المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 10 ص -119-    بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الاستحسان
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد الأستاذ شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي كان شيخنا الإمام يقول الاستحسان ترك القياس والأخذ بما هو أوفق للناس وقيل الاستحسان طلب السهولة في الأحكام فيما يبتلى فيه الخاص والعام وقيل الأخذ بالسعة وابتغاء الدعة وقيل الأخذ بالسماحة وابتغاء ما فيه الراحة وحاصل هذه العبارات أنه ترك العسر لليسر وهو أصل في الدين قال الله تعالى
{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] وقال صلى الله عليه وسلم "خير دينكم اليسر" وقال لعلي ومعاذ رضي الله تعالى عنهما حين وجههما إلي اليمن "يسرا ولا تعسرا قربا ولا تنفرا" وقال صلى الله عليه وسلم "ألا أن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تبغضوا عباد الله عبادة الله فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى" والقياس والاستحسان في الحقيقة قياسان أحدهما جلي ضعيف أثره فسمي قياسا والآخر خفي قوي أثره فسمي استحسانا أي قياسا مستحسنا فالترجيح بالأثر لا بالخفاء والظهور كالدنيا مع العقبي فإن الدنيا ظاهرة والعقبي باطنة وترجحت بالصفاء والخلود وقد يقوى أثر القياس في بعض الفصول فيؤخذ به وهو نظير الاستدلال مع الطرد فإنه صحيح والاستدلال بالمؤثر أقوى منه والأصل فيه قوله تعالى {فَبَشِّرْ عِبَادِ*الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [ الزمر:  17، 18] والقرآن كله حسن ثم أمر باتباع الأحسن وبيان هذا أن المرأة من قرنها إلى قدمها عورة هو القياس الظاهر وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "المرأة عورة مستورة" ثم أبيح النظر إلى بعض المواضع منها للحاجة والضرورة فكان ذلك استحسانا لكونه أرفق بالناس كما قلنا: والكرخي رحمه الله تعالى في كتابه ذكر مسائل هذا الكتاب وسماه كتاب الحظر والإباحة لما فيه من بيان ما يحل ويحرم من المس والنظر ولو سماه كتاب الزهد والورع كان مستقيما لأنه بين فيه غض البصر وما يحل ويحرم من المس والنظر وهذا هو الزهد والورع ثم بدأ الكتاب بمسائل النظر وهو ينقسم أربعة أقسام نظر الرجل إلى الرجل ونظر المرأة إلى المرأة والمرأة إلى الرجل والرجل إلى المرأة أما بيان القسم الأول فإنه يجوز للرجل أن ينظر إلى الرجل إلا إلى عورته وعورته ما بين سرته حتى يجاوز ركبتيه لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته" وفي رواية ما دون سرته حتى يجاوز ركبته وبهذا تبين أن السرة ليست من العورة بخلاف ما

 

ج / 10 ص -120-    يقوله أبو عصمة سعد بن معاذ أنه أحد حدي العورة فيكون من العورة كالركبة بل هو أولى لأنه في معنى الاشتهاء فوق الركبة.
وحجتنا في ذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان إذا اتزر أبدى عن سرته وقال أبو هريرة للحسن رضي الله عنهما أرنى الموضع الذي كان يقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم منك فأبدي عن سرته فقبلها أبو هريرة رضي الله عنه والتعامل الظاهر فيما بين الناس أنهم إذا اتزروا في الحمامات أبدوا عن السرة من غير نكير منكر دليل على أنه ليس بعورة فأما ما دون السرة عورة في ظاهر الرواية للحديث الذي روينا وكان أبو بكر محمد بن الفضل رحمه الله تعالى يقول إلى موضع نبات الشعر ليس من العورة أيضا لتعامل العمال في الإبداء عن ذلك الموضع عند الاتزار وفي النزع عن العادة الظاهرة نوع حرج وهذا بعيد لأن التعامل بخلاف النص لا يعتبر وإنما يعتبر فيما لا نص فيه فأما الفخذ عورة عندنا وأصحاب الظواهر يقولون العورة من الرجل موضع السرة وأما الفخذ ليس بعورة لقوله تعالى
{بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف: 22] والمراد منه العورة وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حائط رجل من الأنصار وقد دلى ركبته في ركية وهو مكشوف الفخذ إذ دخل أبو بكر رضي الله عنه فلم يتزحزح ثم دخل عمر رضي الله عنه فلم يتزحزح ثم دخل عثمان رضي الله عنه فتزحزح وغطى فخذه فقيل له في ذلك فقال "ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة" فلو كان الفخذ من العورة لما كشفه بين يدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
وحجتنا في ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل يقال له جرهد وهو يصلى مكشوف الفخذ فقال له عليه الصلاة والسلام "
وار فخذك أما علمت أن الفخذ عورة" وحديث عمرو بن شعيب رضي الله عنه نص فيه فأما الحديث الذي رواه فقد ذكر في بعض الروايات أنه كان مكشوف الركبة ثم تأويله أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما حين دخلا جلسا في موضع لم يقع بصرهما على الموضع الذي كان مكشوفا منه فلما دخل عثمان رضي الله عنه لم يبق إلا موضع لو جلس فيه وقع بصره على ركبته فلهذا غطاه فأما الآية فالمراد بالسوأة العورة الغليظة وبه نقول أن العورة الغليظة هي السوأة ولكن حكم العورة ثبت فيما حول السوأتين باعتبار القرب من موضع العورة فيكون حكم العورة فيه أخف فأما الركبة فهي من العورة عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى ليست من العورة لحديث انس رضي الله عنه ما أبدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركبته بين يدي جليس قط وإنما قصد بهذا ذكر الشمائل فلو كانت الركبة من العورة لم يكن هذا من جملة الشمائل لأن ستر العورة فرض ولأنه حد العورة فلا يكون من العورة كالسرة وهذا لأن الحد لا يدخل في المحدود.
وحجتنا في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
الركبة من العورة وما ذكر في حديث عمرو بن شعيب حتى تجاوز الركبة دليل على أن الركبة من العورة ولأن

 

ج / 10 ص -121-    الركبة ملتقى عظم الساق والفخذ وعظم الفخذ عورة وعظم الساق ليس بعورة فقد اجتمع في الركبة المعنى الموجب لكونها عورة وكونها غير عورة فترجح الموجب لكونها عورة احتياطا قال صلى الله عليه وسلم "ما اجتمع الحلال والحرام في شيء إلا غلب الحرام الحلال" فأما حديث أنس رضي الله عنه فالمروي ما مد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجليه بين يدي جليس قط وهذا من الشمائل وإبداء الركبة على ما ذكر في بعض الروايات كناية عن هذا المعنى أيضا ثم حكم العورة في الركبة أخف منه في الفخذ لتعارض المعنيين فيه ولهذا قلنا: من رأى غيره مكشوف الركبة ينكر عليه برفق ولا ينازع عليه إن لج وإن رآه مكشوف الفخذ أنكر عليه بعنف ولا يضربه إن لج وإن رآه مكشوف العورة أمره بسترها وأدبه على ذلك إن لج وما يباح إليه النظر من الرجل فكذلك المس لأن ما ليس بعورة يجوز مسه كما يجوز النظر إليه فأما نظر المرأة إلى المرأة فهو كنظر الرجل إلى الرجل باعتبار المجانسة ألا ترى أن المرأة تغسل المرأة بعد موتها كما يغسل الرجل الرجل وقد قال بعض الناس نظر المرأة إلى المرأة كنظر الرجل إلى ذوات محارمه حتى لا يباح لها النظر إلى ظهرها وبطنها لحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء من دخول الحمامات بمئزر وبغير مئزر وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول امنعوا النساء من دخول الحمامات إلا مريضة أو نفساء ولتدخل مستترة ولكنا نقول المراد منع النساء من الخروج وبالقرار في البيوت وبه نقول والعرف الظاهر في جميع البلدان ببناء الحمامات للنساء وتمكينهن من دخول الحمامات دليل على صحة ما قلنا: وحاجة النساء إلى دخول الحمامات فوق حاجة الرجال لأن المقصود تحصيل الزينة والمرأة إلى هذا أحوج من الرجل ويتمكن الرجل من الاغتسال في الأنهار والحياض والمرأة لا تتمكن من ذلك فأما نظر المرأة إلى الرجل فهو كنظر الرجل إلى الرجل لما بينا أن السرة وما فوقها وما تحت الركبة ليس بعورة من الرجل وما لا يكون عورة فالنظر إليه مباح للرجال والنساء كالثياب وغيرها وأشار في كتاب الخنثي إلى أن نظر المرأة إلى الرجل كنظر الرجل إلى ذوات محارمه حتى لا يباح لها أن تنظر إلى ظهره وبطنه لأنه قال الخنثي ألا ينكشف بين الرجال ولا بين النساء ووجه ذلك أن حكم النظر عند اختلاف الجنس غلظ ألا ترى أنه لا يباح للمرأة أن تغسل الرجل بعد موته ولو كانت هي في النظر كالرجل لجاز لها أن تغسله بعد موته وإنما يباح النظر إلى هذه المواضع إذا علم أنه لا يشتهي إن نظر ولا يشك في ذلك فأما إذا كان يعلم أنه يشتهي أو كان على ذلك أكبر رأيه فلا يحل له النظر لأن النظر عن شهوة نوع زنا قال صلى الله عليه وسلم "العينان تزنيان وزناهما النظر واليدان تزنيان وزناهما البطش والرجلان تزنيان وزناهما المشى والفرج يصدق ذلك كله أو يكذب" والزنا حرام بجميع أنواعه وقال صلى الله عليه وسلم "النظر عن شهوة سهم من سهام الشيطان" فأما نظر الرجل إلى المرأة فهو ينقسم إلى أربعة أقسام نظره إلى زوجته ومملوكته ونظره إلى ذوات محارمه ونظره إلى إماء الغير ونظره إلى الحرة

 

ج / 10 ص -122-    الأجنبية فأما نظره إلى زوجته ومملوكته فهو حلال من قرنها إلى قدمها عن شهوة أو عن غير شهوة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال غض بصرك إلا عن زوجتك وأمتك وقالت عائشة رضي الله عنها كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وكنت أقول بق لي وهو يقول بقي لي ولو لم يكن النظر مباحا ما تجرد كل واحد منهما بين يدي صاحبه ولأن ما فوق النظر وهو المس والغشيان حلال بينهما قال تعالى  {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ*إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5، 6] الآية إلا أن مع هذا الأولى أن لا ينظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه لحديث عائشة رضي الله عنها قالت ما رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا رأي مني مع طول صحبتي إياه وقال صلى الله عليه وسلم "إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ما استطاع ولا يتجردان تجرد العير" ولأن النظر إلى العورة يورث النسيان وفي شمائل الصديق رضي الله عنه ما نظر إلى عورته قط ولا مسها بيمينه فإذا كان هذا في عورة نفسه فما ظنك في عورة الغير وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يقول الأولى أن ينظر ليكون أبلغ في تحصيل معنى اللذة فأما نظره إلى ذوات محارمه فنقول يباح له أن ينظر إلى موضع الزينة الظاهرة والباطنة لقوله تعالى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] الآية ولم يرد به عين الزينة فإنها تباع في الأسواق ويراها الأجانب ولكن المراد منه موضع الزينة وهي الرأس والشعر والعنق والصدر والعضد والساعد والكف والساق والرجل والوجه فالرأس موضع التاج والإكليل والشعر موضع القصاص والعنق موضع القلادة والصدر كذلك فالقلادة والوشاح قد ينتهي إلى الصدر والأذن موضع القرط والعضد موضع الدملوج والساعد موضع السوار والكف موضع الخاتم والخضاب والساق موضع الخلخال والقدم موضع الخضاب وجاء في الحديث أن الحسن والحسين رضي الله عنهما دخلا على أم كلثوم وهي تمتشط فلم تستتر ولأن المحارم يدخل بعضهم على بعض من غير استئذان ولا حشمة والمرأة في بيتها تكون في ثياب مهنتها عادة ولا تكون مستترة فلو أمرها بالتستر من ذوي محارمها أدي إلى الحرج وكما يباح النظر إلى هذه المواضع يباح المس لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل فاطمة رضي الله عنها ويقول "أجد منها ريح الجنة" وكان إذا قدم من سفر بدأ بها فعانقها وقبل رأسها وقبل أبو بكر رأس عائشة رضي الله عنهما وقال صلى الله عليه وسلم "من قبل رجل أمه فكأنما قبل عتبة الجنة" وقال محمد بن المنكدر رحمه الله بت أغمز رجل أمي وبات أخي أبو بكر يصلى وما أحب أن تكون ليلتي بليلته ولكن إنما يباح المس والنظر إذا كان يأمن الشهوة على نفسه وعليها فأما إذا كان يخاف الشهوة على نفسه أو عليها فلا يحل له ذلك لما بينا أن النظر عن شهوة والمس عن شهوة نوع زنا وحرمة الزنى بذوات المحارم أغلظ وكما لا يحل له أن يعرض نفسه للحرام لا يحل له أن يعرضها للحرام فإذا كان يخاف عليها فليجتنب ذلك ولا يحل له أن ينظر إلى ظهرها وبطنها ولا أن يمس ذلك منها.

 

ج / 10 ص -123-    وقال الشافعي رحمه الله في القديم لا بأس بذلك وجعل حالهما كحال الجنس في النظر وهذا ليس بصحيح فإن حكم الظهار ثابت بالنص وصورته أن يقول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي وهو منكر من القول لما فيه من تشبيه المحللة بالمحرمة فلو كان النظر إلى ظهر الأم حلالا له لكان هذا تشبيه محللة بمحللة وإذا ثبت هذا في الظهر يثبت في البطن لأنه أقرب إلى المأتي وإلى أن يكون مشتهي منها والجنبان كذلك وذوات المحارم بالنسب كالأمهات والجدات والأخوات وبنات الأخ وبنات الأخت وكل امرأة هي محرمة عليه بالقرابة على التأبيد فهذا الحكم ثابت في حقها وكذلك المحرمة بالرضاع لقوله صلى الله عليه وسلم "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" ولحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت يا رسول الله إن أفلح بن أبي قعيس يدخل علي وأنا في ثياب فضل فقال "ليلج عليك أفلح فإنه عمك من الرضاعة" وإن عبد الله بن الزبير كان يدخل على زينب بنت أم سلمة وهي تمتشط فيأخذ بقرون رأسها ويقول أقبلي علي وكانت أخته من الرضاعة ولأن الرضاع لما جعل كالنسب في حكم الحرمة فكذلك في حل المس والنظر وكذلك المحرمة بالمصاهرة لأن الله تعالى سوى بينهما بقوله {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} [الفرقان: 54] إلا أن مشايخنا رحمهم الله تعالى يختلفون فيما إذا كان ثبوت حرمة المصاهرة بالزنى فقال بعضهم لا يثبت به حل المس والنظر لأن ثبوت الحرمة بطريق العقوبة على الزاني لا بطريق النعمة ولأنه قد جرب مرة فظهرت خيانته فلا يؤمن ثانيا والأصح أنه لا بأس بذلك لأنها محرمة عليه على التأبيد فلا بأس بالنظر إلى محاسنها كما لو كان ثبوت حرمة المصاهرة بالنكاح ولا يجوز أن يقال ثبوت الحرمة بطريق العقوبة هناك لأنا إنما نثبت الحرمة هناك بالقياس على النكاح فإذا جعلناها بطريق العقوبة لم تكن تلك الحرمة وإثبات الحرمة ابتداء بالرأي لا يجوز ثم يحل له أن يخلو بهؤلاء وأن يسافر بهن لقوله صلى الله عليه وسلم "ألا لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بسبيل فإن ثالثهما الشيطان" معناه ليست بمحرم له فدل أنه يباح له أن يخلو بذوات محارمه ولكن بشرط أن يأمن على نفسه وعليها لما روي عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه خرج من بيته مذعورا فسئل عن ذلك فقال خلوت بابنتي فخشيت على نفسي فخرجت وكذلك المسافرة لقوله صلى الله عليه وسلم "لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام ولياليها إلا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها" فدل أنه لا بأس بأن تسافر مع المحرم وإن احتاج إلى أن يعالجها في الإركاب والإنزال فلا بأس بأن يمسها وراء ثيابها ويأخذ بظهرها وبطنها لما روي أن محمد بن أبي بكر رضي الله عنهما أدخل يده في هودج عائشة رضي الله عنها ليأخذها من الهودج فوقعت يده على صدرها فقالت من الذي وضع يده على موضع لم يضعه أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أنا أخوك وروى أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أمي كانت سيئة الخلق فغضب وقال "أكانت سيئة الخلق حين حملتك أكانت سيئة الخلق حين أرضعتك حولين" الحديث إلى أن قال الرجل أرأيت لو

 

ج / 10 ص -124-    حملتها على عاتقي وحججت بها أكنت قاضيا حقها فقال لا ولا طلقة ورأى ابن عمر رضي الله عنه في موضع الطواف رجلا قد حمل أمه على عاتقه يطوف بها فلما رأى ابن عمر رضي الله عنهما ارتجز فقال:

أنا لهـا بعـيرها الـمذلـل                        إذا الركاب ذعرت لم أذعـر

حملتها ما حملتـــني أكثر                    فهل ترى جازيتها يا بن عمر؟

فقال لا ولا طلقة يالكع ولأن بسبب الستر ينعدم معنى العورة وبالمحرمية ينعدم معنى الشهوة فلا بأس بحملها ومسها في الإركاب والإنزال كما في حق الجنس وأما النظر إلى إماء الغير والمدبرات وأمهات الأولاد والمكاتبات فهو كنظر الرجل إلى ذوات محارمه لقوله تعالى {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب: 59] الآية وقد كانت الممازحة مع إماء الغير عادة في العرب فأمر الله تعالى الحرائر باتخاذ الجلباب ليعرفن به من الإماء فدل أن الإماء لا تتخذ الجلباب وكان عمر رضي الله عنه إذا رأي أمة متقنعة علاها بالدرة وقال ألقي عنك الخمار يا دفار وقال عمر رضي الله عنه إن الأمة ألقت قرونها من وراء الجدار أي لا تتقنع قال أنس رضي الله عنه كن جواري عمر رضي الله عنه يخدمن الضيفان كاشفات الرءوس مضطربات البدن ولأن الأمة تحتاج إلى الخروج لحوائج مولاها وإنما تخرج في ثياب مهنتها وحالها مع جميع الرجال في معنى البلوى بالنظر والمس كحال الرجل في ذوات محارمه ولا يحل له أن ينظر إلى ظهرها وبطنها كما في حق ذوات المحارم وكان محمد بن مقاتل الرازي يقول لا ينظر إلى ما بين سرتها إلى ركبتها ولا بأس بالنظر إلى ما وراء ذلك لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث طويل قال ومن أراد أن يشتري جارية فلينظر إليها إلا إلى موضع المئزر ولكن تأويل هذا الحديث عندنا أن المرأة قد تتزر على الصدر فهو مراد ابن عباس رضي الله عنه وكل ما يباح النظر إليه منها يباح مسه منها إذا أمن الشهوة على نفسه وعليها لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه مر بجارية تباع فضرب في صدرها ومس ذراعها ثم قال اشتروا فإنها رخيصة فهذا ونحوه لا بأس به لمن يريد الشراء أو لا يريد وهذا لأنه بمنزلة ذوات المحارم في حكم المس ولأنه كما يحتاج إلى النظر يحتاج إلى المس ليعرف لين بشرتها فيرغب في شرائها وتحل الخلوة والمسافرة بينهما كما في ذوات المحارم إلا أن عند بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى ليس له أن يعالجها في الإركاب والإنزال لأن معنى العورة وإن انعدم بالستر فمعنى الشهوة باق فيها فإنها ممن يحل له والأصح أنه لا بأس بذلك إذا أمن الشهوة على نفسه وعليها لأن المولى قد يبعثها في حاجته من بلد إلى بلد ولا تجد محرما ليسافر معها وهي تحتاج إلى من يركبها وينزلها فلا بأس بذلك وكذلك لا بأس بأن يخلو بها كالمحارم ألا ترى أن جارية المرأة قد تغمز رجل زوجها وتخلو به ولا يمتنع أحد من ذلك والمدبرة وأم الولد والمكاتبة في هذا كالأمة القنة لقيام الرق فيهن والمستسعاة

 

ج / 10 ص -125-    في بعض القيمة كذلك عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لأنها بمنزلة المكاتب وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى إذا بلغت الأمة لم ينبغ أن تعرض في إزار واحد قال محمد وكذلك إذا بلغت أن تجامع وتشتهي لأن الظهر والبطن منها عورة لمعنى الاشتهاء فإذا صارت مشتهاة كانت كالبالغة لا تعرض في إزار واحد فأما النظر إلى الأجنبيات فنقول يباح النظر إلى موضع الزينة الظاهرة منهن دون الباطنة لقوله تعالى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] وقال علي وابن عباس رضي الله عنهم ما ظهر منها الكحل والخاتم وقالت عائشة رضي الله عنها إحدى عينيها وقال ابن مسعود رضي الله عنه خفها وملاءتها واستدل في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم "النساء حبائل الشيطان بهن يصيد الرجال" وقال صلى الله عليه وسلم "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" وجرى في مجلسه صلى الله عليه وسلم يوم ما خير ما للرجال من النساء وما خير ما للنساء من الرجال فلما رجع علي رضي الله عنه إلى بيته أخبر فاطمة رضي الله عنها بذلك فقالت خير ما للرجال من النساء أن لا يراهن وخير ما للنساء من الرجال أن لا يرينهن فلما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك قال "هي بضعة مني" فدل أنه لا يباح النظر إلى شيء من بدنها ولأن حرمة النظر لخوف الفتنة وعامة محاسنها في وجهها فخوف الفتنة في النظر إلى وجهها أكثر منه إلى سائر الأعضاء وبنحو هذا تستدل عائشة رضي الله تعالى عنها ولكنها تقول هي لا تجد بدا من أن تمشى في الطريق فلا بد من أن تفتح عينها لتبصر الطريق فيجوز لها أن تكشف إحدى عينيها لهذه الضرورة والثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة ولكنا نأخذ بقول علي وابن عباس رضي الله تعالى عنهما فقد جاءت الأخبار في الرخصة بالنظر إلى وجهها وكفها من ذلك ما روي أن امرأة عرضت نفسها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر إلى وجهها فلم ير فيها رغبة ولما قال عمر رضي الله عنه في خطبته ألا لا تغالوا في أصدقة النساء فقالت امرأة سفعاء الخدين أنت تقوله برأيك أم سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا نجد في كتاب الله تعالى بخلاف ما تقول قال الله تعالى {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] فبقي عمر رضي الله عنه باهتا وقال كل الناس أفقه من عمر حتى النساء في البيوت فذكر الراوي أنها كانت سفعاء الخدين وفي هذا بيان أنها كانت مسفرة عن وجهها ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة غير مخضوب فقال أكف رجل هذا ولما ناولت فاطمة رضي الله عنها أحد ولديها بلالا أو أنسا رضي الله عنهم قال أنس رأيت كفها كأنه فلقة قمر فدل أنه لا بأس بالنظر إلى الوجه والكف فالوجه موضع الكحل والكف موضع الخاتم والخضاب وهو معنى قوله تعالى {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] وخوف الفتنة قد يكون بالنظر إلى ثيابها أيضا قال القائل:

وما غرني إلا خضاب بكفها                     وكحل بعينيها وأثوابها الصفر

ثم لا شك أنه يباح النظر إلى ثيابها ولا يعتبر خوف الفتنة في ذلك فكذلك إلى وجهها،

 

ج / 10 ص -126-    وكفها وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه يباح النظر إلى قدمها أيضا وهكذا ذكر الطحاوي لأنها كما تبتلى بإبداء وجهها في المعاملة مع الرجال وبإبداء كفها في الأخذ والإعطاء تبتلى بإبداء قدميها إذا مشت حافية أو متنعلة وربما لا تجد الخف في كل وقت وذكر في جامع البرامكة عن أبي يوسف أنه يباح النظر إلى ذراعيها أيضا لأنها في الخبز وغسل الثياب تبتلى بإبداء ذراعيها أيضا قيل وكذلك يباح النظر إلى ثناياها أيضا لأن ذلك يبدو منها في التحدث مع الرجال وهذا كله إذا لم يكن النظر عن شهوة فإن كان يعلم أنه إن نظر اشتهى لم يحل له النظر إلى شيء منها لقوله صلى الله عليه وسلم "من نظر إلى محاسن أجنبية عن شهوة صب في عينيه الآنك يوم القيامة" وقال لعلي رضي الله عنه "لا تتبع النظرة بعد النظرة فإن الأولى لك والأخرى عليك" يعنى بالأخرى أن يقصدها عن شهوة وجاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إني نظرت إلى امرأة فاشتهيتها فاتبعتها بصري فأصاب رأسي جدار فقال صلى الله عليه وسلم "إذا أراد الله بعبد خيرا عجل عقوبته في الدنيا" وكذلك إن كان أكبر رأيه أنه إن نظر اشتهي لأن أكبر الرأي فيما لا يوقف على حقيقته كاليقين وذلك فيما هو مبني على الاحتياط وكذلك لا يباح لها أن تنظر إليه إذا كانت تشتهي أو كان على ذلك أكبر رأيها لما روى أن ابن أم مكتوم استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عائشة وحفصة رضي الله عنهما فقال لهما "احتجبا" فقالتا إنه أعمى يا رسول الله فقال "أو أعميان أنتما" ولا يحل له أن يمس وجهها ولا كفها وإن كان يأمن الشهوة لقوله صلى الله عليه وسلم "من مس كف امرأة ليس منها بسبيل وضع في كفه جمرة يوم القيامة حتى يفصل بين الخلائق" ولأن حكم المس أغلظ حتى أن المس عن شهوة يثبت حرمة المصاهرة والنظر إلى غير الفرج لا يثبت والصوم يفسد بالمس عن شهوة إذا اتصل به الإنزال ولا يفسد بالنظر فالرخصة في النظر لا يكون دليل الرخصة في المس والبلوى التي تتحقق في النظر تتحقق في المس أيضا وعلى هذا نقول للمرأة الحرة أن تنظر إلى ما سوى العورة من الرجل ولا يحل لها أن تمس ذلك منه لأن حكم المس أغلظ وهذا إذا كانت شابة تشتهي فإذا كانت عجوزا لا تشتهي فلا بأس بمصافحتها ومس يدها لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصافح العجائز في البيعة ولا يصافح الشواب ولكن كان يضع يده في قصعة ماء ثم تضع المرأة يدها فيها فذلك بيعتها إلا أن عائشة رضي الله عنها أنكرت هذا الحديث وقالت من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مس امرأة أجنبية فقد أعظم الفرية عليه وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان في خلافته يخرج إلى بعض القبائل التي كان مسترضعا فيها فكان يصافح العجائز ولما مرض الزبير رضي الله عنه بمكة استأجر عجوزا لتمرضه فكانت تغمز رجليه وتفلى رأسه ولأن الحرمة لخوف الفتنة فإذا كانت ممن لا تشتهي فخوف الفتنة معدوم وكذلك إن كان هو شيخا يأمن على نفسه وعليها فلا بأس بأن يصافحها وإن كان لا يأمن عليها أن تشتهى لم يحل له أن يصافحها فيعرضها للفتنة كما لا يحل له ذلك إذا خاف على نفسه فأما النظر إليها عن شهوة

 

ج / 10 ص -127-    لا يحل بحال إلا عند الضرورة وهو ما إذا دعي إلى الشهادة عليها أو كان حاكما ينظر ليوجه الحكم عليها بإقرارها أو بشهادة الشهود على معرفتها لأنه لا يجد بدا من النظر في هذا الموضع والضرورات تبيح المحظورات ولكن عند النظر ينبغي أن يقصد أداء الشهادة أو الحكم عليها ولا يقصد قضاء الشهوة لأنه لو قدر على التحرز فعلا كان عليه أن يتحرز فكذلك عليه أن يتحرز بالنية إذا عجز عن التحرز فعلا كما لو تترس المشركون بأطفال المسلمين فعلى من يرميهم أن يقصد المشركين وإن كان يعلم أنه يصيب المسلم واختلفوا فيما إذا دعي إلى تحمل الشهادة وهو يعلم أنه إن نظر إليها اشتهى فمنهم من جوز له ذلك أيضا بشرط أن يقصد تحمل الشهادة لا قضاء الشهوة ألا ترى أن شهود الزنى لهم أن ينظروا إلى موضع العورة على قصد تحمل الشهادة والأصح أنه لا يحل له ذلك لأنه لا ضرورة عند التحمل فقد يوجد من يتحمل الشهادة ولا يشتهي بخلاف حالة الأداء فقد التزم هذه الأمانة بالتحمل وهو متعين لأدائها وكذلك إن كان أراد أن يتزوجها فلا بأس بأن ينظر إليها وإن كان يعلم أنه يشتهيها لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمغيرة بن شعبة لما أراد أن يتزوج امرأة "أبصرها فإنه أحري أن يؤدم بينكما" وكان محمد بن أم سلمة يطالع بنية تحت إجار لها فقيل له أتفعل ذلك وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا ألقى الله خطبة امرأة في قلب رجل أحل له النظر إليها" ولأن مقصوده إقامة السنة لا قضاء الشهوة وإنما يعتبر ما هو المقصود لا ما يكون تبعا وإن كان عليها ثياب فلا بأس بتأمل جسدها لأن نظره إلى ثيابها لا إلى جسدها فهو كما لو كانت في بيت فلا بأس بالنظر إلى جدرانه والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي امرأة عليها شارة حسنة فدخل بيته ثم خرج وعليه أثر الاغتسال فقال "إذا هاجت بأحدكم الشهوة فليضعها فيما أحل الله له" وهذا إذا لم تكن ثيابها بحيث تلصق في جسدها وتصفها حتى يستبين جسدها فإن كان كذلك فينبغي له أن يغض بصره عنها لما روى عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال لا تلبسوا نساءكم الكتان ولا القباطي فإنها تصف ولا تشف وكذلك إن كانت ثيابها رقيقة لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لعن الله الكاسيات العاريات" يعني الكاسيات الثياب الرقاق اللاتي كأنهن عاريات وقال صلى الله عليه وسلم "صنفان من أمتي في النار رجال بأيديهم السياط كأنها أذناب البقر يضربون بها الناس ونساء كاسيات عاريات مائلات متمايلات كأسنمة البخت" ولأن مثل هذا الثوب لا يسترها فهو كشبكة عليها فلا يحل له النظر إليها وهذا فيما إذا كانت في حد الشهوة فإن كانت صغيرة لا يشتهي مثلها فلا بأس بالنظر إليها ومن مسها لأنه ليس لبدنها حكم العورة ولا في النظر والمس معنى خوف الفتنة والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل زب الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما وهما صغيران وروى أنه كان يأخذ ذلك من أحدهما فيجره والصبي يضحك ولأن العادة الظاهرة ترك التكلف لستر عورتها قبل أن تبلغ حد الشهوة وأما

 

ج / 10 ص -128-    النظر إلى العورة حرام لما روى عن سلمان رضي الله عنه قال لأن أخر من السماء فانقطع نصفين أحب إلي من أن أنظر إلى عورة أحد أو ينظر أحد إلى عورتي ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الوعيد في كشف العورة قيل يا رسول الله فإذا كان أحدنا خاليا فقال "إن الله أحق أن يستحيى منه" وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إبل الصدقة فرأى راعيها تجرد في الشمس فعزله وقال "لا يعمل لنا من لا حياء له" ولكن مع هذا إذا جاء العذر فلا بأس بالنظر إلى العورة لأجل الضرورة فمن ذلك أن الخاتن ينظر ذلك الموضع والخافضة كذلك تنظر لأن الختان سنة وهو من جملة الفطرة في حق الرجال لا يمكن تركه وهو مكرمة في حق النساء أيضا ومن ذلك عند الولادة المرأة تنظر إلى موضع الفرج وغيره من المرأة لأنه لا بد من قابلة تقبل الولد وبدونها يخاف على الولد وقد جوز رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة القابلة على الولادة فذاك دليل على أنه يباح لها النظر وكذلك ينظر الرجل إلى موضع الاحتقان عند الحاجة أما عند المرض فلأن الضرورة قد تحققت والاحتقان من المداواة وقال صلى الله عليه وسلم "تداووا عباد الله فإن الله لم يخلق داء إلا وخلق له دواء إلا الهرم" وقد روي عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه إذا كان به هزال فاحش وقيل له أن الحقنة تزيل ما بك من الهزال فلا بأس بأن يبدي ذلك الموضع للمحتقن وهذا صحيح فإن الهزال الفاحش نوع مرض يكون آخره الدق والسل وحكي عن الشافعي رحمه الله تعالى قال إذا قيل له أن الحقنة تقويك على المجامعة فلا بأس بذلك أيضا ولكن هذا ضعيف لأن الضرورة لا تتحقق بهذا وكشف العورة من غير ضرورة لمعنى الشهوة لا يجوز وإذا أصاب امرأة قرحة في موضع لا يحل للرجل أن ينظر إليه لا ينظر إليه ولكن يعلم امرأة دواءها لتداويها لأن نظر الجنس إلى الجنس أخف ألا ترى أن المرأة تغسل المرأة بعد موتها دون الرجل وكذلك في امرأة العنين ينظر إليها النساء فإن قلن هي بكر فرق القاضي بينهما وإن قلن هي ثيب فالقول قول الزوج مع يمينه والمقصود في هذا الموضع بيان إباحة النظر عند الضرورة فأما ما وراء ذلك من الفرق بين الإخبار ببكارتها وثيابتها ليس من مسائل هذا الكتاب وحاصله أن شهادتهن متى تأيدت بمؤيد كانت حجة والبكارة في النساء أصل فإذا قلن أنها بكر تأيدت شهادتهن بما هو الأصل وإن قلن هي ثيب تجردت شهادتهن عن مؤيد فلا بد من أن يستحلف الزوج حتى ينضم نكوله إلى شهادتهن وكذلك لو اشتري جارية على أنها بكر فقبضها وقال وجدتها ثيبا فإن النساء ينظرن إليها للحاجة إلى فصل الخصومة بينهما فإن قلن هي بكر فلا يمين على البائع لأن شهادتهن قد تأيدت بأصل البكارة وبمقتضي البيع وهو اللزوم وإن قلن هي ثيب يستحلف البائع لتجرد شهادتهن عن مؤيد فإذا انضم نكول البائع إلى شهادتهن ردت عليه وإن لم يجدوا امرأة تداوي تلك القرحة ولم يقدروا على امرأة تعلم ذلك إذا علمت وخافوا أن تهلك أو يصيبها بلاء أو وجع لا تحتمله فلا بأس أن يستروا منها كل شيء إلا موضع تلك القرحة ثم يداويها رجل ويغض بصره ما استطاع إلا عن ذلك

 

ج / 10 ص -129-    الموضع لأن نظر الجنس إلى غير الجنس أغلظ فيعتبر فيه تحقق الضرورة وذلك لخوف الهلاك عليها وعند ذلك لا يباح إلا بقدر ما ترتفع الضرورة به وذوات المحارم وغيرهم في هذا سواء لأن النظر إلى موضع العورة لا يحل بسبب المحرمية فكان المحرم وغير المحرم فيه سواء.
قال والعبد فيما ينظر من سيدته كالحر الأجنبي  معناه أنه لا يحل له أن ينظر إلا إلى وجهها وكفيها عندنا وقال مالك نظره إليها كنظر الرجل إلى ذوات محارمه لقوله تعالى 
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] ولا يجوز أن يحمل ذلك على الإماء لأن ذلك دخل في قوله تعالى {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النساء: 31] ولأن هذا مما لا يشكل لأن للأمة أن تنظر إلى مولاتها كما للأجنبيات فإنما يحمل البيان على موضع الإشكال وعن أم سلمة أنه كان لها مكاتب فلما انتهي إلى آخر النجوم قالت له أتقدر على الأداء فقال نعم فاحتجبت وقالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا كان لإحداكن مكاتب فأدى آخر النجوم فلتحتجب منه" والمعني فيه أن بينهما سبب محرم للنكاح ابتداء وبقاء فكان بمنزلة المحرمية بينهما وإباحة النظر عند المحرمية لأجل الحاجة وهو دخول البعض على البعض من غير استئذان ولا حشمة وهذا يتحقق فيما بين العبد ومولاته.
وحجتنا في ذلك ما روي عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير رضي الله عنهما قالا لا يغرنكم سورة النور فإنها في الإناث دون الذكور ومرادهما قوله تعالى
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 31] والموضع موضع الإشكال لأن حال الأمة يقرب من حال الرجل حتى تسافر بغير محرم فكان يشكل أنه هل يباح لها الكشف بين يدي أمتها ولم يزل هذا الإشكال بقوله تعالى {أَوْ نِسَائِهِنَّ} [النساء: 31] لأن مطلق هذا اللفظ يتناول الحرائر دون الإماء والمعنى فيه أنه ليس بينهما زوجية ولا محرمية وحل النظر إلى مواضع الزينة الباطنة ينبني على هذا السبب وحرمة المناكحة التي بينهما بعارض على شرف الزوال فكانت في حقه بمنزلة منكوحة الغير أو معتدته ولأن وجوب الستر عليها وحرمة الخلوة بالرجل لمعنى خوف الفتنة وذلك موجود ها هنا وإنما ينعدم بالمحرمية لأن الحرمة المؤبدة تقلل الشهوة فأما الملك لا يقلل الشهوة بل يحملها على رفع الحشمة ومعنى البلوى لا يتحقق لأن اتخاذ العبيد للاستخدام خارج البيت لا داخل البيت على ما قيل من اتخذ عبدا للخدمة داخل بيته فهو كشحان وحديث أم سلمة رضي الله عنها محمول على الاحتجاب لمعنى زوال الحاجة فإن قبل ذلك تحتاج إلى المعاملة معه بالأخذ والإعطاء فتبدى وجهها وكفها له وقد زال ذلك بالأداء فلتحتجب منه ثم قال خصيا أو فحلا هكذا نقل عن عائشة رضي الله عنها قالت الخصا مثلة فلا يبيح ما كان محرما قبله ولأن الخصى في الأحكام من الشهادات والمواريث كالفحل وقطع تلك الآلة منه كقطع عضو آخر ومعنى الفتنة لا ينعدم فالخصي قد يجامع وقد قيل هو أشد الناس جماعا فإنه لا تفتر آلته بالإنزال وكذلك المجبوب لأنه قد يستحق فينزل

 

ج / 10 ص -130-    وإن كان مجبوبا قد جف ماؤه فقد رخص بعض مشايخنا في حقه بالاختلاط بالنساء لوقوع الأمن من الفتنة والأصح أنه لا يحل له ذلك ومن رخص فيه تأول قوله تعالى {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} [النور: 31] وبين أهل التفسير كلام في معنى هذا فقيل هو المجبوب الذي جف ماؤه وقيل هو المخنث الذي لا يشتهي النساء والكلام في المخنث عندنا أنه إذا كان مخنثا في الردي من الأفعال فهو كغيره من الرجال بل من الفساق ينحى عن النساء وأما من كان في أعضائه لين وفي لسانه تكسر بأصل الخلقة ولا يشتهي النساء ولا يكون مخنثا في الردي من الأفعال فقد رخص بعض مشايخنا في ترك مثله مع النساء لما روى أن مخنثا كان يدخل بعض بيوت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمع منه رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة فاحشة قال لعمر بن أبي سلمة لئن فتح الله الطائف على رسوله لأدلنك على ماوية بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان فقال صلى الله عليه وسلم "ما كنت أعلم أنه يعرف مثل هذا" أخرجوه وقيل المراد بقوله تعالى {أَوِ التَّابِعِينَ} [النور: 31] الأبله الذي لا يدري ما يصنع بالنساء إنما همه بطنه وفي هذا كلام عندنا فقيل إذا كان شابا ينحى عن النساء وإنما كان ذلك إذا كان شيخا كبيرا قد ماتت شهوته فحينئذ يرخص في ذلك والأصح أن نقول قوله تعالى أو التابعين من المتشابه وقوله تعالى {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا} [النور: 30] محكم فنأخذ بالمحكم فنقول كل من كان من الرجال فلا يحل لها أن تبدي موضع الزينة الباطنة بين يديه ولا يحل له أن ينظر إليها إلا أن يكون صغيرا فحينئذ لا بأس بذلك لقوله تعالى {أََوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} [النور: 31] فأما جماع الحائض في الفرج حرام بالنص يكفر مستحله ويفسق مباشره لقوله تعالى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] وفي قوله تعالى {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}  [البقرة 222] دليل على أن الحرمة تمتد إلى الطهر وقال صلى الله عليه وسلم "من أتى امرأة في غير ما أتاها أو أتاها في حالة الحيض أو أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم" ولكن لا يلزمه بالوطء سوى التوبة والاستغفار ومن العلماء من يقول إن وطئها في أول الحيض فعليه أن يتصدق بدينار وإن وطئها في آخر الحيض فعليه أن يتصدق بنصف دينار وروى فيه حديثا شاذا ولكن الكفارة لا تثبت بمثله.
وحجتنا في ذلك ما روي أن رجلا جاء إلى الصديق رضي الله عنه وقال إني رأيت في المنام كأني أبول دما فقال أتصدقني قال نعم قال إنك تأتي امرأتك في حالة الحيض فاعترف بذلك فقال أبو بكر رضي الله عنه استغفر الله ولا تعد ولم يلزمه الكفارة واختلفوا فيما سوى الجماع فقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى له أن يستمتع بما فوق المئزر وليس له ما تحته وقال محمد رحمه الله تعالى يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى وذكر الطحاوي قول أبي يوسف مع أبي حنيفة رحمهم الله تعالى وذكره الكرخي مع محمد رحمهما الله تعالى وجه الاستدلال بقوله تعالى
{قُلْ هُوَ أَذىً}  

 

ج / 10 ص -131-    [ البقرة: 222] ففيه بيان أن الحرمة لمعنى استعمال الأذى وذلك في محل مخصوص وروى في الكتاب عن الصلت بن دينار عن معاوية بن قرة رضي الله عنهم قال سألت عائشة رضي الله عنها ما يحل للرجل من امرأته وهي حائض قالت يتجنب شعار الدم وله ما سوى ذلك وفي حديث آخر عن عائشة رضي الله عنها قالت يحل للرجل من امرأته الحائض كل شيء إلا النكاح يعني الجماع والمعنى فيه أن ملك الحل باق في زمان الحيض وحرمة الفعل لمعني استعمال الأذي فكل فعل لا يكون فيه استعمال الأذى فهو حلال مطلق كما كان قبل الحيض وقاسه بالاستمتاع فوق المئزر وحجة أبي حنيفة رحمه الله قوله تعالى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فظاهره يقتضي تحريم الاستمتاع بكل عضو منها فما اتفق عليه الآثار صار مخصوصا من هذا الظاهر وبقي ما سواه على الظاهر وروى أن وفدا سألوا عمر رضي الله عنه عما يحل للرجل من امرأته الحائض وعن قراءة القرآن في البيوت وعن الاغتسال من الجنابة فقال أسحرة أنتم لقد سألتموني عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للرجل من امرأته ما فوق المئزر وليس له ما تحته وقراءة القرآن نور فنور بيتك ما استطعت وذكر الاغتسال من الجنابة وفي حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت كنت في فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم فحضت فانسللت من الفراش فقال "ما لك أنفست" قلت نعم قال "ائتزرى وعودي إلى مضجعك" ففعلت فعانقني طول الليل والمعنى فيه أن الاستمتاع في موضع الفرج محرم عليه وإذا قرب من ذلك الموضع فلا يأمن على نفسه أن يواقع الحرام فليجتنب من ذلك بالاكتفاء بما فوق المئزر وكان هذا نوع احتياط ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله تعالى لقوله صلى الله عليه وسلم "ألا إن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه" ومحمد أخذ بالقياس وقال ليس المراد بالإتزار حقيقة الإتزار بل المراد موضع الكرسف في ذلك الموضع وبين التابعين اختلاف في معنى قوله عليه الصلاة والسلام ما فوق المئزر فكان إبراهيم رحمه الله تعالى يقول المراد به الاستمتاع بالسرة وما فوقها وكان الحسن رحمه الله تعالى يقول المراد أن يتدفأ بالإزار ويقضي حاجته منها فيما دون الفرج فوق الإزار ولا ينبغي له أن يعتزل فراشها لأن ذلك تشبه باليهود وقد نهينا عن التشبه بهم وروى أن ابن عباس رضي الله عنهما فعل ذلك فبلغ ميمونة رضي الله عنها فأنكرت عليه وقالت أترغب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضاجعنا في فراش واحد في حالة الحيض وإذا أراد أن يشتري جارية فلا بأس بأن ينظر إلى شعرها وصدرها وساقها وإن اشتهى لأن المالية مطلوبة بالشراء فلا يصير مقداره معلوما إلا بالنظر إلى هذه المواضع فللحاجة جاز النظر ولا يحل له أن يمس إن اشتهى أو كان ذلك أكبر رأيه لأنه لا حاجة به إلى المس فمقدار المالية يصير معلوما بدونه ولأن حكم المس أغلظ من النظر كما قررنا وقد بينا في كتاب الصلاة حكم غسل كل واحد من الزوجين لصاحبه بعد موته وما فيه من الاختلاف وحكم غسل أم الولد لمولاها وإذا

 

ج / 10 ص -132-    ماتت المرأة مع الرجال ولا امرأة معهم لم يغسلوها وإن كانوا محارمها وقال الشافعي رحمه الله تعالى لابنها أو أبيها أن يغسلها بناء على مذهبه أن الظهر والبطن في حق المحرم ليس بعورة فهو بمنزلة نظر الجنس عنده وعندنا الظهر والبطن عورة في حق المحارم وبالموت تتأكد الحرمة ولا ترتفع ولأن هذه الحرمة لحق الشرع والآدمي محترم شرعا حيا وميتا ولهذا لا يغسلها المحرم ولا غير المحرم ولكنها تيمم بالصعيد هكذا روى عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن امرأة ماتت مع الرجال ليس معهم امرأة قال "تيمم بالصعيد" ولأنه تعذر غسلها لانعدام من يغسلها فصار كما لو تعذر غسلها لانعدام ما تغسل به وإن كان من يتممها محرما لها يممها بغير خرقة وإن كان غير محرم لها يممها بخرقة يلفها على كفه لأنه لم يكن له أن يمسها في حال حياتها فكذلك بعد وفاتها بخلاف المحرم ولا بأس بأن ينظر إلى وجهها ويعرض بوجهه عن ذراعيها كما في حال الحياة كان له أن ينظر إلى وجهها دون ذراعيها وكذلك يفعل زوجها لأنه التحق بالأجنبي كما قال عمر رضي الله عنه في امرأة له هلكت نحن أحق بها حين كانت حية فأما إذ ماتت فأولياؤها أحق بها وإن مات رجل مع نساء ليس فيهن امرأته يممنه على ما بينا إلا أن من تيممه إذا كانت حرة تيممه بخرقة تلفها على كفها لأنه ما كان لها أن تمسه في حياته فذلك بعد موته وإن كانت مملوكة تيممه بغير خرقة لأنه كان لها أن تمسه في حياته فكذلك بعد موته فإن الأمة بمنزلة المحرم في حق الرجال وأمته وأمة غيره في هذا سواء لأن ملكه قد انتقل إلى وارثه بموته فإن كان معهن رجل كافر علمنه الغسل وكذلك إن كان مع الرجال امرأة كافرة علموها الغسل لتغسلها لأن نظر الجنس إلى الجنس لا يختلف بالموافقة في الدين والمخالفة إلا أن الكافر لا يعرف سنة غسل الموتي فيعلم ذلك وكذلك إن كان معهن صبية صغار لم يبلغوا حد الشهوة علموهم غسل الموتى ليغسلنها وهذا عجيب فالرجال قد يعجزون عن غسل الميت فكيف يقوى عليه الصغار الذين لم يبلغوا حد الشهوة ولكن مراد محمد بيان الحكم إن تصور فإن ارتدت امرأته عن الإسلام بعد موته ثم رجعت إلى الإسلام أو فجربها ابنه لم يكن لها أن تغسله عندنا وقال زفر رحمه الله لها ذلك لأن حل المس والغسل ها هنا باعتبار العدة حتى لو انقضت عدتها بوضع الحمل لم يكن لها أن تغسله وبما اعترض لم يتغير حكم العدة بخلاف ما إذا كان العارض قبل موته لأن الحل هناك باعتبار النكاح وقد ارتفع بهذا العارض.
وحجتنا في ذلك أن ردتها وفعل ابن الزوج بها لو صادف حلا مطلقا كان رافعا له فكذلك إذا صادف ما بقى من الحل بعد موته وهو حل الغسل والمس فيكون رافعا له بطريق الأولى ولا نقول إن هذا الحل لأجل العدة فإن العدة من نكاح فاسد والوطء بالشبهة لا يفيد حل الغسل والمس وذكر في اختلاف زفر ويعقوب أن المجوسي لو أسلم ومات ثم أسلمت امرأته فليس لها أن تغسله عند زفر ولها ذلك في قول أبي يوسف فزفر يعتبر وقت

 

ج / 10 ص -133-    الموت فإذا لم يكن بينهما حل الغسل والمس عند الموت لا يثبت بعد ذلك بخلاف ما لو أسلمت قبل موته أو انقضت عدة الأخت وقاس بحكم الفرار في الميراث فإنها لو أعتقت بعد موته أو أسلمت لم ترث منه بخلاف ما لو أسلمت في حال الحياة أو أعتقت ثم طلقها ثلاثا وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول الحل قائم بينهما بعد وطء الأخت ولكن عدتها مانعة ولو زال هذا المانع في حال حياته ثبت حل الاستمتاع مطلقا فكذلك إذا زال بعد موته ثبت من الحل بقدر ما يقبله المحل وهو حل الغسل والمس وأما الصغير الذي لم يبلغ حد الشهوة إذا مات مع النساء فلا بأس بأن يغسلنه وكذلك الصغيرة مع الرجال لما بينا أنه ليس لعورته حكم العورة في الحياة حتى لا يجب ستره ويباح النظر إليه فكذلك بعد الموت والمعتوهة كالعاقلة لأنها تشتهي وإذا حضر المسافر الصلاة ولم يجد ماء إلا في إناء أخبره رجل أنه قذر وهو عنده مسلم مرضى لا يتوضأ به وهذا لأن خبر الواحد حجة في أمر الدين في حق وجوب العمل به عندنا بخلاف ما يقوله بعض الناس أن ما لا يوجب علم اليقين لا يوجب العمل أيضا فإن العمل بغير علم لا يجوز قال الله تعالى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36].
وحجتنا في ذلك قوله تعالى
{وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 187] ومن ضرورة وجوب البيان على كل واحد وجوب القبول منه وفائدة القبول منه العمل به قال تعالى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] واسم الطائفة يتناول الواحد فصاعدا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي إلى قيصر ليدعوه إلى الإسلام وعبد الله بن أنيس إلى كسرى ومع كل واحد منهما كتاب فلو لم يكن خبر الواحد ملزما لما اكتفي ببعث الواحد وبعث عليا ومعاذا رضي الله تعالى عنهما إلى اليمن والآثار في خبر الواحد كثيرة ذكر محمد بعد هذا بعضها وليس من شرط وجوب العمل أن يكون الخبر موجبا للعلم كما أنه ليس من شرط جواز العمل بما يخبر في المعاملات أن يكون موجبا للعلم حتى يكتفي فيها بخبر الواحد بالاتفاق والدليل عليه وجوب العمل بالقياس وغالب الرأي وإن لم يكن ذلك موجبا علم اليقين إذا عرفنا هذا فنقول هذا المخبر بنجاسة الماء إما أن يكون عدلا مرضيا أو فاسقا أو مستورا فإن كان عدلا فليس له أن يتوضأ بذلك الماء لترجيح جانب الصدق في خبره لظهور عدالته وإن كان فاسقا فله أن يتوضأ بذلك الماء لترجيح جانب الصدق في خبره فإن اعتبار دينه يدل على صدقه في خبره واعتبار تعاطيه الكذب وارتكابه ما يعتقد الحرمة فيه دليل على كذبه في خبره فتتحقق المعارضة بينهما ولهذا أمر الله تعالى بالتوقف في خبر الفاسق بقوله تعالى {فَتَبَيَّنُوا} [النساء: 9] وعند المعارضة الأصل في الماء الطهارة فيتمسك به ويتوضأ وهذا بخلاف المعاملات فإنه يجوز الأخذ فيها بخبر الفاسق لأن الضرورة هناك تتحقق فالعدل لا يوجد في كل موضع ولا دليل هناك يعمل به سوى الخبر

 

ج / 10 ص -134-    وهنا لا ضرورة ومعنا دليل آخر يعمل به سوى الخبر وهو أن الأصل في الماء الطهارة.
فإن قيل: أليس أن خبر الفاسق لا يقبل في رواية الأخبار وليس هناك دليل سوى الخبر.
قلنا: الضرورة هناك لا تتحقق لأن في العدول الذين يروون ذلك الخبر كثرة يوضح الفرق أن الخبر في المعاملات غير ملزم فيسقط فيه اعتبار شرط العدالة وفي الديانات الخبر ملزم فلا بد من اعتبار شرط العدالة فيه وكذلك إن كان مستورا فالحق المستور في ظاهر الرواية بالفاسق وفي رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى قال المستور في هذا الخبر كالعدل وهو ظاهر على مذهبه فإنه يجوز القضاء بشهادة المستورين إذا لم يطعن الخصم ولكن الأصح ما ذكره لأنه لا بد من اعتبار أحد شرطي الشهادة ليكون الخبر ملزما وقد سقط اعتبار العدد فلم يبق إلا اعتبار العدالة فإذا ثبت أن العدالة شرط قلنا: ما كان شرطا لا يكتفي بوجوده ظاهرا كمن قال لعبده إن لم تدخل الدار اليوم فأنت حر ثم مضي اليوم فقال العبد لم أدخل وقال المولى دخلت فالقول قول المولى لأن عدم الدخول شرط فلا يكتفي بثبوته ظاهرا لنزول العتق وكذلك إن كان المخبر عبدا لأن في أمور الدين خبر العبد كخبر الحر كما في رواية الأخبار وهذا لأنه يلزم نفسه ثم يتعدي منه إلى غيره فلا يكون هذا من باب الولاية على الغير وبالرق يخرج من أن يكون أهلا للولاية فأما فيما هو إلزام يسوى بين العبد والحر لكونه مخاطبا وكذلك إن كان المخبر امرأة حرة أو أمة كما في رواية الأخبار وهذا لأنها تلتزم كالرجل ثم يتعدى إلى غيرها ورواية النساء من الصحابة رضي الله عنهم كانت مقبولة كرواية الرجال قال صلى الله عليه وسلم "
تأخذون شطر دينكم من عائشة رضي الله عنها" ثم بين في الفاسق والمستور أنه يحكم رأيه فإن كان أكبر رأيه أنه صادق تيمم ولا يتوضأ به لأن أكبر الرأي فيما بني على الاحتياط كاليقين وإن أراقه ثم تيمم كان أحوط وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب توضأ به ولم يتيمم.
فإن قيل: كان ينبغي أن يتيمم احتياطا لمعنى التعارض في خبر الفاسق كما قلنا: في سؤر الحمار أنه يجمع بين التوضؤ وبين التيمم لتعارض الأدلة في سؤر الحمار. 
قلنا: حكم التوقف في خبر الفاسق معلوم بالنص وفي الأمر بالتيمم هنا عمل بخبره من وجه فكان بخلاف النص ولما ثبت التوقف في خبره بقى أصل الطهارة للماء فلا حاجة إلى ضم التيمم إليه واستدل بحديث عمر رضي الله تعالى عنه حين ورد ماء حياض مع عمرو بن العاص فقال عمرو لرجل من أهل الماء أخبرنا عن السباع أترد ماءكم هذا فقال عمر رضي الله عنه لا تخبرنا عن شيء فلولا أن خبره عد خبرا لما نهاه عن ذلك وعمرو بن العاص بالسؤال قصد الأخذ بالاحتياط وقد كره عمر رضي الله تعالى عنه لوجود دليل الطهارة باعتبار الأصل فعرفنا أنه ما بقي هذا الدليل فلا حاجة إلى احتياط آخر وإن كان الذي أخبره

 

ج / 10 ص -135-    بنجاسة الماء رجل من أهل الذمة لم يقبل قوله لا لأن الكفر ينافي معنى الصدق في خبره ولكن لأنه ظهر منهم السعي في إفساد دين الحق قال الله تعالى {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] أي لا يقصرون في إفساد أمركم فكان متهما في هذا الخبر فلا يقبل منه كما لا تقبل شهادة الولد لوالده لمعنى التهمة يقول فإن وقع في قلبه أنه صادق فأحب إلى أن يريق الماء ثم يتيمم وإن توضأ به وصلى أجزأه وفي خبر الفاسق قال وإذا وقع في قلبه أنه صادق تيمم ولا يتوضأ به وهذا لأن الفاسق أهل للشهادة ولهذا نفذ القضاء بشهادته فيتأيد ذلك بأكبر رأيه وليس الكافر من أهل الشهادة في حق المسلم يوضحه أن الكافر يلزم المسلم ابتداء بخبره ولا يلتزم ولا ولاية له على المسلم فأما الفاسق المسلم يلتزم وهو من أهل الولاية على المسلم.
قال وكذلك الصبي والمعتوه إذا عقلا ما يقولان من أصحابنا رحمهم الله تعالى من يقول مراده بهذا العطف أن الصبي كالبالغ إذا كان مرضيا ولأنه كان في الصحابة رضي الله تعالى عنهم من سمع في صغره ولو روى كان مقبولا منه وكما سقط اعتبار الحرية والذكورة يسقط اعتبار البلوغ كما في المعاملات والأصح أن مراده العطف على الذمي وإن خبر الصبي والمعتوه في هذا كخبر الذمي لأنهما لا يلتزمان شيئا ولكن يلزمان الغير ابتداء فإنهما غير مخاطبين فليس لهما ولاية الإلزام فكان خبرهما في معنى خبر الكافر رجل دخل على قوم من المسلمين يأكلون طعاما ويشربون شرابا فدعوه إليه فقال رجل مسلم ثقة قد عرفه هذا اللحم ذبيحة مجوسي وهذا الشراب قد خالطه الخمر وقال الذين دعوه إلى ذلك ليس الأمر كما قال وهو حلال فإنه ينظر إلى حالهم فإن كانوا عدولا لا يلتفت إلى قول ذلك الواحد لأن خبر الواحد لا يعارض خبر الجماعة فإن خبر الجماعة حجة في الديانات والأحكام وخبر الواحد لبس بحجة في الأحكام ولأن الظاهر من حال المسلمين أنهم لا يأكلون ذبيحة المجوسي ولا يشربون ما خالطه الخمر فخبر الواحد في معارضة خبرهم خبر مستنكر فلا يقبل وإن كانوا متهمين أخذ بقوله ولم يسعه أن يقرب شيئا من ذلك لأن خبره باعتبار حالهم مستقيم صالح ولا معتبر بخبرهم لفسقهم في حكم العمل به ولأن خبر العدل بالحرمة يريبه في هذا الموضع باعتبار حالهم وقال صلى الله عليه وسلم "
دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ويستوي إن كان المخبر بالحرمة حرا أو مملوكا ذكرا أو أنثي لأنه أخبر بأمر ديني فإن الحل والحرمة من باب الدين ولو كان في القوم رجلان مرضيان أخذ بقولهما لأن الحجة في الأحكام تتم بخبر المثني فلا يعارض خبرهما خبر الواحد وإن كان فيهم ثقة واحد عمل فيه على أكبر رأيه لاستواء الخبرين عنده وإن لم يكن له فيه رأى واستوى الحالان عنده فلا بأس بأكل ذلك وشربه وكذلك الوضوء منه في جميع ذلك أما المصير إلى غالب الرأي فللمعارضة بين الخبرين لأن عند المعارضة لا بد من ترجيح أحد الجانبين وغالب الرأي يصلح أن يكون دليلا

 

ج / 10 ص -136-    للعمل في بعض المواضع فلأن يصلح للترجيح أولى فإن لم يكن له رأي تمسك بأصل الطهارة.
فإن قيل: لا معارضة بين الخبرين لأن أحدهما ينفي الحرمة والآخر يثبت ولا تعارض بين النفي والإثبات قلنا: هذا في الشهادات فأما في الأخبار المعارضة تحقق بين النفي والإثبات لأن كل واحد منهما بانفراده مقبول فإن قيل: لا كذلك في الشاهد إذا زكاه أحد المزكين وجرحه الآخر كان الجرح أولى لأن الجرح مثبت والآخر ناف.
قلنا: نعم ولكن في كل موضع يكون النافي معتمدا لدليل في خبره تتحقق المعارضة في ذلك بين النفي والإثبات وفي كل موضع لا يكون النافي معتمدا لدليل يترجح المثبت فهنا النافي معتمد لدليل لأن طهارة الماء ونجاسته تعلم حقيقة وكذلك حل الطعام وحرمته فلهذا تحققت المعارضة والذي زكى الشاهد لا يعتمد دليلا في خبره لأن نفي أسباب الجرح لا يعلم حقيقة فلهذا يرجح المثبت هناك على النافي فإن كان الذي أخبره بأنه حلال مملوكان ثقتان والذي زعم أنه حرام واحد حر فلا بأس بأكله لأن في الخبر الديني المملوك والحر سواء ولا تتحقق المعارضة بين الواحد والمثني في الخبر لأنه يحصل من طمأنينة القلب بخبر الاثنين ما لا يحصل بخبر الواحد وإن كان الذي زعم أنه حرام مملوكان ثقتان والذي زعم أنه حلال حر واحد ثقة ينبغي له أن لا يأكله لما بينا أن خبر الواحد لا يكون معارضا لخبر الاثنين وكذلك لو أخبره بأحد الأمرين عبد ثقة وبالآخر حر ثقة يعمل بأكبر رأيه فيه لأن الحجة لا تتم من طريق الحكم بخبر حر واحد ومن حيث الدين خبر الحر والمملوك سواء فلتحقق المعارضة بين الخبرين يصير إلى الترجيح بأكبر الرأي وإن أخبره بأحد الأمرين مملوكان ثقتان وبالأمر الآخر حران ثقتان أخذ بقول الحرين لأن الحجة تتم بقول الحرين ولا تتم بقول المملوكين فعند التعارض يترجح قول الحرين لأن في قولهما زيادة إلزام فإن الإلزام بقول المملوكين ينبني على الإلزام اعتقادا والإلزام في قول الحرين لا ينبني على الإلزام اعتقادا حتى كان ملزما فيما لا يكون المرء معتقدا له فعرفنا أن في خبرهما زيادة إلزام فالترجيح بقوة السبب صحيح قال ألا ترى أن أبا بكر رضي الله عنه شهد عنده المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي الجدة أم الأم السدس فقال ائت معك بشاهد آخر فجاء بمحمد بن سلمة فشهد على مثل شهادته فأعطاها أبو بكر رضي الله عنه السدس وهذا من أمر الدين وعمر بن الخطاب رضي الله عنه شهد عنده أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "
إذا أستأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع" فقال ائت معك بشاهد آخر فشهد أبو سعيد الخدري رضي الله عنه على مثل شهادته قال محمد فهذا إنما فعلاه للاحتياط والواحد يجزى وكان عيسى بن أبان يقول بل إنما طلبنا شاهدا آخر على طريق الشرط لأن طمانينة القلب تحصل بقول المثنى دون الواحد ولم يكن في ذلك الوقت ضرورة في الاكتفاء بخبر الواحد لكثرة الرواة فأما في

 

ج / 10 ص -137-    زماننا فقد تحقق معني الضرورة في الاكتفاء بخبر الواحد والأصح ما أشار إليه محمد رحمه الله تعالى أنهما طلبا ذلك للاحتياط وكانا يقبلان ذلك وإن لم يشهد شاهد آخر ألا ترى أن عمر رضي الله عنه قبل شهادة عبد الرحمن بن عوف حين شهد عنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم" ولم يطلب شاهدا آخر وأجاز قول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه في الطاعون حين أراد أن يدخل الشام وبها الطاعون فاستشارهم فأشار عليه بعض المهاجرين بالدخول فقال له أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يا أمير المؤمنين أتفر من قدر الله فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إذا وقع هذا الرجز بأرض فلا تدخلوا عليه وإذا وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا منها" فأخذ عمر رضي الله عنه بقوله ورجع وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى في مشكل الآثار هذا الحديث فقال تأويله أنه إذا كان بحال لو دخل فابتلى وقع عنده أنه ابتلى بدخوله ولو خرج فنجى وقع عنده أنه نجى بخروجه فلا يدخل ولا يخرج صيانة لاعتقاده فأما إذا كان يعلم أن كل شيء بقدر وأنه لا يصيبه إلا ما كتب الله تعالى فلا بأس بأن يدخل ويخرج واستدل محمد رحمه الله تعالى أيضا بحديث عمر رضي الله عنه فإنه كان لا يورث المرأة من دية زوجها حتى شهد عنده الضحاك بن سفيان الكلابي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن ورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها أشيم فأخذ بقوله وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي إلى قيصر بكتابه يدعوه إلى الإسلام فكان حجة عليه فهذا كله دليل أن خبر الواحد في أمر الدين كان ملزما في ذلك الوقت كما هو اليوم وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه كنت إذا لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا فحدثني به غيره استحلفته على ذلك وحدثني أبو بكر رضي الله تعالى عنه وصدق أبو بكر وهذا مذهب تفرد به علي رضي الله عنه فإنه كان يحلف الشاهد ويحلف المدعي مع البينة ويحلف الراوي ولم يتبع ذلك فكأنه كان يقول إن خبره يصير مزكى بيمينه كالشهادات في باب اللعان من كل واحد من الزوجين حتى تصير مزكاة باليمين ومن لم يعصم عن الكذب لا يكون خبره حجة ما لم يصر مزكى بيمينه إلا أبو بكر رضي الله عنه فإن تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه الصديق كاف في جعل خبره مزكى ولسنا نأخذ بهذا القول لأن الله تعالى أمرنا باستشهاد شاهدين وبطلب العدالة في الشهود فاشتراط اليمين مع ذلك يكون زيادة على ما في الكتاب وقد وقعت الدعاوى والخصومات في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقل أنه حلف أحدا من الشهود ولا حلف المدعى مع البينة ولا يجوز أن يقال إنهم قد تركوا نقله لأن هذا لا يظن بهم خصوصا فيما تعم البلوى فقد نقلوا كل ما دق وجل من أقواله وأفعاله.
قال وبلغنا أن نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم أبو طلحة كانوا يشربون شرابا لهم من الفضيخ فأتاهم آت فأخبرهم أن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة يا أنس قم إلى هذه

 

ج / 10 ص -138-    الجرار فاكسرها فقمت إليها فكسرتها حتى إهراق ما فيها ولو لم يكن خبر الواحد حجة ما وسعهم ذلك لما فيه من إضاعة المال وتأويل كسر الجرار أن الخمر كانت تشرب فيها فلا تصلح للانتفاع بها بوجه آخر وكان ذلك لإظهار الانقياد وتحقيق الانزجار عن العادة المألوفة وعلى هذا يحمل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكسر الدنان وشق الروايا وذكر حديث عكرمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل شهادة أعرابي وحده على رؤية هلال رمضان حين قدم المدينة فأخبرهم بأنه رآه فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يصوموا بشهادته فهذا يدل على أن شهادة الواحد في الدين مقبولة ولا يقبل في هلال الفطر أقل من شاهدين رجلين أو رجل وامرأتين والكلام في هذا الفصل قد بيناه في كتاب الصوم وذكر ابن سماعة في نوادره قال قلت لمحمد فإذا قبلت شهادة الواحد في هلال رمضان وأمرت بالصوم ثلاثين يوما ولم يروا الهلال أليس أنهم يفطرون وهذا فطر بشهادة الواحد فقال لا أتهم المسلم بتبديل يوم مكان يوم ويمكن أن يجاب عن هذا فيقال الفطر غير ثابت بشهادته وإن كانت تفضي إليه شهادته كما لو شهدت القابلة بالنسب يثبت استحقاق الميراث ولا يستحق المال بشهادة القابلة وهذا على قول محمد فأما على رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى لا يفطرون وإن صاموا ثلاثين يوما إذا لم يروا الهلال قال الحاكم وهلال الأضحى كهلال الفطر ذكره في كتاب الشهادات وفي النوادر عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن الشهادة على هلال الأضحى كالشهادة على هلال رمضان لما يتعلق به من أمر ديني وهو ظهور وقت الحاج وذلك حق الله تعالى فأما في ظاهر الرواية قال هذا في معنى هلال الفطر لأن فيه منفعة للناس هنا من حيث التوسع بلحوم الأضاحي في اليوم العاشر كما في هلال الفطر ولا يقبل في هلال رمضان قول مسلم ولا مسلمين ممن لا تجوز شهادتهم للتهمة لما بينا أن خبر الفاسق في أمر الدين غير ملزم وذكر الطحاوي أن شهادة الواحد على رؤية هلال رمضان مقبول عدلا كان أو غير عدل قيل المراد بقوله غير عدل أن يكون مستورا فيكون موافقا لرواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى في المستور وقيل بل مراداه الفاسق.
ووجه هذه الرواية أن التهمة متنفية عن خبره هذا لأنه يلزمه من الصوم ما يلزم غيره فأما عبد مسلم ثقة أو أمة مسلمة أو امرأة مسلمة حرة فشهادتهم في ذلك جائزة لأن في الخبر الديني الذكور والإناث والأحرار والمماليك سواء وكذلك إن شهد واحد على شهادة واحد وبهذا تبين أنه خبر لا شهادة حتى لا يشترط فيه لفظ الشهادة وذكر أنه إذا كان محدودا في قذف قد حسنت توبته فشهادته جائزة أيضا وروي الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أن شهادته لا تقبل لأنه محكوم بكذبه وإذا كانت شهادة المتهم بالكذب لا تقبل هنا فالمحكوم بالكذب أولى ووجه هذه الرواية أن خبر المحدود في أمر الدين مقبول ألا ترى أن أبا بكرة بعد ما أقيم عليه حد القذف كانت تعتمد روايته وهذا لأن رد شهادته لحق المقذوف وهو دفع

 

ج / 10 ص -139-    العار عنه بإهدار قوله وذلك في الأحكام التي يتعلق بها حقوق العباد وينعدم هذا المعنى في أمور الدين فكان المحدود فيه كغيره يقول فإذا كان الذي شهد بذلك في المصر ولا علة في السماء من ذلك لا تقبل شهادته لأن الذي يقع في القلب من ذلك أنه باطل وقد بينا في كتاب الصوم أقاويل العلماء رحمهم الله تعالى في هذا الفصل وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه اعتبر فيه عدد الخمسين على قياس الأيمان في القسامة وفيما ذكر هناك إشارة إلى أنه إذا جاء من خارج المصر فإنه تقبل شهادته فقد ذكر بعد هذا أيضا أو جاء من مكان آخر وأخبر بذلك وهكذا ذكره الطحاوي رحمه الله تعالى في كتابه لأنه يتفق من الرؤية في الصحاري ما لا يتفق في الأمصار لما فيها من كثرة الغبار وكذلك إن كان في المصر على موضع مرتفع فقد يتفق له من الرؤية ما لا يتفق لمن هو دونه في الموقف رجل تزوج امرأة فجاء رجل مسلم ثقة أو امرأة فأخبر أنهما ارتضعا من امرأة واحدة فأحب إلى التنزه عنها فيطلقها ويعطيها نصف الصداق إن لم يكن دخل بها والكلام في هذه المسألة في فصلين أحدهما في الحكم والآخر في التنزه أما في الحكم فالحرمة لا تثبت بشهادة امرأة واحدة على الرضاع عندنا ما لم يشهد به رجلان أو رجل وامرأتان وعند الشافعي يثبت بشهادة أربع نسوة كما هو مذهبه فيما لا يطلع عليه الرجال وزعم أن الرضاع لا يحل مطالعته للأجانب من الرجال ولكن نقول الإرضاع يكون بالثدي وذلك مما يحل مطالعته لذي الرحم المحرم ثم قد يكون بالإيجار وذلك مما يطلع عليه الأجانب ومالك كان يقول يكتفي بشهادة الواحد لإثبات الحرمة بالرضاع وذلك مروي عن عثمان رضي الله عنه واستدل فيه بحديث ابن أبي مليكة بن عقبة أن عقبة بن الحارث رضي الله تعالى عنهما تزوج بنت إهاب فجاءت امرأة سوداء فأخبرت أنها أرضعتهما جميعا فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له صلى الله عليه وسلم "كيف وقد قيل هذا القدر؟" ذكره محمد رحمه الله تعالى وأهل الحديث يروون ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما فهو حجة مالك رحمه الله تعالى.
وحجتنا في ذلك حديث عكرمة بن خالد قال عمر رضي الله عنه لا يقبل على الرضاع أقل من شاهدين ولأن هذه شهادة تقوم لأبطال الملك ولا تتم الحجة فيه إلا بشاهدين كالعتق والطلاق فأما الحديث ففيه إشارة إلى التنزه بقوله كيف وقد قيل ولو ثبتت الحرمة بخبرها لما أشار إلى التنزه بهذا اللفظ والزيادة التي يرويها أهل الحديث لم تثبت عندنا والدليل على ضعفه ما روى عن عقبة بن الحارث رحمه الله تعالى أنه قال تزوجت بنت أبي إهاب فجاءت امرأة سوداء تستطعمنا فأبينا أن نطعمها فجاءت من الغد تشهد على الرضاع ومثل هذه الشهادة تكون عن ضغن فلا تتم الحجة بها فأما بيان وجه التنزه أن المخبر إذا كان ثقة فالذي يقع في قلوب السامعين أنه صادق فيه فصحبتها تريبه ومفارقتها لا تريبه ولو أمسكها ربما يطعن فيه أحد ويتهمه وقال صلى الله عليه وسلم "
من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا

 

ج / 10 ص -140-    يقفن مواقف التهم" وقال صلى الله عليه وسلم "إياك وما يسبق إلى القلوب إنكاره وإن كان عندك اعتذاره" فليس كل سامع نكرا تطيق أن توسعه عذرا ولأن يدع وطئا حلالا خير له من أن يقدم على وطء حرام ولكن ينبغي له أن يطلقها لأنها منكوحته في الحكم فإذا لم يطلقها لا تقدر على التزوج بغيره فتبقى معلقة ثم يعطيها نصف الصداق بعد الطلاق وإن لم يكن دخل بها لأنها استوجبت في الحكم ذلك عليه فلا ينبغي له أن يمنعها بنظره لنفسه والمستحب لها أن لا تأخذ شيئا إن كان لم يدخل بها لجواز أن يكون المخبر صادقا والنكاح لم يكن منعقدا بينهما وإن كان دخل بها فلا بأس بأن تأخذ مقدار مهر مثلها بما استحل من فرجها وينبغي أن لا تأخذ الزيادة على ذلك إلى تمام المسمى ولكن تبريه عن ذلك لأنه حق مستحق لها في الحكم فلا يسقط إلا بإسقاطها ولا يبعد أن يندب كل واحد منهما إلى ما قلنا: كما أن الله تعالى أثبت نصف الصداق بالطلاق قبل الدخول ثم ندب كل واحد من الزوجين إلى العفو وكذلك الرجل يشترى الجارية فيخبره عدل أنها حرة الأبوين أو أنها أخته من الرضاع فإن تنزه عن وطئها فهو أفضل وإن لم يفعل وسعه ذلك وفرق بين هذين الفصلين وبين ما تقدم من الطعام والشراب فاثبت الحرمة هناك بخبر الواحد العدل ولم يثبت هنا لأن حل الطعام والشراب يثبت بالإذن بدون الملك حتى لو قال لغيره كل طعامي هذا أو توضأ بمائي هذا أو أشربه وسعه أن يفعل ذلك فكذلك الحرمة تثبت بما لا يبطل به الملك وحل الوطء لا يثبت بدون الملك حتى لو قال طأ جاريتي هذه فقد أذنت لك فيه أو قالت له ذلك حرة في نفسها لم يحل له الوطء فكذلك الحرمة تثبت بما لا يبطل به الملك وهو خبر الواحد وتقرير هذا الفرق من وجهين أحدهما أن الحل والحرمة فيما سوى البضع مقصود بنفسه لما كان يثبت بدون ملك الحل وتثبت الحرمة مع قيام الملك فكان هذا خبرا بأمر ديني وقول الواحد فيه ملزم فأما في الوطء الحل والحرمة يثبت حكما للملك وزواله لا يثبت مقصودا بنفسه وقول الواحد في إبطال الملك ليس بحجة فكذلك في الحل الذي ينبني عليه والثاني أن في الوطء معنى الإلزام على الغير لأن المنكوحة يلزمها الانقياد للزوج في الاستفراش والمملوكة يلزمها الانقياد لمولاها وخبر الواحد لا يكون حجة في إبطال الاستحقاق الثابت لشخص على شخص فأما حل الطعام والشراب فليس فيه استحقاق حق على أحد يبطل ذلك بثبوت الحرمة وإنما ذلك أمر ديني وخبر الواحد في مثله حجة مسلم اشتري لحما فلما قبضه أخبره مسلم ثقة أنه ذبيحة مجوسي لم ينبغ له أن يأكله لأنه أخبر بحرمة العين وهو أمر ديني فتتم الحجة بخبر الواحد فيه وكما لا يأكله لا يطعمه غيره لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها في نظيره "أتطعمين ما لا تأكلين" ولا يرده على صاحبه لأن فسخ البيع معتبر بنفس البيع وكما لا تتم الحجة بخبر الواحد في البيع فكذلك فيما يفسخه ولا يستحل منع البائع ثمنه لأنه قد استوجبه بالعقد قبله وقول الواحد ليس بحجة في إسقاط حق مستحق

 

ج / 10 ص -141-    للعباد ولأن العين قد بقي مملوكا له متقوما لأن نقض الملك فيه بقول الواحد لا يجوز فعليه أداء ثمنه.
فإن قيل: الحل هنا إنما يثبت حكما للمالك فينبغي أن لا تثبت الحرمة إلا بما يبطل به الملك كما في مسألة الوطء.
قلنا: لا كذلك بل ثبوت حل التناول بالإذن لأن الموجب للبيع إذن المشترى في التناول مسلطا له على ذلك وهو كاف لثبوت الحل في هذا العين فما زاد عليه غير معتبر في حكم الحل وبنحوه علل في البيوع في تنفيذ تصرف المشترى بشراء فاسد فقال لأن البائع سلطه على ذلك والدليل على هذا تمام البيع بهذا اللفظ حتى لو قال كل هذا الطعام بدرهم لي عليك فأكله كان هذا بيعا وكان قد أكله حلالا بخلاف الوطء فإن الحرة لو قالت طأني بكذا لا يحل له أن يفعل ولا ينعقد النكاح بينهما لو فعله يوضحه أن المعتبر هو الجملة دون الأحوال وإذا كان حل الطعام في الجملة يثبت بغير ملك فكذلك الحرمة تثبت مع قيام الملك ولو لم يبعه هذا الرجل ولكن أذن له في التناول فأخبره مسلم ثقة أنه محرم العين لم يحل له تناوله فكذلك إذا باعه يوضحه أن قبل البيع إنما لا يحل له تناوله لأن حرمة العين تثبت في حقه بخبر الواحد والبيع ليس له تأثير في إزالة حرمة ثابتة للعين فإذا ثبت أنه لو اشتراه بعد الإذن أو ملكه بسبب آخر لم يحل له تناوله فكذلك إذا اشتراه قبل الإذن فأخبره عدل بأنه محرم العين ولو اشترى طعاما أو جارية أو ملك ذلك بهبة أو ميراث أو صدقة أو وصية فجاء مسلم ثقة فشهد أن هذا لفلان الفلاني غصبه منه البائع أو الواهب أو الميت فأحب إلى أن يتنزه عن أكله وشربه والوضوء منه ووطء الجارية لأن خبر الواحد يمكن ريبة في قلبه والتنزه عن مواضع الريبة أولى وإن لم يتنزه كان في سعة من ذلك لأن المخبر هنا لم يخبر بحرمة العين وإنما أخبر أن من تملك من جهته لم يكن مالكا وهو مكذب في هذا الخبر شرعا فإن الشرع جعل صاحب اليد مالكا باعتبار يده ولهذا لو نازعه فيه غيره كان القول قوله وعلى هذا أيضا لو أذن له ذو اليد في تناول طعامه وشرابه فأخبره ثقة أن هذا الطعام والشراب في يده غصب من فلان وذو اليد يكذبه وهو متهم غير ثقة فإن تنزه عن تناوله كان أولى وإن لم يتنزه كان في سعة وفي الماء إذا لم يجد وضوء غيره توضأ به ولم يتمم لأن الشرع جعل القول قول ذي اليد فيما في يده وهذا بخلاف ما سبق لأن هناك المخبر إنما أخبر بملك الغير في المحل وخبره في هذا ليس بحجة وهناك أخبر بحرمة ثابتة في المحل لحق الشرع وخبر الواحد فيه حجة.
فإن قيل: الحل والحرمة ليس بصفة للمحل حقيقة وإنما هو صفة للفعل الصادر من المخاطب وهو التناول وقد أخبره بحرمة التناول في الفصلين جميعا.
قلنا: هذا شيء توهمه بعض أصحابنا وهو غلط عظيم فإنا لو جعلنا الحرمة صفة للفعل حقيقة ثم توصف العين به مجازا كان مشروعا في المحل من وجه وذلك ممتنع بعد ثبوت

 

ج / 10 ص -142-    حرمة الأمهات وحرمة الميتة بالنص ولكن نقول الحرمة صفة العين حقيقة باعتبار أنه خرج شرعا من أن يكون محلا للفعل الحلال وكذلك حقيقة موجبه النفي والنسخ ثم ينتفي الفعل باعتبار انعدام المحل لأن الفعل لا يتصور إلا في المحل كالقتل لا يتصور في الميت وكان هذا إقامة العين مقام الفعل في أن صفة الحرمة تثبت له حقيقة ويتضح ذلك بالتأمل في مورد الشرع فإن الله تعالى في مال الغير نهى عن الأكل فإنه قال تعالى {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] إلى قوله {لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بالإثم} [البقرة: 188] فعرفنا أن المحرم هو الأكل وفي الميتة قال تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] فقد جعل الحرمة صفة للعين وكذلك قال {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] وبمعرفة حدود كلام صاحب الشرع يحسن الفقه وكذلك من حيث الأحكام من قال لامرأته أنت علي كالميتة كان بمنزلة قوله أنت علي حرام بخلاف ما لو قال أنت علي كمتاع فلان فإذا تقرر هذا قلنا: الحرمة الثابتة صفة للعين محض حق الشرع فتثبت بخبر الواحد ولهذا لا يسقط إلا بإذن الشرع وحرمة التناول في طعام الغير ثابتة لحق الغير ولهذا يسقط بإذنه وحق الغير لا يثبت بخبر الواحد فلا تثبت الحرمة أيضا ولو أن رجلا مسلما شهد عنده رجل أن هذه الجارية التي هي في يد فلان وهي مقرة له بالرق أمة لفلان غصبها والذي هي في يده يجحد ذلك وهو غير مأمون على ما ذكر فأحب إلي أن لا يشتريها وإن اشتراها ووطئها فهو في سعة من ذلك لأن المخبر مكذب فيما أخبر به شرعا والقول قول ذي اليد أنها مملوكة له فله أن يعتمد الدليل الشرعي فيشتريها وإن احتاط فلم يشترها كان أولى له لأنه متمكن من تحصيل مقصوده بغيرها وابن مسعود رضي الله عنه كان يقول في مثله كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة الحرام ولو أخبره أنها حرة الأصل أو أنها كانت أمة لهذا الذي في يده فأعتقها وهو مسلم ثقة فهذا والأول سواء لما بينا أن المخبر مكذب شرعا وأن تصادقهما على أنها مملوكة لذي اليد حجة شرعا في إثبات الملك له فللمشتري أن يعتمد الحجة الشرعية والتنزه أفضل له.
فإن قيل: في هذا الموضع أخبر بحرمة المحل حين زعم أنها معتقة أو حرة فلو جعلت هذا نظير ما سبق.
قلنا: لا كذلك فحرمة المحل هنا لعدم الملك والملك ثابت بدليل شرعي ومع ثبوت الملك لا حرمة في المحل وفي الكتاب قال هذا بمنزلة النكاح الذي يشهد فيه بالرضاع وهو إشارة إلى ما قلنا: أن حل الوطء لا يكون إلا بملك والملك المحكوم به شرعا لا يبطل بخبر الواحد فكذلك ما ينبني عليه من الحل وإذا كانت الجارية لرجل فأخذها رجل آخر وأراد بيعها لم ينبغ لمن عرفها للأول أن يشتريها من هذا حتى يعلم أنها قد خرجت من ملكه وانتقلت إلى ملك ذي اليد بسبب صحيح أو يعلم أنه وكله ببيعها لأن دليل الملك الأول ظهر عنده فلا يثبت الملك للثاني في حقه إلا بدليل يوجب النقل إليه والشراء من غير المالك لا

 

ج / 10 ص -143-    لا يحل إلا بإذن المالك ولو علم القاضي ما علمه هو كان يحق عليه تقريره على ملك الأول حتى يثبت الثاني سبب الملك لنفسه فكذلك إذا علمه هذا الذي يريد شراءه فإن سأل ذا اليد فقال إني قد اشتريتها منه أو وهبها لي أو تصدق بها علي أو وكلني ببيعها فإن كان ثقة فلا بأس بأن يصدقه على ذلك ويشتريها منه ويطأها لأنه أخبر بخبر مستقيم صالح فيكون خبره محمولا على الصدق ما لم يعارضه مانع يمنع من ذلك والمعارض إنكار الأول ولم يوجد ولو كلفناه الرجوع إلى الأول ليسأله كان في ذلك نوع حرج لجواز أن يكون غائبا أو مختفيا وإن كان غير ثقة إلا أن أكبر رأيه فيه أنه صادق فكذلك أيضا لما بينا أن في المعاملات لا يمكن اعتبار العدالة في كل خبر لمعنى الحرج والضرورة لأن الخبر غير ملزم إياه شرعا مع أن أكبر الرأي إذا انضم إلى خبر الفاسق تأيد به وقد بينا نظيره في الأخبار الدينية فها هنا أولى وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم ينبغ له أن يتعرض لشيء من ذلك لأن أكبر الرأي فيما لا يوقف على حقيقته كاليقين ولو تيقن بكذبه لم يحل له أن يعتمد خبره فكذلك إذا كان أكبر رأيه في ذلك والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم لوابصة بن معبد رضي الله تعالى عنه "ضع يدك على صدرك واستفت قلبك فيما حاك في صدرك فهو السالم وإن أفتاك الناس به" وقال صلى الله عليه وسلم "الإثم حراز القلوب" أي على المرء أن يترك ما حرز في قلبه تحرزا عن الإثم وكذلك لو لم يعلم أن ذلك الشيء لغير الذي هو في يديه حتى أخبره الذي في يديه أنه لغيره وأنه وكله ببيعه أو وهبه له أو اشتراه منه لأن إقراره بالملك للغير حجة في حق المقر شرعا فهذا في حق السامع بمنزلة ما لو علم ملك الغير بأن عاينه في يده فإن كان المخبر ثقة صدقه فيما أخبر به من سبب الولاية له في بيعه وكذلك إن كان غير ثقة وأكبر رأيه أنه صادق فيه صدقه أيضا وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يقبل ذلك منه ولم يشتره وإن كان لم يخبره أن ذلك الشيء لغيره فلا بأس بشرائه منه وقبوله هبته وإن كان غير ثقة لأن دليل الملك شرعا ثابت له وهو اليد والفاسق والعدل في هذا الدليل سواء حتى إذا نازعه غيره فالقول قوله ويحل لمن رآه في يده أن يشهد له بالملك والمصير إلى أكبر الرأي عند انعدام دليل ظاهر كما لا يصار إلى القياس عند وجود النص.
قال إلا أن يكون مثله لا يتملك مثل ذلك العين فأحب أن يتنزه عنه ولا يتعرض له بالشراء أو غيره  وذلك كدرة يراها في يد فقير لا يملك شيئا أو رأى كتابا في يد جاهل ولم يكن في آبائه من هو أهل لذلك فالذي سبق إلى قلب كل أحد أنه سارق لذلك العين فكان التنزه عن شرائه منه أفضل وإن اشترى أو قبل وهو لا يعلم أنه لغيره رجوت أن يكون في سعة من ذلك لأنه يزعم أنه مالك والقول قوله شرعا فالمشتري منه يعتمد دليلا شرعيا وذلك واسع له إلا أنه مع هذا لم يبت الجواب وعلقه بالرجاء لما ظهر من عمل الناس ولما سبق إلى وهم كل أحد أن مثله لا يكون مالكا لهذه العين فإن كان الذي أتاه به عبد أو أمة لم ينبغ له أن يشتري ولا يقبله حتى يسأله عن ذلك لأن المنافي للملك وهو الرق معلوم فيه فما لم

 

ج / 10 ص -144-    يعلم دليلا مطلقا للتصرف في حق من رآه في يده لا يحل له الشراء منه لأنه عالم أنه لغيره واليد في حق المملوك ليس بمطلق للتصرف وإن الرق مانع له من التصرف ما لم يوجد الإذن فإن سأله فأخبره أن مولاه قد أذن له فيه وهو ثقة مأمون فلا بأس بشرائه منه وقبوله لأنه أخبر بخبره مستقيم صالح وهو محتمل في نفسه فيعتمد خبره إذا كان ثقة وإن كان غير ثقة فهو على ما يقع في قلبه فإن كان أكبر رأيه أنه صادق فيما قال صدقه بقوله وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يعرض لشيء من ذلك وكذلك إن كان لا رأي له فيما قال لأن الحاجز له عن التصرف ظاهر فلا يكون له أن يتصرف معه بمجرد خبره ما لم يترجح جانب الصدق فيه بنوع دليل ولم يوجد ذلك وكذلك الغلام الذي لم يبلغ حرا كان أو عبدا فيما يخبر أنه أذن له في بيعه أو أن فلانا بعث معه إليه هدية أو صدقة فإن كان أكبر رأيه أنه صادق وسعه أن يصدقه وهذا للعادة الظاهرة في بعث الهدايا على أيدي المماليك والصبيان وفي التورع عنه من الحرج ما لا يخفى وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم ينبغ له أن يقبل منه شيئا لأن أكبر الرأي فيما لا يوقف على حقيقته كاليقين.
قال وكان شيخنا الإمام رحمه الله تعالى يقول الصبي إذا أتى بقالا بفلوس يشتري منه شيئا وأخبره أن أمه أمرته بذلك فإن طلب الصابون ونحوه فلا بأس ببيعه منه وإن طلب الزبيب وما يأكله الصبيان عادة فينبغي له أن لا يبيعه  لأن الظاهر أنه كاذب فيما يقول وقد عثر على فلوس أمه فيريد أن يشتري بها حاجة نفسه وإن قال الصبي هذا لي وقد أذن لي أبي في أن أهبه لك أو أتصدق به عليك لم ينبغ له أن يقبله منه لأنه ليس للأب ولاية الإذن بهذا التصرف لولده بخلاف ما إذا قال أبي بعثه إليك على يدي صدقة أو هبة لأن للأب هذه الولاية في مال نفسه فكان ما أخبره مستقيما وكذلك الفقير إذا أتاه عبد أو أمة بصدقة من مولاه ولو أن رجلا علم أن جارية لرجل يدعيها ثم رآها في يد رجل آخر يبيعها ويزعم أنها كانت في يد فلان وذلك الرجل يدعى أنها له وكانت مقرة له بالملك غير أنه زعم أنها كانت في يد فلان وذلك الرجل يدعي أنها له وكانت مقرة له بالملك غير أنه زعم أنها كانت لي وإنما أمرته بذلك الأمر خفية وصدقته الجارية بذلك والرجل ثقة مسلم فلا بأس بشرائها منه لأنه أخبر بخبر مستقيم محتمل ولو كان ما أخبر به معلوما للسامع كان له أن يشتريها منه فكذلك إذا أخبره بذلك ولا منازع له فيه وإن كان في رأيه أنه كاذب لم ينبغ له أن يشتريها ولا يقبلها لأنه ثبت عنده أنها مملوكة للأول فإن إقرار ذي اليد بأن الأول كان يدعى أنها مملوكته حين كانت في يده يثبت الملك له وكذلك سماع هذا الرجل منه أنها له دليل في حق إثبات الملك له والذي أخبره المخبر بخلاف ذلك لم يثبت عنده حين كان في أكبر رأيه أنه كاذب في ذلك ولو لم يقل هذا ولكنه قال ظلمني وغصبني وأخذتها منه لم ينبغ له أن يتعرض لشراء ولا قبول إن كان المخبر ثقة أو غير ثقة والفرق من وجهين أحدهما أنه أخبر هناك بخبر مستنكر فإن الظلم والغصب مما يمنع كل أحد عنه عقله ودينه فلم يثبت له بخبره

 

ج / 10 ص -145-    غصب ذلك الرجل بقى قوله أخذتها منه وهذا أخذ بطريق العدوان ألا ترى أن القاضي لو عاين ذلك منه أمره برده عليه حتى يثبت ما يدعيه وإذا سقط اعتبار يده بقى دعواه الملك فيما ليس في يده وذلك لا يطلق الشراء منه وفي الأول أخبر بخبر مستقيم كما قررنا فإن دينه وعقله لا يمنعه من التلجئة عند الخوف والثاني أن خبر الواحد عند المسالمة حجة وعند المنازعة لا يكون حجة لأنه يحتاج فيه إلى الإلزام وذلك لا يثبت بخبر الواحد وفي الفصل الثاني أخبر عن حال منازعة بينهما في غصب الأول منه واسترداد هذا فلا يكون خبره حجة وفي الأول أخبر عن حال مسالمة ومواضعة كان بينهما فيعتمد خبره إن كان ثقة وإن قال إنه كان ظلمني وغصبني ثم رجع عن ظلمه فأقر لي بها ودفعها إلى فإن كان عنده ثقة فلا بأس بشرائها وقبولها منه لأنه أخبر عن مسالمة وهو إقراره له بها ودفعها إليه ولأن القاضي لو عاين ما أخبره به قضى بالملك له فيجوز للسامع أن يعتمد خبره إن كان ثقة وفي الأول لو عاين القاضي أخذها منه قهرا أو أمره بالرد ولم يلتفت إلى قوله كان غصبني وكذلك إن قال خاصمته إلى القاضي فقضي لي بها ببينة أقمتها عليه أو بنكوله عن اليمين لأنه أخبر بخبر مستقيم وهو إثباته ملك نفسه بالحجة ثم الأخذ بقضاء القاضي وذلك أقوى من الأخذ بتسليم من كان في يده إليه بعد إقراره له بها وإن كان غير ثقة وأكبر رأيه أنه كاذب لم يشترها منه في جميع هذه الوجوه لأن أكبر الرأي في هذا كاليقين وإن قال قضي لي بها القاضي وأخذها منه فدفعها إلي أو قال قضي لي بها وأخذتها من منزله بإذنه أو بغير إذنه فهذا وما سبق سواء لأنه أخبر أن أخذه كان بقضاء القاضي أو أن القاضي دفعها إليه وهذا خبر مستقيم صالح وهو بمنزلة حالة المسالمة معنى لأن كل ذي دين يكون مستسلما لقضاء القاضي وإن قال قضي لي بها فجحدني قضاه فأخذتها منه لم ينبغ له أن يشتريها منه لأنه لما جحد القضاء فقد جاءت المنازعة فإنما أخبر بالأخذ في حالة المنازعة وخبر الواحد في هذا لا يكون حجة لما فيه من الإلزام ولأن القضاء سبب مطلق للأخذ له كالشراء ولو قال اشتريتها ونقدته الثمن ثم جحدني الشراء فأخذتها منه لم يجز له أن يعتمد خبره وكذلك إذا قال جحدني القضاء وهذا لأن الشرع جعل القول قول الجاحد فيكون سبب استحقاقه عند جحود الآخر كالمعدوم ما لم يثبته بالبينة يبقى قوله أخذتها منه ولو قال اشتريتها من فلان وقبضتها بأمره ونقدته الثمن وكان ثقة عنده مأمونا فقال له رجل آخر إن فلانا جحد هذا الشراء وزعم أنه لم يبع منه شيئا والذي قال هذا أيضا ثقة مأمون لم ينبغ له أن يتعرض لشيء من ذلك بشراء ولا غيره لأن الأول لو خبر أنه جحد الشراء لم يكن له أن يشتريها فكذلك إذا أخبره غيره وهذا لأن المعارضة تحققت بين الخبرين في الأمر بالقبض وعدم الأمر والجحود والإقرار فالأصل فيه الجحود وإن كان الذي أخبره الثاني غير ثقة إلا أن أكبر رأيه أنه صادق فكذلك الجواب لأن خبر الفاسق يتأيد بأكبر رأى السامع وإن كان رأيه أنه كاذب وهو غير ثقة فلا بأس بشرائها منه

 

ج / 10 ص -146-    لأن خبره غير معتبر إذا كان أكبر رأى السامع بخلافه فكان المعني فيه أن خبر العدل كان مقبولا لترجح جانب الصدق فيه بأكبر الرأي لا بطريق اليقين فإن العدل غير معصوم من الكذب فإذا وجد مثله في خبر الفاسق كان خبره كخبر العدل وإن كانا جميعا غير ثقة وأكبر رأيه أن الثاني صادق لم يتعرض لشيء من ذلك بمنزلة ما لو كان الثاني ثقة وفي الكتاب قال لأن هذا من أمر الدين وعليه أمور الناس وهو إشارة إلى أن كل ذي دين معتقد لما هو من أمور الدين فتتم الحجة بخبر الثقة لوجود الالتزام من السامع اعتقادا أو التعامل الظاهر بين الناس اعتماد هذه الأخبار ولو لم يعمل في مثل هذه إلا بشاهدين لضاق الأمر على الناس فلدفع الحرج يعتمد فيه خبر الواحد كما جعل الشرع شهادة المرأة الواحدة فيما لا يطلع عليه الرجال حجة تامة لدفع الضيق والحرج.
قال ألا ترى لو أن تاجرا قدم بلدا بجواري وطعام وثياب فقال أنا مضارب فلان أو أنا مفاوضه وسع الناس أن يشتروا منه ذلك وكذلك العبد يقدم بلدا بتجارة ويدعى أن مولاه قد أذن له في التجارة فإن الناس يعتمدون خبره ويعاملونه ولو لم يطلق لهم ذلك كان فيه من الحرج ما لا يخفي واستدل عليه بحديث رواه عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى عن أبي الهيثم أن عاملا لعلي رضي الله عنه أهدى إليه جارية فسألها أفارغة أنت فأخبرته أن لها زوجا فكتب إلى عامله إنك بعثت بها إلى مشغولة قال أفترى أنه كان مع الرسول شاهدان أن عاملك أهدى هذه إليك وقد سألها علي رضي الله عنه أيضا فلما أخبرته أن لها زوجا صدقها وكف عنها ولم يسألها عن ذلك إلا أنها لو أخبرته أنها فارغة لم ير بأسا بوطئها.
قال وأكبر الرأي والظن مجوز للعمل فيما هو أكبر من هذا كالفروج وسفك الدماء فإن من تزوج امرأة ولم يرها فأدخلها عليه إنسان وأخبره أنها امرأته وسعه أن يعتمد خبره إذا كان ثقة أو كان في أكبر رأيه أنه صادق فيغشاها وكذلك لو دخل على غيره ليلا وهو شاهر سيفه أو ماد رمحه يشتد نحوه ولا يدري صاحب المنزل أنه لص أو هارب من اللصوص فإنه يحكم رأيه فإن كان في أكبر رأيه أنه لص قصده ليأخذ ماله ويقتله إن منعه وخافه إن زجره أو صاح به أن يبادره بالضرب فلا بأس بأن يشد عليه صاحب البيت بالسيف فيقتله وإن كان في أكبر رأيه أنه هارب من اللصوص لم ينبغ له أن يعجل عليه ولا يقتله وإنما أورد هذا لإيضاح ما تقدم أن أهم الأمور الدماء والفرج فإن الغلط إذا وقع فيهما لا يمكن التدارك ثم جاز العمل فيهما بأكبر الرأي عند الحاجة ففيما دون ذلك أولى وإنما يتوصل إلى أكبر الرأي في حق الداخل عليه بأن يحكم رأيه وهيئته فإن كان قد عرفه قبل ذلك بالجلوس مع أهل الخير فيستدل به على أنه هارب من اللصوص وإن عرفه بالجلوس مع السراق استدل عليه أنه سارق وإذا قال الرجل إن فلانا أمرني ببيع جاريته التي هي في منزله ودفعها إلى مشتريها فلا بأس بشرائها منه وقبضها من منزل مولاها بأمر البائع أو بغير أمره أو إذا فاه ثمنها وكان البائع

 

ج / 10 ص -147-    ثقة أو كان غير ثقة ووقع في قلبه أنه صادق لأن الجارية لو كانت في يده جاز شراؤها منه لا باعتبار يده بل بإخباره أنه وكيل بالبيع فإن هذا خبر مستقيم صالح وهذا موجود وإن لم تكن في يده وبعد صحة الشراء له أن يقبضها إذا أوفى الثمن من غير أن يحتاج إلى إذن أحد في ذلك وإن كان وقع في قلبه أنه كاذب قبل الشراء أو بعده قبل أن يقبض لم ينبغ له أن يتعرض لشيء حتى يستأمر مولاها في أمرها لأن أكبر الرأي بمنزلة اليقين في حقه فإن ظهر كذبه قبل الشراء فهو مانع له من الشراء وإن ظهر بعد الشراء فهو مانع له من القبض بحكم الشراء لأن ما يمنع العقد إذا اقترن به يمنع القبض بحكمه أيضا كالتخمر في العصير وكذلك لو قبضها ووطئها ثم وقع في قلبه أن البائع كذب فيما قال وكان عليه أكبر ظنه فإنه يعتزل وطأها حتى يتعرف خبرها لأن كل وطأة فعل مستأنف من الواطيء ولو ظهر له هذا قبل الوطأة الأولى لم يكن له أن يطأها فكذلك بعدها وهكذا أمر الناس ما لم يجيء التجاحد من الذي كان يملك الجارية فإذا جاز ذلك لم يقربها وردها عليه لأن الملك له فيها ثابت بتصادقهم وتوكيله لم يثبت بقول البائع فعليه أن يردها ويتبع البائع بالثمن لبطلان البيع بينهما عند جحود التوكيل وينبغي للمشتري أن يدفع العقر إلى مولى الجارية لأنه وطئها وهي غير مملوكة له وقد سقط الحد بشبهة فيلزمه العقر وإن كان المشترى حين اشتراها شهد عنده شاهدا عدل أن مولاها قد أمره ببيعها ثم حضر مولاها فجحد أن يكون أمره ببيعها فالمشتري في سعة من إمساكها والتصرف فيها حتى يخاصمه إلى القاضي لأن شهادة الشاهدين حجة حكمية ولو شهدا عند القاضي لم يلتفت القاضي إلى جحود المالك وقضى بالوكالة وبصحة البيع فكذلك إذا شهدا عنده فإذا خاصم إلى القاضي فقضى له بها لم يسعه إمساكها بشهادة الشاهدين لأن قضاء القاضي أنفذ من الشهادة التي لم يقض بها ومعنى هذا أن الشهادة لم تكن ملزمة بدون القضاء وقضاء القاضي يلزمه بنفسه والضعيف لا يظهر في مقابلة القوي رجل تزوج امرأة فلم يدخل بها حتى غاب عنها فأخبره مخبر أنها قد ارتدت عن الإسلام والمخبر ثقة عنده وهو حر أو مملوك أو محدود في قذف وسعه أن يصدقه ويتزوج أربعا سواها لأنه أخبره بأمر ديني وهو حل نكاح الأربع له وهذا أمر بينه وبين ربه وكذلك إن كان غير ثقة وكان أكبر رأيه أنه صادق لأن خبر الفاسق يتأكد بأكبر الرأي ولأن هذا الخبر غير ملزم إياه شيئا والمعتبر في مثله التمييز دون العدالة وإنما اعتبار العدالة في خبر ملزم وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يتزوج أكثر من ثلاث لأن خبر الفاسق يسقط اعتباره بمعارضة أكبر الرأي بخلافه ولو كان المخبر أخبر المرأة أن زوجها قد ارتد فلها أن تتزوج بزوج آخر في رواية هذا الكتاب أيضا.
وفي السير الكبير يقول ليس لها ذلك حتى يشهد عندها بذلك رجلان أو رجل وامرأتان قال لأن ردة الزوج أغلظ حتى يتعلق بها استحقاق القتل بخلاف ردة المرأة وما ذكر هنا أصح لأن المقصود الإخبار بوقوع الفرقة لا إثبات موجب الردة ألا ترى أنها تثبت بشهادة

 

ج / 10 ص -148-    رجل وامرأتين والقتل بمثله لا يثبت وكذلك إن كانت صغيرة فأخبر أنها قد رضعت من أمه أو أخته ولو أخبر أنه تزوجها يوم تزوجها وهي مريدة أو أخته من الرضاعة والمخبر ثقة لم ينبغ له أن يتزوج أربعا سواها ما لم يشهد بذلك عنده شاهدا عدل لأنه أخبر بفساد عقد حكمنا بصحته ولا يبطل ذلك الحكم بخبر الواحد وفي الأول ما أخبر بفساد أصل النكاح بل أخبر بوقوع الفرقة بأمر محتمل يوضحه أن إخباره بأن أصل النكاح كان فاسدا مستنكر لأن المسلم لا يباشر العقد الفاسد عادة فأما إخباره بوقوع الفرقة بسبب عارض غير مستنكر وإن شهد عنده شاهدا عدل بذلك وسعه أن يتزوج أربعا لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي حكم ببطلان النكاح فكذلك إذا شهدا به عند الزوج وعلى هذا لو أن امرأة غاب عنها زوجها فأخبرها مسلم ثقة أن زوجها طلقها ثلاثا أو مات عنها أو كان غير ثقة فأتاها بكتاب من زوجها بالطلاق ولا تدري أنه كتابه أم لا إلا أن أكبر رأيها أنه حق فلا بأس بأن تعتد وتتزوج ولو أتاها فأخبرها أن أصل نكاحها كان فاسدا وأن زوجها كان أخاها من الرضاعة أو مرتدا لم يسعها أن تتزوج بقوله وإن كان ثقة لأنه في هذا الفصل أخبرها بخبر مستنكر وقد ألزمها الحكم بخلافه وفي الأول أخبرها بخبر محتمل وهو أمر بينها وبين ربها فلها أن تعتمد ذلك الخبر وتتزوج وهي نظير امرأة قالت لرجل قد طلقني زوجي ثلاثا وانقضت عدتي ووقع في قلبه أنها صادقة فلا بأس بأن يتزوجها بقولها وكذلك المطلقة ثلاثا إذا قالت لزوجها الأول انقضت عدتي وتزوجت بزوج آخر ودخل بي ثم طلقني وانقضت عدتي فلا بأس على زوجها الأول أن يتزوجها إذا كانت عنده ثقة أو وقع في قلبه أنها صادقة لأنها أخبرت بحلها له بأمر محتمل وفي هذا بيان أنها لو قالت لزوجها الأول حللت لك لا يحل له أن يتزوجها ما لم يستفسرها لاختلاف بين الناس في حلها له بمجرد العقد قبل الدخول فلا يكون له أن يعتمد مطلق خبرها بالحل حتى تفسره ولو أن جارية صغيرة لا تعبر عن نفسها في يد رجل يدعى أنها له فلما كبرت لقيها رجل من بلد آخر فقالت أنا حرة الأصل لم يسعه أن يتزوجها لأنه علم أنها كانت مملوكة لذي اليد فإن اليد فيمن لا يعبر عن نفسه دليل الملك والقول قول ذي اليد أنها مملوكته فإخبارها بخلاف المعلوم لا يكون حجة له وهو خبر مستنكر وإن قالت كنت أمة له فأعتقني وكانت عنده ثقة أو وقع في قلبه أنها صادقة لم أر بأسا بأن يتزوجها لأنها أخبرت بحلها له بسبب محتمل لم يعلم هو خلافه فيجوز له أن يعتمد خبرها وكذلك الحرة نفسها لو تزوجت رجلا ثم أتت غيره فأخبرته أن نكاحها الأول كان فاسدا وأن زوجها كان على غير الإسلام لم ينبغ لهذا أن يصدقها ولا يتزوجها لأنها أخبرته بخبر مستنكر يعلم هو خلاف ذلك وإن قالت إنه طلقني بعد النكاح أو ارتد عن الإسلام وسعه أن يعتمد خبرها ويتزوجها لأنها أخبرت بحلها لها بسبب محتمل فمتى أقرت بعد النكاح أنه كان مرتدا حين تزوجني أو أني كنت أخته من الرضاعة لا يعتمد خبرها لأنه خلاف المعلوم وإذا أخبرت بالحرمة بسبب

 

ج / 10 ص -149-    عارض بعد النكاح من رضاع أو غير ذلك وثبتت على ذلك فإن كانت ثقة مأمونة أو غير ثقة إلا أن أكبر رأيه أنها صادقة فلا بأس بأن يتزوجها وفيه شبهة فإن الملك الثابت للغير فيها لا يبطل بخبرها وقيام الملك للغير يمنعه من أن يتزوج بها ولكن قيام الملك للغير في الحال ليس بدليل موجب بل باستصحاب الحال فما عرف ثبوته فالأصل بقاؤه وخبر الواحد أقوى من استصحاب الحال فأما صحة النكاح في الابتداء بدليل موجب له وهو العقد الذي عاينه فلا يبطل ذلك بخبر الواحد واستدل بحديث بريرة أنها أتت عائشة رضي الله عنها بهدية إليها فأخبرتها أنها صدقة تصدق بها عليها فكرهت عائشة رضي الله عنها أن تأكله حتى تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم "هي لها صدقة ولنا هدية" فقد صدق بريرة بقولها وقد علم أن العين كان مملوكا لغيرها وصدق عائشة رضي الله عنها بقولها أيضا حين تناول منها والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

باب الرجل يرى الرجل يقتل أباه
أو يره قال وإذا رأى الرجل رجلا يقتل أباه متعمدا فأنكر القاتل أن يكون قتله أو قال لابنه فيما بينه وبينه أني قتلته  لأنه قتل ولي فلانا عمدا أو لأنه ارتد عن الإسلام ولا يعلم الابن مما قال القاتل شيئا ولا وارث للمقتول غيره فالابن في سعة من قتل القاتل لأنه تيقن بالسبب الموجب لحل دمه للقاتل فكان له أن يقتص منه معتمدا على قوله تعالى
{فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الإسراء: 33] وعلى قوله صلى الله عليه وسلم "العمد قود" وحاصل المسألة على أربعة أوجه أحدها إذا عاين قتله والثاني إذا أقر عنده أنه قتله فهذا ومعاينة القتل سواء لأن الإقرار موجب بنفسه حتى لا يملك المقر الرجوع عن إقراره فهذا ومعاينة السبب سواء والثالث أن يقيم البينة بأنه قتل أباه فيقضى له القاضي بالقود فهو في سعة من قتله لأن قضاء القاضي ملزم فيثبت به السبب المطلق لاستيفاء القود له والرابع أن يشهد عنده شاهدا عدل أن هذا الرجل قتل أباه فليس له أن يقتله بشهادة لأن الشهادة لا توجب الحق ما لم يتصل بها قضاء القاضي فلا يتقرر عنده السبب المطلق لاستيفاء القود بمجرد الشهادة ما لم ينضم إليه القضاء والذي بينا في الابن كذلك في غيره إذا عاين القتل أو سمع إقرار القاتل به أو عاين قضاء القاضي به كان في سعة من أن يعين الابن على قتله لأنه يعينه على استيفاء حقه وذلك من باب البر والتقوى ولو شهد عنده بذلك شاهدان لم يسعه أن يعينه على قتله بشهادتهما حتى يقضي القاضي له بذلك وإن أقام القاتل عند الابن شاهدين عدلين أن أباه كان قتل أبا هذا الرجل عمدا فقتله به لم ينبغ للابن أن يعجل بقتله حتى ينظر فيما شهدا به لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي حكم ببطلان حقه فكذلك إذا شهدا عنده وكذلك لا ينبغي لغيره أن يعينه على ذلك إذا شهد عنده عدلان لما قلنا: أو بأنه كان مرتدا حتى يتثبت فيه وهذا لأن القتل إذا وقع فيه الغلط لا يمكن تداركه فيتثبت فيه حتى يكون إقدامه عليه عن بصيرة وإن شهد بذلك عنده محدودان في قذف أو عبدان أو نسوة عدول لا رجل معهن أو فاسقان فهو في سعة من قتله

 

ج / 10 ص -150-    لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي لم يمنعه من قتله بل يعينه على ذلك فكذلك إذا شهدوا عنده وإن تثبت فيه فهو خير له لأنه أقرب إلى الاحتياط فإن القتل لا يمكن تداركه إذا وقع فيه الغلط وفرق بين القصاص وحد القذف فقال القاذف إذا أقام أربعة من الفساق يشهدون على صدق مقالته لا يقام عليه حد القذف والقاتل إذا أقام فاسقين على العفو أو على أن قتله كان بحق لا يسقط القود عنه والفرق أن هناك السبب الموجب للحد لم يتقرر فإن نفس القذف ليس بموجب للحد لأنه خبر متمثل بين الصدق والكذب وإنما يصير موجبا بعجزه عن إقامة أربعة من الشهداء ولم يظهر ذلك العجز لأن للفساق شهادة وإن لم تكن مقبولة والموجب للقود هو القتل وقد تقرر ذلك فالعفو بعده مسقط وهذا المسقط لا يظهر إلا بقبول شهادته وليس للفاسق شهادة مقبولة وبيان هذا أن الله تعالى قال  {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] والمعطوف على الشرط شرط وفي باب القتل أوجب القود بنفس القتل فقال تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] ثم قال {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} [المائدة: 45] فعرفنا أن العفو مسقط بعد الوجوب لا أن يكون عدم العفو مقررا سبب الوجوب وإن شهد بذلك عنده شاهد عدل ممن يجوز شهادته فقال القاتل عندي شاهد آخر مثله ففي القياس له أن يقتله لأن المانع لا يظهر بشهادة الواحد وفي الاستحسان لا يعجل بقتله حتى ينظر أيأتيه بآخر أم لأنه لو أقام شاهد عدل عند القاضي وادعى أن له شاهدا آخر حاضرا أمهله إلي آخر مجلسه فكذلك الولي يمهله حتى يأتي بشاهد آخر وإن قتله كان في سعة لأن السبب المثبت لحقه مقرر والمانع لم يظهر وعلى هذا مال في يدي رجل شهد عدلان عند رجل أن هذا المال كان لأبيك غصبه هذا الرجل منه ولا وارث للأب غيره فله أن يدعى بشهادتهم وليس له أن يأخذ ذلك المال ما لم تقم البينة عند القاضي ويقضي له بذلك لأن الشهادة لا تكون ملزمة بدون القضاء وفي الأخذ قصر يد الغير وليس في الدعوى إلزام أحد شيئا فيتمكن من الدعوى بشهادتهما ولا يتمكن من الأخذ حتى يقضي له القاضي بذلك لأن ذا اليد مزاحم له بيده ولا تزول مزاحمته إلا بقضاء القاضي وكذلك لا يسع غير الوارث أن يعين الوارث على أخذه بهذه الشهادة ما لم يتصل به القضاء وإن كان الوارث عاين أخذه من أبيه وسعه أخذه منه وكذلك إن أقر الآخذ عنده بالأخذ لأن إقراره ملزم فهو كمعاينة السبب أو قضاء القاضي له به ويسعه أن يقاتله عليه وكذلك يسع من عاين ذلك إعانته عليه وإن أتى ذلك على نفسه إذا امتنع وهو في موضع لا يقدر فيه على سلطان يأخذ له بحقه لأنه يعلم أنه ملكه وكما أن له أن يقاتل دفعا عن ملكه إذا قصد الظالم أخذه منه فكذلك له أن يقاتل في استرداده والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم "من قتل دون ماله فهو شهيد" وإذا شهد عدلان عند امرأة أن زوجها طلقها ثلاثا وهو يجحد ذلك ثم ماتا أو غابا قبل أن يشهدا عند القاضي بذلك لم يسع امرأته أن تقيم عنده وكان ذلك بمنزلة سماعها لو سمعته يطلقها ثلاثا لأنهما لو شهدا بهذا عند القاضي حكم بحرمتها عليه فكذلك إذا شهدا بذلك عندها وهذا بخلاف ما تقدم لأن القتل وأخذ

 

ج / 10 ص -151-    المال قد يكون بحق وقد يكون بغير حق فأما التطليقات الثلاث لا تكون إلا موجبة للحرمة فإن قال قائل فقد يطلق الرجل غير امرأته ولا يكون ذلك طلاقا. 
قلنا: هذا على أحد وجهين إما أن تكون امرأته فيكون الطلاق واقعا عليها أو تكون غير امرأته فليس لها أن تمكنه من نفسها وحاصل الفرق أن هناك الشبهة من وجهين:
أحدهما احتمال الكذب في شهادتهما والآخر كون القتل بحق فيصير ذلك مانعا من الإقدام على ما لا يمكنه تداركه وهنا الشبهة من وجه واحد وهو احتمال الكذب في شهادتهما فأما إذا كانا صادقين فلا مدفع للطلاق وبظهور عدالتهما عندها ينعدم هذا الاحتمال حكما كما ينعدم عند القاضي فإن قيل: كما أن في شهادة شاهدين احتمال الكذب ففي إقرار المقر ذلك وقد قلتم يسعه أن يقتله إذا سمع إقراره.
قلنا: هذا الاحتمال يدفعه عقل المقر فالإنسان لا يقر على نفسه بالسبب الموجب لسفك دمه كاذبا إذا كان عاقلا وإن لم يكن عاقلا فلا معتبر بإقراره وكذلك لو شهدا على رضاع بينهما لم يسعها المقام على ذلك النكاح لأنهما لو شهدا بذلك عند القاضي فرق بينهما فكذلك إذا شهدا عندها فإن مات الشاهدان وجحد الزوج وحلف ينبغي لها أن تفتدي بمالها أو تهرب منه ولا تمكنه من نفسها بوجه من الوجوه لأنه تمكين من الزنى وكان إسماعيل الزاهد رحمه الله تعالى يقول تسقيه ما تنكسر به شهوته فإن لم تقدر على ذلك قتلته إذا قصدها لأنه لو قصد أخذ مالها كان لها أن تقتله دفعا عن مالها فإذا قصد الزنى بها أولى أن يكون لها أن تقتله دفعا عن نفسها ولو هربت منه لم يسعها أن تعتد وتتزوج لأنها في الحكم زوجة الأول فلو تزوجت غيره كانت ممكنة من الحرام فعليها أن تكف عن ذلك قالوا وهذا في القضاء فأما فيما بينها وبين الله تعالى فلها أن تتزوج بعد انقضاء عدتها ولا يشتبه ما وصفت لك قضاء القاضي فيما يختلف فيه الفقهاء مما يرى الزوج فيه خلاف ما يرى القاضي وبيان هذا الفصل أنه لو قال لامرأته اختارى فاختارت نفسها وهو يري أن ذلك تطليقة بائنة والمرأة لا ترى ذلك فاختصما في النفقة والقاضي يراه تطليقة رجعية فقضى القاضي بأنه يملك رجعتها جاز قضاؤه ووسع الرجل أن يراجعها فيمسكها وكذلك إن كانت المرأة هي التي تراه تطليقة بائنة فراجعها الزوج وحكم القاضي له بذلك وسعها المقام بذلك معه ولم يسعها أن تفارقه لأن قضاء القاضي هنا اعتمد دليلا شرعيا وفي الأول قضى بالنكاح لعدم ظهور الدليل الموجب للحرمة فكان إبقاء لما كان لا قضاء بالحل بينهما حقيقة ثم حاصل الكلام في المجتهدات أن المبتلى بالحادثة إذا كان غائبا لا رأي له فعليه أن يتبع قضاء القاضي سواء قضي القاضي له بالحل أو بالحرمة وإن كان عالما مجتهدا فقضى القاضي بخلاف اجتهاده فإن كان هو يعتقد الحل وقضى القاضي عليه بالحرمة فعليه أن يأخذ بقضاء القاضي ويدع رأي نفسه لأن القضاء ملزم للكافة ورأيه لا يعدوه وإن قضى له بالحل وهو يعتقد الحرمة ففي قول أبي يوسف رحمه الله تعالى عليه أن يتبع رأى نفسه وفي قول محمد رحمه الله تعالى يأخذ بقضاء القاضي

 

ج / 10 ص -152-    لأن الاجتهاد لا يعارض القضاء ألا ترى أن للقاضي ولاية نقض اجتهاد المجتهد والقضاء عليه بخلافه وليس له ولاية نقض القضاء في المجتهدات والقضاء بخلاف الأول والضعيف لا يظهر مع القوى وأبو يوسف يقول اجتهاده ملزم في حقه وقضاء القاضي يكون عن اجتهاد فمن حيث ولاية القضاء ما يقضي به القاضي أقوى ومن حيث حقيقة الاجتهاد يترجح ما عنده في حقه على ما عند غيره فتتحقق المعارضة بينهما فيغلب الموجب للحرمة عملا بقوله صلى الله عليه وسلم "ما اجتمع الحرام والحلال في شيء إلا غلب الحرام الحلال" يوضحه أن عنده أن قضاء القاضي ليس بصواب ولو كان ما عنده غير القاضي لم يقض بالحل فكذلك إذا كان ذلك عنده لا يعتقد فيه الحل فإن الله تعالى قال {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة: 188] الآية ففي هذا بيان أن قضاء القاضي لا يحل للمرء ما يعتقد فيه الحرمة وعلى هذا الأموال فإن القاضي لو قضى بالميراث للجد دون الأخ والأخ فقيه يعتقد فيه قول زيد رضي الله عنه فعليه أن يتبع رأى القاضي وإن قضى القاضي بالمقاسمة على قول زيد رحمه الله تعالى والأخ يعتقد مذهب الصديق رضي الله عنه فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى ليس له أن يأخذ المال وعلى قول محمد رحمه الله تعالى له أن يأخذ المال وعلى هذا الطلاق المضاف إذا كان الزوج يعتقد وقوع الطلاق فقضى القاضي بخلافه فهو على الخلاف وإن كان الزوج غائبا أو كان يعتقد أن الطلاق غير واقع فعليه أن يتبع رأى القاضي أو قضي بخلاف اعتقاده وعلى هذا لو استفتى العامي أقوى الفقهاء عنده فأفتى له بشيء فذلك بمنزلة اجتهاده لأنه وسع مثله ثم فيما يقضي القاضي بعد ذلك بخلافه حكمه كحكم المجتهد في جميع ما بينا وكذلك لو حكمنا فقيها فحكمه كفتواه لأن سببه تراضيهما لا ولاية ثابتة له حكما فكان تراضيهما على تحكيمه كسؤالهما إياه والفتوي لا تعارض قضاء القاضي فإذا قضي القاضي عليه بخلاف ذلك كان عليه أن يتبع رأى القاضي ألا ترى أن للقاضي أن يقضي بخلاف حكم الحكم في المجتهدات وليس له أن يقضي بخلاف ما قضي به غيره في المجتهدات ولو قضي به لم ينفذ قضاؤه فهذا معنى قولنا حكم الحكم في حقهما كفتواه وعلى هذا لو شهد عدلان عند جارية أن مولاها أعتقها أو أقر أنه أعتقها لم يسعها أن تدعه يجامعها إن قضي القاضي به أو لم يقض لأن حجة حرمتها عليه تمت عندها فهو والطلاق سواء ولا يسعها أن تتزوج إذا كان المولى يجحد العتق وكذلك إذا شهدا بعتق العبد والمولى يجحد لم يسع العبد أن يتزوج بشهادتهما حتى يقضي له القاضي بالعتق لأنهما مملوكان له في الحكم فلو تزوجا بغير إذنه كانا مرتكبين للحرام عند القاضي وعند الناس والتحرز عن ارتكاب الحرام فرض والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب