المبسوط
للسرخسي دار الفكر ج / 9 ص -114-
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب السرقة
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد الأستاذ شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو
بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى
السرقة لغة أخذ مال الغير على وجه الخفية سمى
به لأنه يسارق عين حافظه ويطلب غرته ليأخذه أو
يسارق عين أعوانه على الحفظ بأن يسامره ليلا
لأن الغوث بالليل قل ما يلحقه وهي نوعان صغرى
وكبرى فالكبرى هي قطع الطريق لأنه يأخذ المال
في مكان لا يلحق صاحبه الغوث ويطلب غفلة من
التزم حفظ ذلك المكان وهو السلطان والعقوبة
تستحق بكل واحد من الفعلين على حسب الجريمة في
الغلظ والخفة فهذا الكتاب لبيان هذين الحدين
وكل واحد منهما ثابت منهما بالنص أما في
السرقة الصغرى الواجب بالنص قطع اليد قال الله
تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً
بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} [المائدة: 38] والواجب بأخذ المال في السرقة الكبرى قطع يد ورجل
قال الله تعالى
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الآية وكل واحد من الحدين عقوبة فإن الله عز وجل سمى
أحدهما نكالا والآخر خزيا بقوله تعالى
{ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: 33] وكل واحد منهما جميع موجب الفعل فقد سمى كل واحد
منهما جزاء وفيه إشارة إلى الكمال يقال خزي أي
قضي وجزأ بالهمزة أي كفي فعرفنا أنه جميع موجب
الفعل وإن كان كل واحد منهما مستحقا حقا لله
تعالى لأن الجزاء على الأفعال المحرمة من
العباد يكون حقا لله تعالى وفيه إشارة إلى أن
الفعل محرم العين وإن عصمة المال فيما يرجع
إلى موجب الفعل لله تعالى خالصا واختلف
العلماء بعد هذا في السرقة الصغرى قال فقهاء
الأمصار رضي الله عنهم المستحق قطع اليد
اليمني من الرسغ وقال الخوارج إلى المنكب لأن
اليد اسم للجارحة من رؤس الأصابع إلى الآباط
وقال بعض الناس المستحق قطع الأصابع فقط لأن
بطشه كان بالأصابع فتقطع أصابعه ليزول تمكنه
من البطش بها وهو مخالف للنص والمنصوص قطع
اليد وقطع اليد قد يكون من الرسغ وقد يكون من
المرفق وقد يكون من المنكب ولكن هذا الإبهام
زال ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه
أمر بقطع يد السارق من الرسغ ولأن هذا القدر
متيقن به وفي العقوبات إنما يؤخذ بالمتيقن
فأما قوله جل وعلا
{إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] فقد قيل المراد يحاربون أولياء الله فإن أحدا لا
يحارب الله تعالى ولكنه حذف المضاف وأقام
المضاف إليه مقامه وهو أصل في اللغة وقيل
المراد بيان أن قاطع الطريق كأنه يحارب الله
تعالى لأن المسافر في المفاوز في أمان الله
تعالى،
ج / 9 ص -115-
وحفظه
فالمتعرض له كأنه يحارب الله تعالى وهو نظير
قوله سبحانه وتعالى
{وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] فإن أحدا لا يشاقق الله حقيقة ولكن راد أمر الله
تعالى كأنه يشاقق الله تعالى وزعم بعض العلماء
رحمهم الله تعالى أن نزول الآية في المرتدين
واستدلوا عليه بحديث أنس رضي الله عنه أن
العرنيين لما ارتدوا وقتلوا الرعاة وساقوا إبل
الصدقة بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في
أثرهم وجيء بهم فأمر بقطع أيديهم وأرجلهم وسمل
أعينهم فنزلت الآية ولكن الأصح أن نزول الآية
في الذين قطعوا الطريق من غير المرتدين لأن في
الآية بيان عقوبة تستحق بقطع الطريق وقيل
المرتد يستحق القتل قطع الطريق أو لم يقطع
وإنما سبب نزول هذه الآية الذين قطعوا الطريق
وما بدأ به محمد الكتاب ورواه عن أبي يوسف
رحمه الله تعالى عن الكلبي عن أبي صالح عن بن
عباس رضي الله عنهم أجمعين.
قال وادع رسول الله صلى الله
عليه وسلم أبا بردة هلال بن عويمر الأسلمي
فجاء أناس يريدون الإسلام فقطع عليهم أصحاب
أبي بردة الطريق فنزل على رسول الله صلى الله
عليه وسلم جبريل عليه السلام بالحد فيهم أن من
قتل وأخذ المال صلب ومن قتل ولم يأخذ المال
قتل ومن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من
خلاف ومن جاء مسلما هدم الإسلام ما كان في
الشرك فقوله وادع يحتمل المؤقتة وهي الأمان
ويحتمل المؤبدة وهي الذمة فأجرى أبو يوسف رحمه
الله تعالى الكلمة على ظاهرها وقال يقام حد
قطاع الطريق على المستأمنين وأهل الذمة بدليل
الحديث وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى
قالا المراد الموادعة المؤبدة وهي عقد الذمة
لأنه قد ثبت بالنص وجوب تبليغ المستأمنين
مأمنهم والآية وإن نزلت في الكفار فالحكم غير
مقصور عليهم لأن السبب الموجب للعقوبة قطع
الطريق بالنص ففي حق كل من تقرر السبب ثبت
الحكم ولكن بعد أن يصير محاربا بقطع الطريق
والمستأمن محارب وإن لم يقطع الطريق لأنه
متمكن من الرجوع إلى دار الحرب والمحارب بقطع
الطريق يكون من أهل دارنا وقوله فجاء أناس
يريدون الإسلام قيل معناه قد أسلموا فجاؤا
يريدون الهجرة لتعلم أحكام الشرع وقيل بل جاؤا
على قصد أن يسلموا ومن جاء من دار الحرب على
هذا القصد فوصل إلى دار الإسلام فهو بمنزلة
أهل الذمة والحد يجب بقطع الطريق على أهل
الذمة كما يجب بقطع الطريق على المسلمين بخلاف
المستأمنين على ما بيناه ثم في هذا الحديث
دليل على أن هذا الحد مشروع على الترتيب بخلاف
ما يقوله مالك رضي الله عنه أنه على التخيير
بظاهر حرف أو وهذا لأن الجناية تختلف منه
بمباشرة القتل أو أخذ المال أو إخافة الناس
والعقوبة بحسب الجناية فيستحيل أن يقال عند
غلظ الجناية يعاقب بأخف الأنواع وعند خفتها
بأغلظ الأنواع فعرفنا أنها مرتبة كما ذكر في
الحديث فظاهر قوله من قتل وأخذ المال صلب دليل
لأبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في أن
الإمام لا يشتغل بقطع يده ورجله بهذه الحالة
ولكن أبو حنيفة رحمه الله يقول المراد بيان ما
يختص به بهذه الحالة فأما قطع اليد والرجل عند
أخذ المال مبين في الحديث ألا ترى أنه لم يذكر
القتل في هذه الحالة لأنه مبين في حق من قتل،
ج / 9 ص -116-
ولم
يأخذ المال فأقول الإمام يتخير في هذه الحالة
بين أن يقطع يده ورجله ثم يقتله ويصلبه أو
يقتله ويصلبه ثم يطعن تحت تندوته اليسرى
فيقتله على خشبة.
ففي ظاهر المذهب يتخير بين أن يصلبه حيا وبين
أن يقتله ثم يصلبه وذكر الطحاوي أنه لا يصلبه
قبل القتل فإن ذلك مثلة ونهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور
ولكن في هذا الحديث دليل على أن له ذلك لتحقيق
معنى الخزي في حقه ولهذا قال أبو يوسف رحمه
الله تعالى يتركه على خشبته أبدا إلى أن يسقط
لتحقيق معنى الخزي وليعتبر به غيره فأما قوله
عز وجل
{أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] فهو غير مذكور في هذا الحديث والمراد عندنا الحبس في
حق من خوف الناس ولم يأخذ مالا ولم يقتل لأنه
إما أن يكون المراد نفيه من جميع الأرض وذلك
لا يتحقق ما دام حيا أو المراد نفيه من بلدته
إلى بلدة أخرى وبه لا يحصل المقصود وهو دفع
أذيته عن الناس أو يكون المراد نفيه عن دار
الإسلام إلى دار الحرب وفيه تعريض له على
الردة فعرفنا أن المراد نفيه من جميع الأرض
إلى موضع حبسه فإن المحبوس يسمى خارجا من
الدنيا قال القائل:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها
فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى
إذا جاءنا السجان يوما لحاجة
عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
والشافعي رحمه الله
تعالى يقول المراد إتباعه حتى لا يتمكن من
القرار في موضع فذلك نفيه من الأرض فأما قوله
من جاء مسلما هدم الإسلام ما كان في الشرك فهو
معنى قوله جل وعلا {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا
مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}
[المائدة: 34] وفيه كلام نبينه في بابه ثم
الإسلام يهدم ما كان في الشرك من الجناية على
خالص حق الله تعالى قال الله جل وعلا
{قُلْ
لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ
لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وقال النبي صلى الله عليه وسلم "الإسلام يجب ما قبله"
والتوبة قبل قدرة الإمام عليه مسقطة لهذه
العقوبة بالنص على ما نبينه إن شاء الله تعالى
وذكر عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه لا تقطع اليد إلا في ثمن
المجن وهو يومئذ يساوي عشرة دراهم وفيه دليل
على أن النصاب في المسروق معتبر لإيجاب القطع
على السارق وهو قول فقهاء الأمصار وأصحاب
الظواهر يقولون لا يعتبر النصاب فيه وقد نقل
ذلك عن الحسن البصري رحمه الله تعالى واستدلوا
بالآية فإن الله عز وجل قال
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا} [الأنفال: 38] يعني بالسرقة لأن السارق اسم مشتق من فعل والفعل
الذي اشتق منه الاسم يكون علة للحكم ولكن
السرقة لا تتحقق إلا بصفة المالية والمملوكية
والحرز فإن أخذ المال المباح يسمى اصطيادا أو
احتطابا لا سرقة وكذلك ما ليس بمحرز محفوظ
فأخذه لا يكون سرقة لانعدام مسارقة عين الحافظ
فشرطنا ما يقتضيه اسم السرقة وليس في اسم
السرقة ما يدل على النصاب فالسرقة تتحقق في
القليل والكثير فاشتراط النصاب يكون زيادة على
النص وذلك يعدل النسخ وفي الحديث أن صلى الله
عليه وسلم قال "لعن الله
السارق
ج / 9 ص -117-
يسرق
البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده"
والبيضة قد لا تساوي أكثر من فلس ولا يجوز أن
يقال المراد بيضة الحديد وحبال السفن واللؤلؤ
لأن المقصود بيان حقارة السارق وفي حمله على
ما قلتم تفويت هذا المقصود ولكنا نقول لما كان
في اسم السرقة ما ينبئ عن صفة الإحراز صار كون
المال محرزا شرطا بالنص وشرائط العقوبة يراعى
وجودها بصفة الكمال لما في النقصان من شبهة
العدم والإحراز إنما يتم في المال الخطير دون
الحقير فالقليل لا يقصد الإنسان إحرازه عادة
وإليه أشارت عائشة رضي الله عنها في قولها
كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم في الشيء التافه فصار ما يتم به
الإحراز وهو كون المال خطيرا ثابتا بالنص
والمراد من الحديث بيضة الحديد إلا أن صاحب
الشرع وإن ذكره لإظهار حقارة السارق فقد أضمر
في كلامه هذا المعنى ليحصل المقصود ويكون
كلامه حقا على ما روى أنه كان يمازح ولا يقول
إلا حقا وقيل إن هذا كان في الابتداء لزيادة
التغليظ والتشديد ثم انتسخ بالآثار المشهورة
باعتبار النصاب في المسروق ثم اختلفوا في
مقدار النصاب فقال علماؤنا رحمهم الله تعالى
عشرة دراهم أو دينار وقال الشافعي رحمه الله
تعالى ربع دينار وقال مالك رحمه الله ثلاثة
دراهم وقال ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى خمسة
دراهم وقال عكرمة رحمه الله تعالى أربعة دراهم
وعن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري رضي الله
تعالى عنهما أربعون درهما واستدل الشافعي رحمه
الله تعالى بحديث الزهري عن عروة عن عائشة رضي
الله تعالى عنهما أن صلى الله عليه وسلم قال "القطع في ربع دينار فصاعدا"
ولأنهم اتفقوا على أن القطع على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ما كان إلا في ثمن المجن
واختلف في ثمن المجن وعند الاختلاف في القيمة
يؤخذ بالأقل كما إذا اختلف المقومون في قيمة
المسروق يؤخذ بالأقل في ذلك فأقل ما نقل فيه
ثلاثة دراهم فلهذا قدر مالك رحمه الله تعالى
النصاب به وقد كانت قيمة الدينار على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم اثني عشر درهما
فثلاثة دراهم يكون ربع دينار وابن أبي ليلى
رحمه الله تعالى يستدل بحديث عثمان رضي الله
عنه لا تقطع الخمس إلا بخمسة يعني اليد التي
عليها خمسة أصابع لا تقطع إلا بخمسة دراهم ومن
اعتبر بأربعين استدل بحديث عائشة رضي الله
عنها كانت اليد لا تقطع على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم في الشيء التافه فكانت تقطع في
ثمن المجن وهو كان يومئذ ذا ثمن وهذا منها
إشارة إلى أنه كان مالا خطيرا والخطير ما يكون
مقدارا يعتبر لإيجاب الزكاة فيه وأدنى ذلك
الأربعون في نصاب الشياه وعلماؤنا رحمهم الله
استدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا قطع إلا في دينار أو عشرة دراهم" وعن بن مسعود رضي الله عنه موقوفا ومرفوعا
لا تقطع اليد إلا في دينار أو في عشرة دراهم وهكذا عن علي رضي الله عنه وفي الحديث المعروف
لا مهر أقل من عشرة ولا قطع في أقل من عشرة دراهم وعن أيمن بن أبي أيمن وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أن المجن
الذي قطعت اليد فيه على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يساوي عشرة دراهم والرجوع
إلى قولهم أولى لأنهم من جلة الغزاة فكانوا
أعرف بقيمة
ج / 9 ص -118-
السلاح
من غيرهم وليس هذا من جملة ما قال أن الأخذ
بالأقل أولى لأن في قيمة المسروق إنما يؤخذ
بالأقل لدرء الحد وذلك يوجب أن يؤخذ بالأكثر
ها هنا لأن معنى درء الحد فيه وقد روى أن عمر
رضي الله تعالى عنه أتى بسارق سرق ثوبا فأمر
بقطع يده قال عثمان رضي الله عنه أن سرقته لا
تساوي عشرة دراهم فأمر بتقويمه فقوم بثمانية
دراهم فدرأ الحد عنه فدل أنه كان ظاهرا معروفا
فيما بينهم أن النصاب يتقدر بعشرة دراهم
ويعتبر نصاب الحد بنصاب المهر وقد قامت
الدلالة لنا على أن أدناه عشرة دراهم والمستحق
بكل واحد منهما ماله خطر وهو مصون عن الابتذال
فلا يستحق إلا بمال خطير والحديث الذي رواه عن
عائشة رضي الله عنها اضطرب أهل الحديث فيه
وأكثرهم على أنه غير مرفوع إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى كان القاسم بن عبد الرحمن
رحمهما الله تعالى إذا سمع من يروي هذا الحديث
مرفوعا رماه بالحجارة والدليل عليه ما اشتهر
من قول عائشة رضي الله عنها كانت اليد لا تقطع
في الشيء التافه وكانت تقطع في ثمن المجن فلو
كان عندها نص لما اشتغلت بهذا الجواب المبهم
ثم يحتمل أنه كان التقدير بربع دينار في
الابتداء ثم انتسخ ذلك بعشرة دراهم ليكون
الناسخ أخف من المنسوخ قال الله جل وعلا
{مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا
أَوْ مِثْلِهَا}
[البقرة: 106] ثم في ظاهر الرواية المعتبر
عشرة دراهم من النقرة المضروبة حتى روى بن
رستم عن محمد رحمهما الله تعالى إذا سرق نقرة
لا تساوي عشرة دراهم مضروبة فلا قطع عليه وروى
الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى أن
المعتبر عشرة دراهم من النقد الغالب بعد أن
تكون الفضة فيها غالبة على الغش وأما ما يغلب
عليه الغش فهو من الفلوس لا من الدراهم والأول
أصح لما بينا أن شرط العقوبة يراعى وجوده بصفة
الكمال فإذا كانت الدراهم مغشوشة فالغش ليس من
الفضة في شيء ولو أوجبنا القطع عليه كان إيجاب
القطع في موضع الشبهة وما يندرئ بالشبهات لا
يستوفى مع الشبهة فلهذا اعتبرنا عشرة دراهم من
النقرة المضروبة ثم المعتبر عشرة دراهم من وزن
سبعة فإنه هو المعتبر في وزن الدراهم في غالب
البلدان وقد بينا تفسير ذلك فيما أمليناه من
شرح الإفرار وعن بن مسعود وابن عباس وإبراهيم
رضوان الله عليهم أجمعين قالوا إذا أصاب من
الحدود فيها القتل قتل وألغي ما سوى ذلك معناه
ما سوى ذلك من الحدود التي حق لله تعالى فأما
ما فيه حق العباد كحد القذف والقصاص في الطرف
فلا بد من استيفائه مقدما لمراعاة من له الحق
وفي حقوق الله تعالى القتل أهم وفي معنى الزجر
أتم فيبدأ به ثم لا فائدة في الجلد والقطع
بعده بهذا استدل أبو يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى في أن قاطع الطريق إذا استحق قتله لا
يشتغل بقطع يده ورجله وأبو حنيفة رحمه الله
يقول إن المراد في الحدود لا في حد واحد وحد
قاطع الطريق واحد ولا تداخل في أجزاء حد واحد
فللإمام أن يقطع يده ورجله ثم يقتله لتحقيق
معنى التغليظ وعن عمر رضي الله عنه أنه قال
أيما قوم شهدوا على حد لم يشهدوا بحضرته فإنما
شهدوا على ضغن قال الحسن رحمه الله في حديثه
ولا شهادة لهم والمراد الحدود التي هي
ج / 9 ص -119-
محض حق
الله تعالى والشهادة عليها بطريق الحسبة من
غير أن ينبني على خصومة في الحد كالزنا
والسرقة وشرب الخمر وأما حد القذف فالشهادة
عليه تنبني على الدعوى والخصومة في الحد فلا
يمتنع قبولها بتقادم العهد وعن علي رضي الله
عنه في رجل أخذ وقد نقب البيت ولم يأخذ المتاع
قال لا حد عليه وبه نأخذ فإن سبب وجوب الحد ما
لم يتم لا يجب الحد وتمام السرقة بإخراج المال
من الحرز وهذا لأن الحد يتعلق بما هو المقصود
من كل نوع ولهذا لم يجب حد الزنى إلا بالإيلاج
في الفرج والمقصود في السرقة إخراج المال دون
هتك الحرز فإن أخذ قبل إخراج المال فقد انعدم
ما هو المقصود فلا حد عليه وعن رافع بن خديج
رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم "لا قطع في ثمر ولا في كثر"
وبه نقول فالثمر اسم الرطب المعلق على الأشجار
وهو مما يتسارع إليه الفساد ولا قطع عندنا في
سرقة ما يتسارع إليه الفساد.
فإن قيل: المراد ثمار المدينة فإنها على رؤوس
الأشجار وهي لا تكون محرزة لقصر الحيطان.
قلنا: رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على
المعنى المانع من وجوب الحد والقطع وهو كون
المسروق ثمرا وفي الحمل على ما قلتم تعطيل هذا
السبب وإحالة الحكم إلى سبب آخر فأما الكثر
فقد قبل المراد به الجمار هكذا قال يحيى بن
سعيد وقال غيره هو الودى وهو النخل الصغار وقد
حكي أن غلاما سرق وديا فغرسه في أرض مولاه
فأتى به مروان فأمر بقطعه فجاء مولاه إلى رافع
بن خديج رضي الله عنه فأخبره بذلك فقال لا قطع
عليه فسأله أن يأتي معه مروان فقام إليه وقد
روى الحديث أن صلى الله عليه وسلم قال "لا قطع في ثمر
ولا في كثر" فدرأ الحد مروان وعن الحسن رحمه الله قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم "لا
قطع في الطعام المهيأ للأكل" فإن ذلك
مما يتسارع إليه الفساد ولا يمكن إدخاره وأما
الحنطة ونحوها يتعلق بسرقها القطع بعد تمام
الإحراز وقبل تمام الإحراز لا يتعلق بها القطع
لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن
جريسة الجبل فقال "هي
ومثلها والنكال وإذا جمعها المراح ففيها القطع"
وفي رواية ففيها غرم مثله وجلدات نكال وفي
رواية فإذا آواها الجرين وبلغ ثمن المجن ففيها
القطع وقيل المراد لا قطع في عام السنة وهي
زمان القحط لأن الضرورة تبيح التناول من مال
الغير بقدر الحاجة فيمنع ذلك وجوب القطع لما
روى عن مكحول رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال "لا قطع في مجاعة مضطر"
وذكر عن الحسن عن رجل قال رأيت رجلين مكتوفين
ولحما فذهبت معهم إلى عمر رضي الله عنه فقال
صاحب اللحم كانت لنا ناقة عشراء ننتظرها كما
ينتظر الربيع فوجدت هذين قد اجتزراها فقال عمر
رضي الله عنه هل يرضيك من ناقتك ناقتان
عشراوان مربعتان فإنا لا نقطع في العذق ولا في
عام السنة وكان ذلك في عام السنة والعشراء هي
الحامل التي أتى عليها عشرة أشهر وقرب ولادتها
فهي أعز ما يكون عند أهلها ينتظرون الخصب،
ج / 9 ص -120-
والسعة
بلبنها كما ينتظرون الربيع وقوله فإنا لا نقطع
في العذق منهم من يروي في العرق وهو اللحم
والأشهر العذق وهو الكباسة ومعناه لا قطع في
عام السنة للضرورة والمخمصة وقد كان عمر رضي
الله عنه في عام السنة يضم إلى أهل كل بيت أهل
بيت آخر ويقول لن يهلك الناس على إنصاف بطونهم
فكيف نأمر بالقطع في ذلك وعن علي رضي الله عنه
في الخلسة قال تلك الدعارة المغالبة لا قطع
فيها وفي رواية الغالبة فهذا منه منه إشارة
إلى أن القطع إنما يتعلق بفعل السرقة والخلسة
لا تكون سرقة فإن المختلس يستدير صاحب المتاع
ولا يسارق عينه وعن إبراهيم قال لا قطع على
سارق الحر الصغير وإن سرق مملوكا قطع وبه نأخذ
والحر ليس بمال بخلاف المملوك وفي الصغير
يتحقق فعل السرقة وفيه اختلاف لأبي يوسف رحمه
الله تعالى نبينه وعن علي رضي الله عنه في
السارق تقطع يده اليمني فإن عاد قطعت رجله
اليسرى فإن عاد استودعته السجن إني لأستحي من
الله تعالى أن لا أدع له يدا يأكل بها ورجلا
يمشي عليها وذكر في الأصل أنه عرض السجون فأتي
برجل قد قطعت يده ورجله وقد سرق فقال ما ترون
فيه قال بعضهم تقطع يده اليسرى فقال ليس ذلك
عليه فبأي شيء يستنجي ويرفع لقمته وقال بعضهم
تقطع رجله اليمني فقال ماذاك عليه فبأي شيء
يمشي إلى حاجته قال إبراهيم رحمه الله تعالى
وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
فمنهم من قال أقطعه حتى آتي على قوائمه كلها
يريد به قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما
ومنهم من قال أقطع يده ورجله ثم أحبسه يريد به
قول علي وابن مسعود رضي الله عنهما قال هذا
أحب إلي وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله تعالى لأن
القطع شرع زاجرا لا متلفا وفي تفويت منفعة
الجنس إتلاف حكمي على ما أشار إليه علي رضي
الله عنه وسيأتي بيان هذا الفصل وذكر عن بن
عمر رضي الله عنهما قال أضاف أبو بكر الصديق
رضي الله عنه أقطع اليد والرجل فكان يصلى
بالليل فقال له أبو بكر رضي الله عنه من قطعك
فقال يعلى بن أمية باليمن قال أبو بكر رضي
الله عنه ماليلك بليل سارق ثم أغار على حلي
لأسماء فسرقه ثم أصبح يدعو مع القوم على من
سرق أهل البيت الصالح وفي رواية كان يقول
اللهم أظهر فلم يقم القوم حتى أتى بصائغ
بالمدينة عنده الحلى فقال أتانى به هذا الاقطع
واعترف فقال أبو بكر رضي الله عنه لعزته بالله
أعز على من سرقته وفي رواية ما أجهلك بالله
فقال عمر رضي الله عنه والله لا أبرح حتى يقطع
فقطعت يده اليسرى وقد ذكرنا في كتاب الإكراه
أنه كان أقطع اليد فقطع أبو بكر رضي الله عنه
رجله اليسرى وليس لحكاية الحال عموم فعند
اختلاف الرواية فيه يضعف الاستدلال به
والإشكال في الحديث أنه كان ضيفا عند أبي بكر
رضي الله عنه والضيف إذا سرق من بيت المضيف لا
يقطع لأنه مأذون بالدخول في الحرز ولكن تأويله
أن بيت الضيافة لأبي بكر رضي الله عنه كان
منفصلا عن بيت العيال فلم يكن الضيف مأذونا في
بيت العيال فلهذا قطعه وفيه دليل على أنه لا
يعتمد على ظاهر حال الرجل في دعائه وصلاته وقد
كان يصلي بالليل ثم كان مقصوده السرقة لا
الصلاة وتمام فوائد الحديث نبينه في الإكراه
إن
ج / 9 ص -121-
شاء
الله تعالى وذكر عن يزيد بن خصيف رضي الله عنه
قال أتى صلى الله عليه وسلم بسارق فقال "أسرقت
ما أخاله سرق" فقال نعم قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم "اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به" ففعلوا به ذلك فقال "تب إلى الله"
فقال تبت إلى الله تعالى فقال"اللهم
تب عليه" وفيه دليل على أن الإمام مندوب إلى الاحتيال لدرء الحد وتلقين
المقر الرجوع ويدل عليه ما رواه عن أبي
الدرداء أنه أتى بسارق أو بسارقة فقال أسرقت
قولي لا وعن بن مسعود رضي الله تعالى عنه أنه
أتى بسوداء يقال لها سلامة فقال أسرقت قولي لا
قالوا أتلقنها قال جئتموني بأعجمية لا تدري ما
يراد بها حين تفسر فاقطعها وفيه دليل على أن
المقر بالسرقة إذا رجع درى ء عنه الحد وأن
الرجل والمرأة في ذلك سواء وإن للإمام أن ينيب
غيره منابه ليستوفي الحد لا بحضرته فإنه عليه
الصلاة والسلام قال "اذهبوا
به فاقطعوه" وفيه دليل
على أن القطع للزجر لا للإتلاف لأنه أمر
بالحسم بعد القطع وهو دواء وإصلاح يتحرز به عن
الإتلاف وفيه دليل على أن التطهير لا يحصل
بالحد إذا كان مصرا على ذلك ولأنه خزي ونكال
وإنما التطهير والتكفير به في حق التائب فإنه
دعاه إلى التوبة بقوله صلى الله عليه وسلم "تب إلى الله" وفيه دليل على أن التوبة لا تتم بقوله تبت فإنه صلى الله عليه
وسلم قال "اللهم تب
عليه" وتمام التوبة بالندم على ما كان منه والعزم على أن لا يعود إليه
من بعد مع الوجل فيما بين ذلك.
قال وإن شهد شاهدان على رجل
بالسرقة سئلا عن ماهيتها وكيفيتها لأن مبهم
الاسم محتمل فإن من يستمع كلام الغير سرا يسمى
سارقا قال الله تعالى
{إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} [الحجر: 18] ويقال سرق لسان الأمير ومن لا يعتدل في الركوع والسجود
يسمى سارقا قال صلى الله عليه وسلم "إن أسوأ الناس سرقة من يسرق من صلاته" فيستفسرهما عن الماهية والكيفية لها ولأن المسروق قد يكون مالا
متقوما وقد يكون غير مال وقد يكون محرزا أو
غير محرز وقد يكون نصابا وما دونه فلا بد أن
يسألهما عن الماهية والكيفية وينبغي أن
يسألهما متى سرق وأين سرق كما بيناه في الزنى
لأن حد السرقة لا يقام بعد تقادم العهد ولا
يقام على من باشر السبب في دار الحرب فيسألهما
عن ذلك ولم يذكر السؤال ممن سرق لأن المسروق
منه حاضر يخاصم والشهود يشهدون بالسرقة منه
ولا حاجة إلى السؤال عن ذلك فإذا بينوا جميع
ذلك والقاضي لا يعرف الشاهدين حبسه حتى يسأل
عنهما لأنه صار متهما بارتكاب الحرام فيحبس
ولا يمكن التوثق بالكفيل لأنه لا كفالة في
حقوق الله تعالى ولا يتمكن من القضاء قبل ظهور
عدالتهما لأن القطع يتعذر تلافيه عند وقوع
الغلط فيه فلهذا حبسه فإن زكيا وقيمة المسروق
نصاب كامل والمسروق منه غائب لم يقطع إلا
بحضرته وكان بن أبي ليلى رحمه الله تعالى يقول
لا حاجة إلى حضرة المسروق منه وتقبل الشهادة
على السرقة وحبسه كالزنا لأن المستحق بكل واحد
منهما حد هو خالص حق الله تعالى والشافعي رحمه
الله يقول إذا أقر السارق بالسرقة فلا حاجة
إلى حضرة المسروق منه لقطعه فأما إذا قامت
البينة عليه بذلك فلا بد من حضوره عند الشهادة
لأن الشهادة تنبني على الدعوى في المال فما لم
يحضر هو أو نائبه لا
ج / 9 ص -122-
تقبل
شهادته وإن غاب بعد ذلك لا يتعذر استيفاء
القطع وعندنا لا بد من حضرة المسروق منه في
الإقرار والشهادة جميعا عند الأداء وعند القطع
لأن ظهور فعل السرقة لا يكون إلا به فلا بد من
أن يكون المسروق مملوكا لغير السارق فإذا قطع
قبل حضوره كان استيفاء الحد مع الشبهة لجواز
أن يرد إقراره فيبقى المال مملوكا لمن في يده
أو كان أقر له بالملك بعد شهادة الشهود أو أنه
كان ضيفا عنده ولا معتبر بحضور وكيله عند
الاستيفاء لأن الوكيل قائم مقامه وشرط الحد لا
يثبت بما هو قائم مقام الغير.
قال وإذا حضر المسروق منه
والشاهدان غائبان لم يقطع حتى يحضرا في قول
أبي حنيفة الأول رحمه الله تعالى وفي قوله
الآخر وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى يقطع وكذلك بعد موت الشهود وقد ذكر في
كتاب الحدود أنه يقام الحد بعد غيبة الشهود
وموتهم إلا الرجم خاصة وقد بينا ذلك إلا أن
هناك لم يذكر قول أبي حنيفة الأول رحمه الله
تعالى وإنما ذكره ها هنا وهو القياس في كل
عقوبة لأن الاستيفاء مع غيبة الشهود استيفاء
مع الشبهة لجواز أن يكونا رجعا عن الشهادة أو
ابتليا بما يسقط شهادتهما ورجوع الشاهد في
العقوبات بعد القضاء قبل الاستيفاء مانع من
الاستيفاء ولكنه رجع عن هذا فقال الغيبة
والموت لا تقدح في عدالة الشاهد والشرط بعد
الأداء عدالته فلهذا لا يمتنع الإقامة لغيبته
وموته إلا الرجم فالمعتبر فيه البداية بالشهود
وذلك ينعدم بعد موتهم ثم بين أن العارض في
شهود السرقة بعد القضاء قبل الاستيفاء مانع من
استيفاء القطع وهو غير مانع من استرداد عين
المسروق لأنه محض حق العبد فتتأكد الشهادة فيه
بنفس القضاء ولأن المال يثبت بالشبهات بخلاف
الحد ولهذا قبلت شهادة النساء مع الرجال
والشهادة على الشهادة في السرقة بالمال دون
القطع.
قال وإذا سرق الرجل ثوبا
يساوي عشرة من رجلين قطع لأن المسروق نصاب
كامل فلا يختلف مقصود السارق بتعدد المسروق
منه أو اتحاده.
قال وإن سرق رجلان ثوبا يساوي
عشرة من رجل لم يقطعا لأن سرقة كل واحد منهما
نصف النصاب فإن عند تعدد السراق لا يصيب كل
واحد منهم إلا شيء يسير قل ما يرغب فيه ولا
تقطع اليد في الشيء التافه بخلاف الأول فإن
السارق واحد والنصاب كامل يرغب الواحد في أخذه
سواء كان المالك واحدا أو جماعة وإن كانت قيمة
الثوب بحيث يبلغ نصيب كل واحد من السارقين منه
عشرة دراهم فإنه يقطع كل واحد منهما لأن
التعاون مما يزيد رغبة السارق في الاجتراء على
فعل السرقة فالحاجة إلى شرع الزاجر في هذه
الحالة أظهر وهو نظير الصداق فإنه لو تزوج
امرأتين على ثوب يساوي نصيب كل واحدة منهما
عشرة دراهم كانت التسمية صحيحة في حقهما ولو
كانت قيمة الثوب عشرة فلكل واحدة نصف الثوب
وخمسة لأن البضع لا يتملك على واحدة منهما إلا
بنصاب كامل فكذلك ها هنا لا يقطع اليد من كل
واحد منهما ما لم تبلغ سرقته نصابا كاملا.
ج / 9 ص -123-
قال ويقطع السارق من المستودع والمضارب والمستعير والغاصب والمرتهن
عندنا وعلى قول زفر والشافعي رحمهما الله
تعالى لا يقطع بخصومة هؤلاء ما لم يحضر المالك
والكلام مع الشافعي رحمه الله تعالى ينبني على
أن لهؤلاء حق الخصومة في الاسترداد عندنا وعند
الشافعي رحمه الله تعالى ليس لهم ذلك عند جحود
من في يده ما لم يحضر المالك وقد بينا هذا في
الوديعة فأما الكلام مع زفر رحمه الله تعالى
يتحقق في هذه المسألة هو يقول خصومة هؤلاء
تقوم مقام خصومة المالك فلا يستوفي القطع
بمثله كما لا يستوفي بخصومة وكيل المسروق منه
وهذا لأنه استوفى مع تمكن الشبهة فإن المالك
إذا حضر ربما يقر بالملك له أو أنه كان مأذونا
في الأخذ من جهته وما يندرىء بالشبهات لا
يستوفي مع تمكن الشبهة ألا ترى أن القصاص في
النفس لا يستوفي بخصومة المستودع عند غيبة
المالك لهذا المعنى فأما الأب أو الوصي فقد
قيل على قول زفر رحمه الله لا يستوفي القطع
بخصومتهما أيضا لاعتبار معنى النيابة وقيل أنه
يستوفي لأنه ليس فيه تمكن الشبهة في الحال فإن
إقرار الصغير بالملك للسارق لغو ولهذا ملك
الأب استيفاء القصاص في الطرف والنفس جميعا
وملك الوصي استيفاء القصاص في الطرف في إحدى
الروايتين.
توضيحه أن المال مضمون على السارق وفي استيفاء
القطع إسقاط الضمان وصاحب اليد إذا لم يكن
مالكا لا يملك إسقاط الضمان فلا يستوفي القطع
بخصومته.
وحجتنا فيه أن السرقة تمت موجبة للقطع
فيستوفي القطع بخصومة المسروق منه كالمالك
والأب والوصي إن سلم وبيانه أن المالك لو حضر
وخاصم يستوفي القطع بالاتفاق وتأثيره أن بعد
تمام الفعل موجبا للقطع الشرط ظهوره عند
الإمام بلا شبهة وقد ظهر بخصومة هؤلاء لأن
أيديهم صحيحة وصاحب اليد الصحيحة إذا أزيلت
يده كان له حق الخصومة في الإعادة لأن اليد
مقصود كالملك ألا ترى أن الغاصب يضمن بتفويت
اليد ولأن صاحب اليد وإن كان أمينا فلا يتمكن
من أداء الأمانة إلا بيده وإن كان ضامنا فلا
يتمكن من إسقاط الضمان عن نفسه إلا بيده فكانت
اليد مقصودة له ولا شك في حق المرتهن أن اليد
مقصودة لأن موجب عقد الرهن ثبوت يد الاستيفاء
حقا للمرتهن وكل من كان خصما في إثبات إزالة
يده يكون خصما في إثبات سبب الإزالة كمن ادعى
عينا في يد إنسان أنه له اشتراه من فلان
الغائب وأقام البينة على ذلك قبلت بينته حتى
إذا حضر الغائب وأنكر البيع لم يلتفت إلى ذلك
لأنه لما كان خصما في إثبات الملك لنفسه كان
خصما في إثبات سببه وسبب الإزالة ها هنا
السرقة فيظهر بخصومته عند الإمام بلا شبهة
لأنه أصل في هذه الخصومة وإنما يخاصم باعتبار
حقه لا باعتبار ملك الغير ألا ترى أنه يستغني
عن إضافة الخصومة إلى غيره فإنه يقول سرق مني
وأزال يدي بخلاف الوكيل وإذا ظهرت السرقة بلا
شبهة استوفي الإمام القطع حقا لله تعالى ولا
يمتنع الاستيفاء لتوهم اعتراض إقرار من المالك
إذا حضر ألا ترى أن المالك إذا حضر وغاب
المودع
ج / 9 ص -124-
يستوفي
القطع وإن كان يتوهم أن يحضر المودع فيقر أنه
كان ضيفا عنده وهذا لأن المؤثر شبهة يتوهم
وجودها في الحال فأما ما يتوهم اعتراضها لا
يعتبر ألا ترى أن القطع يستوفي بالإقرار وإن
كان يتوهم اعتراض الرجوع من المقر وصاحب اليد
بهذه الخصومة إنما يقصد إحياء حق المالك لا
إسقاطه ولكن الإمام إذا استوفى القطع حقا لله
تعالى فمن ضرورته سقوط الضمان على ما نبينه
فلا يصير به المودع مسقطا للضمان بل القطع
مشروع بطريق الزجر فإذا علم السارق أنه لا
يقطع بخصومة المودع في حال غيبة المالك يجترئ
على سرقة الوديعة فلتحقيق الزجر يستوفي القطع
بخصومته ويكون ذلك من الحفظ حكما كما أن الله
تعالى وصف القصاص بأنه حياة وهو إماتة في
الحقيقة ولكن فيه حياة بطريق الزجر. فأما
القصاص إنما لا يستوفي بخصومة المودع لتمكن
شبهة عفو من المالك في الحال ولأن اليد فيما
تناوله من الإيداع له وهو المالية ووجوب
القصاص باعتبار معنى النفسية وذلك لا يتناوله
الإيداع بخلاف الخصومة في السرقة فإنه يكون في
المال باعتبار معنى المالية فيكون المودع أصلا
بنفسه ولأن الحرز الذي هو المودع لا أثر له في
القصاص بخلاف القطع فإنه لا يجب إلا بهتك
الحرز وأخذ المال وكل واحد منهما جناية تصلح
سببا للعقوبة فكان المودع باعتبار هذا المعنى
كالمودع لأنه صاحب أحد وصفي السبب فكما أن
المالك أصل في الخصومة المظهرة للسرقة بلا
شبهة فكذلك المودع وأما إذا سرق من السارق فإن
كان الأول لم تقطع يده فهو بمنزلة الغاصب يقطع
الثاني بخصومة الأول وإن كان الأول قد قطعت
يده فالسرقة بعد لم تتم موجبة للقطع لأنه لا
معتبر بيد السارق الأول بعد ما قطعت يده فإنه
ليس بيد أمانة ولا يد ضمان ولا يد ملك ولهذا
لا يكون له حق الخصومة في الاسترداد ولو حضر
المالك لم يكن له أن يستوفي القطع من الثاني
بخلاف ما نحن فيه على ما بينا.
قال وإذا أشهد كافران على
مسلم وكافر بسرقة ثوب فشهادتهما باطلة في جميع
ذلك إلا أنه يقضي على الكافر بنصف الثوب
للمدعي لأنهما شهدا بسرقة واحدة ولم تظهر
شهادتهما في حق المسلم لأنها ليست بحجة عليه
فلا تظهر في حق الكافر أيضا لأن شهادتهما حجة
في فعل يختص به الكافر لا في فعل يشاركه
المسلم فيه وقد تقدم في الزنى نظيره وأما في
حق الثوب فنصفه في يد المسلم فشهادتهما ليست
بحجة فيه ونصفه في يد الكافر فشهادتهما حجة
عليه فيقضي بشهادتهما على الكافر بنصف الثوب
للمدعي فإن كان المشهود عليهما كافرين فأسلم
أحدهما قبل القضاء فكذلك الجواب وإن أسلم
أحدهما بعد القضاء فكذلك الجواب في حق القطع
فأما في حق الثوب فللمدعي أن يسترده كله لأن
شهادتهما في ملك الثوب تأكدت بالقضاء.
قال ويستحب لشاهدي السرقة أن
لا يشهدا عليه بذلك ليندرى ء به الحد عندنا
لما جاء في الحديث "ادرؤا
الحدود ما استطعتم" وهذا خطاب لكل من تمكن من ذلك ولأنه بالامتناع من أداء الشهادة
يقصد إبقاء الستر عليه وأنه مندوب إليه ولكن
هذا إذا رد السارق المتاع فإن
ج / 9 ص -125-
أبى
ذلك وقال صاحب المتاع إذا يذهب متاعي وسعهما
أن يشهدا أنه متاع هذا أخذه هذا من غير أن
يذكرا السرقة لأنهما ندبا إلى الستر عليه
ونهيا عن كتمان الشهادة التي تتضمن إبطال حق
المسلم فالطريق الذي يعتدل فيه النظر من
الجانبين هذا وهو أن يشهدا بلفظ الأخذ دون
السرقة ليكون الآخذ مجبرا على رد العين حال
قيامها وعلى رد القيمة عند هلاكها فيتوصل صاحب
المتاع إلى حقه ولا ينهتك ستر الآخذ وهما
صادقان في هذه الشهادة فالسارق أخذ المتاع لا
محالة وكل من كان في يده شيء أو في بيته فأخذه
إنسان وسع الشاهدان أن يشهدا أنه لفلان الذي
كان في يديه لأنه لا طريق لمعرفة الملك إلا
اليد لأنه وإن عاين الشراء فالمشتري لا يملك
إلا باعتبار ملك البائع ولا يعرف ملكه إلا
باعتبار يده وكذلك الاحتطاب والاحتشاش وسائر
الأسباب إنما يوجب الملك باعتبار اليد وهذا
لأن إحراز الشيء يكون باليد وبالإحراز يثبت
الملك وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى لا
يسعه أن يشهد له بالملك ولو رآه في يده إلا أن
يراه يتصرف فيه ولا يمنعه أحد منه لأن الأيدي
قد تتنوع قد تكون يد ملك وقد تكون يد أمانة
وقد تكون يد غصب ولكنا نقول لا معتبر بهذه
الزيادة فاليد مع التصرف تتنوع أيضا ألا ترى
أن الوكيل والمضارب متصرف وفي الكتاب قال
الشاهد يبني على الظاهر فإن ما وراءه غيب لا
يعلمه إلا الله تعالى ألا ترى أنه لو تزوج
امرأة بين يدي الشهود كان لهم أن يشهدوا
بالنكاح بينهما وإن كان من الجائز أنها كانت
منكوحة الغير أو وقعت الفرقة بينهما بعد العقد
وشهود الدين يسعهم أن يشهدوا عليه بعد زمان
ولعل البراءة وقعت عنه بالاستيفاء أو الإبراء.
قال ومن نقب البيت فأدخل يده
وأخذ المتاع وذهب به لم يقطع وعن أبي يوسف
رحمه الله تعالى في الإملاء أنه يقطع لأنه
أخذ مالا محرزا على وجه السرقة وهو كما لو دخل
البيت وأخرج المتاع وهذا لأن المقصود أخذ
المال لا دخول الحرز وبناء الحكم على ما هو
المقصود ألا ترى أنه لو سرق من الجوالق وأدخل
يده وأخرج المتاع قطعت يده فكذلك في البيت وجه
ظاهر الرواية ما روى عن علي رضي الله عنه اللص
إذا كان ظريفا لا يقطع قيل وكيف ذلك قال أن
ينقب البيت فيدخل يده ويخرج المتاع من غير أن
يدخله ولأن هتك الحرز معتبر لإيجاب القطع وشرط
الحد وسببه يراعي وجوده بأكمل الجهات وأكمل
جهة هتك الحرز في البيوت أن يدخلها فلا يلزمه
القطع بدون ذلك بخلاف الجوالق فالدخول فيه لا
يتأتى وهو ليس بمعتاد أيضا فيتم هتك الحرز
بإدخال اليد وإخراج المتاع منه وكمال أخذ
المال مقصود فدخول الحرز كذلك ألا ترى أن من
الجهال من يقصد ذلك إظهارا للجلادة من نفسه
والاستخفاف بصاحب الحرز وإن لم يكن به قصد إلى
أخذ ماله.
قال وإن دخل الحرز وجمع
المتاع ولم يخرجه حتى أخذ لم يقطع لأن تمام
السرقة بإخراج المال من الحرز فمقصود السارق
لا يتم إلا به وقبل تتميم السبب لا يلزمه
القطع.
ج / 9 ص -126-
وعند
الشافعي رحمه الله تعالى يقطع لأن سرقته قد
تمت بأخذ المال المحرز والخروج بعد ذلك ليس
تتميم فعل السرقة بل للنجاة من صاحبه وهو كحد
الزنى يجب بنفس الإيلاج وإن أخذ على ذلك قبل
أن ينزع نفسه ولكنا نقول هناك يحصل مقصوده في
الإيلاج وها هنا يحصل مقصوده في صرف المسروق
إلى شهواته وحاجاته وذلك يكون بعد الإخراج فلا
يقطع إذا أخذ قبل أن يخرج.
قال فإن ناول صاحبا له على
الباب لم يقطع واحد منهما لأن الذي وقف خارج
البيت لم يدخل الحرز والآخر لم يخرج المال ألا
ترى أنه خرج من الحرز وليس معه في يده مال
حقيقة ولا حكما إذ المال في يد الآخذ منه فلا
يقطع واحد منهما وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى
قال إن كان الخارج أدخل يده حتى تناول المتاع
فالقطع عليهما وإن كان الداخل أخرج يده مع
المتاع حتى أخذ الخارج منه فالقطع على الداخل
دون الخارج لأن الداخل قد تم منه هتك الحرز
فصار المال مخرجا بفعله ومعاونته فعليه القطع
على كل حال فأما الخارج فإن أدخل يده فقد وجد
منه إخراج المال من الحرز وذلك يوجب القطع
عليه عنده وإن لم يدخل يده ولكن أخرج الآخر
يده إليه فإنما أخذ متاعا هو غير محرز فلا
يقطع.
قلاال فإن رمى بالثياب إلى
الطريق ثم خرج وأخذها من الطريق قطع عندنا
وعند زفر رحمه الله لا يقطع لأنه خرج من الحرز
ولا مال في يده فهو كما لو ناول صاحبا له من
خارج فإنما فارق هذا الأول في الأخذ من السكة
وذلك غير موجب للقطع عليه ولكنا نقول خرج
والمال في يده حكما فتتم سرقته كما لو كان في
يده حقيقة بيانه أن يده تثبت عليه بالأخذ ثم
بالرمي إلى الطريق لم تزل يده حكما لعدم
اعتراض يد أخرى على يده ألا ترى أن من سقط منه
مال فأخذه إنسان ليرده على صاحبه ثم رده إلى
موضعه لم يضمن لأنه في ذلك الموضع في يد صاحبه
حكما فرده إلى ذلك الموضع بمنزلة رده على
صاحبه وإذا ثبت بقاؤه حكما وقد تقرر ذلك
بالأخذ من الثاني فكان مستوجبا القطع فهذه
مبالغة في الحيلة من السارق ليكون مستعدا لدفع
صاحب البيت في بيته أن يدركه فلا يشغل يده
بالمتاع وقد يحول ذلك بينه وبين الدفع
واكتسابه زيادة حيلة لا يكون مسقطا للقطع عنه
فأما إذا ناول غيره فقد زالت يده حقيقة وحكما
باعتراض يد أخرى قبل خروجه من الحرز فلهذا لم
يلزمه القطع.
قال ولو رمى به إلى السكة ثم
لما خرج لم يجده بأن كان أخذه غيره وذهب به لم
يقطع لأن فعله هذا كان تضييعا للمال لا
تتميما لفعل السرقة وكما ثبتت يد الغير عليه
بالأخذ زالت يده حكما فقد خرج ولا مال في يده.
قال ولو كان في البيت نهر جار
ورمى بالمتاع في النهر حتى أخرجه الماء ثم خرج
فأخذه فقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى
لا قطع عليه لأنه ما أخرج المتاع وإنما خرج به
الماء بخلاف الأول فهناك هو الذي أخرجه بالرمي
به إلى خارج والأصح أنه يلزمه
ج / 9 ص -127-
القطع
لأن جري الماء به كان بسبب القائه في النهر
فيصير الإخراج مضافا إليه من هذا الوجه وهو
زيادة حيلة منه ليكون متمكنا من دفع صاحب
البيت فلا يجوز أن يجعل مسقطا للحد عنه.
قال ولو حمل المتاع على ظهر
دابة وساق الدابة حتى أخرجها فعليه القطع لأن
فعل الدابة مضاف إلى سائقها ألا ترى أن ما
وطئت دابته فضمانه على سائق الدابة فتتم سرقته
بإخراج المال على ظهر الدابة.
قال وإن دخل جماعة الدار
فجمعوا المتاع وحملوه على ظهر رجل منهم فكان
هو الذي خرج به وقد خرجوا معه أو بعده في فوره
أو خرجوا قبله ثم خرج هو في فورهم ففي القياس
يقطع الحمال وحده وهو قول زفر والشافعي رحمهما
الله تعالى وفي الاستحسان عليهم القطع وهو
قول علمائنا الثلاثة رحمهم الله تعالى وجه
القياس أن فعل السرقة إنما يتم من الحمال
بإخراج المتاع فأما الآخرون لم يوجد إخراج
المتاع منهم حقيقة ولا حكما فلا يلزمهم القطع
وبيان ذلك أنهم خرجوا ولا شيء في أيديهم حقيقة
ومن طريق الحكم المتاع في يد الحمال حتى لو
نازعوه كان القول قوله ويده معتبرة في إيجاب
القطع عليه ولا يمكن اعتبار تلك اليد بعينها
في إيجاب القطع على الآخرين بخلاف ما إذا
حملوه على ظهر الدابة لأن فعل الدابة هدر
فيبقى الإخراج مضافا إلى سوق الدابة فكانوا
مخرجين له ولأنه لا يد للدابة على المتاع
فيبقى في يد الآخذين حكما إلى أن أخرجوه على
ظهر الدابة.
وجه الاستحسان أنهم اشتركوا في هتك الحرز وصار
المال مخرجا بمعاونتهم فيلزمهم القطع كما لو
أخرجوه على ظهر الدابة وهذا لأن هذه زيادة
حيلة معروفة بين السراق أن يباشر حمل المتاع
واحد منهم وأصحابه يكونون مستعدين لدفع صاحب
البيت عنه وعن أنفسهم فلا يجوز أن يكون ذلك
مسقطا للحد عنهم والمسألة مع الشافعي رحمه
الله تعالى إنما تنبني على الردء في قطع
الطريق أنه هل تلزمه العقوبة على ما نبينه فإن
الآخرين كالردء للحمال إلا أن زفر رحمه الله
تعالى قد يفرق بينهما فيقول حد قطاع الطريق
بسبب المحاربة والردء مباشر للمحاربة لأن
المحاربة في العادة هكذا تكون فإنهم لو
اشتغلوا جميعا بالقتال فإذا وقعت الهزيمة
عليهم لا تستقر قدمهم وإذا كان بعضهم ردءا
فإذا وقعت الهزيمة على المباشرين للحرب التجؤا
إلى الردء فلهذا كانت العقوبة عليهم بخلاف
السرقة فالحد ها هنا إنما يجب بمباشرة فعل
السرقة وذلك في إخراج المال من الحرز فإذا كان
المخرج من يؤاخذ بحكم فعله لم يجب القطع على
غيره.
قال وإن دخل البيت وأخرج
المتاع بعضهم دون البعض فالقطع على من دخل
البيت وأخرج إن عرف بعينه وإن لم يعرف فعليهم
التعزير ولا يقطع واحد منهم لأن فعل السرقة
إنما تم من بعضهم وهو غير معروف بعينه فيصير
ذلك شبهة في درء العقوبة عنهم.
ج / 9 ص -128-
قال وإذا شهد شاهدان على رجل بالسرقة فقال السارق هذا متاعي كنت
استودعته فجحدني أو اشتريته منه أو قال هو
أمرني به درى ء عنه القطع في جميع ذلك لأن
المسروق منه قد صار خصما له فإنه ادعى عليه ما
لو أقر به لزمه ويتمكن من إثباته عليه بالبينة
وإن طلب يمينه كان له أن يستحلفه عليه وبعد ما
آل الأمر إلى الخصومة لا يستوفي الحد الواجب
لله تعالى وقد بينا هذا في حد الزنى وهذا لأنه
إذا امتنع عن اليمين يقضي عليه بالنكول ولو
حلف لو قلنا بأنه يقطع كان استيفاء الحد
باليمين ولا يجوز استيفاء الحد باليمين
والشافعي رحمه الله تعالى يقول لا يجوز أن
يسقط الحد بمجرد الدعوى لأن ذلك لا يعجز عنه
سارق فيؤدي ذلك إلى سد باب هذا الحد ولكنا
نقول قد أمرنا بدرء الحد عند الشبهة والشبهة
تتمكن بمجرد دعواه بدليل تمكنه من الخصومة وهو
نظير المقر إذا رجع يدرأ عنه الحد وما من مقر
إلا ويتمكن من الرجوع ثم كان ذلك معتبرا في
إيراث الشبهة.
قال وإن سرق باب دار أو مسجد
لم يقطع لأنه ظاهر غير محرز ولا قطع في سرقة
مال غير محرز ولأن بالباب يصير ما في البيت
محرزا فسارق الباب يكون سارقا للحرز دون
المحرز فهو كسرقة الحارس وكذلك لو سرق ثوبا قد
سقط على حائط إلى السكة فإنه غير محرز فإن
الحائط غير محرز بل به يحرز ما في داخل البيت
فما على ظاهر الحائط لا يكون محرزا أيضا وكذلك
إن سرق خشبة أو ساجة في السكة وكذلك لو سرق
ثوبا من حمام أو بيت إنسان أذن له في دخوله أو
حانوت تاجر في السوق قد أذن للناس في دخوله
والأصل في جنس هذه المسائل أن المال يكون
محرزا بالمكان تارة وبالحائط أخرى وكل مكان هو
معد لحفظ الأمتعة فيه فهو حرز وما لم يكن معدا
مبنيا لذلك لا يكون حرزا والإحراز بالحافظ
إنما يعتبر فيما ليس بمحرز بالمكان فأما فيما
كان محرزا بالمكان لا يعتبر الإحراز بالحافظ
لأنه بدونه محرز فإنما يتحقق الإحراز فيما ليس
محرزا إذا عرفنا هذا فنقول الحانوت حرز حتى لو
سرق منه ليلا استوجب القطع وإذا فتح التاجر
باب الحانوت بالنهار وأذن للناس بالدخول فيه
والمعاملة معه فكل من دخل كان داخلا بإذن
صاحبه وذلك شبهة مانعة من وجوب القطع لأن كل
داخل بحكم الإذن بمنزلة صاحب الدار والحانوت
فينعدم هتك الحرز من هذا الوجه ويستوي إن كان
صاحب الحانوت هناك يحفظ متاعه أو لا يكون لأن
الحافظ غير معتبر فيما هو محرز بالمكان وكذلك
البيت المأذون بالدخول فيه أو الدار الواحدة
إذا أذن له بالدخول في بعض بيوتها ويستوي إن
سرق من ذلك البيت أو من بيت آخر فيها أو من
صندوق مقفل لأن الكل حرز واحد ألا ترى أن
السارق ما لم يخرج المسروق من الدار لا يستوجب
القطع بخلاف ما إذا كانت إحدى الدارين تنفصل
عن الأخرى لأن كل واحدة منهما حرز على حدة ألا
ترى أن المودع إذا أمر بحفظ الوديعة في دار
فحفظها في دار أخرى فهلكت كان ضامنا بخلاف ما
إذا أمر بحفظها في بيت فحفظها في بيت آخر من
تلك الدار فإذا كان مأذونا في دخول بيت منها
تنعدم الحرزية في حقه فلا يقطع سواء كان صاحب
الدار هناك أو لم يكن،
ج / 9 ص -129-
وكذلك
الحمام فإنه حرز في نفسه حتى لو سرق منه ليلا
يقطع وبالنهار هو مأذون بالدخول فيه فيمتنع
وجوب القطع عليه سواء كان هناك حافظ أو لم يكن
فأما الصحراء فليس بحرز في نفسه وإنما يصير
المال محرزا فيه بالحافظ فإذا كان هناك حافظ
يجب القطع على السارق وإلا فلا قطع عليه وكذلك
المسجد فإنه ما بني للإحراز وحفظ الأمتعة به
فإنما يكون المتاع فيه محرزا بالحافظ فإذا لم
يكن مع المال حافظ فلا قطع عليه سرق منه ليلا
أو نهارا فإذا كان هناك حافظ فعليه القطع
لحديث صفوان رضي الله عنه فإنه كان نائما في
مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم متوسدا
بردائه فجاء سارق فسرقه فاتبعه حتى أخذه وجاء
به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر
بقطعه.
قال ولو كابر إنسانا ليلا حتى
سرق متاعه ليلا فعليه القطع لأن سرقته قد تمت
حين كابره ليلا فإن الغوث بالليل قل ما يلحق
صاحب البيت وهو عاجز عن دفعه بنفسه فيكون
تمكنه من ذلك بالناس والسارق استخفي فعله من
الناس بخلاف ما إذا كابره في المصر نهارا حتى
أخذ منه مالا فإنه لا يلزمه القطع استحسانا
لأن الغوث في المصر بالنهار يلحقه عادة فالآخذ
مجاهر بفعله غير مستخف له وذلك يمكن نقصانا في
السرقة قال صلى الله عليه وسلم "لا قطع على
مختلس ولا منتهب ولا خائن".
قال وإذا سرق رجلان من رجل
ثوبا وأحدهما أب المسروق منه لم يقطع واحد
منهما أما الأب فللتأول له في مال ولده بظاهر
قوله صلى الله عليه وسلم "أنت ومالك لأبيك"
ولأنه قد يدخل بيته من غير استئذان عادة فلا
يكون بيته حرزا في حقه والسرقة فعل من السارق
فإذا امتنع وجوب القطع على أحدهما للشبهة
يمتنع وجوبه على الآخر للشركة وهو نظير ما
قلنا في الأب والأجنبي إذا اشتركا في قتل
الولد لم يجب القصاص على واحد منهما.
قال ومن سرق من ذي رحم محرم
منه لم يقطع عند علمائنا وقال الشافعي رحمه
الله في الوالدين والمولودين كذلك وفي غيرهم
يجب القطع لأنه ليس بينهما ولاد ولا جزئية
فلا تتمكن الشبهة لأحدهما في مال صاحبه كبني
الأعمام والدليل عليه قبول شهادة كل واحد
منهما لصاحبه وجواز وضع الزكاة فيه ولأن
الثابت بهذه القرابة بينهما حرمة النكاح وذلك
لا يمنع وجوب القطع كما لو سرق من أخيه من
الرضاعة وهذا على أصله مستقيم فإنه يقول لا
يتعلق بهذه القرابة استحقاق النفقة بحال ولا
استحقاق العتق عليه عند دخوله في ملكه.
وحجتنا فيه قوله تعالى
{وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا
مِنْ بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] الآية فالله تعالى رفع الجناح على الداخل في بيت
الأخوة والأعمام والأكل منه فظاهر هذا يقتضي
الإباحة والظاهر وإن ترك لقيام الدليل يبقى
شبهة ألا ترى أنه عطف بيوت الأخوة والأعمام
على بيوت الآباء والأولاد وحكم المعطوف حكم
المعطوف عليه ولا يدخل عليه قوله تعالى في آخر
الآية
{أَوْ صَدِيقِكُمْ} [النور: 61] لأن الصداقة لا تبقى مع السرقة فلانعدام السبب عند
السرقة تنتفي الشبهة هناك فأما الأخوة تبقى مع
السرقة كالأبوة والمعنى فيه أن بينهما قرابة
محرمة للنكاح
ج / 9 ص -130-
فكانت
كالولاد وتأثيره أن البعض يدخل بيت البعض من
غير استئذان ولا حشمة ولهذا ثبت حل النظر إلى
موضع الزينة الظاهرة والباطنة بهذه القرابة
كما في الولاد فينتقص معنى الحرزية في حقهم
وهو على أصلنا مستقيم لأنه يتعلق استحقاق
النفقة بهذه القرابة والعتق عند دخوله في
الملك فذلك دليل على ثبوت الحق لبعضهم في مال
البعض من وجه وأدنى الشبهة تكفي لدرء الحد وإن
كان أحد السارقين ذا رحم محرم من المسروق منه
أو شريكا له يدرأ الحد عنه بالشبهة ويدرأ عن
الآخر للشبهة للشركة لما بينا أنها سرقة واحدة
فلا يكون بعضها موجبا للعقوبة وبعضها غير موجب
كالخاطئ مع العامد إذا اشتركا في القتل.
قال ولا قطع على سارق المصحف
عند علمائنا رحمهم الله تعالى وقال الشافعي
رحمه الله تعالى عليه القطع لأنه سرق مالا
متقوما من حرز لا شبهة فيه فإن الجلد والبياض
مال متقوم قبل أن يكتب فيه القرآن يجب القطع
بسرقته فكذلك بعد ما كتب فيه ألا ترى أنه يجوز
بيعه وشراؤه وأنه لو كان المكتوب فيه شيئا آخر
لم تنتقص ماليته فإذا كتب فيه القرآن أولى وفي
الكتاب علل وقال لأن فيه القرآن فلا قطع فيه
وفي هذا التعليل إشارة إلى أن في المصاحف
قرآنا كما هو مذهب أهل السنة وتأثيره أن لكل
واحد تأويلا في أخذ المصحف للقراءة فيه والنظر
لإزالة أشكال وقع في كلمة فالقطع لا يجب مع
تمكن الشبهة توضيحه أن المقصود ما في المصحف
لا عين الجلد والبياض ولا يمكن إيجاب القطع
عليه باعتبار هذا المقصود لأن ذلك ليس بمال
فيصير ذلك شبهة كمن سرق آنية من خمر لا يلزمه
القطع وإن كانت الآنية تساوي نصابا لأن
المقصود ما فيه وهو ليس بمال وكذلك إن كان
المصحف مفضضا وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى
أنه يقطع في هذه الحالة لأن ما عليه من الفضة
ليس من المصحف في شيء فهو كالمنفصل يتعلق
القطع بسرقته ووجه ظاهر الرواية أن المقصود ما
في المصحف دون ما على جلده من الفضة وإذا لم
يمكن إيجاب القطع باعتبار ما هو المقصود يعتبر
ذلك شبهة في درء الحد كمن سرق ثوبا خلقا قد صر
في الثوب دينار ولم يعلم السارق لا يلزمه
القطع لأن ما هو المقصود ليس بنصاب فلا يلزمه
القطع باعتبار غيره.
قال ولا قطع على سارق الخبز
واللحم والفاكهة والرمان والعنب والبقول
والرياحين والحناء والوسمة سواء سرق من شجرة
أو من غير شجره عندنا وقال الشافعي رحمه الله
تعالى يلزمه القطع في هذا كله وهو رواية عن
أبي يوسف رحمه الله تعالى لأنه سرق مالا
متقوما من حرز لا شبهة فيه ودليل المالية
والتقوم جواز البيع والشراء فيها ووجوب ضمان
القيمة على غاصبها ومتلفها ودليل الحرزية أنه
لو سرق مالا آخر من هذا الموضع يقطع وكل مكان
هو حرز معتاد لمال فإنه يتم إحرازه بذلك
المكان على وجه لا يبقى فيه شبهة.
وحجتنا ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا قطع في ثمر ولا في كثر"
وبالإجماع المراد بالثمار الرطبة لأنه يتسارع
إليها الفساد ولأن في مالية هذه الأشياء
نقصانا لأن المالية بالتمول وذلك
ج / 9 ص -131-
بالصيانة والإدخار لوقت الحاجة ولا يتأتى ذلك
فيما يتسارع إليه الفساد فيتمكن النقصان في
ماليتها وفي النقصان شبهة العدم ولأنه تافه
جنسا ولأن الناس يتساهلون به فيما بينهم
فيلتحق بالتافه قدرا وهو ما دون النصاب والأصل
فيه حديث عائشة رضي الله عنها كانت لا تقطع
الأيدي في الشيء التافه.
قال وكذلك لا قطع في الحرض
والجص والنورة والزرنيخ عندنا لأن هذه
الأشياء توجد مباح الأصل في دار الإسلام غير
مرغوب فيه فلا يتعلق القطع بسرقته عندنا وقال
الشافعي رضي الله عنه يتعلق القطع بسرقة كل
مال تبلغ قيمته نصابا إلا التراب والسرجين وهو
رواية عن أبي يوسف رحمه الله تعالى لأنه سرق
مالا متقوما من حرز لا شبهة فيه وقررنا هذا في
المسألة الأولى وبأن كان يوجد جنسه مباحا لا
يتمكن فيه شبهة بعد الإحراز كالذهب والفضة
واللؤلؤ والفيروزج يتعلق القطع بسرقتها وإن
كان يوجد جنسه مباحا ولأنه لو سرق سريرا أو
كرسيا يلزمه القطع والخشب غير مصنوع يوجد
مباحا ثم وجوب القطع باعتبار العين لا باعتبار
الصنعة ولا يفترق الحال بينهما قبل الصنعة وما
بعده في حكم القطع.
وحجتنا فيه ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم "الناس شركاء في ثلاثة في الكلأ والماء والنار" وقد أثبت بين الناس شركة عامة في هذه الأشياء وذلك شبهة في المنع
من وجوب القطع بها وإن انقطعت الشركة بإحرازها
وإذا علم الحكم في هذه الأشياء وهي توجد مباح
الأصل بصورتها غير مرغوب فيها فكذلك كل ما
يوجد مباح الأصل في دار الإسلام غير مرغوب فيه
والمعنى فيه أنه تافه جنسا ألا ترى أن الإنسان
قد يتمكن من أخذه ولا يرغب فيه فيكون نظير
التافه قدرا يقرره أن التافه لا يتم إحرازه
ألا ترى أن الخشب تكون مطروحة في السكك عادة
وكذلك الجص والزرنيخ والنورة والناس لا
يحرزونها كما يحرزون سائر الأموال لتفاهتها
والنقصان في الحرزية يمنع من وجوب القطع فأما
الذهب والفضة واللؤلؤ والجوهر فقد روى هشام عن
محمد رحمهما الله تعالى أنه إذا سرقها على
الصورة التي توجد مباحا لا يقطع وهو المختلط
بالحجر والتراب وفي ظاهر المذهب يجب لأنه ليس
بتافه جنسا فإن كل من يتمكن من أخذه لا يتركه
عادة وكذلك إحرازه يتم عادة فأما المصنوع من
الخشب فهو لا يوجد بصورته مباحا فلم يكن تافها
جنسا ولا يبعد أن لا يتعلق القطع بعين الشيء
ثم يتعلق بالمصنوع منه كما قال هو في التراب
لا يقطع بسرقته ثم يتعلق بسرقة المصنوع منه من
الطوابق والكيزان ونحوهما.
قال ولا يقطع بسرقة النبيذ
واللبن لأن ذلك مما يتسارع إليه الفساد وكذلك
في سرقة الخمر والخنزير والسكر أما فيما بين
المسلمين هذا حرام ولكل واحد تأول أخذه
للأراقة وأما في حق أهل الذمة وإن كان مالا
متقوما ولكنه مما يتسارع إليه الفساد وانعدام
المالية والتقوم فيه في حق المسلم يصير شبهة
والقطع يندرئ بالشبهات.
ج / 9 ص -132-
قال ولا قطع في الدف وما أشبهه من الملاهي أما عندهما فلأنه ليس بمال
متقوم حتى لا يضمن متلفه وعند أبي حنيفة رحمه
الله تعالى وإن كان يجب الضمان على المتلف
باعتبار معنى آخر فيه سوى اللهو والمقصود
التلهي به ولا يمكن اعتبار القطع باعتبار
المقصود ولأن للآخذ تأويلا في أخذه لأنه يقصد
به النهي عن المنكر وهو استعماله للتلهي فيصير
ذلك شبهة.
قال ولا قطع في البازي والصقر
وسائر الطيور ولا في الوحوش من الصيود لحديث
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال لا قطع في
الطير ولأن هذا يوجد مباح الأصل بصورته غير
مرغوب فيه ولا يتم إحرازه في الناس عادة ولأن
فعله اصطياد من وجه والاصطياد مباح وظاهر قوله
صلى الله عليه وسلم "الصيد لمن أخذه"
يورث شبهة والقطع يندرئ بالشبهة وكذلك الفهد
والكلب فإن الفهد من جنس الصيود والكلب صياد
فلما لم يجب القطع بسرقة الصيد فكذلك بسرقة
الصياد وبين العلماء رحمهم الله تعالى اختلاف
ظاهر في مالية الكلب وجواز بيعه وظاهر نهي
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب
يورث الشبهة.
قال فإن سرق التمر من رؤوس
النخل في حائط محرز أو حنطة في سنبلها لم تحصد
فلا قطع عليه لقوله صلى الله عليه وسلم "لا قطع في ثمر ولا كثر"
ولأن الثمار ما دامت في رؤوس الأشجار فإنه
يتسارع إليها الفساد ألا ترى أنها لو تركت
كذلك فسدت ولا يتم معنى الإحراز فيها ولا في
الحنطة في سنبلها فإنها زرعت في ذلك الموضع
لمقصود آخر سوى الإحراز والدليل عليه قوله صلى
الله عليه وسلم "فما آواه الجرين ففيه القطع"
وفي هذا بيان أن الثمار ما لم تجذ والزرع ما
لم يحصد لا يجب القطع بسرقته وكذلك إن كان سرق
النخلة بأصولها لقوله صلى الله عليه وسلم "ولا كثر"
والمراد صغار النخل فإذا لم يجب القطع في
الصغار من الأشجار فكذلك في الكبار وهذا لأنه
بالإنبات في موضع لا يقصد إحرازه فإن معنى
الحرز لا يتم فيه عادة فإن إحراز الثمر في
حظيرة عليها باب أو حصدت الحنطة وجعلت في
حظيرة فسرق منها قطع للحديث ولأن الإحراز قد
تم فإنه إنما جمعه صاحبه في هذا الموضع ليكون
محرزا محفوظا وكذلك إن كانت في الصحراء
وصاحبها يحفظها لأن الصحراء ليس يحرز بنفسه
فيتم الإحراز بالحافظ ويستوي إن كان الحافظ
منتبها أو نائما عندهما لأن حفظ المال في
الصحراء كذلك يكون عادة والآخذ يسارق عين
الحافظ وكذلك المسافر ينزل في الصحراء فيجمع
متاعه ويبيت عليه فيسرق منه قطع ومن أصحابنا
رحمهم الله تعالى من قال في هذا اللفظ إشارة
إلى أنه إنما يكون محرزا به في حال نومه إذا
كان موضوعا بين يديه وإلا لا يكون محرزا به في
حال نومه لأن النائم كالغائب لا يتأتى منه
الحرز والأصح أنه يلزمه القطع على كل حال لأن
المعتبر هو الإحراز المعتاد لا أقصى ما يتأتى
والإحراز المعتاد يتأتى بهذا المقدار فإن
الناس يعدون النائم عند متاعه حافظا له ألا
ترى أن المودع والمستعير لا يضمن بمثله وهما
يضمنان بالتضييع وما لا يكون محرزا يكون مضيعا
ج / 9 ص -133-
قال وكذلك إن كان في فسطاط قد جمع متاعه فيه لأن نصب الفسطاط في
الصحاري كبناء البيوت في الأمصار ويكون ما في
الفسطاط محرزا بالفسطاط وبالحافظ عنده.
قال وإن سرق الفسطاط بعينه لم
أقطعه لأنه ظاهر ولم يحرزه صاحبه إنما أحرز
صاحبه الأمتعة به ووجوب القطع بسرقة المحرز لا
بسرقة الحرز وهذا لو كان الفسطاط منصوبا فإن
كان ملفوفا بين يديه يجب القطع بسرقته لأنه
متاع محرز بالحافظ كسائر الأمتعة وكذلك إن سرق
الجوالق من ظهر الدابة مع ما في الجوالق لم
يقطع لأنه ظاهر غير محرز فإن صاحب الجوالق
يحرز بالجوالق ما فيه ولا يقصد إحراز الجوالق
فإن شق الجوالق وسرق ما فيه قطع لأنه سرق مالا
محرزا وقد بينا أن المعتبر في الإحراز ما هو
المعتاد فإذا اعتاد إحراز المتاع بالجوالق كان
الجوالق حرزا له فإذا شقه وأدخل يده فيه وأخرج
المتاع فقد تم منه هتك الحرز وأخذ المال فيلزم
القطع ثم في كل موضع كان المال محرزا بالحافظ
فإذا أخذ السارق كما أخذ يلزمه القطع وفي كل
موضع كان محرزا بالمكان فإذا أخذ قبل أن يخرجه
من ذلك المكان لم يقطع لأن فعله في المحرز
بالحافظ يتم بنفس الأخذ وهو إزالة اليد بإثبات
اليد لنفسه على وجه السرقة فأما المحرز
بالمكان فلا تتم سرقته فيه إلا بإخراج المال
من الحرز وقد بينا أن الدار كلها حرز واحد فما
لم يخرج المتاع منها لا يلزمه القطع.
قال وإذا قطع السارق ردت
السرقة إلى صاحبها لأن المسروق منه واجد عين
ماله ومن وجد عين ماله فهو أحق به فإن لم يقدر
عليها فلا ضمان على السارق عندنا وقال الشافعي
رحمه الله تعالى هو ضامن لقيمتها وقال مالك إن
كان السارق صاحب مال يؤمر بأداء الضمان في
الحال وإن لم يكن له شيء فلا ضمان عليه في
الحال ولا بعد ذلك واستدل الشافعي رحمه الله
تعالى بقول النبي صلى الله عليه وسلم "على اليد ما أخذت حتى ترد"
فقد أوجب على الآخذ ضمان المأخوذ إلى غاية
الرد وقد وجد منه الآخذ ها هنا فيكون ضامنا
وهو المعنى في المسألة فإنه أخذ مال الغير
بغير حق فيكون ضامنا له كالغاصب ولا شك أنه
بالأخذ ضامن حتى إذا سقط الحد بشبهة كان ضامنا
للمال فلو سقط الضمان إنما يسقط باستيفاء
القطع والقطع حد واجب لله تعالى فاستيفاؤه لا
يسقط الضمان الواجب لحق العبد ولأن وجوب
الضمان عليه بنفس الأخذ ووجوب القطع بإتمام
فعل السرقة بالإخراج والحقان إذا وجبا بسببين
فاستيفاء أحدهما لا يسقط الآخر كما لو قتل
إنسانا ومزق عليه ثيابه لا يسقط عنه ضمان
الثياب باستيفاء القصاص ولأنهما حقان اختلفا
محلا ومستحقا وسببا لأن محل القطع اليد
ومستحقه هو الله تعالى وسببه السرقة ومحل
الضمان الذمة ومستحقه المسروق منه وسببه إدخال
النقصان عليه بأخذ ماله فوجوب أحدهما لا يمنع
وجوب الآخر كالدية مع الكفارة في القتل
والجزاء مع القيمة في الصيد المملوك في الحرم
وشرب خمر الذمي على أصلكم فإنه يوجب الحد حقا
لله تعالى والضمان للذمي
ج / 9 ص -134-
وحجتنا
فيه قوله تبارك وتعالى
{جَزَاءً
بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] فقد نص على أن القطع جميع موجب فعله لما بينا أن في
لفظ الجزاء إشارة إلى الكمال فلو أوجبنا
الضمان معه لم يكن القطع جميع موجب الفعل فكان
نسخا لما هو ثابت بالنص وعن عبد الرحمن بن عوف
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
"لا
غرم على السارق بعد ما قطعت يده"
وفي رواية "لا غرم على
السارق فيما قطعت يمينه فيه" وفي رواية "إذا قطعت يد السارق لم يغرم"
والمعنى فيه أن القطع عقوبة تندرىء بالشبهات
والضمان غرامة تثبت مع الشبهات فلا يجمع
بينهما بسبب فعل واحد كالقصاص مع الدية
وتأثيره وهو أن الفعل الواحد صار بكماله
معتبرا في حق ما يندرىء بالشبهات فلا يبقى شيء
منه ليعتبر في حكم الضمان وبدون الفعل لا يجب
الضمان ولا معنى لما قال الموجود منه فعلان
الأخذ والإخراج لأن الإخراج تتميم لما هو
المقصود بالأخذ فلا يأخذ حكم فعل آخر والإخراج
بدون الأخذ لا يتحقق والخلاف ثابت فيما إذا
سرق الثوب من تحت رأس نائم والأخذ والإخراج
هنا حصل بفعل واحد ثم الفعل وإن تعدد صورة
فالوجوب باعتبار حرمة المحل وهو بالسرقة ما
هتك إلا حرمة واحدة هي من خالص حق الله تعالى
وبيان ذلك أن القطع لا يجب إلا بسرقة مال
متقوم محرز والقطع خالص حق الله تعالى فلا يجب
إلا باعتبار جعل ما يجب به القطع لله تعالى
لأن ما يجب باعتبار ما هو حق العبد يكون للعبد
عقوبة كانت أو غرامة كالقصاص ولما وجب القطع
لله تعالى عرفنا أنه يجب باعتبار أنه صار لله
تعالى وإذا صارت المالية والتقوم في هذا المحل
لله تعالى لم يبق للعبد فالتحق في حق العبد
بما لا قيمة له ولكن هذا لا يتصور إلا
باستيفاء القطع لأن ما يجب لله تعالى فتمامه
بالاستيفاء فكان حكم الأخذ مراعي إن استوفى به
القطع تبين أن حرمة المحل في ذلك الفعل كان
لله تعالى فلا يجب الضمان للعبد وإن تعذر
استيفاء القطع تبين أن حرمة المالية والتقوم
كان للعبد فيجب الضمان له.
توضيحه أن العقوبة التي تندرىء بالشبهات لا
تجب إلا بفعل حرام لعينه وإنما يكون فعل
السارق حراما لعينه إذا لم يبق المحل محترما
لحق العبد فأما إذا كانت حرمة المالية والتقوم
لحق العبد فأخذه حرام لغيره وهو حق المالك
ومثل هذا الفعل لا يوجب العقوبة كشرب عصير
الغير إنما الموجب للعقوبة فعل هو حرام لعينه
كشرب الخمر ولا يتحقق ذلك إلا بجعل المالية
والتقوم في هذا المحل لله تعالى خالصا وإذا
صار لله تعالى لم يبق للعبد كالعصير إذا تخمر
لم يبق فيه المالية والتقوم لحق العبد ولا
يدخل عليه الدية مع الكفارة لأن الكفارة ليست
بعقوبة تندرى ء بالشبهات ولأنها جزاء الفعل من
غير اعتبار وصف المحل فيبقى المحل محترما لحق
العبد ووجوب الكفارة لا يستدعي فعلا هو حرام
العين ألا ترى أنها تجب في الخطأ وكذلك الجزاء
مع القيمة في الصيد المملوك فإنه لا معتبر
بالمالية والتقوم في إيجاب الجزاء ولهذا يجب
الجزاء بقتل صيد نفسه والكفارة بقتل عبد نفسه
وكذلك في شرب الخمر لا معتبر بالمالية والتقوم
في إيجاب الحد ولهذا يجب الحد على من شرب خمر
نفسه فبقيت
ج / 9 ص -135-
المالية والتقوم في المحل حقا للذمي لأن مع
بقائه الفعل محرم العين بما حدث من صفة الخمر
في المحل ولا يدخل على هذا الملك فإنه يبقى
للمسروق منه حتى يرد عليه لأن وجوب القطع
باعتبار المالية والتقوم في المحل فأما الملك
صفة المالك والفعل يكون محرم العين مع بقاء
الملك ألا ترى أن فعله في شرب خمر نفسه يكون
محرم العين مع بقاء الملك وليس من ضرورة
انعدام المالية والتقوم في حقه انعدام الملك
كالشاة إذا ماتت بقى ملك صاحبها في جلدها وإن
لم تبق المالية والتقوم وإذا ثبت أن المالية
والتقوم صار حقا لله تعالى خالصا فلو وجب
الضمان إنما يجب لله تعالى وقد وجب القطع لله
تعالى ولا يجمع بين الحقين لمستحق واحد
كالقصاص مع الدية ثم روى أبو يوسف عن أبي
حنيفة رحمهما الله تعالى أنه لا يجب الضمان
على السارق إذا تلف المال في يده أو أتلفه
وروي الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى
أنه يضمن إذا أتلفه لأن انعدام المالية
والتقوم حقا للعبد إنما كان في فعل السرقة لا
فيما سواه ألا ترى أن بيع المسروق منه وهبته
العين من السارق أو من غيره صحيح والإتلاف فعل
آخر فلا يظهر حكم المالية والتقوم حقا لله
تعالى في هذا الفعل حتى يجب الضمان على المتلف
كما لو أتلفه غيره وهذا لأن العين باق على ملك
صاحبه بعد القطع فأما أن يكون أمانة أو مضمونا
وكيف ما كان فهو مضمون بالإتلاف وجه رواية أبي
يوسف رحمه الله تعالى أن الإتلاف إتمام
للمقصود بالسرقة فكما لا تبقى المالية والتقوم
حقا للعبد في أصل السرقة بعد القطع فكذلك فيما
يكون إتماما للمقصود به بخلاف بيع المسروق منه
وهبته فإنه ليس بإتمام للمقصود بالسرقة بل هو
تصرف آخر ابتداء وروى هشام عن محمد رحمهما
الله تعالى أن السارق لا يضمن في الحكم فأما
فيما بينه وبين الله تعالى يفتي بأداء الضمان
لأن المسروق منه قد لحقه النقصان والخسران من
جهته بسبب هو متعد فيه ولكن تعذر على القاضي
القضاء بالضمان لما اعتبر المالية والتقوم في
حق استيفاء القطع فلا يقضي بالضمان ولكنه يفتي
برفع النقصان والخسران الذي ألحق به فيما بينه
وبين الله تعالى.
قال ولا قطع على النباش في
قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو
يوسف والشافعي رحمهما الله يقطع والاختلاف
بين الصحابة رضي الله عنهم فعمر وعائشة وابن
مسعود وابن الزبير رضوان الله عليهم أجمعين
قالوا بوجوب القطع وابن عباس رضي الله عنه كان
يقول لا قطع عليه وعليه اتفق من بقي في عهد
مروان من الصحابة على ما روى أن نباشا أتى به
مروان فسأل الصحابة رضي الله عنهم عن ذلك فلم
يبينوا له فيه شيئا فعزره أسواطا ولم يقطعه
وبهذا تبين فساد استدلال من يستدل بالآية
لإيجاب القطع عليه فإن اسم السرقة لو كان
يتناوله مطلقا لما احتاج مروان إلى مشاورة
الصحابة رضي الله عنهم مع النص وما اتفقوا على
خلاف النص فأما من أوجب القطع استدل بقوله صلى
الله عليه وسلم "من نبش
قطعناه" والمعنى فيه أنه سرق مالا كامل المقدار من حرز لا شبهة فيه فيقطع
كما لو سرق لباس الحي وهذا لأن الآدمي محترم
حيا وميتا وبيان هذه الأوصاف فأما السرقة فهو
أخذ المال على وجه الخفية وذلك
ج / 9 ص -136-
يتحقق
من النباش وهذا الثوب كان مالا قبل أن يلبسه
الميت فلا تختل صفة المالية فيه بلبس الميت
فأما الحرز فلان الناس تعارفوا منذ ولدوا
إحراز الأكفان بالقبور ولا يحرزونه بأحصن من
ذلك الموضع فكان حرزا متعينا له باتفاق جميع
الناس ولا يبقى في إحرازه شبهة لما كان لا
يحرز بأحصن منه عادة والدليل عليه أنه ليس
بمضيع حتى لا يضمن الأب والوصي إذا كفنا الصبي
من مال الصبي وما لا يكون محرزا يكون مضيعا.
وحجتنا فيه قوله صلى الله عليه وسلم "لا قطع على المختفي"
وهو النباش بلغة أهل المدينة كما جاء في حديث
آخر من اختفى ميتا فكأنما قتله وقوله صلى الله
عليه وسلم "من
نبش قطعناه" لا يصح مرفوعا بل هو من كلام زياد ألا ترى أنه قال في ذلك الحديث
من قتل عبده قتلناه ومن جدع أنفه جدعناه ولئن
صح أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع نباشا أو
أحدا من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فإنه
يحمل على أنه كان ذلك بطريق السياسة وللإمام
رأى في ذلك والمعنى فيه أن وجوب القطع بسرقة
مال محرز مملوك وجميع هذه الأوصاف اختلت في
الكفن فأما السرقة فهو اسم أخذ المال على وجه
يسارق عين صاحبه ولا تتصور مسارقة عين الميت
وإنما يختفي النباش باعتبار أنه يرتكب الكبيرة
كالزاني وشارب الخمر والدليل عليه أنه ينفي
هذا الاسم عنه بإثبات غيره فيقال نبش وما سرق
فأما المالية فإنها عبارة عن التمول والإدخار
لوقت الحاجة وهذا المقصود يفوت في الكفن فإن
الكفن مع الميت يوضع في القبر للبلى ولهذا
يوضع في أقرب الأماكن من البلاء وإليه أشار
الصديق رضي الله تعالى عنه فقال اغسلوا ثوبي
هذين فكفنوني فيهما فإنهما للمهل والصديد
والحي من الميت أحوج إلى الجديد فأما انعدام
صفة المملوكية فلان المملوك لا يكون إلا لمالك
والكفن ليس بملك لأحد لأنه مقدم على حق الوارث
ولا يصير مملوكا له ألا ترى أن القدر المشغول
بحاجة الميت بعد الكفن وهو الدين لا يصير ملكا
للوارث فالكفن أولى وليس بملك للميت لأن الموت
مناف للمالكية فإن المالكية عبارة عن القدرة
وأدنى درجاته باعتبار صفة الحياة فعرفنا أن
الوصف مختل أيضا فأما الحرزية فنقول الكفن غير
محرز لأن الإحراز بالحافظ والميت لا يحرز نفسه
فكيف يحرز غيره والمكان حفرة في الصحراء فلا
يكون حرزا ألا ترى أنه لا يجعل حرزا لثوب آخر
من جنس الكفن ومن ضرورة كونه حرز الثوب أن
يكون حرز الثوب آخر من جنسه وكذلك لا يكون
حرزا قبل وضع الميت فيه وقوله إن الناس
تعارفوا أحراز الكفن في القبر فليس كذلك بل
إنما يدفنون الميت للمواراة عن أعين الناس وما
يخاف عليه من السباع لا للأحراز ألا ترى أن
الدفن يكون في ملإ من الناس ومن دفن مالا على
قصد الأحراز فإنه يخفيه عن الناس وإذا فعله في
ملأ منهم على قصد الأحراز ينسب إلى الجنون ولا
نقول أنه مضيع ولكنه مصروف إلى حاجته وصرف
الشيء إلى الحاجة لا يكون تضييعا ولا إحرازا
كتناول الطعام وإلقاء البذر في الأرض لا يكون
تضييعا ولا إحرازا واختلف مشايخنا رحمهم الله
فيما إذا كان القبر في بيت مقفل قال رحمه الله
والأصح عندي أنه لا يجب القطع سواء نبش الكفن
أو سرق مالا آخر من ذلك
ج / 9 ص -137-
البيت
لأن بوضع القبر فيه اختلت صفة الحرزية في ذلك
البيت فإن لكل واحد من الناس تأويلا للدخول
فيه لزيارة القبر فلا يجب القطع على من سرق
منه شيئا لأن صفة الكمال في شرائط القطع معتبر
وكذلك يختلفون في قاطع الطريق إذا أخذ الكفن
من تابوت في القافلة ولم يأخذ شيئا آخر فمنهم
من قال يقام عليه الحد لأنه محرز بالقافلة قال
رحمه الله تعالى والأصح عندي أنه لا يجب القطع
لاختلاف صفة المالكية والمملوكية في الكفن من
الوجه الذي قررنا.
قال ولا قطع على المخلس
لانعدام فعل السرقة لأنه مجاهر بفعله ولا
يسارق عين صاحبه وأما الطرار فهو على وجهين
فإما أن تكون الدراهم مصرورة في داخل الكم أو
في ظاهر الكم فإن كانت مصرورة في داخله فإن طر
الصرة يقطع لأنه بعد القطع يبقى المال في الكم
حتى يخرجه وإن حل الرباط لم يقطع لأنه إذا حل
الرباط يبقى المال خارجا من الكم فلم يوجد
إخراج المال من الكم والحرز وإن كان مصرورا
ظاهرا فإن طر لم يقطع لانعدام الإخراج من
الحرز وإن حل الرباط يقطع لأن الدراهم يبقى في
الكم بعد حل الرباط حتى يدخل يده فيخرجه وتمام
السرقة بإخراج المال من الحرز وعن أبي يوسف
رحمه الله أنه قال استحسن أن أقطعه في الأحوال
كلها لأن المال محرز بصاحبه والكم تبع له وفرق
أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى بين الطرار
والنباش فقالا اختصاص الطرار بهذا الاسم
لمبالغة في سرقته لأن السارق يسارق عين حافظه
في حال نومه وغفلته عن الحفظ والطرار يسارق
عين المنتبه في حال إقباله على الحفظ فهو
زيادة حذق منه في فعله فعرفنا أن فعله أتم ما
يكون من السرقة فيلزمه القطع فأما النباش لا
يسارق عين المقبل على حفظ المال أو القاصد
لذلك بل يسارق عين من يهجم عليه من غير أن
يكون له قصد إلى حفظ الكفن وذلك دليل ظاهر على
النقصان في فعل السرقة فلهذا لا يلزمه القطع.
قال وإن سرق صبيا حرا لم
يقطع لأنه ليس بمال ووجوب القطع يختص بسرقة
مال متقوم وكذلك لو كان عليه حلى كثير وقال
أبو يوسف رحمه الله يقطع لأن قيمة الحلي نصاب
كامل لو سرقه وحده يلزمه القطع فكذا مع الصبي
ولأن المقصود الحلي دون الصبي وجه ظاهر
الرواية أن الحلي تبع للصبي والأصل يقطع
بسرقته فالتبع مثله ولأن له تأويلا في أخذه
فإنه يقول كان يبكي فأخذته لأسكته أو أحمله
إلى موضع أهله قال ألا ترى أنه لو سرق ثوبا لا
يساوي عشرة دراهم ووجد في جيبه عشرة دراهم
مصرورة لم يعلم بها لم أقطعه وإن كان يعلم بها
فعليه القطع وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أن
عليه القطع في الأحوال كلها لأن سرقته قد تمت
في نصاب كامل ولكنا نقول السارق إنما قصد
إخراج ما يعلم به دون ما لا يعلم به وإذا كان
قصده أخذ الثوب نظر إلى قيمة الثوب وهو ليس
بنصاب كامل وإذا كان عالما بالدراهم فقصده أخذ
الدراهم.
قال ولو سرق جرابا فيه مال أو
جوالقا فيه مال أو كيسا فيه مال قطع لأنه
وعاء يوضع
ج / 9 ص -138-
فيه
المال فمقصود السارق المال دون الوعاء فأما
القميص ونحوه من الثياب ليس بوعاء للمال فكان
قصده سرقة الثوب إلا أن يكون عالما بالمال
المصرور فيه فحينئذ يعلم أن قصده المال دون
الثوب لما اختاره من بين سائر الثياب مع
العلم.
قال وإن سرق عبدا فإن كان
بالغا أوصبيا يعقل ويتكلم لا يقطع لأن هذا
خداع لا سرقة ولأن من يعبر عن نفسه له يد على
نفسه وذلك مانع من تقرير يد السارق عليه وإن
كان لا يعبر عن نفسه ويتكلم قطع فيه في قول
أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وقال أبو
يوسف رضي الله تعالى عنه أستحسن أن لا أقطعه
لأن المملوك من جنس الحر فإن الجنسية لا تتبدل
بالرق وإذا كان لا يقطع بسرقة جنسه من الأحرار
يصير ذلك شبهة ولأن إحرازه لم يتم فإن الصغير
الذي لا يعقل يخرج إلى السكة وقد يوضع في
السكة ويترك حرا كان أو مملوكا وما لا يتم
إحرازه عادة فهو تافه في حكم القطع وأبو حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى قالا هو مال متقوم لا
يد له في نفسه فهو بمنزلة الدابة والكارة
يتعلق القطع بسرقته والتافه ما يوجد جنسه مباح
الأصل في دار الإسلام غير مرغوب وذلك لا يوجد
في المماليك خصوصا في الصغار منهم.
قال فإن سرق شاة من مرعاها لم
يقطع لأنها غير محرزة والمقصود من تركها في
المرعى الرعي دون الإحراز وإن سرقها من دار
قطع لأنها محرزة بالدار كسائر الأموال وكذلك
الإبل والبقر والفرس والحمار والبغل فإن كانت
تأوي بالليل إلى حائط قد بنى لها عليه باب
يغلق عليها ومعها من يحفظها أو ليس معها حافظ
فكسر الباب ودخل وسرق منه بقرة فآواها أو
ساقها أو ركبها حتى أخرجها قال يقطع لما روينا
أنه قال: "إذا جمعها المراح ففيها القطع" ولأنها بالليل تجمع في المراح للإحراز والحفظ ثم المذهب عندنا أن
المكان الذي هو حرز لمال يكون حرزا لمال آخر
حتى لو سرق ثياب الراعي من هذا الموضع يقطع.
وعلى قول الشافعي رحمه الله تعالى المراح حرز
للدواب دون غيرها من الأموال لأن المعتبر في
إحراز كل مال ما هو المعتاد ومعتاد إحراز
الدواب بالمراح دون سائر الأموال ألا ترى أنه
بابه قد يكون بحيث يمنع خروج الدواب ولا يمنع
دخول الناس فيه فلهذا لا يقطع إذا سرق منه
مالا آخر.
قال وإذا شهد شاهدان أنه سرق
بقرة واختلفا في لونها فقال أحدهما بيضاء وقال
الآخر سوداء فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله
تعالى تقبل هذه الشهادة وعندهما لا تقبل قال
الكرخي رحمه الله في لونين متشابهين كالحمرة
والصفرة تقبل عنده فأما فيما لا يتشابه
كالسواد والبياض لا تقبل الشهادة بالاتفاق
والأصح أن الكل على الخلاف فهما يقولان اختلفا
في المشهود به على وجه لا يمكن التوفيق فلا
تقبل الشهادة كما لو شهد أحدهما أنه سرق ثورا
والآخر أنه سرق أنثى أو شهد أحدهما أنه سرق
بقرة والآخر أنه سرق بعيرا.
ج / 9 ص -139-
والدليل عليه أن في الغصب لو اختلف الشهود في
لون البقرة لم تقبل مع أن الثابت به مما لا
يندرئ بالشبهات وهو الضمان ففي السرقة التي
يتعلق بها ما يندرئ بالشبهات أولى ولا معنى
لقول من يقول لعله كان أحد شقي البقرة أبيض
والآخر أسود لأن تلك بلقاء لا سوداء ولا بيضاء
وأبو حنيفة رحمه الله يقول اختلفا فيما لم
يكلفا نقله والتوفيق ممكن فتقبل الشهادة كما
لو اختلف شهود الزنى في الزانيين في بيت واحد
وبيان الوصف أنهما لو سكتا عن بيان لون البقرة
لم يكلفهما القاضي بيان ذلك ولهذا تبين أنه
ليس من صلب الشهادة والاختلاف فيما ليس من صلب
الشهادة إذا كان على وجه يمكن التوفيق لا يمنع
قبول الشهادة وها هنا التوفيق ممكن بأن كان
أحد جانبيها أبيض والآخر أسود وقوله هذه تسمى
بلقاء نعم ولكن في حق من يعرف اللونين أما في
حق من لا يعرف إلا أحدهما فهو على ذلك اللون
وشهود السرقة يتحملون الشهادة من بعيد في ظلمة
الليل فلا يتمكنون من أن يقتربوا من السارق
ليتأملوا في جانب البقرة وبه فارق الغصب فإن
الغاصب مجاهر بما يصنع فالشاهد يتمكن من
التأمل ليقف على صفة المغصوب فلهذا لا يشتغل
بالتوفيق هناك وهذا بخلاف البقرة والبعير فإن
الاختلاف هناك في صلب الشهادة وبخلاف الذكر
والأنثى فإنه لا يوقف على هذه الصفة إلا بعد
القرب منها وعند ذلك لا يشتبه ولا حاجة إلى
التوفيق.
قال ولو شهدا أنه سرق ثوبا
فقال أحدهما هروي وقال الآخر مروي فقد ذكر هذه
المسألة في نسخ أبي سليمان على الخلاف أيضا
وفي نسخ أبي حفص قال لا تقبل هذه الشهادة
عندهم جميعا ووجه الفرق لأبي حنيفة رحمه الله
أن الهروي والمروي جنسان مختلفان وبيان الجنس
من صلب الشهادة فكان هذا اختلافا في صلب
الشهادة وذلك مانع من قبول شهادتهما وإن
اختلفا في الوقت لم تجز الشهادة عندهم جميعا
لأن السرقة فعل والفعل الموجود في وقت غير
الموجود في وقت آخر فإذا اختلفا في الزمان
والمكان يمتنع قبول شهادتهما كما في الغصب
والقتل.
قال وإذا سرق ثوبا فشقه في
الدار نصفين ثم أخرجه فإن كان لا يساوي عشرة
دراهم بعد ما شقه لم يقطع بالاتفاق لأن
المعتبر كمال النصاب عند تمام السرقة وتمامه
بالإخراج من الحرز فإذا لم تكن قيمته نصابا
عند الإخراج لم يلزمه القطع بخلاف ما لو شقه
بعد الإخراج فانتقصت قيمته من النصاب وذلك لأن
سرقته تمت في نصاب كامل ثم التعيب تفويت جزء
من الثوب ولو استهلك الكل بعد ما أخرجه من
الحرز لم يسقط القطع فكذلك إذا فوت جزءا منه
بخلاف ما قبل الإخراج فإنه لو استهلكه في
الحرز لم يلزمه القطع فكذلك إذا فوت جزءا منه
وهذا لأن ما استهلك مضمون عليه في ذمته ولا
يتصور إتمام فعل السرقة فيما هو دين لأن إتمام
فعل السرقة بالإخراج وذلك في الدين لا يتحقق
فأما إذا لم تنتقص العين بفوات شيء منه بعد
الإخراج وإنما انتقصت قيمته من النصاب بنقصان
السعر فلا قطع عليه عندنا وروى
ج / 9 ص -140-
هشام
عن محمد رحمهما الله تعالى أنه يقطع وهو قول
زفر والشافعي رحمهما الله تعالى لأن السرقة
تمت في نصاب كامل فالنقصان بعد ذلك لا يمنع
استيفاء القطع كالنقصان في العين ولكنا نقول
كما أن النصاب يشترط لإيجاب القطع فيشترط
بقاؤه إلى وقت الاستيفاء كالثبات على الإقرار
والشهادة وقد انعدم ذلك لأن نقصان السعر فتور
رغائب الناس فيه وذلك لا يكون مضمونا على أحد
فإنما يقطع باعتبار هذا العين فقط وقيمته دون
النصاب بخلاف ما إذا كان النقصان في العين
لأنه يتقرر الضمان عليه بقدر ما فات من العين
فإنما يقطع باعتبار هذا العين فيما صار دينا
في ذمته وهو نصاب كامل فأما إذا شق الثوب في
الحرز ثم أخرجه وهو يساوي عشرة فإن كان هذا
العيب يمكن نقصانا يسيرا فعليه القطع بالاتفاق
ولأن حق صاحب الثوب في تضمين النقصان وليس له
أن يضمنه القيمة إذا كان العيب يسيرا فأما إذا
كان النقصان فاحشا فإن اختار أخذ الثوب
وبتضمين النقصان فعليه القطع وإن اختار أن
يضمنه قيمة الثوب وسلم له الثوب فلا قطع عليه
في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى
وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا يقطع في
الوجهين جميعا وذكر بن سماعة رحمه الله تعالى
هذا الخلاف على قلب هذا ولكن ما ذكر في الأصل
أصح وجه قول أبي يوسف رحمه الله تعالى أن سبب
الملك قد انعقد له في الثوب قبل إتمام فعل
السرقة وانعقاد سبب الملك يمكن شبهة كما لو
اشترى ثوبا على أن البائع بالخيار ثم سرقته
منه وبيان ذلك أنه ثبت للمالك خيار تضمين
القيمة إياه والمضمونات تملك بالضمان فعرفنا
أن سبب الملك انعقد له قبل الإخراج وأبو حنيفة
ومحمد رحمهما الله تعالى يقولان تمت سرقته في
نصاب كامل فعليه القطع كما لو كان النقصان
يسيرا وبيان ذلك إن شق الثوب من السارق عدوان
محض فلا يصلح سببا للملك إنما يكون سبب الملك
ما هو مشروع وهو يقرر الضمان عليه وهذا الملك
يثبت شرطا لتقرر الضمان كيلا يجتمع البدل
والمبدل في ملك رجل واحد فأما أن يكون العدوان
سبب المملك فلا إذا ثبت هذا فإذا اختار المالك
تضمينه قبل أن يقطع فقد صار مملكا للثوب منه
وذلك مسقط للقطع كما لو ملكه بالبيع أو الهبة
وإن اختار استرداد الثوب فلم يحدث السارق فيه
ملكا ولا سبب ملك فيبقى القطع عليه.
قال وإذا سرق شاة فذبحها في
الدار وأخرجها فلا قطع عليه لأنها صارت لحما
واللحم مما يتسارع إليه الفساد وإتمام فعل
السرقة فيما يتسارع إليه الفساد غير موجب
للقطع وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لهذه
العلة ولثبوت حق التضمين للمالك فإن له أن
يضمنه قيمة الشاة ويملكه ذلك اللحم فكان ذلك
شبهة في إسقاط القطع عنه.
قال وإذا قطعت يد السارق ورد
المتاع على صاحبه ثم سرقه مرة أخرى لم يقطع
عندنا استحسانا وعن أبي يوسف أنه يقطع وهو
القياس وهو قول الشافعي لأنه سرق مالا كامل
المقدار من حرز لا شبهة فيه وبهذه الأوصاف قد
لزمه القطع في المرة الأولى فكذلك في
ج / 9 ص -141-
المرة
الثانية وهذا لأنه تعذر رد المتاع على المسروق
منه وهذه العين في حق السارق كعين أخرى في حكم
الضمان حتى لو غصبه أو أتلفه كان ضامنا وكذلك
في حكم القطع ألا ترى أنه لو باعه المسروق منه
من إنسان فسرقه من المشتري أو باعه ثم اشتراه
ثم سرقه منه ثانيا يقطع فكذلك قبل البيع
والشراء والدليل عليه أنه لو سرق غزلا فقطعت
يده ثم نسجه المالك ثم سرقه ثانيا يقطع وكذلك
الحنطة إذا طحنها وكذلك لو كانت بقرة فولدت
عند المسروق منه ثم سرق ولدها يقطع والولد جزء
منها فإذا كان يقطع بسرقة جزء منها فكذلك
بسرقتها والدليل عليه أنه لو سرق من حرز فقطعت
يده فخرب ثم أعيد ذلك الحرز فسرق منه مرة أخرى
قطع فكذلك المال ولأن هذا حد لله تعالى خالصا
فيتكرر بتكر الفعل في محل واحد كحد الزنى فإن
من زنى بامرأة فحد ثم زنى بها مرة أخرى لزمه
الحد بخلاف حد القذف فإنه حق المقذوف عندي
وخصومته في الحد غير مسموعة في المرة الثانية
لأن المقصود إظهار كذب القاذف ودفع العار عن
المقذوف وقد حصل ذلك بالمرة الأولى.
وحجتنا فيه نوعان من الكلام أحدهما ما بينا أن
صفة المالية والتقوم لم يبق في هذا العين حقا
للمسروق منه بعد ما قطعت يد السارق بدليل أنه
لو تلف في يده أو أتلفه لم يضمن فبعد ذلك وإن
ظهرت المالية والتقوم في حقه بالاسترداد يبقى
ما سبق مورثا شبهة والقطع يندرىء بالشبهات وهو
نظير ما يوجد مباح الأصل في دار الإسلام إذا
أحرزه إنسان صار مالا متقوما له ومع ذلك لم
يقطع السارق فيه باعتبار الأصل فهذا مثله فأما
إذا باعه ثم اشتراه فقد قيل لا يلزمه القطع
أيضا ولئن سلمنا فإن الملك هناك يتجدد بتجدد
السبب والمالية والتقوم باعتبار الملك فجعل
متجددا أيضا بخلاف ما قبل البيع والشراء هذا
لأن اختلاف أسباب الملك كاختلاف الأعيان ألا
ترى أن بريرة كان يتصدق عليها وهي تهديه إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "هو لها صدقة ولنا هدية"
والمشتري إذا باع من غيره ثم اشتراه ثم وجد به
عيبا لم يرده على البائع الأول فدل أن تبدل
سبب الملك كتبدل العين فأما الغزل إذا نسجه
فهو في حكم عين آخر فلهذا لو فعله الغاصب كان
الثوب مملوكا له فإنما سرق في المرة الثانية
عينا أخرى وعلى هذا الحرز فإنه إذا أعيد الحرز
كان هذا حرزا متجددا غير الأول لأن الحرز ليس
بعبارة عن عين الجدار بل هو عبارة عن التحفظ
والتحصن وكذلك حد الزنى فإنه يجب باعتبار
المستوفي فالمستوفي مثلا شيء والمستوفي في
المرة الثانية غير المستوفي في المرة الأولى
فلهذا لزمه الحد مع أن هناك حرمة المحل لا
تسقط في حقه باستيفاء الحد منه في المرة
الأولى بخلاف المالية والتقوم الذي هو حق
المالك في العين فإنه يسقط اعتباره باستيفاء
القطع من السارق ولأن هذا حد لا يستوفي إلا
بخصومة فلا يتكرر بتكرر الخصومة من واحد في
محل واحد كحد القذف وبيانه أن الشهود لو شهدوا
بالسرقة من غير خصم لا يثبت القطع بالاتفاق
وتأثيره أن في خصومته في المرة الثانية نوع
شبهة لأنه قد استوفي بخصومته مرة ما هو جزاء
سرقة هذا العين فيمكن شبهة في خصومته في المرة
الثانية وذلك مانع من القطع الذي يندرىء
ج / 9 ص -142-
بالشبهات غير مانع من الضمان الذي يثبت مع
الشبهات بخلاف حد الزنى فإنه لا تعتبر الخصومة
فيه.
قال والسارق تقطع في المرة
الأولى يده اليمني فإن سرق ثانيا قطعت رجله
اليسرى فإن سرق بعد ذلك لم يقطع عندنا
استحسانا ولكن يعزر ويحبس حتى تظهر توبته
وعند الشافعي رحمه الله تعالى في المرة
الثالثة تقطع يده اليسرى وفي المرة الرابعة
تقطع رجله اليمنى ثم يحبس بعد ذلك وعند أصحاب
الظواهر في المرة الخامسة يقتل وحجته قوله
تبارك وتعالى
{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}
[المائدة: 38] واسم اليد يتناول اليسرى كما
يتناول اليمنى بدليل آية الطهارة ولا معنى
لاستدلالكم بقراءة بن مسعود رضي الله عنه وهو
قوله تعالى
{فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] لأن بهذه القراءة ينبغي أن تقطع رجله اليمنى ثم
عندكم إذا سرق وهو مقطوع اليد اليسرى أو مقطوع
الإبهام من اليد اليسرى لم تقطع يده اليمنى
وبالقراءتين وبالإجماع صار قطع اليمنى مستحقا
من السارق فلا يجوز تركه بالرأي
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال "إذا سرق السارق فاقطعوه فإن عاد فاقطعوه" إلى أن قال في الخامسة "فإن عاد فاقتلوه"
وفي رواية مفسرا في المرة الأولى ذكر اليد
اليمنى وفي الثانية الرجل اليسرى وفي الثالثة
اليد اليسرى وفي الرابعة الرجل اليمنى وروى
المعلى أنه قطع من السارق هكذا وقد بينا حديث
أبي بكر وعمر رضي الله عنهما والمعنى فيه أن
اليد اليسرى يد باطشة فتقطع في السرقة كاليمنى
وهذا لأن سرقته بالبطش والمشي يتأتى فقطعت هذه
الأعضاء للزجر لتفويت ما به تتأتى السرقة وذلك
موجود في اليد اليسرى والرجل اليمنى وربما
يقولون المتناول للسرقة متناول فيها كاليد
اليمنى والرجل اليسرى وكل عقوبة تتعلق باليد
اليمنى تتعلق باليد اليسرى كالقصاص والدليل
عليه أنه إذا أخطأ الحداد فقطع اليسرى مكان
اليمنى لم يضمن وكان مستوفيا للحد حتى لا يضمن
السارق المسروق واستيفاء الحد من غير محله لا
يتحقق فتبين أن اليسرى محل إلا أنه لا يصار
إليها في المرة الثانية مراعاة للترتيب
المشروع وكان المعنى في شرع هذا الترتيب أن
يكون الحد زاجرا له بالتنقيص له من بطشه ومشيه
فإن لم يحصل الانزجار به فالزجر بالتفويت
يتحقق به الإنزجار.
وحجتنا فيه قراءة بن مسعود رضي الله عنه
فاقطعوا أيمانهما قال إبراهيم النخعي أن من
قراءتنا والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما
وهذه القراءة من القراءة المشهورة بمنزلة
المقيد من المطلق فيصير كأنه قال فاقطعوا
أيمانهما من الأيدي فلا يتناول الرجل أصلا ولا
يتناول اليسرى والدليل عليه أنه في المرة
الثانية لا تقطع يده اليسرى ومع بقاء المنصوص
لا يجوز العدول إلى غيره فلو كان النص متناولا
لليد اليسرى لم يجز قطع الرجل مع بقاء اليد
والأيدي وإن ذكرت بلفظ الجمع فالأصل أن ما
يوجد من خلق الإنسان تذكر تثنيته بعبارة الجمع
قال الله سبحانه وتعالى
{فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] يقال ملأت بطونهما ولأن
ج / 9 ص -143-
الجمع
المضاف إلى الجماعة يتناول الفرد من كل واحد
يقال ركب القوم دوابهم فيصير معنى الآية
فاقطعوا يدا من كل سارق وسارقة وكان ينبغي
باعتبار هذا الظاهر أن لا يقطع الرجل اليسرى
منهما ولكن ثبت ذلك بدليل الإجماع ولا يجوز
الاعتماد على الآثار المروية
فقد قال الطحاوي تتبعنا هذه الآثار فلم نجد
لشيء منها أصلا ثم يحتمل أنه كان هذا في
الابتداء فقد كان في الحدود تغليظا في
الابتداء ألا ترى أنه قطع الأيدي والأرجل من
العرنيين وسمل أعينهم ثم انتسخ ذلك باستقرار
الحدود وقيل كان ذلك الرجل مرتدا على ما قال
جابر رضي الله عنه في حديثه أتى رسول الله صلى
الله عليه وسلم بسارق فقال "اقتلوه" فقيل إنما سرق يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "اقطعوه" ثم
ذكر هكذا في كل مرة إلى أن قال في المرة
الخامسة "ألم
أقل لكم اقتلوه" فقد عرف
رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الوحي
وجوب القتل عليه ولما خاف أن يظن ظان أن موجب
السرقة القتل أمر بقطعه حتى تبين لهم ذلك في
المرة الخامسة فأمر بقتله فلما كان مستوجبا
للقتل يباح قطع الأعضاء منه وقد بينا أن
الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في هذه المسألة
اختلافا ظاهرا واختلافهم يورث شبهة ثم أخذنا
بقول علي رضي الله عنه لأنه حاجهم بالمعنى حيث
قال إني لأستحيي من الله أن لا أدع له يدا
يبطش بها ورجلا يمشي عليها وفي هذا بيان أن
القطع إنما شرع زاجرا لا متلفا وفي استيفاء
الأعضاء الأربعة إتلاف حكما أو شبهة الإتلاف
والشبهة تعمل عمل الإتلاف فيما يندرىء
بالشبهات وبيان الوصف أن الإمام مأمور بالتحرز
عن الإتلاف عند إقامة الحد بحسب الإمكان ألا
ترى أنه لا يقيم في الحر الشديد والبرد الشديد
ولا في حالة المرض كيلا يؤدي إلى الإتلاف وأنه
مأمور بالحسم بعد القطع كيلا يؤدي إلى الإتلاف
وأنه يقطع في المرة الثانية الرجل اليسرى
واليد إلى اليد أقرب ألا ترى أن في باب
الطهارة لا يتحول إلى الرجل إلا بعد الفراغ من
اليدين وإنما شرع الترتيب هكذا للتحرز عن
الإتلاف الحكمي فدل أنه شرع زاجرا لا متلفا
وفي قطع الأعضاء الأربعة إتلاف للشخص حكما فإن
فيه تفويت منفعة الجنس على الكمال وبقاء الشخص
حكما ببقاء منافعه فلهذا يتعلق بقطع اليدين من
العبد كل قيمة النفس ولهذا لا يجوز إعتاق
مقطوع اليدين في الكفارة فعرفنا أنه استهلاك
حكما وفيه شبهة الإتلاف والشبهة كالحقيقة فيما
يندرىء بالشبهات وهذا بخلاف القصاص فالمستحق
هناك اعتبار المساواة دون التحرز عن الإتلاف
ألا ترى أن الإتلاف الحقيقي يستحق به إذا كان
المساواة فيه بخلاف ما نحن فيه فأما الحداد
إنما لا يضمن إذا قطع اليسرى لأنه عوضه من جنس
ما فوت عليه ما هو خير له منه والإتلاف بعوض
لا يكون سببا لوجوب الضمان وإنما أسقطنا ضمان
المسروق لتحقيق معنى التعويض ولأن الحداد
مجتهد فاعتمد ظاهر النص فيما صنع فنفذ اجتهاده
ولم يكن ضامنا وهذا هو الجواب عما قاله إنه
إذا كان مقطوع اليد اليسرى في الابتداء عندكم
لا تقطع يده اليمنى قلنا اليد اليمنى محل
بالنص ولكن للاستيفاء شرط وهو أن لا يكون على
وجه يفوت منفعة الجنس وقد انعدم هذا الشرط إذا
كان مقطوع اليد اليسرى فلانعدام الشرط لا تقطع
اليمنى في هذه الحالة كما إذا كان مريضا لا
ج / 9 ص -144-
تقطع
يده اليمنى مع وجود المحل لانعدام الشرط فربما
ينضم ألم القطع إلى ألم المرض فيؤدي إلى
الإتلاف وكذلك في الحر الشديد والبرد الشديد
فهذا مثله.
قال وإن شهد شاهدان على رجل
بالسرقة فقطعت يده ثم أتيا بإنسان آخر وقالا
هذا السارق الذي شهدنا عليه ولكنا أخطأنا بذلك
لم تجز شهادتهما على هذا وضمنا دية يد الأول
هكذا روي عن علي رضي الله عنه أنه أتى برجل
شهد عليه رجلان بالسرقة فقطع يده ثم أتيا بآخر
فقالا وهمنا يا أمير المؤمنين إنما السارق هذا
فقال لا أصدقكما على الثاني وأغرمكما دية اليد
ولو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما وبه
يستدل الشافعي رحمه الله تعالى في وجوب القصاص
على الشهود وقطع اليدين بيد واحدة ولكنا نقول
إنما ذكر هذا اللفظ على سبيل التهديد ولم يكن
كذبا منه لأنه علقه بشرط لا سبيل إلى معرفته
وقد صح عن علي رضي الله عنه أن اليدين لا
يقطعان بيد واحدة ذكره محمد في كتاب الرجوع
والمعنى أنهما شهدا على أنفسهما بالغفلة
وتناقض كلامهما في الشهادة على الثاني فقد
رجعا عن الشهادة على الأول فكانا ضامنين لما
استوفى بشهادتهما وإن لم يرجعا ولكنهما وجدا
عبدين كانت دية اليد على بيت المال لأن هذا
خطأ من الإمام لما استوفاه لله تعالى فإن رجعا
عن شهادتهما بعد الحكم بالسرقة قبل أن تقطع
يده أو قالا شككنا في شهادتنا درئ الحد ولكن
السرقة تسلم للمشهود له لأن رجوعهما بعد
القضاء مبطل للقضاء فيما كان عقوبة لتمكن
الشبهة أو فيما كان حقا لله تعالى لأن تمامه
بالاستيفاء فأما فيما هو حق العبد فالشهادة
تتأكد بنفس القضاء والرجوع لا يبطل حق المقضى
له والمال حق المسروق منه ولهذا لا يبطل حقه
برجوعهما بعد القضاء وإن لم يرجعا عند الحاكم
ولكن شاهدين شهدا عليهما بالرجوع قبل القطع أو
بعده فلا معتبر بهذه الشهادة وتقطع يد السارق
لأن الرجوع عن الشهادة معتبر بالشهادة
والشهادة في غير مجلس الحكم لا توجب شيئا
فكذلك الرجوع فإنما شهد هذين على رجوع باطل.
قال وإذا شهد رجلان وامرأتان
على رجل بسرقة مال لم يقطع وأخذ بالمال وكذلك
الشهادة على الشهادة لأن في شهادة النساء ضرب
شبهة من حيث أن الغالب عليهن الضلال والنسيان
وإليه أشار الله تبارك وتعالى في قوله
{أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] فلا يثبت بشهادتهما ما كان يندرىء بالشبهات وهو
السرقة الموجبة للقطع ولكن يثبت به أخذ المال
لأن الثابت به رد العين ووجوب الضمان وهو مما
يثبت مع الشبهات وكذلك في الشهادة على الشهادة
ضرب شبهة من حيث أن الكلام إذا تداولته الألسن
يتمكن فيه زيادة ونقصان.
قال وإذا شهد شاهدان على
رجلين أنهما سرقا من هذا الرجل ألف درهم واحد
الرجلين غائب قطع الحاضر وهذا قول أبي حنيفة
رحمه الله تعالى الآخر وهو قولهما وفي قوله
الأول لا يقطع ذكر القولين بعد هذا في الإقرار
إذا أقر أنه سرق مع فلان الغائب لم يقطع في
قول أبي
ج / 9 ص -145-
حنيفة
رحمه الله تعالى الأول وهو قول زفر رحمه الله
تعالى ويقطع المقر في قوله الآخر وهو قولهما
وقد بينا نظيره في الحدود إذا أقر أنه زني
بغائبة وجه قوله الأول أن الغائب لو حضر ربما
يدعي شبهة يدرأ بها القطع عن نفسه وعن الحاضر
فلو قطعنا الحاضر قطعناه مع الشبهة وذا لا
يجوز كقصاص مشترك بين حاضر وغائب لا يكون
للحاضر أن يستوفيه حتى يحضر الغائب وجه قوله
الآخر أن السرقة ظهرت على الحاضر بالبينة أو
بالإقرار فيستوفي الإمام حقا لله تعالى وهذا
لأن السراق يحضرون وقل ما يحضرون بل في العادة
يهربون وبعضهم يوجد وبعضهم لا يوجد فلو لم
يقطع الحاضر أدى إلى سد باب هذا الحد وما من
شبهة يدعيها الغائب إلا والحاضر يتمكن من أن
يدعي ذلك وقد بينا أن بالشبهة التي يتوهم
اعتراضها لا يمتنع الاستيفاء بخلاف القصاص
فالشبهة هناك توهم عفو موجود من الغائب في
الحال فإن جاء الغائب بعد ذلك لم يقطع
بالشهادة الأولى حتى تعاد تلك البينة عليه أو
غيرها فيقطع حينئذ لأن تلك البينة في حق
الغائب قامت بغير محضر من الخصم فإن الحاضر لا
ينتصب خصما عنه إما لأن النيابة في الخصومة في
الحد لا تجري أو لأنه ليس من ضرورة ثبوت
السرقة على الحاضر ثبوتها على الغائب فلهذا
يشترط إعادة البينة على الغائب ليقطع.
قال وإن كان القاضي يعرف شهود
الحدود والقصاص أنهم أحرار مسلمون غير أنه لا
يعرف عدالتهم ولا يطعن فيهم السارق حبسه حتى
يسأل عنهم لأنه صار متهما بارتكاب الكبيرة
فيحبس ولا تقطع يده قبل السؤال عن الشهود لأن
هذا شيء لو وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه
وتلافيه فعلى الحاكم أن يسأل عن الشهود صيانة
لقضاء نفسه طعن الخصم فيه أو لم يطعن وهذا لأن
الشبهة متمكنة في شهادتهم قبل التزكية ومع
تمكن الشبهة لا يقدم على استيفاء ما يندرىء
بالشبهات فأما في غير الحدود والقصاص مما لا
يندرئ بالشبهات فالقاضي يقضي عند أبي حنيفة
رحمه الله قبل أن يسأل عنهم إلا أن يطعن الخصم
فيهم أو يستريب فيهم وعندهما لا يقضي ما لم
يسأل عنهم على كل حال لأنه مأمور بالقضاء
بالشهادة العادلة فما لم تظهر العدالة عنده لا
يجوز له أن يقضي شرعا كما في الحدود وهذا لأنه
مأمور بالتوقف في خبر الفاسق منهي عن العمل به
فإنما ينتفي الفسق عنهم بالتزكية فما لم يظهر
ذلك عنده بالسؤال لا يحل له أن يقضي لأن قبل
السؤال ثبوت عدالتهم بالظاهر والظاهر حجة لدفع
الاستحقاق لا لإثبات الاستحقاق به وأبو حنيفة
رحمه الله تعالى استدل بقوله صلى الله عليه
وسلم "المسلمون عدول بعضهم على بعض" وهكذا روى عن عمر رضي الله عنه فيما كتب به إلى أبي موسى الأشعري
رضي الله عنه فقد عدل رسول الله صلى الله عليه
وسلم كل مسلم بإسلامه فتعديل صاحب الشرع إياه
لا يختلف عن تعديل المزكي فيتمكن القاضي من
القضاء إلا أن يطعن الخصم فهو أيضا معدل
بإسلامه على لسان صاحب الشرع فللتعارض احتاج
الإمام إلى السؤال ولهذا يتبين أن هذا ليس
بقضاء بالظاهر بل بدليل موجب له وهو إسلامه
فالمسلم يكون منزجرا عن ارتكاب ما يعتقد
الحرمة فيه حتى يظهر خلافه ثم المستحق
بشهادتهما مال إذا وقع فيه الغلط أمكن تداركه
بالرد فلا
ج / 9 ص -146-
يجب
على القاضي الاستقصاء فيه للقضاء بخلاف الحدود
وبهذا تبين أن السؤال عن الشهود هناك لحق
المدعي فإنما يشتغل به عند طلبه فأما قبل
الطلب لو اشتغل القاضي به كان ذلك منه إنشاء
لخصومة وهو مأمور بفصل الخصومة لا بإنشائها
فكان ذلك إعانة منه لأحد الخصمين وهو منهي عن
ذلك.
قال وإذا شهد الشهود على رجل
بحد هو خالص حق الله تعالى بعد تقادم العهد لم
تقبل شهادتهم وقد بينا هذا في كتاب الحدود
وذكرنا حد التقادم في حد الزنى والسرقة فأما
في شرب الخمر فكذلك الجواب عند محمد وعند أبي
حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى حد التقادم
زوال رائحة الخمر حتى لا يقام عليه إذا شهدوا
بعد زوال رائحة الخمر أو أقر هو بذلك فمحمد
رحمه الله تعالى يقول هذا حد ظهر سببه عند
الإمام فلا يشترط لإقامته بقاء أثر الفعل كحد
الزنى والسرقة وهذا لأن وجود الرائحة لا يمكن
أن يجعل دليلا فقد يتكلف لزوال الرائحة مع
بقاء أثر الخمر في بطن الشارب وقد توجد رائحة
الخمر من غير الخمر فإن من استكثر من أكل
السفرجل والتفاح يوجد منه رائحة الخمر قال
القائل:
يقولون لي: إنك شربت مدامـة
فقلت لهم لا بل أكلت السفرجلا
فكان هذا شاهد زور ألا
ترى أنه لا يقام الحد لوجود الرائحة ما لم
يشهد الشهود عليه بالشرب أو يقربه وهما احتجا
بحديث بن مسعود رضي الله عنه أنه أتى بشارب
الخمر قال مزمزوه وترتروه واستنكهوه فإن وجدتم
رائحة الخمر فحدوه فقد شرط لإقامة الحد وجود
الرائحة والمعنى فيه أن حد الخمر ضعيف من
الوجه الذي بينا أنه لا نص فيه فلا يقام إلا
على الوجه الذي ورد الأثر به وإنما ورد الأثر
بإقامة الحد على من كان الخمر في بطنه ولوجود
الخمر في بطنه علامة وهو وجود الرائحة منه فلا
يقضي إلا بظهور تلك العلامة كالمرأة إذا ادعت
الولادة ما لم تشهد القابلة بذلك لا يقضي
القاضي به ثم زوال رائحة الخمر بعد الشرب لا
يكون إلا بمضي زمان وقد بينا أنه لا نص في حق
التقادم ففيما أمكن اعتبار التقادم لمعنى في
الفعل كان المصير إليه أولى من المصير إلى
غيره ووجود رائحة الخمر من غير الخمر نادر ولا
يكون مستداما أيضا فلا يعتبر ذلك ولكن هذا إذا
كان بحضرة الإمام فأما إذا كانوا بالبعد منه
فجاؤا به بعد زوال الرائحة لبعد المسافة
فالصحيح أنه لا يمتنع استيفاء الحد بشهادتهم
لأنه لم يوجد منهم تفريط وما لا يمكن التحرز
عنه يجعل عفوا ألا ترى أن الإمام إذا علم أن
الشارب تكلف لإزالة الرائحة لا يمتنع من إقامة
الحد عليه فهذا مثله.
قال وإذا قطعت يد السارق وقد
قطع الثوب قميصا ولم يخطه أو صبغه أسود أو
باعه من رجل أو وهبه منه وهو بعيبه في يده
فإنه يرد على المسروق منه لأن القطع نقصان
وكذلك السواد في الثوب نقص والبيع والهبة من
السارق باطل لأنه حصل في ملك الغير بغير أمر
صاحبه فكما يكون للمسروق منه أن يأخذه إذا
وجده في يد السارق فكذلك إذا وجده
ج / 9 ص -147-
في يد
المشتري منه فإن كان خاط الثوب فلا سبيل
للمسروق منه عليه لما اتصل بالثوب من وصف
متقوم هو حق السارق ألا ترى أن الغاصب لو قطع
الثوب وخاطه لم يتمكن المغصوب منه من أخذ
الثوب منه بعد ذلك فهذا مثله إلا أن هناك يكون
الغاصب ضامنا للثوب بمنزلة ما لو أتلفه أو تلف
في يده وها هنا لا يكون ضامنا لأنه لو تلف في
يده أو أتلفه بعد القطع لا يضمن فكذلك إذا
احتبس عنده بما اتصل به من الوصف حقا له فأما
إذا صبغه أحمر أو أصفر فعلى قول أبي حنيفة
وأبي يوسف رحمهما الله ينقطع حق المسروق منه
في الاسترداد وعند محمد رحمه الله لا ينقطع
ولكنه يأخذ الثوب ويعطي السارق ما زاد الصبغ
فيه لأن عين الثوب قائم بعد الصبغ ومن وجد عين
ماله فهو أحق به بالنص ثم الصبغ لو حصل من
الغاصب لم ينقطع به حق المغصوب منه في
الاسترداد فكذلك من السارق إلا أن ما اتصل به
من الصبغ مال متقوم من الصباغ وهو وصف والثوب
أصل والوصف تبع للأصل فكان لصاحب الأصل أن
يأخذه فيعطيه ما زاد الصبغ فيه كما في الغاصب
ولو أراد أن يسلم له الثوب ويضمنه قيمة ثوبه
أبيض لم يكن له ذلك بخلاف الغصب لأن عند تسليم
الثوب له يجعله في حكم المستهلك ولو استهلك
المغصوب حقيقة كان ضامنا له ولو استهلك
المسروق حقيقة لم يكن ضامنا فباعتبار هذا
المعنى يقع الفرق بينهما في هذا الجانب فأما
عند اختيار الأخذ فلا فرق بين الغاصب والسارق
ومن حيث أن كل واحد منهما جان وأن مراعاة حقه
بأداء قيمة الصبغ إليه ممكن فلا ضرورة في قطع
حق صاحب الثوب عن الثوب وجه قولهما أن الوصف
الذي اتصل بالثوب متقوم حقا للسارق فينقطع به
حق المسروق منه في الاسترداد كالخياطة وهذا
لأن هذا حق ضعيف له مقصور على العين ألا ترى
أنه لا يتعدى إلى بدل العين عند الاستهلاك
ومثل هذا الحق يبطل بالصبغ كحق الواهب في
الرجوع وترجيح الأصل عند مساواة الحقين في
القوة فأما الضعيف لا يظهر في مقابلة القوي
بخلاف الغاصب فإن حق المغصوب منه قوي يسري إلى
بدل العين فيستقيم الترجيح هناك باعتبار الأصل
والتبع واستدل أبو يوسف رحمه الله تعالى في
الأمالي بحرف آخر فقال لو بقي الثوب على ملك
المسروق منه بعد الصبغ تعذر استيفاء القطع من
السارق لأنه يصير شريكا في العين بملكه في
الصبغ واقتران الشركة بالسرقة يمنع وجوب القطع
فاعتراضها بعد السرقة يمنع الاستيفاء
وبالإجماع يستوفي القطع من السارق فعرفنا أنه
لم يبق حق المسروق منه في الثوب.
فإن قيل: هذا فاسد فإنه إذا جعل السارق متملكا
للثوب يمنع استيفاء القطع منه أيضا.
قلنا نعم ولكن يجعل الثوب في حكم المستهلك
فإنما يقطع بسرقة ما قد صار مستهلكا لا
باعتبار ما هو مملوك له في الحال كما إذا خاط
الثوب فأما مع بقاء حق الأخذ له لا يمكن جعله
مستهلكا فيتقرر معنى الشركة وعلى هذا الطريق
نقول لو صبغه بعد ما قطعت يده لا يتعذر على
المسروق منه الاسترداد لأنه لا تأثير للشركة
بعد استيفاء القطع والدليل على
ج / 9 ص -148-
اعتبار
معنى الشركة أن في المغصوب لو اختار المغصوب
منه بيع الثوب استقام ذلك وضرب صاحب الثوب في
الثمن بقيمة الثوب أبيض والآخر بقيمة الصبغ
وهذا لا يكون إلا بعد ثبوت الشركة بينهما في
المبيع وعلى هذا الخلاف لو كان المغصوب سويقا
فلته بسمن لأن السمن زيادة في السويق من غير
أن يكون مبدلا للعين حتى لا ينقطع به حق
المغصوب منه فهو كالصبغ في الثوب في جميع ما
ذكرنا وإن كان المسروق دراهم فسبكها أو صاغها
قلنا كان للمسروق منه أن يأخذها لأن الصنعة
بانفرادها لا تتقوم في الذهب والفضة فلا تثبت
الشركة باعتبارها بينهما وقد ذكر الخلاف في
الجامع الصغير في الغصب أن عند أبي حنيفة رحمه
الله لا ينقطع به حق المغصوب منه عن استرداد
العين وعندهما ينقطع فكذلك في السرقة والأصح
أنه على ذلك الخلاف ومنهم من يفرق لأبي يوسف
رحمه الله تعالى فيقول هناك لو اعتبرنا الغاصب
في الصنعة لم يبطل به حق المغصوب منه أصلا
ولكنه يضمنه مثل المغصوب وها هنا لو اعتبرنا
ذلك بطل به حق المسروق منه لأنه لا يتمكن من
تضمين السارق والعين متقوم من كل وجه والصنعة
تتقوم تبعا للأصل وإن كانت لا تتقوم منفردة عن
الأصل فكان إبقاء حق المسروق منه في العين
أولى فإن كانت السرقة صفرا فجعلها قمقمة أو
حديدا فجعله درعا لم يأخذه لأن للصنعة قيمة في
هذه الأعيان ولهذا يخرج بالصنعة من أن يكون
مال الربا فلا بد من اعتبارها حقا للسارق ثم
هذه الصنعة لو وجدت من الغاصب انقطع بها حق
المغصوب منه عن استرداد العين فكذلك إذا وجدت
من السارق وكذلك كل شيء من العروض وغيرها إذا
كان قد غيره عن حاله فإن كان التغيير بالنقصان
فللمسروق منه أن يأخذ كما للمغصوب منه إلا أن
المغصوب منه يضمن الغاصب النقصان والمسروق منه
لا يضمنه النقصان اعتبارا لإتلاف الجزء بإتلاف
الكل وإن كان التغيير زيادة فيه فإن كان على
وجه لو حصل من الغاصب لا يتمكن المغصوب منه من
أخذ العين بعد ذلك فكذلك المسروق منه لا يتمكن
من أخذه وإن كان على وجه لا يتعذر على المغصوب
منه استرداد العين فهو على الخلاف الذي بينا.
قال وإن كانت السرقة شاة
فولدت أخذهما جميعا المسروق منه لأن الولد
زيادة متولدة من العين وكما يتمكن من استرداد
العين قبل انفصال هذه الزيادة فكذلك بعدها ألا
ترى أن المغصوب منه يتمكن من الاسترداد بعد
الولادة وإن حق الواهب لا ينقطع في الرجوع
بالولادة وهذا بخلاف السمن والصبغ فالزيادة
هناك في ملك السارق يثبت باعتبارها معنى
الشركة وها هنا الزيادة في ملك المسروق منه
فلا يثبت باعتبارها للسارق شركة.
قال وإذا قطع في صوف أو كتان
أو قطن فرده على صاحبه فصنع منه ثوبا ثم سرقه
فعليه القطع لأن العين تتبدل بالصنعة والثوب
في حكم الحادث بالنسج ألا ترى أنه لو وجد هذا
من الغاصب كان الثوب مملوكا له فسرقته لذلك
بعد صنعته بمنزلة سرقته مالا آخر.
قال فإن كان السارق أشل اليد
اليمنى واليد اليسرى صحيحة قطعت اليمنى لأن
اليمنى
ج / 9 ص -149-
لو
كانت صحيحة وجب قطعها بسبب السرقة فإذا كانت
شلاء أولى وهذا بخلاف ما إذا كانت يده اليسرى
شلاء فإنه لا تقطع يده اليمنى لأن شرط استيفاء
القطع أن لا يكون مفوتا منفعة الجنس وفي قطع
اليمنى إذا كانت اليسرى شلاء تفويت منفعة
البطش وإذا كانت اليسرى صحيحة فليس في قطع
اليمنى تفويت منفعة البطش ولا تقطع الرجل
اليسرى أيضا لأن فيه تفويت منفعة المشي فإن
اليد اليسرى إذا كانت شلاء فقطعت رجله اليسرى
لا يمكنه المشي بعصى بخلاف ما إذا كانت يده
اليسرى صحيحة.
فإن قيل: التفويت لا يكون باستيفاء اليد
اليمنى بل بالشلل في اليسرى.
قلنا لا كذلك فالحكم إذا كان ثابتا بعلة ذات
وصفين يحال به على آخرهما وجودا وآخرهما قطع
اليد اليمنى ها هنا فكان التفويت مضافا إليه
وكذلك إذا كانت رجله اليمنى شلاء لم تقطع يده
اليمنى ولا رجله اليسرى لأن فيه تفويت منفعة
الجنس وهو المشي فإنه لا يمكنه المشي بعده
بعصى فإن كانت رجله اليسري شلاء قطعت يده
اليمنى لأنه ليس فيه تفويت فإنه يتمكن من
المشي بعصى إذا كانت يده اليسرى صحيحة.
قال وإذا حبس السارق ليسأل عن
الشهود فقطع رجل يده اليمنى عمدا فعليه
القصاص لأن بمجرد الشهادة قبل اتصال القضاء
بها لا تسقط حرمة يده فالقاطع استوفى يدا
متقومة من نفس محترمة فعليه القصاص وقد بطل
الحد عن السارق لفوات المحل وهو ضامن قيمة
المسروق لأن سقوط ذلك لضرورة استيفاء القطع
حقا لله تعالى ولم يوجد ذلك وكذلك إذا كان قطع
يده اليسرى لأنه يتعذر استيفاء الحد بعده لما
فيه من تفويت منفعة البطش.
قال فإن حكم عليه بالقطع في
السرقة فقطع رجل يده اليمنى من غير إذن الإمام
فلا شيء عليه لأنه سقطت قيمة يده بقضاء
الإمام عليه بالقطع فالقاطع استوفى يدا لا
قيمة لها فلم يكن ضامنا ولكن الإمام يؤدبه على
ذلك لأنه أساء الأدب حين قطعه قبل أن يأمر
الإمام به وإن أمر القاضي الحداد بقطع يده
اليمنى فأخطأ وقطع يده اليسرى فهو ضامن في
القياس لأن بالقضاء بالقطع في اليد اليمنى لم
تخرج اليد اليسرى من أن تكون محترمة متقومة
فقطعها خطأ قبل القضاء وبعده سواء وفي
الاستحسان لا شيء عليه لأن فعله حصل في موضع
الاجتهاد فإن المنصوص عليه قطع اليد من السارق
وقد قطع اليد واجتهد وإن أخطأ فلا ضمان عليه
إذا كان فعله في موضع الاجتهاد يوضحه أنه وإن
فوت عليه اليسرى فقد عوض اليمنى لأنه لا تقطع
يده اليمنى بعد هذا وما عوضه من جنس ما فوت
عليه فهو خير له مما فوت عليه لأن منفعة البطش
في اليد اليمنى أظهر والإتلاف بعوض لا يوجب
الضمان وإن تعمد ذلك فإن كان السارق أخرج يده
اليسرى فقال أقطعها فلا ضمان عليه بالاتفاق
لأنه قطعها بإذن صاحب اليد ألا ترى أن من قطع
يد الغير بإذنه من غير أن يكون قطعه مستحقا
بالسرقة لم يكن ضامنا شيئا فهذا أولى وإن لم
يكن أمره بذلك فأبو يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى أخذا
ج / 9 ص -150-
بالقياس ها هنا وقالا يضمن الحداد لأنه جان
فيما صنع متعد فيكون ضامنا كما لو قطع رجله أو
أنفه وأبو حنيفة رحمه الله تعالى أخذ
بالاستحسان لما بينا أن الحداد مجتهد وفعله
حصل في موضع الاجتهاد بخلاف ما لو قطع رجله أو
أنفه ولأنه عوضه من جنس ما فوت عليه ما هو خير
منه والإتلاف بعوض لا يوجب الضمان على المتعدي
كالشهود إذا شهدوا عليه ببيع مال بمثل قيمته
فأما إذا قطع أنفه فلم يعوضه مما أتلف عليه
شيئا لأن القطع في اليد لا يسقط عنه بذلك وإن
قطع رجله اليسرى فلم يعوضه شيئا لأن القطع لا
يسقط عنه بهذا وإن قطع رجله اليمنى فلم يعوضه
من جنس ما فوت عليه لأن منفعة البطش ليست من
جنس منفعة المشي.
قال وإذا حكم عليه بالقطع
بشهود في السرقة ثم انفلت ولم يكن حكم عليه
حتى انفلت فأخذ بعد زمان لم يقطع لما بينا أن
حد السرقة لا تقام بحجة البينة بعد تقادم
العهد والعارض في الحدود بعد القضاء قبل
الاستيفاء كالعارض قبل القضاء وإن اتبعه الشرط
وأخذوه من ساعته قطعت يده لأن مجرد الهرب ليس
بمسقط للحد عنه ولأنه لم يتمكن ها هنا تهمة
التهاون والتقصير في الطلب من أحد.
قال وإذا ردت السرقة إلى
صاحبها قبل أن يرفع السارق إلى الإمام ثم رفع
إليه لم يقطع لأن توبته قد تحققت برد المال
وقد نص الله تعالى في السرقة الكبرى على سقوط
الحد بالتوبة قبل قدرة الإمام عليه ففي الصغرى
أولى ولأن الإمام لا يتمكن من إقامة الحد عليه
إلا بعد ظهور السرقة عنده ولا تظهر إذا رد
المال قبل أن يرفع إليه لأن السرقة لا تظهر
عنده إلا بالخصومة في المال ولا خصومة بعد
استرداد المال ولأنا قد بينا أن الخصومة شرط
وانعدام الشرط قبل القضاء يمنع القاضي من
القضاء بالقطع وإذا كانت إصبعان من اليسرى
مقطوعة لم تقطع يده اليمنى في السرقة لأن قطع
الإصبعين ينقص من البطش باليد اليسرى أو يفوت
بمنزلة الشلل فقطع اليد اليمنى بعد ذلك يكون
تفويتا لمنفعة الجنس وكذلك إن كانت الإبهام
وحدها مقطوعة لأن منفعة البطش منها تفوت
بقطعها كما تفوت بالشلل وإذا كانت أصبع واحدة
سواها مقطوعة قطعت اليد اليمنى لأن قطع الإصبع
الواحدة سوى الإبهام لا يفوت منفعة البطش من
اليسرى فقطع اليد اليمنى في هذه الحالة لا
يفوت عليه منفعة البطش وإن كانت رجله اليمنى
مقطوعة الأصابع فإن كان لا يستطيع القيام
والمشي عليها قطعت يده وإن كان لا يستطيع أن
يمشي عليها لم تقطع وكذلك إن كان المقطوع من
رجله اليسرى أصبعين لأن فيه تفويت منفعة المشي
عليه.
قال وكل شيء درأت فيه الحد
ضمنته السرقة إن كانت مستهلكة وإذا قطعت لم
أضمنه وإن كانت قائمة رددتها لبقاء الملك
فيها لصاحبها.
قال وإذا سرق سرقات لم يقطع
بها إلا يد واحدة لأن مبنى الحدود على التداخل
ومعنى الزجر يتم بقطع يد واحدة فإن حضروا
جميعا قطعت يده بخصومتهم ولم يضمن شيئا من
السرقات المستهلكة لأن في حق كل واحد منهم قد
استوفى الحد بخصومته بعد ما ظهرت
ج / 9 ص -151-
السرقة
فكأنه ليس معه غيره وإن حضر أحدهم قطعت يده
بخصومته على قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى
ولا يضمن شيئا من سرقاته المستهلكة وعندهما هو
ضامن للسرقات كلها إلا السرقة التي قطعت يده
بالخصومة فيها وذكر بن سماعة رحمه الله تعالى
في نوادره هذا الخلاف على عكس هذا وما ذكره في
الأصل أصح وجه قولهما أن الأخذ الموجب للضمان
متقرر في حق كل واحد منهم حتى لو سقط الحد
بشبهة كان ضامنا لكل واحد منهم ماله فإنما سقط
الضمان لضرورة استيفاء القطع حقا لله تعالى
وإنما وجد ذلك في حق الذي خاصم خاصة لأن القطع
في سرقته دون غيره من السرقات فإن الشرط
الخصومة المظهرة للسرقة ولم يوجد ذلك في حق
الباقين لأن الحاضر ليس بخصم عنهم ولأنه ما
خاصم إلا في سرقته فيجعل في حقهم كأنه تعذر
إقامة الحد للشبهة فبقي الضمان واجبا لهم وأبو
حنيفة رحمه الله تعالى يقول في حق السارق حضور
أحدهم كحضورهم فإنه لا يقطع به إلا يد واحدة
في الأحوال كلها وكما لا يضمن شيئا لو حضروا
فكذلك إذا حضر بعضهم وهذا لأن الحد هو المستحق
عليه بكل شيء سرقه والمقام عليه حد واحد
بالاتفاق فيكون مسقطا ضمان السرقات كلها ألا
ترى أنه لو أقر بالسرقة والمسروق منه غائب
فاجتهد الإمام وقطع يده لم يضمن للمسروق منه
شيئا وإن حضر فصدقه.
قال وإن شهد شاهدان أنه نقب
بيت هذا وأخرج منه كارة لا يدريان ما فيها لم
يقطع لأن المشهود به مجهول وشرائط وجوب الحد
بمثل هذه الشهادة المجهولة لا تثبت ولم يشهدوا
للمسروق منه بالملك في شيء أيضا فالمخرج من
بيته قد يكون ماله وقد يكون مال المخرج وإن
قالوا نشهد أنه سرق منه هذا المتاع فإذا هو
ثياب مختلفة تساوي مالا عظيما قطع لأنهم شهدوا
بفعل السرقة في معلوم فإن الإعلام بالإشارة
إلى العين أبلغ من الإعلام بالتسمية ولأن
الشاهد لا يتمكن عند تحمل الشهادة من أن يقتص
ما سرقه ليتأمل كل ثوب منه ولا يكلف أداء
الشهادة بما ليس في وسعه.
قال وإن كان للسارق دين على
المسروق منه لم يبطل القطع عنه بخلاف ما يقوله
بعض الناس أن قيام الدين عليه له سبب لاستحقاق
ماله ألا ترى أن مال المديون لا يكون نصاب
الزكاة بطريق أنه كالمستحق لصاحب الدين بدينه
وسبب الاستحقاق يورث شبهة في درء الحد عنه
ولكنا نقول محل الدين الذمة ولا تعلق له
بالمال خصوصا في حال صحة المديون حتى يملك
التصرف في ماله كيف شاء ومع من شاء ببدل وبغير
بدل وإنما تعلق الدين بالمال من حيث إن قضاء
الدين يكون به فأما قبل القضاء فلا حق لصاحب
الدين في مال المديون إلا أنه إذا كان الدين
من جنس ما أخذه كان فعله استيفاء ولصاحب الدين
أن يستوفي جنس حقه إذا ظفر به فلا يلزمه القطع
لذلك فأما إذا كان من خلاف جنس حقه ففعله ليس
باستيفاء ولكنه سرقة موجبة للحد عليه فإن قال
إنما أردت أن آخذه رهنا بحقي أو قضاء لحقي درئ
عنه
ج / 9 ص -152-
الحد
لشبهة اختلاف العلماء رحمهم الله تعالى فإن بن
أبي ليلى رحمه الله كان يقول وإن ظفر بخلاف
جنس حقه كان له أخذه لوجود المجانسة باعتبار
صفة المالية ومن العلماء من يقول يأخذه رهنا
بحقه والاختلاف المعتبر يمكن شبهة وهذا لأن
فعله كان في موضع الاجتهاد لا ينفك عن شبهة
وإن كان هو مخطئا في ذلك التأويل عندنا.
قال وإن سرق الحربي المستأمن
في دار الإسلام لم يقطع وهو ضامن إلا على قول
أبي يوسف وابن أبي ليلى رحمه الله تعالى
فإنهما يقولان يقطع ولا ضمان عليه وقد بينا
نظيره في كتاب الحدود.
قال وإذا أشكل على الإمام
قيمة المسروق واختلف أهل العلم فقال بعضهم
قيمتها عشرة دراهم وقال بعضهم أدنى لم يقطع
لأن كمال النصاب شرط يراعي وجوده حقيقة وذلك
ينعدم عند اختلاف المقومين فيه وقد بينا حديث
عمر حين قضى بالقطع على السارق فقال عثمان رضي
الله تعالى عنه مرقته لا تساوي إلا ثمانية
دراهم فدرأ القطع عنه.
قال وإن كان أراها واحدا منهم
فقال هي تساوي عشرة دراهم لم يقطعها حتى يريها
لآخر منهم لأن الحجة الحكمية لا تتم بقول
واحد وشرط القطع يعتبر ثبوته بالحجة الحكمية
فلهذا لا يكتفي بقول الواحد حتى يراها غيره
فإن اجتمع اثنان على ذلك ولم يرها أحد بعد ذلك
قطعه لأن سبب الحد يثبت بشهادة اثنين فكذلك
شرطه يثبت بقولهما في الحكم فيستوفي القطع إلا
أن يقول آخر لا يساوي ذلك فحينئذ للمعارضة
تتمكن الشبهة كما لو أقر بالسرقة ثم رجع.
قال فإن سرق دينارا أو مثقال
ذهب لا يساوي عشرة دراهم لم يقطع لقيام
الدليل على أن نصاب السرقة يتقدر بعشرة دراهم
وغير المنصوص يقام مقام المنصوص عليه باعتبار
القيمة فإذا لم تبلغ قيمته نصابا لم يتم شرط
القطع ولا يقال الدينار كان مقوما بعشرة على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن ذلك شيء
يختلف باختلاف الأوقات والأمكنة في قلة الوجود
وكثرة الوجود وليس هذا الحكم شرعيا ليصار في
معرفته إلى ما كان في عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
قال ولو شهدوا أن هذا سرق ولم
يعرفوا اسمه قطع ولم يضرهم أن كانوا لا يعرفون
اسمه لأنهم عرفوه بالإشارة إليه فهو أبلغ من
ذكر الاسم والنسبة ولأنه إنما يحتاج إلى ذكر
الاسم والنسبة لتعريف الغائب به وهو حاضر فلا
يقدح في شهادتهم أن لا يعرفوا اسمه.
قال وإن قال السارق صاحب
البيت أذن لي في دخولي أو قال كنت ضيفا عنده
درى ء عنه القطع لأنه لو ثبت ما ادعاه لم يكن
فعله موجبا للقطع فبمجرد دعواه تتمكن الشبهة
كما لو ادعى ملك العين لنفسه وهذا لأنه إذا آل
الأمر إلى الخصومة والاستحلاف فلا يستحسن
إقامة القطع معه.
قال وإن كان القوم في دار
واحدة كل رجل في مقصورة وباب عليه مغلق دون
مقصورة
ج / 9 ص -153-
صاحبه
فنقب رجل منهم على صاحبه فسرق منه قال لا يقطع
إلا أن تكون دارا عظيمة فيقطع وقد بينا أن
الدار العظيمة كالمحلة فكل مقصورة منها حرز
على حدة ومن يسكن بعض المقاصير يتم منه فعل
السرقة في مقصورة صاحبه فأما إذا كانت دارا
صغيرة فبيوت هذه الدار كلها حرز واحد وإن كان
يغلق على كل بيت منها باب فمن يسكن بعض هذه
البيوت فهو متمكن من الدخول في الحرز شرعا
فيصير ذلك شبهة في درء العقوبة عنه ولهذا قلنا
في الدار الصغيرة لو أخذ مع المتاع في صحن
الدار لا يقطع ما لم يخرجه إلى السكة بخلاف
الدار العظيمة فإن السارق إذا أخذ من مقصورة
منها إذا أخذ في صحن الدار يقطع.
قال وإذا أجر الرجل منزله من
رجل وهو في منزل آخر فسرق المؤاجر من المستأجر
متاعه من ذلك الموضع قطع في قول أبي حنيفة
رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله
تعالى لا قطع عليه لقيام ملكه في الحرز ووجوب
القطع باعتبار هتك الحرز وأخذ المال ثم لو سرق
العين الذي أجره من المستأجر لم يقطع لقيام
ملكه في العين فكذلك إذا سرق من البيت الذي
أجره وهذا لأن له نوع تأويل في الدخول لينظر
هل أسترم شيء منه فيرم ذلك أو هل خرب المستأجر
شيئا منه فيمنعه من ذلك وأبو حنيفة رحمه الله
يقول سرق ملك الغير من حرز صاحب الملك فيلزمه
القطع كما لو باع منزله ثم سرق منه متاع
المشتري وهذا لأن الحرز ليس بعبارة عن عين
الجدار ولكنه عبارة عن التحفظ بها وذلك صار
للمستأجر خالصا لا حق للآجر فيه في مدة
الإجارة بخلاف المال الذي آجره لأن وجوب القطع
باعتبار العين والعين باق على ملكه والدليل
عليه أنه لو حدث الملك للسارق في المال بعد
تمام فعل السرقة يسقط القطع عنه ولو حدث له
الملك في الحرز لم يسقط القطع عنه فكذلك إذا
اقترن بالسبب ولم يذكر في الكتاب أن المستأجر
إذا سرق متاع الآجر من منزله ففي بعض النوادر
ذكر أنه على الخلاف أيضا والأصح أنه إذا كان
المنزل المؤاجر حرزا على حدة والمنزل الذي
يسكنه المؤاجر حرزا على حدة فإنه يلزمه القطع
عندهم لأنه لا تأويل للمستأجر في منزل المؤاجر
ولا شبهة وقد ذكر الخلاف في بعض نسخ الأصل
وتأويل ذلك فيما إذا كانت صغيرة أجر منزلا
منها من إنسان حتى يكون الكل في حكم حرز واحد
فحينئذ لا يلزمه القطع عندهما ولكن إذا كان
التأويل هذا فكذلك ينبغى على قول أبى حنيفة
رحمه الله كما لو باع منزلا منها من إنسان
فهذا فصل مشتبه ولكن الجواب الصحيح فيه ما
بينا ثم ذكر في الأصل ما يقطع فيه وما لا يقطع
من الأعيان وذكر في الجملة أنه يقطع في الحناء
والوسمة وقد ذكر قبل هذا أنه لا يقطع فيهما
فتأويل ما ذكر قبل هذا في الرطب منه قبل أن
يحرزه صاحبه إحرازا تاما وتأويل ما ذكر ها هنا
في اليابس منه فهو نظير الثمار لا يقطع في
الرطب ويقطع في الفواكه اليابسة إلا في رواية
عن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال ما لا يقطع
في رطبه لا يقطع في يابسة لأن العين على حاله
بعد اليبس فيصير ذلك شبهة وقد بينا أنه يقطع
في اللؤلؤ والياقوت والزمرد والفيروزج إلا في
رواية عن محمد رحمه الله تعالى فإنه يقول هذا
من الأحجار ولا قطع في
ج / 9 ص -154-
الحجر
ولكنا نقول إنما لا يقطع في الحجر لمعنى
التفاهة وما يكون من أعز الأموال يرغب فيه من
يتمكن منه لا يكون تافها.
قال ولا يقطع في الزجاج أما
جوهر الزجاج فلأنه يوجد مباح الأصل بصورته في
دار الإسلام غير مرغوب فيه فأما المعمول منه
فمن أصحابنا رحمهم الله تعالى من يقول يجب فيه
القطع بمنزلة المعمول من الخشب لأن هذا لا
يوجد بصورته مباحا والأصل فيه أنه لا يجب لأن
هذا مما يتسارع إليه الكسر فهو في معنى ما
يتسارع إليه الفساد ولأن الصنعة فيه لا تغلب
على الأصل عادة وعلى هذا الأصل قال لا يقطع في
البواري والقصب لأن القصب يوجد مباح الأصل غير
مرغوب فيه ثم الصنعة لا تغلب على الأصل من حيث
أنه لا يتضاعف قيمته بالصنعة ويكون تافها بعد
الصنعة في الاستعمال والبسط في المواضع
المحرزة وغير المحرزة بخلاف المعمول من الخشب
فالصنعة هناك تغلب على الأصل ألا ترى أن
القيمة تزداد بالصنعة أضعافا وذكر أن في العاج
يجب القطع وكذلك في الأبنوس لأن هذا مما لا
يوجد مباح الأصل في دار الإسلام ولأنه لا يكون
تافها فإن من يتمكن من أخذه لا يتركه عادة
وعلى هذا يجب القطع في الصندل والعنبر وما
أشبهه لأنه لا يوجد مباح الأصل في دار الإسلام
غير مرغوب فيه وإنما يوجد ذلك في دار الحرب
وذلك لا يمكن شبهة في الأموال لأن الأموال
كلها في دار الحرب على الإباحة.
قال وإذا شهد شاهدان أنه سرق
من هذا العبد كذا وكذا يقطع وكذلك السارق من
أهل الذمة ومن مال اليتيم لأنه لا تأويل له في
مال هؤلاء ولا شبهة والسرقة تظهر بخصومة العبد
والذمي ووصي اليتيم عند الإمام بلا شبهة.
قال ولا يقطع السارق من مال
الحربي المستأمن عندنا استحسانا وفي القياس
يقطع وهو قول زفر رحمه الله لأن ماله محرز
بدارنا فإنه معصوم كمال الذمي وجه الاستحسان
أن العصمة بالإحراز بالدار وإحراز المستأمن لا
يتم ألا ترى أن إحراز المال تبع لإحراز النفس
ولا يتم إحراز نفسه بدار الإسلام حتى يتمكن من
الرجوع إلى دار الحرب فكذلك لا يتم إحراز ماله
ولأنه بقي حربيا حكما حتى يبقى النكاح بينه
وبين زوجته في دار الحرب ومال الحربي مباح
الأخذ إلا أنه يتأخر إباحة الأخذ بسبب الأمان
إلى أن يرجع إلى دار الحرب فيصير ذلك شبهة في
إسقاط القطع عن السارق بخلاف الذمي فإنه يتم
إحراز نفسه بعقد الذمة ويخرج به من أن يكون
حربيا من كل وجه.
قال رجل من أهل العدل أغار في
عسكر أهل البغي ليلا فسرق من رجل منهم مالا
فجاء به إلى الإمام العدل قال لا يقطعه لأن
لأهل العدل أن يأخذوا أموال أهل البغي على أي
وجه يقدرون على ذلك ويمسكوه إلى أن يتوبوا أو
يموتوا فيرد على ورثتهم فتتمكن الشبهة في أخذه
بهذا الطريق وكذلك لو أغار رجل من أهل البغي
في عسكر أهل العدل لم يقطع أيضا
ج / 9 ص -155-
لأن
أهل البغي يستحلون أموال أهل العدل وتأويلهم
وإن كان فاسدا فإذا انضم إليه المنعة كان
بمنزلة التأويل الصحيح ألا ترى أنه لا يضمن
الباغي ما أتلف من مال العادل بهذا الطريق
فكذا لا يلزمه القطع.
قال ولو أن رجلا من أهل دار العدل سرق مالا من
آخر وهو ممن يشهد عليه بالكفر ويستحل ماله
ودمه قطعته لأن التأويل ها هنا تجرد عن
المنعة ولا معتبر بالتأويل بدون المنعة ولهذا
لا يسقط الضمان به فكذلك القطع وهذا لأنه تحت
حكم أهل العدل فيتمكن أمام أهل العدل من
استيفاء القطع منه بخلاف الذي هو في عسكر أهل
البغي فإن يد أمام أهل العدل لا تصل إليه
فلهذا افترقا.
قال وإذا أقر السارق بالسرقة
مرة واحدة قطعت يده في قول أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى وقال أبو يوسف وابن أبي
ليلى رحمهما الله تعالى لا يقطع ما لم يقر
مرتين وكذلك الخلاف في الإقرار بشرب الخمر
وذكر بشر رجوع أبي يوسف إلى قول أبي حنيفة
رحمهما الله تعالى وحجتهما ما روى عن علي رضي
الله عنه أن رجلا أقر بالسرقة عنده مرتين فقطع
يده وهذا لأنه حد لله تعالى خالصا فيعتبر عدد
الإقرار فيه بعدد الشهادة كحد الزنى ولهذا روى
عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه شرط إقرارين
في مجلسين مختلفين وأبو حنيفة ومحمد رحمهما
الله تعالى استدلا بما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه أتى بسارق فقال: "أسرقت
ما أخاله سرق" فقال
سرقته فأمر بقطعه ولم يشترط عدد الإقرار فيه
ولأن ما ثبت بشهادة شاهدين من العقوبات يثبت
بإقرار واحد كالقصاص وقد بينا أن الزنى مخصوص
من بين نظائره وفي الكتاب علل فقال لو لم
أقطعه في المرة الأولى لم أقطعه في المرة
الثانية لأن المال صار دينا عليه بالإقرار
الأول فهو بالإقرار الثاني يريد إسقاط الضمان
عن نفسه بقطع يده فيكون متهما في ذلك وإن كان
المال قائما بعينه رددته بعد الإقرار الأول
قبل الإقرار الثاني فكيف يلزمه القطع بالإقرار
بعد رد المال ألا ترى أن بالشهادة لا يلزمه
القطع بعد رد المال فبالإقرار أولى وإن رجع
قبل أن يقطع درى ء القطع لأنه ليس ها هنا من
يرد جحوده إذ القطع من حق الله تعالى فيتحقق
التعارض بين الخبرين فأما في حق المال لا يصح
رجوعه لأن المسروق منه يكذبه في الرجوع والمال
حقه.
قال فإن شهد شاهدان على
إقراره وهو منكر أو هو ساكت لا يقر ولا ينكر
لم أقطعه لأن الإقرار غير ملزم إياه حتى
يتمكن من الرجوع عنه فلا يمكن إثباته بالبينة
وسكوته كإنكاره فإن البينة لا تقبل إلا على
المنكر وإنكاره بمنزلة الرجوع أو أقوى منه
ولكن عليه الضمان لأن رجوعه في حق الضمان باطل
فكذلك إنكاره.
قال وإذا أقر العبد بسرقة مال
فهو على وجهين إما أن يكون مأذونا له أو
محجورا عليه وكل وجه على وجهين إما أن يكون
المال مستهلكا أو قائما بعينه في يده فإن كان
العبد مأذونا
ج / 9 ص -156-
أقر
بسرقة مال مستهلك فعليه القطع في قول علمائنا
الثلاثة وقال زفر رحمه الله تعالى لا قطع عليه
ولكن يضمن المال وإن كان المال قائما بعينه في
يده تقطع يده ويرد المال على المسروق منه
عندنا وقال زفر رحمه الله تعالى يرد المال ولا
يقطع يده لأن إقراره في حق المال يلاقي حقه
فإنه يلاقي كسبه أو ذمته وهو منفك الحجر عنه
في ذلك فأما في حق القطع يلاقي نفسه والفك
بحكم الإذن لم يتناوله ألا ترى أنه لو أقر
برقبته لإنسان كان إقراره باطلا فكذلك إقراره
بما يوجب استحقاق نفسه أو جزء منه يكون باطلا
وجه قول علمائنا رحمهم الله تعالى أن وجوب
الحد باعتبار أنه آدمي مخاطب لا باعتبار أنه
مال مملوك والعبد في هذا كالحر فإقراره فيما
يرجع إلى استحقاق الحر كإقرار الحر فلهذا لا
يملك المولى الإقرار عليه بذلك وما لا يملك
المولى على عبده فالعبد فيه ينزل منزلة الحر
كالطلاق يوضحه أنه لا تهمة في إقراره لأن ما
يلحقه من الضرر باستيفاء العقوبة منه فوق ما
يلحق المولى والإقرار حجة عند انتفاء التهمة
عنه.
قال فإن كان العبد محجورا
عليه فأقر بسرقة مال مستهلك قطعت يده إلا على
قول زفر رحمه الله تعالى لأن فيما كان العبد
مبقيا على أصل الحرية المأذون والمحجور عليه
فيه سواء وإن أقر بسرقة مال قائم بعينه في يده
فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى تقطع يده
ويرد المال إلى المسروق منه وعلى قول أبي يوسف
رحمه الله تعالى تقطع يده والمال للمولى وعند
محمد وزفر رحمهما الله تعالى لا تقطع يده
والمال للمولى أما محمد رحمه الله تعالى يقول
إقرار المحجور عليه بالمال باطل لأن كسبه ملك
مولاه وما في يده كأنه في يد المولى ألا ترى
أنه لو أقر فيه بالغصب لا يصح فكذلك بالسرقة
وإذا لم يصح إقراره في حق المال بقي المال على
ملك مولاه ولا يمكن أن يقطع في هذا المال لأنه
ملك لمولاه ولا في مال آخر لأنه لم يقر
بالسرقة فيه والمال أصل ألا ترى أن المسروق
منه لو قال أبغي المال تسمع خصومته ولو قال
أبغي القطع ولا أبغي المال لا تسمع خصومته
وكذلك قد يثبت المال ولا يثبت القطع ولا يتصور
أن يثبت القطع قبل أن يثبت المال فإذا لم يصح
إقراره فيما هو الأصل لم يصح فيما ينبني عليه
أيضا وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول أقر
بشيئين بالقطع والمال للمسروق منه وإقراره حجة
في حق القطع دون المال فيثبت ما كان إقراره
فيه حجة لأن أحد الحكمين ينفصل عن الآخر ألا
ترى أنه قد يثبت المال دون القطع وهو ما إذا
شهد به رجل وامرأتان فكذلك يجوز أن يثبت القطع
دون المال كما إذا أقر بسرقة مال مستهلك وهذا
لأنا لا نقبل إقراره في تعيين هذا المال فيبقى
المسروق مستهلكا ويجوز أن تقطع يده وإن لم
يقبل إقراره في تعيين المال كالحر إذا قال
الثوب الذي في يد زيد أنا سرقته من عمرو فقال
زيد هو ثوبي فإنه تقطع يد المقر وإن لم يقبل
إقراره في ملك ذلك العين للمسروق منه وأبو
حنيفة رحمه الله تعالى يقول لا بد من قبول
إقراره في حق القطع لما بينا أنه في ذلك مبقي
على أصل الحرية ولأن القطع هو الأصل ألا ترى
أن القاضي يقضي بالقطع إذا ثبتت السرقة عنده
بالبينة ثم من ضرورة وجوب القطع عليه كون
المال مملوكا لغير مولاه لاستحالة أن يقطع
العبد
ج / 9 ص -157-
في مال
هو مملوك لمولاه وبثبوت الشيء يثبت ما كان من
ضرورته كما لو باع أحد ولدي التوأم فأعتقه
المشتري ثم ادعى البائع نسب الذي عنده يثبت
نسب الآخر منه ويبطل عتق المشتري فيه للضرورة
فهذا مثله بخلاف الحر فإن المال هناك لغير
السارق وهو ذو اليد ولا يستحيل أن يقطع في مال
الغير فأما ها هنا يستحيل أن يقطع العبد في
مال هو مملوك لمولاه فوزان هذا من ذاك أنه لو
أقر بسرقة مال من إنسان فقال المقر له هو مالك
لا حق لي فيه أو قال المقر له هذا المال
لمولاك لا حق لي فيه ولو قال ذلك لا تقطع يده
بالاتفاق ولا بد من القضاء عليه بالقطع لما
قلنا فيقضي برد المال على المقر له بالسرقة.
قال وإقرار الصبي بالسرقة
باطل ثم بلوغه قد يكون بالعلامة وقد يكون
بالسن فأما البلوغ بالعلامة فالغلام بالاحتلام
أو بالاحبال وأقل المدة في ذلك اثني عشرة سنة
وفي الجارية بالحيض أو بالحبل أو الاحتلام
وأدنى المدة في ذلك تسع سنين وعند عدم ذلك
فعلى قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله
تعالى يحكم ببلوغهما إذا بلغا خمس عشرة سنة
وعند أبي حنيفة رحمه الله تعالى التقدير في
الجارية بسبع عشرة سنة وفي الغلام في إحدى
الروايتين بثمان عشرة سنة وفي الرواية الأخرى
بتسع عشرة سنة وهو الأصح باعتبار أنه زاد على
أدنى المدة سبع سنين وأدنى المدة التي اعتبرها
الشرع بقوله صلى الله عليه وسلم "مروهم
بالصلاة إذا بلغوا سبعا"
وقد بينا المسألة فيما أمليناه من شرح
الوكالة.
قال وإذا أقر بالسرقة عند
العذاب أو عند الضرب أو عند التهديد بالحبس
فإقراره باطل لحديث ابن عمر رضي الله عنه ليس
الرجل على نفسه بأمين إن جوعت أو خوفت أو
أوثقت وقال شريح رحمه الله تعالى القيد كره
والسجن كره والوعيد والضرب كره وهذا لأن
الإقرار إنما يكون حجة لترجيح جانب الصدق فيه
فلما امتنع من الإقرار حتى هدد بشيء من ذلك
فالظاهر أنه كاذب في إقراره وبعض المتأخرين من
مشايخنا رحمهم الله تعالى أفتوا بصحة إقرار
السارق بالسرقة مع الإكراه لأن الظاهر أن
السراق لا يقرون في زماننا طائعين وسئل الحسن
بن زياد رحمه الله تعالى أيحل ضرب السارق حتى
يقر فقال ما لم يقطع اللحم ولا يتبين العظم
وأفتى مرة بجواز ضربه ثم ندم واتبع السائل إلى
باب الأمير فوجده قد ضرب السارق وأقر بالمال
وجاء به فقال ما رأيت جورا أشبه بالحق من هذا
وإن أقر طائعا ثم قال المتاع متاعي أو قال
استودعنيه أو قال أخذته رهنا بدين لي عليه
درأت القطع عنه لأن ما ادعاه محتمل فقد آل
الأمر إلى الخصومة والاستحلاف وقد بينا أن
صاحب الدين إذا سرق خلاف جنس حقه على سبيل
الرهن بحقه لا يلزمه القطع ويستوي إن كان دينه
حالا أو مؤجلا وكذلك إذا أخذ جنس حقه والدين
مؤجل وهذا استحسان وكان ينبغي في القياس أن
يقطع لأنه لا حق له في أخذ المال قبل حلول
الأجل ولكنه استحسن فقال التأجيل لا ينفي وجوب
أصل المال إنما يؤخر حق الاستيفاء فيكون وجوب
الدين عليه شبهة.
ج / 9 ص -158-
قال ويستحب للإمام أن يلقن السارق حتى لا يقر بالسرقة لما روينا أن
النبي صلى الله عليه وسلم أتى بسارق فقال "أسرقت ما أخاله سرق"
وهذا لأن هذا احتيال من الإمام لدرء الحد عنه
وهو مندوب إليه وإذا ثبتت السرقة في البرد
الشديد والحر الشديد الذي يتخوف عليه الموت أن
قطعه حبسه حتى ينكشف الحر والبرد لأن القطع
يستوفي على وجه يكون القطع زاجرا لا متلفا
وإذا كان لا يتخوف عليه الموت إن قطع لم يؤخر
لقوله صلى الله عليه وسلم "لا ينبغي لوال ثبت عنده الحد أن لا يقيمه" وإن حبس إلى فتور الحر والبرد فمات في السجن فضمان المسروق دين في
تركته لأنه تعذر استيفاء القطع.
قال وإذا اجتمع في يده قطع في
السرقة والقصاص بدئ بالقصاص وضمن السرقة لأنه
إن كان القصاص في النفس فقد بينا أنه إذا
اجتمع في النفس وما دونه يقتل ويترك ما سوى
ذلك وإن كان القصاص في اليد اليمنى فقد اجتمع
في اليد حقان أحدهما لله تعالى والآخر للعبد
فيقدم حق العبد لحاجته إلى ذلك وكذلك إن كان
القصاص في اليد اليسرى أو في الرجل اليمنى أو
في الرجل اليسرى يبدأ باستيفاء القصاص وإذا
استوفى تعذر استيفاء القطع فيضمن المسروق فإن
قضى بالقصاص فعفي عنه صاحبه أو صالحه قطعت يده
في السرقة لأن القطع في السرقة كان مستحقا وقد
سقط ما كان مقدما عليه وهو القصاص وإن لم
يصالحه حتى مضى زمان وهما يتراضيان فيه على
الصلح ثم صالحه درأت القطع في السرقة لتقادم
العهد فإن ذلك مانع من استيفاء القطع بحجة
البينة وإن كان القصاص في الرجل اليسرى بدئ
بالقصاص ثم يحبس حتى يبرأ ثم تقطع يده في
السرقة وكذلك إن كان القصاص في شجة في رأسه
لأن الإمام لو والى في الاستيفاء بالضرب ربما
يموت لتضاعف الآلام عليه فليتحرز عن ذلك بجهده
ولهذا قلنا بأنه يحبس حتى يبرأ ثم يقام عليه
الحد.
قال وإذا حكم على السارق
بالقطع ببينة أو بإقرار ثم قال المسروق منه
هذا متاعه أو قال لم يسرقه مني إنما كنت
أودعته أو قال شهد شهودي بزور أو قال أقر هو
بالباطل بطل القطع عنه لانقطاع خصومته وقد
بينا أن بقاء الخصومة إلى وقت استيفاء القطع
شرط وإن المعترض بعد القضاء قبل الاستيفاء في
الحد كالمقترن بأصل السبب وهذا بخلاف رد المال
بعد القضاء لأن رد المال منه للخصومه فالمقصود
بالخصومة استرداد المال والمنتهى يكون متقررا
في نفسه فكانت خصومته قائمة باعتبار قيام يده
في المال وإن قال قد عفوت لم يبطل القطع لأن
العفو إسقاط فإنما يصح من صاحب الحق والقطع حق
لله تعالى لا حق للمسروق منه فيه والأصل فيه
ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "تجافوا العقوبة
بينكم" فإذا انتهى بها إلى الإمام فلا عفى الله عنه إن عفي عنه فأما إذا
وهب المسروق منه المال من السارق أو باعه منه
فإن كان قبل قضاء القاضي بالقطع سقط القطع عنه
لانقطاع خصومته وإن كان بعد القضاء فكذلك عند
أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى وعن أبي
يوسف رحمه الله تعالى
ج / 9 ص -159-
إنه لا
يسقط القطع عنه وهو قول الشافعي رحمه الله
وحجتهما حديث صفوان رضي الله عنه فإنه كان
نائما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم
متوسدا بردائه فجاء سارق وسرق رداءه فاتبعه
حتى أخذه فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأمر بقطعه فقال أتقطعه بسبب ردائي
وهبتها له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"هلا قبل أن تأتيني"
فهذا يدل على أن الهبة بعد القضاء لا تسقط
القطع ولأن هذا حد لله تعالى خالصا فإذا وجب
بتقرر سببه لا يمتنع استيفاؤه لملك عارض في
المحل كحد الزنى فإن من زنى بامرأة ثم تزوجها
لم يسقط الحد عنه وهذا لأن وجوب القطع باعتبار
الملك والعصمة وقت السرقة والهبة توجب ملكا
حادثا ولا أثر لها فيما وجب القطع باعتباره
بخلاف ما إذا أقر بالملك للسارق لأن في إقراره
احتمال الصدق وبهذا الاحتمال تبين أن الملك
كان للسارق عند السرقة وذلك مانع تقرر فعل
السرقة بخلاف ما إذا كانت الهبة قبل المرافعة
لأن هناك لا يظهر عند الإمام لانقطاع حق
المسروق منه فأما الآن فقد ظهرت السرقة عنده
وتمكن من استيفاء القطع حقا لله تعالى فلا
يمتنع الاستيفاء باعتراض الملك في المحل كما
لا يمتنع الاستيفاء باعتراض الملك في الحرز أو
برد المال بعد القضاء.
وحجتنا فيه أن انتفاء ملك السارق عن المسروق
شرط لوجوب القطع عليه وما يكون شرطا لوجوب
القطع عليه يراعي قيامه إلى وقت الاستيفاء لأن
المعترض بعد القضاء قبل الاستيفاء كالمقترن
بأصل السبب بدليل العمى والخرس والردة والفسق
في الشهود والدليل عليه أن انتفاء الأبوة لما
كان شرطا لوجوب القصاص يشترط بقاؤه إلى وقت
الاستيفاء حتى أن المعترض من الأبوة بعد
القضاء قبل الاستيفاء مانع من الاستيفاء
كالمقترن بأصل السبب وهذا لأن وجوب القطع
باعتبار العين والملك وإن كان حادثا ها هنا
فالعين الذي وجد فعل السرقة فيه عين ذلك ولو
اتحد الملك بأن أقر المسروق منه له بالملك أو
أثبت السارق ملكه بالبينة لم يقطع فكذلك إذا
اتحدت العين واختلف الملك لأنه تتمكن شبهة
باعتبار اتحاد العين وقد بينا اختلاف الروايات
في حد الزنى وبعد التسليم العذر واضح فإن وجوب
الحد باعتبار ما استوفي من العين وذلك
المستوفي مثلا شيء وها هنا وجوب القطع باعتبار
العين وملكه حدث في ذلك العين وبخلاف الحرز
فإنه عبارة عن التحرز والتحصن وقد فات ذلك
فإنما حدث الملك له في حرز آخر وبخلاف رد
المال لأن الرد منه للخصومة فإن ما هو المقصود
يحصل بالرد والمنتهى في حكم المتقرر فأما
الهبة تقطع الخصومة لأنه ما كان يخاصم ليهب
منه وما يفوت المقصود بالشيء لا يكون منهيا له
فأما حديث صفوان رضي الله عنه فقد ذكر في بعض
الروايات عفوت عنه والحديث حكاية حال لا عموم
له ثم معنى قوله صلى الله عليه وسلم "هلا قبل أن تأتيني به كيلا ينهتك ستره" ألا ترى أن ما روى أن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغير فقال
صفوان رضي الله عنه كأنه شق عليك ذلك يا رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال "وكيف لا يشق
علي وكأنكم أعوان الشياطين على أخيكم المسلم"
فعرفنا أنه كره هتك الستر عليه ولم يرو مشهورا
أنه قطع يده
ج / 9 ص -160-
بعد
هبته وإن روى ذلك فيحتمل أن السارق لم يقبل
الهبة ولما انهتك ستره استحب أن يطهره رسول
الله صلى الله عليه وسلم بإقامة الحد عليه فلم
يقبل الهبة لذلك وعندنا إذا لم يقبل الهبة
السارق لا يسقط القطع.
قال فإن أقر بالسرقة والمسروق
منه غائب ففي القياس يقطع وهو رواية عن أبي
يوسف رحمه الله تعالى لأنه أقر بوجوب الحد
عليه حقا لله تعالى فيستوفيه الإمام منه وفي
الاستحسان لا يقطع للشبهة فإن المسروق منه إذا
حضر ربما يكذبه في الإقرار وقد بينا.
قال ولا يقطع السارق من بيت
المال حرا كان أو عبدا لأن له فيه شركة أو
شبهة شركة فإن مال بيت المال مال المسلمين وهو
أحدهم فإنه إذا احتاج يثبت له الحق فيه بقدر
حاجته وفي الكتاب روي عن علي بن أبي طالب رضي
الله عنه أنه أتى برجل قد سرق من المغنم فدرأ
عنه الحد وقال إن له فيه نصيبا ولأنه ليس لهذا
المال مالك متعين ووجوب القطع على السارق
لصيانة الملك على المالك ولهذا لا يقطع بسرقة
مال لا مالك له.
قال ولا يقطع السارق من امرأة
ابنه أو زوج ابنته أو زوج أمه أو امرأة أبيه
إذا سرق من المنزل المضاف إليه لأن له أن
يدخل منزل أبيه وأمه ومنزل ابنه وابنته من غير
استئذان ولا حشمة فلا يتم معنى الحرزية في حقه
في منازلهم فلهذا لا يلزمهم القطع فأما إذا
سرق مال هؤلاء من غير منزل ولده أو والده أو
سرق من بن امرأته أو من أبويها فلا قطع عليه
في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى استحسانا
وفي قولهما يقطع وهو القياس وهو الخلاف في
الأختان والأصهار كلهم سواء على ما ذكرناهما
يقولان لا شبهة للبعض في ملك البعض ولا تأويل
ولا في حرزه فكانوا بمنزلة الأجانب إلا أن
بينهما محرمية ثابتة بالمصاهرة ولا تأثير
للمحرمية في المنع من وجوب القطع كالمحرمية
الثابتة بالرضاع وأبو حنيفة رحمه الله تعالى
يقول بين الأختان والأصهار مباسطة في دخول
بعضهم في منزل البعض من غير استئذان فتتمكن
شبهة في الحرزية وأدنى الشبهة تكفي في المنع
من وجوب القطع كما لو سرق من منزل أبيه مال
امرأته يوضحه أن إقامة المضاف مقام المضاف
إليه أصل في الشرع وامرأة الابن مضاف إليه ولو
سرق الأب من المضاف إليه لا يقطع فكذلك إذا
سرق من المضاف باعتبار إقامة المضاف مقام
المضاف إليه يوضحه أن الابن جزء من أبيه ولو
سرق الابن مال هذه المرأة من منزلها لم يقطع
فكذلك أبوه وهذا بناء على أصل علمائنا رحمهم
الله تعالى أن أحد الزوجين إذا سرق مال الآخر
لم يقطع والشافعي رحمه الله تعالى يقول إن سرق
من بيت يسكنان فيه فكذلك الجواب وإن سرق من
حرز آخر لصاحبه يقطع بناء على أصله أن فيما
وراء حقوق النكاح هما كالأجانب حتى تقبل شهادة
أحدهما لصاحبه وعندنا بسبب الزوجية يثبت معنى
الاتحاد بينهما ولهذا لا تقبل شهادة أحدهما
لصاحبه وتباسط كل واحد منهما في مال صاحبه
كتباسط الولد في مال والده فكما أن ذاك مانع
من وجوب القطع عليه فكذلك هذا.
ج / 9 ص -161-
قال وإن أقر بسرقة مع صبي أو معتوه لم يقطع وكذلك لو شهدت عليه الشهود
بذلك لأنها سرقة واحدة فإذا لم يوجب القطع
على أحدهما للشبهة لا يوجب على الآخر للشركة
بخلاف ما إذا زنى بصبية لأن فعله هناك ليس من
جنس فعلها لتحقق الشركة في الفعل بل هو الفاعل
وهي محل الفعل وعن أبي يوسف رحمه الله قال إن
كان الصبي هو الذي حمل المتاع فلا قطع على
واحد منهما لأنه مقصود بالفعل وإن كان الحامل
للمتاع هو البالغ فعليه القطع ولا معتبر بفعل
الصبي فإني أستقبح أن أدرأ القطع لهذا فيتطرق
السراق به إلى إسقاط القطع لأن كل سارق لا
يعجز عن أن يستصحب صبيا أو معتوها مع نفسه
وكذلك إن كان مع أخرس لا قطع على واحد منهما
أما الأخرس فلتمكن الشبهة في حقه لأنه لو كان
ناطقا ربما يدعى شبهة يدرأ بها الحد عن نفسه
وأما الناطق فلأجل الشركة.
قال ولو سرق خمرا في ظرف
وقيمة الظرف نصاب لا قطع عليه لأن المقصود
الخمر وهي حرام إلا أن يشرب الخمر في الحرز ثم
يخرج الظرف وهو مما يقطع في جنسه فحينئذ يلزمه
القطع وهذه المسألة ذكرها في الأصل لإيضاح
الفصل الأول أن وجوب القطع باعتبار العين
والفعل ثم إذا كان أحد العينين مما لا يقطع
بسرقته يصير ذلك شبهة في إسقاط الحد فكذلك إذا
كان أحد الفاعلين ممن لا يجب عليه القطع.
قال وقد بينا أن القطع يستوفي
بخصومة الغائب والمودع والمستعير وإن كان
المالك هو الذي حضر فقد ذكر في الجامع الصغير
أنه يقطع السارق وذكر بن سماعة رحمه الله في
نوادره إذا حضر المالك وغاب المسروق منه لم
يقطع بخصومته حتى يحضر المسروق منه فعلى هذا
قيل مراده مما ذكر في الجامع الصغير إذا حضرا
جميعا وقيل بل فيه روايتان وجه رواية الجامع
أن المالك هو الأصل في هذه الخصومة لأن بها
يحيي ملكه وحقه فلا معتبر بغيبة غيره مع حضوره
وجه رواية النوادر أن المسروق منه غيره والشرط
حضور المسروق منه ألا ترى أنه لا يستوفي
بخصومة وكيله لأنه غير المسروق منه فكذلك
المالك ها هنا وهذا لأن المسروق منه إذا حضر
ربما يدعي أنه كان ضيفا عنده فلهذا النوع من
الشبهة لا يستوفي القطع وكاسب الربا يقطع
السارق منه بخصومته لأنه مالك للمكسوب وهو ملك
معصوم وإن كان حراما وقد بينا الكلام في
السارق من السارق فإن كان السارق من المودع ذا
رحم محرم منه لم يقطع بخصومته ولا بخصومة
المالك كما لو سرق مال المودع وهذا لأن المسقط
للحد عن ذي الرحم المحرم الشبهة في الحرز من
حيث أن بعضهم يدخل على البعض من غير حشمة ولا
استئذان وفي هذا لا يفترق بين أن يسرق ماله أو
مال أجنبي وديعة عنده.
قال ولا يقطع السارق من
امرأته المبتوتة المعتدة منه في منزل على حدة
لأن العدة حق من حقوق النكاح فتعمل عمل حقيقة
النكاح في ايراث الشبهة ولأنه قد يدخل عليها
إذا أتاها بالنفقة والسكنى عليها فمن هذا
الوجه تصير السكنى كالمضاف إليه وإن سرق بعد
انقضاء
ج / 9 ص -162-
العدة
قطع لأنه لم يبق بينهما حق ولا علاقة فصارت في
حقه كما قبل أن يتزوجها وكما يقطع بعد انقضاء
العدة إذا سرق منها فكذلك من أبويها لأن
المانع في حال قيام النكاح دخول بعضهم على بعض
من غير استئذان عادة وقد زال ذلك بارتفاع
النكاح بجميع علائقه.
قال ولا يقطع السارق من امرأة
قد تزوجها بعد سرقته لأن العارض بعد وجوب الحد
قبل استيفائه كالمقترن بأصل السبب ولو كان
النكاح قائما بينهما وقت السرقة لم يقطع وإن
لم تزف إليه فكذلك إذا اعترض النكاح وعن أبي
يوسف قال إذا تزوجها قبل القضاء بالقطع فكذلك
الجواب لأن القاضي لا يسمع خصومتها في حكم
الحد وهي منكوحته فأما إذا تزوجها بعد القضاء
بالقطع لا يمنع استيفاء القطع لأن الزوجية
عينها لا تمنع القطع بل معنى الشبهة من حيث
أنه يدخل عليها من غير استئذان وهذا لا يوجد
في زوجية معترضة بعد القضاء بالقطع.
قال ولو سرق من امرأته ثم
أبانها ولم يدخل بها فلا قطع عليه لأن الشبهة
في الحرزية كانت موجودة وقت السرقة فلم يكن
أصل فعله موجبا للقطع ثم لا يصير موجبا بعد
ذلك وإذا سرق من أمه من الرضاعة أو من أخته
فعليه القطع لأنه لا سبب بينهما سوى المحرمية
ولا تأثير للمحرمية في المنع من وجوب القطع
كالمحرمية بسبب المصاهرة بعد ارتفاع النكاح أو
بسبب المصاهرة الثابتة بالزنى أو بالتقبيل من
شهوة لا تؤثر في إسقاط القطع
وعن أبي يوسف رحمه الله قال إذا سرق من أمه من
الرضاعة فلا قطع عليه لأنه يدخل عليها من غير
استئذان عادة بخلاف أخته من الرضاعة وغيرها
وهذا بعيد فإن الأمية من الرضاعة لو كانت
مؤثرة في إسقاط القطع لكانت الأختية مؤثرة فيه
كما لو كانت بالنسب.
قال وإن أقر الرجل بالسرقة ثم
هرب لم يطلب وإن كان في فوره ذلك لأن هربه
دليل رجوعه ولو رجع عن الإقرار لم يقطع فكذلك
إذا هرب والأصل فيه قول رسول الله صلى الله
عليه وسلم لماعز حين أخبر بالهرب فقال "هلا
خليتم سبيله" ولكنه إذا
أتى به بعد ذلك كان ضامنا للمال كما لو رجع عن
إقراره فإنه يسقط القطع به دون الضمان.
قال وإذا أقر أنه سرق من هذا
مائة ثم قال وهمت إنما سرقت من هذا الآخر لم
يقطع لأنه رجع عن إقراره بالسرقة من الأول
وتناقض كلامه في إقراره بالسرقة من الآخر
والتناقض كالرجوع في إيراث الشبهة ويقضي لكل
واحد منهما بمائة لأن بالرجوع والتناقض يبطل
إقراره في حق الحد دون المال وقد أقر بسرقة
مائة درهم من كل واحد منهما وصدقه كل واحد
منهما في ذلك فكان ضامنا له وإن قال ذلك
الشهود قبل القضاء للأول لم يقضعليه بقطع ولا
مال لأنهم رجعوا عن شهادتهم بالسرقة من الأول
وتناقض كلامهم بالسرقة من الثاني حين شهدوا
أولا بسرقة هذه المائة بعينها من الأول
والرجوع عن الشهادة قبل القضاء والتناقض فيها
مانع من القضاء بالمال والحد جميعا.
ج / 9 ص -163-
قال وإن كانت الشهود أربعة فثبت اثنان على الشهادة للأول به ورجع اثنان
فشهدوا على هذا الآخر لا قطع عليه لواحد
منهما للشبهة التي دخلت من حيث أن الراجعين
شهدوا بسرقة ذلك المال بعينه من الآخر فيكون
ذلك معارضا لشهادة الثابتين على السرقة من
الأول فيمتنع وجوب القطع عليه بشهادة الثابتين
للمعارضة وبشهادة الراجعين للتناقض ويقضي
بالمال للأول لبقاء حجة كاملة على الشهادة في
حق المال وتأثير المعارضة في إيراث الشبهة
ولكن المال يثبت مع الشبهات ولا يقضي للآخر
بشيء للتناقض من الشهود في حق الآخر لأن ذلك
مانع من القضاء بالمال.
قال رجل أقر أنه سرق من هذا
مائة درهم ثم جاء آخر فقال لم يسرقها هذا
ولكني أنا سرقتها فقال المسروق منه كذبت فإنه
يقطع الأول بخصومته لأنه صدقه في إقراره
بالسرقة منه فأما إقرار الثاني فقد بطل بتكذيب
المسروق منه إياه فصار كالمعدوم فإن قال
المسروق منه لم يسرقها الأول فقد علمت وذكرت
أن هذا الآخر هو الذي سرقه لم يقطع الآخر ولا
الأول لأن دعواه على الأول براءة منه للآخر
ودعواه على الآخر براءة منه للأول ولأنه قد
تناقض كلامه والخصومة من المناقض غير مسموعة
وشرط القطع الخصومة فلهذا لا يقطع واحد منهما
ولا يضمن الأول السرقة أيضا لأنه قد أبرأه
منها بالدعوى على الآخر فصار مكذبا له في
إقراره وقد كذب الآخر في إقراره قبل هذا فلا
ضمان له على واحد منهما ألا ترى أنه لو أقر
بأنه سرق منه فقال المقر له كذبت ثم قال له
صدقت أنت سرقتها لم يكن له أن يضمنه شيئا وإن
لم يقل كذبت ولكنه قال صدقت ثم قال آخر أنا
سرقتها فقال له صدقت لم يقطع واحد منهما لمعنى
التناقض ويضمن الآخر دون الأول لأنه بتصديق
الآخر صار مكذبا للأول مبرئا له عما أقر به.
فإن قيل: فكذلك هو بتصديق الأول صار مكذبا
للآخر قلنا نعم لكن وجد من الآخر الإقرار له
بعد ذلك التكذيب فيصح تصديقه في ذلك كمن أقر
لإنسان بمال فكذبه ثم أقر له ثانيا به فصدقه
كان له أن يأخذ المال وإن كان ذلك في شهادة لم
يضمن واحد منهما شيئا لأن الشهادة لا توجب
شيئا بدون القضاء ولا يقضي القاضي بها إلا إذا
ترتبت على خصومة صحيحة وقد سقط اعتبار خصومته
للتناقض ولأنه صار مكذبا كل فريق بتصديق الآخر
كالمدعي إذا أكذب شاهده لم تقبل شهادته له.
قال رجل قال لآخر سرقت منك
كذا وكذا فقال كذبت لم تسرق مني ولكنك غصبته
غصبا وإنما أردت بذكر السرقة أن تبرأ من
الضمان ففي القياس لا شيء عليه لأنه كذبه ثم
ادعى عليه غصبا مبتدأ فبطل إقراره بالتكذيب
ولم يثبت ما ادعاه بغير حجة ولكنه استحسن فقال
له أن يضمنه لأن كلامه موصول وفي آخره بيان أن
مراده التكذيب في جهة السرقة لا في أصل المال
المضمون عليه والبيان المغير صحيح إذا كان
موصولا بالكلام ثم المقر له انتدب
ج / 9 ص -164-
بما
صنع إلى ما ندب إليه في الشرع من إبقاء الستر
على المسلم والاحتيال لدرء العقوبة عنه فلا
يكون ذلك مسقطا حقه في المال وإن قال سرقت منك
كذا فقال الطالب غصبته غصبا فهو مستهلك فعليه
ضمانة لأنه كما صدقه في الإقرار بملك أصل
المال له فقد صدقه في إيجاب الضمان في ذمته
لأن الغصب والسرقة كل واحد منهما سبب للضمان
والأسباب مطلوبة لأحكامها لا لأعيانها فمع
التصديق في الحكم لا يعتبر التكذيب في السبب
وإن قال غصبتك كذا فقال سرقته مني فله أن
يضمنه لأنه صدقه فيما أقر له به وادعى زيادة
جهة السرقة ولم يثبت له تلك الزيادة بدعواه
فعليه ضمان القيمة والقول في مقدار القيمة قول
الضامن مع يمينه لإنكاره الزيادة التي يدعيها
الطالب وإن قال سرقت من فلان وفلان ثوبا
وأحدهما غائب لم يكن للحاضر أن يقطعه ولكن
يقضي له بنصف الثوب إن كان قائما وبنصف قيمته
إن كان مستهلكا لأن التصديق من الغائب لم يعرف
فإذا حضر ربما يكذبه فيبقى نصف الثوب على ملكه
فلو قطعناه لقطعناه فيما هو شريك فيه وذلك لا
يجوز وهذا بخلاف ما لو قال زنيت بفلانة وفلانة
فكذبته إحداهما وصدقته الأخرى يقام عليه الحد
لأن فعله بكل واحدة منهما متميز عن فعله
بالأخرى وهنا إنما أقر بفعل واحد في ثوب
بينهما ولم يثبت بإقراره السرقة في نصيب
الغائب قبل تصديقه فلا يمكن القضاء بالسرقة في
نصيب الحاضر خاصة لأن فعل السرقة في نصف الثوب
شائعا لا يتحقق منفردا عن النصف الآخر فلهذا
لم يقطع فإذا تعذر استيفاء القطع ظهر حكم
المال فيقضي للحاضر بما أقر له به وذلك نصف
الثوب إن كان قائما ونصف قيمته إن كان مستهلكا
فإن كانا حاضرين فقال أحدهما كذبت لم تسرقه
ولكنك غصبته أو استودعناكه أو أعرناكه أو قال
هو ثوبك لا حق لنا فيه لم يقطع في شيء من ذلك
أما للشركة له في الثوب بإقرار أحدهما له
بالملك أو لانتفاء فعل السرقة عن نصيب أحدهما
بتكذيبه لأنه لا يتحقق فعل السرقة في نصيب
الآخر من الثوب منفردا ولكن يقضي بنصف الآخر
أو بنصف قيمته إن كان مستهلكا لما بينا أن في
حق الثاني ينبني القضاء على ما أقر له وإن كان
ذلك ببينة وأحدهما غائب فقضي للحاضر بنصف
الثوب أو بنصف قيمته ثم جاء الغائب وادعى
السرقة يقضي له بمثل ذلك لأن أحد الشريكين في
إثبات الملك قائم مقام صاحبه ولكن لا يقطع
السارق لأن القاضي حين قضى بنصف الثوب للأول
أو بنصف قيمته فقد درأ القطع عنه في نصيبه إذ
القاضي لا يشتغل بالضمان إلا بعد درء الحد
ولأنه بالضمان ملك ذلك النصف واعتراض الملك في
البعض كاعتراضه في الجميع في إسقاط الحد عنه
وإن كان الآخر حاضرا وقت الخصومة فقال الثوب
وديعة أو عارية لنا عندك لم يقض له بشيء لأنه
أكذب شهوده فإنهم شهدوا بالسرقة وإكذاب المدعي
شاهده يبطل الشهادة في حقه وليس للآخر أن
يشاركه في تلك الخصومة لأنه أبطل حق نفسه
بإكذابه شهوده وصار كما لو أبرأه عن نصيبه من
الضمان وبعد الإبراء لا يبقى له حق مشاركة
الآخر فيما يقبض.
قال رجلان أقرا أنهما سرقا
هذا الثوب من هذا الرجل والرجل يدعى ذلك فلما
أمر
ج / 9 ص -165-
الحاكم
بقطعهما قال أحدهما الثوب ثوبنا لم نسرقه قال
يدرأ القطع عنهما لأن المعترض
من دعوى الملك من أحدهما كالمقترن بالسبب ألا
ترى أنهما لو ادعيا جميعا الملك بعد القضاء
كان شبهة في درء الحد بمنزلة المقترن بالسبب
فكذلك إذا ادعى ذلك أحدهما وهذا لأن الحد وجب
عليهما في شيء واحد وقد آل الأمر إلى الخصومة
والاستحلاف في ذلك الشيء ولو كان أحدهما قال
سرقنا هذا الثوب من هذا الرجل وقال الآخر كذبت
لم نسرقه ولكنه لفلان قال يقطع المقر بالسرقة
في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى
وقال أبو يوسف رحمهم الله أحب إلي أن لا يقطع
واحد منهما وكذلك لو قال أحدهما سرقناه وقال
الآخر لم أسرق معك ولا أعرفك ولا أعرف هذا
الثوب فهو على الخلاف وقد كان أبو يوسف رحمه
الله تعالى أولا يقول كقول أبي حنيفة ومحمد
رحمهما الله تعالى ثم رجع وجه قول أبي يوسف
رحمه الله تعالى أن المقر منهما أقر بسرقة شيء
واحد وقد تعذر إيجاب القطع على واحد منهما
لإنكاره فصار كما لو تعذر إيجاب الحد عليه
لدعواه الملك لنفسه فيكون شبهة في درء الحد
عنهما وجه قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله
تعالى أن المقر أقر بالفعل الموجب للعقوبة على
نفسه وعلى غيره وقد انعدم أصل الفعل في حق
الآخر لتكذيبه فلا يوجب ذلك شبهة في الفعل
الثابت في حق المقر بإقراره ولا في موجبه كما
لو قال قتلت أنا وفلان فلانا وقال الآخر أنا
ما قتلت فالقصاص واجب على المقر وكذلك لو قال
زنيت أنا وفلان بفلانة وكذبه الآخر كان على
المقر الحد بخلاف ما لو ادعى الآخر الملك فإن
أصل الفعل ثبت هناك مشتركا لاتفاقهما ثم امتنع
وجوب القصاص على أحدهما للشبهة فيمتنع وجوبه
على الآخر للشركة كما في المقرين بالقتل إذا
زعم أحدهما أنه كان مخطئا وقد ذكر في الحدود
أنه إذا أقر أنه زنى بامرأة وكذبته أنه لا حد
عليه عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وعندهما
يقام عليه الحد فمحمد رحمه الله تعالى يسوى
بين الفصلين ويقول تكذيب المكذب لا يؤثر في حق
المقر وأبو يوسف رحمه الله تعالى يفرق بينهما
فيقول هناك يقام الحد عليه وها هنا لا يقام
لأن فعلها في الزنى ليس من جنس فعله فإن فعله
إيلاج وفعلها تمكين وهي في الحقيقة محل الفعل
والمباشر هو الرجل فانتفاؤه في جانبها
بتكذيبها لا يمكن شبهة في الرجل وها هنا الفعل
من السارقين واحد والمشاركة بينهما تتحقق
فانتفاؤه عن أحدهما بإنكاره يمكن شبهة في حق
الآخر كما في القتل إذا اشترك الخاطئ مع
العامد وأبو حنيفة رحمه الله يفرق بينهما أيضا
فيقول هناك لا يقام عليه الحد وهنا يقام على
المقر منهما لأن فعل الزنى من الرجل لا يتصور
بدون المحل وقد انعدم المحل بتكذيبها فأما فعل
السرقة من المقر يتحقق بدون الآخر فانتفاء
الفعل في حق الآخر بإنكاره لا يمنع تقرر الفعل
في حق المقر موجبا للقطع والله سبحانه وتعالى
أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
باب قطاع الطريق
قال رضي الله عنه وإذا قطع قوم من المسلمين أو من أهل الذمة على قوم من
المسلمين
ج / 9 ص -166-
أو من
أهل الذمة الطريق فقتلوا وأخذوا المال قال
يقطع الإمام أيديهم اليمنى وأرجلهم اليسرى من
خلاف أو يصلبهم إن شاء وإنما شرطنا أن يكونوا
قوما لأن قطاع الطريق محاربون بالنص
والمحاربة عادة من قوم لهم منعة وشوكة يدفعون
عن أنفسهم ويقوون على غيرهم بقوتهم ولأن السبب
هنا قطع الطريق ولا ينقطع الطريق إلا بقوم لهم
منعة وشرط أن يكونوا من المسلمين أو من أهل
الذمة ليكونوا من أهل دارنا على التأبيد فإنهم
إذا كانوا من أهل الحرب مستأمنين في دارنا ففي
إقامة الحد عليهم خلاف وقد بيناه وشرط أن
يقطعوا الطريق على قوم من المسلمين أو من أهل
الذمة لتكون العصمة المؤبدة ثابتة في مالهم
فإنهم إذا قطعوا الطريق على المستأمنين لا
يقام عليهم الحد لانعدام العصمة المؤبدة في ما
لهم وقد بينا ذلك في السرقة الصغرى فهو مثله
في السرقة الكبرى ثم قد بينا في أول الكتاب أن
حد قطع الطريق على الترتيب بحسب جنايتهم عندنا
وهو قول ابن عباس وإبراهيم رضي الله عنهما
وعند مالك رحمه الله تعالى هو على التخيير وهو
قول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى ولم نأخذ
بذلك لأن الذي أخاف السبيل ولم يقتل ولم يأخذ
مالا قدهم بالمعصية والقتل والقطع أغلظ
العقوبات فلا يجوز إقامته على من هم بالمعصية
ولم يباشر والقطع جزاء أخذ المال كما في
السرقة الصغرى إلا أن ذاك دخله نوع تخفيف من
حيث أنه يخفي فعله وهذا يغلظ بالمجاهرة ولهذا
وجب قطع عضوين منه من أعضائه ثم من هم بالسرقة
الصغرى ولم يأخذ المال لا يقام عليه القطع
فكذلك من هم بأخذ المال ها هنا ولم يأخذ فإن
قتلوا وأخذوا المال فعند أبي حنيفة رحمه الله
تعالى الإمام فيهم بالخيار إن شاء قطع أيديهم
وأرجلهم ثم قتلهم وإن شاء قتلهم من غير قطع
وإن شاء صلبهم.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الإمام
يصلبهم أخذا فيه بقول ابن عباس رضي الله عنهما
ولأنه اجتمع عليه العقوبة في النفس وما دونه
حقا لله تعالى فيكون الحكم فيه أن يدخل ما دون
النفس في النفس كما إذا اجتمع حد السرقة
والشرب والرجم وهذا لأن المقصود الزجر وذلك
يتم باستيفاء النفس فلا فائدة بالاشتغال بما
دونه ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى حرفان:
أحدهما: أن مبنى هذا الحد على
التغليظ لغلظ جريمتهم والقطع ثم القتل أقرب
إلى التغليظ فكان للإمام أن يختار ذلك لكونه
أقرب إلى ما لا جله شرع هذا الحد.
والثاني: أن السبب الموجب
للقطع هو أخذ المال وقد وجد منهم والسبب
الموجب للقتل وهو قتل النفس قد وجد منهم وإنما
يثبت الحكم بثبوت السبب والكل حد واحد ولا
تداخل في الحد الواحد كالجلدات في الزنى إنما
التداخل في الحدود.
فإن قيل: هذا فاسد لأن للإمام أن يقتلهم ويدع
القطع.
قلنا لا بطريق التداخل بل لأنه ليس عليه
مراعاة الترتيب في أجزاء حد واحد فكان له أن
يبدأ بالقتل لذلك ثم إذا قتله فلا فائدة في
اشتغاله بالقطع بعده فلا يشتغل كالزاني إذا
ضرب
ج / 9 ص -167-
خمسين
جلدة فمات فإنه يترك ما بقي لأنه لا فائدة في
إقامته ثم في ظاهر الرواية هو مخير في الصلب
إن شاء فعله وإن شاء لم يفعله واكتفى بالقتل
وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال ليس للإمام
أن يدع الصلب لأن المقصود به الإشهار ليعتبر
غيره فينزجر فلا يتركه وجه ظاهر الرواية أن
معنى الزجر يتم بالقتل ولم ينقل في شيء من
الآثار أن النبي صلى الله عليه وسلم صلب أحدا
ألا ترى أنه لم يفعله بالعرنيين مع المبالغة
والاستقصاء في عقوبتهم حتى سمل أعينهم.
قال وإذا أراد أن يصلب ففي
ظاهر الرواية يصلبهم أحياء ثم يطعن تحت
ثندؤتهم الأيسر ليموتوا فإن المقصود الزجر
وذلك إنما يحصل إذا صلبهم أحياء لا بعد موتهم
وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى أنه لا يصلبهم
أحياء لأنه مثلة ونهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن المثلة ولو بالكلب العقور ولكنه
يقتلهم فبه يتم معنى الزجر والعقوبة في قتلهم
ثم يصلبهم بعد ذلك للاشتهار حتى يعتبر بهم
غيرهم وفي الصحيح من المذهب يتركهم على الخشب
ثلاثة أيام ثم يخلي بينهم وبين أهاليهم لأنه
لو تركهم كذلك تغيروا وتأذى بهم المارة فيخلي
بينهم وبين أهاليهم بعد ثلاثة أيام لينزلوهم
فيدفنوهم.
قال وإذا وجد منهم القتل وأخذ
المال فلا معتبر بالجراحات في تعلق الأرش
والقصاص بها لأنهم استوجبوا أتم ما يكون من
الحد فيسقط اعتبار ما دون ذلك من الجراحات
وعفو الأولياء في ذلك باطل لأن هذا حد يقام
لحق الله تعالى وإسقاط الأولياء إنما يعمل
فيما هو حقهم ويكون استيفاؤه إليهم أو يستوفي
بطلبهم فأما ما يستوفيه الإمام لله تعالى فلا
عفو فيه للأولياء ولا للإمام أيضا لأنه ليس
بصاحب الحق بل هو نائب في الاستيفاء فهو في
العفو كغيره والأصل فيه ما روينا لا ينبغي
لوالي حد ثبت عنده حق الله تعالى إلا إقامه ثم
المذهب عندنا أن الواجب عليهم الحد وعند
الشافعي رحمه الله تعالى القتل الواجب عليهم
القصاص متحم لا يعمل فيه عفو الولي لأن هذا
قتل لا يستحق إلا بالقتل والقتل المستحق
بالقتل يكون قصاصا إلا أنه تأكد بانضمام حق
الشرع إليه فلا يعمل فيه الإسقاط كالعدة ولكنا
نقول القطع والقتل المستحق بالقتل في قطع
الطريق كله حد واحد ثم القطع حق الله تعالى
فكذلك القتل ألا ترى أن الله تعالى سماه جزاء
والجزاء المطلق ما يجب حقا لله تعالى بمقابلة
الفعل فأما القصاص واجب بطريق المساواة وفيه
معنى المقابلة بالمحل والدليل عليه أن الله
تعالى جعل سبب هذا القتل ما قال في قوله تعالى
{يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] وما يجب بمثل هذا السبب يكون لله تعالى وسماه خزيا
بقوله تعالى
{ذَلِكَ
لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا}
[المائدة: 33] فعرفنا أنه حد واحد لله تعالى.
قال فإن كان فيهم عبد أو
امرأة فالحكم فيه كالحكم في الرجال الأحرار
أما العبد فلأنه مخاطب محارب وهو في السرقة
الصغرى يستوي بالحر فكذلك في الكبرى والمرأة
كذلك في ظاهر الرواية وهو اختيار الطحاوي رحمه
الله فإنه قال في كتابه الرجال والنساء في حق
قطاع
ج / 9 ص -168-
الطريق
سواء كما يستويان في سائر الحدود وهذا لأن
الواجب قتل وقطع وفي القطع الواجب جزاء الرجل
والمرأة سواء كالسرقة وفي القتل الواجب جزاء
الرجل والمرأة سواء كالرجم وذكر الكرخي رحمه
الله تعالى أن حد قطع الطريق لا يجب على
النساء لأن السبب هو المحاربة وانقطاع الطريق
بهم والمرأة بأصل الخلقة ليست بمحاربة كالصبي
ألا ترى أن في استحقاق ما يستحق بالمحاربة وهو
السهم من الغنيمة لا يسوي بين الرجل والمرأة
فكذلك في العقوبة المستحقة بالمحاربة ولكن
يدخل على هذا العبد فإنه لا يساوي الحر في
استحقاق السهم ثم يساويه في حق هذا الحد وفي
الصبيان والمجانين لانعدام الأهلية للعقوبة
بعدم التكليف لا يثبت الحكم وذلك لا يوجد في
حق النساء وذكر هشام في نوادره عن أبي يوسف
رحمهما الله تعالى أنه إذا قطع قوم من الرجال
الطريق وفيهم امرأة فباشرت المرأة القتل وأخذت
المال دون الرجال فإنه يقام الحد عليهم ولا
يقام عليها وقال محمد رحمه الله تعالى يقام
عليها ولا يقام عليهم وذكر بن سماعة عن محمد
عن أبي حنيفة رحمهم الله تعالى أنه يدرأ عنهم
جميعا لكون المرأة فيهم وجعل المرأة فيهم
كالصبي ولو كان معهم صبي أو مجنون لا يقام على
واحد منهم فكذلك المرأة ومحمد رحمه الله تعالى
يقول الردء تبع للمباشر في المحاربة والرجال
لا يصلحون تبعا للنساء في التناصر والمحاربة
وإنما يقام عليها جزاء المباشرة ولا يقام على
الرجال وأبو يوسف رحمه الله يقول إنما يتأتى
هذا الفعل منها بقوتهم فإن بنيتها لا تصلح
للمحاربة بدون الرجال فكأنهم فعلوا ذلك فيقام
الحد عليهم لا عليها لأن المانع من الإقامة
عليها معنى فيها لا في فعلها وهو أن بنيتها لا
تصلح للمحاربة بخلاف الصبي فإن المانع معنى في
فعله وهو أن فعله لا يصح موجبا للعقوبة وقد
تحقق الاشتراك في الفعل بينهم وبينه فلا يقام
الحد على واحد منهم.
قال والمباشر وغير المباشر في
حد قطاع الطريق سواء عندنا وعند الشافعي رحمه
الله تعالى لا يقام الحد إلا على من باشر
القتل وأخذ المال لأنه جزاء الفعل فلا يجب
إلا على من باشر الفعل كحد الزنى ألا ترى أنهم
لو لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا لم يقم الحد على
واحد منهم ففي حق الذين لم يأخذوا يجعل كأنهم
جميعا لم يأخذوا.
وحجتنا فيه أن هذا حكم متعلق بالمحاربة فيستوي
فيه الردء والمباشر كاستحقاق السهم في الغنيمة
وتأثيره أنهم جميعا مباشرون السبب وهو
المحاربة وقطع الطريق هكذا يكون في العادة
لأنهم لو اشتغلوا جميعا بالقتال خفي عليهم
طريق الإصابة لكثرة الزحمة ولا يستقرون إن زلت
قدمهم فانهزموا فإذا كان البعض ردءا لهم
التجئوا إليهم وتنكسر شوكة الخصوم برؤيتهم
وكذلك في العادة إنما يتولى أخذ المال الأصاغر
منهم والأكابر يترفعون عن ذلك وانقطاع الطريق
يكون بهم جميعا فعرفنا أنهم مباشرون للسبب
فأما أخذ المال والقتل شرط فيه وإذا صار الشرط
موجودا بقوتهم وباشروا السبب بأجمعهم قلنا
يقام الحد عليهم.
ج / 9 ص -169-
قال وإن أصابوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ولم
يقتلوا لأنهم باشروا أخذ المال فيقام عليهم
جزاؤه وقد بينا أن القتل شرط لوجوب القطع
عليهم والحكم بعد وجود السبب لا يثبت قبل وجود
الشرط.
قال فإن لم يوجدوا طلبوا إلى
أن يوجدوا أو ينقطع إذا هم ويأمن المسافرون
منهم في طرقهم وذلك نفيهم من الأرض في تأويل
بعضهم فإن قتلوا ولم يصيبوا مالا قتلوا ولم
تقطع أيديهم وأرجلهم لأن جزاء أخذ المال لا
يتم إلا بأخذ المال.
قال فإن قتلوا وأخذوا المال
ثم تابوا فردوا المال إلى أهله ثم أتى بهم
الإمام لم يقطعهم ولم يقتلهم لقوله تعالى
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}
[المائدة: 34] وقد بينا أن تمام توبته في رد المال لينقطع به خصومة
صاحب المال فإن الإمام لا يقيم الحد إلا
بخصومة صاحب المال في ماله وقد انقطعت خصومته
بوصول المال إليه قبل ظهور الجريمة عند الإمام
فيسقط الحد ولكنه يدفعهم إلى أولياء القتلى
فيقتلونهم أو يصالحونهم وهذا لأن في التوبة
إنما يسقط ما كان حقا لله تعالى فأما ما كان
حقا للعبد فلأوليائه وإليه أشار الله تعالى في
قوله: {أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقد كان السبب الموجب للقتل متقررا ممن باشر القتل منهم وهو تعمده
قتل نفس بغير حق إلا أن استحقاق القتل عليهم
حدا كان مانعا من ظهور القود فإذا سقط ذلك زال
المانع فظهر حكم القود والقود إنما يجب على من
باشر القتل دون الردء.
قال وللولي الخيار إن شاء عفى
وإن شاء صالح على مال وإن شاء استوفى القتل
لقوله صلى الله عليه وسلم "من
قتل له قتيل فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا
وإن أحبوا أخذوا الدية" وقال صلى الله عليه وسلم لولي القتل "أتعفو" فقال
لا فقال "أتأخذ الدية" فقال لا فقال "أتقتل" فقال
نعم فعرفنا أنه يتخير بين هذه الأشياء ومن
باشر منهم الجراحات ففيما يمكن اعتبار
المساواة فيها يجب القصاص وفيما لا يمكن يجب
الأرش كما لو كانت الجراحات منهم من غير قطع
الطريق وهذا لأن سقوط اعتبار حكم الجراحات
بوجود إقامة الحد فإذا زال ذلك ظهر حكم
الجراحات كما إذا استهلك السارق المال سقط حكم
التضمين لوجود إقامة القطع فإذا سقط القطع ظهر
حكم التضمين.
قال وإذا قطعوا الطريق
وأخافوا السبيل ولم يقتلوا أحدا ولم يأخذوا
مالا حبسوا حتى يتوبوا بعد ما يعزرون وفي
الكتاب يقول عوقبوا فكأنه كره إطلاق لفظ
التعزير على ما يقام عليهم قبل التوبة لما في
التعزير من معنى التطهير وهو المراد من قوله
تعالى
{أَوْ
يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33] يعني يحبسون وقد بينا ذلك وهذا أولى مما قاله
الشافعي رحمه الله تعالى أن المراد الطلب
ليهربوا من كل موضع لأن العقوبة بالحبس مشروع
فالأخذ بما يوجد له نظير في الشرع أولى من
الأخذ بما لا نظير له وفي هذا الموضع يطالبون
بموجب الجراحات التي كانت منهم من قصاص أو أرش
لأنه لا يقام عليهم الحد وسقوط اعتبار حكم
الجراحات لوجود إقامة الحد فإذا انعدم ذلك وجب
اعتبار الجراحات في حق العبد فإن تابوا وفيهم
عبد قد
ج / 9 ص -170-
قطع يد
حر دفعه مولاه أو فداه كما لو فعله في غير قطع
الطريق وهذا لأنه لا قصاص بين العبيد والأحرار
فيما دون النفس فيبقى حكم الدفع أو الفداء فإن
كانت فيهم امرأة فعلت ذلك فعليها دية اليد في
مالها لأنه لا قصاص بين الرجال والنساء في
الأطراف فعليها الدية والفعل منها عمدا لا
تعقله العاقلة فكان في مالها.
قال وإذا أخذهم الإمام قبل أن
يتوبوا وقد أصابوا المال فإن كان يصيب كل واحد
منهم من المال المصاب عشرة دراهم فصاعدا
فعليهم الحد عندنا وقال الحسن بن زياد رحمه
الله تعالى الشرط أن يكون نصيب كل واحد منهم
عشرين درهما فصاعدا لأن التقدير بالعشرة في
موضع يكون المستحق بأخذ المال قطع عضو واحد
وها هنا المستحق قطع عضوين ولا يقطع عضوان في
السرقة إلا باعتبار عشرين درهما ولكنا نقول
هذا حد هو جزاء على أخذ المال فيستدعي مالا
خطيرا وقد بينا أن العشرة مال خطير فيستحق به
إقامة الحد كما يستحق به القطع بالسرقة ثم
تغلظ الحد ها هنا باعتبار تغلظ فعلهم باعتبار
المحاربة وقطع الطريق لا باعتبار كثرة المال
المأخوذ ففي النصاب هذا الحد وحد السرقة سواء
وإن كان لا يصيب كل واحد منهم عشرة دراهم درئ
الحد عنهم إلا على قول مالك رحمه الله وهكذا
مذهبه في الصغرى فإنه يعتبر أن يكون المأخوذ
في نفسه نصابا كاملا سواء أخذه الواحد أو
الجماعة ولكنا نقول إقامة الحد على كل واحد
منهم باعتبار ما يصيبه من المال فلا بد من أن
يكون خطيرا في نفسه وما دون النصاب حقير تافه
وإذا كان نصيب كل واحد منهم تافها لا يقام
عليهم الحد كما لو كان المأخوذ في نفسه تافها
ثم يضمنون المال إذا درئ الحد عنهم والأمر في
القصاص في النفس وغيرها إلى الأولياء إن شاؤوا
استوفوا وإن شاؤوا عفوا وقد طعن عيسى رحمه
الله تعالى في هذه المسألة فقال يقتلهم الإمام
حدا لأنهم لو قتلوا ولم يأخذوا شيئا من المال
قتلهم الإمام حدا لا قصاصا والردء والمباشر
فيه سواء فكذلك إذا أخذوا مع القتل مالا يبلغ
نصيب كل واحد منهم نصابا أما لأن ما دون
النصاب لما لم يتعلق به حكم فوجوده كعدمه أو
لأنه تتغلظ جنايتهم بأخذ شيء من المال وما
يغلظ الجناية لا يكون مسقطا للحد ولكن ما ذكر
في الكتاب أصح لأن وجوب الحد عليهم باعتبار ما
هو المقصود والظاهر أنهم يقصدون بقطع الطريق
أخذ المال وإنما يقدمون على القتل ليتمكنوا من
أخذ المال فإذا لم يأخذوا المال عرفنا أن
مقصودهم لم يكن المال وإنما كان القتل فأوجبنا
عليهم الحد قتلا بالقتل الموجود منهم وإن
أخذوا المال عرفنا أن مقصودهم كان أخذ المال
وأن إقدامهم على القتل كان للتمكن من أخذ
المال فباعتبار ما هو المقصود لا يمكن إيجاب
الحد عليهم إذا كان ما يصيب كل واحد منهم ما
دون النصاب فلهذا قال محمد رحمه الله تعالى
يدرأ الحد عنهم ويبقى حكم القصاص.
قال وإذا قطعوا الطريق في
المصر أو ما بين الكوفة والحيرة أو ما بين
قريتين على قوم مسافرين لم يلزمهم حد قطاع
الطريق وأخذوا برد المال وأديروا وحبسوا
والأمر في قتل من قتل
ج / 9 ص -171-
منهم
أو جرح إلى الأولياء وعن أبي يوسف رحمه الله
تعالى أنه يقام عليهم حد قطاع الطريق وهو قول
الشافعي رحمه الله لأن السبب قد تقرر وهو أخذ
المال والقتل على وجه المحاربة والمجاهرة
وجريمتهم بمباشرة ذلك في المصر أغلظ من
جريمتهم بمباشرة ذلك في المفازة لأن تغلظ
الجريمة باعتبار المجاهرة والاعتماد على مالهم
من المنعة وهذا في المصر أظهر واعتبر هذا الحد
بحد السرقة فإنه لا فرق هناك بين مباشرة السبب
في المصر وفي المفازة فهذا مثله.
وحجتنا فيه أن سبب وجوب الحد ما يضاف إليه وهو
قطع الطريق وإنما ينقطع بفعلهم ذلك في المفازة
لا في جوف المصر ولا فيما بين القرى فالناس لا
يمتنعون من التطرق في ذلك الموضع بعد فعلهم
وبدون السبب لا يثبت الحكم ولأن السبب محاربة
الله ورسوله وذلك إنما يتحقق في المفازة لأن
المسافر في المفازة لا يلحقه الغوث عادة وإنما
يسير في حفظ الله تعالى معتمدا على ذلك فمن
يتعرض له يكون محاربا لله تعالى فأما في المصر
وفيما بين القرى يلحقه الغوث من السلطان
والناس عادة وهو يعتمد ذلك بالتطرق في هذه
المواضع فيتمكن باعتباره معنى النقصان في فعل
من يتعرض له من حيث محاربة الله تعالى ورسوله
صلى الله عليه وسلم فلا يقام عليه الحد وهو
نظير المختلس من السارق في أنه لا يقام عليه
حد السرقة لأنه بقدر ما جاهر يتمكن النقصان في
فعل السرقة وقد قال بعض المتأخرين إن أبا
حنيفة رحمه الله تعالى أجاب بذلك بناء على
عادة أهل زمانه فإن الناس في المصر وفيما بين
القرى كانوا يحملون السلاح مع أنفسهم فثبت مع
ذلك تمكن دفع القاصد من قطع الطريق وأخذ المال
والحكم لا ينبني على نادر وكذلك فيما بين
الحيرة والكوفة كان يندر ذلك لكثرة العمران
واتصال عمران أحد الموضعين بالموضع الآخر فأما
اليوم فقد ترك الناس هذه العادة وهي حمل
السلاح في الأمصار فيتحقق قطع الطريق في
الأمصار وفيما بين القرى موجبا للحد وعن أبي
يوسف رحمه الله تعالى قال إن قصده في جوف
المصر أو بين القرى بالسلاح يقام عليه حد قطاع
الطريق وإن قصده بالحجر والخشب فإن كان ذلك
بالنهار لا يقام عليه حد قطاع الطريق وإن كان
بالليل يقام عليه ذلك لأن السلاح لا يلبث
والظاهر أنه يأتي عليه قبل أن يلحقه الغوث
فأما الخشب والحجر لا يكون مثل السلاح في ذلك
والظاهر أن الغوث يلحقه بالنهار في المصر قبل
أن يأتي عليه ذلك فأما في الليل الغوث يبطئ
فإلى أن ينتبه الناس ويخرجوا قد أتى عليه
فلهذا ثبت في حقه حكم قطع الطريق.
قال وإن بيتوا على مسافرين في
منازلهم في غير مصر ولا في مدينة فكابروهم
وأخذوا المال فالحكم فيهم كالحكم في الذين
قطعوا الطريق لأن السبب قد تحقق منهم وهو
المحاربة وقطع الطريق إذ لا فرق في ذلك بين أن
يفعلوا في مشيهم أو في حال نزولهم لأنهم في
حفظ الله تعالى في الحالين فإنما يتمكن هؤلاء
منهم لمنعتهم وشوكتهم في الحالين فإن نزل
ج / 9 ص -172-
المسافرون منزلا في قرية ففعلوا ذلك بهم لم
يلزمهم حد قطاع الطريق لأن الذين نزلوا القرية
بمنزلة أهل القرية في أن بعضهم يغيث البعض فلا
يتحقق قطع الطريق بما فعل بهم وكذلك إن أغار
بعض النازلين في القرية على البعض فقتلوا
وأخذوا المال فالحكم فيهم كالحكم في الذي فعل
ذلك في جوف المصر قان نزل رجل في بيت أو في
فسطاط فأغلق عليه بابه وضم إليه متاعه فجاء
رجل وسرق من فسطاطه أو بيته شيئا فالحكم فيه
ما هو الحكم في السارق في المصر.
قال وما قتل به قطاع الطريق
من حديد أو حجر أو عصى أو سوط فهذا كله سواء
لأن هذا حكم ينبني على المحاربة فيكون بمنزلة
استحقاق السهم بالغنيمة وثبوت صفة الشهادة فلا
يفترق الحال في ذلك بين القتل بالسلاح وغيره
فهذا مثله بخلاف القصاص فإنه يعتمد العمدية
والمماثلة وذلك يختلف بالسلاح وغيره.
قال وإذا أخذ قاطع الطريق
ويده اليسرى شلاء أو مقطوعة لم يقطع منه شيء
وقتل أو صلب لما بينا في السرقة الصغرى أنه
لا يستوفي القطع على وجه يؤدي إلى تفويت منفعة
الجنس وقد طعن عيسى في هذا الفصل وقال اعتبار
ذلك المعنى في السرقة للتحرز عن الاستهلاك
الحكمي أو شبهة الاستهلاك ولا معنى لذلك ها
هنا فإن إتلافه حقيقة قد صار مستحقا لأنه يقتل
ويصلب بعد القطع فكيف يمنع استيفاء القطع لشلل
في يده اليسرى ولكنا نقول مع هذا القطع جزاء
أخذ المال فلا يستوفي على وجه يكون متلفا له
حكما ألا ترى أنه لم يشرع قطع عضوين منه من شق
واحد للتحرز عن الإتلاف الحكمي وإنما يشرع قطع
اليد والرجل من خلاف لكي لا يؤدي إلى الإتلاف
حكما وهذا لأنه لا يستحق إتلافه مرتين فإذا
كان تفويت منفعة الجنس إتلافا ثم قتله كان
إتلافا مرتين
وإن كانت اليمنى منه مقطوعة قطعت الرجل اليسرى
وقتل أو صلب وإن كان أشل اليمنى قطعها مع
الرجل اليسرى وقد بينا نظيره في السرقة فكذلك
في قطع الطريق.
قال وإن كان في المقطوع عليهم
الطريق ذو رحم محرم من القطاع أو شريك له
مفاوض لم يلزمهم حكم القطع لأنه امتنع وجوب
القطع على ذي الرحم المحرم للشبهة فيمتنع
وجوبه على الباقين للشركة وقد بينا ذلك في
السرقة فكذلك في قطع الطريق وكان الشيخ أبو
بكر الرازي رحمه الله تعالى يقول تأويل
المسألة إذا كان في المال المأخوذ لذي الرحم
المحرم شركة للجميع وللشريك المفاوض لأن مال
ذي الرحم المحرم في حكم العقوبة كماله فشركته
بمنزلة شركة أحد قطاع الطريق في المال المأخوذ
فأما إذا أخذوا مع ذلك مالا كثيرا لا شركة فيه
لذي الرحم المحرم منه يلزمهم القطاع باعتبار
ذلك المال كما لو سرقوا من حرز ذي الرحم
المحرم من أحدهم مالا ومن حرز أجنبي آخر مالا
بخلاف ما إذا سرقوا من حرز ذي الرحم المحرم من
أحدهم ماله ومال غيره لأن الشبهة هناك في
الحرز ولا معتبر بالحرز في
ج / 9 ص -173-
قطع
الطريق فكل واحد حافظ لماله محرز له والأصح أن
الجواب في الكل واحد لأن مال جميع القافلة في
حق قطاع الطريق كشيء واحد فإنهم قصدوا أخذ ذلك
كله بفعل واحد فإذا تمكنت الشبهة في بعض ذلك
المال في حقهم فقد تمكنت الشبهة في جميعه
بخلاف السرقة من حرز ثم من حرز لأن كل واحد من
الفعلين هناك منفصل عن الآخر حقيقة وحكما
ووزان هذا من ذلك أن لو قطعوا الطريق على قوم
فيهم ذو الرحم المحرم من أحدهم ثم قطعوا
الطريق على قوم أجانب وأخذوا المال وهذا في
حكم القطع دون القتل حتى لو قتلوا أحدهم
يقتلون لأن المحرم كالأجنبي في القتل.
قال وإذا شهد أحد الشاهدين
عليهم بمعاينة قطع الطريق وشهد الآخر على
إقرارهم بالقطع لم تجز الشهادة لاختلاف
المشهود به لأن الفعل غير القول وإن قال
الشاهدان قطع الطريق علينا وعلى أصحابنا هو
وأصحابه وأخذوا المال منا لم تجز شهادتهما
لأنهما يشهدان لأنفسهما وشهادة المرء لنفسه
دعوى وكذلك إن شهدا أنه قطع الطريق على
والدهما أو ولدهما لم تجز شهادتهما لأنهما
يشهدان لأبيهما وهذا لأن الحد وإن كان
استيفاؤه إلى الإمام فلا بد من خصومة صاحب
المال وفيما كان الخصم أب الشاهد أو بن الشاهد
لا شهادة له ولأن شهادته لأبيه كشهادته لنفسه
وإن شهدوا أنه قطع الطريق على رجل من عرض
الناس له ولى يعرف أو ليس له ولى يعرف لم يقم
الإمام عليهم الحد إلا بمحضر من الخصم لما
بينا أن السبب لا يثبت بالشهادة عنده إلا إذا
ترتبت على خصومة الخصم.
قال فإن قطعوا الطريق في دار
الحرب على تجار مستأمنين أو في دار الإسلام في
موضع قد غلب عليه عسكر أهل البغي ثم أتى بهم
إلى الإمام لم يمض عليهم الحد لأنهم باشروا
السبب حين لم يكونوا تحت يد الإمام وفي موضع
لا يجري فيه حكمه وقد بينا أن ذلك مانع من
وجوب الحد حقا لله تعالى لانعدام المستوفي فإن
استيفاء ذلك إلى الإمام ولا يتمكن من
الاستيفاء إذا كانوا في موضع لا تصل إليهم
يده.
قال وإذا رفع قوم من قطاع
الطريق إلى القاضي فرأى تضمينهم المال وسلمهم
إلى أولياء القود فصالحوهم على الديات ثم
رفعوا بعد زمان إلى قاض آخر لم يقم عليهم
الحد إما لتقادم العهد أو لانعدام الخصم وقد
سقطت خصومتهم بما وصل إليهم أو لقضاء الأول
فيهم بما قضى فإن ذلك نافذ لحصوله في موضع
الاجتهاد ومن العلماء من يقول يتقرر الضمان
عليهم ووجوب القود بالقتل وإن كان متحتما
وقضاء القاضي في المجتهدات نافذ.
قال وإذا قضى القاضي على قطاع
الطريق بقطع الأيدي والأرجل والقتل وحبسوا
لذلك فذهب رجل بغير إذن الإمام فقتل منهم رجلا
لم يكن عليه شيء لأن الإمام أحل دمهم حين قضى
عليهم بالقتل ومن قتل حلال الدم لا شيء عليه
كمن قتل مرتدا أو مقضيا عليه بالرجم وكذلك لو
قطع يده لأنه لما سقطت حرمة نفسه اقتضى ذلك
سقوط حرمة أطرافه
ج / 9 ص -174-
ضرورة
ويتم بقية الحد لأن ما فعله ذلك الرجل من
إقامة الحد وإن افتات فيه على رأي الإمام
ففعله في ذلك كفعل الإمام لأنه رجل من
المسلمين والإمام بمنزلة جماعة من المسلمين في
استيفاء هذا الحد وإن أخطأ الإمام حين قدم
إليه فقطع يده اليسرى فلا شيء عليه لأن دمه
حلال فإنه يقتله بعد القطع فلا عصمة في طرفه
ولأنه مجتهد فيما صنع وقد بينا نظيره في
الحداد.
قال وإذا أقر القاطع بقطع
الطريق مرة واحدة أخذ بالحد إلا على قول أبي
يوسف رحمه الله تعالى كما في السرقة وإن أنكره
بعد ذلك درئ عنه الحد لرجوعه عن الإقرار وأخذ
بالمال والقود لأن رجوعه عن الإقرار فيما هو
حق العبد باطل.
قال وإذا قطع الطريق وأخذ
المال ثم ترك ذلك وأقام في أهله زمانا لم يقم
الإمام عليه الحد استحسانا وفي القياس يقام
عليه لأن الحد لزمه بارتكاب سببه ولكن استحسن
لتوبته وتحوله عن تلك الحالة قبل أن يقدر عليه
والأصل فيه ما روى أن الحارث بن زيد قطع
الطريق ثم ترك ذلك وتاب فكتب علي بن أبي طالب
رضي الله تعالى عنه إلى عامله بالبصرة أن
الحارث بن زيد كان من قطاع الطريق وقد ترك
وتحول عنه فلا تعرض له إلا بخير.
قال وإذا قطعوا الطريق على
قوم من أهل الحرب مستأمنين في دار الإسلام لم
يلزمهم الحد لما بينا أن السبب المبيح في مال
المستأمن قائم وهو كون مالكه حربيا وإن تأخر
ذلك إلى رجوعه إلى دار الحرب ولكنهم يضمنون
المال ودية القتلى لبقاء الشبهة في دم
المستأمن بكونه متمكنا من الرجوع إلى دار
الحرب وهذا مسقط للعقوبة ولكنه غير مانع من
وجوب الضمان الذي يثبت مع الشبهة لقيام العصمة
في الحال ولكن يوجعون عقوبة لتخويفهم الناس
بقطع الطريق كما إذا لم يصيبوا مالا ولا نفسا.
قال وإذا قطعوا الطريق على
قافلة عظيمة فيها مسلمون ومستأمنون أقيم عليهم
الحد إلا أن يكون القتل وأخذ المال وقع على
أهل الحرب خاصة فحينئذ لا يجب الحد كما لو لم
يكن معهم غيرهم فأما إذا وقع القتل وأخذ المال
على المسلمين وأهل الحرب يقام عليهم الحد كما
لو لم يكن أهل الحرب معهم وهذا بخلاف ما إذا
كان في القافلة ذو رحم محرم من أحدهم لما
بينا أن مال ذي الرحم في حقه في حكم الحد
كماله فيمكن ذلك شبهة في فعلهم فأما مال
المستأمنين ليس كما له وإنما لم يكن أخذ مال
المستأمنين موجبا للعقوبة عليه لبقاء شبهة
الإباحة في ماله وذلك غير موجود في حق
المسلمين وأهل الذمة فيقام عليهم الحد باعتبار
نفوس المسلمين وما لهم ويجعل كأنهم لم يتعرضوا
للمستأمنين بشيء.
قال وإذا أحرم قاطع الطريق
حين يأتي به الإمام لم يدرأ عنه الحد بذلك
لأن إحرامه لو اقترن بالسبب لم يمنع وجوب الحد
عليه فكذلك إذا اعترض وكذلك لو كان ذميا فأسلم
وهذا
ج / 9 ص -175-
الحد
معتبر بسائر الحدود حكما وكما أن إحرامه
وإسلامه لا يمنع إقامة سائر الحدود فكذلك هذا
الحد.
قال وإذا قتله رجل في حبس
الإمام قبل أن يثبت عليه شيء ثم قامت البينة
بما صنع فعلى قاتله القود لأن العصمة والتقوم
لا يرتفع بمجرد التهمة ما لم يقض القاضي بحل
دمه فإنما قتل نفسا محقونة فعليه القود ثم
القاضي لا يقضي عليه بحل دمه بعد ما قتل لفوات
المحل فوجود هذه البينة كعدمها إلا أن يكون
القاتل هو ولي المقتول الذي قتله هذا في قطع
الطريق فحينئذ لا يلزمه شيء لأنه استوفى حق
نفسه على ما بينا أن السبب الموجب للقود قد
تقرر وإنما يمتنع ظهوره إذا ظهر استحقاق نفسه
حدا ولم يظهر ذلك قبل إقامة البينة عليه فكان
الولي مستوفيا حقه فلا يلزمه شيء. والله أعلم. |