المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 11 ص -187-    كتاب الصيد
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء إعلم بأن الاصطياد مباح في الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله تعالى:
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: من الآية2] وأدنى درجات صفة الأمر الإباحة وقال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: من الآية96] الآية والسنة قوله صلى الله عليه وسلم: "الصيد لمن أخذه" فعلى هذا بيان أن الاصطياد مباح مشروع لأن الملك حكم مشروع فسببه يكون مشروعا وهو نوع اكتساب وانتفاع بما هو مخلوق لذلك فكان مباحا ويستوي إن كان الصيد مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم لما في اصطياده من تحصيل المنفعة بجلده أو دفع أذاه عن الناس والحيوانات نوعان نوع منها ما لا دم له فلا يحل تناول شيء منها إلا السمك والجراد لأن شرط تناول الحيوانات الذكاة شرعا وذلك لا يتحقق له فيما لا دم له إلا أن السمك والجراد مستثنى بالنص مما شرط فيه الذكاة لقوله صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال" وماله دم نوعان مستأنس ومستوحش فالذي يحل تناوله من المستأنس بالاتفاق الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم والدجاج وذلك ثابت بالكتاب قال الله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل:5] وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [غافر:79] وفيما سواها من المتأنس نبينه في موضعه إن شاء الله تعالى. والمستوحش نوعان منها صيد البحر لا يحل تناول شيء منها سوى السمك ومنها صيد البر ويحل تناولها إلا ماله ناب أو مخلب لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير ولمعنى الخبث فيهما فإن من طبعهما الاختطاف والانتهاب فلا بد من ظهور أثر ذلك في خلق المتناول للغذاء من الأثر في ذلك كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا ترضع لكم الحمقاء فإن اللبن يعدي" والمستخبث حرام بالنص لقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف: من الآية157] ولهذا حرم تناول الحشرات فإنها مستخبثة طبعا وإنما أبيح لنا أكل الطيبات قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: من الآية172] فقد أكرم المؤمنين بهذا الخطاب حيث خاطبهم بما خاطب به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم حيث قال: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: من الآية51] الآية ثم شرط حل التناول منها فيما يحل منها بالذكاة قال الله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: من الآية3] وزعم بعض العراقيين من مشايخنا رحمهم الله أن الذبح والتذكية محظور بالعقل لما فيها من إيلام الحيوان وهذا عندي باطل

 

ج / 11 ص -188-    فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتناول من اللحم قبل مبعثه ولا يظن أنه كان يتناول ذبائح المشركين لأنهم كانوا يذبحون باسم الأصنام فعرفنا أنه كان يذبح ويصطاد بنفسه وما كان يفعل ما هو محظور عقلا كالظلم والكذب والسفه فإنه لا يجوز أن يظن به أنه فعل ذلك قط. ثم في الذبح والاصطياد تحصيل منفعة الغذاء لمن هو المقصود من الحيوانات وهو الآدمي فيكون ذلك سببا مباحا إليه وأشار الله تعالى في قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً} [البقرة: من الآية29] والإيلام لهذا المقصود فلا يكون محظورا عقلا كالفصد والحجامة مندوب وشرب الأدوية الكريهة في وقتها والذكاة لغة التوقد والتلهب الذي يحدث في الحيوان بحدة لأدلة سميت الشمس ذكاء لشدة الحرارة وسمى الرجل الذي في خاطره حدة ذكيا فبهذا يتبين أن اشتراط الذكاة لتطييب اللحم به فإنه نوع نضج ولهذا كان المذكى أطيب لحما من الميتة وأبعد من النسيس والفساد. وقيل: الذكاة عبارة عن تسييل الدم الفاسد النجس فإن المحرم في الحيوان الدم المسفوح قال الله تعالى في جملة المحرمات: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: من الآية145] فكانت الذكاة إزالة للخبث وتطييبا بتمييز الطاهر من النجس وهو نوعان الذبح في المذبح عند القدرة عليه قال صلى الله عليه وسلم: "الذكاة ما بين اللبة واللحيين" وبالجرح في أي موضع أصابه عند تعذر الذبح في المذبح ثم يحصل بعض ذلك بالجرح والتكليف بحسب الوسع ففي كل موضع يكون الذبح في المذبح مقدورا له لا يثبت الحل إلا به وفي كل موضع تعذر يقوم الجرح مقامه. ثم حل التناول بالاصطياد مختص بشرائط.
أحدها: أن يكون ما يصطاد به معلما.
والثاني: أن يكونا جارحا قال الله تعالى:
{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: من الآية4] وفي معنى الجوارح قولان:
أحدهما: أن يكون جارحا حقيقة بنابه ومخلبه
والثاني: الكواسب قال الله تعالى:
{وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام: من الآية60] أي كسبتم ويمكن حمله عليها فنقول الشرط أن يكون من الكواسب التي تخرج.
والثالث: الإرسال ثبت ذلك في السنة وهو قوله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم:
"وإذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل وإن شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل". فلما حرم التناول عند عدم الإرسال في أحد الكلبين دل أن الإرسال في ذلك شرط ولأن التذكية إنما تكون موجبا للحل إذا حصل من الآدمي فلا بد من جعل آلة الصيد نائبا عن الآدمي ليحصل الحل بفعله وذلك لا يكون إلا بالإرسال واشتراط كونه معلما لتحقق الإرسال فيه.
والرابع: التسمية.
والخامس: إمساكه على صاحبه لقوله تعالى:
{فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة: من الآية4] ومطلق الأمر مفيد للوجوب ولا يجب التسمية عند الأكل فعرفنا أن المراد به عند الإرسال.

 

ج / 11 ص -189-    والسادس: أن يكون الصيد مما يباح تناوله ويكون ممتنعا ومستوحشا.
والسابع: أن لا يتوارى عن بصره أولا يقعد عن طلبه حتى يجده لأنه إذا غاب عن بصره فلا يدري لعل موته كان بسبب آخر سوى جرح ما أرسله وإليه أشار ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بقوله كل ما أممت ودع ما أيمنت والامماء ما رأيته والإيماء ما غاب عنك وإذا قعد عن طلبه فلا يدري لعله لو تبعه وقع في يده حياء وقدر على ذبحه في المذبح وترك ذلك مع القدرة عليه محرم والأصل فيه أنه متى اجتمع في الصيد لعل وعسى أن لا يحل تناوله.
وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله عنه
"إذا وقعت رميتك في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري أن الماء قتله أو سهمك" إذا عرفنا هذا فنقول كما يشترط فيما أرسله الصياد أن يكون خارجا فكذلك فيما يرمي به وبها الكتاب ببيانه مروى عن إبراهيم رحمه الله إذا خرق المعراض فكل وإذا لم يخرق فلا تأكل والمعراض سهم لا نصل له إلا أن يكون رأسه محددا وقيل سهم لا ريش له فربما يصيب السهم عرضا يندق ولا يخرج وهو مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه سئل عن صيد المعراض فقال صلوات الله وسلامه عليه: "ما أصاب بحده فجرح فكل وما أصاب بعرضه فلا تأكل" والحرق هو الخرق إلا أن لفظة الحرق تستعمل فيما لا حياة له كالثوب ونحوه ولفظة الخرق تستعمل في الحيوان وقد بينا أن الحل باعتبار تسييل الدم النجس وذلك يحصل إذا خرق ولا يحصل إذا دق ولم يخرق فإن ذلك في معنى الموقوذة وهو حرام بالنص.
وذكر عن رجل قال كانت لبعض أهل الحي نعامة فضربها إنسان فوقذها فألقاها على كناسة وهي حية فسألنا سعيد بن جبير فقال ذكوها وكلوها وبه نقول فإن الموقوذة إذا أدرك ذكاتها جاز تناولها لقوله تعالى:
{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: من الآية3] ولحصول ما هو المقصود وهو تسييل الدم النجس ومنه دليل إباحة تناول النعامة وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن الكلب يقتل الصيد فقال كل وإن أكل الكلب منه فلا تأكل فإنه أمسك على نفسه لأنه يضرب حتى يترك الأكل وبه أخذ علماؤنا رحمهم الله قالوا الكلب إذا أكل من الصيد الذي أخذه يحرم تناوله وقال مالك رحمه الله تعالى لا يحرم وهو أحد قولي الشافعي رضي الله تعالى عنه لحديث أبي ثعلبة الخشني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في صيد الكلب: "كل وان أكل الكلب منه" ولأنه تناول اللحم دون الصيد لأنه يقتل الصيد أولا فيخرج من أن يكون صيدا وتناول الكلب من لحم الصيد لا يحرم ما بقي منه على صاحبه كما لو فتش في مخلاة صاحبه وتناول شيئا من القديد من لحم الصيد وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: من الآية4] وحين أكل منه فقد تبين أنه أمسكه على نفسه لا على صاحبه حين لا يتركه حتى يشبع منه وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله لعدي بن حاتم رضي الله عنه "فإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه" وتأويل حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه إن صح أنه كان قبل نزول الآية ثم انتسخ أو مراده إذا ولغ في دم الصيد وعندنا ذلك القدر لا يحرم ثم قد بينا أن ثبوت

 

ج / 11 ص -190-    الحل بفعله باعتبار أنه نائب عن صاحبه وينعدم ذلك إذا أكل منه لأنه تبين أن سعيه كان لمنفعة نفسه فهو كما لو انعدم الإرسال أصلاً.
ثم ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في البازي يقتل الصيد ويأكل منه قال كل وقال تعليم البازي أن تدعوه فيجيبك ولا تستطيع أن تضربه حتى يترك الأكل وبه نأخذ وفي أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى البازي والكلب إذا أكل من الصيد لا يحل لما بينا أنه يمسك على نفسه وليس بنائب عن صاحبه ولكن الفرق بينهما عندنا على وجهين:
أحدهما: أن جثة الكلب تحتمل الضرب فيمكن أن يضرب ليدع الأكل وجثة البازي لا تحتمل الضرب وقد بينا أن التكليف بحسب الوسع.
والثاني: أن الكلب ألوف وعلامته علمه أن يأتي بما يكون مخالفا لطبعه وإجابته صاحبه إذا دعاه غير مخالف لطبعه فلا يكون دليلا على علمه بل يكون علامة علمه ترك الأكل عند حاجته إليه لأن ذلك خلاف طبعه فإذا أكل منه لم يكن معلما والشرط في صيد الكلب أن يكون معلما والبازي متنفر فأجابته صاحبه إذا دعاه خلاف طبعه فيجعل ذلك علامة علمه دون ترك الأكل فهو وإن أكل منه فلا يتبين به أنه غير معلم ولكن هذا الفرق لا يتأتى في الفهد والنمر فإنه مستوحش كالبازي ثم الحكم فيه وفي الكلب سواء فالمعتمد هو الأول وعن ابن عباس رضي الله عنهما في الكلب يشرب من دم الصيد ولا يأكل منه فقال لا بأس بأكل الصيد وبه نأخذ وكان ابن أبي ليلى رحمه الله يقول يحرم بذلك لأن دم الصيد جزء منه كلحمه فتبين شربه من دمه أنه أمسكه على نفسه ولكنا نقول هذا دليل حذقه في كونه معلما لأنه شرب ما يعلم أن صاحبه لا يرغب فيه ولا يمنعه منه وأمسك عليه ما يعلم رغبته فيه فكان ذلك فكان دليل علمه وإمساكه على صاحبه ما يحتاج إليه صاحبه ولا يحرم تناول الصيد بخلاف ما لو أكل من لحمه.
وعن إبراهيم رحمه الله في كلب المجوسي أو بازيه يصيد به المسلم قال لا بأس به لأن الصياد مرسل الكلب لا مالك الكلب ومرسل الكلب مسلم من أهل التسمية والكلب آلة الاصطياد فاصطياد المسلم به يوجب الحل فإن كان للمجوسي كاصطياده بقوسه وسهمه.
وعنه في الرجل يرسل كلبه فيذهب معه كلب آخر غير معلم فيرد عليه الصيد ويأخذ الصياد معه قال لا يؤكل وبه نأخذ لقوله صلى الله عليه وسلم لعدي ابن حاتم رضي الله تعالى عنه:
"وإن شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك" ولأن إرسال الكلب من شرائطه الحل وانعدامه يوجب الحرمة والصيد صار مأخوذا بالكلبين والأصل أنه متى اجتمع موجب الحل وموجب الحرمة يغلب الموجب للحرمة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما اجتمع الحلال والحرام في شيء إلا غلب الحرام الحلال" وعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال من رمى صيدا فتردى من جبل فلا يأكله فإني أخاف أن يكون التردي قتله وإن رمى طيرا فوقع في ماء فلا تأكله فإني أخاف أن يكون الغرق قتله وبه نأخذ لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه: "إذا وقعت رميتك في الماء فلا تأكل فإنك لا تدري أن

 

ج / 11 ص -191-    الماء قتله أم سهمك" ولأن التردي موجب للحرمة فإن الله تعالى ذكر جملة المحرمات المتردية وعند اجتماع معنى الموجب للحل ومعنى الموجب للحرمة يغلب الموجب للحرمة وهذا بخلاف ما لو رمى طيرا في الهواء فوقع على الأرض ومات فإنه يؤكل وإن كان من الجائز أنه مات بوقوعه على الأرض فإن ذلك لا يستطاع الامتناع عنه فيكون عفوا والتكليف بحسب الوسع بخلاف الوقوع في الماء والتردي من موضع فإنه يستطاع الامتناع عنه ويستوي في ذلك طير الماء وغيره لأن طير الماء يعيش في الماء غير مجروح فأما بعد الجرح يتوهم أن يكون الماء قاتلا له كما يتوهم بغيره وهذا بخلاف ما لو ذبح شاة وتردى بعد الذبح من موضع أو وقعت في ماء لأن قطع الحلقوم والأوداج زكاة مستقرة فإنه يحادي بالموت عليه دون ما يتعرض بعده فأما الرمي ليس بزكاة مستقرة حتى إذا وقع الصيد في يد الرامي حيا لم يحل إلا بالذبح فلهذا كان التردي من الجبل والوقوع في الماء محرما له وعن عبد الله بن يزيد قال سألت سعيد بن المسيب رضي الله تعالى عنه عن شيء كان قومي يصفونه بالبادية ينصبون السنان فيصبح وقد قتل الضبع فقال لي وإنك ممن يأكل الضبع قلت ما أكلتها قط فقال رجل عنده حدثنا أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي خطفة ونهبة ومجثمة وعن كل ذي ناب من السباع فقال ابن المسيب رضي الله تعالى عنه صدقت وفي هذا دليل على أن الضبع غير مأكول اللحم وهو مذهبا وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى ولا بأس بأكل الضبع لحديث جابر رضي الله تعالى عنه أنه سئل عن الضبع أصيد هو قال نعم فقيل يؤكل لحمه قال نعم فقيل أشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم وحجتنا في ذلك الحديث الذي روينا وحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير ولأنه ذو ناب يقاتل بنابه فلا يؤكل لحمه كالذئب وتأثيره ما ذكرنا أنه مستخبث باعتبار ما فيه من القصد إلى الأذى والبلادة فيدخل في جملة قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف: من الآية157] وحديث جابر رضي الله تعالى عنه أن صح فتأويله أنه كان في زمن الابتداء ثم انتسخ بنزول الآية وهذا لأن الحرمة ثابتة شرعا فما يروى من الحل يحمل على أنه كان قبل ثبوت الحرمة ولا خلاف في أن الضبع صيد بحسب الجزاء على المحرم بقتله عندنا لأنه صيد وعنده لأنه مأكول اللحم فأما معنى حديث أبي الدرداء رضي الله عنه فالمراد بالخطف ما يختطف بمخلبه من الهواء كالبازي والعقاب والشاهين والمنهبة ما ينتهب بنابه من الأرض كالأسد والذئب والفهد والنمر وفي ذكر هذين الموضعين إشارة إلى معنى الحرمة حتى لا يسري إلى الأكل هذا الخلق الرديء وفي المحتمة روايتان بالفتح والكسر ومعنى الرواية بالفتح ما يحتم عليه الكلب فيقتله غما لا جرحا فذلك الصيد حرام لانعدام معنى الذكاة فيه ومعنى الرواية بالكسر ما يحتم على الصيود كالذئب والأسد والفهد فإنه غير مأكول ومعنى قوله: "وعن كل ذي ناب من السباع" ما يقصد بنابه ويدفع به فأما أصل الناب يوجد لكل صيد فعرفنا أن المحرم ما بينا وعن إبراهيم رحمه الله

 

ج / 11 ص -192-    تعالى قال: كانوا يكرهون كل ذي مخلب من الطير وما أكل الجيف وبه نأخذ لأن كل ما يأكل الجيف كالفراق والغراب الأبقع مستخبث طبعا فيدخل تحت قوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}.
وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه سئل عن أكل الغراب فقال ومن يأكله بعد ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"فاسقا" يريد به الحديث المعروف: "خمس فواسق يقتلهم المحرم في الحل والحرم" وذكر الغراب من جملتها والمراد به ما يأكل الجيف وأما الغراب الزرعي الذي يلتقط الحب فهو طيب مباح لأنه غير مستخبث طبعا وقد يألف الآدمي كالحمام فهو والعقعق سواء ولا بأس بأكل العقعق فإن كان الغراب بحيث يخلط فيأكل الجيف تارة والحب تارة فقد روى عن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه يكره لأنه اجتمع فيه الموجب للحل والموجب للحرمة وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه لا بأس بأكله وهو الصحيح على قياس الدجاجة فإنه لا بأس بأكلها وقد أكلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي قد تخلط أيضا وهذا لأن ما يأكل الجيف فلحمه ينبت من الحرام فيكون خبيثا عادة وهذا لا يوجد فيما يخلط وعن ابن المسيب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أن تنخع الشاة إذا ذبحت وبه نأخذ. ومعناه أن يبالغ الذابح بالذبح حتى يبلغ بالسكين النخاع والنخاع عرق أبيض في عظم الرقبة وفي هذا زيادة إيلام غير محتاج إليه والشرع نهى عن ذلك والأصل فيه حديث أبي الأشعث الصبغاني رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" والنخع ليس من الاحسان في شيء وكان منهيا عنه وروى كراهية ذلك عن عمر وبن عمر رضي الله تعالى عنهما حتى قال عمر رضي الله تعالى عنه لا تجروا العجماء إلى مذبحها برجلها وأحدوا الشفرة وأسرعوا الممر على الأوداج ولا تحفوا.
وعن مكحول رضي الله تعالى عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح لم ينخع ولم يبد بسلخ حتى تبرد الشاة وفي هذا دليل على أنه لا بأس للمرء أن يذبح بنفسه وإن ذلك ليس من ترك الترحم في شيء بخلاف ما قاله جهال المتقشفة وفيه دليل على أنه ينبغي للذابح أن يتحرز عن زيادة إيلام غير محتاج إليه وعن عكرمة رضي الله عنه قال نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل قد أضجع شاة وهو يحد الشفرة وهي ملاحظة فقال عليه الصلاة والسلام:
"أردت أن تميتها موتات" وبه نأخذ فنقول يكره له أن يحد الشفرة بين يديها لما فيه من زيادة إيلام غير محتاج إليه.
وضرب عمر رضي الله عنه من رآه يفعل ذلك بالدرة حتى هرب وشردت الشاة ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا وقد أخذ أذن شاة وهو يجرها إلى المذبح فقال:
"قدها إلى الموت قودا رفيقا" وفي رواية قال: "خذ ساقها فإن الله يرحم من عباده الرحماء" والمعنى أنها تعرف ما يراد بها كما جاء في الخبر: "أبهمت البهائم إلا عن أربعة خالقها ورازقها وحتفها وسفادها" فإذا كانت تعرف ذلك وهو

 

ج / 11 ص -193-    يحد الشفرة بين يديها ففيه زيادة إيلام غير محتاج إليه وكذلك إذا لم يحد الشفرة ولكن الشاة لا تحرم بشيء من هذا لأن ما هو المطلوب من الذكاة وهي تسييل الدم النجس منها قد وجد والنهى لمعنى في غير المنهى عنه فلا يكون موجبا للحرمة وقد وجد.
وعن رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"ما أنهر الدم وأفرى الأوداج فكل ما عدا السن والظفر والعظم فإنها مدى الحبشة" والمراد بيان آلة الذبح وفيه دليل أنه يشترط للذكاة آلة محددة يحصل بها إنهار الدم وإفراء الأوداج والأنهار التسييل ومنه سمى النهر لأن الماء يسيل فيه والنهار تجري فيه الشمس بمرأى العين من العباد والأفراء القطع والمراد بالأوداج الحلقوم والمرىء والودجان وفي هذا بيان أن المطلوب من الذكاة تمييز الطاهر من النجس بتسييل الدم من الحيوان والمراد بما استثنى من السن والظفر المركب لأنه باستعمال ذلك يصير قاتلا لا ذابحا فإنهما منه وآلة الذبح غير الذابح وإنما يحصل بانقطاع الأوداج بالقوة لا بحدة الآلة ألا ترى أنه قال فإنها مدى الحبشة وهم إنما يعتادون الذبح بسن أنفسهم وظفر أنفسهم وذلك يحرم بالإتفاق فأما في الذبح بالسن المقلوعة والظفر المنزوعة والعظم المنفصل إذا كان محدودا اختلاف نبينه.
وعن عامر قال لا بأس بذبيحة الأخرس إذا كان من أهل الإسلام أو من أهل الكتاب وبه نأخذ فإن إشارة الأخرس وتحريكه الشفتين بمنزلة البسملة من الناطق ألا ترى أنه يصير به شارعا في الصلاة كما يكون الناطق شارعا بالتكبير ثم الأهلية للذبح يكون للذابح من أهل تسمية الله تعالى على الخلوص وذلك باعتقاده التوحيد والأخرس معتقد لذلك ثم المحرم بعده الإعراض عن التسمية ولا يتحقق الإعراض من الأخرس فعذره أبلغ من عذر الناسي وإذا كان بعذر النسيان ينعدم الإعراض فبعذر الخرس أولى.
وعن علي رضي الله عنه في الرجل إذا ذبح الشاة أو الطير فقطع رأسه قال لا بأس بأكله.
وعنه أنه قال: تلك ذكاة وحية أي سريعة.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه أنه سئل عن رجل ضرب عنق بطة بالسيف فسبق فأماته قال يؤكل وبه نأخذ لأنه أتى بما هو المحتاج إليه وهو قطع الحلقوم والأوداج وزاد على ذلك إلا أنه بدأ بالقطع من قبل الحلق حتى أبان رأسه فلا يشك في إباحة أكله ويكره هذا الصنيع لأنه زيادة إيلام غير محتاج إليه وإن بدأ من قبل القفا فإن قطع الحلقوم والأوداج قبل أن تموت الشاة حلت فإن ماتت قبل أن تقطع الحلقوم والأوداج لم تؤكل لأن فعل الذكاة بقطع الحلقوم والأوداج عند القدرة وإن ماتت بفعل ليس بذكاة شرعا وذلك موجب للحرمة بخلاف ما إذا مات قبل قطع الحلقوم والأوداج.
وعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال الذكاة ما بين اللبة واللحيين وبه نأخذ وقد

 

ج / 11 ص -194-    روى هذا اللفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم والمراد بيان محل الذكاة عند الاختيار وفيه دليل على أن أعلى الحلق وأوسطه وأسفله سواء في ذلك لأن الكل في المعنى المطلوب بالذكاة سواء.
وعن إبراهيم رحمه الله تعالى قال إذا ذبحت فلا تذكر مع اسم الله تعالى شيئا غيره وهكذا نقل عن بن مسعود رضي الله عنه قال جردوا التسمية عند الذبح والأصل فيه قوله تعالى:
{فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن: من الآية18] وإن أهل الجاهلية كانوا يذكرون آلهتهم عند الذبح فحرم ذلك الشرع بقوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: من الآية173] وأمر بتسمية الله تعالى عند الذبح على الخلوص لمخالفة المشركين فلا ينبغي أن يذكر مع اسم الله تعالى غيره وإذا أراد أن يدعو فيقول اللهم تقبل من فلان ينبغي أن يقدم ذلك على فعل الذبح أو يؤخره عنه فأما مع الحر لا يذكر غير اسم الله تعالى وهو تأويل الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحى عن أمته قال: "هذا عمن شهد لي بالبلاغ إلى يوم القيامة" إنما قال بعد الذبح لا معه.
وعن رافع بن خديج رضي الله عنه أن بعيرا من إبل الصدقة قد ند فرماه رجل بسهم وسمى فقتله فقال صلى الله عليه وسلم:
"إن لها أوابد كأوابد الوحش فإذا فعلت شيئا من ذلك فافعلوا به كما فعلتم بهذا ثم كلوه" وبه نأخذ فنقول عند تعذر الحل بذكاة الاختيار يثبت الحل بذكاة الاضطرار وذلك بالجرح في أي موضع أصابه ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إن لها أوابد كأوابد الوحش" أي أن لها تنفرا واستيحاشا كما يكون الوحش إلا أن الأغلب من حالها الألف والوحشي أغلب حاله التوحش فإذا صار ألوفا التحق بما هو ألوف غالبا وإذا توحش التحق بالوحشي غالبا والمراد بإبل الصدقة ما يؤخذ بالصدقة أو ما كان ينحر لإطعام المساكين وقد كان ذلك معروفا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده.
وعن عتابة بن رافع بن خديج رضي الله عنه أن بعيرا تردى في نهر بالمدينة فوجئ من قبل خاصرته فأخذ منه ابن عمر رضي الله عنهما عسيرا بدرهمين وفي هذا دليل أن الحل يثبت بذكاة الاضطرار عند تعذر الذكاة بالاختيار وأنه لافرق بين أن يتعذر ذلك بتوحشه وبين أن يتعذر سقوطه في مهوى فإن ابن عمر رضي الله عنهما مع زهده وتفرده رغب في الشراء منه والعسير تصغير العسير وقد روى عشيراء وهو سواد البطن والأول أصح.
وعن إبراهيم رحمه الله قال إذا تردى بعير في بئر ولم يقدروا أن ينحروه فمن حيث نحر فهو له ذكاة. ففي هذا بيان أن السنة في البعير النحر وفي البقر والغنم الذبح وبه نطق الكتاب قال الله تعالى:
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: من الآية67] وقال الله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] والمراد الشاة والذي جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحرنا البدنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبعة والبقرة عن سبعة معناه وذبحنا البقرة عن سبعة ومثل هذا الإضمار مع العطف معلوم في لسان العرب قال القائل:

علفتها تبنا وماء باردا

 

ج / 11 ص -195-    أي وسقيتها ماء باردا لأن الماء لا يعلف وعن علي رضي الله عنه قال ذكاة السمك والجراد أخذه ومراده بيان أن الذكاة ليست بشرط فيهما بل يثبت الحل فيهما بالأخذ من غير ذكاة ألا ترى أنه لا تثبت الحرمة بكون الآخذ مجوسيا أو وثنيا وما يشترط فيه الذكاة يشترط فيه الأهلية للمذكي وحيث لم يشترط في السمك والجراد عرفنا أن الذكاة فيهما ليست بشرط كما قال صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان ودمان" وسئل علي رضي الله عنه عن الجراد يأخذه الرجل من الأرض وفيه الميت وغيره قال كله كله وفي بعض الروايات كله كله فاللفظ الأول تكرار للمبالغة والثاني بيان أنه يؤكل كله وبه نأخذ وأن الجراد وإن وجد ميتا فلا بأس بأكله لأن موته لا بد أن يكون بسبب فإنه بحري الأصل بري المعاش كما قيل أن بيض السمك إذا انحصر عنه الماء يصير جرادا فإذا مات في البر فقد مات في غير موضع أصله وإذا مات في الماء فقد مات في غير موضع معاشه وذلك سبب لموته والدليل على إباحة أكل الجراد ما روى أن مريم رضي الله عنها سألت لحما هشا فرزقت الجراد وأن عمر رضي الله عنه كان مولعا بأكل الجراد حتى قال يوما في مجلسه ليت لنا قصعة من جراد فنأكله أو قال نقعة.
وعن عمرة قالت خرجت مع وليدة لنا فاشترينا خريتة بقفيز من حنطة فوضعناها في زنبيل فخرج رأسها من جانب وذنبها من جانب فمر بنا علي رضي الله عنه فقال لي بكم أخذت فأخبرته فقال ما أطيبه وأرخصه وأوسعه للعيال ففي هذا الحديث دليل على أن الجراد مأكول وبه نأخذ وهو مروى عن ابن عباس رضي الله عنهما فإنه سئل عن الخريت فقال فأما نحن فلا نرى به بأسا فأما أهل الكتاب فيكرهونه وأما الروافض قاتلهم الله تعالى فيأخذون بقول أهل الكتاب ويحرمون الخريت ويدعون قول علي رضي الله عنه مع دعواهم محبته وأهل الكتاب يزعمون أن الخريت من جملة الممسوخات وهذا باطل فإن الممسوخ لا نسل له ولا يبقى بعد ثلاثة أيام بل الخريت نوع من السمك والسمك مأكول بجميع أنواعه يثبت الحل فيه بالكتاب والسنة قال الله تعالى:
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: من الآية96] وقال صلى الله عليه وسلم "أحلت لنا ميتتان ودمان أما الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان فالكبد والطحال" فهذا دليل أنه لا بأس للإنسان أن يتكلم مع النساء والإماء بما لا يحتاج إليه فإن هذا ليس من جملة ما لا يعنيه فإنما الذي لا يعني المرء مما ورد النهي عنه أن يكون فيه مأثم.
وعن إبراهيم رحمه الله قال ما أطيب إهابه وهو كذلك وقد قيل إن أطيب الأشياء من السمك الذنب، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه أتاه عبد أسود فقال إنني في غنم لأهلي وإني سليل الطريق أفأسقي من لبنها بغير إذنهم فقال لا فقال إني أرمي الصيد فاصمى وأنمى قال كل ما أصميت ودع ما أنميت قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى الأصماء ما رأيته والأنماء ما توارى عنك وبه نأخذ إلا أن المراد به إذا توارى عنه وقعد في طلبه فإذا لم يقعد عن طلبه لا يحرم لما بينا أن ما لا يستطاع بالامتناع عنه يكون عفوا وفي الحديث دليل أنه ليس للراعي أن يسقي من لبن الغنم بغير إذن أهلها فإن ابن عباس رضي الله

 

ج / 11 ص -196-    تعالى عنهما نهاه عن ذلك وهذا لأن الراعي أمر بالرعي والحفظ والسقي ومن لبنها بمنزلة هبة عنها ولا يجوز له ذلك بدون إذن أهلها والذي جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر براعي الغنم فاستسقاه اللبن تأويله أن ذلك الراعي كان يرعى غنم نفسه أو كان مأذونا من جهة مالكه بذلك وقد عرف ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه".
وعن موسى بن طلحة رضي الله تعالى عنه أن أعرابيا أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرنبا مشويا قال لأصحابه "كلوا" قال الأعرابي إني رأيت دما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس بشيء" وقال للأعرابي "إذن فكل" فقال إني صائم قال "صوم ماذا؟" قال صوم ثلاثة أيام من كل شهر فقال "هلا جعلتها البيض" وبه نأخذ فنقول الأرنب مأكول وقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدية فيه وأكل منه وأمر أصحابه رضوان الله عليهم بذلك.
وقول الأعرابي: إني رأيت دما مراده ما يقول جهال العرب أن الأرنبة تحيض كالنساء فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ذلك ليس بشيء وفيه دليل على أنه لا بأس للمهدى أن يأكل من هديته فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه إلى الأكل وإنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق فما كان يدعو أحدا إلى ما يخالف ذلك وفيه دليل على أنه إذا دعى إلى طعام وهو صائم لا بأس بأن يمتنع ويقول إني صائم وقد قرره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قال حيث قال صلى الله عليه وسلم
"صوم ماذا" قال صوم ثلاثة أيام من كل شهر وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحثهم على ذلك ويقول: "الحسنة بعشر أمثالها صوم ثلاثة أيام من الشهر كصوم جميع الشهر" وفيه دليل على أن الأفضل أن يكون صومه في الأيام البيض لقوله صلى الله عليه وسلم: "هلا جعلتها البيض" والبيض الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر وعند بعضهم أولها الرابع عشر وآخرها السادس عشر سميت بيضا لطلوع القمر في لياليها من أول الليل إلى آخر الليل فكأن الليل يستوي بالنهار في البياض.
وقيل: لما روى أن آدم صلوات الله وسلامه عليه لما أهبط إلى الأرض بعد زلته أغبر جسده صام الرابع عشر فابيض ثلث جسده ثم صام الخامس عشر فابيض ثلث آخر ثم صام السادس عشر فابيض جميع جسده وعاد اللون الأول فسميت بيضا لذلك وعن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه أهدى لها ضب فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله فكرهه فجاء سائل فأرادت أن تطعمه إياه فقال صلوات الله وسلامه عليه:
"أتطعمين ما لا تأكلين" وبهذا نأخذ فنقول لا يحل أكل الضب وقال الشافعي رحمه الله تعالى يحل لحديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الضب فقال: "لم يكن من طعام قومي فأجد نفسي تعافه فلا أحله ولا أحرمه". وفي حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال أكل الضب على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي الآكلين أبو بكر رضي الله تعالى عنه كان ينظر إليه ويضحك واعتمادنا على حديث عائشة رضي الله تعالى عنها فيه يبين أن امتناع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله لحرمته لا لأنه كان يعافه ألا ترى أنه نهاها عن التصدق به ولو لم يكن كراهية الأكل للحرمة لأمرها بالتصدق به

 

ج / 11 ص -197-    كما أمرها به في شاة الأنصارى بقوله "أطعموها الأسارى" والحديث الذي فيه دليل الإباحة محمول على أنه كان قبل ثبوت الحرمة ثم الأصل أنه متى تعارض الدليلان أحدهما يوجب الحظر والآخر يوجب الإباحة يغلب الموجب للحظر وقال بعض المتأخرين رحمهم الله تعالى حرمة الضب لأنه من الممسوخات على ما روى أن فريقين من عصاة بني إسرائيل أخذ أحدهما طريق البحر والآخر طريق البر فمسخ الذين أخذوا طريق البر ضباباوقردة وخنازير "وروى" هذا الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه غير مشهور ثم قد بينا أن الممسوخ لا نسل له ولا بقاء فهذا الذي يوجد الآن ليس بممسوخ وإن نسخ قوم من جنسه ولكنه من الخبائث ولهذا عافه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدخل تحت قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: من الآية157] لكونه مستخبثا طبعا كسائر الهوام.
وعن عبد الله بن أبي أوفى قال أصبنا يوم حنين حمرا أهلية فذبحناها وأن القدر لتغلى بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"أكفئوها بما فيها" ونهى عن أكلها فقلنا بيننا إنما حرمها لأنها نهبة لم تخمس فلقيت سعيد بن جبير رضي الله تعالى عنه فذكرت له ذلك فقال بل حرمها ألبتة وبه نأخذ فنقول لا يحل تناول الحمار الأهلي وكان بشر المريسي يبيح ذلك وهو قول مالك رحمه الله وقد روى أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن ذلك فتلت قوله تعالى:{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام: من الآية145].
وعن طاوس قال قلت لجابر بن فهر إنكم تزعمون أن لحم الحمار الأهلي حرام قال كان الحكم بن عمرو يقول ذلك عندنا بالبصرة فأتى ذلك الخبر يعني ابن عباس رضي الله عنهما وفي حديث الجر بن غالب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"لم يبق لي من مالي إلا حميرات" فقال صلى الله عليه وسلم: "كل من سمين مالك فإني إنما نهيتكم عن خول القرية واعتبروا الحمار الأهلي بالوحشي" فإنه مأكول بالاتفاق وكل حيوان وحشيه مأكول فالأهلي من جنسه مأكول كالإبل والبقر وما لا يكون أهليه مأكولا فوحشيه لا يكون مأكولا كالكلب والسنور وحجتنا في ذلك ما روينا من الحديث فيه يتبين أنه ما كان حرمها يوم خيبر لقلة الظهر لأنه أمر بإكفاء القدور بعد ما صار لحما ليس فيه منفعة الظهر وما حرمها لأنها نهبة لم تخمس فإنه كان مأكولا فللغانمين حق التناول منه قبل الخمس كالطعام والعلف وما حرمها لأنها حول القربة مأخوذ من الحوال متناول الجيف كالجلالة فإنه خص الحمر الأهلية بذلك وفي هذا المعنى الحمار وغيره سواء فعرفنا أنه حرمها ألبتة.
وقد روى أنه أمر أبا طلحة رضي الله عنه فنادى ألا إن الله تعالى ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن متعة النساء وعن الحمار الأهلي ولما بلغ عليا رضي الله عنه فتوى ابن عباس رضي الله عنهما بإباحة المتعة فقال له نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن متعة النساء وعن الحمر الأهلية زمن خيبر فترجح الآثار الموجبة للحرمة ثم لا حجة في حديث الحبر رضي الله تعالى عنه فإن معنى

 

ج / 11 ص -198-    قوله صلى الله عليه وسلم: "كل من سمين مالك" أي بعه واستنفق ثمنه فقد يقال فلان أكل عقاره والمراد هذا وقال القائل:

إن لنا أحمرة عجافاً                               يأكلن كل ليلة إكافاً


والمراد ثمن الإكاف وما نقلوه عن ابن عباس رضي الله عنهما لا يكاد يصح عنه والمشهور عنه أنه حرم الخيل والبغال والحمير فاستدل لذلك بالآية:
{لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: من الآية8] على ما تبين وعائشة رضي الله عنها استدلت بعام دخله الخصوص بالاتفاق وقد ثبت النهي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحم الحمار فكان دليل الخصوص في هذا العام واعتبار الأهلي بالوحشي ساقط فإنه لا مشابهة بينهما معنى والمشابهة صورة لا تكون دليل الحل وقد صح في الأثر أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح تناول الحمار الوحشي كما روى أن أعرابيا أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا عفيرا أو رجل حمار وحشي فأمر أبا بكر رضي الله تعالى عنه أن يقسمه بين الرفاق ثم كما ورد الحديث بالأمر بالإكفاء للقدر في لحم الحمار فقد ورد مثله في الضب وهو حديث عبد الرحمن بن حسنة قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فأصابتنا مجاعة ونزلنا في أرض كثيرة الضباب فأخذناها وإن القدور لتغلي بها فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور ومعلوم أن تضييع المال لا يحل فعرفنا أن الأمر بإكفاء القدور في الموضعين للحرمة وعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال أكلنا لحم فرس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الحريث قال كنا إذا نتجت فرس أخذنا فلوا ذبحناه وقلنا الأمر قريب فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فكتب إلينا أن لا تفعلوا فإن في الأمر تراخي وبهذين الحديثين يستدل من يرخص في لحم الخيل فإنهم كانوا يذبحونه لمنفعة الأكل وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي رحمهم الله تعالى وأما أبو حنيفة رحمه الله تعالى فإنه كان يكره لحم الخيل فظاهر اللفظ في كتاب الصيد يدل على أن الكراهة للتنزيه فإنه قال رخص بعض العلماء رحمهم الله في لحم الخيل فأما أنا فلا يعجبني أكله وما قال في الجامع الصغير أكره لحم الخيل يدل على أنه كراهة التحريم فقد روى أن أبا يوسف رحمه الله تعالى قال لأبي حنيفة رحمه الله إذا قلت في شيء أكرهه فما رأيك فيه قال التحريم ثم من أباحه استدل بالتعامل الظاهر ببيع لحم الخيل في الأسواق من غير نكير منكر ولأن سؤره طاهر على الإطلاق وبوله بمنزلة بول ما يؤكل لحمه فعرفنا أنه مأكول كالأنعام وإن روى فيه نهى فلأن الخيل كانت قليلة فيهم وكان سلاحا يحتاجون إليه في الحرب فلهذا نهاهم عن أكله لا لحرمته وحجة أبي حنيفة رحمه الله تعالى في ذلك قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: من الآية8] فقد من الله تعالى على عباده بما جعل لهم من منفعة الركوب والزينة في الخيل ولو كان مأكولا لكان الأولى بيان منفعة الأكل لأنه أعظم وجوه المنفعة وبه بقاء النفوس ولا يليق بحكمة الحكيم ترك أعظم وجوه المنفعة عند إظهار المنة وذكر ما دون ذلك ألا ترى أنه في الأنعام ذكر الأكل بقوله تعالى: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}

 

ج / 11 ص -199-    [النحل: من الآية5] ولأنه ضم الخيل إلى البغال والحمير في الذكر دون الأنعام والقرآن في الذكر دليل القرآن في الحكم وبنحوه استدل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما حين كره لحم الخيل كما روى عنه في الكتاب وفي حديث خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الخيل والبغال والحمير وفي حديث المقدام بن معد يكرب رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حرام عليكم لحوم البغال والحمير والخيل" وقد بينا أن الدليل الموجب للحرمة يترجح فإن ما كان من الرخصة محمول على أنه كان في الابتداء قبل النهى ولأن نتاجه غير مأكول وهو البغل لأن البغل نتاج الفرس والولد جزء من الأم وحكمه حكمها في الحل والحرمة فإذا لم يكن مأكولا عرفنا أن الخيل ليس بمأكول ثم الخيل تشبه البغال والحمير من حيث أنه ذو حافر أهلي بخلاف الأنعام فإنها ذوات خف لا ذوات حوافر وقد روى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى الكراهة في سؤر الفرس كما في لبنه وإنما جعل بوله كبول ما يؤكل لحمه لمعنى البلوى فيه فللبلوى تأثير في تخفيف حكم النجاسة ومن قال الكراهة للتنزيه لا للتحريم قال إن الفرس كالآدمي من وجه ومن حيث إنه يحصل إرهاب العدوبة ويستحق السهم من الغنيمة والآدمي غير مأكول لكرامته لا لنجاسته والخيل كذلك كره أكلها على طريق التنزيه لمعنى الكرامة ولهذا جعل الخيل طاهرة السؤر وجعل بوله كبول ما يؤكل لحمه.
وعن إبراهيم رحمه الله تعالى قال لا بأس بثمن كلب الصيد وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص في ثمن كلب الصيد وبه نأخذ فنقول بيع الكلب المعلم يجوز وعلى قول الشافعي رحمه الله لا يجوز بيع الكلب أصلا معلما كان أو غير معلم لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب وحلوان الكاهن ومهر البغي وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب فلو كانت مالا متقوما لما أمر بذلك ولأن الكلب نجس العين بدليل نجاسة سؤره فلا يجوز بيعه كالخنزير ولدليل عليه أنه لو كان محل البيع لم يفترق بين المعلم منه وغير المعلم كالفهد والبازي وحجتنا في ذلك ما رواه إبراهيم من الرخصة وذلك بعد النهي والتحريم فيه يتبين تيسير انتساخ ما روى من النهي وهذا لأنهم كانوا ألفوا اقتناء الكلاب وكانت الكلاب فيهم تؤذي الضيفان والغرباء فنهوا عن اقتنائها فشق ذلك عليهم فأمروا بقتل الكلاب ونهوا عن بيعها تحقيقا للزجر عن العادة المألوفة ثم رخص لهم بعد ذلك في ثمن منتفعا به من الكلاب وهو كلب الصيد والحرث والماشية وقد جاء في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكلب إلا كلب الصيد والحرث والماشية وروى أنه قضى في كلب الصيد بأربعين درهما وفي كلب الحرث بفرق من طعام وفي كلب الماشية بشاة منها.
وعن عثمان رضي الله تعالى عنه أنه قضى على رجل أتلف كلبا لامرأة بعشرين بعيرا والحديث له قصة معروفة وإذا ثبت أنه مال متقوم وهو منتفع به شرعا جاز بيعه كسائر الأموال وبيان كونه منتفعا به أنه يحل الانتفاع به في حالة الاختيار ويجوز تمليكه بغير عوض في حالة

 

ج / 11 ص -200-    الحياة بالهبة وبعد الموت بالوصية فيجوز تمليكه بالعوض أيضا وبهذا يتبين أنه ليس بنجس العين فإن الانتفاع بما هو نجس العين لا يحل في حالة الاختيار كالخمر ولا يجوز تمليكه قصدا بالهبة والوصية ثم الصحيح من المذهب أن المعلم وغير المعلم إذا كان بحيث يقبل التعليم سواء في حكم البيع حتى ذكر في النوادر لو باع جروا جاز بيعه لأنه يقبل التعليم فأما الذي لا يجوز بيعه العقور منه الذي لا يقبل التعليم لأنه عين مؤذ غير منتفع به فلا يكون مالا متقوما كالذئب وهكذا يقول في الأسد إن كان بحيث يقبل التعليم ويصطاد به فبيعه جائز وإن كان لا يقبل ذلك ولا ينتفع به فحينئذ لا يجوز بيعه والفهد والبازي يقبل التعليم على كل حال فجاز بيعهما كذلك.
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكلب والسنور وقال أبو يوسف رحمه الله ينقض هذا الحديث في السنور حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصغي لها الإناء فتشرب منه وهو مشهور عنه صلى الله عليه وسلم وحديث عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصفي الإناء للهر ليشرب منه ثم يتوضأ وفي هذا دليل على أنها ليست بنجسة وقد نص على ذلك بقوله:
"إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم والطوافات" ويجوز الانتفاع بها من غير ضرورة وما يكون بهذه الصفة فهو مال متقوم يجوز بيعه والنهي إن ثبت محمول على أنه كان في الابتداء قال: وصيد الكلب المعلم وما أشبهه من الجوارح من السباع وغيرها يرسله المسلم أو الكتابي ويسمي عليه فيأخذه ويقتله جائز حلال وإنما يشترط أن يكون المرسل مسلما أو كتابيا لأن الاصطياد في كونه سببا للحل كالذبح والأهلية للذابح شرط لحل الذبيحة فكذا في الاصطياد وقد ذكرنا فيما سبق شرائط الاصطياد ودخل هذا الشرط في جملة ما ذكرنا دلالة وإن لم يدخل نصا لأنا شرطنا تسمية الله تعالى على الخلوص وإنما يتحقق ذلك عمن يعتقد توحيده جلت قدرته أو يظهر ذلك وهو مسلم أو كتابي فأما المجوسي يدعي الهين فلا يصح منه تسمية الله تعالى على الخلوص فلهذا لا يحل ذبيحة المجوسي وصيده.
قال: وإذ ترك التسمية عامدا حرم به الصيد والمذبوح عندنا ولم يحرم عند الشافعي رحمه الله والمسلم والكتابي في ذلك سواء وإن ترك ناسيا لم يحرم عندنا وقال مالك رحمه الله تعالى وأصحاب الظواهر يحرم وهو قول ابن عمر رضي الله عنهما وكان علي وبن عباس رضي الله تعالى عنهما يفصلان بين العامد والناسي كما هو مذهبنا وقد كانوا مجمعين على الحرمة إذا ترك التسمية عامدا وإنما يختلفون إذا تركها ناسيا وكفى بإجماعهم حجة ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله متروك التسمية عامدا لا يسوغ فيه الاجتهاد ولو قضى القاضي بجواز البيع فيه لا يجوز قضاؤه لأنه مخالف للإجماع فالشافعي رحمه الله تعالى استدل بحديث البراء بن عازب وأبي هريرة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسم" وفي رواية قال: "ذكر اسم الله تعالى في قلب كل مسلم" وكون الذكر في قلبه في حالة العمد أظهر منه في حالة النسيان ولما سئل ابن عباس رضي الله عنهما

 

 

ج / 11 ص -201-    عن متروك التسمية ناسيا قال يحل تسمية ملته وفي إقامة الملة مقام التسمية لا فرق بين النسيان والعمد وسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت إن الأعراب يأتوننا بلحوم فلا ندري أسموا أم لم يسموا فقال عليه الصلاة والسلام: "سموا أنتم وكلوا" فلو كان التسمية من شرائط الحل لما أمرها بالأكل عند وقوع الشك فيها ولأن التسمية لو كانت من شرائط الحل كانت مأمورا بها وفي المأمورات لا فرق بين النسيان والعمد كقطع الحلقوم والأوداج وكالتكبير والقراءة في الصلاة إنما يقع الفرق في المزجورات كالأكل والشرب في الصوم لأن موجب النهي الانتهاء والناسي يكون منتهيا اعتقادا فأما موجب الأمر الائتمار والتارك ناسيا أو عامدا لا يكون مؤتمرا ولأنه استصلاح الأكل فكانت التسمية فيه ندبا لا حتما كالطبخ والخبز ثم فيما هو المقصود وهو الأكل التسمية فيه ندب وليس بحتم فهذا هو طريق إليه أولى والدليل عليه أنه تحل ذبائح اليهود والنصارى ولو كانت التسمية شرطا لما حلت ذبائحهم لأنهم وإن ذكروا اسم الله تعالى فإنهم يريدون غير الله وهو ما يتخذونه معبودا لهم لأن النصارى يقولون المسيح بن الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا ونحن نتبرأ من إله له ولد وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: من الآية121] ومطلق النهي يقتضي التحريم وأكد ذلك بحرف من لأنه في موضع النهي للمبالغة فيقتضي حرمة كل جزء منه والهاء في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] إن كان كناية عن الأكل فالفسق أكل الحرام وإن كان كناية عن المذبوح فالمذبوح الذي يسمى فسقا في الشرع يكون حراما كما قال الله تعالى: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: من الآية145] وفي الآية بيان أن الحرمة لعدم ذكر الله تعالى لأن التحريم بوصف دليل على أن ذلك الوصف هو الموجب للحرمة كالميتة والموقوذة وبهذا يتبين فساد حمل الآية على الميتة وذبائح المشركين فإن الحرمة هناك ليست لعدم ذكر الله تعالى حتى أنه وإن ذكر اسم الله تعالى لم يحل وقال تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: من الآية36] يعني عند النحر بدليل قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: من الآية36] أي سقطت وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنه في تفسير الآية ذكر اسم الله تعالى أن يقول عند الطعن بسم الله والله أكبر وقال الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: من الآية4] والمراد التسمية عند الإرسال فثبت بهذين النصين أن التسمية مأمور بها ومطلق الأمر الوجوب وهي من شرائط الحل ثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه: إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله تعالى فكل والمعطوف على الشرط شرط وأكد ذلك بقوله "وإن شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل فأنت إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك" فعلل للحرمة بأنه لم يسم علي كلب غيره فهو دليل الحرمة إذا لم يسم علي كلب نفسه وشيء من المعنى يشهد له فإن ذبيحة الكتابي تحل وذبيحة المجوسي لا تحل وليس بينهما فرق يعقل معناه بالرأي سوى من يدعي التوحيد يصح منه تسمية الله على الخلوص ومن يدعى الاثنين لا يصح منه تسمية الله تعالى على الخلوص فبه يتبين أن التسمية من شرائط الحل أو إنما أمرنا ببناء

 

ج / 11 ص -202-    الحكم في حق أهل الكتاب على ما يظهرون دون ما يضمرون ألا ترى أن تسمية غير الله تعالى على سبيل التعظيم موجبة للحرمة لقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} [البقرة: من الآية173] فلو اعتبرنا ما يضمرون لم تحل ذبيحتهم وكذلك يستحلفون في المظالم بالله والاستحلاف بغير الله لا يحل فعرفنا أنه يبني على ما يظهرون ثم إنا أمرنا بالتسمية عند الذبح مخالفة للمشركين لأنهم كانوا يسمون آلهتهم عند الذبح ومخالفتهم واجبة علينا فالتسمية عند الذبح تكون واجبة أيضا بخلاف الطبخ والأكل فإنهم ما كانوا يسمون آلهتهم عند ذلك فالأمر بالتسمية عند ذلك ندب وكذلك عند الوصف فالأمر بالتسمية عند الوصف لم يكن لمخالفتهم فكان ندبا ألا ترى أن في حالة النسيان تقام ملته مقام التسمية كما قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لمعنى التخفيف وهذا التخفيف يستحقه الناسي دون العامد ولأن العامد معرض عن التسمية فلا يجوز أن يجعل مسميا حكما بخلاف الناسي فإنه غير معرض بل معذور والفرق بين المعذور وغير المعذور أصل في الشرع في الذبح وغير الذبح ألاترى أن في اعتبار الذبح في المذبح يفصل بين المعذور وغيره وفي الأكل في الصوم يفصل بين الناسي والعامد ولا يعتبر بالمأمور والمزجور فالأكل في الصلاة مزجور ثم سوى فيه بين النسيان والعمد والجماع في الإحرام كذلك ولكن متى اقترن بحالة ما يذكره كهيئة المحرمين والمصلين لا يعذر بالنسيان ومتى لم يقترن بحالة ما يذكره يعذر بالنسيان كالصوم وهنا لم تقترن بحالة ما يذكره وقد يذبح الإنسان الطير وقلبه مشتغل بشغل آخر فيترك التسمية ناسيا وعليه يحمل الحديث على أنه اذبح على اسم الله تعالى إذا كان ناسيا غير معرض بدليل أنه ذكر في بعض الروايات وإن تعمد لم يحل وحديث عائشة رضي الله تعالى عنها دليلنا لأنها سألت عن الأكل عند وقوع الشك في التسمية فذلك دليله على أنه كان معروفا عندهم أن التسمية من شرائط الحل وإنما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكل بناء على الظاهر أن المسلم لا يدع التسمية عمدا كمن اشترى لحما في سوق المسلمين يباح له التناول بناء على الظاهر وإن كان يتوهم أنه ذبيحة مجوسي ثم التسمية في الذبح تشترط عند القطع وفي الاصطياد عند الإرسال والرمي لأن التكليف بحسب الوسع وفي وسعها التسمية عند الرمي وليس في وسعه التسمية عند الإصابة فتقام التسمية عند الإرسال والرمي مقامه كما يقام الجرح في المتوحش مقام الذبح في المذبح في الأهلي ولأن التسمية تقترن بفعله والقطع من فعله وفي الاصطياد فعله الإرسال والرمي وعلى هذا لو أضجع شاة وأخذ السكين وسمى ثم تركها وذبح شاة أخرى وترك التسمية عليها لا يحل ولو رمى سهما إلى صيد وسمى فأصاب صيدا آخر أو أخذ سكينا وسمى ثم تركها وأخذ سكينا أخرى أو أرسل كلبه إلى صيد وسمى وترك ذلك الصيد وأخذ غيره حل وكذلك لو ذبح تلك الشاة ثم ذبح شاة أخرى بعدها فظن أن تلك التسمية تكفيه لا يحل والسهم إذا أصاب ذلك الصيد وغيره أو أخذ الكلب في فوره ذلك الصيد وغيره حل الأكل وجهله ليس نظير النسيان ألا ترى أن الجهل بالحكم لا يمنع حصول الفطر بخلاف النسيان وكذلك لو نظر إلى قطيع من الغنم وأخذ

 

ج / 11 ص -203-    السكين وسمى ثم أخذ شاة منها وذبحها بتلك التسمية لا يحل وكذلك لو أرسل كلبه على جماعة من الصيود وسمى فأخذ أحدها يحل لأن التعيين في الاصطياد ليس في وسعه والتعيين في الذبح في وسعه.
قال: ولو أرسل كلبه ولم يسم عمدا ثم زجره وسمى فانزجر وأخذ الصيد لم يحل لأن إرساله مع ترك التسمية عمدا فعل محرم فلا ينسخ إلا بما هو مثله أو فوقه والزجر دون الإرسال بخلاف ما إذا اتبع الصيد بغير إرسال صاحبه ثم زجره صاحبه وسمى فإن انزجر بزجره وأخذ الصيد حل لأن اتباعه لم يكن فعلا معتبرا فإن فعل العجماء غير معتبر إذا لم يكن بناء على إرسال آدمي فكان زجره بمنزلة ابتداء الإرسال وقد اقتربت التسمية به وعلى هذا الأصل إذا أرسل المسلم كلبه علي صيد فزجره مجوسي فانزجر بزجره لم يضره لأن الإرسال من المسلم فعل موجب للحل فلا يرتفع إلا بما هو مثله والزجر دون الإرسال فلا يتغير به الحكم الثابت بالإرسال ولو كان المجوسي هو الذي أرسل لم ينفعه زجر المسلم لأن فعل المجوسي يحرم فلا يرتفع بزجر المسلم إياه لأنه دونه فأما إذا انبعث الكلب والبازي على أثر الصيد بغير إرسال ثم زجره صاحبه فإن لم ينزجر بزجر صاحبه لم يحل الصيد لأنه لا أثر لفعل المسلم فيأخذه وبدون الإرسال لا يحل وإن انزجره بزجر في القياس لا يحل أيضا لأن زجره ليس بإرسال فإن الإرسال يكون من يده ولم يكن في يده حين زجره وبدون الإرسال لا يحل صيد الكلب ولكنه استحسن ذلك فقال لما انزجر بزجره يجعل ذلك بمنزلة ابتداء الإرسال والصياد قد يبتلى بهذا لأن الكلب ربما يرى الصيد ولا يراه صاحبه فلو انتظر إرساله فإنه فينبعث على أثره وينظر إلى صاحبه ليزجره حتى إذا زجره كان بالقرب من الصيد فيتمكن من أخذه ثم انبعاثه لم يكن فعلا معتبرا فالحاجة إلى ابتداء الفعل لا إلى فسخ الفعل ولما انزجر بزجره جعل هذا ابتداء فعله بخلاف الأول فالحاجة هناك إلى فسخ فعل معتبر والفسخ لا يصلح لذلك وهو نظير ما قلنا فيمن حفر بئرا في الطريق فألقى إنسان حجرا على شفيره فيعثر إنسان في الحجر حتى هوى في البئر فالضمان على الملقى وبمثله لو ثنى حجرا من شفير البئر أو جاء به سيل فيعثر به إنسان فوقع في البئر فالضمان على الحافر لأنه لم يوجد من بعد فعله فعل معتبر فبقى حكم فعله بخلاف الأول.
قال: وإذا توارى الكلب والصيد عن المرسل المسلم ثم وجده المسلم وقد قتله وليس فيه أثر غيره حل تناوله إذا لم يترك الطلب لأنه يستطاع الامتناع منه والتواري عن بصره لا يستطاع الامتناع عنه خصوصا في القناص والمستأجر والطير بعد إصابة السهم ربما يتحامل ويطير حتى يغيب عن بصره فيسقط فإن كان ترك الطلب إلى عمل آخر حتى إذا كان قريبا من الليل طلبه فوجد الصيد ميتا والكلب عنده والبازي وبه جراحة لا يدري الكلب جرحه أو غيره لم يحل أكله عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يحل لأنه ظهر لموته سبب وهوما كان منه من إرسال الكلب والبازي والرمي والحكم متى ظهر عقب سببه يحال عليه كما لو جرح إنساناً

 

ج / 11 ص -204-    فلم يزل صاحب فراش حتى مات فجعل قاتلا له ولكن نستدل بما روى أن رجلا أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم صيدا فقال عليه الصلاة والسلام من أين لك هذا قال كنت رميته بالأمس وكنت في طلبه حتى حال بيني وبينه ظلمة الليل ثم وجدته الليل وفيه من باقي فقال عليه الصلاة والسلام: "لعل بعض الهوام أعانك على قتله فلا حاجة لي فيه" وقال ابن عباس كل ما أصميت ودع ما أنميت والإنماء التواري عن بصرك إلا أن قدر ما لا يستطاع الامتناع عنه جعل عفوا فأما ترك الطلب مما يستطاع الامتناع عنه والثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة ثم في المدة القصيرة يؤمن إصابة آفة أخرى إياه ولا يؤمن ذلك إذا ترك الطلب وطالت المدة ولأنه لا يدري فلعله لو لم يترك الطلب وجده حيا فذكاه فمن هذا الوجه يكون تاركا ذكاة الاختيار فيه مع القدرة عليه وإن وجده وفيه جراحة أخرى ليس له أن يأكله ترك الطلب أو لم يترك لأنه ظهر لموته سببان أحدهما موجب للحل والآخر موجب للحرمة فيغلب كما لو وقعت الرمية في الماء.
قال: وإذا أرسل كلبه أو بازيه على صيد فأخذ ذلك الصيد أو أخذ غيره أو أخذ عددا من الصيود فهو كله حلال ما دام على وجه الإرسال. لأن الإرسال قد صح من المسلم موجبا للعمل فما نأخذه من وجه إرساله وهو ممسك له على صاحبه يحل وتعيين الصيد في الإرسال ليس بشرط إلا على قول مالك رضي الله تعالى عنه فإنه يقول التعيين شرط حتى إذا ترك التعيين فهو كترك الإرسال وعن ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى قال التعيين ليس بشرط ولكن إذا عين اعتبر تعيينه حتى إذا ترك ذلك وأخذ غيره لا يحل. ولكنا نقول الشرط ما في وسعه اتخاذه وهو الإرسال فأما التعيين ليس في وسعه لأنه لا يمكنه أن يعلم البازي والكلب على وجه لا يأخذ إلا ما يعينه ولأن التعيين غير مفيد في حقه ولا في حق الكلب فإن الصيود كلها فيما يرجع إلى مقصوده سواء وكذلك في حق الكلب فقصده إلى أخذ كل صيد يتمكن من أخذه وعلامة علمه إمساكه على صاحبه بترك الأكل وما ليس بمفيد لا يعتبر شرعا فسواء أخذ ذلك الصيد أو غيره حل.
قال: فإن قتل واحدا وجثم عليه طويلا ثم مر به صيد آخر فأخذه لم يؤكل" لأن فور الإرسال قد انقطع حين جثم على الأول طويلا فقد انعدم إرسال صاحبه في حق الصيد الثاني وهو شرط في الحل.
فإن قيل: كيف يكون فعله ناسخا لإرسال صاحبه؟
قلنا: إنما جثم على ذلك الصيد بناء على إرسال صاحبه ليأتيه فيأخذه منه فذلك بمنزلة فعل صاحبه ولو منعه انقطع به حكم الإرسال مع أن فعل العجماء معتبر في نسخ حكم فعل الآدمي به كمن أرسل دابة في الطريق فتركت سنن الإرسال وذهب يمنة أو يسرة فأتلفت مالا لم يجب الضمان على المرسل بخلاف ما لو ذهبت على سنن الإرسال.
قال: وإن وصل إليه صاحبه والصيد حي فأخذه فلم يذبحه حتى مات لم يؤكل أما إذا

 

ج / 11 ص -205-    تمكن من ذبحه فلا شك فيه لأنه ترك ذكاة الاختيار مع القدرة عليه وأما إذا لم يتمكن من ذلك فإن كان لفقد الآلة فكذلك الجواب لأن التقصير من قبله حيث لم يحمل آلة الذكاة مع نفسه وإن كان لضيق الوقت فكذلك الجواب عندنا.
وقال: الحسن بن زياد ومحمد بن مقاتل رحمهما الله تعالى يحل استحسانا وهو قول الشافعي رحمه الله تعالى لأن ذكاة الاضطرار بدل عن ذكاة الاختيار وما لم يقدر على الأصل لا يسقط حكم البدل كالمتيمم إذا وجد الماء وبينه وبين الماء سبع أو عدو وهنا لم يقدر على الأصل فبقي ذكاة الاضطرار موجبا للحل ولكنا نقول ذكاة الاضطرار إنما تعتبر فيما إذا لم يقع في يده حيا وهذا قد وقع في يده حيا فسقط اعتبار ذكاة الاضطرار فيه وألحق بما كان في يده كالشاة والبعير إذا سقط فلم يتمكن من ذبحه في المذبح لضيق الوقت فجرحه فمات لم يحل فهذا مثله وهذا كله إذا كان يتوهم بقاؤه حيا مع الجرح الذي جرحه الكلب فأما إذا شق بطنه فأخرج ما فيه ثم وقع في يد صاحبه حيا فمات حل تناوله لأنه استقر فيه فعل الذكاة قبل وقوعه في يده وما بقي فيه اضطراب المذبوح فلا يعتبر كمن ذبح شاة فاضطربت ووقعت في الماء بعد قطع الحلقوم والأوداج لم يحرم بذلك لهذا المعنى وقيل هذا قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى فأما عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لا يحل وهو القياس لأنه وقع في يده حيا وموته مما أصابه وحياته موهوم فإنما ينبني الحكم على ما هو معلوم حقيقة وهو وقوعه حيا في يد صاحبه فلا يحل بدون ذكاة الاختيار.
قال: والكلب الكردي والأسود في الاصطياد به إذا كان معلما كغيره لقوله تعالى:
{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: من الآية4] وإنما أورد هذا لأن من الناس من يقول لا يحل ذلك وإنما الاصطياد بالكلاب الفقهية المسترخية الآذان وليس ذلك معتبرا عندنا وكذلك إذا علم شيئا من السباع حتى جعل يصيد به مثل عتاق الأرض وغيره فلا بأس بصيده لأنه مرسل معلم أمسك الصيد على صاحبه
قال: وإذا كمن الفهد في إرساله حتى استمكن من الصيد ثم وثب عليه فقتله لم يحرم أكله لأن هذا لا يستطاع الامتناع منه فهو عادة ظاهرة للفهد أنه يكمن ولا يعدو على أثر الصيد فيسقط اعتباره ولأنه تحقق ما قصده صاحبه بالإرسال فلا ينقطع به فور الإرسال كالوثوب.
قال: وكذلك الكلب إذا فعل ذلك فهو بمنزلة الفهد لما بينا أنه قصد به التمكن من الصيد فلا ينقطع به حكم الإرسال.
قال: وكان شيخنا رحمه الله يقول للفهد خصال ينبغي لكل عاقل أن يأخذ ذلك منه من ذلك أنه يكمن للصيد حتى يستمكن منه وهكذا ينبغي للعاقل أن لا يجاهر بالخلاف مع عدوه ولكن يطلب الفرصة حتى يحصل مقصوده من غير إتعاب نفسه.
ومنه أنه لا يعدو خلف صاحبه حتى يركبه خلفه وهو يقول هو المحتاج إلي فلا أذل له فلهذا ينبغي للعاقل أن يفعله لا يذل نفسه فيما يعمل لغيره.

 

ج / 11 ص -206-    ومنه: أنه لا يتعلم بالضرب ولكن يضرب الكلب بين يديه إذا أكل من الصيد فيتعلم بذلك وهكذا ينبغي للعاقل أن يتعظ بغيره كما قيل السعيد من وعظ بغيره.
ومنه: أنه لا يتناول الخبيث وإنما يطلب من صاحبه اللحم الطيب وهكذا ينبغي للعاقل أن لا يتناول إلا الطيب.
ومنه: أنه يثب ثلاثا أو خمسا فإن تمكن من الصيد وإلا تركه وهو يقول لا أقتل نفسي فيما أعمله لغيري وهكذا ينبغي لكل عاقل.
قال: وإذا شاركه في الصيد كلب آخر غير معلم لم يحل أكله لقوله عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم رضي الله تعالى عنه:
"وإذا شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك" ولأنه اجتمع فيه المعنى الموجب للحل والمعنى الموجب للحرمة فيغلب الموجب للحرمة وكذلك إن رد الصيد عليه حتى أخذه أو رده عليه سبع حتى أخذه لأنه قد أعانه على أخذ الصيد وبهذه الإعانة تثبت المشاركة بين الفعلين والبازي في ذلك كالكلب لأن فعل ما ليس بمعلم يحرم الصيد والبازي والكلب فيه سواء وإن رد الصيد على الكلب مجوسي حتى أخذه فلا بأس بأكله لأن فعل المجوسي ليس من جنس فعل الكلب فلا تثبت به المشاركة بل يكون الصيد مأخوذا بأخذ الكلب الذي أرسله المسلم فكان حلالا فأما فعل الكلب الذي لم يرسله صاحبه وفعل السبع من جنس فعل الكلب الذي أرسله المسلم فتتحقق المشاركة ويجتمع في الصيد الموجب للحل والموجب للحرمة.
قال: وإذا أكل الكلب من الصيد فقد خرج عن حكم المعلم" لأن علامة المعلم فيه ترك الأكل وفي البازي الإجابة إذا دعاه فكما أن البازي إذا فر منه وامتنع من إجابته لا يكون معلما فكذلك الكلب إذا أكل من الصيد لا يكون معلما ويحرم ما عنده من صيوده قبل ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله ولا يحرم في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله من أصحابنا رحمهم الله من يقول هذا إذا كان العهد قريبا بأخذ تلك الصيود فأما إذا تطاول عليه العهد بأن أتى عليه شهر أو نحو ذلك وقد قدر صاحبه صيوده لم تحرم تلك الصيود لأن في المدة الطويلة يتحقق النسيان فلا يكون ذلك دليلا على كونه غير معلم في ذلك الوقت وفي المدة القصيرة لا يتوهم نسيان الحرفة فتبين أنه كان عن غير علم حين اصطاد تلك الصيود وإنما لم يأكل منها للشبع لا للإمساك على صاحبه والأظهر أن الخلاف في الفصلين جميعا فهما يقولان قد حكمنا بالحل في الصيود المأخوذة وأكله من هذا الصيد محتمل قد يكون لفرط الجوع مع كونه معلما وقد يكون لإمساكه على نفسه وكونه غير معلم وما كان محكوما به لا يجوز إبطاله بالشك ولا معنى لقول من يقول قد حكمنا بكونه جاهلا حتى قلنا لا يؤكل هذا الصيد الذي أكل منه ولا ما يأخذه بعده ما لم يصر معلما إلا أنا إنما حكمنا بذلك لنوع اجتهاد مع بقاء الاحتمال والاجتهاد دليل يصلح للعمل به في المستقبل وليس بدليل لنوع اجتهاد مع بقاء الاحتمال والاجتهاد يصلح العمل به في المستقبل لا في بعض ما مضى بالاجتهاد والحل في

 

ج / 11 ص -207-    الصيود المحرزة حكم أمضى بالاجتهاد وأبو حنيفة رحمه الله يقول تبين أن ذلك صيد كلب جاهل فلا يؤكل منه كالصيد الذي أكل منه وبيان ذلك أن هذه الحرفة في الكلب إذا حصلت كانت ضرورية فلا ينسى أصلها ولكنها تضعف بالترك زمانا كالخياطة والرمي ونحوهما في الآدمي ولما وجب الحكم بكونه جاهلا في الحال تبين ضرورة أنه لم يكن معلما وأنه إنما ترك الأكل للشبع حتى لم يترك حين كان جائعا وهذا لأن الأكل وإن كان محتملا ولكن تعين فيه أحد الوجهين بدليل شرعي وهو كونه غير معلم حين حرم تناول هذا الصيد فسقط اعتبار احتمال وجه آخر وما قال أبو حنيفة رحمه الله أقرب إلى الاحتياط وعليه يبني الحل والحرمة.
قال: ولا يحل صيده بعد ذلك حتى يصير معلما" بأن يصيد به ثلاثا فلا يأكل منها فيحل حينئذ الرابع في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ولكن أبو حنيفة رحمه الله لم يؤقت فيه وقتا ولكن يقول إذا صار عالما فكل من صيده وكذلك الخلاف في تعليمه في ابتداء أمره وعلى قولهما إنما يحصل بأن يجيبه إذا دعى ويرسله على الصيد فيصيده ولا يأكل منه ثلاث مرات ولم يؤقت فيه أبو حنيفة رحمه الله وقتا ولكنه قال هو مأكول إلى اجتهاد صاحبه فإن كان أكبر رأيه أنه صار معلما فهو معلم وربما قال يرجع إلى أهل العلم به من الصيادين فإذا قالوا صار معلما فهو معلم وحجتنا في ذلك أن المعلم يمسك الصيد على صاحبه وعلامة ذلك أن لا يأكل منه إلا أن ترك الأكل قد يكون للشبع وقد يكون للإمساك على صاحبه فإذا ترك ذلك مرارا على الولاء يزول به هذا الاحتمال ونعلم أنه معلم لإمساكه على صاحبه وقدرنا ذلك بالثلاث لأنه حسن الاختيار والأصل فيه قصة موسى مع معلمه عليه السلام حيث قال في الثالثة:
{هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] وكذلك الشرع قدر مدة الاختيار بثلاثة أيام للاختيار وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا استأذن أحدكم ثلاثا ولم يؤذن له فليرجع" وقال عمر رضي الله تعالى عنه إذا لم يربح أحدكم في التجارة ثلاث مرات فليرجع إلى غيرها وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول نصب المقادير بالرأي لا يكون ولا مدخل للقياس فيه فيكون طريق معرفته الاجتهاد والرجوع إلى من له علم في ذلك الباب قال الله تعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: من الآية43] وهذا لأن احتمال الشبع كما يكون في المرة يكون في المرات.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله مثل قولهما في التقدير بالثلاث إلا أن في تلك الرواية أبو حنيفة يقول يؤكل الصيد الثالث وهما يقولان لا يؤكل الصيد الثالث لأنه إنما حكم بكونه معلما حين ترك الأكل من الثلاث وآخره لهذا الصيد كان قبل ذلك فلا يؤكل منه وأبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول إنما يحكم بكونه معلما بطريق تعيين إمساكه الثالث على صاحبه وإذا حكمنا بأن يمسكه على صاحبه وقد أخذه بعد إرسال صاحبه حل التناول منه كالرابع.

 

ج / 11 ص -208-    قال: وإذاأخذ الرجل الصيد من الكلب ثم وثب عليه الكلب فانتهش منه قطعة ورمى بها صاحبها إليه فأكلها لم يفسدهما عليه" لأنه قد تم إمساكه على صاحبه حين لم يأكل منه حتى وصل إلى يد صاحبه وبعد ذلك انتهاشه منه ومن لحم آخر في مخلاة صاحبه سواء فلا يخرج به من أن يكون معلما ولأن هذا من عادة الصيادين أن يأخذ الصيد من الكلب ثم يرمي بقطعة منه إليه وكأن الكلب طالبه بهذه العادة فهو دليل حذقه لا دليل جهله وإن انتهش الكلب من الصيد قطعة في اتباعه إياه فأكلها ثم اتبعه فأخذه أو أخذ غيره فقتله لم يحل أكله لأنه لما أكل القطعة التي تمكن منها من الصيد عرفنا أنه غير معلم وأن سعيه لنفسه لا للإمساك على صاحبه وإنما ترك الأكل مما بقي لأنه شبع بتناول تلك القطعة وإن كان ألقى تلك القطعة وأخذه وقتله ولم يأكل حتى أخذه ثم عاد فأكل تلك القطعة لم تضره لأنه أمسك الصيد على صاحبه حين لم يأكل منه مع حاجته وتناوله تلك القطعة بعد وصول الصيد إلى صاحبه كتناول قطعة ألقاها إليه صاحبه بل ذلك دليل حذقه حتى اشتغل بتناول ما يعلم أن صاحبه لا يرغب فيه فهو بمنزلة ما لو شرب من دمه وقد بينا أن ذلك لا يحرم الصيد فكذلك هذا قال: ولا يحل صيد المجوسي ولا ذبيحته لقوله عليه الصلاة والسلام: "سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب" غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم ولأنهم يدعون لاثنين فلا يتحقق منهم تسمية الله تعالى على الخلوص وذلك شرط الحل في الذكاة إلا فيما يحتاج فيه إلى الذكاة من سمك أو جراد وبيضه بأخذها وما أشبه ذلك فإن الحل في هذه الأشياء ليس يثبت بالفعل حتى يحل وإن مات بغير فعل أحد ولا اقتراب التسمية بالفعل فلا يشترط التسمية للحل فيما لا يشترط فيه الفعل والمرتد في ذلك كالمجوسي أما إذا ارتد لغير دين أهل الكتاب فلا إشكال فيه لأنه كالكافر الأصلي فيما اعتقده وإن ارتد إلى دين أهل الكتاب فلأنه غير مقر على ما اعتقده وقد ترك ما كان عليه فلا ملة له والنكاح وحل الذبيحة ينبني على الملة قال: ولا بأس بصيد المسلم بكلب المجوسي المعلم وبازيه كما يذبح بسكينه لأن المعتبر في الآلة أن تكون جارحا فلا يختلف ذلك بكون مالكه مجوسيا أو مسلما والشرط يقترن بالفعل والفاعل في الذبح والاصطياد والمسلم هو من أهل إيجاد هذا الشرط.
قال: "وإذا أرسل المجوسي كلبه على صيد ثم أسلم ثم زجره فانزجر بزجره وقتل الصيد لم يحل أكله" كما لو زجره مسلم آخر وهذا لأن أصل إرساله كان فعلا موجبا للحرمة ولم ينسخ ذلك بالزجر بعد إسلامه وإنما ينظر في هذا الجنس إلى وقت الإرسال والرمي فإن كان فيه مجوسيا أو مرتدا لم يحل صيده وإن تغير عن حاله قبل أن يأخذه وإن كان مسلما ثم ارتد والعياذ بالله لم يحرم الصيد لأن الحل باعتبار تسمية الله وقد بينا أن الشرط عند الإرسال والرمي لا عند الإصابة فإن كان مسلما في ذلك الوقت وسمى فقد تقرر فعله موجبا للحل فلا يتغير ذلك بردته كما لا يتغير ذلك بموته ولو مات قبل الإصابة فإن كان مجوسيا أو مرتدا فقد تقرر فعله موجبا للحرمة فلا يتغير بإسلامه بعد ذلك اعتبارا بفعل الرمي والإرسال هنا بالذبح في الشاة.

 

ج / 11 ص -209-    قال: ولا بأس بصيد اليهودي والنصراني وذبيحتهما لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: من الآية5] والمراد الذبائح إذ لو حمل على ما هو سواها من الأطعمة لم يكن لتخصيص أهل الكتاب بالذكر معنى ولأنهم يدعون التوحيد فيتحقق منهم تسمية الله تعالى على الخلوص إلا أن يسمعه المسلم يسمي عليه المسيح فإذا سمع ذلك منه لم يحل أكله لأنه ذبح بغير اسم الله عز وجل ولو فعل ذلك مسلم لم يحل لقوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: من الآية3] فحال الكتابي في ذلك لا يكون أعلى من حال المسلم وبعض أصحاب الشافعي رحمهم الله يقولون يحل لأن المسلم إذا ذبح بغير اسم الله تعالى يصير مرتدا وإنما لا يؤكل بردته وهذا لا يوجد في حق الكتابي وقد أحل الشرع ذبائحهم مع قولهم: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} [المائدة: من الآية17] كما أخبر الله عنهم وهو يتعالى عن ذلك علوا كبيرا فإذا ظهر ذلك لم تحرم ذبيحتهم ولكنا نقول قد بينا أن الحرمة المعتبرة بالصفة إنما تثبت باعتبار تلك الصفة وقد نص الله تعالى على الحرمة بتسمية غير الله تعالى وإذا كان في حق المسلم الحرمة ليست باعتبار هذا الوصف عرفنا أن المراد بالآية الكتابي وإن كانت الحرمة في حق المسلم باعتبار هذا الوصف فكذلك في حق الكتابي.
وقد روى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال وإذا سمعتموهم يذكرون اسم المسيح على ذبائحهم فلا تأكلوا
قال: فإن تهود المجوسي أو تنصر تؤكل ذبيحته وصيده لأنه يقر على ما اعتقده عندنا لأنه صار بحيث يدعى التوحيد فلا يجوز إخباره على العود إلى دعوى اثنين وإذا كان مقرى على ما اعتقده اعتبر بما لو كان عليه في الأصل ولو تمجس يهودي أو نصراني لم يحل صيده ولا ذبيحته بمنزلة ما لو كان مجوسيا في الأصل.
قال: وإن كان غلام أحد أبويه نصراني والآخر مجوسي وهو يعقل الذبح تؤكل ذبيحته وصيده عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا تؤكل لأنه تابع لأبويه واعتبار جانب أحدهما يوجب الحرمة والآخر يوجب الحل فيتغلب الموجب للحرمة كما لو اشترك المسلم والمجوسي في الاصطياد والذبح وحجتنا في ذلك قوله عليه الصلاة والسلام كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه حتى يعرب عنه لسانه إما شاكرا وإما كفورا فقد جعل العاقل اتفاق الأبوين ولم يوجد اتفاقهما في التمجس فلا يثبت حكم المجوسية في حقه ولأن أحد الأبوين ممن تحل ذبيحته فيجعل الولد تابعا له كما إذا كان أحد الأبوين مسلما والآخر مجوسيا وهذا لأن الصبي يقرب من المنافع ويبعد من المضار والنصرانية إذا قوبلت بالمجوسية فالمجوسية شر فكان اتباع الولد للكتابي أنفع للولد وإنما يترجح الموجب للحظر عند المساواة وقد انعدمت المساواة هنا فجعلنا الولد تابعا للكتابي منهما.
قال: فأما ذبيحة الصابئ وصيده يحل عند أبي حنيفة رحمه الله ويكره وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى لا يحل وذكر الكرخي رحمه الله تعالى أنه لا خلاف

 

ج / 11 ص -210-    بينهم في الحقيقة ولكن في الصابئين قوم يقرون بعيسى عليه السلام ويقرؤن الزبور فهم صنف من النصارى فإنما أجاب أبو حنيفة رحمه الله تعالى لا يحل ذبائح هؤلاء وفيهم من ينكر النبوات والكتب أصلا وإنما يعبدون الشمس وهؤلاء كعبدة الأوثان وإنما أجاب أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في حق هؤلاء قال الشيخ الإمام رحمه الله تعالى وفيما ذكره الكرخي رحمه الله تعالى عندي نظر فإن أهل الأصول لا يعرفون في جملة الصابئين من يقر بعيسى عليه الصلاة والسلام وإنما يقرون بإدريس عليه الصلاة والسلام ويدعون له النبوة خاصة دون غيره ويعظمون الكواكب فوقع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنهم يعظمونها تعظيم الاستقبال لا تعظيم العبادة كما يستقبل المؤمنون بالقبلة فقال تحل ذبائحهم ووقع عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أنهم يعظمونها تعظيم العبادة لها فألحقناهم بعبدة الأوثان وإنما اشتبه ذلك لأنهم يدينون بكتمان الاعتقاد ولا يستحيون باظهار الاعتقاد ألبتة وإنما احتجاج أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى أولى لأن عند الاشتباه يغلب الموجب للحرمة.
قال: ولا تؤكل السمكة الطافية فأما ما انحسر عنه الماء أو نبذه فلا بأس بأكله وقال الشافعي رحمه الله تعالى لا بأس بأكل السمك الطافي واستدل بقوله تعالى:
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} [المائدة: من الآية96] قيل الطعام من السمك ما يوجد فيه ميتا وقال عليه الصلاة والسلام في البحر: "هو الطهور ماؤه والحل ميتته" وقال صلوات الله وسلامه عليه: "أحلت لنا ميتتان ودمان" الحديث وفي حديث أبان بن أبي عياش رضي الله تعالى عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن أكل الطافي من السمك فلم ير به بأسا واعتبر السمك بالجراد بعلة أنه لا يشترط فيه الذكاة فيستوي موته بسبب وبغير سبب وحجتنا في ذلك حديث جابر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما انحسر عنه الماء فكل وما طفا فلا تأكل" ولا يقال هذا نهي إشفاق لما قيل إن الطافي يورث البرص وهذا لأن الاستكثار من السمك يورث البرص الطافي وغيره سواء وإنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم مبينا للأحكام دون الطب وحرمة تناول الطافي مروى عن علي وبن عباس رضي الله تعالى عنهم حتى قال علي رضي الله تعالى عنه للسماكين لا تبيعوا الطافي في أسواقنا وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أكل الطافىء حرام ولأنه حيوان مات بغير سبب فلا يؤكل كسائر الحيوانات بخلاف الجراد فموته لا يكون إلا بسبب على ما بينا أنه بحري الأصل برى المعاش فإن مات في البحر فقد مات في غير موضع معاشه وما مات في البر فقد مات في غير موضع أصله وهذا سبب لهلاكه فوز أنه لو مات السمك بسبب وقد بينا أن الموجب للحرمة من الآثار يترجح على الموجب للحل لقوله عليه الصلاة والسلام "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ثم جميع أنواع السمك حلال الحريث والمارهيج وغيره في ذلك سواء ولا يؤكل من سوى السمك من حيوانات الماء عندنا وقال الشافعي رحمه الله تعالى يؤكل جميع ذلك وله في الضفدع قولان وفي الكتاب ذكر عن ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى قال: لا بأس

 

ج / 11 ص -211-    بصيد البحر كله وقيل الصحيح في مذهب ابن أبي ليلى رحمه الله تعالى ما يؤكل جنسه من صيد البر يؤكل من صيد البحر وما لا يؤكل من صيد البر كالخنزير ونحوه لا يؤكل من صيد البر واستدل الشافعي رحمه الله تعالى بالآية والخبر وليس فيهما تقييد السمك من بين صيد الماء وميتاتها وفي حديث أبي سعيد الخدري رحمه الله تعالى قال كنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم في سفر فأصابتنا مجاعة فألقى البحر لنا دابة يقال لها عنترة فأكلنا منها وتزودنا فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سألناه عن ذلك فقال صلوات الله وسلامه عليه: "هل بقى عندكم شيء فتطعموني" وحجتنا في ذلك قوله تعالى: {أَو لَحُمَ خِنزِيرِ} ولم يفصل بين البري والبحري وسئل عليه الصلاة والسلام عن مخ الضفدع يجعل في الدواء فنهى عن قتل الضفادع وقال: "إنها خبيثة من الخبائث" فإن ثبت بهذا الحديث أن الضفدع مستخبث غير مأكول فقيس عليه سائر حيوانات الماء ومن يقول يؤكل جميع صيد البحر دخل عليه أمر قبيح فإنه لا يجد بدا من أن يقول يؤكل إنسان الماء وهذا تشنع فعرفنا أن المأكول من المائي السمك فقط وإن المراد بقول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: من الآية96] ما يؤخذ منه طريا ومن قوله تعالى: {وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ} [المائدة: من الآية96] المالح المقدد منه والصحيح من حديث أبي سعيد رضي الله تعالى عنه فألقى لنا البحر حوتا يقال له عنبر وهو اسم للسمك وتأويل الرواية الأخرى أنه جوز لهم التناول لضرورة المجاعة أو كان ذلك قبل نزول قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف: من الآية157] ثم الأصل عندنا في إباحة السمك أن ما مات منه بسبب فهو حلال كالمأخوذ منه وما مات بغير سبب فهو غير مأكول كالطافىء فإن ضرب سمكة فقطع بعضها فلا بأس بأكلها لوجود السبب وكذلك إن وجد في بطنها سمكة أخرى لأن ضيق المكان سبب لموتها وكذلك إن قتلها شيء من طير الماء وغيره وكذلك إن ماتت في جب لأن ضيق المكان سبب لموتها وكذلك إن جمعها في حظيرة لا تستطيع الخروج منها وهو يقدر على أخذها بغير صيد فلا خير في أكلها لأنه لم يظهر لموتها سبب وإذا مات السمك في الشبكة وهي لا تقدر على التخلص منها أو أكل شيئا ألقاه في الماء ليأكله فمات منه وذلك معلوم فلا بأس بأكله وكذلك لو ربطها في الماء فماتت فهذا كله سبب لموتها وهو في معنى "ما انحسر عنه الماء" وقال عليه الصلاة والسلام "ما انحسر عنه الماء فكل" وكذلك لو انجمد الماء فبقيت بين الجمد فماتت فأما إذا ماتت بحر الماء أو برده ففيه روايتان فعلى إحدى الروايتين تؤكل لوجود السبب لموتها وفي الرواية الأخرى لا تؤكل لأن الماء لا يقتل السمك حارا أو بارداً.
وروى هشام عن محمد رحمهما الله أنه إذا انحسر الماء عن بعضه فإن كان رأسه في الماء فمات لا يؤكل وإن انحسر الماء عن رأسه وبقي ذنبه في الماء فهذا سبب لموته فيؤكل.
قال: وإذا أرسل بازيه المعلم على صيد ووقع على صيد ثم اتبع الصيد وأخذه وقتله فلا بأس بأكله" لأن هذا مما لا يستطاع الامتناع منه ولأن من عادة البازي هذا أن يقع على شيء

 

ج / 11 ص -212-    وينظر إلى صيد ليأتيه من الجانب الذي يتمكن من أخذه فهو بمنزلة كمين الفهد فلا يحرم به صيده ولا ينقطع به فور الإرسال.
قال: وإذا أصاب السهم الصيد فأثخنه حتى لا يستطيع براحا ثم رماه بسهم آخر فقتله لم يحل أكله" لأن هذا قد صار أهليا فقد عجز بالفعل الأول عن الاستيحاش والطيران فذكاته بعد ذلك بالذبح في المذبح لا بالرمي بل الرمي في مثله موجب للحرمة ولما اجتمع فيه الموجب للحرمة والموجب للحل يغلب الموجب للحرمة ولأن إثخانه إياه كأخذه ولهذا لو أثخنه أحدهما وأخذه الآخر فهو للأول ولو أخذه ثم رماه فقتله لم يؤكل فكذلك إذا أثخنه وإن رمى بالسهم الثاني غيره فقتله لم يحل أيضا لما بينا ويغرم قيمته مجروحا للأول في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وأبو حنيفة في هذا لا يخالفهما ولكن لم يحفظ جوابه فذكر قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله وهذا لأن الفعل من الأول موجب للملك له والحل له والثاني بفعله أتلف صيدا مملوكا للأول فيضمن قيمته بالصفة التي أتلفه وإنما أتلفه مجروحا بالجرح الأول وإن علم أنه مات من الجراحتين جميعا فإنه يضمن نصف قيمته مجروحا بالجرح الأول ونصف قيمته لحما ذكيا لأن النصف مات بفعله والنصف بفعل الأول لأن الثاني أفسد عليه اللحم في ذلك النصف فلهذا ضمن نصف قيمته لحما ذكيا وإن أصابته رمية الثاني قبل أن يصيبه الأول لم يحرم أكله ولا يلزمه غرمه لأن رمية الثاني لم تخرجه من أن يكون صيدا فقد سبق ملكه فلا يغرم له شيئا وإذا كان الصيد يتحامل ويطير مع إصابه من رمية الأول فرماه الآخر فقتله فهو للثاني حلال لأنه هو الذي أخرجه من أن يكون صيدا بفعله والأول كالمقر له والثاني كالآخذ والصيد لمن أخذ لا لمن أثار.
وإن رمياه جميعا معا أو أحدهما بعد صاحبه قبل أن يصيبه السهم الأول فقتلاه فهو لهما جميعا حلال لأن كل واحد منهما رمى إلى صيد مباح وأصابه الرميتان جميعا معا فقد استويا في سبب الملك وذلك موجب المساواة في الملك وفعل كل واحد منهما مذك للصيد فيحل تناوله لهما وإن رمياه معا فأصابه سهم أحدهما فأثخنه ثم أصاب السهم الآخر فهو للأول ويحل تناوله عندنا وقال زفر رحمه الله لا يحل لأن الرمية من الثاني أصابته وليس بصيد والمعتبر وقت الإصابة لا وقت الرمي فلهذا لا يحل أكله ولكنا نقول فعل كل واحد منهما موجب للحل لأنه رمى إلى صيد وفي الحل المعتبر وقت الرمي لأن الحل بالذكاة وهو فعل المذكي وفعله الرمي فأما في الملك فلا خير في أكلها لأنه لم يظهر لموتها سبب وإذا مات السمك بالشبكة وهي لا تقدر على التخلص منها أو أكل منها شيئا ألقاه في الماء ليأكله فمات منه وذلك معلوم فلا بأس بأكله وكذلك لو ربطها في الماء فهذا كله سبب لموتها والمعتبر وقت الإصابة لا وقت الرمي فلهذا لا يحل أكله ولكنا نقول فعل كل واحد منهما موجب للحل لأنه رمى إلى الصيد وفي الحل المعتبر وقت الرمي لأن الحل بالذكاة وهو فعل المذكي وفعله الرمي فأما في الملك المعتبر وقت الإصابة لأن الملك يثبت بالإحراز وإحراز الصيد

 

ج / 11 ص -213-    بالإصابة دون الرمي وعلى هذا لو رمى إلى صيد وسمى فتكسر الصيد ثم أصابه السهم حل عندنا ولم يحل عند زفر ومن أخذ صيدا أو فرخ صيد من دار رجل أو أرضه فهو له لقوله عليه الصلاة والسلام "الصيد لمن أخذ" وهذا لأن صاحب الملك لم يثبت يده على فرخ الصيد لكونه في ملكه لأنه ما أفرخ ليتركه بل ليطيره بخلاف النحل العسالة إذا عسلت في أرض رجل فهو لصاحب الأرض لأنها القت ذلك للترك والقرار في ذلك الموضع فهو بمنزلة طين مجتمع في أرض رجل من السيل يكون له.
قال: مالم يحرزه صاحب الدار بالقبض عليه أو إغلاق باب ليحرزه به بحيث يقدر على أخذه بغير صيد فإذا فعل ذلك فقد تم إحرازه ثم الآخذ إنما أخذ صيدا مملوكا فعليه رده على مالكه كمن نصب شبكة فوقع فيها صيد ثم أخذه إنسان آخر فعليه رده على صاحب الشبكة.
ولو تكسر صيد في أرض إنسان فصار بحيث لا يستطيع براحا أو رمى صيدا فوقع في أرض رجل لا يدري من رماه فأخذه رجل آخر فهو للذي أخذه لأن الإحراز من الأخذ ولم يوجد من جهة صاحب الملك إحراز له وإن عجز الصيد عن الطيران بما أصابه والمباح إنما يملك بالإحراز.
قال: وكل من اصطاد سمكا من نهر جار لرجل فهو للذي أخذه لأن صاحب النهر ما صار محرزا له بل هو صيد في نهره فالمحرز له من اصطاده وكذلك إن كانت أجمة لا يقدر على أخذ صيدها إلا بالاصطياد فصاحب الأجمة صار محرزا لما حصل فيها من السمك إنما المحرز الآخذ فإن كان صاحب الأجمة احتال لذلك حتى أخرج الماء وبقي السمك فهو لصاحب الأجمة لأنه صار محرزا بما صنع فالسمك على اليبس لا يكون صيدا فإذا صار بفعله بحيث يتمكن من أخذه من غير صيد فهو محرز له قال: وإذا عجز المسلم عن مد قوسه وأعانه مجوسي على مده لم يحل الصيد لاجتماع الموجب للحظر والموجب للحل فإن فعل المجوسي من جنس فعل المسلم فتحققت المشاركة بينهما كما لو أخذ مجوسي بيد المسلم فذبح والسكين في يد المسلم.
قال: وإذا أصاب السهم الصيد فوقع على الأرض ومات حل أكله استحسانا" وفي القياس لا يحل لجواز أن يكون مات بوقوعه على الأرض وجه الاستحسان أن هذا مما لا يستطاع الامتناع عنه إذ ليس في وسعه أن يرميه على وجه يبقى في الهواء ولا يسقط وإن وقع في ماء أو على جبل ثم وقع منه على الأرض ومات لم يؤكل وفي الوقوع في الماء أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه وفي حديث عن رسول الله صلى الله عليه ونسلم قال لعدي بن حاتم رضي الله عنه وقد بينا ولأن من الجائز أن الماء قتله وهذا يستطاع الامتناع منه وكذلك إن وقع على جبل ثم منه على الأرض فهذا مترد ومن الجائز أن التردي قتله وقد قال الله تعالى في جملة المحرمات
{وَالْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة: من الآية3] وكذلك كل ما أصابه قبل أن يستقر على مكانه الذي يموت عليه يعني وقع على شجرة ثم وقع منها على الأرض وإن مات على ذلك الشيء ولم يقع على

 

ج / 11 ص -214-    الأرض حيا فهو حلال وكذلك إن مات قبل وقوعه في الماء ثم وقع في الماء لأن التردي والوقوع في الماء كان بعد تمام فعل الذكاة ولم يكن سببا لموته وإن وقع على جبل ومات ولو على السطح فمات حل لأن الموضع الذي وقع فيه بمنزلة الأرض وقد بينا أن ذلك لا يستطاع الامتناع منه فيكون عفوا وهذا إذا كان ما وقع عليه مما لا يقتل فإن كان ما يقتل مثل حد الرمح والقضيبة المنصوبة وحد الآجر واللبنة القائمة ونحوها لم يؤكل لأن هذا سبب لموته وهو فعل آخر سوى فعل الذكاة يستطاع الامتناع منه وفي الأصل قال إن وقع على آجرة موضوعة على الأرض فمات فهذا بمنزلة الأرض ويؤكل وذكر في المنتقى لو وقع على صخرة فانشق بطنه فمات لم يؤكل وليس هذا باختلاف الروايات بل مراده ما ذكر في المنتقى إذا أصابه حد الصخرة فانشق بطنه بذلك وهذا سبب لموته سوى الذكاة ومراده مما ذكر في الأصل أنه لم يصبه من الآجرة إلا ما يصيبه من الأرض لو وقع عليه وذلك عفو لأنه لا يستطاع الامتناع منه.
قال: فإن رمى صيدا بسهم فأصاب فمر السهم في سننه فأصاب ذلك الصيد أو غيره أو أصابه ونفذ إلى غيره فأصابه حل جميع ذلك لما بينا أن فعل الرمي يذكي لما يصيبه في سننه سواء أصاب صيدا أو صيدين وإن عرض للسهم ريح فرده إلى ما وراءه فأصاب صيدا لم يؤكل لأن الإصابة لم تكن بقوة الرامي بل بقوة الريح فهو نظير سهم موضوع في موضع حمله الريح فضربه على صيد فمات وفعل الريح لا يكون ذكاة الصيد وكذلك إن رده يمنة أو يسرة حتى إذا أصاب صيدا لم يحل وإن لم يرده عن جهته حل صيده لأنه ما دام يمضي في سننه فمضيه مضاف إلى قوة الرامي فأما إذا رده الريح يمنة أو يسرة فقد انقطع حكم هذه الإضافة لأن الرامي لا يحب مضي السهم يمنة أو يسرة فيصير مضافا إلى الريح لا إلى الرامي وما دام يمضي في جهته فالريح يزيده في قوته فلا ينقطع به حكم إضافة القوة إلى الرامي وعن أبي يوسف قال وإن رده يمنة أو يسرة يحل أيضا لأنه ليس بضد للجهة التي قصدها الرامي ولا يمكن الاحتراز عنه إذا كان يصطاد في يوم ريح وكذلك لو أصاب السهم حائطا أو شجرا أو شيئا آخر فرده فهو ورد الريح سواء في جميع ما ذكرنا لأن مضيه إلى ما وراءه بصلابة الشجر والحائط لا بقوة الرمي وكذلك لو أصابه سهم آخر قبل أن يصيب الصيد فرده عن وجهه فأصاب صيدا لم يؤكل وتأويل هذا إذا كان الرامي بالسهم الثاني مجوسيا أو لم يكن قصده الاصطياد إنما كان قصده الرمي إلى ذلك السهم فأما إذا كان قصد الثاني الاصطياد وسمى فإن الصيد يكون له ويحل تناوله ولا فرق بين أن يصيبه سهم أو يرد سهما آخر فيصيبه وقيل بل لا يحل على كل حال لأن الحل باعتبار فعل الرامي وجرح الآلة والسهم الذي رماه للثاني ما جرح الصيد والذي جرح الصيد ما رماه الثاني ولا كان مضيه بقوة من رمى به فهو بمنزلة ما لو أصاب السهم قصبة محدودة منصوبة في حائط وأصابت تلك القصبة الصيد بحدها فجرحته وذلك غير مأكول فهذا مثله.
قال: ولا يحل صيد البندق والحجر والمعراض والعصا وما أشبه ذلك وإن جرح

 

ج / 11 ص -215-    لأنه لم يخرق إلا أن يكون شيئا من ذلك قد حدده وطوله كالسهم وأمكن أن يرمي به فإذا كان كذلك وخرقه بحده حل لما بينا أن المطلوب بالذكاة تسييل الدم وذلك يحصل بالخرق والبضع فأما الجرح الذي يدق في الباطن ولا يخرق في الظاهر فلا يحصل تسييل الدم به فهو في معنى الموقوذة والموقوذة حرام بالنص والمثقل بالحديد وغير الحديد في ذلك سواء وكذلك لو رمى الصيد بالسكين فأصابه بحده وجرحه يؤكل وإن أصابه بقفا السكين أو بمقبض السكين لم يؤكل والمزراق كالسهم يخرق ويعمل في تسييل الدم وإن حدد مروة فذبح بها صيدا حل لحصول تسييل الدم بحد الآلة وفي حديث محمد بن صفوان أو صفوان بن محمد رضي الله عنه قال أخذت أرنبتين فذبحتهما بمروة محددة ثم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فجوز لي أكلهما.
قال: وما توحش من الأهليات حل بنا يحل به الصيد من الرمي" لما بينا من الخبر أن لها أوابد كأوابد الوحش وقد روى عن محمد في البعير والبقرة إذ أنه في المصر أو خارج المصر فرماه إنسان حل به لأنه يدفع عن نفسه نصيبا له ويخاف فوته وإن كان في المصر وأما الشاة إذا مدت في المصر فلا تحل بالرمي لأنه يمكنه أخذها في المصر عادة فلم يتحقق العجز عن ذكاة الاختيار وإذا مدت خارج المصر تحل بالرمي لأنه يخاف فوتها خارج المصر فللعجز عن ذكاة الاختيار يكتفي فيها بذكاة الاضطرار.
قال: وإذا أصاب السهم الظلف والقرن فقتله حل أيضا به إذا أدماه ووصلت الرمية إلى اللحم" لأن ما هو المقصود وهو تسييل الدم قد حصل وكذلك المتردي في بئر لا يقدر على ذكاته فأينما وجىء منه فأدماه فهو ذكاة لأن المعتبر وقوع العجز عن ذكاة الاختيار وقد يتحقق ذلك بالتردي في البئر فهو وما ند سواء
قال: وإن ري صيدا بسيف فأبان منه عضوا ومات أكل الصيد كله إلا ما بان عنه لقوله عليه الصلاة والسلام
"ما أبين من الحي فهو ميت" ومراد رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريم ما كانوا يعتادونه في الجاهلية فإنهم كانوا يقطعون بعض لحم الألية من الشاة وربما لا يقطعون بعض لحم العجز منها فيأكلونه فحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك لأن فعل الذكاة لا يتحقق في المبان مقصودا وأصل الشاة حية وبدون الذكاة لا يثبت الحل وهذا المعنى موجود هنا فحكم الذكاة استقر في الصيد بعد ما مات وهذا العضو مبان من حين مات فلا يسري حكم الذكاة إلى ذلك العضو ولا يمكن إثبات حكم الذكاة في ذلك العضو مقصودا بالإبانة كما لو بقي الصيد حيا فلهذا لا يؤكل ذلك العضو وإن لم يكن بأن ذلك العضو منه أكل كله لأن بقاء الاتصال يسري حكم الذكاة إلى ذلك العضو فيكون حلالا كغيره وإن كان تعلق منه بجلدة فإن كان بمنزلة ما قد بان منه فلا يؤكل ومراده من ذلك إذا كان بحيث لا يتوهم اتصاله بعلاج فهو المبان سواء وإن كان بحيث يتوهم ذلك فهذا جرح وليس بإبانة فيؤكل كله وإن قطعه نصفين يؤكل كله لأن فعله أثمر ما يكون من الذكاة إذ لا يتوهم بقاؤه حيا بعد ما قطعه نصفين طولا وإن قطع الثلث منه مما

 

ج / 11 ص -216-    يلي العجز فأبانه فإنه يؤكل الثلثان اللذان مما يلي الرأس ولا يؤكل الثلث مما يلي العجز فإن قطع الثلث مما يلي الرأس فأبانه فإنه يؤكل كله لأن ما بين النصف إلى العنق مذبح يريد به أن الأوداج من القلب إلى الدماغ وإن قطع الثلث مما يلي العجز لم يستقر فعل الذكاة بهذا حين لم تقطع الأوداج وإنما استقر بموته وهذا الجرح مبان عنه عند ذلك فأما إذا أبان الثلث مما يلي الرأس فقد استقر حكم الذكاة بقطع الأوداج بنفسه وكذلك إن قده نصفين فقد استفز فعل الذكاة بقطع الأوداج فلهذا يؤكل كله فإن أبان طائفة من رأسه فإن كان أقل من النصف لم يؤكل ما بان منه لأن الرأس ليس بمذبح فهو كما لو أبان جزءا من الذنب وإن كان النصف أو أكثر أكل لأنه يتقطع الأوداج به فيكون فعله ذكاة بنفسه.
قال: ولو ضرب وسمى وقطع ظلفه فإن أدماه فلا بأس بأكله وإن لم يكن أدماه لم يؤكل لأن تسييل الدم النجس لم يحصل وعلى هذا لو ضرب عنق شاة بسيف فأبانه من قبل الأوداج فإنه يؤكل وفي الكتاب رواه عن عمران بن حصين رضي الله عنه وقد أساء فيما صنع حين ترك الإحسان في الذبح واختلف المتأخرون من مشايخنا رحمهم الله فيمن ذبح شاة في المذبح فلم يسل الدم منها وقد يكون ذلك إذا كانت قد أكلت العناب وكان أبو القاسم الصفار رضي الله تعالى عنه يقول لا يحل لانعدام معنى الذكاة وهو تسييل الدم النجس وقد قال عليه الصلاة والسلام:
"ما أنهر الدم وأفرى الأوداج فكل" وكان أبو بكر الإسكاف رحمه الله تعالى يقول لا بأس بأكله لوجود فعل الذكاة على ما قال عليه الصلاة والسلام : "الذكاة ما بين اللبة واللحيين" وقد يمتنع بعض الدم في العروق لحابس يحبسه وذلك غير موجب للحرمة بالاتفاق وهذا مثله لم يبن ما يؤكل وما لا يؤكل من الصيود وقد تقدم بيان ذلك وذكر في جملة ما لا يؤكل اليربوع والقنفذ وما أشبههما من الهوام لأن الطباع السليمة تستخبثها فيدخل تحت قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: من الآية157]
قال: ولا يجوز بيع الضفدع والسرطان وما أشبههما وكذلك جمل الماء ولا يجوز بيع شيء من ذلك إلا السمك لأنه ليس له ثمن ومعنى هذا ما بينا أن البيع لا يجوز إلا فيما هو مال متقوم والمال ما يتمول والتقوم به يكون منتفعا به وسائر حيوانات الماء سوى السمك غير مأكول اللحم ولا منفعة لها سوى الأكل فلم يكن مالا متقوما فإن كان شيئا له ثمن كجلود الحمر ونحوها فبيعه جائز لأن هذا منتفع به بوجه حلال فيكون متقوما فيجوز بيعه.
قال: ولا خير في أكل النسر والعقاب وأشباههما من صيد البر لنهي النبي عليه الصلاة والسلام عن كل ذي مخلب من الطير فأما العقعق والسودانية وأشباه ذلك مما لا مخلب له فلا بأس بأكله وقد بينا الكلام في الغراب فيما سبق.
قال: ولا تكره الصلاة على جلد ما يكره أكله من ذي الناب لأن الذكاة تعمل فيما يؤكل لحمه في طيبة اللحم وطهارة الجلد وفيما لا يؤكل لحمه يعمل في طهارة الجلد وإن كان لا يعمل في طيبة اللحم لأن الجلد محل قابل لهذا الحكم ألا ترى أنه يطهر بالدباغ قال عليه

 

ج / 11 ص -217-    الصلاة والسلام "إيما إهاب دبغ فقد طهر" فكذلك بالذكاة وقد بينا هذا الفصل في كتاب الصلاة وتكره لحوم الإبل الجلالة والعمل عليها وتلك حالها إلى أن تحبس أياما لما روى أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن أكل لحم الجلالة وفي رواية أن يحج على الجلالة ويعتمر عليها وينتفع بها وتفسير الجلالة التي تعتاد أكل الجيف ولا تخلط فيتعين لحمها ويكون لحمها منتنا فحرم الأكل لأنه من الخبائث والعمل عليها لتأذي الناس بنتنها وأما ما يخلط فيتناول الجيف وغير الجيف على وجه يظهر أثر ذلك من لحمه فلا بأس بأكله والعمل عليه حتى ذكر في النوادر لو أن جديا غذى بلبن خنزير فلا بأس بأكله لأنه لم يتغير لحمه وما غذى به صار مستهلكا ولم يبق له أثر وعلى هذا نقول لا بأس بأكل الدجاجة وإن كانت تقع على الجيف لأنها تخلط ولا يتغير لحمها ولا ينتن وقيل هي تنقش الجيف تبتغي الحب فيها لا أن تتناول الجيف وكان ابن عمر رضي الله عنه يكره أكل الدجاج لأنه يتناول الجيف ولسنا نأخذ بهذا وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأكل من لحم الدجاج ولو كان فيه أدنى خبث لامتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تناوله والذي روى أنه كان يحبس الدجاج ثلاثة أيام ثم يذبحها فذلك على سبيل التنزه من غير أن يكون ذلك شرطا في الدجاجة وغيرها مما يخلط وإنما يشترط ذلك في الجلالة التي لا تأكل إلا الجيف وفي الكتاب قال تحبس أياما على علف طاهر قيل ثلاثة أيام وقيل عشرة أيام والأصلح أنها تحبس إلى أن تزول الرائحة المنتنة عنها لأن الحرمة لذلك وهو شيء محسوس ولا يتقدر بالزمان لاختلاف الحيوانات في ذلك فيصار فيه إلى اعتبار زوال المضر فإذا زال بالعلف الطاهر حل تناوله والعمل عليه بعد ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم.