المبسوط للسرخسي دار الفكر

ج / 16 ص -53-       كتاب أدب القاضي
قال الشيخ الإمام الأجل الزاهد شمس الأئمة وفخر الإسلام أبو بكر محمد بن أبي سهل السرخسي رحمه الله إملاء أعلم بأن القضاء بالحق من أقوى الفرائض بعد الإيمان بالله تعالى وهو من أشرف العبادات لأجله أثبت الله تعالى لآدم عليه السلام اسم الخلافة فقال جل جلاله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة: 30] وأثبت ذلك لداود عليه السلام فقال عز وجل: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [صّ: 26] وبه أمر كل نبي مرسل حتى خاتم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ} [المائدة: 44] وقال الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] وهذا لأن في القضاء بالحق إظهار العدل وبالعدل قامت السماوات والأرض ورفع الظلم وهو ما يدعو إليه عقل كل عاقل وإنصاف المظلوم من الظالم واتصال الحق إلى المستحق وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ولأجله بعث الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وبه اشتغل الخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم.
وقد دل على جميع ما قلنا الحديث الذي بدأ به محمد رحمه الله الكتاب ورواه عن أبي بكر الهذلي عن أبي المليح عن أسامة الهذلي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة وما كتب عمر إلى أبي موسى رضي الله عنهما عند الناس يسمونه كتاب سياسة القضاء وتدبير الحكم وقوله أما بعد أي بعد الثناء على الله تعالى والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الكلمة علامة بها يعرف تحول الكاتب إلى بيان مقصوده من الكتاب وعد من فصل الخطاب قيل في تأويل قوله تعالى:
{وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [صّ: 20] الحكمة النبوة وفصل الخطاب أما بعد وقال قتادة الحكمة الفقه وفصل الخطاب البينة على المدعى واليمين على من أنكر وقوله فإن القضاء فريضة محكمة أي مقطوع بها ليس فيها احتمال نسخ ولا تخصيص ولا تأويل فتفسير الحكم هذا بيانه في قوله تعالى: {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران: 7] ومنه يقال بناء محكم والفرض هو التقدير والقطع قال الله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1]  وقوله سنة متبعة أي طريقة مسلوكة في الدين يجب اتباعها على كل حال فالسنة في اللغة الطريقة وما يكون متبعا منها فأخذها هدى وتركها ضلالة.
قال: فافهم إذا أدلى إليك الخصمان والإدلاء رفع الخصومة إلى الحاكم والفهم إصابة الحق فمعناه عليك ببذل المجهول في إصابة الحق إذا أدلي إليك وقيل معناه اسمع كلام كل واحد من الخصمين وافهم مراده وبهذا يؤمر كل قاضي لأنه لا يتمكن من تمييز الحق من

 

ج / 16 ص -54-       المطبل إلا بذلك وربما يجرى على لسان أحد الخصمين ما يكون فيه إقرار بالحق لخصمه فإذا فهم القاضي ذلك أنفذه وإذا لم يفهم ضاع وإليه أشار في قوله فإنه لا ينفع تكلم بحق ولا نفاذ له وقيل المراد استمع إلى كلام الشهود وأفهم مرادهم فإنهم يتكلون بالحق بين يديك وإنما يظهر منفعة ذلك لتنفيذ القاضي إياه ثم قال أس بين الناس معناه سو بين الخصمين فالتأسي في اللغة التسوية قال قائلهم:
فلولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أعز النفس عنهم بالتأسي
وفيه دليل أن على القاضي أن يسوي بين الخصوم إذا تقدموا إليه اتفقت مللهم أو اختلفت فاسم الناس يتناول الكل وإنما يسوى بينهم فيما أشار إليه في الحديث فقال في وجهك ومجلسك وعدلك يعني في النظر إلى الخصمين والإقبال عليهما في جلوسهما بين يديه حتى لا يقدم أحدهما على الآخر وفي عدله بينهما وبالعدل أمر وحكي أن أبا يوسف رحمه الله قال في مناجاته عند موته اللهم إن كنت تعلم أني ما تركت العدل بين الخصمين إلا في حادثة واحدة فاغفرها لي قيل وما تلك الحادثة قال ادعى نصراني على أمير المؤمنين دعوى فلم يمكني أن آمر الخليفة بالقيام من مجلسه والمحاباة مع خصمه ولكني رفعت النصراني إلى جانب البساط بقدر ما أمكنني ثم سمعت الخصومة قبل أن أسوي بينهما في المجلس فهذا كان جوري ليعلم أن هذا من أهم ما ينبغي للقاضي أن ينصرف إليه في العناية لما أشار إليه في الحديث فقال
"لا يطمع شريف في حيفك ولا يخاف ضعيف من جورك" والحيف هو الظلم قال الله تعالى {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:50] فإذا قدم الشريف طمع في ظلمه وانكسر بهذا التقديم قلب خصمه الضعيف فيخاف الجور وربما يتمكن للشريف عند هذا التقديم من التلبس ويعجز الضعيف عن إثبات حقه بالحجة والقاضي هو المسبب لذلك بإقباله على أحدهما وتركه التسوية بينهما في المجلس ويصير به متهما بالميل أيضا وهو مأمور بالتحوز عن ذلك بأقصى ما يمكنه.
قال:
"البينة على المدعي واليمين على من أنكر" وهذا اللفظ مروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  وعد من جوامع الكلم على ما قال صلوات الله وسلامه "أوتيت جوامع الكلم واختصر لي اختصارا" وقد أملينا فوائد هذين الحديثين في شرح كتاب الدعوى قال "والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما" وهذا أيضا مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه دليل جواز الصلح وإشارة إلى أن القاضي مأمور بدعاء الخصمين إلى الصلح قد وصف الله تعالى الصلح بأنه خير فقال عز وجل {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وذلك دليل النهاية في الخيرية ويستدل الشافعي رحمه الله بظاهر الاستثناء في إبطال الصلح مع الإنكار قال هو صلح حرم حلالا وأحل حراما لأن المدعي إذا كان مبطلا فأخذ المال كان حرام عليه والصلح يحل له ذلك وإن كان محقا فالصلح يكون على بعض الحق عادة وما زاد على ذلك إلى تمام حقه

 

ج / 16 ص -55-       كان أخذه حلالا قبل الصلح حرم عليه ذلك بالصلح وكان حراما على الخصم منعه قبل الصلح أحل له ذلك بالصلح ولكنا نقول ليس المراد هذا ولكن المراد تحليل محرم العين أو تحريم ما هو حلال العين بأن وقع الصلح على خمر أو خنزير أو في الخصومة بين الزوجات صالح إحدى المرأتين على أن لا يطأ الأخرى أو صالح زوجته على أن يحرم أمته على نفسه فهذا هو الصلح الذي حرم حلالا أو أحل حراما وهذا باطل عندنا.
قال: ولا يمنعك قضاء قضيت بالأمس راجعت فيه نفسك وهديت لرشدك أن تراجع الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل وفيه دليل أنه إذا تبين للقاضي الخطأ في قضائه بأن خالف قضاؤه النص أو الإجماع فعليه أن ينقضه ولا ينبغي أن يمنعه الاستحياء من الناس من ذلك فإن مراقبة الله تعالى في ذلك خير له وإلى ذلك أشار عمر رضي الله عنه حين ابتلى بالحديث في الصلاة الحديث إلى أن قال كدت أن أمضي في صلاتي استحياء منكم ثم قلت لأن أراقب الله تعالى خير من أن أراقبكم فمن ابتلي بشيء من ذلك فليراقب الله تعالى وهذا ليس في القاضي خاصة بل هو في كل من يبين لغيره شيئا من أمور الدين الواعظ والمفتي والقاضي في ذلك سواء إذا تبين له أنه زل فليظهر رجوعه عن ذلك فزلة العالم سبب لفتنة الناس كما قيل إن زل العالم زل بزلته العالم ولكن هذا في حق القاضي أوجب لأن القضاء ملزم وقوله الحق قديم يعنى هو الأصل المطلوب ولأنه لا تنكتم زلة من زل بل يظهر لا محالة فإذا كان هو الذي يظهره على نفسه كان أحسن حالا عند العقلاء من أن تظهر ذلك عليه مع إصراره على الباطل.
ثم قال: الفهم مما يتلجلج في صدرك وقد بينا تفسير هذه اللفظ وفي تكراره مرة بعد مرة بيان أنه ينبغي للقاضي أن يصرف العناية إلى ذلك خصوصا إذا تمكن الاستيفاء في قلبه فإنه عند ذلك مأمور بالتثبت ممنوع عن المجازفة خصوصا فيما لا نص فيه من الحوادث وإليه أشار في قوله ما لم يبلغك في القرآن والحديث وفيه بيان أنه لا ينبغي للمرء أن يتقلد القضاء مختارا إلا إذا كان مجتهدا وأقرب ما قيل في حق المجتهد أن يكون قد حوى علم الكتاب ووجوه معانيه وعلم السنة بطرقها ومتونها ووجوه معانيها وأن يكون مصيبا في القياس عالما بعرف الناس ومع هذا قد ابتلي بحادثة لا يجد لها في الكتاب والسنة ذكرا فالنصوص معدودة والحوادث ممدودة فعند ذلك لا يجد بدا من التأمل وطريق تأمله ما أشار إليه في الحديث فقال اعرف الأمثال والأشتباه وقس الأمور عند ذلك فهو دليل جمهور الفقهاء رحمهم الله على أن القياس حجة فإن الحوادث كلها لا توجد في الكتاب والسنة بخلاف ما يقوله أصحاب الظواهر.
ثم قال: واعمد إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى وهذا هو طريق القياس أن ترد حكم الحادثة إلى أقرب الأشياء معنى ولكن إنما يعتبر السنة في المعنى الذي هو صالح لإثبات ذلك الحكم به ثم قال اجعل للمدعى أمدا ينتهي إليه فإن أحضر بينة أخذ بحقه،

 

ج / 16 ص -56-       وإلا وجهت القضاء عليه فإن ذلك أجلى للعمى وأبلغ في العذر وفيه دليل على أن القاضي عليه أن يهمل كل واحد من الخصمين بقدر ما يتمكن من إقامة الحجة فيه حتى إذا قال المدعي بينتي حاضرة أمهله ليأتي بهم فربما لم يأت بهم في المجلس الأول بناء على أن الخصم لا ينكر حقه لوضوحه فيحتاج إلى مدة ليأتي بهم وبعد ما أقام البينة إذا ادعى الخصم الدفع أمهله القاضي ليأتي بدفعه فإنه مأمور بالتسوية بينهما في عدله وليكن إمهاله على وجه لا يضر بخصمه فإن الاستعجال إضرار بمدعي الدفع وفي تطويل مدة إمهاله إضرار بمن أثبت حقه وخير الأمور أوسطها وقوله فإن أحضر بينته أخذ بحقه وإلا وجهت القضاء عليه إن كان مراده دعوى الدفع فهو أوضح لأنه إذا عجز عن إثبات ما ادعي من الدفع وجه القاضي إليه القضاء ببينة المدعي وما لم يظهر عجزه عن ذلك لا يوجه القضاء عليه لأن الحجة إنما تقوم عليه إذا ظهر عجزه عن الدفع بالطعن والمعارضة وإن كان مراده جانب المدعي فمعنى قوله وجهت القضاء عليه ألزمته الكف عن أذى الناس والخصومة من غير حجة وقوله فإن ذلك أجلى للعمى لإزالة الاشتباه وأبلغ في العذر للقاضي عند من توجه القضاء عليه لأنه إذا وجه القضاء عليه بعد ما أمهله حتى يظهر عجزه عن الدفع انصرف من مجلسه شاكرا له ساكتا وإذا لم يمهله انصرف شاكيا منه يقول مال إلى خصمي ولم يستمع حجتي ولم يمكني من إثبات الدفع عنده.
ثم قال:
"والمسلمون عدول بعضهم على بعض" وقد نقل هذا اللفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  وهو دليل لأبي حنيفة رحمه الله على جواز القضاء بشهادة المستور قبل السؤال عنه إذا لم يطعن الخصم وصفة العدالة ثابتة لكل مسلم باعتبار اعتقاده فإن دينه يمنعه من الإقدام على ما نعتقد الحرمة فيه فيدل على أنه صادق في شهادته فالكذب في الشهادة محرم في اعتقاد كل مسلم قال  صلى الله عليه وسلم في خطبته "عدلت شهادة الزور بالإشراك بالله تعالى" ثم قرأ {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] ثم قال إلا مجلودا حدا قيل المراد من ظهر عليه ارتكاب كبيرة بإقامة حد تلك الكبيرة عليه فالحدود مشروعة في ارتكاب الكبائر وبظهور ذلك عليه تنعدم العدالة الثابتة ما لم تظهر توبته وانزجاره عنه وقيل المراد المحدود في القذف وقد ذكره في بعض الروايات إلا مجلودا حدا في قذف فهو دليل لنا على أن المحدود في القذف لا تقبل شهادته وإن تاب وإن العدالة المعتبرة لأداء الشهادة تنعدم بإقامة حد القذف عليه كما أشار الله تعالى إليه في قوله {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} [النور: 4] ثم قال أو محرما عليه شهادة زور فإنه إذا عرف منه شهادة الزور فقد ظهر منه الجناية في هذه الأمانة ومن ظهرت جنايته في شيء لا يؤتمن على ذلك ولأنه ظهر منه ارتكاب الكبيرة على ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أكبر الكبائر الإشراك بالله تعالى وعقوق الوالدين ألا وقول الزور" فما زال يقول ذلك حتى قلنا ليته سكت.
ثم قال لوظننا في ولاء أو قرابة أي منهما بسبب قرابة أو ولاء وهو الموالات فهو دليل

 

ج / 16 ص -57-       على أن شهادة الوالد لولده لا تكون مقبولة وهو دليل لنا على أن شهادة أحد الزوجين لصاحبه لا تقبل فالزوجية من أقوى أسباب الموالاة وهو مما يجعل كل واحد منهما مائلا إلى صاحبه وقد أشار إلى نفس الولاء والقرابة أنهما لا يقدحان في العدالة ولكن إذا تمكنت التهمة حينئذ يمتنع العمل بالشهادة حتى قيل في معناه إذا ظهر منه الميل إلى مولاه وقرابته في كل حق وباطل حتى يؤثره على غيره وهو تفسير القانع بأهل البيت كما ذكره في الحديث المرفوع.
ثم قال: فإن الله تعالى تولى منكم السرائر يعني أن المحق والمبطل ليس للقاضي طريق إلى معرفته حقيقة فإن ذلك غيب ولا يعلم الغيب إلا الله تعالى ولكن الطريق للقاضي العمل بما يظهر عنده من الحجة وإليه أشار في قوله ودرأ عنكم بالبينات يعنى درأ عنكم اللوم في الدنيا والإثم والعقوبة في الآخرة وهو معنى الحديث المروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
"القضاء جمرة فادفع الجمر عنك بعودين" يعنى شهادة الشاهدين.
ثم قال: إياك والضجر والقلق وهما نوعان من إظهار الغضب فالقلق الحدة والضجر رفع الصوت في الكلام فوق ما يحتاج إليه والقاضي منهى عن ذلك لأنه يكسر قلب الخصم به ويمنعه من إقامة حجته ويشتبه على القاضي بسببه طريق الإصابة وربما لا يفهم كلام أحد الخصمين عند ذلك قال والبادي بالناس يعني إظهار البادين بكثرة الخصوم بين يديه وإظهار الملال منهم والمراد البادي بما يسمع من بعض الخصوم مما لا حاجة به إليه فقد يطول أحد الخصمين كلامه ولكن لا ينبغي للقاضي أن يظهر البادي بذلك ما لم يجاوز الحد فإذا تكلم بما يرجع إلى الاستخفاف بالقاضي أو يذهب به حشمة مجلس القضاء فحينئذ يمنعه عن ذلك ويؤدبه عليه.
ثم قال: والتنكر للخصوم وهو أن يقطب وجهه إذا تقدم إليه خصمان فإن فعل ذلك مع أحدهما فهو جور منه وإن فعله معهما ربما عجز المحق عن إظهار حقه فذهب وترك حقه ألا ترى إلى قوله تعالى
{وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]؟ ثم قال في مواطن الحق التي يوجب الله تعالى بها الأجر ويحث بها على الذخر يعنى في مجالس الحكم فالحلم وترك الضجر والقلق وإظهار البشر مع الناس محمود في كل موضع وفي مجلس القضاء البشر وطلاقه الوجه أولى بعد أن يكون فعله ذلك لوجه الله تعالى كما قال فإنه من يخلص نيته فيما بينه وبين الله تعالى ولو على نفسه يكفه الله ما بينه وبين الناس وإلى نحوه أشار في قوله صلى الله عليه وسلم "من أخلص سريرته أخلص الله علانيته" ثم قال ومن يتزين للناس بما يعلم الله منه خلافه يسبه الله يعنى إذا راءى بعمله والمراءاة مذمومة حرام على كل أحد وهو في حق القاضي آكد لأنه غير محتاج إلى ذلك وإنما يفعل المرء ذلك عند حاجته ولأنه يقلد القضاء ليكون خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يحكم به بين الناس فينبغي أن يكون أشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كان أبعد الناس عن المراآة والنفاق وقوله يسبه الله أي يفضحه الله

 

ج / 16 ص -58-       تعالى على رؤوس الأشهاد قال النبي صلى الله عليه وسلم "من راءى راءى الله به ومن سمع سمع الله به" ثم قال فما ظنك بثواب غير الله في عاجل رزقه وخزائن رحمته معناه أي أن المرائي بعمله يقصد اكتساب محمد أو منال شيء مما في أيدي الناس وما يفوته به إذا ترك الإخلاص من ثواب الله تعالى فالعاقل إذا قابل ما هو موعود له من الله تعالى عند التقوى والإخلاص بما يطمع فيه من جهة الناس ترجح ما عند الله تعالى لا محالة وذلك عاجل الرزق كما قال الله تعالى {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3] والمغفرة والرحمة كما قال الله تعالى {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] أي المتقين المخلصين فالحديث من أوله إلى آخره دليل على أن للقاضي أن يستشعر التقوى فيما يفعل فهو ملاك الأمر قال  صلى الله عليه وسلم "ملاك دينكم الورع" وقال "التقي ملجم".
وعن عامر: قال كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى معاوية رضي الله عنه أما بعد فإنني كتبت كتابا في القضاء ما لم آلك ونفسي فيه خيرا وفيه دليل أن الإمام ينبغي له أن يكتب إلى عماله في كل وقت يوصهم وقد كان معاوية رضي الله عنه عامله بالشام فكتب إليه في القضاء بهذا الكتاب وبين أنه لم يقصر بل بالغ في اكتساب الخير لنفسه وله ثم إن عمر رضي الله عنه قال الزم خمس خصال يسلم لك دينك وتأخذ فيه بأفضل خطك إذا تقدم إليك الخصمان فعليك بالبينة العادلة واليمين القاطعة فهو الطريق للقاضي الذي لا يعلم الغيب فمن تمسك به سلم له دينه ونال أفضل الحظ من المحمدة في الدنيا والثواب في الآخرة فمعنى اليمين القاطعة للخصومة والمنازعة ثم قال وأدن الضعيف حتى يشتد قلبه وينبسط لسانه ولم يرد بهذا الأمر تقديم الضعيف على القوي وإنما أراد الأمر بالمساواة لأن القوي يدنو بنفسه لقوته والضعيف لا يتجاسر على ذلك والقوي يتكلم بحجته وربما يعجز الضعيف عن ذلك فعلى القاضي أن يدني الضعيف ليساويه بخصمه حتى يقوي قلبه وينبسط لسانه فيتكلم بحجته.
ثم قال: وتعاهد الغريب فإنك إن لم تعاهده ترك حقه ورجع إلى أهله فربما ضيع حقه من لم يرفع به رأسه قيل هذا أمر بتقديم الغرباء عند الازدحام في مجلس القضاء فإن الغريب قلبه مع أهله فينبغي للقاضي أن يقدمه في سماع الخصومة ليرجع إلى أهله وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بتعاهد الغرباء وقيل مراده أن الغريب منكسر القلب فإذا لم يخصه القاضي بالتعاهد عجز عن إظهار حجته فيترك حقه ويرجع إلى أهله والقاضي هو المسبب لتضييع حقه حين لم يرفع به رأسه ثم قال وعليك بالصلح بين الناس ما لم يستبن لك فصل القضاء وفيه دليل أن القاضي مندوب إليه أن يدعو الخصم إلى الصلح خصوصا في موضع اشتباه الأمر وبه كان يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول
"ردوا الخصوم كي يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بينهم الضغائن".
وعن شريح رحمه الله أن عمر رضي الله عنه كتب إليه أن لا يشار ولا يضار ولا يبيع

 

ج / 16 ص -59-       ولا يبتاع في مجلس القضاء ولا ترتشي ولا تقضي بين اثنين وأنت غضبان أما قوله لا يشار منهم من يروي بالشين قالوا المراد المشورة أنه لا ينبغي للقاضي في مجلس القضاء أن يشتغل بالمشورة وليكن ذلك في مجلس آخر فإنه إذا اشتغل بالمشورة في مجلس القضاء ربما يشتبه طريق الفصل عليه وربما يظن جاهل أنه لا يعرف حتى يسأل غيره فيزدري به وقد وقع مثل هذا لعمر رضي الله عنه في حادثة بيناها في المناسك والأظهر بالشين لا يشار معناه لا يشار أحد الخصمين لأن ذلك يقصر قلب الخصم الآخر ويلحق به تهمة الميل من حيث إن خصمه يظن أنه فيما يشار بصابعه على رشوة ولذلك لا يشار غير الخصمين في مجلس القضاء لأن مجلس القضاء يجمع الناس ومشارة الاثنين في مثل هذا المجلس تؤدي إلى فتنة الآخرين قال صلى الله عليه وسلم "إذا كان القوم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث فإن ذلك يحزنه" وقوله "لا يضار من الضرر" أي لا يقصد الإضرار بالخصوم في تأخير الخروج ولا ينغص الخصوم في استعجاله ليعجز عن إقامته حجته وفي رفع الصوت عليه أو في أخذه يسقط من كلامه إن زل فلمجالس القضاء من المهابة والحشمة ما يعجز كل أحد عن مراعاة جميع الحدود في الكلام فإذا لم يعرض القاضي عن بعض ما يسمع كان ذلك منه مضارة والقاضي منهي عن ذلك وفيه دليل على أنه لا يشتغل بالبيع والشراء في مجلس القضاء لأن بذلك ينقص حشمة مجلس القضاء ولأنه مجلس إظهار الحق وبيان أحكام الدين فلا ينبغي أن يخلط به شيئا من عمل الدنيا.
وقوله: لا يرتشي المراد الرشوة في الحكم وهو حرام قال صلى الله عليه وسلم
"الراشي والمرتشي في النار" ولما قيل لابن مسعود رضي الله عنه الرشوة في الحكم سحت قال ذلك الكفر إنما السحت أن ترشو من تحتاج إليه أمام حاجتك وفي قوله ولا تقضي بين اثنين وأنت غضبان دليل على أن القاضي ينبغي أن لا يشتغل بالقضاء في حال غضبه ولكنه يصبر حتى يسكن ما به فإنه مأمور بأن يقضي عند اعتدال حاله ولهذا ينهى عن القضاء إذا كان جائعا أو كظيظا من الطعام أو كان يدافع الأخبثين لأنه ينعدم به اعتدال الحال فكذلك بالغضب ينعدم اعتدال الحال وربما يجري على لسانه في غضبه ما لا ينبغي أن يسمع الناس ذلك منه وربما يتغير لونه على وجه لا ينبغي أن يراه الناس على تلك الصفة أو إذا ظهر به الغضب عجز صاحب الحق عن إظهار حقه بالحجة خوفا منه ولهذا قلنا يقوم أو ينحى الناس عن قربه حتى يسكن ما به وهذا إذا كان يعتريه ذلك في بعض الأوقات فإن كان ذلك من عادته وذلك نوع من الحدة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنها تعتري خيار أمتي" فلا يكف عند ذلك عن القضاء لأنه يلتبس به عقله ويشتبه عليه وجه القضاء بخلاف ما يعتريه من الغضب في بعض الأوقات.
وعن عمر رضي الله عنه أنه دعا قاضيا كان بالشام حديث السن فقال له بم تقضي قال أقضي بما في كتاب الله تعالى قال فإذا لم تجد في كتاب الله تعالى قال أقضي بما

 

ج / 16 ص -60-       قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث وفيه دليل على أنه يجوز أن يقلد القضاء من هو حديث السن إذا كان عالما فقد كان عمر رضي الله عنه أكثر الناس نظرا في ذلك ثم قلده مع حداثة سنه وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد رضي الله عنه إلى مكة قاضيا وأميرا وكان حديث السن ويحكى أن المأمون قلد يحيى بن أكثم قضاء البصرة وكان بن ثمان عشرة سنة فطعن بعض الناس في ذلك لحداثة سنة فكتب إليه المأمون كم سن القاضي فكتب في جوابه أنا على سن عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عمر رضي الله عنه بلغه مثل هذا الطعن في مثل هذا القاضي لحداثة سنه فامتحنه بالعلم فقال بم تقضي قال أقضي بما في كتاب الله تعالى وأصاب في ذلك لأن كتاب الله تعالى إمام المتقين أنزل للعمل به قال فإذا لم تجد في كتاب الله قال أقضي بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصاب في ذلك أيضا قلنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة وقد أمرنا باتباعه والاقتداء به قال فإذا لم تجد ذلك فيما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أقضي بما قضي به أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقد أصاب في ذلك أيضا فقد أمرنا بالاقتداء بهما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما" وقال النبي صلى الله عليه وسلم "عليكم بسنتي وسنة خلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ" قال فإذا لم تجد ذلك في قضائهم قال اجتهد رأيي وأصاب في ذلك فالقاضي مأمور بأن يجتهد رأيه فيما لا نص فيه وهو دليلنا على جواز العمل بالقياس فيما لا نص فيه فاجتهاد الرأى هو القياس يرد حكم الحادثة إلى أشباهها مما هو منصوص وإذا جاز اجتهاد الرأي في باب القبلة عند الاشتباه وانقطاع الأدلة وفي المعاملات من الحروب وغير ذلك فكذلك في القضاء فلما أصاب في جميع ما أجاب قال له عمر رضي الله عنه أنت قاضيها أي أني لا أعزلك عن القضاء ما دمت على هذه الطريقة وفيه دليل أن الإمام إذا علم من حال من قلده أنه صالح لذلك ينبغي أن يقرره على العمل ولا يعزله بطعن بعض المتعنتين ما لم يتبين له شيء مما لا يحمد من السيرة منه.
وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال لقد أتى علينا زمان لسنا نسأل ولسنا هنالك ثم قضى الله تعالى إن بلغنا من الأمر ما يرون قيل هذا إشارة منه إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان الوحي ينزل وكان عليه الصلاة والسلام يبين لهم فكانوا لا يحتاجون فيه إلى بن مسعود رضي الله عنه وغيره وقيل بل مراده الإشارة إلى زمن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فقد كانت الصحابة رضوان الله عليهم متوافرين في ذلك الوقت وما كان يحتاج إلى بن مسعود رضي الله عنه وقيل هذا منه إشارة إلى حال صغره وجهله وإنما قصد بهذا التحدث بنعمة الله تعالى حيث رفعه من تلك الدرجة إلى ما بلغه إليه لأنه قال هذا حين كان بالكوفة وله أربعة آلاف تلميذ يتعلمون بين يديه حتى روي أنه لما قدم علي رضي الله عنه الكوفة وخرج إليه بن مسعود رضي الله عنه مع أصحابه حتى سدوا الأفق فلما رآهم علي رضي الله عنه قال ملأت هذه القرية علما وفقها قال فمن ابتلي منكم بقضاء فليقض بما في كتاب الله تعالى

 

ج / 16 ص -61-       وفي هذا إشارة إلى أن التحرز عن تقلد القضاء أولى فقد عده بن مسعود رضي الله عنه من البلوى بقوله فمن ابتلى منكم وهو اختيار أبي حنيفة رحمه الله فإنه تحرز عن تقلد القضاء بعد ما حبس وضرب لأجله مرارا حتى قال بعض أصحابه رحمهم الله لو تقلدت نفعت الناس فنظر إليه شبه المغضب وقال لو أمرت أن أقطع البحر سباحة أكنت أقدر على ذلك وكأني بك قاضيا ومن اختار تقلد القضاء قال هذا اللفظ من البلاء الذي هو نعمة قال الله تعالى {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً}[الأنفال: 17] وإنما أراد من أنعم الله تعالى عليه بهذه الدرجة فليقض بما في كتاب الله تعالى وبذلك كان يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول "إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله تعالى وعترتي" وقيل أهل بيته الأقربون والأبعدون "فإن تمسكتم بهما لم تضلوا".
قال فإن لم يجد ذلك في كتاب الله تعالى فليقض بما قضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذلك كان يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لأبي رواحة رضي الله عنه في حادثة
"أما كان لك في أسوة" فقال أنت تسعى في رقبة قد فكت وأنا أسعى في رقبة لم يعرف فكاكها فقال صلى الله عليه وسلم "إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله" قال فإن لم يجد ذلك فيما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فليقض بما قضى الصالحون يعنى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما جاء في الحديث إذا ذكر الصالحون فحيعلا بعمر قال فإن لم يجد فليجتهد رأيه ولا يقولن إني أرى وإني أخاف وفيه دليل على أن للقاضي أن يجتهد فيما لا نص فيه وإنه لا ينبغي أن لا يدع الاجتهاد في موضعه لخوف الخطأ فإن ترك الاجتهاد في موضعه بمنزلة الاجتهاد في غير موضعه فكما لا ينبغي له أن يشتغل بالاجتهاد مع النص لا ينبغي له أن يدع الاجتهاد فيما لا نص فيه ثم بين طريق الحق في ذلك بقوله "فإن الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك" وهذا اللفظ مروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الحسن رحمه الله وفيه بيان أن المجتهد إذا لم يترك الاحتياط في موضع الريبة فهو مؤدي لما كلف أصاب المطلوب باجتهاده أو أخطأ وهو ما نقل عن أبي حنيفة رحمه الله كل مجتهد مصيب والحق عند الله واحد أي مصيب في طريق الاجتهاد ابتداء وقد يخطى انتهاء فيما هو المطلوب بالاجتهاد ولكنه معذور في ذلك لما أتى بما في وسعه.
وذكر عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثني إلى اليمين
"بم تقضي يا معاذ" قلت بما في كتاب الله تعالى قال عليه الصلاة والسلام "فإن لم تجد ذلك في كتاب الله تعالى" قلت أقضي بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم "فإن لم تجد ذلك فيما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم" قلت أجتهد رأيي فقال صلوات الله عليه وسلامه "الحمد لله الذي وفق رسول رسوله" وفيه دليل على أن الإمام إذا أراد أن يقلد الإنسان القضاء ينبغي له أن يجربه فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فعل ذلك بمعاذ رضي الله عنه مع أنه كان معصوما فغيره بذلك أولى فكان هذا منه على وجه التعليم لأمته ثم حمد الله تعالى حين ظهر من

 

ج / 16 ص -62-       التجربة كما تفرس فيه وهكذا ينبغي للإمام إذا بلغه عن عامل له ما يرضى به أن يعد ذلك نعمة من نعم الله تعالى عليه فليقابلها بالشكر وفيه دليل جواز اجتهاد الرأى والعمل بالقياس فيما لانص فيه من العلماء رحمهم الله من يقول جواز العمل بالقياس والاجتهاد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كان يجوز ذلك في حياته لأن الوحي كان ينزل وهو كان يبين لهم ما كانوا يحتاجون إلى الاستنباط في ذلك الوقت والحكم يثبت بالنص مقطوعا به فلا يصار إليه في غير موضع الضرورة والصحيح عندنا أن كان ذلك جائز لهم في حياته صلى الله عليه وسلم  كما بعده وحديث معاذ رضي الله عنه يدل عليه فإن لم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله بين يديه اجتهد رأيى.
ولما قال لعمرو بن العاص رضي الله عنه: "
أقض بين هذين" قال أقضي وأنت حاضر أو جالس قال صلى الله عليه وسلم "نعم" قال على ماذا أقضي قال صلى الله عليه وسلم "على أنك إن اجتهدت فأصبت فلك أجران وإن أخطأت فلك أجر واحد" فقد جوز له صلى الله عليه وسلم الاجتهاد بحضرته وقد كان يشاورهم ألا ترى أنه شاورهم في أسارى بدر وأشار أبو بكر رضي الله عنه بالفداء وأخذ به رسول الله صلى الله عليه وسلم وشاور السعدين رضي الله عنهما يوم الأحزاب في صلح بني فزارة على بعض ثمار المدينة وأخذ بما أشارا به ولما أشار إليه أسيد بن حضير في النزول عند الماء يوم بدر أخذ برأيه في ذلك وكان صوابا.
وينبني على هذا الفصل الاختلاف بين العلماء رحمهم الله في أنه صلى الله عليه وسلم هل كان يجتهد فيما لم يوح إليه فيه فمنهم من يقول كان ينتظر الوحي وما كان يفصل بالاجتهاد والصحيح عندنا أنه صلى الله عليه وسلم كان يجتهد وما كان يقر على الخطأ بيانه أنه لما شاور أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في حادثة قال صلى الله عليه وسلم
"قولا فإني فيما لم يوح إلى مثلكما" وقال صلى الله عليه وسلم  للخثعمية "أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت تقضيه" فقالت نعم قال صلى الله عليه وسلم "فدين الله أحق" وهذا قول بالاجتهاد وقال عليه السلام لعمر رضي الله عنه في القبلة "أرأيت لو تمضمضت بماء ثم بججته أكان يضرك" وقال في بيان حرمة الصدقة على بنى هاشم "أرأيت لو تمضمضت بماء أكنت شاربه" فهذا ونحوه دليل أنه كان يقضي باجتهاده وما كان يقر على الخطأ فقضاؤه يكون شريعة والخطأ لا يجوز أن يكون أصل الشريعة فعرفنا أنه ما كان يقر على الخطأ وبيان ذلك في قوله تعالى {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] الآية.
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال إذا كان في القاضي خمس خصال فقد كمل وإن كان فيه أربع ولم يكن فيه واحدة ففيه وصمة وإن كان فيه ثلاث ولم يكن فيه اثنين ففيه وصمتان وهذا عبارة عن النقصان والوصم كسر يسير وفوقه القصم ونظيره القنص بالأنامل وفوقه القبض باليد وفوقه الأخذ وهو التناول قال فقال قائل ما هي يا أمير المؤمنين قال علم بما كان قبله وهو إشارة إلى ما بينا في حق المجتهد.
 قال: ونزهة عن الطمع وهو مأخوذ من النزاهة فمن يتحرز عن شيء يقال هو يتنزه عن كذا والأظهر وتزهد عن الطمع من الزهادة فكل الفتنة للقاضي في طمعه فيما في أيدي

 

ج / 16 ص -63-       الناس ولما امتحن علي رضي الله عنه قاضيا قال له بم صلاح هذا الأمر قال بالورع قال فبما فساده قال بالطمع قال حق لك أن تقضي فينبغي للقاضي أن يكون منزها عن الطمع ليأمن الفتنة ويخلص عمله لله تعالى.
قال وحكم عن الخصم يعني أن يحكم في بعض ما يسمع من الخصوم مع قدرته على منعه وهو معنى قول عمر رضي الله عنه لا يصلح لهذا الأمر إلا اللين من غير ضعف القوي من غير عنف.
قال واستخفاف باللائمة معناه لا ينبغي للقاضي فيما يفصل من القضاء أن يخاف اللائمة من الناس فإنه إذا خاب ذلك يتعذر عليه القضاء بالحق وإلى ذلك أشار الله تعالى في قوله
{وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة: 54] وهذا لأنه لا بد أن ينصرف أحد الخصمين من مجلسه شاكيا يلوم القاضي مع أصدقائه على ما كان منه وإليه أشار شريح رحمه الله حيث قيل له كيف أصبحت قال أصبحت وشطر الناس علي غضبان فإذا تفكر القاضي واشتغل بالتحرز عن اللائمة يتعذر عليه فصل القضاء.
قال: ومشاورة أولى الرأى وفيه دليل على أن القاضي وإن كان عالما فينبغي له أن لا يدع مشاورة العلماء وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر الناس مشاورة لأصحابه رضي الله عنهم يستشيرهم حتى في قوت أهله وإدامهم قال صلى الله عليه وسلم
"المشورة تلقح العقول" وقال صلى الله عليه وسلم "ما هلك قوم عن مشورة قط" وكان عمر رضي الله عنه يستشير الصحابة رضوان الله عليهم مع فقهه حتى كان إذا رفعت إليه حادثة قال ادعوا إلي عليا وادعوا إلي زيد بن أبي كعب رضي الله عنهم فكان يستشيرهم ثم يفصل بما اتفقوا عليه فعرفنا أنه لا ينبغي للقاضي أن لا يدع المشاورة وإن كان فقيها ولكن في غير مجلس القضاء على ما بينا أن الاشتغال بالمشورة في مجلس القضاء ربما يحول بينه وبين فصل القضاء ويكون سببا لازدراء بعض الجهال به.
وعن مسروق قال: لأن أقضي يوما بالحق أحب إلي من أن أرابط سنة فإن مسروقا ممن يقدم تقلد القضاء على الامتناع عنه وقد كان السلف رحمهم الله في ذلك مختلفين وابتلى مسروق بالقضاء ومن دخل في شيء فإنما يروي محاسن ذلك الشيء وقد بينا طريق أبي حنيفة رحمه الله في إيثار التحرز عن تقلد القضاء وإنما قال مسروق إن القضاء يوما بالحق أحب إلي من أن أرابط سنة لما في إظهار الحق من المنفعة للناس ودفع الظلم عن المظلوم واتصال الحق إلى المستحق ومنع الظالم عن الظلم وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله
"عدل ساعة خير من عبادة سنة" وقال صلى الله عليه وسلم "لأن يقام حد في أرض خير من أن تمطر السماء فيها أربعين صباحا".
وعن علي رضي الله عنه قال: القضاة ثلاثة فاثنان في النار وواحد في الجنة فأما اللذان في النار فرجل علم علما فقضى بخلافه ورجل جاهل يقضي بغير علم وأما الآخر أتاه الله علما فقضى به فذلك في الجنة ولا شبهة في حق من قضى بخلاف ما علم فإنه أقدم على

 

ج / 16 ص -64-       النار عن بصيرة وكتم ما علم من الحق فكان فعله كفعل رؤساء اليهود وفيه نزل قوله تعالى عز وجل {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} [البقرة: 159] وقال الله تعالى {وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] وأما الجاهل فما كان ينبغي له أن يتقلد القضاء ويلتزم أداء هذه الأمانة لأنه لا يقدر على أدائها إلا بالعلم ففي التزام ما لا يقدر على القيام به ظلم نفسه وبعد التقلد لا ضرورة له إلى القضاء بغير علم لتمكنه من أن يتعلم أو يسأل العلماء ويقضي بفتواتهم فلهذا جعله في النار حين قضى بغير علم والذي قضى بعلمه أظهر الحق بحكمه وأنصف المظلوم من خصمه فهو في الجنة ومثل هذا لا يعرف إلا بالرأي فإنما يحمل على أن عليا رضي الله عنه كان سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنهم فيما يسمعون ربما يرفعون وربما يرسلون.
وعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: يجاء بالقاضي يوم القيامة وملك أخذ بقفاه ثم يلتفت فإذا أقبل أدفعه دفعة في مهواة أربعين خريفا وأهل الحديث يروون هذا الحديث يجاء بالقاضي العدل يوم القيامة ليعلم أن حال من يعدل إذا كان بهذه الصفة فما ظنك في حال من يجور في قوله وملك آخذ بقفاه إشارة إلى ما يلقى من الذل يوم القيامة وإن كان عادلا في قضائه في الدنيا فإنما يفهم من الأخذ بالقفاء في عرف الناس الاستخفاف والذل وقيل في تأويله أنه وإن كان عادلا فقد نال بعض الوجاهة في الدنيا بسبب تقلد القضاء فلهذا له في الآخرة لما نال من الجاه في الدنيا بطريق هو طريق العمل للآخرة ومعنى قوله أدفعه في مهواة أربعين خريفا أي دفعه على وجهه في النار كما قال الله تعالى
{يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48] وكان المراد من هذا أن من نافق وأظهر ما يعلم الله منه خلافه فقد كان قصده من ذلك حفظ ماء وجهه يلقى في النار على وجهه ولا يستقر إلا في قعر جهنم هو المراد من قوله في مهواة أربعين خريفا وهذا بيان في قوله تعالى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] قال وبلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "من ابتلي أن يقضي بين اثنين فكأنما يذبح نفسه بغير سكين" والحصاف رحمه الله يروي هذا من ابتلي بالقضاء فكأنما ذبح بغير سكين وفيه بيان التحريز عن طلب القضاء والتحرز عن التقلد فكل عاقل ممتنع من أن يذبح نفسه بغير سكين فينبغي أن يكون تحرزه عن طلب القضاء بتلك الصفة فذكر المثل من النبي صلى الله عليه وسلم كان للتقريب من الفهم.
قال رحمه: وكان شيخنا الإمام رحمه الله يقول لا ينبغي لأحد أن يزدري بهذا اللفظ كيلا يصيبه ما أصاب ذلك القاضي فقد حكي أن قاضيا روى له هذا الحديث فازدرى به وقال كيف يكون هذا ثم دعا في مجلسه بمن يسوى شعره فجعل الحلاق يحلق بعض الشعر من تحت ذقنه إذ عطس فأصابه الموسى فألقى رأسه بين يديه قال ومن ابتلي أن يقضي بين اثنين فلينصفهما في الكلام والنظر ولا ينبغي له أن يرفع صوته على أحدهما ما لا يرفع على الآخر وقد بينا فائدة هذا اللفظ وما يؤمر به للقاضي من التسوية.

 

ج / 16 ص -65-       وعن عامر أن أبي بن كعب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما اختصما في شيء فحكما زيد بن ثابت رضي الله عنه فأتياه في منزله قال زيد رضي الله عنه هلا أرسلت إلي يا أمير المؤمنين قال عمر رضي الله عنه في بيته يؤتي الحكم وفي هذا بيان أنه كان يقع بينهم منازعة وخصومة ولا يظن كل واحد منهم سوى الجميل وإنما كان يقع ذلك عند اشتباه حكم الحادثة عليهم ويتقدمون إلى القاضي لطلب البيان لا للقصد إلى التلبيس والإنكار ولهذا كان القاضي يدعى مفتيا وفيه دليل جواز التحكيم فقد حكما زيد بن ثابت رضي الله عنه وإنما حكماه لفقهه فقد كان مقداما معروفا فيهم بذلك حتى روي أن بن عباس رضي الله عنهما كان يختلف إليه وأخذ بركابه لما أراد أن يركب وقال هكذا أمرنا أن نصنع بفقهائنا فقبل زيد رضي الله عنه يده وقال هكذا أمرنا أن نصنع بأشرافنا وفيه دليل على أن الإمام لا يكون قاضيا في حق نفسه فعمر رضي الله عنه في خصومة حكم زيد بن ثابت رضي الله عنه وفيه دليل على أن من احتاج إلى العلم ينبغي له أن يأتي العالم في منزله وإن كان وجيها في الناس ولا يدعوه إلى نفسه فإن وجاهته بسبب الدين فيبقى ذلك له إذا عظم الدين والذهاب إلى منزل العالم عند الحاجة إلى علمه من تعظيم الدين ولما استعظم ذلك زيد رضي الله عنه قال هلا أرسلت إلي يا أمير المؤمنين قال في بيته يؤتى الحكم وتأويل استعظام زيد رضي الله عنه أنه خاف فتنة على نفسه بسبب الوجاهة حين أتاه عمر رضي الله عنه في منزله وظن أنه أتاه زائرا وما أتاه محكما له راغبا في علمه فلهذا استعظم ذلك ألا ترى أن عمر رضي الله عنه بين له أنه أتاه للتحكيم فقال في بيته يؤتى الحكم فأتى زيد لعمر رضي الله عنهما بوسادة وكان هذا منه امتثالا لما ندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله "إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه" وقد بسط رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم رداءه حتى أتاه ولكن عمر رضي الله عنه لم يستحسن ذلك منه في هذا الوقت فقال هذا أول جورك وفيه دليل وجوب التسوية بين الخصمين في كل ما يتمكن القاضي منه وما كان ذلك يخفي على زيد رضي الله عنه ولكن وقع عنده أن الحكم في هذا ليس كالقاضي وأن الخليفة في هذا ليس كغيره فبين له عمر رضي الله عنه إن الحكم في حق الخصمين كالقاضي.
قال: وكانت اليمين على عمر رضي الله عنه فقال لأبي بن كعب رضي الله عنه لو أعفيت أمير المؤمنين من اليمين فقال عمر رضي الله عنه لا ولكن احلف فترك له أبي رضي الله عنه ذلك وأهل الحديث يروون أن عمر رضي الله عنه قال لزيد رضي الله عنه وهذا أيضا يبين أن على الحكم أن يتحرز عن الميل إلى أحد الخصمين صريحا ودلالة وأن مجلس الشفاعة غير مجلس الحكومة ثم فيه دليل على أنه لا بأس للمرء أن يحلف إذا كان صادقا فقد رغب عمر رضي الله عنه في ذلك مع صلابته في الدين وإن تحرز عن ذلك فهو واسع له أيضا كما روي أن عثمان رضي الله عنه امتنع عن ذلك وقال أخشى أن يوافق قدر يمينى فيقال أصبت بذلك ففيه دليل أن اليمين حق المدعي قبل المدعى عليه يستوفي بطلبه

 

ج / 16 ص -66-       ويترك إذا ترك ألا ترى أن أبيا رضي الله عنه ترك له ذلك وبيان هذا فيما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم للمدعي "ألك بينة" فقال لا فقال صلى الله عليه وسلم "ألك يمين".
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لا أحسد إلا في اثنين رجل أتاه الله مالا فهو ينفقه في طاعة الله ورجل أتاه الله علما فهو يعلمه ويقضي به ومعناه الحسد يضر إلا في الاثنين فيكون في ذلك بيان أن الحسد مذموم يضر الحاسد إلا فيما استثناه فهو محمود في ذلك وهذا ليس بحسد في الحقيقة بل هو غبطة والغبطة محمودة فمعنى الحسد هو أن يتمنى الحاسد أن تذهب نعمة المحسود عنه ويتكلف لذلك ومعنى الغبطة أن يتمنى لنفسه مثل ذلك من غير أن يتكلف ويتمنى ذهاب ذلك عنه وهذا في أمر الدنيا غير مذموم ففي أمر الدين أولى أن يكون محمودا والذي ينفق ماله في طاعة الله تعالى يكتسب الآخرة بدنياه والذي يعلم ويقضي به بالحق يكتسب المحمدة في الدنيا والثواب في الآخرة فمن يتمنى لنفسه مثل ذلك يكون محمودا على هذا المعنى فأما الحسد المذموم فهو ما قيل الحاسد جاحد لقضاء الواحد فهو أن يتكلف لذهاب ذلك عنه ويعتقد أن تلك نعمة في غير موضعها وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله
"لا ينجو أحدكم من الحسد والظن والطيرة" قيل وما المخلص من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم "إذا حسدت فلا تبغ" أي لا تتكلف لإزالة النعمة عن المنعم عليه "وإذا ظننت فلا تحقق وإذا نظرت فلا ترجع".
وعن سوار بن سعيد قال: شهدت أنا ورجل عند شريح رحمه الله بشهادة ففيه صاحبي عن حجته أي عجز عن إظهار حجة وغفل عن ذلك فقلت له أتفسد شهادتي إن أعربت عنه فقال لا فأعربت عنه فقضي له وإنما قال هذا لأن من يكون خصما في حادثة لا تقبل شهادته في تلك الحادثة فخاف إن أظهر حجته صاحبه أن يجعله خصما ويفسد شهادته فبين له شريح رحمه الله أنه لا يصير خصما بهذا القدر إذا لم يوكله صاحبه به بل هو متبرع فيما يظهر من حجة صاحبه وليس فيه أكثر من أن يعين المدعي وما حضر مجلس القاضي إلا لتعيين المدعي وتوصله إلى حقه فلا يفسد به شهادته.
وعن سوار قال: اختصم قوم عند شريح رحمه الله فذكرت له ذلك فقال ما رآه فهم وسأذكر ذلك له الليلة فذكر ذلك له فقال ما فهمت فمرهم أن يرجعوا لي فرجعوا إليه فقضي لهم وفيه دليل على أنه ينبغي لمن وقف على خطأ القاضي في قضائه أن ينبهه ولا يجاهره بذلك مراعاة لحشمته ولكنه يأمر أقرب الناس منه ليخبره بذلك في حال خلوته وفيه دليل أن القاضي إذا تبين له خطأ في قضائه ينبغي له أن يظهر رجوعه عن ذلك ولا يمنعه الاستيحاء عن الناس من ذلك ولا الخوف فالله تعالى يحفظه من الناس والناس لا يحفظونه من عذاب الله تعالى.
وعن مكحول قال: لأن أكون قاضيا أحب إلي من أن أكون خازنا يعنى أن خازن بيت المال عامل للمسلمين والقاضي كذلك إلا أن الخازن يحفظ على المسلمين مالهم والقاضي

 

ج / 16 ص -67-       يحفظ عليهم دينهم وتمكن الخازن من المال خوف الفتنة على نفسه بسببه أكثر من تمكن القاضي فلهذا آثر القضاء وقد بينا أن المتقدمين فيه من كان يؤثر تقلد القضاء على الامتناع منه.
وعن شريح رحمه الله قال: ما شددت على لهواة خصم أي ما منعته من إظهار حجته وما قويت أحد الخصمين على الآخر بتلقين شيء قط ولهذا بقي في القضاء مدة طويلة وعن علي رضي الله عنه أنه أضاف رجلا فلما مكث أياما قرب إليه في خصومة فقال له علي رضي الله عنه أخصم أنت فقال نعم فقال علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نضيف الخصم إلا أن يكون خصمه معه وفيه دليل أنه لا بأس للإمام أن يخص بعض الناس بالضيافة إذا لم يكن له خصومة وإنه لا ينبغي له أن يضيف أحد الخصمين دون الآخر لأن ذلك يكسر قلب الخصم الآخر ويلحق به تهمة الميل ولا بأس بأن يضيفهما جميعا لأن تهمة الميل تنتفى عنه إذا سوى بينهما.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص رضي الله عنه
"اقض بين هذين" قال أأقضى وأنت حاضر أو جالس قال صلوات الله عليه وسلامه "نعم" قال علي ماذا أقضى قال سلام الله عليه "على أنك إن اجتهدت فأصبت فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة" وفيه دليل لأهل السنة رحمهم الله المجتهد يصيب ويخطئ وعليه دل قوله تعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] والفهم هو إصابة الحق فقد خصه بذلك ففيه دليل على أنه معذور وإن أخطأ وهذا إذا لم يكن طريق الإصابة بينا وهو مثاب على اجتهاده فإن أصاب المطلوب بالاجتهاد فله ثواب الاجتهاد وثواب إظهار الحق بجهده وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم "فلك عشر حسنات" وإن أخطأ فله حسنة على اجتهاده إذا كان مصيبا في طريق الاجتهاد وإن لم يصب المطلوب بالاجتهاد.
وعن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"إن الله تعالى مع القاضي ما لم يخف عملا يشدده للحق ما لم يرد غيره" وهذا في كل عامل يبتغى بعمله وجه الله تعالى فالله تعالى يعينه على ذلك ويوفقه قال الله تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة رضي الله عنه "لا تسأل الإمارة فإنك إن تعطيها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أمنت عليها" ثم هذا الوعد للقاضي ما لم يظلم عمدا فالحيف هو الظلم فإذا اشتغل به وكله الله إلى نفسه وكذلك إذا أراد بعمله غير الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم فيما يأثر عن الله عز وجل "أنا أغنى الشركاء عن الشرك فمن عمل لي عملا وأشرك فيه غيري فهو كل لذلك الشريك وأنا منه بريء".
قال: وينبغي للقاضي أن ينصف الخصمين في مجلسهما وفي النظر إليهما وفي المنطق أي يسوى بينهما فالإنصاف عبارة عن التسوية مأخوذ من المناصفة ففي كل ما يتمكن من مراعاة التسوية فيه فعليه أن يسوي بينهما في ذلك إلا ما لا يكون في وسعه الامتناع منه من

 

ج / 16 ص -68-       النهى فعليه أن يظهر حجة أحدهما فهو غير مأخذ بذلك لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستوي في القسم بين نسائه ثم يقول "اللهم هذا في ما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك" يعنى من الميل بالقلب إلى عائشة رضي الله عنها ولا ينبغي أن يرفع صوته على أحدهما ما لا يرفعه على الآخر لأن التسوية بينهما في ذلك ممكنة وتخصيص أحدهما برفع الصوت عليه تجر تهمة إليه وهو مكسر القلب من يرفع صوته عليه ولا ينطلق بوجهه إلى أحدهما في شيء من المنطق ما لا يفعله بالآخر لأنه يزداد به قوة وجراءة على الخصم ويطمع أن يميل بالرشوة إليه ولا ينبغي له أن يشد على عضد أحدهما ولا يلقنه حجته فإن ذلك نوع من الخصومة وبين كونه قاضيا وخصما منافاة وهو مكسر لقلب الخصم وسبب لجر تهمة الميل إليه وهو إنشاء الخصومة وإنما جلس لفصل الخصومة لا لإنشائها.
وينبغي له أن لا يشتري شيئا ولا يبتع في مجلس القضاء لنفسه لأنه جلس للقضاء فلا يخلط به ما ليس من القضاء ومعاملته لنفسه في شيء ولأن الإنسان فيما يبيع ويشتري يماكس عادة وذلك يذهب حشمة مجلس القضاء ويضع من جاهه بين الناس وفي قوله لنفسه إشارة إلى أنه لا بأس بأن يفعل ذلك في مجلس القضاء ليتيم أو ميت مديون فإن ذلك من عمل القضاة وإنما جلس لأجله ومباشرة ذلك في مجلس القضاء يكون أبعد عن التهمة منه إذا باشره في غير مجلس القضاء ولا بأس بأن يبيع ويشتري لنفسه في غير مجلس القضاء عندنا ومن العلماء رحمهم الله من كره ذلك للقاضي ويروون في ذلك حديثا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
"لا يبيع القاضي ولا يبتاع" ولأن العادة أن الناس يسامحون في المعاملة مع القضاء بين أيديهم خوفا منهم أو طمعا فيهم فيكون من هذا الوجه في معنى من يأكل بدينه والمقصود يحصل إذا فوض ذلك إلى غيره ليباشر على وجه لا يعلم أنه يباشر ولكنا نقول نستدل بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى سراويل بدرهمين الحديث فقد باشر رسول الله صلى الله عليه وسلم الشراء لنفسه وكان رؤساء القضاء والخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم كانوا يباشرون ذلك بأنفسهم حتى أن أبا بكر رضي الله عنه بعد ما استخلف حمل متاعا من متاع أهله إلى السوق ليبيعه ولأنه بعد تقلد القضاء يحتاج لنفسه وعياله إلى ما كان محتاجا إليه قبل التقلد وبأن تقلد هذه الأمانة لا يمتنع عليه معنى النظر لنفسه والقيام بمصالح عياله وتهمة المساحة موهومة أو هو نادر فلا يمتنع عليه التصرف لأجله ولأن ذلك إذا لم تكن مباشرة هذا التصرف من عادة القاضي في كل وقت فأما إذا كان ذلك من عادته فقلما يسامح في ذلك فوق ما يسامح به غيره وتأويل النهي إن صح في مجلس القضاء.
ولا يسار أحد الخصمين بشيء لأن ذلك يجر إليه تهمة الميل وينكسر بسببه قلب الآخر وبه ينتقص حشمة مجلس القضاء فلا ينبغي أن يشتغل به وإذا تقدم إليه الخصمان فهو بالخيار إن شاء ابتدأهما فقال مالكما وإن شاء تركهما حتى يبتدآه بالمنطق وبعض القضاة يختار السكوت ليكون الخصم هو الذي يبتدئ بالكلام لأن القاضي إذا ابتدأهما كان

 

ج / 16 ص -69-       ذلك منه تهيجا للخصومة وإنما جلس لفصل الخصومة لا لتهيجها ولكنا نقول الرأى في ذلك إليه فحشمة مجلس القضاء قد تمنعهما من الكلام ما لم يبتدئ القاضي بالكلام فإذا كان بهذه الصفة كان له أن يبتدئ فيقول مالكما وما تقدم إليه إلا بعد المنازعة والخصومة بينهما فلا يكون هذا اللفظ منه تهيجا للخصومة ولكن لا يكلمهم بشيء آخر سوى ما تقدم لأجله فإن ذلك يذهب حشمة مجلس القضاء ولهذا لا يسلمان عليه إذا تقدم بين يديه مع أن السلام سنة فإن تكلم صاحب الدعوى أسكت الآخر واستمع من صاحب الدعوى حتى يفهم حجته لأنه إذا تكلما معا لا يتمكن من أن يفهم كلام كل واحد منهما قال الله تعالى {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب: 4] ولأن تكلمهما معا نوع شغب وبه ينتقص حشمة مجلس القضاء قال ثم يأمره بالسكوت بعد ذلك ويستنطق الآخر وظاهر هذا اللفظ يدل على أنه يستنطق الآخر وإن لم يسأل المدعي ذلك.
واختيار بعض القضاء أنه لا يفعل ذلك إلا عند سؤال المدعي ولكنه إذا نظر في دعواه فإن لم تكن صحيحة يقول له قم فصحح دعواك لأن بالدعوى الفاسدة لا يستحق الجواب وإن صحت الدعوى قال أخبرتني فماذا أصنع فإن قال أريد جوابه فسأله عن ذلك حينئذ يستنطق الآخر والأصح عندنا أنه يستنطق الآخر وإن لم يلتمس المدعي ذلك لأنه ما تقدم بين يديه وما أحضر خصمه إلا ملتمسا لذلك فلا يحتاج بعد ذلك إلى التماس الآخر فإن سأله فأقر بحقه أمره بالخروج من حقه وإن أنكر قال للمدعي سمعت إنكاره أو هو منكر فما نقول فإذا قال حلفه يطلب المدعي بعد أن سأله بينة ولا يسأله ذلك ما لم يطلب يمينه لأنه نوع تلقين.
ولا ينبغي للقاضي أن يلقن أحد الخصمين حجته ولكن إذا طلب يمينه فحينئذ جاء أوان الاستحلاف إذا لم يكن للمدعي بينة حاضرة فسأله عند ذلك ألك بينة ولا ينبغي للقاضي أن يقضي إلا وهو مقبل على الحجج مفرغ نفسه لذلك لأن القضاء أمر مهم فلا يتمكن من النظر فيه ومباشرته لما التزم ما لم يفرغ نفسه لذلك عن سائر الأشغال فإذا دخله هم أو غضب أو نعاس كف عن ذلك حتى يذهب ذلك لأن اعتدال حاله زال بما دخله فالهم يغلب على القلب حتى لا يجد شيئا آخر معه فيه مساغا والغضب كذلك والنعاس كذلك فالناعس لا يفهم بعض ما يذكر عنده ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
"إذا نعس أحدكم في صلاته فليرقد فلا يدري لعله يريد أن يدعو فيسب نفسه".
ثم يقبل على القضاء وهو متفرغ له مستمع غير معجل للخصوم عن حجتهم لأن الاستعجال يضر بالخصم كما أن ترك النظر فيما يقيم من الحجة يضربه فكل واحد منهما من نوع الشر والأضرار وقد روينا أن القاضي لا يشار ولا يضار قال ولا يخوفهم فإن الخوف مما يقطع حجة الرجل يعنى أن الخائف يعجز عن إظهار حجته وينبغي أن يكون القاضي مهيبا يحتشم منه ولكن لا ينبغي أن يكون مخيفا للناس يخافونه فإن ذلك يمنعهم من

 

ج / 16 ص -70-       إظهار الحق بالحجة والأصل في ذلك ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الفجر بمسجد الخيف فرأى رجلين لم يصليا معه فقال "علي بهما" فأتى بهما وفرائصهما ترتعد فقال صلى الله عليه وسلم "لا تخافا فإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد" الحديث.
فإن قيل: أليس أنه ذكر في سيرة عمر رضي الله عنه أن الناس كانوا يهابونه حتى قيل لابن عباس رضي الله عنهما لم لم يذكر قولك في القول لعمر فقال كان رجلا مهيبا فهبته أو قال خفت درته قلنا هذا لا يكاد يصح فإن عمر رضي الله عنه كان ألين من غيره في قبول الحق وكان يشاورهم وربما كان يقدم قول بن عباس رضي الله عنهما في الأخذ عند الشورى على قول بعض الكبار من الصحابة رضوان الله عليهم.
ثم كون القاضي مهيبا غير مذموم عندنا وإنما المذموم أن يتكلف لتخويف الخصوم إذا تقدموا بين يديه ولم ينقل ذلك عن عمر رضي الله عنه ولا عن غيره وإن كان خيرا للقاضي أن يقعد عنده أهل الفقه فقعدوا عنده فربما يحتاج إلى أن يستشيرهم وقد روينا أن عمر رضي الله عنه كان يفعل ذلك وربما يخفى عليه بعض ما يقف عليه غيره من أهل الفقه فينبهه عليه وربما يحتاج إلى أن يشهدهم فيكون أهل الفقه والصلاح عنده من نوع الاحتياط فإن دخله حصر في قعودهم عنده أو شغله ذلك عن شيء من أمور المسلمين جلس وحده لأن طباع الناس في هذا تختلف فمنهم من يمنعه حشمة الفقهاء مما يريده من فصل القضاء ومنهم من يزداد قوة على ذلك والمقصود هو النظر للمسلمين فإذا كان هو ممن يدخله حصر بحضرة الفقهاء جلس وحده ولكن إنما يتمكن من ذلك إذا كان معروفا بالفقه والعدالة فبالفقه يؤمن غلطه وبالعدالة يؤمن جوره ولا ينبغي للقاضي أن يتعب نفسه في طول الجلوس لأن بذلك يزول اعتدال الحال وقد بينا أنه لا ينظر في الحجج إلا عند اعتدال الحال قال فإني أتخوف عليه أن يضر ذلك بنظره في الحجج والخصوم يعنى إذا أتعب نفسه ربما لا يفهم بعض كلام الخصوم وربما يضجر بسببه على بعض الخصوم وهذا أيضا في المدرس كذلك وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله
"إن النفس تمل كما تمل الأبدان فابتغوا لها ظرائف الحكمة" وأن ابن عباس رضي الله عنهما كان إذا مل من بيان أنواع العلم قال لأصحابه اخصموا أي خوضوا في ديوان العرب فتذكروا شيئا من الملح قال ولكنه يعقد في طرفي النهار أو ما أطاق من ذلك لأن عمل القضاء عبادة فالأولى أن يجلس له في طرفي النهار قال الله تعالى {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ} [هود: 114] ولأن اعتدال حال المرء يكون في طرفي النهار عادة أو ما أطاق من ذلك لأن الطاعة بحسب الطاقة ولكن لا ينبغي أن يتبكر للخصومة قبل طلوع الشمس فقد كان شريح رحمه الله إذا ابتكروا قبل حضوره قال: أتتظلمون بالليل فعرفنا أن ذلك غير محمود للقاضي. قال وينبغي للقاضي أن يقدم النساء على حدة والرجال على حدة لأن الناس يزدحمون في مجلسه وفي اختلاط النساء مع الرجال عند الزحمة من الفتنة والقبح ما لا يخفى ولكن

 

ج / 16 ص -71-       هذا في خصومة يكون بين النساء فأما الخصومة التي تكون بين الرجال والنساء لا يجد بدا من أن يقدمهن مع الرجال وأن يجعل لكل فريق يوما على قدر ما يرى من كثرة الخصوم فلا بأس بذلك لأنه إذا تركهم يزدحمون على بابه وربما يقتتلون على ذلك وفيه من الفتنة ما لا يخفى فيجعل ذلك مناوبة بينهم بالأيام ليعرف كل واحد يوم نوبته فيحضر عند ذلك والحصاف رحمه الله ذكر في أدب القاضي أن الأولى أن يجعل ذلك على الرقاع فيجزئ الخصوم أجزاء ويكتب باسم كل فريق رقعة ثم يخرج الرقاق على الأيام للسبت والأحد إلى آخره وذلك حسن ولكن محمدا رحمه الله اختار في الكتاب أن يقدم الناس على منازلهم الأول فالأول ولا يبتدئ بأحد جاء قبله غيره وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم في قوله "سبقك بها عكاشة" وهذا لأن الذي جاء أولا استحق النظر في حجته أن لو كان القاضي جالسا عند ذلك فتأخر جلوس القاضي لا يغير استحقاقه ولا يبطل بحضور غيره فلهذا تقدمه عملا بقوله تعالى {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود: 3] قال ويضع على ذلك أمينا من قبله يقدمهم إليه لأنه لا يتمكن من يعرف ذلك بنفسه لكثرة أشغاله وفيما يعجل القاضي عن مباشرته يستعين بأمين من أمنائه وينبغي أن يبتكر ذلك الأمين إلى باب مجلس القاضي ليعلم منازل الناس في الحضور فلعلهم يكذبون في ذلك أو أن يلبسون عليه وإنما يجعل على ذلك أمينا لا يطمع ولا يرتشي فإن ذلك من عمل القضاة فكما لا يطمع هو فيما يقضي فكذلك ينبغي أن يكون أمينه.
قال رحمه الله: وكان شيخنا الإمام رحمه الله يقول قد جرى الرسم في زماننا أن البواب على باب مجلس القضاء يأخذ من كل خصم قطعة ليمكنه من الدخول والقاضي يعلم ذلك ولا يمنعه منه وفيه فساد عظيم فليس لأحد أن يمنع أحدا من دخول المسجد ولا من أن يتقدم إلى القاضي في حاجته فهو يرتشي ليكف ظلمه عنه ويمكنه مما هو مستحق له والقاضي يعلم ذلك ولا يمنع منه فهو بمنزلة ما لو علم أن أمينه يشرب الخمر أو يزني على بابه فلا يمنعه عن ذلك وإن رأى أن يجعل الغرباء مع أهله المصر فعل وإن رأى أن يبدأ بهم فلا يضره ذلك بعد أن تكون الغرباء غير كثير فإن كثروا في كل يوم فشغلوه عن أهل المصر قدمهم على منازلهم مع الناس وقد بينا أن الغريب على جناح السفر فربما يضر التأخير به وقلبه مع أهله فإذا لم يقدمه القاضي ربما ترك حقه ورجع إلى أهله وقد أمر بتعاهد الغريب تعظيما لحق غربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلهذا كان له أن يقدم الغرباء ولكن بشرط أن لا يضر بأهل المصر ضررا فإنهم جيرانه وإنما يقلد القضاء لينظر في حوائجه فإذا كان تقديم الغرباء يضر بأهل المصر قدمهم على منازلهم عملا بقوله صلى الله عليه وسلم
"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام".
ولا بأس بأن يشهد القاضي الجنازة ويعود المريض فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  والخلفاء الراشدون رضوان الله عليهم بعده يفعلون ذلك ولأن هذا من حق المسلم على المسلم قال صلى الله عليه وسلم "للمسلم على المسلم ستة حقوق" وذكر في الجملة أن يشيع جنازته ويعوده إذا

 

ج / 16 ص -72-       مرض ولا يمتنع عليه القيام بحقوق الناس عليه بسبب تقلده القضاء ولا بأس بأن يجيب الدعوة الجامعة فذلك من السنة قال صلى الله عليه وسلم "من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم" قال ولا تجب الدعوة الخاصة الخمسة والعشرة في مكان لأن ذلك يجر إليه تهمة الميل بأن يقول أحد الخصمين أن فلانا في دعوة فلان كلم القاضي وهو نائب عن خصمي وصانعه على رشوة ولأن إجابة الدعوة الخاصة مما يطمع الناس به في القاضي فعليه أن يحترز عن ذلك وأصح ما قيل في الفرق بين الدعوة الجامعة والخاصة أن كل ما يمتنع صاحب الدعوة من إيجاده إذا علم أن القاضي لا يجيبه فهو الدعوة الخاصة وإن كان لا يمتنع من إيجاده لذلك فهو الدعوة العامة لأنه عند ذلك يعلم أن القاضي لم يكن مقصودا بتلك الدعوة وإنما يمتنع من إجابة الدعوة الخاصة إذا لم يكن صاحب الدعوة ممن اعتاد إيجاد الدعوة له قبل أن يتقلد القضاء فإن كان ذلك من عادته قبل هذا فلا بأس بأن يجيب دعوته وإليه أشار في قوله ولا بأس بأن يجيب دعوة ذي القرابة لأن هذا بين القرابات ليس من جوالب القضاء عادة ولا صدق في ذلك كالأقارب إذا كان ذلك معروفا بينهم قبل تقلد القضاء ولا ينبغي له أن يضيف أحد الخصمين إلا أن يكون خصمه معه لما روينا من نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
قال ولا يقبل الهدية وقبول الهدية في الشرع مندوب إليه قال صلى الله عليه وسلم:
"نعم الشيء الهدية إذا دخلت الباب ضحكت الأسكفة" وقال صلى الله عليه وسلم "الهدية تذهب وجر الصدر أو وغر الصدر" وقال صلى الله عليه وسلم "تهادوا تحابوا" ولكن هذا في حق لم يتعين لعمل من أعمال المسلمين فأما من تعين لذلك كالقضاة والولاة فعليه التحرز عن قبول الهدية خصوصا ممن كان لا يهدي إليه قبل ذلك لأنه من جوالب القضاء وهو نوع من الرشوة والسحت والأصل فيه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم استعمل ابن اللتبية على الصدقات فجاء بمال فقال هذا لكم وهذا مما أهدى إلي فقال صلى الله عليه وسلم في خطبته: "ما بال قوم نستعملهم فيقدموا بمال ويقولون هذا لكم وهذا مما أهدي إلي فهلا جلس أحدكم عند حمش أمه فينظر أيهدى إليه أم لا".
واستعمل عمر رضي الله عنه أبا هريرة رضي الله عنه فقدم بمال فقال من أين لك هذا قال تناتجت الخيول وتلاحقت الهداية قال أي عدو الله هلا قعدت في بيتك فنظرت أيهدي إليك أم لا فأخذ ذلك منه وجعله في بيت المال فعرفنا أن قبول الهدية من الرشوة إذا كان بهذه الصفة ومن جملة الأكل بالقضاء ومما يدخل به عليه التهمة ويطمع فيه الناس فليتحرز من ذلك إلا من ذي رحم محرم منه فقد كان التهادي بينهم قبل ذلك عادة ولأنه من جوالب القرابة وهو مندوب إلى صلة الرحم وفي الرد معنى قطيعة الرحم وقطيعة الرحم من الملاعن فأما في حق الأجانب قبول القاضي الهدية من جملة ما يقال إذا دخلت الهدية من الباب خرجت الأمانة من الكوة ولا ينبغي له أن يخلو في منزله مع أحد الخصمين كما لا يسار أحد الخصمين ولا بأس بأن يقضي في منزله وحيث أحب لأن عمل القضاء لا يختص بمكان ولأنه في كونه طاعة لا يكون فوق الصلاة وقد قال صلى الله عليه وسلم:
"جعلت لي الأرض مسجدا

 

ج / 16 ص -73-       وطهورا". فأحسن ذلك وأحب إلي أن يقضي حيث تقام جماعة الناس يعنى في المسجد الجامع أو غيره من مساجد الجماعات لأن ذلك يكون أبعد عن التهمة ولأنه يتمكن كل واحد من أن يحضر مجلسه عند حاجته ولا يشتبه عليه موضعه ولا يحتاج إلى من يهديه إلى ذلك من الغرباء كان أو من أهل المصر.
ولا يقضي وهو يمشي ويسير على الدابة فإني أتخوف عليه من ذلك الزلل لأنه عند ذلك لا يكون معتدل الحال فيكون قلبه مشغولا بما هو فيه من المشي أو السير فلا يتفرغ بالنظر في الحجج ولأنه نوع من الاستخفاف وهو مأمور بأن يصون قضاءه عن أسباب الاستخفاف ظاهرا وباطنا ولا بأس بأن يقضي وهو متكئ لأن التكأة نوع جلسة كالتربع ونحوه وطباع الناس في الجلوس تختلف فمنهم من يكون اتكاؤه أروح له واعتدال حاله عند ذلك أظهر والأصل فيه حديث أم سلمة رضي الله عنها في الرجلين اللذين اختصما بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم الحديث. إلى أن قال وكان متكئا فاستوى جالسا فقد نظر في خصومتهما حين كان متكئا فعرفنا أنه لا بأس بذلك.
وينبغي له أن يقضي بما في كتاب الله فإن أتاه شيء لم يجده فيه قضي فيه بما أتاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن لم يجده فيه نظر فيما أتاه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم فقضي وقد بينا هذا فيما سبق والحاصل أنه إذا صح له قول عن واحد من المعروفين من الصحابة رضي الله عنهم قضى به وقدمه على القياس لقوله صلى الله عليه وسلم:
"أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم". ولأن فيما يبلغه عن الصحابي رضي الله عنه احتمال السماع فقد كانوا يسمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يفتون به تارة ويرون أخرى وفيه أيضا احتمال ترجيح الإصابة في نفس الرأي فقد وقفوا لما لم يوقف غيرهم بعدهم فإن كانوا اختلفوا فيه تخير مدة أقاويله أحسنها في نفسه وليس له أن يخالفهم جميعا ويبتدع شيئا من رأيه لأنهم لو اجتمعوا على قول لم يجز لأحد أن يخالفهم فإذا اختلفوا على أقاويل محصورة فذلك إجماع منهم على أن الحق لا يعد مما قالوا فلا يجوز لأحد أن يخالفهم ويبتدع شيئا من رأيه ولكنه يختار أحسن الأقاويل في نفسه لأنهم لما اختلفوا ولم تجر المحاجة بينهم بالرواية فقد انقطع احتمال السماع وتعين القول بالرأي فتعارض أقاويلهم كتعارض الأقيسة وعند ذلك على القاضي أن يصير إلى الترجيح ويعمل بما ظهر الرجحان فيه فكذلك عند اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم يصير إلى الترجيح فإن لم يبين له وجه الترجيح فله أن يعمل بأي الأقاويل شاء لأن بالتعارض لا تنعدم الحجة في أقاويلهم فينبغي أن يعمل بأحسنها في نفسه ويكون ذلك عملا منه بالحجة.
فإن لم يجده في ما جاءه عن أحد منهم اجتهد رأيه في ذلك وقاسه بما جاء منه ثم قضى بالذي يجتمع رأيه عليه من ذلك ويرى أنه الحق لأنه مأمور بفصل القضاء والتكليف بحسب الوسع والذي في وسعه اجتهاد الرأي عند انقطاع سائر الأدلة عنه فينشغل به إذا كان من

 

ج / 16 ص -74-       أهله، كمن اشتبه عليه القبلة عند انقطاع الأدلة والأصل فيه قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] والاعتبار رد الشيء إلى نظيره فالعبرة هو البيان قال الله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] والبيان يرد الشيء إلى نظيره فإن أشكل عليه شاور رهطا من أهل الفقه فيه وكذلك إن لم يكن من أهل الاجتهاد فعليه أن يشاور الفقهاء لأنه يحتاج إلى معرفة الحكم ليقضي به وقد عجز عن إدراكه بنفسه فليرجع إلى من يعرف ذلك كما إذا احتاج معرفة قيمة شيء فإن اختلفوا فيه نظر إلى أحسن أقاويلهم وأشبهها بالحق فأخذ به كما بينا عند اختلاف الصحابة رضوان الله عليهم إلا أن هنا إن رأي خلاف رأيهم فإن استحسن وأشبه الحق قضي بذلك لأن إجماعهم لا ينعقد بدون رأيه وهو واحد منهم ولأن رأيه أقوى في حقه من رأي غيره فلو قضى برأيه كان قاضيا بما هو الصواب عنده وإذا قضي برأى غيره كان قاضيا بما عنده أنه خطأ وقضاؤه بما عنده إنه هو الصواب أولى.
وإن لم يكن من أهل اجتهاد الرأي ليختار بعض الأقاويل نظر إلى أفقههم عنده وأورعهم فقضي بفتواه فهذا اجتهاد مثله ولا يعجل بالحكم إذا لم يبين له الأمر حتى يتفكر فيه ويشاور أهل الفقه لأنه مأمور بالقضاء بالحق ولا يستدرك ذلك إلا بالتأمل والمشورة وقال صلى الله عليه وسلم:
"التأني من الله والعجلة من الشيطان". والأصل في الباب حديث الشعبي رضي الله عنه قال كانت القضية ترفع إلى عمر رضي الله عنه وربما يتأمل في ذلك شهرا ويستشير أصحابه واليوم يفصل في المجلس ما به قضية وحديث بن مسعود رضي الله عنه في المفوضة معروف فإنه ردهم شهرا ثم قال أقول فيه برأيي فإن يك صوابا فمن الله ورسوله وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان الحديث فعرفنا أنه ينبغي للقاضي أن يتأنى ويشاور عند اشتباه الأمر.
وإذا قضى بقضاء ثم بدا له أن يرجع عنه فإن كان الذي قضى به خطأ لا يختلف فيه رده وأبطله يعنى إذا كان مخالفا لنص أو لإجماع فالقضاء بخلاف النص والإجماع باطل وهو جهل من القاضي وفي الحديث:
"ردوا الجهالات إلى السنة" فإن كان خطأ مما يختلف فيه أمضاه على حاله وقضي فيما يستقبل بالذي أدى إليه اجتهاده ويرى أنه أفضل لأن القضاء الأول حصل في موضع الاجتهاد فنفذ ولزم على وجه لا يجوز إبطاله والأصل فيه ما روى أن عمر رضي الله عنه كان يقضي في حادثة بقضية ثم ترفع إليه تلك الحادثة فيقضي بخلافها فكان إذا قيل له في ذلك قال تلك كما قضينا وهذه كما يقضي وقال الشعبي رحمه الله حفظت من عمر رضي الله عنه في الحد سبعين قضية لا يشبه بعضها بعضا وبهذا يتبين أن الاجتهاد لا ينقض باجتهاد مثله ولكنه فيما يستقبل يقضي بما أدى إليه اجتهاده وأصله في التحري للقبلة.
 وذكر عن شريح رحمه الله أنه كان يقضي بالقضاء ثم يبدو له فيرجع عنه ولا يرجع فيما كان قضي به يعنى في المجتهدات كان إذا تحول رأيه بنى فيما يستقبل على ما أدى إليه

 

ج / 16 ص -75-       اجتهاده ولم ينقص ما كان قضى به وفيه دليل أن التابعي إذا أدرك من الصحابة رضي الله عنهم وسوغوا له الاجتهاد معهم فإن رأيه يعارض رأيهم لأن شريحا رحمه الله كان قاضيا في زمن عمر وعلي رضي الله عنهما ثم كان يبنى القضاء على رأيه ولا يرجع إليهما فيما كان يبدو له وقد سوغوا له ذلك حتى كان عليا رضي الله عنه يقول له قل لي يا أيها العبد ألا تنظر وقد رجع ابن عباس رضي الله عنهما إلى قول مسروق رحمه الله في مسألة نحر الولد.
وعن عامر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي بالقضاء فينزل عليه القرآن بخلافه فيمضي ما قضى به ويستأنف القضاء وفي هذا دليل على أنه كان يقضي باجتهاده في ما لم يوح إليه فيه وقد بينا أنه كان لا يعجل بذلك ولكن كان ينتظر الوحي فإذا انقطع طمعه عن الوحي فيه قضى باجتهاده وصار ذلك شريعة ثم ينزل القرآن بخلافه بعد ذلك فيكون ناسخا له ونسخ السنة بالكتاب جائز عندنا ونظيره أمر القبلة فإنه صلى الله عليه وسلم بعد ما قدم المدينة كان يصلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ثم انتسخ ذلك بالأمر بالتوجه إلى الكعبة وكان يستأنف القضاء بالناسخ ولا يبطل ما قضى به لأن النسخ ينهي مدة الحكم ولا يبين أنه لم يكن حقا قبل نزول الناسخ واستدل بهذا الحديث على ما تقدم من المجتهدات فإنه لا ينقض ما كان قضي به إلا أنهما يفترقان من حيث أن الرأي لا ينسخ الرأي.
وعن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشيء من مال أخيه بغير حق فإنما أقضي له بقطعة من النار". معنى قوله ألحن أفطن وأقدر على البيان فاللحن في اللغة هو الفطنة وفيه دليل لمن يقول أن بقضاء القاضي لا يحل ما كان حراما فيكون حجة لمحمد رحمه الله في مسألة قضاء القاضي في العقود والفسوخ وأبو حنيفة رحمه الله يقول المراد الإملاك المرسلة والمراد بيان الوعيد لمن يدعي الباطل ويقيم عليه شهود الزور فالوعيد يلحقه بذلك عندنا وإن كان الملك يثبت له بقضاء القاضي بسببه.
قال: وأكره للقاضي أن يفتي للخصوم في القضاء كراهة أن تعلم الخصوم قوله فتحترز منه بالباطل لحديث شريح رحمه الله حين سأل عن مسألة الحبس قال إنما أقضي ولست أفتي وقد كره بعض الناس للقاضي أن يفتى في المعاملات أصلا وقالوا يفتي في العبادات وكره بعضهم أن يفتى في مجلس القضاء وقالوا لا بأس به في غير مجلس القضاء لأن كل واحد من الأمرين مهم فإذا جمع بينهما في مجلس يخاف الخلل فيهما والأصح أنه لا بأس بأن يفتى في المعاملات والعبادات في مجلس القضاء وفي غير مجلس القضاء فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتي ويقضي والخلفاء رضي الله عنهم بعده كذلك وللقضاء فتوى في الحقيقة إلا أنه ملزم وإنما الذي يكره له أن يفتي للخصم فيما خاصم فيه إليه لما قيل أن الخصم إذا وقف على رأيه ربما اشتغل بالتلبيس للتحرز عن ذلك فلا يفتي له في ذلك حتى تنقضي الخصومة.
 وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحدهما عالم

 

ج / 16 ص -76-       بالخصومة والآخر جاهل بها فلم يلبسه العالم أن قضى له رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام المقضي له وقعد المقضي عليه فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليك السلام والله الذي لا إله غيره إن حقي لحق فقال صلى الله عليه وسلم: "علي بالرجل" فأتى به فأخبره بالذي حلف عليه فقال يا رسول الله إن شئت عاودته الخصومة فقال عليه  الصلاة والسلام: "عاوده" فعاوده فلم يلبسه أن قضي له فقام المقضي له وقعد المقضي عليه فقال والله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الذي أنزل عليك الكتاب بالحق إن حقي لحق يعلم ذلك نفسه فقال صلى الله عليه وسلم: "علي بالرجل" فأتى به فأخبره فقال إن شئت عاودته فقال عليه السلام: "لا ولكن أعلم أن من اقتطع بخصومته وجد له حق امرئ مسلم فإنما يقتطع قطعة من نار" فقال الرجل ألحق حقه فكان النبي صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس وقال: "من اقتطع بخصومته وجد له حق امرئ مسلم فليتبوأ مقعده من النار". قال أبو هريرة رضي الله عنه فكانت هذه أشد من الأولى وفيه دليل على أنه لا ينبغي للقاضي أن يكف عن القضاء مخافة تلبيس بعض الخصوم عليه فقد كانوا يفعلون ذلك عند من كان ينزل عليه الوحي وهو معصوم.
وفيه دليل أنه لا بأس للمرء أن يحلف مختارا فقد حلف الرجل مرتين من غير أن يطلب ذلك منه ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك وفيه دليل على أن القاضي إذا ارتاب في شيء من قضائه ينبغي له أن يتثبت في ذلك ويحتاط ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالمعاودة حين حلف المقضى عليه أن حقه حق وكان ذلك احتياطا منه وفيه دليل أن مال الغير لا يحل للغير بقضاء القاضي فقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم اللفظين في الوعيد الثاني أشد من الأول كما قاله أبو هريرة رضي الله عنه وهذا لأن حرمة مال المسلم كحرمة نفسه قال صلى الله عليه وسلم:
"سباب المسلم فسق وقتاله كفر وحرمة ماله كحرمة نفسه". فكما أن من قصد قتل المسلم بغير حق فجزاؤه ما قال الله تعالى: {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء: 93] فكذلك إذا قصد أخذ ماله بالباطل والتلبيس.
قال وينبغي للقاضي أن لا يلقن الشاهد ولكن يدعه حتى يشهد بما عنده فإن كانت شهادته جائزة قبلها وإن كانت غير جائزة ردها ولا يقول له اشهد بكذا فإن هذا تلقين وهو قول أبي حنيفة رحمه الله ومحمد وقال أبو يوسف رحمه الله لا أرى بأسا أن يقول أتشهدا بكذا وكذا وإنما قال هذا حين ابتلي بالقضاء فرآي ما بالشهود من الخبر عند أداء الشهادة بالحق فإن لمجلس القضاء هيبة وللقاضي حشمة ومن لم يعتد التكلم في مثل هذا المجلس يتعذر عليه البيان إذا لم يعينه القاضي على ذلك وأداء الشهادة بالحق من باب البر قال الله تعالى:
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وأمرنا بإكرام الشهود قال صلى الله عليه وسلم: "أكرموا الشهود فإن الله تعالى يحيي بهم الحقوق". وهذا القدر من التلقين يرجع إلى إكرامه بأن يذكر ما يسمع منه فيقول أتشهد بكذا لما لم يسمع منه فهو التلقين المكروه وفي مذهبه نوع رخصة والعزيمة فيما ذهب إليه أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله لأن القاضي منهي عن

 

ج / 16 ص -77-       اكتساب ما يجر إليه تهمة الميل وما يكون فيه إعانة أحد الخصمين إما صورة أو معنى وتلقين الشاهد لا يخلو من ذلك ود لم يجز له أن يلقن المدعى مع أن الدعوى لا تكون ملزمة فلأن لا يجوز له أن يلقن الشاهد أولى ولأن عادة بعض الناس أن المحتشم إذا لقن أحدهم شيئا ترك ما كان قصد التكلم به وتكلم بما لقنه تعظيما له فلا يأمر القاضي أن يفعل الشاهد مثل ذلك فيدع ما كان عنده من الشهادة ويتكلم بما لقنه القاضي والتلقين تعليم والقاضي إنما جلس لسماع الشهادة وفصل القضاء بالشهادة لا لتعليم الشاهد فلهذا أكره له أن يلقنه.
ولا يضر القاضي أن يقدم الشهود جميعا أو واحدا واحدا لأن الثابت بالنص اشتراط العدد والعدالة في الشهود وبذلك يظهر جانب رجحان الصدق فالتفريق بينهم في المجلس يكون زيادة والقاضي لا يتكلف لها إلا أن يرتاب في أمرهم فعند ذلك عليه أن يحتاط لقوله صلى الله عليه وسلم
"دع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ومن الاحتياط أن يفرق بينهم إلا أنه لا ينبغي له أن يتعنت معهم فإن التعنت يخلط على الرجل عقله وإن كان صحيحا في شهادته ولأن الشاهد أمين فيما يؤدي من الشهادة ولم يظهر خيانته للقاضي فلا يتعنت معهم وقد أمرنا بإكرامهم إلا أنه إذا اتهمهم وفرق بينهم فلا بأس أن يسأل كل واحد منهم أين كان هذا وكيف ومتى كان فهو من باب الاحتياط ودفع الريبة لا من باب التعنت وإن اختلفوا في ذلك اختلافا يفسد الشهادة أبطلها وإن كان لا يفسدها أجازها ولا يطرحها بالتهمة والظن فإن الظن لا يغني من الحق شيئا قال صلى الله عليه وسلم: "إذا ظنت فلا تحقق". فما لم يعلم منهم سواء أو يسمع منهم عند السؤال اختلافا مفسدا لشهادتهم لم يمنع من القضاء بالشهادة بمجرد الظن وإذا لم يطعن الخصم في الشاهد فلا ينبغي أن يسأل عنه في قول أبي حنيفة رحمه الله ولكنه يقضي بظاهر العدالة إلا أن يطعن الخصم وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يسأل عنهم وإن لم يطعن الخصم وقيل هذا اختلاف عصر وزمان فقد كان أبو حنيفة رحمه الله يفتي في القرن الثالث وقد شهد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق والخيرية بقوله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني" الحديث وكانت الغلبة للعدول في ذلك الوقت فلهذا كان يكتفي بظاهر العدالة وهما أفتيا بعد ذلك في القرن الذي شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهله بالكذب بقوله صلى الله عليه وسلم: "ثم يفشو الكذب حتى يشهد الرجل قبل أن يستشهد". وكانت الغلبة في ذلك الوقت لغير العدول فقال لا بد للقاضي أن يسأل عن الشهود وحجتهما أن اشتراط العدالة في الشاهد للقضاء بشهادته ثابت بالنص قال الله تعالى: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 106] وقيل السؤال عنهما صفة العدالة محتملة فيهما والشرط لا يثبت بما هو محتمل.
 توضيحه أن على القاضي أن يصون نفسه عن القضاء بشهادة الفاسق فقد أمر بالتثبت في خبر الفاسق فإنما يسأل عن الشهود صيانة لقضائه فلا يتوقف على ذلك على طلب الخصم ولأن كان ذلك لحق الخصم فليس لكل خصم يبصر حجته فربما يهاب الخصم الشهود فلا يجاهر بالطعن فيهم والقاضي مأمور بالنظر لكل من عجز عن النظر لنفسه ألا ترى أنا في

 

ج / 16 ص -78-       الحدود يسأل عن الشهود وأن لم يطعن الخصم لهذا المعنى فكذلك في الأموال وأبو حنيفة رحمه الله استدل بظاهر الحديث: "المسلمون عدول بعضهم على بعض" فهذا من صاحب الشرع تعديل لكل مسلم فتعديل صاحب الشرع أقوى من تعديل المزكى ثم العدالة هي الاستقامة يقال للجادة طريق عدل وللبيان طريق عدل جائز وقد علم القاضي منهم الاستقامة واعتقد وذلك يحمله على الاستقامة في التعاطي فعليه أن يتمسك به ما لم يظهر خلافه فهذا دليل شرعي فوق خبر مزكي وإنما يعتمد هذا الدليل إذا لم يطعن الخصم فأما بعد طعنه يقع التعارض لأن الخصم مسلم ودينه يمنعه من أن يجازف بالطعن فيهم فللتعارض وجب على القاضي أن يسأل حتى يظهر المرجح لأحد الجانبين بخبر المزكي فأما في الحدود يسأل وإن لم يطعن الخصم احتيالا للدرء وقد أمر بدرء الحدود لأن الحدود إن وقع فيها غلط لا يمكن تداركه وبظاهر العدالة لا تنتفي الشبهة ففيما يندرئ بالشبهات لا يكتفي بذلك فأما المال مما يثبت مع الشبهات وإذا وقع الغلط فيه أمكنه التدارك فيكتفي بظاهر العدالة في ذلك ما لم يطعن الخصم وإذا سأل عن الشهود لم يقض بشهادتهم حتى تأتى مسألته مزكاة يعنى أن المزكي إن كتب في جوابه أنهم عدول لا يكتفي بذلك فالعدل قد لا يكون من أهل الشهادة كالعبد عدل في روايته وكذلك إن كتب عدول أحرار فالمحدود في القذف بعد التوبة حر عدل وكذلك إن كتب أنه نفذ فقد بطل هذا اللفظ على المستور الذي لا يعرف حاله فإن كتب أنه مزكي فهو تنصيص على وجوب العمل بشهادته ولأن القاضي إنما طلب من المزكي التزكية فينبغي أن يجيبه إلى ما طلب بلفظه كما أنه لما طلب من الشاهد أن يشهد فما لم يأت بلفظة الشهادة لا تقبل شهادته.
وإذا اختصم إلى القاضي قوم يتكلمون بغير العربية وهو لا يفقه لسانهم فإنه ينبغي له أن يترجم عنهم له رجل مسلم ثقة واتخاذ الترجمان للحاجة قد كان عليه الناس في الجاهلية وبعد الإسلام ولما جاء سلمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم ترجم يهودي كلامه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فخان في ذلك حتى نزل الوحي حديث فيه طول وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم العبرانية وكان يترجم لرسول الله صلى الله عليه وسلم عمن كان يتكلم بين يديه بتلك اللغة ثم لا خلاف أنه يشترط في المترجم أن يكون عدلا مسلما لأن نفس الخبر محتمل للصدق والكذب فإنما يترجح جانب الصدق بالعدالة ويشترط الإسلام أيضا لأن الكفار معادون للمسلمين فالظاهر أنهم يقصدون الجناية في مثل هذا قال الله تعالى:
{لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] أي لا يقصرون في إفساد أموركم فلهذا لا يقبل القاضي الترجمة إلا من مسلم عدل والواحد لذلك يكفي والمثنى أحوط في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يشترط في المترجم لكلام الخصم أو لشهود الشاهدين ما يشترط في الشهادة من العدد وذلك رجلان أو رجل وامرأتان وكذلك الخلاف في التزكية عندهما تزكية الواحد يكفي والمثنى أحوط وعند محمد رحمه الله:

 

ج / 16 ص -79-       لا بد من عدد الشهادة في ذلك وكذلك الخلاف في رسول القاضي إلى المزكي فمحمد رحمه الله يقول ما لم يفهم القاضي فكأنه لم يسمعه ومعنى هذا وهو إنه إنما يسمع من المترجم لأنه يفهم قول المترجم وعليه ينبني الحكم فكانت الترجمة في حقه بمنزلة الشهادة ألا ترى أنه يعتبر فيها ما يعتبر في الشهادة من الحرية والإسلام والعدالة فكذلك العدد وهذا لأنه يلزم على القاضي القضاء وهذا آكد ما يكون من الإلزام فيشترط العدد فيه لطمأنينة القلب كالشهادة إلا أنه لا يشترط لفظة الشهادة لأن اشتراط ذلك في الشهادة ليس لمعنى الإلزام بل هو ثابت بالنص بخلاف القياس أو لمعنى الزجر عن الشهادة بالباطل فقوله أشهد بمنزلة قوله أحلف ولهذا أعظم الوزر في شهادة الزور كما في اليمين الغموس والمدعي هو الذي يأتي بالشهود فلمكان احتمال المواضعة والتلبيس بينهم شرطنا لفظة الشهادة.
وأما المترجم بحيازة القاضي فينعدم في حقه مثل تلك التهمة فلهذا لا يشترط في حقه لفظة الشهادة وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله قال المترجم مخير غير ملزم وخبر الواحد مقبول بشرط العدالة والإسلام وإن كان ملزما كما في رواية الأخبار وكما في الشهادة على رؤية هلال رمضان والدليل عليه أنه لا يعتبر لفظة الشهادة فيه ولو كان هذا في معنى الشهادة لاستوى فيما اختص به الشهادة كاختصاص الشهادة من بين سائر الأخبار بلفظ الشهادة فإذا لم يجعل هذا الخبر بمنزلة الشهادة فيه ففي العدد أولى واشتراط الإسلام والعدالة هنا بمنزلة اشتراط ذلك في رواية الأخبار واشتراط الحرية لأنه يلزم الغير ابتداء من غير أن يلتزم شيئا فكان من باب الولاية والرق تبقي الولاية على الغير بخلاف رواية الأخبار والشهادة على هلال رمضان فإنه يلتزم ذلك بنفسه ثم يتعدى إلى غيره فلا تشترط الحرية فيه لذلك ومع أن الواحد يكفي لذلك كما في رواية الأخبار ولكن رجل وامرأتان أوثق لأنه في الاحتياط أقرب.
قال: وينبغي للقاضي أن يتخذ كاتبا من أهل العفاف والصلاح لأنه محتاج إلى أن يكتب ما جرى في مجلسه وربما يعجز عن مباشرة جميع ذلك بنفسه فيتخذ كاتبا لذلك والكاتب نائبه فينبغي أن يشبهه في العفاف والصلاح والكاتب من أقوى ما يعتمد عليه القاضي فلا يفوضه إلا إلى من هو معروف بالصلاح والعفاف حتى لا يخدع بالرشوة ثم لم يقعده حيث يرى ما يكتب وما يصنع إما لأنه يحتاج إلى الرجوع إلى ما في يده من المكتوب في كل حادثة فليكن بمرأى العين منه أو لأنه لا يأمن عليه من أن يخدعه بعض الخصوم بالرشوة إذا لم يكن بمرأى العين من القاضي ثم يكتب خصومة كل خصمين وما بينهما من الشهادة في صحيفة بيضاء وحدها ثم يطويها ويخرمها ويختمها بخاتمه للتوثق كيلا يزاد فيها ثم يكتب عليها خصومة فلان بن فلان وفلان بن فلان في شهر كذا في سنة كذا حتى يتيسر عليه تمييزها من سائر الصحائف إذا اختلفت بها ولا يحتاج في ذلك إلى فتح الخاتم فقد يشق عليه ذلك في كل وقت ويجعل خصومة كل شهر في قطمر على حدة لا يخالطها شيء

 

ج / 16 ص -80-       آخر والقطمر اسم لخريطة القاضي وفيه لغتان قمطرة وقطمر وإنما يتخذ لخصومة كل شهر خريطة على حدة ليتيسر عليه وجودها عند الحاجة إليها ويجدها بأدنى طلب ويكتب التاريخ لأنه قد يحتاج إليه عند منازعة الخصوم.
والأصل في كتاب التاريخ ما روى أن عمر رضي الله عنه لما اراد أن يكتب إلى الآفاق قيل له أن الملوك لا يقبلون الكتاب إذا لم يكن مؤخرا فجمع الصحابة وشاورهم في التاريخ ثم اتفقوا على أن جعلوا التاريخ من وقت الهجرة وبقي ذلك إلى يومنا هذا قال وليباشر هو بنفسه مسائل الشهود فيكتبها أو يكتب بين يديه ثم يبعث بها في السر إلى أهل الثقة عنده والعفاف والصلاح فيبعث كل مسألة مع رجلين كل واحد منهما ثقة ولا يطلع واحد منهما على ما يبعث به مع صاحبه لأن قضاءه ينبنى على الشهادة فلا يدع في بابها أقصى ما في وسعه من الاحتياط والمباشرة بنفسه وقد كانت التزكية في الابتداء علانية ثم أحدث شريح رحمه الله تزكية السر فقيل له أحدثت يا أبي أمية فقال أحدثتم فأحدثنا فكان يجمع بين تزكية السر وتزكية العلانية فيسأل عن حال الشهود في السر ثم يحضر الشهود والمزكون ليزكوهم علانية فيقول هؤلاء الذين زكيناهم وهو أتم ما يكون من الاحتياط غير أن القضاة تركوا بعد ذلك تزكية العلانية واكتفوا بتزكية السر إبقاء للستر على الناس وتحرزا عن الغيبة التي تقع بين المزكين وبعض الشهود في تزكية العلانية إذا ميزوا المجروح فلهذا يكتفي بتزكية السر في زماننا وإنما لا يطلع واحد من الرسولين على ما يبعث به مع صاحبه كيلا يتواضعا بينهما على شيء وإن استطاع أن لا يعرف له صاحب مسألة فليفعل لأنه إذا كان معروفا فيرجع إليه بعض الخصوم فيخدعه بالرشوة أو تخوفه بعض الشهود فيزكي المجروح لذلك ويلبس على القاضي فكان الاحتياط أن لا يعرف له صاحب مسألة ولكن في زماننا اتخذوا التزكية عملا فيشتهر المزكي لذلك لا محالة والاحتياط للقاضي أن يسأل عنه وعن غيره من العدول وأهل الصلاح ممن يقف عليه القاضي ولا يعرفه الخصوم وإذا أتاه تزكية رجل من ثقة وأتاه من ثقة آخر أنه غير عدل أعاد المسألة لوقوع التعارض بين الخبرين فإن النافي معارض للمثبت فيما طريقه الخبر وقد بينا في كتاب الاستحسان وذكرنا هناك أنه إذا اتفق رجلان على التزكية عمل بقولهما ولم يعمل بقول الواحد الذي خرج لأن المثنى حجة في الأحكام فلا يعارضه خبر الواحد وإذا اجتمع رهط على التزكية ورجلان عدلان على الحرج أخذ بقولهما لأن الذين زكوا اعتمدوا ظاهر الحال وخفي عليهم ما عرفه اللذان جرحا من العارض الموجب للجرح فيه وقد ثبت ذلك بحجة كاملة فإن خبر المثنى حجة في إثبات الحكم.
قال: وينبغي أن يكتب الشاهد اسمه ونسبه وحليته ومنزله في دار نفسه أو في دار غيره لأنه ما لم يصر معلوما عند من يسأل عن حاله لا يمكنه أن يسأل وإنما يصير معلوما بما ذكرنا وإنما يكتب منزله لأن أعرف الناس بحال المرء جيرانه ألا ترى أن ذلك الرجل لما

 

ج / 16 ص -81-       قال يا رسول الله عليك السلام كيف أنا قال صلى الله عليه وسلم: "سل جيرانك؟" وإنما يتمكن من أن يسأل جيرانه عن حاله إلا عرف منزله ولأنه قد يتسمى رجل باسم غيره للتلبيس على القاضي فيتحرز عن ذلك بأن يكتب منزله ويسأل عن التزكية في العلانية بعد التزكية في السر لأنه ربما يشتبه على المزكي أو يلتبس عليه فيزكي غير من شهد وينعدم هذا الوهم عند تزكية العلانية إلا أنه استحسن ترك ذلك في زماننا للتحرز عن الفتنة.
وإذا وجد القاضي في ديوانه صحيفة فيها شهادة شهود لا يحفظ أنهم شهدوا عنده بذلك فعلى قول أبي حنيفة رحمه الله إن يتفكر في ذلك حتى يتذكر وليس له أن يقضي بذلك إن لم يتذكر وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله إذا وجد ذلك في قمطرة تحت خاتمه فعليه أن يقضي به وإن لم يتذكر وهذا منهما نوع رخصة فالقاضي لكثرة أشتغاله يعجز أن يحفظ كل حادثة ولهذا يكتب وإنما يحصل المقصود بالكتاب إذا جاز له أن يعتمد على الكتاب عند النسيان فإن الآدمي ليس في وسعه التحرز عند النسيان ألا ترى إلى ما ذكر الله تعالى في حق من هو معصوم فقال الله تعالى:
{سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 6، 7] وفي تخصيصه بذلك بيان أن غيره ينسى وسمى الإنسان إنسانا لأنه ينسى قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طـه:115] فلو لم يجز له الاعتماد على كتابه عند نسيانه أدى إلى الحرج والحرج مدفوع ثم ما كان في قمطرة تحت خاتمه فالظاهر أنه حق وإن لم يصل إليه يد معتبرة ولا زائدة فيه والقاضي مأمور باتباع الظاهر ومذهب أبي حنيفة رحمه الله هو العزيمة فالمقصود من الكتاب أن يتذكر إذا نظر فيه لأن الكتاب للقلب كالمرآة للعين وإنما تعتبر المرآة ليحصل الإدراك بالعين فإذا لم يحصل كان وجوده كعدمه فكذلك الكتاب للتذكر بالقلب عند النظر فيه فإذ لم يتذكر كان وجوده كعدمه وهذا لأن الكتاب قد يزور ويفتعل به والخط يشبه الخط والخاتم يشبه الخاتم وليس للقاضي إن يقضي إلا بعلم وبوجود الكتاب لا يستفيد العلم مع احتمال التزوير والافتعال فيه وهذه ثلاثة فصول أحدهما مابينا.
والثاني: في الشاهد إذا وجد شهادته في صك وعلم أنه خطه وهو معروف ولكن لم يتذكر الحادثة.
والثالث: إذا سمع الحديث فوجده مكتوبا بخطه ووجد سماعه مكتوبا غيره وهو خط معروف ولكنه لم يذكر في الفصول الثلاثة عند أبي حنيفة رحمه الله ليس له أن يعتمد الكتاب ولهذا قلت له روايته لأنه كان يشترط في الرواية الحفظ من حين سمع إلى أن يروى وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله:
"نضر الله امرءا سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من يسمعها" ومحمد رحمه الله في الفصول الثلاثة أخذ بالرخصة للتيسير على الناس وقال يعتمد خطه إذا كان معروفا وأبو يوسف رحمه الله في مسألة القاضي ورواية الحديث أخذ بالرخصة لأن المكتوب كان في يده وفي مسألة الشهادة أخذ بالعزيمة فقال:

 

ج / 16 ص -82-       الصك الذي فيه الشهادة كان في يد الخصم فلا يأمن الشاهد التغيير والتبديل فيه فلا يعتمد خطه في الشهادة ما لم يتذكر الحادثة.
وإن وجد القاضي سجلا في خريطته ولم يتذكر الحاجة فهو على الخلاف الذي بينا وإن نسي قضاءه ولم يكن سجل فشهد عنده شاهد أنك قضيت بكذا لهذا على هذا فإن تذكر أمضاه وإن لم يتذكر فلا إشكال أن على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يقضي بذلك وقيل على قول أبي يوسف رحمه الله لا يعتمد ذلك وعند محمد رحمه الله يعتمد ذلك فيقضي به وعلى هذا من سمع من غيره حديثا ثم نسي ذلك راوى الأصل فسمعه ممن يروى عنده فعند أبي يوسف رحمه الله ليس له أن يعتمد رواية الغير عنه كما لا يفعل ذلك شاهد الأصلى إذا شهد عنده شاهد الفرع على شهادته وعند محمد رحمه الله له أن يعتمد ذلك للتيسير من الوجه الذي قلنا وعلى هذه المسائل التي اختلف فيها أبو يوسف ومحمد رحمهم الله في الرواية في الجامع الصغير وهي ثلاث مسائل سمعها محمد من أبي يوسف رحمهما الله ثم نسي ذلك أبو يوسف رحمه الله فكان لا يعتمد رواية محمد رحمه الله بناء على مذهبه في ذلك ومحمد رحمه الله كان لا يدع الرواية مع ذلك بناء على مذهبه فحال القاضي كذلك.
وما وجد في ديوان القاضي بعد أن يعدل من شهادة أو قضاء أو إقرار فهو غير مأخوذ به ولا مقبول إلا أن تقوم بينة أنه قضي به وأنفذه وهو قاضي يومئذ لأن القاضي الثاني لا يعلم حقيقة شيء من ذلك وولاية القاضي فوق ولاية الشهادة فإذا كان لا يجوز للمرء أن يشهد بما لا يعلم فئلا يجوز له أن يقضي بما لا يعلمه أولى والأصل فيه قوله تعالى
{إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} وقال صلى الله عليه وسلم للشاهد: "إذا رأيت مثل هذه الشمس فاشهد وإلا فدع". ثم طريق إثباته عند القاضي إقامة البينة ويشترط أن يشهدوا أنه كان قاضيا حين قضى بهذا فلعله أنفذه بعد العزل والقضاء منه بعد العزل لا يكون نافذا.
ولا ينبغي للقاضي أن يتخذ كاتبا من أهل الذمة بلغنا أن أبا موسى الأشعري قدم على عمر رضي الله عنهما فسأله عن كاتبه فقال هو رجل من أهل الذمة فغضب عمر رضي الله عنه من ذلك وقال لا تستعينوا بهم في شيء وأبعدوهم وأذلوهم فاتخذ أبو موسى كاتبا غيره ولأن ما يقوم به كاتب القاضي من أمر الدين وهم يخونون المسلمين في أمور الدين ليفسدوه عليهم قال الله تعالى:
{لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً} [آل عمران: 118]  الآية وأن عمر رضي الله عنه أعتق عبدا له نصرانيا يدعي بجنس وقال لو كنت على ديننا لاستعنا بك في شيء من أمورنا ولأن كاتب القاضي يعظم في الناس وقد نهينا عن تعظيمهم. قال صلى الله عليه وسلم: "أذلوهم ولا تظلموهم ولا تتخذوا كاتبا مملوكا ولا محدودا في قذف ولا أحدا ممن لا تجوز شهادته". لأن الكاتب ينوب عن القاضي فيما هو من أهم أعماله فلا يختار لذلك إلا من يصلح للقضاء وربما يحتاج القاضي إلى الاعتماد على شهادته في بعض الأمور أو يحتاج بعض الخصوم إلى شهادته فلا يختار إلا من يصلح للشهادة ولا بأس بأن يكلف القاضي الطالب صحيفة يكتب

 

ج / 16 ص -83-       فيها حجته وشهادة شهوده لأن منفعة ذلك له والذي يحق على القاضي مباشرة القضاء فأما الكتبة ليست عليه فلا يلزمه اتخاذ الصحائف لذلك من مال نفسه ولكن لو كان في بيت المال سعة فرأى أن يجعل ذلك من بيت المال فلا بأس بذلك لأنه يتصل بعمله وكفايته في مال بيت المال فما يتصل به لا بأس بأن يجعل في مال بيت المال وعلى هذا أجر كاتب القاضي فإنه إن جعل كفايته في بيت المال لكفاية القاضي ليحتسب في عمله فهو حسن وإن رأى أن يجعل ذلك على الخصوم فلا بأس به لأنه يعمل لهم عملا لا يستحق على القاضي مباشرته وكذلك أجير قاسم القاضي.
وإذا هلك ذكر شهادة الشهود من ديوان القاضي فشهد عنده كاتبان له إن شهوده فلان وفلان وقد شهدوا عنده بكذا وكذا لم يقبل ذلك لأنهما ما أشهد الكاتبين على شهادتهما ولا يقبل شهادة الإنسان على شهادة غيره وإذا لم يشهده على شهادته وينبغي للقاضي أن يكتب شهادة الشاهدين بمحضر المشهود عليه أو وكيله حتى لا يغير شيئا من موضعه لأن الشهود إن زادوا شيئا أو حرفوه طعن فيه وخاصم ورفع ذلك إلى القاضي نائبه وكون الكاتب بمحضر منه أقرب إلى النظر له وإلى نفي التهمة عن القاضي وإن كتبها بغير محضر منه لم يضره ذلك لأنه يكتب ما سمع وهو أمين في ذلك ما لم تظهر خيانته وينبغي للقاضي أن يعرض كتاب الشهادة بعد ما يكتبها على الشاهد حتى يعرف هل زاد شيئا أو حرفه عن موضعه لأن حجة القضاء شهادة الشهود فيستقصي في الاحتياط فيه وذلك في العرض على الشاهد بعد ما يكتب ولهذا قيل إذا لم يكن ماهرا في العربية ينبغي له أن يكتب شهادة الشهود بلفظه ولا يحوله إلى لغة أخرى مخافة الزيادة والنقصان والله أعلم بالصواب.

باب كتاب القاضي إلى القاضي
قال رحمه الله: اعلم بأن القياس يأبى جواز العمل بكتاب القاضي إلى القاضي لأن كتابه لا يكون أقوى من عبارته ولو حضر بنفسه مجلس القضاء المكتوب إليه وعبر بلسانه عما في الكتاب لم يعمل به القاضي فكذلك إذا كتب به إليه ولأن الكتاب قد يزور ويفتعل والخط يشبه الخط والخاتم يشبه الخاتم فكان محتملا والمحتمل لا يصلح حجة للقضاء ولكنا جوزنا العمل بكتاب القاضي إلى القاضي فيما يثبت مع الشبهات لحديث علي رضي الله عنه أنه جوز ذلك ولحاجة الناس إلى ذلك فقد يكون الشاهد للمرء في حقه على بلدة وخصمه في بلدة أخرى فيتعذر عليه الجمع بينهما وربما لا يتمكن من أن يشهد في شهادتهما وأكثر الناس يعجزون عن أداء الشهادة على الشهادة على وجهها ثم يحتاج بعد ذلك إلى معرفة عدالة الأصول ويتعذر معرفة ذلك في تلك البلدة فتقع الحاجة إلى نقل شهادتهم بالكتاب إلى مجلس ذلك القاضي ليتعرف القاضي من الكتاب عدالتهم ويكتب ذلك إلى القاضي المكتوب إليه فللتيسير جوزنا ذلك ولكن فيما يثبت مع الشبهات لأنه لا ينفك عن شبهته كما أشرنا إليه في وجه القياس فلا يكون حجة فيما يندرئ بالشبهات ولأن ذلك نادر لا تعم البلوى به.

 

ج / 16 ص -84-       فلما جعل هذا حجة للحاجة اقتصر على ما تعم البلوى به لأن الحاجة تمشي إلى ذلك.
فإذا أتى القاضي كتاب قاضي سأل الذي جاء به البينة على أنه كتابه وخاتمه لأنه غاب عن القاضي علمه فلا يثبت إلا بشهادة شاهدين ثم يقرؤه عليهم ويشهدون على ما فيه فمن أصل أبي حنيفة رحمه الله أن علم الشهود بما في الكتاب شرط لجواز القضاء بذلك وهو قول أبي يوسف الأول ثم رجع فقال إذا شهدوا أنه خاتمه وكتابه قبله وإن لم يعرف ما فيه وهو قول بن أبي ليلى رحمه الله لأن كتاب القاضي إلى القاضي قد يستعمل على شيء لا يعجبهما أن يقف عليه غيرهما ولهذا يختم الكتاب ومعنى الاحتياط يحصل إذا شهدوا أنه كتابه وخاتمه ولكنا نقول ما هو المقصود لا بد من أن يكون معلوما للشاهد والمقصود ما في الكتاب لا عين الكتاب والختم وكتب الخصومات لا يستعمل على شيء سوى الخصومة فللتيسير يطلب كتابا آخر على حدة فأما ما يبعث على يد الخصم لا يشتمل إلا على ذكر الخصومة ولفظ الشهادة.
قال: ولا يفتح الكتاب إلا بمحضر من الخصم لأن ذلك في معنى الشهادة على الشهادة فإن الكاتب ينقل ألفاظ الشهادة كتابة إلى القاضي المكتوب إليه كما أن شاهد الفرع ينقل شهادة شاهد الأصل بعبارته ثم لا تسمع الشهادة على الشهادة إلا بمحضر من الخصم فكذلك لا يفتح الكتاب إلا بمحضر من الخصم فإذا قرأه عليه وعلم ما فيه فإنه ينبغي له أن يخرمه ويختمه لكيلا يغير شيئا منه ويكتب عليه اسم صاحبه لتيسير عليه وجوده في قمطره عند الحاجة إليه.
وإذا وصل الكتاب إلى هذا القاضي بعد ما مات الكاتب أو عزل لم يعمل به لأنه ما أتاه كتاب القاضي لأن الكاتب قد انعزل حين عزل أو مات فإنما أتاه كتاب واحد من الرعايا وذلك لا يصلح حجة للقضاء وإن مات ذلك أو عزل بعد ما وصل الكتاب إلى هذا القاضي وقرأ ما فيه فإنه يعمل به لأن الذي أتاه كتاب القاضي وقد بينا أن الكتاب في معنى الشهادة على الشهادة والشاهد على الشهادة إذا مات بعد أداء الشهادة يجوز العمل بشهادته بخلاف ما إذا مات قبل الأداء فكذلك كتاب القاضي إلى القاضي لأن وصول الكتاب إليه وقراءته في معنى أداء الشهادة في مجلسه وإن مات المكتوب إليه أو عزل قبل أن يصل إليه الكتاب ثم وصل إلى الذي ولي بعده لم يعمل به لأن الكتاب إلى غيره فلا يكون حجة للقضاء في حقه وكذلك لو وصل إليه وقرأه ثم مات قبل أن يقضي به لم يعمل به من بعده بمنزلة ما لو شهد الشهود في مجلسه فمات قبل أن ينفذه إلا أن يكون الكتاب إلى كل من يصل إليه من حكام المسلمين فقد جوز ذلك مع جهالة المكتوب إليه لحاجة الناس إلى ذلك استحسانا إلا أنه يكلف الخصم إعادة البينة على الكتاب والختم بين يديه لأن ما قام من البينة في المجلس الأول قد بطل بموته قبل تنفيذه.
وإن كتب القاضي إلى قاضي في حق لرجل شهادة شهود شهدوا عنده عليه فإنه ينبغي

 

ج / 16 ص -85-       له أن يسمى الشهود في الكتاب وينسبهم إلى آبائهم وقبائلهم والأصل أن الغائب عن مجلس القضاء يجب تعريفه بأقصى ما يمكن ألا ترى أنه لا يعرف المحدودات إلا بذكر الحدود فيعرف الآدمي بالنسب والاسم لأن ذلك أقصى ما يمكن في تعريفه إذا تعذر إحضاره وتمام ذلك بذكر اسمه واسم أبيه واسم جده فالمقصود تمييزه عن غيره والتميز يحصل بهذا فقل ما يتفق رجلان في الاسم والنسب بهذه الصفة ولأن كان فهو نادر ويذكر قبيلته أيضا ولو اكتفى بذكر اسمه واسم أبيه واسم قبيلته جاز أيضا فقل ما يتفق رجلان في قبيلة واحدة باسمهما واسم أبيهما ويقام ذكر القبيلة مقام ذكر الجد فهو الجد الأعلى وإن ذكر اسمه واسم أبيه فقد روى عن أبي يوسف رحمه الله إن ذلك يكفي إذا عرفه بصناعة وهو معروف بها وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يكفي لأن ذكر الصناعة ليس بشيء فقد يتحول الإنسان من صناعة إلى صناعة فإن كان قد عرفهم بالصلاح كتب بذلك وإن لم يعرفهم وأخبر بذلك عنهم كتب به لأن المقصود إعلام عدالتهم للقاضي المكتوب إليه ليتمكن من القضاء فالقضاء يقع بشهادتهم وإن حلاهم فحسن وإن ترك التحلية لم يضر لأن المقصود وهو التعريف قد حصل بذكر الاسم والنسب إلا أنه إذا كان من رأى الكاتب أن يذكر التحلية فينبغي أن يذكر من ذلك ما لا يشينه ولا يعير به في الناس فيتحرز عن ذكر ما يشينه فذلك نوع غيبة فإن أراد الذي جاء به من المكتوب إليه أن يكتب به إلى قاض آخر فعله لأن شهادة الشهود تثبت عنده بالكتاب فكأنه تثبت بسماعه منهم وكما جوزنا الكتاب من القاضي الأول للحاجة فكذلك نجوزه من الثاني لأن الخصم قد يهرب إلى بلدة أخرى قبل قضاء المكتوب إليه بذلك عليه.
وإذا سمع القاضي شهادة الشهود وكتب بها إلى قاض آخر فلم يخرج الكتاب من يده حتى حضر المدعى عليه لم يحكم بذلك عليه لأن سماعه الأول كان للنقل فلا يستفيد به ولاية القضاء كشاهد الفرع إذا استقصى بعد ما شهد الأصليان عنده وأشهداه على شهادتهما لم يجز له أن يقضي بذلك وهذا لأن جواز القضاء بالبينة والذي سمع شهادة لا بينة فالبينة ما يحصل البيان بها ولا يكون ذلك إلا بمحضر من الخصم بعد إنكاره أو سكوته القائم مقام إنكاره فإن أعاد المدعى تلك البينة بمحضر من الخصم فالآن يقضي له بها لأن شرط قبول البينة للقضاء إنكار الخصم وقد وجد ذلك حين أعادها وما تقدم من الأداء وجوده كعدمه وإذا وصل الكتاب إلى المكتوب إليه وقرأه بحضرة الخصم وشهد الشهود على الختم وما فيه وهو مما يختلف فيه الفقهاء لم ينفذه المكتوب إليه إلا أن يكون من رأيه لأن الأول لم يحكم به وإنما نقل الشهادة بكتابه إلى مجلسه فلا يحكم به إلا إذا كان ذلك من رأيه كما إذا شهد الفروع عنده على شهادة الأصول وهذا بخلاف ما إذا كان الأول قد قضي به وأعطى الخصم سجلا فالثاني ينفذ ذلك وإن لم يكن من رأيه لأن قضاء القاضي في المجتهدات نافذ ألا ترى أنه ليس للأول أن يبطل قضاءه وإن تحول رأيه فكذلك ليس للثاني أن يبطل ذلك فأما في الكتاب الأول ما قضى بشيء ألا ترى أن له أن يبطل كتابه قبل أن يبعث به إلى

 

ج / 16 ص -86-       الثاني وإن الخصم لو حضر مجلسه لم يلزمه من ذلك شيئا فكذلك الثاني لا ينفذ كتابه إلا أن يكون ذلك من رأيه.
ولا يقبل كتاب القاضي في شيء من الحدود والقصاص لأن ذلك مما يندرئ بالشبهات وللشافعي رحمه الله قول أن ذلك مقبول إلا في الحدود التي هي لله تعالى خالصا وأصل ذلك في الشهادة على الشهادة وسيأتيك بيانه في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى ولا يقبل كتاب قاضي رستاق ولا قرية ولا كتاب عاملها لأن المعمول به كتاب القاضي والقاضي الرستاق متوسط وليس بقاض فالمصر من شرائط القضاء في ظاهر الرواية لأن القضاء من إعلام الدين كالجمع والأعياد فيكون مختصا بالمصر وذلك في بعض النوادر أن قاضي القرية إذا قضي بشيء بعد تقليد مطلق فقضاؤه نافذ فعلى هذا إذا كان قاضي الرستاق بهذه الصفة يقبل كتابه وعلى هذا قالوا إذا خرج قاضي المصر إلى قرية وهي خارجة من فناء المصر فقضي هناك بالحجة لا ينفذ قضاؤه في ظاهر الرواية لانعدام شرط القضاء وهو المصر وعلى رواية النوادر ينفذ قضاؤه وكثير من المتأخرين رحمهم الله أخذوا بذلك قالوا أرأيت لو كانت الخصومة في ضيعة في بعض القرى فرأى القاضي الأحوط أن يحضر ذلك الموضع ليسمع الدعوى والشاهدة ويحكم عند الضيعة أما كان ينفذ حكمه بذلك ومن قال بهذا قال تأويل ما قال في الكتاب أنه لا حاجة إلى قبول كتاب القاضي الرستاق فإنه يتيسر إحضار الخصم مع الشهود في مجلس القضاء في المصر ولكن هذا بعيد فقد ذكر بعده أنه لا يقبل إلا كتاب قاضي مدينة فيها منبر وجماعة أو كتاب الأمير الذي استعمل القاضي لا له بما كفل كتاب من تلك تنفيذ القضاء والأمير الذي استعمل القاضي لو نفذ القضاء بنفسه جاز ذلك منه وكيف لا يجوز وإنما ينفذ قضاء القاضي بأمره فكذلك قاضي المدينة ينفذ قضاؤه لو قضى بنفسه فيقبل كتابه بخلاف قاضي الرستاق.
ولا تجوز شهادة أهل الذمة على كتاب قاضي المسلمين لذمي على ذمي ولا على قضائه لأنهم يشهدون على فعل المسلم وشهادة أهل الذمة لا تكون حجة في إثبات فعل المسلم وهذا لأن قبول شهادة بعضهم على بعض كان للحاجة والضرورة فقل ما يحضر المسلمون معاملاتهم خصوصا الأنكحة والوصايا وهذا لا يتحقق في قضاء قاضي المسلمين وكتابه وخاتمه لأن الإشهاد على ذلك منه في مجلسه ومجلس قاضي المسلمين يحضره المسلمون دون أهل الذمة وإذا جاء بكتاب القاضي إن لفلان علي كذا وكذا من الدين لم يجز حتى ينسبه إلى أبيه وإلى فخذه التي هو بها أو بنسبه إلى تجارة يعرف بها مشهورة وقد بينا قول أبي حنيفة رحمه الله في النسبة إلى التجارة لأنها لا تقوم مقام النسبة إلى الفخذ إلا أن يكون شيئا مشهورا لا يخفى على أحد وإن كان في تلك الفخذ أو إلى التجارة اثنان كذلك لم يجز حتى ينسب إلى شيء يعرف به من الآخر لأنه لا بد من تميز المشهود عليه من غيره ألا ترى أنهما لو شهدا على أحد الرجلين بحضرتهما لم يقبل ذلك بدون التعيين؟ فكذلك في حق

 

ج / 16 ص -87-       الغائب لا بد من تمييز المشهود عليه من الآخر على وجه لا يبقى فيه شبهة وإن لم يكن كذلك إلا واحدا فأقام الخصم البينة أنه قد كان فيهم رجل على ذلك الاسم والنسب وأنه قد مات لم يقبل ذلك منه إذا كان موته قبل تاريخ الكتاب وإن كان بعده قبلته وأبطلت الكتاب الذي جاء به المدعي لأن الثابت بالبينة بمنزلة المعلوم للقاضي ولو كان معلوما عند القاضي وجوده وموته قبل تاريخ الكتاب لم يمتنع لأجله من العمل بالكتاب لأن في الكتاب ذكر الاسم والنسب مطلقا فإنما ينصرف ذلك إلى الحى دون الميت لأنه إذا كان المقصود الميت يذكر في الكتاب فلأن الميت وأما إذا كان موته بعد تاريخ الكتاب فكل واحد منهما كان حيا حين كتب القاضي الكتاب وليس في الكتاب ما يميز أحدهما عن الآخر أرأيت لو ادعي هذه الدعوى على ورثة الميت واحتج ورثة الميت بالحي أكان يتمكن القاضي من القضاء على ورثة الميت بشيء وليس في الكتاب ما يميز مورثهم من الآخر إلا أن يكون في الكتاب فلان بن فلان لفلان وقد مات فيعلم بذلك أن المشهود عليه الميت منهما دون الحي.
وإن كان نسبه في ذلك الكتاب إلى أبيه وإلى بكر بن وائل أو إلى تميم أو همدان لم أجزه حتى ينسبه إلى فخذه التي هو منها أدناها إليه بعد أن يقول قبيلته عليها العرافة لأن المقصود التعريف وذلك لا يحصل إلا بنسبته إلى أدنى الأفخاذ أرأيت لو قالوا فلان بن فلان العربي أو نسبوه إلى آدم صلى الله عليه وسلم أكان يحصل التعريف بذلك قال إلا أن يكون رجلا مشهورا أشهر من القبيلة فيقبل ذلك إذا نسبه إلى تلك الشهرة فالتمييز بينه وبين غيره يحصل بالشهرة فتقوم ذلك مقام ذكر الاسم والنسب.
ولو جاء بكتاب قاض بشهادة شهود على دار ليس فيها حدود لم يجز ذلك كما لو شهدوا به في مجلسه وهذا لأن المشهود به مجهول ففيما لا يمكن إحضاره مجلس القاضي التعريف بذكر الحدود فيبقى مجهولا بدونه وكذلك لو كانوا حدوها بحدين إلا في رواية عن أبي يوسف رحمه الله قال إذا ذكروا أحد حدي الطول وأحد حد العرض يجوز للقاضي أن يقضي ويكتفي به وهذا ليس بصحيح لأن بذكر الحدين لا يصير مقدار المشهود به معلوما فإن حدوها بثلاثة حدود جاز ذلك عندنا استحسانا وعلى قول زفر رحمه الله لا يجوز لبقاء بعض الجهالة حين لم يذكروا الحد الرابع وقياس هذا بما لو ذكروا الحدود الأربعة وغلطوا في أحدها ولكنا نقول قد ذكروا أكثر الحدود وإقامة الأكثر مقام الكل أصل في الشرع ثم مقدار الطول بذكر الحدين صار معلوما ومقدار العرض بذكر أحد الحدين بعد إعلام الطول يصير معلوما أيضا وقد تكون الأرض مثلثة لها ثلاثة حدود فإذا كانت بهذه الصفة فلا خلاف أنه يكتفي بذكر الحدود الثلاثة وهذا بخلاف ما إذا غلطوا في ذكر أحد الحدود لأن المشهود به بما ذكروا صار شيئا آخر والفرق ظاهر بين المسكوت عنه وما إذا خالفوا في ذكره كما إذا ادعي شراء شيء بثمن منقود فإن الشهادة على ذلك تقبل وإن سكت الشهود عن ذكر جنس الثمن ولو ذكروا ذلك واختلفوا فيه لم تقبل الشهادة فهذا مثله وإن لم يحدوها ونسبوها إلى

 

ج / 16 ص -88-       اسم معروف لم يجز ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله وجاز في قول أبي يوسف ومحمد رحمهما الله لأن التعريف بالشهرة كالتعريف بذكر الحدود أو أبلغ وذكر الحدود في العقارات كذكر الاسم والنسب في الآدمي ثم هناك الشهرة تغني عن ذكر الاسم والنسب فهذا مثله وأبو حنيفة رحمه الله يقول بالشهرة يصير موضع الأصل معلوما فأما مقدار المشهود به لا يصير معلوما إلا بذكر الحدود وجهالة المقدار تمنع من القضاء ومعنى هذا أن الدار المشهودة قد يزاد فيها وينقص منها ولا تتغير الشهرة بذلك بخلاف الآدمي فإنه لا يزاد فيها ولا ينقص منه والحاجة هناك إلى إعلام أصله وبالشهرة يصير معلوما.
ولو جاء بكتاب قاض أن لفلان على فلان السدي عبد فلان بن فلان الفلاني كذا كذا أجرته لأن المملوك يعرف بالنسبة إلى مالكه فالنسبة إلى الأب والقبيلة تتعطل بالرق وإنما ينسب إلى مالكه ألا ترى أن الولاية على المملوك لمالكه دون أبيه فإذا نسبه إلى مالك معروف بالشهرة أو بذكر الأسم والنسب فقد تم تعريفه بذلك وكذلك إن نسب العبد إلى عمل أو تجارة يعرف بها فالتعريف في الحر يحصل بذلك في ظاهر الرواية فكذلك في العبد وإن جاء بالكتاب أن العبد له لم يجز ذلك وهما في القياس سواء وقد بينا هذه المسألة في كتاب الآبق ما يقبل فيه كتاب القاضي وما لا يقبل قال وقال محمد رحمه الله لا يجوز عندنا كتاب القضاة في شيء بعينه إلا في العقار فإنه لا يتحول عن موضعه فأما فيما سوى ذلك من الأعيان لا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي لأن الإشارة إلى عينه عند الدعوى والشهادة شرط ولهذا لا بد من إحضاره بمجلس القضاء.
وإذا أتى كتاب القاضي إلى القاضي وليس عليه عنوان وهو مختوم بخاتمه فشهدت الشهود أنه كتابه إليه وخاتمه فإنه يفتحه لأنه لو كان على ظهره عنوان فيه لا يصير معلوما محكوما أنه كتاب القاضي إليه وإنما يصير معلوما بشهادة الشهود فكذلك إذا لم يكن عليه عنوان وقد ترك بعض القضاة كتبه العنوان على ظاهر الكتاب لغرض له في ذلك وليس على عنوان الظاهر اعتماد فإنه ليس يجب الختم فإن فتح الكتاب فلم يكن في داخله اسم الكاتب والمكتوب إليه أو كان فيه اسمهما دون اسم أبيهما لم يقبله لأنه إنما يقبل كتاب القاضي إليه ولا يصير ذلك معلوما إلا بالعنوان في داخله على وجه يحصل به تعريف الكاتب والمكتوب إليه فإذا لم يكن ذلك لا يقبله.
والحاصل أن العنوان الداخل عليه الاعتماد لأنه تحت الختم يؤمن فيه تغيير ذلك فإذا كان فيه تعريفا تاما يقبل الكتاب وإلا فلا وإن كان فيه أسماؤهما واسما أبائهما قبله إذا شهدت الشهود على ما في جوفه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وإن كان فيه كنايتهما دون أسمائهما لم يقبله فالتعريف لا يحصل بذلك على ما قيل المكني باكنى إلا أن يكون مشهورا كشهرة أبي حنيفة رحمه الله فحينئذ يقبل ذلك للشهرة وإن كان فيه من فلان إلى بن فلان لم يجز لأنه لا يصير معلوما بهذا فقد ينسب الفلان إلى الأب الأدنى وقد ينسب إلى

 

ج / 16 ص -89-       من فوقه وقد يكون لابنه بنون سواه فإن كان مشهورا مثل بن أبي ليلى وبن شبرمة رحمهما الله جاز ذلك لحصول المقصود بذكر ما هو مشهور ولو كتب اسم القاضي ونسبه إلى جده ولم ينسبه إلى أبيه لم يجز لأن التعريف يحصل بالنسبة إلى الأب الأدنى فالنسبة إليه حقيقة وإلى الجد مجازا ألا ترى أنه ينفي عنه بإثبات غيره؟
ولو كان على عنوانه أسمائهما وأسماء أبائهما لم يجز ذلك إلا أن يكون ذلك في داخله لأن العنوان الظاهر ليس تحت الختم فوجوده وعدمه سواء ولو كتب القاضي إلى الأمير الذي استعمله وهو في المصر معه أصلح الله الأمير ثم اقتص القصة وجاء بكتابه معه فعرفه الأمير ففي القياس لا يقبل ذلك لأن كتاب القاضي لا يثبت عند الأمير موجبا للقضاء إلا بشهادة شاهدين كالمكتوب من مصر إلى مصر وكذا لا بد من ذكر اسم الكاتب واسم أبيه واسم المكتوب إليه واسم أبيه ولم يوجد ذلك ولأنه لا حاجة في المصر إلى هذا فإنه يتيسر عليه أن يحضر بنفسه فيخبر الأمير بما يريد إعلامه ولكن في الاستحسان يجوز للأمير أن يمضي هذا لأنه متعارف ويشق على القاضي أن يأتى الأمير بنفسه في كل حادثة ليخبر بها ولأنه لو أرسل إليه بذلك رسولا ثقة كان عبارة رسوله كعبارته في حق جواز العمل به فكذلك إذا كتب إليه بذلك رقعة ولم يجر الرسم بمثله في الكتاب من مصر إلى مصر آخر فشرطنا هناك شرائط كتاب القاضي إلى القاضي.
ويجوز على كتاب القاضي الشهادة على الشهادة وشهادة امرأتين مع رجل لأنه مما يثبت مع الشبهات والشهادة على الشهادة وشهادة النساء مع الرجال حجة القضاء فيما يثبت مع الشبهات وذكر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يرزق سليمان بن ربيعة الباهلي عن القضاء كل شهر خمسمائة درهم وفيه دليل على أن الإمام يعطي القاضي كفايته من مال بيت المال وأنه لا بأس للقاضي أن يأخذ ذلك لأنه فرغ نفسه لعمل المسلمين فيكون كفايته وكفاية عياله في مال المسلمين وإن كان صاحب ثروة فإن لم يأخذ واحتسب في عمل القضاء فهو خير له والأصل فيه قوله تعالى:
{وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 6] والآية في الوصي وهو يعمل لليتيم كما أن القاضي يعمل للمسلمين وأن الصحابة رضوان الله عليهم فرضوا لأبي بكر رضي الله عنه مقدار كفايته من مال المسلمين إلا أنه أوصى إلى عائشة رضي الله عنها أن ترد جميع ذلك حتى قال عمر رضي الله عنه يرحمك الله لقد أتعبت من بعدك وعمر رضي الله عنه كان يأخذ كفايته من مال بيت المال وعلي رضي الله عنه كذلك كان يأخذ كما قال إن لي من مالكم كل يوم قصعة ثريد وعثمان رضي الله عنه كان لا يأخذ لثروته.
ثم ذكر عن شريح رحمه الله أنه قال ما لي لا أترزق وأستوفي منه وأوفيهم اصبر لهم نفسي في المجلس واعدل بينهم في القضاء وأن شريحا رحمه الله كان قاضيا في زمن عمر وعلي رضي الله عنهما وعمر رضي الله عنه كان يرزقه كل شهر مائة درهم وعلي رضي الله

 

ج / 16 ص -90-       عنه كان يرزقه كل شهر خمسمائة درهم وذلك لقلة عياله في زمن عمر رضي الله عنه ورخص سعر الطعام وكثرة عياله في زمن علي رضي الله عنه وغلاء سعر الطعام فإن رزق القاضي لا يتقدر بشيء لأن ذلك ليس بأجر فالاستئجار على القضاء لا يجوز وإنما يعطي كفايته وكفاية عياله وكان بعض أصدقاء شريح رحمه الله عاتبه في ذلك وقال لو احتسبت قال في جوابه وما لي لا أترزق فبين أنه فرغ نفسه لعمل القضاء ولا بد له من الكفاية فإذا لم يرتزق احتاج إلى الرشوة ففيه بيان أن القاضي إذا كان محتاجا ينبغي له أن يأخذ مقدار كفايته لكيلا يطمع في أموال الناس.
وذكر عبد الله بن يحيى الكندي كان يقسم لعلي رضي الله عنه الدور والأرضين ويأخذ على ذلك أجرا وفيه دليل أن القاضي يتخذ قاسما لأنه يحتاج إلى ذلك فإنه في المواريث إذا بين الأبصار بما يطالب بالقسمة ليتم بها انقطاع المنازعة وهو لكثرة أشغاله لا يتفرغ لذلك فيتخذ قاسما يستعين به عند الحاجة كما يتخذ كاتبا ثم الأولى أن يجعل كفاية قاسم القاضي في بيت المال ككفاية القاضي لأن عمله من تتمة ما انتصب القاضي له فإن لم يقدر على ذلك أمر الذين يريدون القسمة أن يستأجروه بأجر معلوم وذلك صحيح لأنه يعمل لهم عملا معلوما وذلك العمل غير مستحق عليه ولا على القاضي فالقضاء يتم ببيان نصيب كل واحد من الشركاء والقسمة عمل بعد ذلك فلا بأس بالاستئجار عليه كالكتابة ولا ينبغي له أن يكره الناس على قسامة خاصة لأن ذلك يلحق به تهمة المواضعة مع قسامه ولأنه إذا أكره الناس على ذلك يتحكم قسامه على الناس في الأجر وفيه ضرر عليهم وأيما قوم أصطلحوا على قسمة قاسم آخر جار بينهم بعد أن لا يكون فيهم صغير ولا غائب لأن الحق لهم وهم قادرون على النظر لأنفسهم فاصطلاحهم على قاسم آخر من جملة النظر منهم لأنفسهم.
وإن كان فيهم صغير أو غائب فهم يحتاجون إلى رأي القاضي في ذلك لأن الصغير والغائب عاجزان عن النظر لأنفسهما والقاضي ناظر لكل من عجز عن النظر لنفسه فإن أمرهم بالقسمة وفيهم صغير أو غائب فاستأجروا قساما غير قاسمه بأرخص من ذلك بعد أن يكون عدلا يعرفه القاضي جاز ويأمره أن يقسم بينهم لأنه إن لم يفعل هذا وألزمهم استئجار قاسمه يحكم عليهم في الأجر ثم أجر القاسم على الصغير والكبير والذكر والأنثى وصاحب النصيب القليل والكثير سواء في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما الأجر عليهم على قدر الأنصباء وهذه مسألة كتاب القسمة.
وإن اتخذ القاضي جماعة من القسامين فذلك حسن ولكن الأولى أن لا يشرك بينهم فإنه أجدر أن لا يتحكموا على الناس لأنه إذا أشرك بينهم تواضعوا على شيء فتحكموا على الناس ولأنه إذا لم يشرك بينهم يؤمن عليهم الميل إلى الرشوة لأنه إن فعل ذلك أحدهم أظهره عليه صاحبه وإذا أشرك بينهم يفوت هذا المقصود وإن قاطعوا رجلا منهم على شيء بعينه لم يدخل بقسم معه في ذلك لأنه لا شركة بينهم وإذا شهد قاسمان على قسمة

 

ج / 16 ص -91-       قسماها بين قوم بأمره بأن كل إنسان قد استوفى نصيبه جازت شهادتهما في قول أبي حنيفة وأبي يوسف الآخر رحمهما الله وفي قوله الأول لا تجوز شهادتهما وهو قول محمد رحمه الله لأنهما يشهدان على فعل أنفسهما ولأنهما في الحقيقة يدعيان إيفاء العمل الذي استؤجر عليه وأداء الأمانة في ذلك بإيصال نصيب كل واحد منهم إليه والدعوى غير الشهادة وجه قولهما أنهما لا يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما شيئا لأن الخصوم متفقون على أنهما قد وفيا العمل وأن العقد انتهى بينهم وبينهما ثم لا يشهدان على عمل أنفسهما لأن عملهما التمييز والمشهود به استيفاء كل إنسان نصيبه وذلك فعل المستوفى.
ولو شهد قاسم واحد على القسمة لم يجز لأن القاسم ليس بقاض والقاضي هو المخصوص بأن يكتفي بقوله في الإلزام فأما القاسم فيما يشهد به كغيره فلا تتم الحجة بقول الواحد وكذلك أمين القاضي إذا أمره القاضي أن يدفع مالا فقال قد دفعته وأنكر المدفوع إليه فالأمين يتصدق في نزاهة نفسه لأنه يذكر وجوب الضمان عليه ولا يصدق على الآخر أنه قبض لأنه ليس بقاض فالحجة لا تتم بقوله وأيما رجل ادعى غلطا في القسمة فإنه لا تعادله القسمة ولكنه يسأل البينة على ما يدعي من الغلط لأن الأصل هو المعادلة في القسمة والظاهر أن القاسم يؤدي الأمانة في ذلك فمن ادعى خلاف ذلك لم يصدق إلا بحجة.
ولا ينبغي للقاضي أن يتخذ قاسما ذميا ولا مملوكا ولا محدودا في قذف ولا أعمى ولا فاسقا ولا أحدا ممن لا تجوز شهادته وقد بينا هذا في الكاتب فكذلك في القاسم لأن كل واحد منهما ينوب عن القاضي فيما يكون من تتمة عمله وقد تحتاج الخصوم إلى شهادة القاسم فلا يختار لذلك الأمر إلا من يكون أهلا لأداء الشهادة لأنه إذا كان بخلاف ذلك ولم يرد القاضي شهادته وجد الناس لذلك مقالا في القاضي يقولون لم اخترته إذا كنت لا تعتمد قوله وإذا رأى القاضي وهو في مجلس القضاء أو غيره رجلا يزني أو يسرق أو يشرب الخمر ثم رفع إليه فله أن يقيم عليه الحد في القياس لأنه تيقن باكتسابه السبب الموجب للحد عليه والعلم الذي استفاده بمعاينة السبب فوق العلم الذي يحصل له بشهادة الشهود لأن ذلك محتمل الصدق والكذب وفي الاستحسان لا يقيم عليه الحد حتى لو شهد الشهود عنده بذلك عليه أو يقر بذلك لما روي أن عمر رضي الله عنه قال لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لو رأيت رجلا على حد ثم وليت هل تقيمه عليه قال لا حتى يشهد معي غيري فقال أصبت.
وعن الزهري عن أبي بكر رضي الله عنه يجوز ذلك ولأن الحدود التي هي من خالص حق الله تعالى يستوفيها الإمام على سبيل النيابة من غير أن يكون هناك خصم يطالب به من العباد فلو اكتفى بعلم نفسه في الإقامة ربما يتهمه بعض الناس بالجور والإقامة بغير حق وهو مأمور بأن يصون نفسه عن ذلك وهذا بخلاف القصاص وحد القذف وغير ذلك من حقوق الناس لأن هناك خصم يطالب به من العباد وبوجوده تنتفى التهمة عن القاضي فكان مصدقا فيما زعم أنه رأى ذلك.

 

ج / 16 ص -92-       توضيح الفرق أن المقر بالحدود التي هي من حقوق الله تعالى إذا رجع صح رجوعه ولم يكن للقاضي ولاية الإقامة لوقوع التعارض بين خبريه فكذلك إذا أخبر القاضي أنه رأى ذلك وأنكره الرجل لم يكن له أن يقيمه للتعارض بين الخبرين فكل مسلم أمين فيما يخبر به من حق الله تعالى ولهذا ضمنه في السرقة لأن ذلك حق المسروق منه ولا يعمل الرجوع فيه عن الإقرارفأما حد القذف والقصاص وغير ذلك من حقوق الناس والرجوع فيه بعد الإقرار باطل وللقاضي أن يلزمه ذلك بإقراره فكذلك له أن يلزمه بمعاينته سبب ذلك لأن معاينته السبب أقوى في إفادة العلم من إقرار المقربة وهذا إذا رأى ذلك في مصره الذي هو قاض فيه بعد ما قلد القضاء فأما إذا كان رأى ذلك قبل أن يتقلد القضاء ثم استقصى فليس له أن يقضي بعلمه في ذلك عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله له أن يقضي بعلمه في ذلك لأن علمه بمعاينة السبب لا يختلف بما بعد أن يستقصى وقبله وهو أقوى من العلم الذي يحصل له بشهادة الشهود فإن معاينة السبب تفيده علم اليقين وشهادة الشهود لا تفيده ذلك فإذا جاز له أن يقضي بشهادة الشهود عنده فلان يجوز له أن يقضي بعلم نفسه أولى ومذهب أبي حنيفة رحمه الله مروى عن الشعبي.
وشريح رحمه الله سئل عن هذه المسألة فقال أتى شريح رحمه الله مثلها وأنا شاهد فقال أنت الأمير حتى أشهد لك فقال أنشدك بالله أن يذهب حقي وأنت تعلم فقال أنت الأمير حتى أشهد لك والمعنى فيه أنه حين عاين السبب فقد استفاد به علم الشهادة وبأن استقصى بعد ذلك لا يزداد علمه بذلك وعلم القضاء فوق علم الشهادة فإن علم القضاء ملزم والشهادة بدون القضاء لا تكون ملزمة بخلاف ما إذا رأى وهو قاض لأنه استفاد علم القضاء هناك بمعاينة السبب والدليل على الفرق أن ما يستفيد من العلم بمعاينة السبب وما يستفيده بشهادة الشهود عنده في الحكم سواء ثم شهادة الشهود عنده بعد ما استقصى تفيده علم القضاء وقبل أن يستقصي لا تفيد له ذلك حتى لو استقصى شاهد الفرع لم يكن له أن يقضي بما كان من شهادة الأصول عنده ما لم يشهدوا بذلك بعد ما استقصى فكذلك عند معاينة السبب وعلى هذا الخلاف لو عاين السبب بعد ما استقصى ولكن في غير مصره ثم لما انتهى إلى مصره خوصم في ذلك لأنه حين عاين السبب لم يكن له أن يقضي به في ذلك الموضع فهو وما لو علم قبل أن يستقصي سواء ولو عاين ذلك في مصره وهو قاض ثم عزل ثم أعيد على القضاء فلا شك أن عندهما له أن يقضي بعلمه ومن أصحابنا رحمهم الله من قال عند أبي حنيفة رحمه الله أيضا له أن يقضي بعلمه لأنه استفاد علم القضاء بمعاينة السبب حتى لو قضى به في ذلك الوقت جاز ذلك فكذلك إذا قضى به بعد ما قلد ثانيا والأصح أنه على الخلاف لأنه بعد ما عزل لم يبق له في تلك الحادثة إلا علم الشهادة فهو وما لو علم به بعد ما عزل سواء.
توضيحه أنه لو سمع شهادة الشهود فلم يقض بها حتى عزل ثم أعيد على القضاء لم يقض بتلك الشهادة بخلاف ما قبل العزل فكذلك إذا عاين السبب وكان ابن أبي ليلى

 

ج / 16 ص -93-       رحمه الله يقول إذا علم قبل أن يستقصي ثم استقصى فشهد عنده رجل وأخذ بذلك قضي به وذلك مروى عن شريح رحمه الله أنه قضي بشهادة رجل واحد وقد كان علم منها علما ولكنا نقول علمه بمعاينة السبب ليس من جنس ما يحصل له من العلم بشهادة الشهود عنده وإكمال أحدهما بالآخر لا يمكن والقاضي لا يتمكن من القضاء إلا بحجة فالطريق في ذلك أن يشهد مع الرجل الآخر لصاحب الحق عند الإمام الذي فوقه حتى يقضي هو بذلك.
وإذا دفع القاضي مال اليتيم إلى تأجر فجحده التأجر فالقاضي مصدق في ذلك على التأجر يقضي عليه بالمال لأنه قاض فيما يفعله في مال اليتيم وفيما يخبر به من القضاء هو مصدق لأنه يخبر بما يملك الإنسان وكذلك لو باع مال ميت في دينه فلا عهدة على القاضي في ذلك لأن فعله ذلك من القضاء وهو فيما يلحقه من العهدة يكون خصما لا قاضيا وإذا انتفت التهمة عنه كانت العهدة على من وقع عمله لهم فإن جحد المشتري منه البيع قاضاه عليه وأخذ منه اليمين لأنه علم أنه كاذب في ذلك فهو الذي باشر السبب وكذلك هو مصدق فيما ذكر أنه قضي به من قصاص أو مال أو طلاق أو عتاق أو غير ذلك من حقوق الناس سواء أقر بذلك عندي أو قامت به بينة ويسمع للذي سمع من القاضي ذلك أن يعتمد قوله حتى في الرجم والنفس وما دونها وما يندرئ بالشبهات وما لا يندرئ بالشبهات في ذلك سواء وذكر بن سماعة عن محمد رحمهما الله تعالى أنه رجع عن هذا القول وقال في الحدود التي تندرى ء بالشبهات لا يسع السامع إقامة ذلك بمجرد قول القاضي ما لم يخبره بذلك غيره لأن القاضي غير معصوم عن الكذب فإن ذلك درجة الأنبياء صلوات الله عليهم ولا تبلغ درجة القاضي درجة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحرمة النفس عظيمة والغلط فيها لا يمكن تداركه فلا يسع الإقدام عليه بمجرد قول القاضي.
وجه ظاهر الرواية أن مجرد قول القاضي ملزم ألا ترى أن مباشرته القضاء قول ملزم فكذلك إخباره بالقضاء والدليل عليه أنه لا يستقصى في كل بلدة أكثر من واحد فلو كانت الحجة لا تتم بمجرد خبر القاضي به لجرى الرسم بإيجاد القاضين في كل بلدة لصيانة الحقوق كما جرى الرسم به في الشهود وفي الاكتفاء بقاض واحد في كل بلدة دليل الإجماع من المسلمين على أن مجرد قول القاضي حجة تامة ولو عزل عن القضاء فخاصمه المقضي عليه في جميع ذلك فقال إنما قضيت به عليك كان مصدقا في ذلك غير مسؤول ببينة ولا مستحلف يمينا لأنه أضاف إلى حالة معهودة تنافي تلك الحالة الخصومة والضمان عنه فيجب قبول قوله في ذلك كما لو أخبر به قبل أن يعزل قال مشايخنا رحمهم الله وإنما يجوز اعتماد قول القاضي في ذلك من غير أن يستفسر إذا كان فقيها ورعا فالورع يؤمننا من جوره وميله إلى الرشوة وفقهه يؤمننا من أن يغلط في ذلك فأما إذا لم يكن فقيها لا بد من أن يستفسر وإن كان ورعا لأنه ربما يغلط لقلة فهمه وكذلك إن كان فقيها ولم يكن ورعا فلا بد من أن يستفسر لأنه لقلة ورعه ربما جار في ذلك.

 

ج / 16 ص -94-       ولا ينبغي للقاضي أن يضرب في المسجد حدا ولا تعزيرا ولا يقتص لأحد من إحد عندنا وقال الشافعي رحمه الله لا بأس بذلك بشرط أن لا يلوث المسجد لأن فعل الإقامة قربة وطاعة والمساجد أعدت لذلك ثم هو من تتمة قضائه وإذا كان له أن يجلس في المسجد للقضاء كان له أن يتم القضاء بإقامة الحدود فيها وحجتنا في ذلك ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقام الحدود في المساجد" وفي حديث مكحول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وإقامة حدودكم وسل سيوفكم وبيعكم وشراءكم وطهروها في الجمع واجعلوا على أبوابها المطاهر" وروي أن عمر رضي الله عنه أمر بأن يعذر رجل وقال للذي أمره بذلك أخرجه من المسجد ثم اضربه ولم ينقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بإقامة حد على أحد في المسجد بين يديه وهذا لأنه لا يؤمن تلويث المسجد ورفع صوت المضروب بالأنين عند الضرب والمسجد يتنحى عن ذلك فإما أن يخرج القاضي ليقام بين يديه أو يبعث نائبا أو يجلس عند باب المسجد ويأمر بالإقامة بين يديه خارجا من المسجد وهو يرى ذلك.
ولو أن قاضيا باع لنفسه شيئا أو اشترى لم يقبل قوله في شيء منه على خصمه وهو كغيره من الناس في هذا لأنه فيما يعمل لنفسه لا يكون قاضيا وفيما يفعله على غير سبيل الحكم هو كسائر الرعايا ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أنكر الأعرابي استيفاء ثمن الناقة منه وقال هلم شاهدا قال لم يشهد لي حتى شهد خزيمة رضي الله عنه الحديث إذا كان هذا في حق من هو معصوم عن الكذب فما ظنك في القاضي ولا يجوز قضاؤه بشيء لنفسه ولا لولده ونوافله من قبل الرجال والنساء ولا لأبويه وأجداده من قبلهما ولا لزوجته ولا لمكاتبه ومماليكه لأن ولاية القضاء فوق ولاية الشهادة وإذا لم يجز شهادته لهؤلاء فلئلا يجوز قضاؤه لهم أولى وأما من سوى هؤلاء من القرابة وغيرهم فقضاؤه لهم جائز كما تجوز شهادته لهم.
وإذا عزل عن القضاء ثم قال كنت قضيت لهذا على هذا بكذا وكذا لم يقبل قوله في ذلك لأنه أخبر بما لا يملك استئناءه وهذا قول ملزم وهو بعد العزل كغيره من الرعايا فلا يكون قولا ملزما وإن شهد مع آخر لم تقبل شهادته في ذلك لأنه يشهد على فعل نفسه ولا شهادة للإنسان فيما يخبر به من فعل نفسه فلا بد من أن يشهد على قضائه شاهدان سواه ليتمكن المولى بعده من امضائه وإذا رفع قضاء القاضي بعد موته أو عزله إلى قاض يرى خلاف رأيه فإن كان مما يختلف فيه الفقهاء أمضاه لإجماع الناس على نفوذ قضاء القاضي في المجتهدات فلو أبطله القاضي الثاني كان هذا منه قضاء بخلاف الإجماع وإن كان القضاء الأول خطأ لا يختلف فيه الفقهاء أبطله لأنه بخلاف الإجماع أو النص ألا ترى أن الأول لو وقف على ذلك من قضاء نفسه أبطله بخلاف ما إذا تحول رأيه في المجتهدات فكذلك يفعله المولى بعد موته.

 

ج / 16 ص -95-       ولا ينبغي للقاضي أن يكون فظا غليظا جبارا عنيدا لأنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في القضاء بين الناس فينبغي أن يتحرز عن ما هو منتفى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى لم يجعلني جبارا عنيدا" وفي صفته في التوراة ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق فصلوات الله عليه ولأن هذه أوصاف مذمومة فعلى القاضي أن يتحرز عنها وهو سبب لنفرة الناس عنه قال الله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ} [آل عمران: 159] الآية والقاضي مندوب إلى اكتساب ما هو سبب لميل القلوب إليه والإجماع إليه في حوائجهم وينبغي له أن يشتد حتى يستنطق الحق فلا يدع من حق الله تعالى شيئا من غير جبر به وأن يلين حيث ينبغي ذلك في غير ضعف ولا يترك شيئا من الحق لما روينا عن عمر رضي الله عنه قال لا يصلح لهذا الأمر إلا اللين من غير ضعف القوي من غير عنف وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلين في الأمور ويرفق حتى ينتهك شيء من محارم الله فيكون من أشدهم في ذلك وينبغي له أن يتعذر إلى كل من يخاف أن يقع في نفسه عليه شيء إذا قضي عليه وأن يفسر للخصم ويبين له حتى يعلم أنه قد فهم عنه حجته وقضى عليه بعد ما فهم وبذلك تنتفي عنه تهمة الميل وينقطع عنه طمع الخصم والعالة فيه ولأنه يصون بذلك الخصوم عن الفتنة والشكاية منه وهو مندوب إلا أن لا يترك جهده في ذلك وإن كان لا يطمع في أمانته إلا نادرا فيتقدم القاضي إلى أعوانه والقوام عليه في ترك الحق والشدة على الناس ويأمرهم بالرفق واللين من غير أن يضعوا فيقصروا عن شيء مما ينبغي لأنهم ينوبون عنه فيما فوض إليهم فكما يفعل ذلك في حق نفسه يأمر به أعوانه ليكون ذلك سبب تأليف القلوب واجتماع الكلمة عليه.
ولا ينبغي أن يستعمل على القضاء إلا الموثوق به في عفافه وصلاحه وعقله وفهمه وعلمه بالسنة والآثار ووجوه الفقه التي يأخذ منها الكلام فإنه لا يستقيم أن يكون صاحب رأي ليس له علم بالسنة والأحاديث فمثله يضل الناس كما ورد به الأثر إياكم وأصحاب الرأي أعيتهم أن يحفظوها فيسألوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ولا صاحب حديث ليس له علم بالفقه فقد شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم على صاحب الحديث أن يعي ما سمعه أو لا يقوله قال صلوات الله عليه وسلامه:
"نضر الله امرأ سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه إلى غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه". فعرفنا أنه لا يستقيم واحد منهما إلا بصاحبه.
والإمام مأمور بأن لا يقلد أحدا شيئا من عمل المسلمين إلا إذا علم صلاحه لذلك قال صلى الله عليه وسلم:
"من قلد غيره عملا وفي رعيته من هو أولى به منه فقد خان الله ورسوله وخان جماعة المسلمين". وعمل القضاء من أهم أمور الدين وأعمال المسلمين فلا يختار له إلا من يعلم أنه صالح لذلك مؤدي الأمانة فيه وذلك عند اجتماع الخصال المذكورة فيه وإذا كان لا يؤتمن على شيء من المال من لا يعرف بالأمانة أو يعجز عن أدائها فلئلا يؤتمن على أمر

 

ج / 16 ص -96-       الدين أولى فكما لا يختار للقضاء إلا من يجتمع فيه هذه الشرائط فكذلك للفتوى فإن القاضي يفتي وقد كان القاضي في الصدر الأول يسمى مفتيا فلا ينبغي لأحد أن يفتي إلا من كان هكذا إلا أن يفتي شيئا قد سمعه فيكون حاكيا ما سمع من غيره بمنزلة الراوي لحديث سمعه يشترط فيه ما يشترط في الراوي من العقل والضبط والعدالة والإسلام لأن الخبر كلام فلا يتحقق بصورته ومعناه في الراوي من غير العاقل وما من موجود في الدنيا إلا وهو معتبر لصورته ومعناه فإذا كان المعنى المطلوب من الكلام البيان ولا يحصل ذلك إلا بالعقل عرفنا أن العقل في المخبر شرط والضبط كذلك لأن قبول الخبر منه باعتبار رجحان جانب الصدق فيه ولا يحصل ذلك الضبط والفهم والعدالة إلا بذلك فرجحان جانب الصدق بالعدالة يكون لأنه إذا لم ينزجر عما يعتقده حراما في دينه لا ينزجر عن الكذب أيضا واشتراط الإسلام لأن الكفر ينافي رجحان جانب الصدق في خبره لأن هذا من باب الدين وهم يعادون الدين الحق ويسعون في هدمه بما يقدرون عليه فشرطنا الإسلام لذلك.
وبعد ما استجمع في القاضي هذه الشرائط لا يولى القضاء ما لم يكن له علم بالقضاء والمراد من هذا اللفظ العلم المتعارف بين الناس ولسانهم من استعمال الحقيقة والمجاز فالقاضي لا يستغني عن ذلك ويتعذر عليه تنفيذ بعض القضاء إذا لم يكن عالما بذلك ولا يولى القضاء أعمى ولا محدود في قذف ولا مكاتب ولا عبد يسعى في شيء من قيمته لأن شهادة هؤلاء لا تقبل والقضاء أعظم من الشهادة ولا يولى أحد من أهل الذمة شيئا من أمر القضاء كتابة ولا مسائلة لظهور الخيانة منهم في أمور الدين والسعى في إفساده على المسلمين.
ولا ينبغي للقاضي إذا سافر أو مرض أن يستخلف إلا بأمر الإمام الذي هو فوقه لأن من قلده إنما رضي برأيه والناس يتفاوتون في الرأى والقضاء لا بد له من الرأى فلا يستخلف إلا بأمر من قلده كالوكيل لا يوكل غيره إلا بأمر الموكل والفرق بين القاضي والمأمور بإقامة الجمعة في الاستخلاف قد بيناه في كتاب الصلاة فإذا استخلف بغير أمر الإمام لم يجز قضاء خليفته إلا أن ينفذ هو قضاء خليفته فحينئذ ينفذه كما لو قضى به بنفسه لأن نفوذه برأيه ألا ترى أن الوكيل إذا وكل غيره حتى باشر التصرف ثم أجاز الوكيل الأول نفذ ذلك منه وجعل أجازته كإنسائه وكذلك لو حكم حكما بين خصمين فهذا والاستخلاف سواء وقيل هذا كله إذا فعله خليفته لا بحضرته فإن فعله بحضرته جاز استحسانا لأن تمامه برأيه يكون بمنزلة الوكيل إذا وكل غيره حتى باع بحضرته وإن التبس عليه القضاء فاستشار فيه رجلا من أهل الصلاح والعفة وأخذ بقوله فانفذه بين الخصمين فهو جائز لما بينا أن القاضي فيما يعجز عنه يستعين بغيره ممن علم ذلك وإن طمع القاضي في أن يصلح الخصمين فلا بأس بأن يردهما ويؤخر تنفيذ الحكم بينهما لعلهما أن يصطلحا لحديث عمر رضي الله عنه قال ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث بين القوم الضغائن وفي رواية ردوا الخصوم من ذوي الأرحام ولا ينبغي له أن يردهم أكثر من مرة أو مرتين إن طمع في الصلح لأن في

 

ج / 16 ص -97-       الزيادة على ذلك إضرار بصاحب الحق وإن لم يطمع في الصلح أنفذ القضاء بينهم لأنه انتصب لذلك وإن أنفذ القضاء بينهم من قبل أن يردهم فهو في سعة من ذلك وليس بواجب عليهم ردهم إنما الواجب عليه ما قلد من العمل وهو القضاء بالحجة وقد أتى بذلك.
وليس ينبغي للقاضي أن يسمع من رجل واحد حجتين أو أكثر من حجتين في مجلس واحد لأنه مأمور بين الناس بالتسوية وإذا سمع في مجلس واحد من رجل واحد حجتين أو ثلاثا أضر بذلك بسائر الناس إلا أن يكون الناس قليلا ولا يشغله ذلك عنهم وكان يفرغ من حوائجهم قبل أن يقوم فلا بأس به حينئذ لأنه لا ضرر فيه على أحد ممن حضر مجلسه.
ولا ينبغي للقاضي أن يقدم رجلا قد جاء رجل غيره قبله لفضل منزلته وسلطانه ولكن يقدمهم على منازلهم لأن الذي سبق بالحضور وقد استحق النظر في حاجته فلا يبطل حقه بحضور غيره كيف وقد قال صلى الله عليه وسلم:
"من تواضع لغني لغناه ذهب ثلثا دينه؟" ولأن القاضي خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والله تعالى أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بما قال: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الكهف: 28] الآية ونظر القاضي لهم بسبب الدين وفي ذلك السلطان وغيره سواء فإنما يقدمهم على منازلهم بما ذكر في بعض النسخ من أصل بعض مسائل التحكيم وتمام ذلك في كتاب الصلح فنذكر هنا مقدار ما ذكر فنقول الحكم فيما بين الخصمين بمنزلة الحاكم المولى حتى يشترط فيه الأهلية للشهادة فإذا كان أعمى أو محدودا في قذف أو عبد أو مكاتب لم يجز حكمه بين المسلمين وما يحكم به بمنزلة اصطلاح الخصمين عليه لأنه بتراضيهما صار حكما حتى أن لكل واحد منهما أن يرجع فيها ما لم يمض فيه الحكم والحكومة فإذا أمضاها فليس لواحد منهما أن يرجع فيها كما في الصلح ولو دفع حكم الحاكم إلى القاضي فإن وافق الحق ووافق رأيه أمضاه لأنه لو نقضه احتاج إلى إعادته في الحال وإن كان لا يوافق الحق أبطل وكذلك إن كان رأيه لا يوافق رأيه في المجتهدات فإنه يبطله بمنزلة إصلاح الخصمين لأن رضاهما بحكمه لا يكون حجة الالزام في حق القاضي وإن حكما رجلين فحكم أحدهما دون الآخر فإن ذلك لا يجوز لأنهما رضيا برأيهما ورأي الواحد لا يكون كرأي المثنى ولا يصدقان على ذلك الحكم بعد القيام من مجلس الحكومة حتى يشهد على ذلك غيرهما لأنهما كسائر الرعايا بعد القيام من مجلس الحكومة فلا تقبل شهادتهما على فعل باشراه.
وليس ينبغي للحكم أن يقضي في إقامة حد أو تلاعن بين الزوجين لأن اصطلاح الخصمين على ذلك غير معتبر وما يحكم به بمنزلة اصطلاح الخصمين عليه وهذا لأن إقامة الحدود واللعان بين الزوجين في حق الشرع فلا يستحق فيه إلا من يعين ثانيا وعليه استيفاء حقوق الله تعالى وهم القضاة والأئمة ألا ترى أن من عليه الحد لا يقيمه على نفسه فكذلك ليس للحكم أن يقيم شيئا من ذلك لأنه ما تعين نائبا في استيفاء حقوق الله تعالى والله تعالى أعلم بالصواب.