فنساؤهم وذراريهم فئ؛ لأن أبا بكر رضي الله تعالى عنه استرق نسوان بني حنيفة وصبيانهم لما ارتدوا وقسمهم بين الغانمين، هداية.
(ولا جزية على امرأة ولا صبي) ولا مجنون ولا معتوه (ولا زمن، ولا أعمى) ولا مفلوج ولا شيخ كبير؛ لأنها وجبت بدلا عن القتال، وهم لا يقتلون ولا يقاتلون لعدم الأهلية (ولا فقير غير معتمل) أي مكتسب ولو بالسؤال، لعدم الطاقة، فلو قدر على ذلك وضع عليه، قهستاني (ولا على الرهبان الذين لا يخالطون الناس) ؛ لأنهم إذا لم يخالطوا الناس لا قتل عليهم، والأصل في ذلك: أن الجزية لإسقاط القتل، فمن لا يجب عليه القتل لا توضع عليه الجزية، وتمامه في الاختيار (قال في الاختيار: "ولا جزية على الرهبان المنعزلين، ولا على فقير غير معتمل، والمراد الرهبان الذين لا يقدرون على العمل والسياحين ونحوهم. أما إذا كانوا يقدرون على العمل فيجب عليهم وإن اعتزلوا وتركوا العمل؛ لأنهم يقدرون على العمل فصاروا كالمعتملين إذا تركوا العمل، فتؤخذ منهم الجزية، ونظيره تعطيل أرض الخراج" اهـ.) ، ولا توضع على المملوك، ولا المكاتب، ولا المدبر، ولا أم الولد، لعدم الملك، ولا يؤدى عنهم مواليهم، لتحملهم الزيادة بسببهم. والعبرة في الأهلية وعدمها وقت وضع الإمام، فمن أفاق أو أعتق أو بلغ أو برأ بعد وضع الإمام لم توضع عليه حتى تمضي تلك السنة، كما في الاختيار

(4/145)


ومن أسلم وعليه جزيةٌ سقطت عنه، وإن اجتمع حولان تداخلت الجزية.
ولا يجوز إحداث بيعةٍ ولا كنيسةٍ في دار الإسلام، وإذا انهدمت الكنائس
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(قال: "ولو أدرك الصبي أو أفاق المجنون أو عتق العبد أو برأ المريض قبل وضع الإمام الجزية وضع عليهم، ولو بعد وضع الجزية لا توضع عليهم، لأن المعتبر أهليتهم عند الوضع لأن الإمام يحرج (يناله الحرج) في تعرف حالهم في كل وقت، ولم يكونوا أهلا وقت الوضع، بخلاف الفقير إذا أيسر بعد الوضع حيث يوضع عليه، لأن الفقير أهل الجزية، وإنما سقطت عنه للعجز وقد زال" اهـ.) .
(ومن أسلم وعليه جزية) ولو بعد تمام الحول (سقطت عنه) ؛ لأنها تجب على وجه العقوبة فتسقط بالإسلام كالقتل، وكذا إذا مات؛ لأن شرع العقوبة في الدنيا لا يكون إلا لدفع الشر، وقد اندفع بالموت، وتمامه في الهداية (وإن اجتمع عليه) أي الذمي (حولان) فأكثر (تداخلت الجزية) ؛ لأنها عقوبة، والعقوبات إذا اجتمعت تداخلت كالحدود (تداخل الجزية - بحيث إذا اجتمع على من وجبت عليه جزية سنتين لم تؤخذ إلا لسنة واحدة - وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف ومحمد: تجب لجميع ما مضى، لأن مضي المدة لا تأثير له في إسقاط الواجب كالديون، ولأبي حنيفة ما أشار إليه الشارح، وحاصله أن الجزية عقوبة على الكفر، والأصل في العقوبات التداخل كالحدود، وأيضا فإنما شرعت الجزية لزجر الكفار، ولا يتصور الزجر عن الزمن الماضي.
وقيل: خراج الأرض على هذا الخلاف، هداية.) ، (ولا يجوز إحداث بيعة) بكسر الباء (ولا كنيسة) ولا صومعة، ولا بيت نار ولا مقبرة (في دار الإسلام) قال في النهاية: يقال كنيسة اليهود والنصارى لمتعبدهم وكذلك البيعة كان مطلقاً في الأصل، ثم غلب استعمال الكنيسة لمتعبد اليهود، والبيعة لمتعبد النصارى، اهـ قال في الفتح: وفي ديار مصر لا يستعمل لفظ البيعة، بل الكنيسة لمتعبد الفريقين، ولفظ الدير للنصارى خاصة، اهـ. ومثله في الديار الشامية، ثم إطلاق دار الإسلام يشمل الأمصار والقرى، وهو المختار كما في الفتح (وإذا انهدمت الكنائس

(4/146)


والبيع القديمة أعادوها.
ويؤخذ أهل الذمة بالتميز عن المسلمين في زيهم ومراكبهم وسروجهم وقلانسهم، ولا يركبون الخيل، ولا يحملون السلاح.
ومن امتنع من أداء الجزية، أو قتل مسلماً، أو سب النبي عليه الصلاة والسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
والبيع القديمة أعادوها) حكم ما كانت، من غير زيادة على البناء الأول، ولا يعدل عن النقض الأول إن كفى، وتمامه في شرح الوهبانية؛ لأن الأبنية لا تبقى دائماً، ولما أقرهم الإمام فقد عهد إليهم الإعادة، إلا أنهم لا يمكنون من نقلها، لأنها إحداث في الحقيقة، هداية.
(ويؤخذ أهل الذمة) : أي يكلفون ويلزمون (بالتميز عن المسلمين في زيهم) بكسر أوله - لباسهم وهيآتهم (ومراكبها وسروجهم وقلانسهم) ولا يهانون ولا يبدءون بالسلام، ويضيق عليهم الطريق؛ فلو لم يكن له علامة مميزة فلعله يعامل معاملة المسلمين، وذلك لا يجوز (ولا يركبون الخيل، ولا يحملون) وفي بعض النسخ يتجملون (السلاح) أي لا يمكنون من ذلك، لأن في ذلك توسعة عليهم وتقوية لشوكتهم، وهو خلاف اللازم عليهم، ويمنعون من لبس العمائم وزنار الإبريسم والثياب الفاخرة والمختصة بأهل العلم والشرف، ويظهرون الكستيجات - بضم الكاف - جمع كستيج، فارسي معرب: الزنار من صوف أو شعر، بحيث يكون في غلظ أصبع فوق الثياب، ويجب أن تميز نساؤهم عن نسائنا في الطرقات والحمامات، ويجعل على دورهم علامات، وتمامه في الأشباه في أحكام الذمي.
(ومن امتنع) من أهل الذمة (من أداء الجزية، أو قتل مسلماً) أو فتنة عن دينه أو قطع الطريق (أو سب النبي صلى الله عليه وسلم) أو القرآن، أو دين الإسلام

(4/147)


أو زنى بمسلمةٍ لم ينقض عهده، ولا ينتقض العهد إلا بأن يلحق بدار الحرب، أو يغلبوا على موضعٍ فيحاربونا.
وإذا ارتد المسلم عن الإسلام عرض عليه الإسلام، فإن كانت له شبهةٌ كشفت له، ويحبس ثلاثة أيامٍ، فإن أسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(أو زنى بمسلمة لم ينقض عهده) ؛ لأن كفره المقارن لم يمنع العهد، فالطارئ لا يرفعه؛ فتؤخذ منه الجزية جبراً إذا امتنع من أداء الجزية، ويستوفي منه القصاص إذا قتل، ويقام عليه الحد إذا زنى، ويؤدب ويعاقب على السبل، حاوي وغيره. واختار بعض المتأخرين قتله، وتبعه ابن الهمام، وأفتى به الخير الرملي، قال في الدر: ورأيت في معروضات المفتي أبي السعود أنه ورد أمر سلطاني بالعمل بقول أئمتنا القائلين بقتله إن ظهر أنه معتاده، وبه أفتى، وتمامه فيه (ولا ينتقض العهد) أي: عهد أهل الذمة (إلا بأن يلحق) أحدهم (بدار الحرب، أو يغلبوا على موضع فيحاربونا) لأنهم صاروا حرباً علينا فيعرى عقد الذمة عن الإفادة، وهو دفع شر الحراب؛ فينقض عهدهم، ويصيرون كالمرتدين، إلا أنه أسر واحد منهم يسترق، والمرتد يقتل، ولا يجبر على قبول الذمة، والمرتد يجبر على الإسلام.
ولما أنهى الكلام على الذمي أخذ في بيان أحكام المرتد، وهو الراجع عن الإسلام، فقال:
(وإذا ارتد المسلم عن الإسلام) والعياذ بالله تعالى (عرض عليه الإسلام) استحبابا على المذهب؛ لبلوغه الدعوة، در (فإن كانت له شبهة كشفت له) بيان لثمرة العرض؛ إذ الظاهر أنه لا يرتد إلا من له شبهة، (ويحبس ثلاثة أيام) ندبا، وقيل: إن استمهل وجوبا، وإلا ندبا، ويعرض عليه الإسلام في كل يوم (فإن أسلم) فيها، وكذا لو ارتد ثانيا، لكنه يضرب،

(4/148)


وإلا قتل، فإن قتله قاتلٌ قبل عرض الإسلام عليه كره له ذلك، ولا شيء على القاتل، فأما المرأة إذا ارتدت فلا تقتل، ولكن تحبس حتى تسلم.
ويزول ملك المرتد عن أمواله بردته زوالاً مراعىً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإن عاد يضرب ويحبس حتى تظهر عليه التوبة، فإن عاد فكذلك، تتارخانية، قال في الهداية: وكيفية توبته أن يتبرأ عن الأديان كلها سوى الإسلام، ولو تبرأ عما انتقل إليه كفاه؛ لحصول المقصود، اهـ (وإلا) أي: وإن لم يسلم (قتل) لحديث: (من ترك دينه فاقتلوه) (فإن قتله قاتل قبل عرض الإسلام عليه كره له ذلك) تنزيهاً أو تحريما على ما مر من حكم العرض (ولا شيء على القاتل) ؛ لقتله مباح الدم.
(وأما المرأة إذا ارتدت فلا تقتل) ؛ لنهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء، من غير تفرقة بين الكافرة الأصلية والمرتدة (ولكن تحبس حتى تسلم) لإمتناعها عن إيفاء حق الله تعالى بعد الإقرار، فتجبر على الإيفاء بالحبس كما في حقوق العباد، هداية.
(ويزول ملك المرتد عن أمواله بردته) ؛ لزوال عصمة دمه، فكذا عصمة ماله. قال جمال الإسلام: وهذا قول أبي حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يزول، والصحيح قول الإمام، وعليه مشى الإمام البرهاني، والنسفي، وغيرهما، تصحيح. وإنما يزول ملكه عند أبي حنيفة (زوالا مراعى) أي موقوفا إلى أن يتبين حاله؛ لأن حاله متردد بين أن يسلم فيعود إلى العصمة. وبين أن يثبت على ردته

(4/149)


فإن أسلم عادت على حالها، وإن مات أو قتل على ردته انتقل ما كان اكتسبه في حال الإسلام إلى ورثته المسلمين، وكان ما اكتسبه في حال ردته فيئاً، فإن لحق بدار الحرب مرتداً وحكم الحاكم بلحاقه عتق مدبروه وأمهات أولاده وحلت الديون التي عليه، ونقل ما اكتسبه في حال الإسلام إلى ورثته المسلمين،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيقتل (فإن أسلم عادت) حرمة أمواله (على حالها) السابق، وصار كأنه لم يرتد (وإن مات، أو قتل على ردته) أو لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه (انتقل ما كان اكتسبه في حال إسلامه إلى ورثته المسلمين) ؛ لوجوده قبل الردة، فيستند الإرث إلى آخر جزء من أجزاء إسلامه؛ لأن ردته بمنزلة موته، فيكون توريث المسلم من المسلم (وكان ما اكتسبه في حال ردته فيئا) للمسلمين، فيوضع في بيت المال؛ لأن كسبه حال ردته كسب مباح الدم ليس فيه حق لأحد، فكان فيئا كمال الحربي. قال الزاهدي: وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: كلاهما لورثته، والصحيح قول الإمام، واختار قوله البرهاني، والنسفي، وصدر الشريعة، تصحيح.
(وإن لحق بدار الإسلام مرتدا وحكم الحاكم بلحاقه عتق مدبروه) من ثلث ماله (وأمهات أولاده) من كل ماله، وأما مكاتبه فيؤدي مال الكتابة إلى ورثته ويكون ولاؤه للمرتد، كما يكون للميت، جوهرة (وحلت الديون التي عليه ونقل ما) كان (اكتسبه في حال الإسلام إلى ورثته المسلمين) ، لأنه باللحاق صار من أهل الحرب، وهم أموات في حق أحكام المسلمين؛ لانقطاع ولاية الإلزام، كما هي منقطعة عن الموتى، فصار كالموت، إلا أنه لا يستقر لحاقه إلا بقضاء القاضي لاحتمال العود إلينا، فلابد من القضاء، وإذا تقرر موته ثبتت الأحكام المتعلقة به، وهي

(4/150)


وتقضى الديون التي لزمته في حال الإسلام مما اكتسبه في حال الإسلام، وما لزمه من الديون في حال ردته مما اكتسبه في حال ردته، وما باعه أو اشتراه أو تصرف فيه من أمواله في حال ردته موقوف: فإن أسلم صحت عقوده، وإن مات أو قتل أو لحق بدار الحرب بطلت
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما ذكرناها في الموت الحقيقي، ثم يعتبر كونه وارثا عند لحاقه في قول محمد، لأن اللحاق هو السبب، والقضاء لتقرره يقطع الاحتمال، وقال أبو يوسف: وقت القضاء؛ لأنه يصير موتا بالقضاء، والمرتدة إذا لحقت بدار الحرب فهي على هذا، هداية.
(وتقضى الديون التي لزمته في حال الإسلام مما اكتسبه في حال الإسلام، وما لزمه من الديون في حال ردته) يقضى (مما اكتسبه في حال ردته) قال في الجوهرة: وهذه رواية عن أبي حنيفة، وهي قول زفر، وعن أبي حنيفة: أن ديونه كلها فيما اكتسبه في حال الردة خاصة، فإن لم يف به كان الباقي فيما اكتسبه في حال الإسلام، لأن كسب الإسلام حق الورثة، وكسب الردة خالص حقه، فكان قضاء الدين منه أولى، إلا إذا تعذر، بأن يف به، فحينئذ تقضي من كسب الإسلام، تقديماً لحقه، هداية.
(وما باعه) المرتد (أو اشتراه) أو أعتقه أو رهنه (أو تصرف فيه من أمواله في حال ردته) فهو (موقوف) إلى أن يتبين حاله (فإن أسلم صحت عقوده) ، لما مر أنه يصير كأنه لم يرتد (وإن مات أو قتل) على ردته (أو لحق بدار الحرب) وحكم بلحقاقه (بطلت) عقوده كلها، لأن بطلان عصمته أوجب خللاً في الأهلية، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: يجوز ما صنع في الوجهين، لوجود الأهلية، لكونه مخاطباً، والملك لقيامه قبل موته، والصحيح قول الإمام كما سبق،

(4/151)


وإن عاد المرتد بعد الحكم بلحاقه إلى دار الإسلام مسلماً، فما وجده في يد ورثته من ماله بعينه أخذه.
والمرتدة إذا تصرفت في مالها في حال ردتها جاز تصرفها.
ونصارى بني تغلب يؤخذ من أموالهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال في الهداية: واعلم أن تصرفات المرتد على أقسام؛ نافذ بالاتفاق كالاستيلاد والطلاق؛ لأنه لا يفتقر إلى حقيقة الملك وتمام الولاية؛ وباطل بالاتفاق كالنكاح والذبيحة؛ لأنه يعتمد الملة ولا ملة له، وموقوف بالاتفاق كالمفاوضة؛ لأنها تعتمد المساواة ولا مساواة بين المسلم والمرتد ما لم يسلم؛ ومختلف في توقفه، وهو ما عددناه. اهـ.
(وإن عاد المرتد بعد أن حكم بلحاقه إلى دار الإسلام مسلماً فما وجده في يد ورثته) أو في بيت المال (من ماله بعينه أخذه) لأن الوارث أو بيت المال إنما يخلفه لاستغنائه؛ فإذا عاد مسلماً احتاج إليه، فيقدم عليه لأنه ملك عليه بغير عوض، فصار كالهبة قيد بما بعد الحكم لأنه إذا عاد قبله فكأنه لم يرتد كما مر، وبالمال لأن أمهات أولاده ومدبريه لا يعودون إلى الرق، وبوجوده بعينه لأن الوارث إذا أزاله عن ملكه لا يرجع عليه؛ لأن القضاء قد صح بدليل مصحح فلا ينقض كما في الهداية.
(والمرتدة إذا تصرفت في مالها في حال ردتها جاز تصرفها) ؛ لأن ردتها لا تزيل عصمتها في حق الدم، ففي حق المال بالأولى.
(ونصارى بني تغلب) بن وائل، من العرب من ربيعة، تنصروا في الجاهلية وصاروا ذمة للمسلمين (يؤخذ من أموالهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين من الزكاة)

(4/152)


ويؤخذ من نسائهم، ولا يؤخذ من صبيانهم.
وما جباه الإمام من الخراج ومن أموال بني تغلب وما أهداه أهل الحرب إلى الإمام والجزية تصرف في مصالح المسلمين: فتسد منها الثغور، وتبنى القناطر والجسور، ويعطى قضاة المسلمين وعمالهم وعلماؤهم منه ما يكفيهم، ويدفع منه أرزاق المقاتلة وذراريهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لأن الصلح وقع كذلك (ويؤخذ من نسائهم، ولا يؤخذ من صبيانهم) ؛ لأن الصلح على الصدقة المضاعفة، والصدقة تجب عليهن دون الصبيان؛ فكذا المضاعف.
(وما جباه الإمام من الخراج ومن أموال بني تغلب) لأنه جزية (وما أهداه أهل الحرب إلى الإمام، والجزية) وما أخذ منهم من غير حرب، ومنه تركة ذمي (تصرف في مصالح المسلمين) العامة (فتسد منها الثغور) جمع ثغر - كفلس - وهو موضع المخافة من فروج البلدان، صحاح (وتبنى) منها (القناطر) جمع قنطرة: ما يعبر عليها النهر ولا ترفع (والجسور) جمع جسر - بكسر الجيم وفتحها - ما يعبر عليه ويرفع كما في البحر عن العناية (ويعطى قضاة المسلمين وعمالهم) كمفت، ومحتسب ومرابط (وعلماؤهم منه ما يكفيهم) وذراريهم (ويدفع منه) أيضا (أرزاق المقاتلة وذراريهم) ؛ لأن هذه الأموال حصلت بقوة المسلمين من غير قتال؛ فكانت لهم معدة لمصالحهم العامة، وهؤلاء عملتهم، ونفقة الذراري على الآباء، فلو لم يعطوا كفايتهم لاحتاجوا إلى الاكتساب؛ فلا يتفرغون لتلك الأعمال.
ولما أنهى الكلام عن أحكام المرتدين أخذ في الكلام على أحكام البغاة.
والبغاة: جمع باغ، من بغى على الناس، ظلم واعتدى، وفي عرف الفقهاء: الخارج عن طاعة الإمام الحق بغير حق، كما في التنوير

(4/153)


باب البغاة.
- وإذا تغلب قومٌ من المسلمين على بلدٍ وخرجوا عن طاعة الإمام دعاهم إلى العود إلى الجماعة، وكشف عن شبهتهم، ولا يبدؤهم بالقتال حتى يبدءوه، فإن بدءوا قاتلهم حتى يفرق جمعهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب البغاة
(وإذا تغلب قوم من المسلمين على بلد) قيد بالمسلمين لأن أهل الذمة إذا غلبوا على موضع للحراب صاروا أهل حرب كما مر (وخرجوا عن طاعة الإمام) أو طاعة نائبه، قال في الخانية من السير: قال علماؤنا: السلطان يصير سلطاناً بأمرين: بالمبايعة معه ويعتبر في المبايعة مبايعة أشرافهم وأعيانهم، والثاني: أن ينفذ حكمه في رعيته خوفا من قهره وجبروته، فإن بايع الناس ولم ينفذ حكمه فيهم لعجزه عن قهرهم لا يصير سلطاناً فإن صار سلطاناً بالمبايعة فجار: إن كان له قهر وغلبة لا ينعزل: لأنه لو انعزل يصير سلطانا بالقهر والغلبة فلا يفيد، وإن لم يكن له قهر وغلبة ينعزل. اهـ (دعاهم) أي الإمام أو نائبه استحباباً (إلى العود إلى الجماعة) والطاعة (وكشف عن شبهتهم) وإن أبدوا شبهة، لعل الشر يندفع به (ولا يبدؤهم بقتال حتى يبدءوه) إبلاء للعذر، وإقامة للحجة عليهم، ولذا بعث علي رضي الله عنه إلى أهل حروراء من يناظرهم قبل القتال (فإن بدءوا) بالقتال (قاتلهم حتى يفرق جمعهم) قال في الهداية: هكذا ذكر القدوري في مختصره، وذكر الإمام المعروف بخواهر زاده أن عندنا يجوز أن يبدأ بقتالهم إذا تعسكروا واجتمعوا لأن الحكم يدار مع الدليل وهو الاجتماع والامتناع، وهذا لأنه لو انتظر الإمام حقيقة قتالهم ربما لا يمكنه الدفع؛ فيدار على الدليل ضرورة دفع شرهم، وإذا بلغه أنهم يشترون السلاح ويتهيئون للقتال ينبغي أن يأخذهم ويحبسهم حتى يقلعوا عن ذلك

(4/154)


فإن كانت لهم فئةٌ أجهز على جريحهم واتبع موليهم، وإن لم يكن لهم فئةٌ لم يجهز على جريحهم ولم يتبع موليهم، ولا تسبى لهم ذريةٌ، ولا يغنم لهم مالٌ.
ولا بأس أن يقاتلوا بسلاحهم إن احتاج المسلمون إليه، ويحبس الإمام أموالهم، ولا يردها عليهم، ولا يقسمها حتى يتوبوا فيردها.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويحدثوا توبة؛ دفعاً للشر بقدر الإمكان، والمروى عن أبي حنيفة من لزوم محمول على حال عدم الإمام، أما إعانة الإمام الحق فمن الواجب عند الغناء والقدرة، اهـ (فإن كانت) البغاة (لهم فئة) أي طائفة يلتحقون بها أو حصن يلتجئون إليه (أجهز على جريحهم) أي: تمم قتله، قال في الصحاح: أجهزت على الجريح، إذا أسرعت قتله وقد تممت عليه (واتبع موليهم) أي: هاربهم، دفعا لشرهم كيلا يلحقا بهم أي بفئتهم أو يلتجئا إلى حصنهم (وإن لم يكن لهم فئة) ولا حصن (لم يجهز على جريحهم ولم يتبع موليهم) ، لأن المقصود تفريق جمعهم وتبديد شملهم وقد حصل، فلا داعي لقتلهم. وفيه إشعار بأنه لو أسر أحد منهم لم يقتله إن لم يكن له فئة، وإلا قتله كما في المحيط، قهستاني (ولا تسبى لهم ذرية) ولا نساء (ولا يقسم لهم مال) لأنهم مسلمون والإسلام يعصم النفس والمال (ولا بأس أن يقاتلوا) بالبناء المجهول - أي البغاة (بسلاحهم) ويرتفق بكراعهم (إن احتاج المسلمون) أي المطيعون (إليه) لأن للإمام أن يفعل ذلك في مال العادل عند الحاجة، ففي مال الباغي "أولى (ويحبس الإمام أموالهم) دفعاً لشرهم باستعانتهم به على القتال، إلا أنه يبيع الكراع لأن حبس الثمن أنظر وأيسر، هداية (ولا يردها عليهم، ولا يقسمها) بين الغانمين، لما مر

(4/155)


وما جباه أهل البغي من البلاد التي غلبوا عليها من الخراج والعشر لم يأخذه الإمام ثانياً، فإن كانوا صرفوه في حقه أجزأ من أخذ منه، وإن لم يكونوا صرفوه في حقه أفتى أهله فيما بيهم وبين الله تعالى أن يعيدوا ذلك.