المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 12 ص -25-       كتاب الوقف
قال الشيخ الإمام الزاهد الأجل شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله تعالى إملاء اعلم بأن الوقف لغة الحبس والمنع وفيه لغتان أوقف يوقف إيقافا ووقف يقف وقفا قال الله تعالى:
{وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ} [الصافات:24] وفي الشريعة عبارة عن حبس المملوك عن التمليك من الغير وظن بعض أصحابنا رحمهم الله تعالى أنه غير جائز على قول أبي حنيفة وإليه يشير في ظاهر الرواية فنقول أما أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه فكان لا يجيز ذلك ومراده أن لا يجعله لازما فأما أصل الجواز ثابت عنده لأنه يجعل الواقف حابسا للعين على ملكه صارفا للمنفعة إلى الجهة التي سماها فيكون بمنزلة العارية والعارية جائزة غير لازمة ولهذا قال لو أوصى به بعد موته يكون لازما بمنزلة الوصية بالمنفعة بعد الموت وذكر الطحاوي رحمه الله تعالى أن عنده لو نفذه في مرضه فهو كالمضاف إلى ما بعد الموت لأن تصرف المريض مرض الموت في الحكم كالمضاف إلى ما بعد الموت حتى يعتبر من ثلثه وخصوصا فيما لا يكون تمليكا كالعتق كأنه يجعله موقوفا على ما يظهر عند موته والصحيح أن ما باشره في المرض بمنزلة ما لو باشره في الصحة في أنه لا يتعلق به اللزوم ولا يمتنع الإرث بمنزلة العارية إلا أن يقول في حياتي وبعد موتي فحينئذ يلزم إذا كان مؤبدا وصار الأبد فيه كعمر الموصى له بالخدمة في لزوم الوصية بعد الموت فأما أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى قالا الوقف يزيل ملكه وإنما يحبس العين عن الدخول في ملك غيره وليس من ضرورة ذلك امتناع زوال ملكه فلزوال الملك في حقه يلزم حتى لا يورث عنه بعد وفاته لأن الوارث يخلف المورث في ملكه وكان أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول أو لا يقول بقول أبي حنيفة رحمه الله تعالى ولكنه لما حج مع الرشيد رحمه الله تعالى فرأى وقوف الصحابة رضوان الله عليهم بالمدينة ونواحيها رجع فأفتى بلزوم الوقف فقد رجع عند ذلك عن ثلاث مسائل:
إحداهما: هذه.
والثانية: تقدير الصاع بثمانية أرطال.
والثالثة: أذان الفجر قبل طلوع الفجر.
وحجتهم في ذلك الآثار المشهورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين منهم عمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهم فإنهم باشروا الوقف وهو باق إلى يومنا هذا وكذلك وقف إبراهيم الخليل صلوات الله وسلامه عليه باق إلى يومنا هذا وقد أمرنا باتباعه

 

ج / 12 ص -26-       قال الله تعالى: {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [آل عمران: من الآية95] والناس تعاملوا به من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يعني اتخاذ الرباطات والخانات وتعامل الناس من غير نكير حجة وقد استبعد محمد رحمه الله تعالى قول أبي حنيفة في الكتاب لهذا وسماه تحكما على الناس من غير حجة فقال ما أخذ الناس بقول أبي حنيفة وأصحابه إلا بتركهم التحكم على الناس فإذا كانوا هم الذين يتحكمون على الناس بغير أثر ولا قياس لم يقلدوا هذه الأشياء ولو جاز التقليد كان من مضي من قبل أبي حنيفة مثل الحسن البصري وإبراهيم النخعي رحمهما الله تعالى أحرى أن يقلدوا ولم يحمد على ما قال وقيل بسبب ذلك انقطع خاطره فلم يتمكن من تفريغ مسائل الوقف حتى خاض في الصكوك واستكثر أصحابه من بعده من تفريغ مسائل الوقف كالخصاف وهلال رحمهما الله تعالى ولو كان أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه في الأحياء حين قال ما قال لدمر عليه فإنه كما قال مالك رضي الله تعالى عنه رأيت رجلا لو قال هذه الأسطوانة من ذهب لدل عليه ولكن كل مجرى بالجلاء يسر ثم استدل بالمسجد فقال اتخاذ المسجد يلزم بالاتفاق وهو إخراج لتلك البقعة عن ملكه من غير أن يدخل في ملك أحد ولكنها تصير محبوسة بنوع قربة قصدها فكذلك في الوقف وبهذا تبين أنه ليس من ضرورة الحبس عن الدخول في ملك الغير امتناع خروجه عن ملكه ثم للناس حاجة إلى ما يرجع إلى مصالح معاشهم ومعادهم فإذا جاز هذا النوع من الإخراج والحبس لمصلحة المعاد فكذلك لمصلحة المعاش كبناء الخانات والرباطات واتخاذ المقابر ولو جاز الفرق بين هذه الأشياء لكان الأولى أن يقال لا يلزم المسجد وتلزم المقبرة حتى لا يورث لما في النبش من الأضرار والاستبعاد عند الناس أو كان ينبغي أن يلتزم الوقف دون المسجد لأن في الوقف وإن انعدم التمليك في عينه فلذلك يوجد فيما هو المقصود به وهو التصدق بالغلة وذلك لا يوجد في المسجد فكان هذا الفرق أبعد عن التحكم مما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله تعالى هذا معنى ما احتج به محمد رحمه الله تعالى وقد طوله في الكتاب ويستدلون بالعتق أيضا ففيه إزالة الملك الثابت في العبد من غير تمليك وصح ذلك على قصد التقرب فكذلك في الوقف وحجة أبي حنيفة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت وما سوى ذلك فهو مال الوارث" فبين النبي عليه الصلاة والسلام أن الإرث إنما ينعدم في الصدقة التي أمضاها وذلك لا يكون إلا بعد التمليك من غيره.
وسئل الشعبي عن الحبس فقال جاء محمد عليه الصلاة والسلام ببيع الحبس فهذا بيان أن لزوم الوقف كان في شريعة من قبلنا وأن شريعتنا ناسخة لذلك وقال ابن مسعود وبن عباس رضي الله تعالى عنهم لا حبس عن فرائض الله تعالى ولكنهم يحملون هذا الأثر على ما كان أهل الجاهلية يصنعونه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ويقولون الشرع أبطل ذلك كله ولكنا نقول النكرة في موضع النفي تعم فيتناول كل طريق يكون فيه حبس عن الميراث إلا ما قام عليه دليل.

 

ج / 12 ص -27-       واستدل بعض مشايخنا رحمهم الله تعالى بقوله عليه الصلاة والسلام: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" فقالوا معناه ما تركناه صدقة لا يورث ذلك عنا وليس المراد أن أموال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا تورث وقد قال الله تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ} [النمل: من الآية16] وقال تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:5-6] فحاشا أن يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف المنزل فعلى هذا التأويل في الحديث بيان أن لزوم الوقف من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام خاصة بناء على أن الوعد منهم كالعهد من غيرهم. ولكن في هذا الكلام نظر فقد استدل أبو بكر رضي الله عنه على فاطمة رضي الله عنها حين ادعت فدك بهذا الحديث على ما روى أنها ادعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهب فدك لها وأقامت رجلا وامرأة فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه ضمي إلى الرجل رجلا أو إلى المرأة امرأة فلما لم تجد ذلك جعلت تقول من يرثك فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه أولادي فقالت فاطمة رضي الله تعالى عنها أيرثك أولادك ولا أرث أنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة" فعرفنا أن المراد بيان أن ما تركه يكون صدقة ولا يكون ميراثا عنه وقد وقعت الفتنة بين الناس بسبب ذلك فترك الاشتغال به أسلم والمعنى فيه أن العين الموقوفة فيه كانت مملوكة قبل الوقف وبقيت بعده مملوكة والمملوك بغير مالك لا يكون فمن ضرورة بقائها مملوكة أن يكون هو المالك أو غيره ولم تصر مملوكة لغيره فكانت باقية على ملكه والوارث يخلف المورث في ملكه وبيان قولنا أنها بقيت مملوكة أنه ينتفع بها على وجه الانتفاع بالمملوكات من حيث السكنى والزراعة وسائر وجوه الانتفاعات ولأنها خلقت مملوكة في الأصل وقد تقرر ذلك بتمام الإحراز فلا يتصور إخراجها عن أن تكون مملوكة إلا أن يجعلها لله تعالى خالصا وبالوقف لا يتحقق ذلك وفي هذه التسمية ما يدل على أنها مملوكة محبوسة وبه فارق العتق فالآدمي خلق في الأصل ليكون مالكا فصفة المملوكية فيه عارض محتمل للرفع وإذا رفع كان مالكا كما كان ومن ضرورة إثبات قوة المالكية انعدام المملوكية وبخلاف المسجد فإن تلك البقعة تخرج من أن تكون مملوكة وتصير لله تعالى ألا ترى أنه لا ينتفع بها بشيء من منافع الملك وإن كانت تصلح لذلك وقد وجدنا لهذا الطريق أصلا في الشرع وهو الكعبة فتلك البقعة لله تعالى خالصة متحرزة عن ملك العباد فألحقنا سائر المساجد بها ولم نجد مثل ذلك في الوقف بل الوقف بمنزلة تسييب أهل الجاهلية من حيث إنه لا تخرج به العين من أن تكون مملوكة منتفعا بها ولو سيب دابته لم تخرج من ملكه فكذلك إذا وقف أرضه أو داره وإذا بقيت مملوكة له لا يمتنع الإرث فيها إلا باعتبار حق يستثنيه لنفسه بعد وفاته وذلك فيما إذا أضاف الوقف إلى ما بعد الموت فإنه تبقى العين على حكم ملكه لشغله إياه بحاجته والناس لم يأخذوا قول أبي حنيفة في المسألة إلا باشتهار الآثار فأما من حيث المعنى كلامه قوي وهو يحمل الآثار على الوقف المضاف إلى ما بعد الموت أو المنفعة في الحياة وبعد الموت قال:  رحمه الله تعالى قد تم

 

ج / 12 ص -28-       الكتاب على قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وإنما البيان بعد هذا على قولهما. ثم بدأ الكتاب بحديث رواه عن صخر بن جويرة عن نافع أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت له أرض تدعى ثمغا وكان نخلا نفيسا فقال عمر رضي الله تعالى عنه يا رسول الله إني استفدت مالا وهو عندي نفيس أفأتصدق به فقال صلوات الله وسلامه عليه: "تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولكن لينفق من ثمره" فتصدق به عمر رضي الله عنه في سبيل الله تعالى وفي الرقاب والضيف والمساكين وبن السبيل ولذي القربى منه ولا جناح على من وليه أن يأكل منه بالمعروف أو يؤكل صديقا له غير متمول منه وهذه الأرض سهم عمر رضي الله عنه بخيبر حين قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر بين أصحابه رضي الله عنهم وثمغ لقب لها وقد كانت لأملاكهم ألقاب حتى كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة يقال لها العضباء وبغلة يقال لها دلدل وفرس يقال له السكب وحمار يقال له يعفور وعمامة تسمى السحابة ثم في هذا دليل أن من قصد التقرب إلى الله سبحانه وتعالى فينبغي أن يختار لذلك أنفس أمواله وأطيبها قال الله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: من الآية92] وقال الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: من الآية267] فلهذا اختار عمر رضي الله عنه أنفس أمواله وأطيبها لما أراد التصدق وفيه دليل على أن من أراد التقرب إلى الله تعالى فالأولى أن يقدم السؤال عن ذلك وإن الربا لا يدخل في هذا السؤال بخلاف ما يقوله جهال المتقشفة ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوقف بقوله: "تصدق بأصله لا يباع ولا يوهب ولا يورث" فهو من حجة من يقول بلزوم الوقف وقد روى عن علي رضي الله عنه أنه وقف كما فعله عمر رضي الله عنه ولكن لم يستثن للوالي شيئا وفيه دليل على أن كل ذلك واسع إن استثنى للوالي أن يأكل بالمعروف كما فعله عمر رضي الله عنه وهو صواب وإن لم يستثن ذلك كما فعله علي رضي الله عنه فهو صواب أيضا وللوالي أن يأكل منه بالمعروف مقدار حاجته كما أن للإمام فعل ذلك في بيت المال ولوصى اليتيم ذلك في مال اليتيم إذا عمل له قال الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: من الآية6] ولكن لايكون له أن يؤكل غيره ممن ليس في عياله إلا إذا شرط الواقف ذلك كما فعله عمر رضي الله عنه أو يؤكل صديقاً له.
وقوله: غير متمول منه يعني يكتفي بما يأكل ولا يكتسب به المال بالبيع لنفسه وهو نظير الغازي في طعام الغنيمة يباح له أن يتناول بقدر حاجته ولا يتمول ذلك بالبيع والإقراض من غيره وفيه دليل محمد رحمه الله تعالى أن الوقف لا يتم إلا بالتسليم إلى المتولى وفي قوله لا جناح على من وليه إشارة إلى ذلك وقد روى أنه جعل وقفه في يد ابنته حفصة رضي الله تعالى عنهما قال محمد رحمه الله تعالى ولهذا يأخذ إذا تصدق بها في حياته في صحته كان ذلك من جميع ماله وإذا تصدق به في مرضه كان ذلك من ثلثه لأنه إزالة الملك بطريق التبرع. ثم لا خلاف أنه لو قال تصدقت بأرضي هذه على الفقراء والمساكين أنه لا يكون وقفا بل يكون ذلك نذرا بالصدقة إذا قصد به الإلزام فإن عين إنسانا فهو تصدق عليه بطريق التمليك ولا يتم إلا بالتسليم

 

ج / 12 ص -29-       ولو قال: وقفت أرضي هذه أو حبستها أو حرمتها أو هي موقوفة أو محبوسة أو محرمة فهذا باطل بالاتفاق لأن كلامه يحتمل فلعل مراده وقفتها على ملكي لتكون مصروفة في حاجتي أو على قضاء ديوني فإن قال لإنسان بعينه وقفتها لك أو حبستها لك أو قال هي لك وقف أو حبس فهو باطل أيضا إلا على قول أبي يوسف فإنه يقول يكون تمليكا منه يتم بالتسليم إليه بقوله لك وقوله وقف أو حبس باطل ووجه ظاهر الرواية أن قوله وقف أو حبس تفسير لقوله لك فيمنع ذلك تمليك الغير منه والكلام المبهم إذا اقترن به تفسير كان الحكم لذلك التفسير كقوله داري لك سكني تكون عارية فإن قال هي صدقة موقوفة على الفقراء والمساكين وأخرجها من يده إلى يد قيم يقوم بها وينفق عليها في مرمتها وإصلاح مجاريها ويزرعها ويرفع من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها ويقسم الباقي بعد ذلك في كل سنة على الفقراء والمساكين فهذه صدقة جائزة وليس له أن يرجع فيها لاستجماع شرائط الوقف على قول من يقول بلزوم الوقف من القسمة والتسليم وإخراج الأصل عن ملكه والتأبيد في جهة صرف الغلة ما بقيت الدنيا وإنما يبدأ من غلتها بمرمتها وإصلاح مجاريها لأنها لا تبقى منتفعا بها إلا بعد ذلك ومقصود الواقف أن تكون الصدقة جارية له إلى يوم القيامة كما قال عليه الصلاة والسلام: "كل عمل بن آدم ينقطع بموته إلا ثلاثة علم علمه الناس فهم يعملون به بعد موته وولد صالح يدعو له وصدقة جارية له إلى يوم القيامة" وفي بعض الروايات قال: "إلا سبعا" وذكر من جملة ذلك "نهرا أكراه وخانا بناه ومصحفا سبله" وإنما يرفع من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها لأنه لا يتمكن من الزراعة إلا بذلك ولأن الغلة لا تطيب من الأراضي الخراجية إلا بأداء الخراج وإنما قصد الواقف أن يكون التصدق عنه بأطيب المال وذلك عند أداء النوائب فلهذا يرفع الوالي من غلتها ما يحتاج إليه لنوائبها ويقسم الباقي بعد ذلك في كل سنة وليس هذا بتوقيت لازم ولكن يقسم عند حصول الغلة ومن الأراضي ما يغل في السنة مرتين ومنها ما يغل في السنة مرة فكما حصلت الغلة ينبغي له أن يقسم ما يحصل من النوائب في الفقراء والمساكين ولا يؤخر لما في التأخير من الآفات وفي التعجيل من القربة تحصيل مقصود الواقف ولذلك إذا جعل أرضا له مقبرة للمسلمين ويأذن لهم أن يقبروا فيها فيفعلون فليس له بعد ما يخلي بين المسلمين وبينها ويقبروا فيها إنسانا واحدا أو أكثر أن يرجع فيها لأن التسليم على قول من يشترط التسليم يتم بهذا فإن ما هو المقصود قد حصل إذا قبروا فيها إنسانا واحدا وكذلك إذا جعلها خانا للمسلمين وخلى بينهم وبينها فدخلها بإذنه رجل واحد أو أكثر فلا سبيل له بعد ذلك عليها لأن التسليم يتم بهذا وهذا لأنه لا يتحقق القبض من جميع المسلمين ففعل الواحد منهم كفعل الجماعة للمساواة بين الكل فيما يثبت به من الحق وهو نظير ما جعل الشرع أمان الواحد من المسلمين كأمان الجماعة ثم النزول في الخان والدفن في المقبرة من مصالح الناس قال الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات:25 -26]وجواز الوقف لمعنى المصلحة فيه للناس من حيث المعاش والمعاد وكذلك الرجل يكون

 

ج / 12 ص -30-       له الدار بمكة فيجعلها سكنى للحاج والمعتمرين ويدفعها إلى ولي يقوم عليها ويسكن فيها من زار فليس له بعد ذلك أن يرجع فيها وإن مات لم تكن ميراثا وإن لم يسكنها أحد لأنه حين سلمها إلى ولي يقوم عليها فقد أخرجها من ملكه ويده والتسليم على قول من يشترط يكون بأحد الطريقين إما بإثبات يد القيم عليها أو بأن يحصل المقصود بسكنى بعض الناس فيها بإذنه وكذلك إن جعل دارا له في غير مكة سكنى للمساكين ودفعها إلى ولى يقوم بذلك وكذلك إن جعلها سكنى للغزاة والمرابطين في ثغر من الثغور أو جعل غلة أرضه للغزاة في سبيل الله تعالى ودفع ذلك إلى ولي يقوم به فهو جائز ولا سبيل له إلى رده لأنه قصد التقرب بما صنع فأما السكني فلا بأس بأن يسكنها الغني والفقير من الغزاة والمرابطين والحاج وكذلك نزول الخان والدفن في المقبرة فأما الغلة التي جعلت للغزاة فلا يعجبني أن يأخذ منها إلا محتاج إليها لأن الغلة مال يملك والتقرب إلى الله تعالى بتمليك المال يكون من المحتاج خاصة دون الغني بخلاف السكني وحقيقة المعنى في الفرق أن الغني مستغن عن مال الصدقة بمال نفسه وهو لا يستغني بماله عن الخان لينزل فيه وعن الدفن في المقبرة فلا يمكنه أن يتخذ ذلك في كل منزل وربما لا يجد ما يستأجره فلهذا يستوي فيه الغني والفقير وهو نظير ماء السقاية والحوض والبئر فإنه يستوي فيه الغني والفقير لهذا المعنى وهذا لأن الماء ليس بمال قبل الإحراز والناس يتوسعون فيه عادة ولا يخصون به الفقراء دون الأغنياء بخلاف المتصدق بالمال ثم الواقف وإن أطلق الغزاة في سبيل الله فمراده التقرب وذلك بصرف المال إلى المحتاجين منهم وفي اللفظ ما يدل عليه شرعا قال الله تعالى من أصناف الصدقات وفي سبيل الله ثم يصرف الصدقة إلى الفقراء من الغزاة دون الأغنياء والحاصل أنه متى ذكر مصرفا فيه تنصيص على الفقر والحاجة فهو صحيح سواء كانوا يحصون أولا يحصون لأن المطلوب وجه الله تعالى ومتى ذكر مصرفا يستوي فيه الأغنياء والفقراء فإن كانوا يحصون فذلك صحيح لهم باعتبار أعيانهم وإن كانوا لا يحصون فهو باطل إلا أن يكون في لفظه ما يدل على الحاجة استعمالا بين الناس لا باعتبار حقيقة اللفظ كاليتامى فحينئذ إن كانوا يحصون فالفقراء والأغنياء فيه سواء وإن كانوا لا يحصون فالوقف صحيح وتصرف إلى فقرائهم دون أغنيائهم لأن الاستعمال بمنزلة الحقيقة في جواز تصحيح الكلام باعتباره وتمام بيان هذه الفصول في كتاب الوصايا.
قال: وإن جعل أرضا له مسجدا لعامة المسلمين وبناها وأذن للناس بالصلاة فيها وأبانها من ملكه فأذن فيه المؤذن وصلى الناس جماعة صلاة واحدة أو أكثر لم يكن له أن يرجع فيه وإن مات لم يكن ميراثا" لأنه حرزها عن ملكه وجعلها خالصة لله تعالى قال الله تعالى:
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجـن: من الآية18] وقال عليه الصلاة والسلام: "من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله تعالى له بيتا في الجنة ولا رجوع له فيما جعله لله تعالى خالصا كالصدقة التي أمضاها" ثم عند أبي يوسف يصير مسجدا إذا أبانه عن ملكه وأذن للناس بالصلاة فيه وإن لم يصل فيه

 

ج / 12 ص -31-       أحدكما في الوقف على مذهبه أن الوقف يتم بفعل الواقف من غير تسليم إلى المتولى وعند محمد لا يصير مسجدا ما لم يصل الناس فيه بالجماعة بنى على مذهبه أن الوقف لا يتم إلا بالتسليم إلى المتولى وعن أبي حنيفة فيه روايتان في رواية الحسن عنه يشترط إقامة الصلاة فيه بالجماعة وفي رواية غيره عنه قال إذا صلى فيه واحد يصير مسجدا وإن لم يصل بالجماعة وجه رواية الحسن أن تمام التبرع بحصول المقصود به بدليل الصدقة فالمقصود بها إغناء المحتاج ثم لا يتم ما لم يحصل هذا المقصود بالتسليم إليه فهنا المقصود من المساجد إقامة الصلاة فيها بالجماعة لأن جميع وجه الأرض موضع الصلاة وإنما تبنى المساجد لإقامة الصلاة فيها بالجماعة فلا تصير مسجدا قبل حصول هذا المقصود. وجه الرواية الأخرى أن المقصود أن المسجد موضع السجود وقد حصل ذلك بالصلاة فيه منفردا كان أو بجماعة وقد بينا أن الواحد من المسلمين ينوب عن جماعتهم فيما هو حقهم فتجعل صلاة الواحد فيه كصلاة الجماعة وقد بينا نظيره في نزول الخان والدفن في المقبرة.
وروى عن معاذ بن جبل وبن عباس وشريح والحسن والشعبي رضي الله عنهم قالوا لا تجوز الصدقة حتى يقبض وبه نأخذ فنقول أن الصدقة لا تتم إلا بالقبض بخلاف ما يقوله مالك رحمه الله تعالى وهذا لأن المتصدق يجعل ما يتصدق به خالصا لله تعالى بإخراجه عن ملكه وحقه ولا يتم ذلك إلا بالإخراج من يده ولا خلاف فيه بين العلماء رحمهم الله تعالى في الصدقة المنفذة وقال أهل المدينة رحمهم الله تعالى مجرد الإعلام يكفي لذلك لما جاء في الأثر عن بن مسعود رضي الله عنه وغيره إذا أعلمت الصدقة جازت وجعلوا ذلك قياس العتق فإن العتق يزيل المعتق عن ملكه ويجعله لله تعالى ثم يتم ذلك بنفسه فكذلك الصدقة ولأن الآخذ للصدقة هو الله تعالى قال الله تعالى:
{وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: من الآية104] وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الصدقة تقع في كف الرحمن فيربيها كما يربي أحدكم فلوه حتى تصير مثل أحد" ولكنا نقول هذا في ضمن الإتصال إلى الفقير ليكون الفقير آخذا كفايته من الله تعالى فإنه عبد الله وكفاية العبد على مولاه وقد وعد له ذلك بقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: من الآية6] ولهذا لم يكن للمعطى منه على القابض وهذا المقصود لا يحصل قبل التسليم إلى الفقير فلا تتم الصدقة بخلاف العتق فالعبد في يد نفسه فيصير قابضا نفسه مع أن المعتق متلف للملك والرق فيه والإتلاف يتم بالتلف والمتصدق غير متلف للملك بل جاعل الملك لله تعالى خالصا وذلك في ضمن التمليك من الفقير فكما أن التمليك من الفقير لا يتم إلا بالتسليم إليه فكذلك جعله لله تعالى فأما الصدقة الموقوفة على قول أبي يوسف رحمه الله تعالى تلزم بالإعلام وإن لم يخرجها من يده إلى يد المتولى وعلى قول محمد رحمه الله تعالى لا يتم إلا بالإخراج من يده والتسليم إلى المتولي وهو قول ابن أبي ليلى وحجته في ذلك أن إزالة الملك بطريق التبرع فتمامه بالتسليم كما في الصدقة المنفذة وهذا لأنه لو لزمه قبل التسليم لصارت يده مستحقة عليه والتبرع لا يصلح سببا للاستحقاق على المتبرع في غير ما تبرع به

 

ج / 12 ص -32-       فينبغي أن يكون متبرعا في إزالة يده كما في إزالة ملكه وذلك بأن لم تتم الصدقة قبل التسليم بل هذا أولى من الصدقة المنفذة فإن جواز ذلك متفق عليه بين العلماء رحمهم الله تعالى وفي جواز الصدقة الموقوفة ولزومها خلاف ظاهر ثم تلك الصدقة مع قوتها لا تتم إلا بالتسليم فهذا أولى وقال في الكتاب من جوز الصدقة غير مقبوضة لم يفصل بين الصدقة الموقوفة والمنفذة وهو قول أهل المدينة رحمهم الله تعالى وكذلك من لم يجوزها إلا مقبوضة والفرق بينهما من نوع التحكم وقد بينا أن ذلك لا يجوز وأبو يوسف رحمه الله يقول هذه إزالة ملك لا تتضمن التمليك فتتم بدون القبض كالعتق بخلاف الصدقة المنفذة فإنها تتضمن التمليك وهذا لأن القبض إنما يعتبر من المتملك أو من نائبه ليتأكد به ملكه ألا ترى أنه لا يعتبر قبض غيره له بغير إذنه والصدقة الموقوفة لا يتملكها أحد فلا معنى لاشتراط القبض فيها يوضحه أن المتولي مختار الواقف فيده تقوم مقام يد الواقف لا مقام يد الموقوف عليه فإنه ما اختاره وربما لم يعلم به أيضا فإذا كانت تتم بيد من اختاره الواقف فبيد الواقف أولى بخلاف العدل في الرهن فإن يده كيد المرتهن هناك لأنه لا يصير عدلا إلا برضا المرتهن واختياره ولهذا يصير المرتهن مستوفيا دينه بهلاكه في يد العدل ولأن حق المرتهن ثبت في العين فتمكن فيجعل العدل نائبا عنه وهنا الموقوف عليه في الغلة لا في العين فلا يمكن جعل المتولى نائبا عنه في قبض العين بل هو نائب عن الواقف فلا معنى لاشتراط قبضه واستدل محمد رحمه الله تعالى في الكتاب بحديث عمر رضي الله عنه فإنه جعل وقفه في يد ابنته حفصة رضي الله عنها وإنما فعل ذلك ليتم الوقف ولكن أبو يوسف رحمه الله تعالى يقول فعل ذلك لكثرة اشتغاله وخاف التقصير منه في أوانه أو ليكون في يدها بعد موته فأما أن يكون فعله لإتمام الوقف فلا وكان القاضي أبو عاصم رحمه الله تعالى يقول قول أبي يوسف من حيث المعنى أقوى لمقاربته بين الوقف والعتق من حيث أنه ليس في كل واحد منهما معنى التمليك وقول محمد رحمه الله تعالى أقرب إلى موافقة الآثار وعلى هذا الخان والرباط يتم عند أبي يوسف رحمه الله تعالى بالتخلية بينه وبين الناس وإن لم ينزل فيه أحد ولا يتم عند محمد رحمه الله تعالى إلا بالتسليم إلى المتولى أو بنزول الناس فيه وكذلك المقبرة والسقاية عند محمد لا تتم إلا بالتسليم إلى قيم يقوم عليه أو بأن يدفنوا في المقبرة رجلا واحدا أو يسقي من السقاية رجل واحد. وكذلك المسجد إلا أن في المسجد تمامه عند محمد رحمه الله تعالى بأن يصلي الناس فيه بالجماعة لأن التسليم إلى المتولي في المسجد لا يتحقق إذ لا تدبير فيه للمتولي في اختيار من يصلي بالمسجد أو الاستغلال لأن المسجد قد تحرز عن ذلك وكذلك لا تدبير لأحد في سد باب المسجد لأنه إن كره لأهل المسجد أن يغلقوا باب المسجد فكيف بغيرهم فلهذا يوقف التمام على إقامة الصلاة فيه بالجماعة وفي سائر الوقف للمتولي تدبير في ذلك فجعل التسليم إلى المتولي متمما للصدقة ولأن المقصود في سائر الوقف منفعة العباد فيمكن جعل يد المتولي في ذلك بمنزلة يدهم والمقصود هنا إقامة العبادة لله تعالى في المسجد خالصا ولا يحصل ذلك إلا

 

ج / 12 ص -33-       بإقامة الصلاة فيه  قال: ولو وقف نصف أرض أو نصف دار مشاعا على الفقراء فذلك جائز في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى، لأن القسمة من تتمة القبض فإن القبض للحيازة وتمام الحيازة فيما يقسم بالقسمة ثم أصل القبض عنده ليس بشرط في الصدقة الموقوفة فكذلك ما هو من تتمة الوقف وهذا لأن الوقف على مذهبه قياس العتق والشيوع لا يمنع العتق فكذلك لا يمنع الوقف إلا أن العتق لا يتجزأ عنده لما في التجزيء من تضاد الأحكام عنده في محل واحد وذلك لا يوجد في الوقف فيحتمل التجزيء ويتم مع الشيوع في القدر الذي أوقفه وأما عند محمد رحمه الله تعالى لا يتم الوقف مع الشيوع فيما يحتمل القسمة لأن على مذهبه أصل القبض شرط لتمام الوقف فكذلك ما يتم به القبض وتمام القبض فيما يحتمل القسمة بالقسمة واعتبره بالصدقة المنفذة فإنها لا تتم في مشاع يحتمل القسمة كالهبة ويتم في مشاع لا يحتمل القسمة لأنه بالقسمة يتلاشى فلا تكون القسمة فيه حيازة فكذلك الصدقة الموقوفة تجوز في مشاع لا يحتمل القسمة ولا تجوز في مشاع يحتمل القسمة ما لم يقسم وعلى هذا الخان والمقبرة والمسجد والسقاية يعني فيما يحتمل القسمة لأنه لا يتم من الشيوع عند محمد رحمه الله تعالى فأما المسجد والمقبرة لا تتم مع الشيوع فيما لا يحتمل القسمة لأن بقاء الشركة يمنع أن تكون البقعة لله تعالى خالصا ولأنا لو جوزنا ذلك وقعت الحاجة إلى المهايأة فتقبر فيه الموتى في سنة ثم تنبش في سنة أخرى ويزرع لمراعاة حق المالك ويصلي الناس في المسجد في وقت ويتخذ اصطبلا في وقت آخر بحكم المهايأة وذلك ممتنع بخلاف الوقف فالمقصود هناك الاستغلال فيما بقي منه ملكا وفيما صار منه وقفا فلو جاز مع الشيوع فيما لا يحتمل القسمة لا يؤدي إلى تضاد الأحكام بل يستغل وتقسم الغلة على قدر الملك والوقف منه وذلك صحيح وكذلك لو جعل جميع الأرض أو الدار لشيء من ذلك وأخرجه من يده ثم استحق بعضه مشاعا بطل في الكل ورجع الباقي إليه في حياته وإلى وارثه بعد وفاته لأن بالاستحقاق يتبين بطلان تصدقه في القدر المستحق لأنه لم يكن مملوكا له يومئذ ولا أجازه مالكه ولو جاز في القدر المملوك لكان لزومه ابتداء في الجزء الشائع وقد بينا أن ذلك لا يجوز فيما لا يحتمل القسمة وهذا بخلاف ما إذا فعله في مرضه ثم مات ولا مال له سواه فأبطله الوارث فيما زاد عن الثلث بقي الثلث صحيحا لأن حق الوارث إنما يثبت بعد الموت فإبطاله في القدر الذي له إبطاله يقتصر على هذه الحالة فلا يتبين به أن ابتداء الوقف في الجزء الشائع. وأصل هذا الفرق في الهبة والصدقة المنفذة فإن رجوع الوارث في البعض كرجوع الواهب وذلك لا يمنع بقاء الهبة فيما بقي لأنه شيوع طارىء فكذلك في الصدقة الموقوفة وإن استحق بعضه مميزا بعينه كان ما فعله جائزا فيما بقي ماضيا لوجهه لأن بهذا الاستحقاق لم يتبين الشيوع فيما بقي فإن المستحق مميز مما بقي فهو بمنزلة دارين وقفهما فاستحقت إحداهما وكذلك الحكم في الصدقة المنفذة إذا كان المستحق مميزا يقرر الصدقة فيما بقي وكذلك الحكم في الهبة بخلاف ما إذا استحق جزأ

 

ج / 12 ص -34-       شائعاً ولا فرق عند استحقاق الجزء الشائع بين أن يكون المستحق كثيرا أو لم يكن لأن المانع الشيوع وقد تحقق ذلك باستحقاق جزء قل ذلك أو كثر.
قال: وإذا كانت الأرض بين رجلين فتصدقا بها صدقة موقوفة على بعض الوجوه التي وصفناها ودفعاها إلى ولي يقوم بها كان ذلك جائزا" لأن مثله في الصدقة المنفذة جائز إذا تصدق رجلان على واحد والمعنى فيه أن المانع من تمام الصدقة شيوع في المحل ولا شيوع هنا فقد صار الكل صدقة مع كثرة المتصدقين بها والقبض للمتولي في الكل وجد جملة واحدة فهو وما لو تصدق رجل واحد سواء ولو تصدق كل واحد منهما بنصفها شائعا على حدة صدقة موقوفة وجعل لها واليا على حدة لم يجز لأنهما صدقتان متفرقتان لأن كل واحد منهما تصدق بنصيبه بعقد على حدة ألا ترى أنه جعل لنصيبه واليا على حدة ومثله في الصدقة المنفذة لا يجوز حتى لو تصدق أحدهما بنصفها مشاعا على رجل وسلم ثم تصدق الآخر بالنصف عليه وسلم لم يجز شيء من ذلك وهذا لأن قبضه في نصيب كل واحد منهما لاقى جزأ شائعا فكذلك قبض كل واحد من الواليين هنا لاقى جزأ شائعا. قال: ولو تصدق كل واحد منهما بنصفه صدقة موقوفة على المساكين وجعلا الوالي لذلك رجلا واحدا فسلماها إليه جميعا جاز لأن تمام الصدقة بالقبض والقبض مجتمع فقد حصل قبض الكل من واحد في محل عين والدليل على أن المعتبر هو القبض في الهبة والصدقة المنفذة أنه لو باشر ذلك مع رجل في النصف ثم في النصف ثم سلم الكل إليه جاز ولو باشره في الكل ثم سلم إليه النصف لم يجز وكذلك إن جعلاها جميعا إلى رجلين لأن الواليين هنا كوال واحد حيث جعلهما كل واحد منهما واليا في صدقة بخلاف ما تقدم هناك من أن كل واحد من المتصدقين خص واحدا من الواليين فجعله واليا في صدقته فإنما يلاقي قبض كل واحد منهما جزأ شائعا ألا ترى أن في الرهن لو أن رجلين رهنا عينا من رجلين بدين لهما عليهما جاز ولو قال على أن نصيب أحد الراهنين رهن عند أحدهما ونصيب الآخر عند الآخر لم يجز وكذلك في الهبة والصدقة المنفذة ولو وهبا من رجلين أو تصدقا عليهما جاز عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ولو قالا نصيب أحد الواهبين لأحدهما بعينه ونصيب الآخر للآخر لم يجز وكذلك في الصدقة الموقوفة.
قال: ولو تصدقا بها على واحد فوكل المتصدق عليه رجلين بقبضها كل واحد منهما يقبض نصيب أحدهما خاصة فقبضا ذلك معا جاز وإن كان القابض اثنين لأنهما إنما قبضاها لواحد فكل واحد منهما وكيل من جهته وقبض الوكيل كقبض الموكل فكان القبض مجتمعا حكما وإن كان متفرقا صورة.
فإن قيل: ففي الصدقة الموقوفة الوليان كل واحد منهما يقبض للموقوف عليه فينبغي أن يجوز وإن تفرق الوالي لاتحاد جهة الصرف.
قلنا: لا كذلك بل كل واحد من الواليين عامل لمن جعله واليا في صدقته ولهذا لو لحقه عهدة فيما قبض رجع به عليه فإذا اختار كل واحد منهما في صدقته قيما على حدته كان

 

ج / 12 ص -35-       قبض كل واحد منهما في جزء شائع ولو تصدقا به على رجلين صدقة واحدة فوكل المتصدق عليهما رجلين كل واحد منهما يقبض ما تصدق به عليه أحد الرجلين دون الآخر فقبض الوكيلان جميعا أو أحدهما قبل صاحبه جاز ذلك لأن فعل الوكيلين كفعل الموكلين فإن كل واحد منهما نائب وكيله في القبض ولو قبض الموكلان معا أو أحدهما قبل صاحبه جاز ذلك لاتحاد الصدقة في جانب المتصدقين وتمامها عند قبض الآخر منهما فكذلك الوكيلان ألا ترى أنه لو كان المتصدق والمتصدق عليه واحدا فقبض النصف ثم النصف كان هذا وما لو قبض الكل جملة سواء وإن قبضا أحد النصيبين كان لصاحبه أن يرجع فيه ما لم يقبضا نصيب الآخر لأن تمام الصدقة بتمام القبض ولا يتم القبض في مشاع يحتمل القسمة فلم تتم به الصدقة وكان لصاحبه أن يرجع فيه كما قبل التسليم فإن قبضا نصيب الآخر قبل رجوع الأول فيه فقد تمت الصدقة لتمام القبض منهما في الكل ولا رجوع فيه لواحد منهما بعد ذلك ولو تصدق كل واحد منهما بنصفه صدقة موقوفة على حدة ووكلا فيها رجلا واحدا فقبض نصيبهما مجتمعا أو متفرقا كانت الصدقة جائزة لأنه حين قبض الكل فلا شيوع في المحل وإن كان قبض نصيب أحدهما فله أن يرجع فيه ما لم يقبض نصيب الآخر لما بينا أن قبضه في نصيبه لاقى جزأ شائعا فلا تتم به الصدقة.
قال: فإن باعه وهو في يد الوكيل جاز بيعه لأن الصدقة في نصيبه لم تتم حين لم يقبض الوكيل نصيب الآخر وكان وجود القبض في نصيبه كعدمه فلهذا جاز بيعه وإن مات فهو ميراث عنه فإن قبض الوكيل نصيب الآخر بعد موت الأول فقبضه باطل والصدقة مردوده لأن بموت الأول بطلت الصدقة في نصيبه وصار ميراثا لورثته فلو جازت الصدقة في النصف الآخر بالقبض بعد ذلك كان ذلك في جزء شائع وذلك غير جائز ويستوي إن كان قبضه بإذن الثاني أو بغير إذن الثاني بخلاف ما قبل موت الأول لأن حكم الصدقة في نصيب الأول موقوف على أن تتم بتمام القبض وذلك يحصل بقبضه نصيب الثاني فلهذا تمت الصدقة في الكل.
قال: دار بين رجلين تصدق أحدهما بنصيبه منها على رجل وسلمه إليه أو إلى وكيله ثم تصدق الآخر أيضا عليه بنصيبه وسلمه إليه أو إلى وكيله لم يجز شيء من ذلك لأنهما صدقتان متفرقتان فإن تمام الصدقة بالقبض وقبضه في كل واحد من النصيبين لاقى جزأ شائعا وإن لم يقبض نصيب الأول حتى تصدق الآخر بنصيبه عليه أيضا وقد أذن كل واحد منهما له في القبض فقبضهما جملة جاز لما بينا أن المانع افتراق القبض وقد قبض الكل جملة فكأن الصدقة منهما عليه كانت جملة بعقد واحد، وكذلك لو قبض نصيب كل واحد منهما على حدة بيده أو بيد وكيله فهو جائز لأن قبضه تم حين قبض نصيب الآخر منهما وقبض وكيله له كقبضه وهذا بخلاف الأول فإن هناك حين قبض نصيب الأول ما كان حكم الصدقة ثابتا في نصيب الآخر أصلا فتعين جهة البطلان في نصيب الأول فيبطل حكم قبضه في نصيب الثاني بعد ما بطل حكم الصدقة في نصيب الأول وبطل حكم قبضه في نصيب الثاني لملاقاته جزأ شائعاً

 

ج / 12 ص -36-       وهنا حين قبض نصيب الأول كان حكم الصدقة ثابتا في نصيب الآخر فيتوقف حكم تمام الصدقة في نصيب الأول على تمام القبض وقد تم ذلك بقبض الثاني يوضحه أن هناك حين قبض نصيب الأول لم يكن متمكنا من قبض نصيب الثاني فإنما يعتبر حكم قبضه فيما تمكن منه خاصة وهو جزء شائع وهنا حين قبض نصيب الأول كان متمكنا من قبض نصيب الثاني فيجعل ما تفرق من قبضه كالمجتمع لتمكنه من قبض الكل.
قال: وإذا كانت الأرض لرجل أو رجلين فتصدقا بها صدقة موقوفة وسلماها إلى رجل واحد وجعل أحدهما نصيبه موقوفا على ولده وولد ولده أبدا ما تناسلوا فإذا انقرضوا كانت غلتها للمساكين وجعل الآخر نصيبه وقفا على إخوته وأهل بيته فإذا انقرضوا كانت غلته في الحج يحج بها في كل سنة أو كان المتصدق واحدا فجعل نصف الأرض مشاعا على الأمر الأول ونصفها على الأمر الآخر فذلك جائز لأنها صدقة واحدة يقبضها وال واحد فلا يضرهم على أي الوجوه فرقوا غلتها ومعنى هذا أن تمام الصدقة بالقبض وإذا كان الوالي واحدا فهو يقبض الكل جملة فتتم الصدقة بالكل بقبضه ثم بتفرق جهات الصدقة لا تتفرق الصدقة ألا ترى أن المتصدق لوكان واحدا وفرق الغلة سهاما بعضها في الحج وبعضها في الغزو وبعضها في أهل بيته وبعضها في المساكين كان ذلك صدقة جائزة فكذلك إذا كان المتصدق اثنين وعين كل واحد منهما لنصيبه مصرفا وهذا كله قول محمد فأما عند أبي يوسف الصدقة الموقوفة في جميع هذه الوجوه جائزة لأنه يجوزها غير مقبوضة فكذلك غير مقسومة فالحاصل أن أبا يوسف يوسع في أمر الصدقة الموقوفة في قوله الآخر غاية التوسع وفي قوله الأول ضيق فيها غاية التضييق كما هو قول أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه فقال لا تلزم في الحياة أصلا وتوسط قول محمد رحمه الله تعالى في ذلك ولهذا أفتى عامة المشايخ رحمهم الله تعالى فيها بقول محمد رحمه الله تعالى ومما توسع فيه أبو يوسف رحمه الله تعالى أنه لا يشترط التأبيد فيها حتى لو وقفها على جهة يتوهم انقطاعها يصح عنده وإن لم يجعل آخرها للمساكين ومحمد رحمه الله تعالى يشترط التأبيد فيها فقال إذا كانت الجهة بحيث يتوهم انقطاعها لا تصح الصدقة إذا لم يجعل آخرها للمساكين لأن موجب الوقف زوال الملك بدون التمليك وذلك يتأبد كالعتق وإذا كانت الجهة يتوهم انقطاعها فلم يتوفر على العقد موجبه والتوقيت في هذا العقد كالتوقيت في البيع فكان مبطلا وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول المقصود هو التقرب إلى الله تعالى والتقرب تارة يكون في الصرف إلى جهة يتوهم انقطاعها وتارة بالصرف إلى جهة لا يتوهم انقطاعها لا تصح الصدقة لتحصيل مقصود الواقف ومن ذلك أنه لو جعل مصرف الغلة لنفسه ما دام حيا فذلك جائز عند أبي يوسف أيضا اعتبارا للابتداء بالانتهاء لأنه يجوز الوقف على جهة يتوهم انقطاعها وإذا انقطعت عادت الغلة إليه في الانتهاء فكما يجوز ذلك في الانتهاء فكذلك في الابتداء لجواز أن يقدم نفسه على غيره في الغلة وهذا لأن معنى التقرب لا ينعدم بهذا قال عليه الصلاة والسلام:
"نفقة الرجل على نفسه صدقة" وقال عليه الصلاة والسلام: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" فأما عند

 

ج / 12 ص -37-       محمد رحمه الله تعالى إذا جعله وقفا على نفسه أو جعل شيئا من الغلة لنفسه ما دام حيا فالوقف باطل وهو مذهب أهل البصرة رحمهم الله تعالى لأن التقرب بإزالة الملك واشتراط الغلة أو بعضها لنفسه يمنع زوال ملكه فلا يكون ذلك صحيحا وكذلك لو شرط الغلة لامائة فهو كاشتراطه لنفسه ولكن ذكر محمد أنه إذا اشترط الغلة لأمهات أولاده فذلك جائز وهذا على أصل أبي يوسف غير مشكل وعلى قول محمد رحمه الله تعالى هو مستحسن على ما نبينه بعد هذا إن شاء الله تعالى ومن ذلك أنه إذا شرط في الوقف أن يستبدل به أرضا أخرى إذا شاء ذلك فهو جائز عند أبي يوسف رحمه الله تعالى وعند محمد وهو قول أهل البصرة رحمهم الله تعالى الوقف جائز والشرط باطل لأن هذا الشرط لا يؤثر في المنع من زواله والوقف يتم بذلك ولا ينعدم به معنى التأبيد في أصل الوقف فيتم الوقف بشروطه ويبقى الاستبدال شرطا فاسدا فيكون باطلا في نفسه كالمسجد إذا شرط الاستبدال به أو شرط أن يصلي فيه قوم دون قوم فالشرط باطل واتخاذ المسجد صحيح فهذا مثله.
قال: ولو شرط الخيار لنفسه ثلاثة أيام في الوقف فعلى قول أبي يوسف الوقف جائز والشرط جائز كما هو مذهبه في التوسع في الوقف" وقال هلال بن يحيى الوقف باطل وهو قول محمد وقال يوسف بن خالد السمني الوقف جائز والشرط باطل لأنه إزالة ملك لا إلى مالك فيكون بمنزلة الإعتاق واشتراط الخيار في العتق باطل والعتق صحيح وكذلك في المسجد اشتراط الخيار باطل واتخاذ المسجد صحيح فكذلك في الوقف ومحمد يقول إن تمام الوقف يعتمد تمام الرضا ومع اشتراط الخيار لا يتم الرضا فيكون ذلك مبطلا للوقف بمنزلة الإكراه على الوقف ثم تمام الوقف على مذهبه بالقبض وشرط الخيار يمنع تمام القبض ألا ترى أن في الصرف والسلم لا يتم القبض مع شرط الخيار وبه فارق المسجد فالقبض هناك ليس بشرط إنما الشرط إقامة الصلاة فيه بالجماعة وقد وجد ذلك مع شرط الخيار فلهذا كان مسجدا ثم شرطه غير معتبر في اتخاذ المسجد فلا يفسد بفساد الشرط وشرطه في الوقف مراعى وما يتعلق بالجائز من الشرط الفاسد فالفاسد من الشروط يبطله وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول الوقت يتعلق به اللزوم ويحتمل الفسخ ببعض الأسباب واشتراط الخيار للفسخ فيكون بمنزلة البيع في أنه يجوز اشتراط الخيار فيه وهذا في الحقيقة بناء على الأصل الذي ذكرنا له فإنه يجوز أن يستثني الواقف الغلة لنفسه ما دام حيا فكذلك يجوز أن يشترط الخيار لنفسه ثلاثة أيام لتروي النظر فيه.
قال: فإن خرب ما حول المسجد واستغنى الناس عن الصلاة فيه فعلى قول أبي يوسف رحمه الله تعالى لا يعود إلى ملك الثاني ولكنه مسجد كما كان وعند محمد رحمه الله تعالى يعود إلى ملك الثاني وإلى ملك وارثه وإن كان ميتا" لأنه جعل هذا الجزء من ملكه مصروفا إلى قربة بعينها فإذا انقطع ذلك عاد إلى ملكه كالمحصر إذا بعث بالهدي ثم زال الإحصار فأدرك الحج كان له أن يصنع بهديه ما شاء.

 

ج / 12 ص -38-       قال: ولو اشترى حصر المسجد أو حشيشا فوقع الاستغناء عنه كان له أن يضع به ما شاء وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول إذا تم زوال العين عن ملكه وصار خالصا لله تعالى فلا يعود إلى ملكه بحال" كما لو أعتق عبده وهذا لأن القربة التي قصدها لم تنعدم بخراب ما حولها فإن الناس في المساجد شرعا سواء فيصلي في هذا الموضع المسافرون ومارة الطريق وهكذا يقول في الحصير والحشيش أنه لا يعود إلى ملكه ولكن يصرف إلى مسجد آخر بالقرب من ذلك المسجد وهدي الإحصار لم يزل عن ملكه قبل الذبح واستدل أبو يوسف رحمه الله تعالى بالكعبة فإن في زمان الفترة قد كان حول الكعبة عبدة الأصنام ثم لم يخرج موضع الكعبة به من أن يكون موضع الطاعة والقربة خالصا لله تعالى فكذلك سائر هذه المساجد في الحقيقة إنما ينبني هذا على ما بينا فإن أبا يوسف رحمه الله تعالى لا يشترط في الابتداء إقامة الصلاة فيه ليصير مسجدا فكذلك في الانتهاء وإن ترك الناس الصلاة فيه لا يخرج من أن يكون مسجدا ومحمد يشترط في الابتداء إقامة الصلاة فيه بالجماعة ليصير مسجدا فكذلك في الانتهاء إذا ترك الناس الصلاة فيه بالجماعة يخرج من أن يكون مسجدا وحكى أن محمدا رحمه الله تعالى مر بمزبلة فقال هذا مسجد أبي يوسف يريد به أنه لما لم يقل بعوده إلى ملك الثاني يصير مزبلة عند تطاول المدة ومر أبو يوسف باصطبل فقال هذا مسجد محمد يعني أنه لما قال يعود ملكا فربما يجعله المالك اصطبلا بعد أن كان مسجدا فكل واحد منهما استبعد مذهب صاحبه بما أشار إليه. ثم ذكر في الأصل بعض صكوك الوقف وشرح ما هو من رسم الصكوك في ذلك بذكره في كتاب الشروط وإنما نذكر هنا من ذلك ما يتصل بالوقف فمنه أنه ذكر في المصارف وعلى ذوي الحاجة من موالي فلان بن فلان ومولياته ولم يذكر الأسفل أو الأعلى وتأويل هذا إذا كان فلان من هؤلاء العرب لا ولاء عليه فإن كان عليه ولاء فالوقف بهذا اللفظ لا يصح ما لم يبين الأعلى أو الأسفل على قياس الوصية فإنه لو أوصى لموالى فلان ولفلان موال أعتقوه وأعتقهم فإنه لا تصح الوصية ما لم يبين الأسفل أو الأعلى منصوص عليه في الوصايا في الجامع فكذلك الوقف ومن ذلك أنه يشترط فيه أن يرفع الوالي من غلته كل عام ما يحتاج إليه لأداء العشر والخراج وما يحتاج إليه لبذر الأرض ومؤنتها وأرزاق الولاة لها ووكلائها وأجور وكلائها ممن يحصدها ويدرسها وغير ذلك من نوائبها لأن مقصود الواقف استدامة الوقف وأن تكون المنفعة واصلة إلى الجهات المذكورة في كل وقت ولا يحصل ذلك إلا برفع هذه المؤن من رأس الغلة وذلك وإن كان يستحق بغير الشرط عندنا إلا أنه لا يؤمن جهل بعض القضاة فربما يذهب رأي القاضي إلى قسمة جميع الغلة بناء على الظاهر وإذا شرط ذلك يقع إلا من بالشرط والمقصود بالكتاب التوثق فينبغي أن يكتب على أحوط الوجوه فيتحرز فيه من طعن كل طاعن وجهل كل جاهل ومن ذلك قال وإن مات القيم فيه في حياة الواقف فالأمر فيه إلى الموقف يقيم فيه من أحب ولا شك في جواز هذا الشرط على أصل أبي يوسف لأنه يجوز اشتراط الواقف الرأي لنفسه في الاستدلال بالوقف

 

ج / 12 ص -39-       ففي نصب القيم أولى وكذلك عند محمد رحمه الله تعالى لأنه لا يجوز شرط الاستبدال بالوقف لما فيه من شرط إعادة العين الأولى إلى ملكه وذلك لا يوجد هنا وقد بينا أن القيم نائب عن الواقف بمنزلة الوكيل له في نصيبه ليعمل للموقوف عليهم باعتبار أنه جعل منفعتهم كمنفعته فاشتراط رأيه في نصب قيم آخر بعد موت الأول يحقق المقصود بالوقف ولا يغيره.
قال: فإن مات بعده فأوصى إلى غيره فوصيه بمنزلته لأن الواقف نصبه ليكون ناظرا له محصلا لمقصوده وقد يعجز عن ذلك بموته فيكون آذنا له في الاستعانة بغيره بعد موته كما أن للوصي أن يوصي إلى غيره وهذا المعنى يخفي على بعض القضاة كما خفي على بعض العلماء فلم يجوزوا للوصي أن يوصي إلى غيره فيشترط ذلك في الكتاب للتحرز عن هذا.
قال: وإن مات ولم يوص إلى أحد فالرأي فيه إلى القاضي لأنه نصب ناظرا لكل من عجز بنفسه عن النظر والواقف ميت ومصرف الغلة عاجز عن التصرف في الوقف لنفسه فالرأي في نصب القيم إلى القاضي قال: ولا يجعل القيم من الأجانب ما وجد من أهل بيت الموقف وولده من يصلح لذلك" لأنه لو لم يذكر هذا الشرط كان للقاضي أن ينصب أجنبيا إذا رأى المصلحة في ذلك ومقصودا واقف أن يكون ذلك في أهل بيته وولده إما ليكون الوقف منسوبا إليه ظاهرا أو لأن ولده أشفق على وقف أبيه من غيره ويذكر هذا في الكتاب ليتحرز القاضي عن خلاف شرطه.
قال: وإن لم يجد فيهم من يصلح له فجعله إلى أجنبي ثم صار فيهم من يصلح لذلك صرفه إليه لأنه بدون الشرط لا يستحق على القاضي أن يفعل ذلك والانتهاء لا يعتبر بالابتداء في بعض الأحكام ألا ترى أن العدة تمنع ابتداء النكاح ولا تمنع البقاء والإباق في المبيع كذلك فإذا ذكر هذا في كتابه وجب على القاضي مراعاة شرطه لقوله تعالى:
{فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ} [البقرة: من الآية181] وكونه في يد ولده إذا كان يصلح لذلك أنفع وإن خاف أن يبطل بعض القضاة وقفه ونقضه فأحب إلي أن يتحرز من ذلك وفيه طريقان:
أحدهما: أن يكتب في صكه وإن أبطله قاض أو غيره بوجه من الوجوه فهذه الأرض بأصلها وجميع ما فيها وصية من مال فلان تباع فيتصدق بثمنها على من سمينا في كتابنا وهذا لأن القاضي إنما يبطل عند خصومة وارث أو غريم لاتصال المنفعة إليه وذلك ينعدم بما يذكره الموقف فلا يشتغل أحد بإبطاله والوصية تحتمل التعليق بالشرط فإنها في الأصل إثبات الخلافة بعد الموت والتعليق بالشرط يليق به.
والوجه الثاني: أن الموقف بعد إتمام الوقف بالتسليم إلى المتولي يخاصم فيه إلى قاض يرى إجازته ويطلب منه إبطاله حتى يقضي القاضي بإجازته فينفذ قضاؤه لأنه قضي عن اجتهاد في مجلسه وليس لأحد بعد ذلك إبطاله فإما أن يكون إجازته في نسخة على حدة ويشهد

 

ج / 12 ص -40-       الشهود على ذلك ويكتب ذلك في آخر صك الوقف والذي جرى الرسم به الآن أنهم يكتبون إقرار الواقف بذلك والمقصود لا يحصل فإقراره لا يكون حجة في حق الذي يرى إبطاله وربما يكتبون وقد رفع هذا إلى قاض من القضاة وهذا كذب إن لم يكن رفع إلى أحد ولا رخصة في الكذب والمقصود لا يتم به أيضا فربما يذهب اجتهاد قاض إلى أن القضاء والإجارة من المجهول لا تعتبر فإنما يتم المقصود بما ذكرنا.
قال: ولا يجوز أن يوقف على تجهيز الرجل بالكراع والسلاح والنفقات في سبيل الله تعالى وبين ذلك في صك" وهذا لأنه من باب القربة والطاعة فإنه جهاد بالمال والجهاد سنام الدين وهذه جهة لا انقطاع لها ما بقيت الدنيا قال عليه الصلاة والسلام:
"الجهاد ماض منذ بعثني الله تعالى إلى أن يقاتل آخر عصابة من أمتي الدجال" فلهذا يجوز الوقف على هذه الجهة.
قال: وإن كان في الضيعة مماليك وأزواجهم وأولادهم يعملون فيها فوقفها بمن فيها منهم وسماهم جاز ذلك لأن المقصود وهو الغلة بعملهم يحصل والوقف فإن كان يختص بالعقار فيجوز أن يثبت في المنقول تبعا للعقار وعلى هذا آلات الحراثة إذا ذكرها في الوقف يثبت فيها حكم الوقف تبعا وهو كالشرب والطريق يدخل في البيع تبعا وإن كان لا يجوز البيع فيه مقصودا ثم في وقف المنقول مقصودا اختلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى ذكره في السير الكبير.
والجواب: الصحيح فيه أن ما جرى العرف بين الناس بالوقف فيه من المنقولات يجوز باعتبار العرف وذلك كثياب الجنازة وما يحتاج إليه من القدور والأواني في غسل الميت والمصاحف والكراع والسلاح للجهاد فإنه روى أنه اجتمع في خلافة عمر رضي الله عنه ثلاثمائة فرس مكتوب على أفخاذها حبيس في سبيل الله تعالى وهذا الأصل معروف أن ما تعارفه الناس وليس في عينه نص يبطله فهو جائز وبهذا الطريق جوزنا الاستبضاع فيما فيه تعامل لقوله عليه الصلاة والسلام:
"ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن".
قال: وإذا وقفها على أمهات أولاده في حال وقفه ومن يحدث منهن بعد ذلك وسمى لكل واحدة منهن كل سنة شيئا معلوما في حياة فلان وبعد وفاته ما لم يتزوجن فهو جائز وعلى هذا أصل أبي يوسف ظاهر وقد بينا أن عنده لو شرط بعض الغلة لنفسه في حياته جاز فلأمهات أولاده أولى وإنما الإشكال على قول محمد رحمه الله تعالى فإنه لا يجوز أن يشترط ذلك لنفسه واشتراطه لأمهات أولاده في حياته بمنزلة الإشتراط لنفسه ولكنه جوز ذلك استحسانا للعرف ولأنه لا بد من تصحيح هذا الشرط لهن لأنهن يعتقن بموته واشتراطه لهن كاشتراطه لسائر الأجانب فيجوز ذلك في حياته أيضا تبعا لما بعد الوفاة كما قال أبو حنيفة وأصل الوقف إذا قال في حياتي وبعد مماتي مما يتعلق به اللزوم وكذلك إن سمى في ذلك لمدبريه لأنهم يعتقون بموته كأمهات الأولاد بخلاف العبيد والإماء على قول محمد. وأبو يوسف

 

ج / 12 ص -41-       يجوز ذلك كله وإنما يشترط ما لم يتزوجن لأن مقصوده توفير المنفعة عليهن ما دمن في بيته مشغولات بخدمة أولاده وذلك ينعدم بالتزوج أو مقصوده من ذلك التحرز عن ضياعهن لعجزهن عن التكسب ويختص ذلك بما قبل التزوج فمن تزوجت منهن تستحق النفقة على زوجها فلهذا قال ما لم يتزوجن. قال: فإن جعل الرأي في توزيع الغلة على الفقراء أو القرابة في الزيادة والنقصان إلى القيم جاز ذلك لأن رأي القيم قائم مقام رأيه وكان له في ذلك التفضيل عند الوقف رأيا فيجوز أن يشترط ذلك في القيم بعده وهذا لأن المصارف تتفاوت في الحاجة باختلاف الأوقات والأمكنة فمقصوده أن تكون الغلة مصروفة إلى المحتاجين في كل وقت وإنما يتحقق ذلك بالزيادة والنقصان بحسب حاجتهم والصرف إلى البعض دون البعض إذا استغنى البعض عنه فلهذا جوز له أن يجعل الرأي في ذلك إلى القيم وإن كتب لأمهات أولاده وجواريه اللاتي جعلن حرائر بعد موته كتابا أنه تصدق عليهن في حياته وجعل لهن بعد وفاته سكنى منازل وسماهن وبين حدودها ومواضعها تسكن كل امرأة منهن من ذلك بقدر ما يكفيها ما عاشت وأي امرأة منهن تزوجت أو خرجت منتقلة إلى غير هذه المنازل فلا حق لها في السكنى ونصيبها مردود على من بقيت منهن فذلك جائز اعتبارا للسكنى بالغلة فإن الغلة تدل على المنفعة وإذا صح منه هذا الشرط لهن في الغلة فكذلك في المنفعة وهذا لأن مقصوده اتصال حاجتهن إليهن لكيلا يضعن بعده وربما تكون حاجتهن إلى السكنى دون الغلة وقد أعطاهن في حياته من المال ما يكفيهن وإنما وضع هذه المسائل في أمهات الأولاد لأن الحكم في الزوجات الحرائر بخلافة لأن الزوجات يرجعن إلى قراباتهن ولا قرابة لأمهات الأولاد في دار الإسلام فلهذا ذكر المسائل فيهن. قال وإن لم يحتج من بقي منهن كان ذلك ميراثا على فرائض الله تعالى" ولكن هذا الشرط يجوز عند أبي يوسف رحمه الله تعالى في الحياة والموت لما بينا أنه يتوسع في أمر الوقف فلا يشترط التأبيد واشتراط العود إلى الورثة عند زوال حاجة الموقوف عليه لا يفوت موجب العقد عنده فأما عند محمد رحمه الله تعالى التأبيد شرط للزوم الوقف في الحياة فاشتراط العود إلى الورثة يعدم هذا الشرط فيكون مبطلا للوقف إلا أن يجعل ذلك وصية من ثلثه بعد موته فحينئذ يجوز ذلك بمنزلة الوصية لمعلوم بسكنى داره بعد موته مدة معلومة فإن ذلك جائز من ثلثه ويعود إلى الورثة إذا سقط حق الموصي له فكذلك في حق أمهات الأولاد إذا سماهن وإن كتب أنه جعل لهن في حياته وأوصى لهن من بعد وفاته لكل واحد منهن بخدمها ومتاعها وحليها وثيابها وجوهرها وسمي ما جعل لكل واحدة منهن من ذلك وبين قيمته ووزنه وأنه قد جعل لها في حياته وصحته ذلك ودفعه إليها وأوصى لها بعد وفاته فإنه تجوز الوصية من الثلث ولا تجوز في الحياة عندهم جميعا وأما عند محمد رحمه الله تعالى لا يشكل وعند أبي يوسف رحمه الله تعالى لأنه يملكهن الأعيان هنا والمملوكة ليست من أهل التمليك فلا يصح التمليك منهن إلا باعتبار حريتهن وذلك بعد وفاته فعرفنا أنه تمليك مضاف إلى ما بعد الموت

 

ج / 12 ص -42-       فيكون وصية من الثلث وفيما سبق لا يملك بالوقف أحد شيئا ولكن يخرج العين عن ملكه فيجعله موقوفا عليهن لحاجتهن إلى السكنى وذلك يتم منه في الحال فإذا كان صحيحا حين أخرج الوقف من ملكه تم ذلك معتبرا من جميع ماله ومحمد رحمه الله تعالى هكذا يقول فيما لا يعود إليه وإلى ورثته بعد ذلك بحال بأن جعل آخر وقفه على جهة لا تنقطع فإن كان بحيث يعود إليه وإلى ورثته بعد وفاته لا يتم زواله عن ملكه فإنما يبقى تمليكه منهن وذلك لا يجوز في حياته وإنما يجوز بعد وفاته فيكون بمنزلة الوصية بالسكنى تعتبر بالثلث من ماله والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.