المحيط
البرهاني في الفقه النعماني الفصل الثالث عشر: في القاضي يجد في ديوانه
شيئاً لا يحفظوفي نسيانه قضاءه، وفي الشاهد يرى شهادته ولا يحفظ
إذا قضى القاضي بقضيته، وأتى على ذلك زمان، ثم احتاج المقضي له إلى تلك
القضية، فشهد شاهدان عند ذلك القاضي أنك قد قضيت لهذا على هذا بكذا، ولا
يتذكر القاضي ذلك، قال أبو حنيفة رحمه الله: لا تقبل هذه الشهادة، ولا يقضي
إلا بما يحفظه، وكان أبو يوسف رحمه الله أولاً يقول: القاضي يقبل هذه
الشهادة، ثم رجع فقال: لا يقبل، روى رجوعه بشر في «نوادره» ، ومحمد رحمه
الله يقول: القاضي يقبل
(8/49)
شهادتهما، ويلزم المشهود عليه ذلك، وهو قول
حسن بن زياد، وإسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة.
واجمعوا على أنه إذا لم يبينا المقضي عليه بأن شهدا عند القاضي أنك قضيت
لهذا بكذا، ولم يقولا على من قضيت، أن القاضي لا يقبل شهادتها.
حجة محمد رحمه الله: أن الأقضية تكثر، ولكثرتها لا يمكن للقاضي حفظها، فلو
لم يمكن إثباتها بالبينة لتعطلت الحقوق، ألا ترى أنه يمكن إثباتها بالبينة
عند قاض آخر، وإنما أمكن إثباتها لما قلنا، وهذا الطريق موجود في هذا
القاضي.
ولأبي حنيفة رحمه الله أنه لو قبلت هذه البينة صار القاضي خصماً؛ لأنه بهذه
البينة يثبت عليه فعله، والقاضي لا يصلح خصماً، ألا ترى أن رجلاً لو أقام
عليه بينة، أنك غصبت مني كذا، أو استقرضت مني كذا لا يقبل هذه الشهادة،
وطريقه ما قلنا؛ ولأن القضاء أعلى مرتبة من الشهادة.
ولو شهد شاهدان عند رجل أنك تحملت شهادة كذا وهو لا يتذكر، لا يسعه أن يشهد
بقولهما، فأولى أن لا يقضي القاضي بشهادتها.
وإذا وجد القاضي شهادة شهود في ديوانه، أي في خريطته، والخريطة مختومة بختم
القاضي، والشهادة مكتوبة بخطه أو بخط نائبه، إلا أنه لا يتذكر تلك الشهادة
فعلى قول أبي حنيفة: لا يقضي بتلك الشهادة، وعلى قولهما يقضي.
وكذلك إذا وجد سجلاً في خريطته، والخريطة مختومة بختمه والسجل مكتوب بخطه،
أو بخط نائبه، فالقاضي لا يمضي ذلك السجل عند أبي حنيفة رحمه الله، وعندها
يمضي.
وإذا وجد الشاهد شهادته مكتوبة بخطه، وهو لا يتذكر الحادثة، فعامة المشايخ
على أن هذا الفصل على الخلاف الذي مرّ ذكرهُ، وهو الظاهر، وذكر شمس الأئمة
السرخسي أن على قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله لا يسعه أن يشهد، وعلى
قول محمد يسعه.
وفي «نوادر بشر» عن أبي يوسف، كما ذكره شمس الأئمة، ومن هذا الجنس رواية
الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا وجد الرجل سماعه مكتوباً في
موضع لكن لا يتذكر ذلك لا يحل له أن يروي عند أبي حنيفة، وعندهما له أن
يروي، فشرط الرواية عند أبي حنيفة أن يحفظ الحديث من حين سمع إلى أن يروي،
وعندهما الحفظ ليس بشرط.
فمحمد رحمه الله وسع في هذه الفصول كلها، وجوز للقاضي قبول الشهادة على
قضائه، وجوز الاعتماد على المكتوب، وقال: النسيان مركب في الآدمي، فلو لم
يجز الاعتماد على هذه الأشياء، عند النسيان لتعطلت الحقوق، وأبو حنيفة شدد
في الكل، فلم يجوِّز للقاضي قبول الشهادة على قضائه، ولم يجوز الاعتماد على
المكتوب في الفصول الثلاث، والوجه في ذلك: أن الشهادة والقضاء يثبتان على
العلم، وكذلك رواية
(8/50)
الأخبار؛ لأنها شهادة على النبي صلى الله
عليه وسلم، ولا علم بدون التذكر، والكتاب لأجل التذكر لا لأجل الاعتماد
عليه؛ لأنه لا يؤمن فيه الزيادة والنقصان، فبدون التذكر وجوده والعدم
بمنزلة.
وأبو يوسف رحمه الله وسع فيما يجد القاضي في ديوانه مختوماً بخاتمه، وفي
رواية الأخبار، وضيق في قبول القاضي الشهادة على قضائه، وفي الشاهد يجد
شهادته مكتوبة بخطه على ما ذكره شمس الأئمة السرخسي، قال: الأخذ بالعزيمة
فيما قاله أبو حنيفة رحمه الله إلا أن رواية الأحاديث ضرورة، لأن الإنسان
سمع مثلاً عشرين ألف حديث، ولا يمكنه حفظ الكل، فلو لم يكن له أن يعتمد على
خط سماعه لتعطل ذكر الحديث، وما يتوهم من التزويد في كتابة السماع نادر
غاية الندرة، إذ لا يقع فيه ولا ضرر لأحد، وكذلك فيما يجده القاضي في
ديوانه مختوماً، بختمه ضرورة؛ لأن القضاء يكثر ولا يحفظ الكل، فيقع الحاجة
إلى الاعتماد على الخط، واحتمال الترديد منتف ظاهراً؛ لأنه في يده مختوم
بخاتمه، فالظاهر أنه لم يغير شيئاً منه، بخلاف الصك على ما ذكره شمس الأئمة
السرخسي رحمه الله؛ لأن الصك لا يكون في يد الشاهد، فلا يأمن فيه الزيادة
والنقصان حتى روي عنه أنه قال: لو كان الصك في يد الشاهد جاز له، أن يشهد
وإن لم يتذكر.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد قال: سألت محمداً رحمه الله، عن قاض يخرج من
البلدة التي هو قاض فيها، ولم يخلف عيالاً هل له أن يضع قماطره عند من يثق
به، من أهل البلدة وإذا رجع عمل بما فيه إذ القماطر بخاتمه والكتب الذي في
جوف القماطر مختمة أو غير مختمة، والقاضي يذكر قضاياه أو لا؟ قال: لا بأس
بهذا، وهذا أمر لا بأس به، ولا يمنع منه، ولو لم يجز ذلك لم يجز أن يحكم
بما في بيته، لأنه لا يؤمن أن يغير شيئاً من ذلك بعض أهله.
قال في «كتاب الأقضية» : ولو أن قاضياً عزل عن القضاء ثم رد عليه، فإنه لا
يعمل بشيء مما كان في ديوانه الأول إلا شيئاً يتذكره، اعلم بأن هذه المسألة
على وجهين:
الأول: أن يتذكر ذلك، وفي هذا الوجه لا يقضي للخلاف، أما على قول أبي حنيفة
رحمه الله؛ فلأن على قوله لا يقضي بما يجد في ديوانه الحالي، إذا كان لا
يتذكر ذلك، فأولى أن لا يقضي بما يجد في ديوانه الأول، والفرق لهما: أن
قضية القياس أن لا يقضي بما يجد في ديوانه الحالي إذا كان لا يحفظ ذلك كما
قال أبو حنيفة رحمه الله؛ لأن القضاء بغير علم لا يجوز، لكن تركنا القياس
في ديوانه الحالي ضرورة؛ لأن القاضي لكثرة اشتغاله لا يمكنه حفظ جميع
الأشياء، فلو لم يجز العمل بما في الديوان
(8/51)
عند النسيان ضاق الأمر على الناس مثل هذه
الصورة، لا يتأتى في ديوانه الأول؛ لأن بالعزل يبطل حكم ذلك الديوان؛ لأنه
لا يمكن العمل به، والباطل لا يعود، خصوصاً إذا كان ثبوته مع المنافي، فعمل
بالقياس فيما يجد في ديوانه الأول كما عمل أبو حنيفة رحمه الله.
الفصل الرابع عشر: في القاضي يقضي بقضية ثم بدا
لهأن يرجع عنه، وفي وقوع القضاء بغير حق
وإذا قضى القاضي بقضية، ثم بدا له أن يرجع عنها، فإن كان الذي قضى به خطأ
لا يختلف فيه ردّه لا محالة؛ لأنه باطل، وإن كان ذلك مما يختلف فيه الفقهاء
أمضاه لا محالة، وقضى في المستقبل بما يرى أنه أفضل.
واعلم بأن التحول من رأي إلى رأي في المجتهدات جائز؛ لأن المجتهد فيما
اجتهد لا يكون مصيباً الحق لا محالة، لأنه لا يعمل فيه بدليل قطعي، وإنما
يعمل فيه بغالب الظن، فالدليل الموجب للعلم بالرأي الأول: غلبة الظن أنه هو
الصواب، فإذا غلب على ظنه أن الصواب هو الثاني دون الأول، فقد وجد الدليل
الموجب للعمل بالرأي الثاني فيعمل به، إلا أنه يعمل بالرأي الثاني في
المستقبل دون الماضي؛ لأن الرأي الثاني حدث الآن، ولم يكن موجوداً في
الماضي، فلا يجب العمل به حال عدمه يوضحه: أن الرأي الثاني ناسخ للأول،
وإنما يعمل بالناسخ في المستقبل دون الماضي، وإليه أشار عمر رضي الله عنه
حين قضى في حادثة بقضية، وقضى بعد ذلك في مثلها بخلافه، فقيل له في ذلك
فقال تلك كما قضينا وهذه كما نقضي.
ثم قضاء القاضي إذا وقع بخلاف الحق لا يخلو عن وجهين: إما أن (73أ4) أخطأ
فيما قضى أو يعتمد الجور فيما قضى وأقر بذلك، أو أخطأ وكل ذلك على وجهين:
إما أن يكون ذلك في حقوق الله تعالى، أو في حقوق العباد.
فإن أخطأ وكان ذلك في حقوق إن أمكن التدارك والرد، بأن قضى بمال أو صدقة أو
بطلاق أو عتاق، ثم ظهر أن الشهود عبيد أو كفار أو محدودون في القذف، فإنه
يبطل ذلك القضاء، ويرد العبد رقيقاً ويرد المرأة إلى زوجها، ويرد المال إلى
من أخذ منه؛ لأنه لما بطل القضاء عاد الأمر إلى ما كان قبله، وإن كان خطأ
لا يمكن رده بأن كان قضى بالقصاص واستوفى، لا يقتل المقضي له بالقصاص، وإن
تبين أنه قتل بغير حق ويصير صُورة القضاء شبهة مانعة وجوب القصاص، ولكن تجب
الدية في مال المقضي له؛ لأن القتل الحرام في دار الإسلام لا يخلو عن عقوبة
أو غرامة، وتعذر إيجاب العقوبة فتجب الغرامة، ويكون في مال المقضي له؛ لأنه
تعذر الإيجاب على القاضي لأن خطأه موضوع عنه، إما لأنه مأمور بإتباع
الظاهر، وقد اتبع الظاهر فقد أتى بالمأمور والإتيان بالمأمور به
(8/52)
ينافي وجوب الضمان على المأمور، وإما لأنه
يتقاعد عن أمر القضاء حتى لا يلزمه الضمان عند ظهور الخطأ الذي ليس في وسعه
الاحتراز عنه، فيؤدي إلى تعطيل الأحكام؛ وإنه لا يجوز، وإذا تعذر إيجاب
الغرامة على القاضي أوجبناها على المقضي له، لأن القاضي عامل له فكان عمل
القضاء له فيكون الغرم عليه، ليكون الغرم بمقابلة الغنم، وهذا كله إذا ظهر
خطأ القاضي بالبينة أو بإقرار من المقضي له.
فأما إذا ظهر ذلك بإقرار القاضي لا يظهر ذلك في حق المقضي له، حتى لا يبطل
قضاؤه في حق المقضي له، لأن حق المقضي له قد تعلق بذلك، والقاضي بما قال
يريد إبطاله.
وهو نظير الشاهد إذا رجع عن شهادته لا يعمل رجوعه في حق المقضي له، لا
ينقضي القضاء، ولكن الشاهد يضمن كذا هنا.
وإن أخطأ وكان ذلك في حقوق الله تعالى، بأن قضى بحد الزنا أو بحد السرقة أو
بحد شرب الخمر، واستوفى القطع والرجم والحد، ثم ظهر أن الشهود عبيد أو كفار
أو محدودون في القذف، فضمان ذلك في بيت المال؛ لأنه تعذر إيجاب الضمان على
القاضي لما مر، وهذا القضاء كان لجماعة من المسلمين، فيكون الغرم في مالهم،
وإن كان القاضي تعمد الجور فيما قضى وأقر به فالضمان في ماله في هذه الوجوه
كلها، بالجناية والإتلاف على المقضي عليه، فجناية القاضي وإتلافه على الغير
سبب لوجوب الضمان، ويعزر القاضي على ذلك لإرتكابه الجريمة العظيمة، قال:
ويعزل عن القضاء ولم يقل وينعزل عن القضاء، فهذا إشارة إلى أن القاضي بمجرد
الفسق لا ينعزل، ولكن يستحق العزل، وقد مرّ هذا في صدر الكتاب والله أعلم.
الفصل الخامس عشر: فيما إذا وقع القضاء بشهادة
الزور، ولم يعلم القاضي به
الكلام في هذا الفصل في مواضع:
أحدها في العقود والفسوخ، وفيها اختلاف على قول أبي حنيفة وأبي يوسف الأول،
قضاء القاضي في العقود والفسوخ بشهادة الزور ينفذ ظاهراً وباطناً، وعلى قول
محمد وأبي يوسف الآخر ينفذ ظاهراً لا باطناً صورة المسألة، في العقود كثيرة
من جملتها:
رجل ادعى على امرأة النكاح وهي تجحد، وأقام عليها شاهدي الزور، وقضى القاضي
بالنكاح بينهما، حل للرجل وطؤها وللمرأة التمكين منه عند أبي حنيفة وأبي
يوسف الأول، وعندهما لا يحل لهما ذلك، والوجه لأبي حنيفة أن القاضي قضى
بأمر الشرع، فيجب تنفيذه ظاهراً وباطناً ما أمكن، بيان الوصف: أن دليل
الأمر بالقضاء شهادة شهودهم صدقة ظاهراً كان الصدق حقيقة، فيما لا يوقف
عليه، والشهود هاهنا صدقة
(8/53)
ظاهراً بيان التأثير أن القضاء وقع بأمر
الشرع علم أنه وقع بحق، لأن الأمر بالباطل لا يكون، وإنما يكون هذا القضاء
بحق إذا نفذ ظاهراً وباطناً وأمكن القول بنفاذه باطناً، بإنشائه النكاح
مقتضى القضاء سابقاً عليه، وللقاضي ولاية إنشاء النكاح في الجملة، وقد مست
الحاجة هاهنا إلى الإنشاء حتى لا يقع قضاؤه تمكيناً من الحد له، فيثبت
الإنشاء سابقاً على القضاء، وإذا ثبت الإنشاء كان الرجل واطئاً لامرأته،
وكانت المرأة ممكنة من زوجها، وكل ذلك جائز وصورة المسألة في الفسخ كثيرة
من جملتها:
امرأة ادعت على زوجها أنه طلقها ثلاثاً، وأقامت على ذلك شهود زور، وقضى
القاضي بالتفرقة بينهما، وتزوجت بزوج آخر بعد انقضاء العدة، فعلى قول أبي
حنيفة، وهو قول أبي يوسف الأول: لا يحل للزوج الأول وطؤها ظاهراً وباطناً،
ويحل للزوج الثاني وطؤها ظاهراً وباطناً، علم بحقيقة الحال أن الزوج الأول
لم يطلقها بأن كان الزوج الثاني أحد الشاهدين، أو لم يعلم بحقيقة الحال،
بأن كان الزوج الثاني أجنبياً وأما على قول أبي يوسف الآخر، وهو قول محمد
رحمه الله: لا يحل للثاني وطؤها إذا كان عالماً بحقيقة الحال لأن الفرقة
عندهما لم تقع باطناً، وإن لم يعلم بحقيقة الحال يحل له وطؤها، هكذا ذكر
شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الرجوع، وهل يحل للأول وطؤها؟ على قول أبي
يوسف الآخر: لا يحل مع أنه لم تقع الفرقة عنده باطناً، لأنه لو فعل ذلك كان
زانياً عند الناس فيحدونه، هكذا ذكر في بعض المواضع.
وذكر شيخ الإسلام في كتاب الرجوع عن الشهادات: أن على قول أبي يوسف الآخر
يحل للأول وطؤها سراً، وعلى قول محمد: يحل للأول وطؤها ما لم يدخل بها
الثاني، الآن يحل للأول وطؤها سواء كان الثاني يعلم بحقيقة الحال أو لم
يعلم، وهذا الجواب على قول محمد رحمه الله ظاهر فيما إذا لم يعلم الثاني
بحقيقة الحال؛ لأن الثاني تزوجها وهي في الباطن منكوحة الأول عند محمد إلا
أن الثاني لم يعلم به، فكان النكاح الثاني فاسداً عنده، فإذا دخل بها
الثاني وجب عليها العدة من الثاني، فلا يحل للأول وطؤها وإن كانت امرأة
الأول حتى تنقضي عدتها من الثاني، يشكل فيما إذا كان الثاني عالماً بحقيقة
الحال، لأنه إذا كان عالماً بحقيقة الحال لا تجب العدة من الثاني بهذا
الدخول؛ لأنه تزوجها وهو يعلم أنها منكوحة الأول فوقع نكاحه باطلاً، وكان
هذا الوطء زناً، ومنكوحة الإنسان إذا زنت لا يجب عليها العدة، ولا يحرم على
الزوج وطؤها، والوجه في ذلك: أن هذا النكاح اختلف العلماء في جوازه، وكل
نكاح هذا حاله، فالمدخول منه يوجب العدة، لأن أحداً لم يقل بجواز ذلك
النكاح، فلم ينعقد أصلاً، أما هاهنا بخلافه، ومن جملة صور الفسخ:
صبّي وصبيّة سبيا وهما صغيران فكبرا وأعتقا، ثم تزوج أحدهما الآخر، ثم جاء
حربيّ مسلماً وأقام بيّنة أنهما ولداه، فالقاضي يقضي بنسبهما ويفرق بينهما،
فإن رجع الشاهدان عن شهادتهما حتى تبين أنهما شهدا بزور لا يسع الزوج وطؤها
عند أبي حنيفة رحمه الله؛ لأنه يقضي عليه بالحرمة، وقد نفذ القضاء ظاهراً
وباطناً، وكذلك على قول
(8/54)
محمد لا يسع للزوج وطؤها؛ لأنه لا يعلم
بحقيقة كذب الشهود، فإن كان تزوجها أحد الشاهدين يجب أن تكون المسألة على
الخلاف، ومن جملة صور العقد: إذا قضى القاضي بالبيع بشهادة الزور وإنه على
وجهين:
5
أحدهما: أن تكون الدعوى من جانب المشتري بأن ادعى رجل على غيره، أنك بعت
مني هذه الجارية بكذا، وأقام على ذلك شهود زور، قضى القاضي بالجارية
للمشتري نفد قضاؤه باطناً عند أبي حنيفة حتى يحل للمشتري وطؤها، خلافاً
لمحمد رحمه الله. بعض مشايخنا قالوا: يجب أن تكون مسألة البيع على التفصيل
عند أبي حنيفة رحمه الله إن كان الثمن المذكور مثل قيمة الجارية أو أقل
مقدار ما يتغابن الناس فيه، ينفذ قضاؤه باطناً، (73ب4) وهكذا ذكر في
«المنتقى» نصاً عن أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن طريق تصحيح القضاء عند أبي
حنيفة رحمه الله في العقود والفسوخ، أن القاضي بقضائه يصير منشئاً لذلك
التصرف، وإنما يصير القاضي منشئاً فيما له ولاية الإنشاء للبيع وله ولاية
الإنشاء بمثل القيمة أو أقل مقدار ما يتغابن الناس فيه، وأما ليس له ولاية
إنشاء البيع بأقل من القيمة قدر ما لا يتغابن الناس فيه؛ لأنه تبرع بمقدار
العين فليس للقاضي ولاية إنشاء التبرع وبعضهم قالوا: لا بل ينفذ القضاء على
كل حال؛ لأن البيع وإن كان تعين فهو مبادلة، ألا ترى أنه يملكه المكاتب
والعبد المأذون، وإن كانا لا يملكان التبرع، فينفذ قضاؤه باطناً عنده، كما
في سائر المبادلات.
الوجه الثاني: أن تكون الدعوى من جانب البائع: وصورته: رجل ادعى على آخر
أنك اشتريت مني هذه الجارية، وأقام على ذلك شهود زور، وقضى القاضي بذلك، حل
للمشتري وطء الجارية، عند أبي حنيفة رحمه الله إن عزم المشتري على ترك
الخصومة حل له وطؤها، لأن بدعوى البائع وجد أحد شطري العقد والقاضي بقضائه
تولى الشطر الآخر من جهة المشتري بغير رضاه، فتوقف على اختياره، فإذا عزم
على ترك الخصومة فقد اختاره، فينفذ في حقه، هذا إذا أقام المدّعي شهود زور،
ولو لم يقم المدعي شهوداً وحلف المشتري ورد الجارية على البائع، إن عزم
البائع على ترك الخصومة حل له وطؤها، لأن بجحود المشتري انفسخ الشراء في
حقه، لأن جحوده ما عدا النكاح فسخ له، وتوقف الفسخ في حق البائع، على
اجتهاده، فإذا عزم على ترك الخصومة فقد اختاره فتم الفسخ بينهما، فيحل
للبائع وطؤها.
ثم اختلف المشايخ في تفسير العزم على ترك الخصومة قال بعضهم: تفسيره العزم
بالقلب، فقد أثبت الفسخ من جهة البائع بمجرد العزم على الفسخ وإنه مشكل؛
لأن فسخ شيء من العقود لا يثبت بمجرد النية، ألا ترى أنه لو كان في البيع
خيار شرط أو خيار رؤية ونوى بقلبه الفسخ لا ينفسخ بمجرد النية إلا أن يكون
معنى المسألة: عزم على ترك الخصومة بالوطء، فيكون الفسخ بفعل اقترنت به
النية لا بمجرد النية.
ومن جملة صور العقد: رجل ادعي على رجل هبة مقبوضة، وأقام على ذلك شهود زور،
وقضى القاضي للمدعي، فعلى قول محمد رحمه الله ينفد القضاء ظاهراً لا باطناً
(8/55)
حتى لا يحل للمقضي له الانتفاع به، وعن أبي
حنيفة رحمه الله فيه روايتان بناء على أن قضاء القاضي بالتبرعات بشهادة
الزور هل تنفذ باطناً، فعن أبي حنيفة فيه روايتان.
في رواية لا ينفذ إذ ليس للقاضي ولاية إنشاء التبرع في الجملة، وأما
الأملاك المرسلة، فالقضاء فيها بشهادة الزور لا ينفد باطناً بالإجماع؛ لأن
هناك لا يمكن تصحيح القضاء باطناً، لأنه لا يمكن إنشاء الملك سابقاً؛ لأن
إنشاء الملك مطلقاً بلا سبب ليس في وسع العباد، وتعذر إنشاء السبب لأن في
أسباب الملك كثرة، وليس البعض أولى من البعض، وأما قضاء القاضي بالنسب
بشهادة الزور فقد قيل إنه على الخلاف وقيل: إنه لا ينفد باطناً بلا خلاف.
صورة المسألة: أمة ادعت على مولاها أنها ابنته وأنه أقر بذلك وأقام على ذلك
شهود زور وقضى القاضي بذلك، حرم على المولى وطؤها عند أبي حنيفة خلافاً
لمحمد رحمهما الله فإن مات الأب وترك ميراثاً هل يحل لها أكله؟ ذكر في كتاب
الرجوع أنه يحل لها أكله من غير ذكر خلاف، واختلف المشايخ فيه.
بعضهم قالوا هو على الخلاف.
وبعضهم قالوا: لا يحل لها أكله بلا خلاف، فعلى قول هذا القائل يحتاج أبو
حنيفة رحمه الله إلى الفرق بين النسب والنكاح، والفرق أنه في قضاء النكاح
أمكن تصحيح قضائه باطناً بإنشاء السبب، لأنه ادعى السبب، ففعله كذلك
تصحيحاً لقضائه بقدر الممكن، أما هاهنا ما ادعى السبب؛ لأنه ادعى الملك
بالإرث، والثابت للوارث.
عين ما كان ثابتاً للمورث على ما عرف، والثابت للمورث ملك مطلق، فكذا
الثابت للوارث فعلم أن هذا دعوى ملك مطلق وقضاء القاضي في الأملاك المرسلة،
لا ينفذ باطناً.
وبعضهم قالوا: يحل لها أكل ميراثه بلا خلاف، فعلى قول هذا القائل يحتاج
محمد رحمه الله إلى الفرق بين النسب وما تقدم، والفرق أن المرأة لا تعرف
ثبات النسب وعلوقها حقيقة؛ لأن العلوق غيب عنها، وإنما يعرف بشهادة الشهود،
فصار حالها كحال القاضي، من حيث أن كل واحد منهما يعتمد شهادة الشهود، فيحل
لها أن تأكل ميراثه، أما في ما تقدم المدعي يعرف حقيقة الحال، ويعرف بطلانه
في الدعوى وخطأ القاضي في قضائه، فلا يثبت القضاء في حقها ما لم يكن ثابتاً
من قبل، وإن ماتت ذكر محمد هذه المسألة في كتاب الرجوع، وذكر أنه يحل له
أكل ميراثها.
قال شيخ الإسلام رحمه الله وهذا الجواب على قول الكل؛ لأن الحال لا يخلو
إما لو كانت أمته أو ابنته فإن كانت أمته، فهذا إرث أمته، فيحل له
بالإجماع، وإن كانت ابنته كان ميراثاً حلالاً لها بالإجماع، وذكر شمس
الأئمة السرخسي رحمه الله أن هذا الجواب مشكل عند الكل لو كان المذكور قول
الكل، أما عند محمد فظاهر، وأما عند أبي حنيفة رحمه الله؛ فلأن طريق تصحيح
قضاء القاضي عنده باطناً إنشاء السبب، وليس للقاضي ولاية الإنشاء في
الميراث والنسب قال محمد رحمه الله حتى قال بعض مشايخنا رحمهم الله: ما ذكر
في «الكتاب» قول أبي حنيفة وتأويله أنه يأكل ميراثها بسبب الولاء، لأن
القاضي قضى بالحرية، وله فيه ولاية الإنشاء، فيثبت الولاء له بقضاء القاضي
هذه فيأكل ميراثها بسبب القرابة.
(8/56)
قال محمد رحمه الله: والأصح عندي أنه يأكل
ميراثها عند أبي حنيفة رحمه الله بسبب القرابة، لأنه لما كان للقاضي ولاية
الإنشاء في قطع النسب باللعان، كان له ولاية الإنشاء في القضاء بالنسب إذا
صادف محله، وقد صادف محله هاهنا لأن ليس لها نسب معروف، فلهذا قال: يأكل
ميراثها، وذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الرجوع في موضع آخر أن النسب
يثبت بقضاء القاضي باطناً بشهادة الزور عند أبي حنيفة رحمه الله، وذكر وجه
ذلك فقال: إن كان القاضي لا يملك إنشاء النسب لولاية القضاء من غير بينة
يملك الإنشاء بشهادَةِ الزور، فيما يملك الخصمان إنشاءه على إحدى الروايتين
عن أبي حنيفة رحمه الله، فإنه يقول على إحدى الروايتين: القاضي يملك إنشاء
الهبة بشهادة الزور. حتى قال: بأن قضاء القاضي بشهادة الزور ينفذ باطناً
على هذه الرواية، والقاضي لا يملك إنشاء الهبة بولاية القضاء من غير بينة،
ولكن طريقه أن الخصمان يملكان إنشاءها فيملك القاضي إنشاءها بشهادة الزور.
الفصل السّادس عشر: في القضاء بخلاف ما يعتقده المحكوم أو المحكوم عليه
وفيهِ بعض مسائل الفتوى:
رجل فقيه قال لامرأته: أنت طالق البتة، وهو نواها واحدة رجعية فراجعها
ورافعته إلى قاضي، يراها ثلاثاً فجعلها ثلاثاً، وفرق بينهما، أو كان الزوج
نواها واحدة بائنة فتزوجها، ورفعته إلى القاضي يراها ثلاثاً، وفرق بينهما
نفد هذا القضاء ظاهراً وباطناً، حتى لا يحل له المقام معها، ولا يسعها أن
تمكنه من نفسها، فإن كان الزوج نواها ثلاثاً، فرافعته إلى القاضي الذي
يراها واحدة بائنة أو واحدة رجعية، فجعلها واحدة بائنة أو واحدة رجعية نفد
هذا القضاء باطناً، عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله حتى يسعه أن يراجعها
أو يتزوجها، وعلى قول أبي يوسف رحمه الله لا ينفذ هذا القضاء باطناً
فالحاصل أن المبتلى بالحادثة إن كان عامياً لا رأي له، فعليه أن يتبع حكم
القاضي فيما يقضي في تلك الحادثة سواء حصل الحكم له بأن. (74أ4) حصل الحكم
بالحل، أو حصل الحكم عليه بأن حصل الحكم بالحرمة، وإن كان المبتلى بالحادثة
فقيهاً له رأي، وحكم القاضي بخلاف رأيه إن حصل الحكم عليه بأن كان هو يعتقد
الحل، وقضى القاضي بالحرمة فعليه أن يتبع حكم القاضي، ويترك رأي نفسه بلا
خلاف، وإن حصل الحكم له بأن كان هو يعتقد الحرمة وقضى القاضي بالحل، ذكر في
بعض المواضع أنه يتبع حكم القاضي، ويترك رأي نفسه من غير ذكر خلاف، وذكر في
بعض المواضع أن على قول أبي يوسف لا يترك رأي نفسه، ولا يلتفت إلى إباحة
القاضي فيما يعتقد حراماً.
فوجه قولهما: أنا أجمعنا على أن المبتلى بالحادثة، إذا كان عامياً وقضى
القاضي له ينفذ قضاؤه، فكذا إذا كان عالماً، لأن قضاء القاضي يلزم في حق
الناس كافة يوضحه أن القاضي يقضي بأمر الشرع، وما يصير مضافاً إلى الشرع،
فهو بمنزلة النصّ، فلا يترك
(8/57)
ذلك بالرأي، كما لا يترك النصّ بالاجتهاد،
وأبو يوسف يقول: الإلزام في جانب المقضي عليه فأما في حق المقضي له فلا
إلزام، ولهذا لا يقضي القاضي بدون طلبه وفي زعمه أن القاضي مخطئ في هذا
القضاء فلا يتبعه في ذلك.
وفي «نوادر هشام» عن محمد رجل تزوج امرأة، ثم جن جنوناً مطبقاً وله والد
فادعت المرأة أنه كان حلف قبل أن يتزوج بطلاق كل امرأة يتزوجها ثلاثاً،
قال: نصب القاضي والده خصماً، فإن نصبه ورأى أن هذا القول ليس بشيء فأبطله
وأمضى النكاح ثم برئ الزوج، وهو يرى وقوع الطلاق بهذا القول، هل يسعه
المقام معها؟ قال: نعم، ولكن على قياس قول أبي يوسف لا يسعه المقام معها،
لأن الحكم وقع له.
ولو أن فقيهاً قال لامرأته: أنت طالق البتة، وهو يراها ثلاثاً فأمضى رأيه
فيما بينه وبينها وعزم على أنها حرمت عليه، ثم رأى بعد ذلك أنها تطليقة
رجعية أمضى رأيه، الذي كان عزم عليه ولا يردها لأنه لما أمضى رأيه في ذلك
صار بمنزلة انضمام الحكم إليه، فلا ينقضه بما حدث، بخلاف ما إذا قضى القاضي
بخلاف رأيه الذي عزم عليه؛ لأن قضاء القاضي أقوى من رأيه وإمضائه، فجاز
النقض به، وكذلك لو كان في الابتداء يرى أنها تطليقه رجعّية فعزم على أنها
امرأته، ثم رأى بعد ذلك أنها ثلاث تطليقات لم يحرم عليه لما ذكرنا أن الرأي
إذا اتصل به الإمضاء لم ينفسخ باجتهاد آخر، ولو كان في الابتداء لم يعزم
على ذلك لم يمض رأيه حتى رآها ثلاثاً لم يسعه المقام معها، لأن مجرد
الاجتهاد يجوز أن ينقض باجتهاد مثله، ويصير كالفاسخ له في حق وجوب العمل،
إلا إذا كان الإمضاء متصلاً بالأول، وإذا المبتلى بالحادثة فقيه له رأي،
فاستفتى فقيهاً آخر، فأفتى له بخلاف رأيه يعمل بعلم نفسه، وإن كان المبتلى
جاهلاً يأخذ بفتوى أفضل الرجال عند العامة فقهاً، ويكون ذلك بمنزلة
الاجتهاد له، فإن أفتاه مضى في تلك الحادثة، وقضى القاضي في تلك الحادثة
بخلاف الفتوى، إن كان القضاء عليه يتبع رأي القاضي، ولا يلتفت إلى فتوى
المفتي، وإن كان المفتي أعلم من القاضي في تلك الحادثة عند العامة، وإن كان
القضاء له، فهو على الاختلاف الذي مرّ ذكره، لأن قول المفتي في حق الجاهل
بمنزلة رأيه واجتهاده فصارت هذه المسألة عين تلك المسألة.
وفي «القدوري» إذا لم يكن الرجل المبتلى بالحادثة فقيهاً، واستفتى إنساناً
فأفتاه بحلال أو حرام، فإن لم يعزم على ذلك حتى أفتاه غيره بخلافه فأخذ
بقول الثاني، وأمضاه في منكوحته لم يجز له أن يترك ما أمضاه فيه، ويرجع إلى
ما أفتى به الأول، لأنه متعبد بالتقليد كما يتعبد المجتهد بالاجتهاد، فلا
يجب على المجتهد أن يعمل بما أمضاه، ولم يجز نقض ذلك ببدل الرأي، فكذا
المقلد إذا عزم على العمل بفتوى واحد من المفتين لم يسعه أن ينقض ذلك بفتوى
آخر.
وفي «النوادر» إذا حلف الرجل بطلاق كل امرأة يتزوجها، فتزوج امرأة فاستفتى
فقيهاً عدلاً، من أهل الفتوى، فأفتاه ببطلان اليمين وسعه اتباع فتواه
وإمساك المرأة.
وفيه أيضاً: إذا استفتى فقيهاً، فأفتاه ببطلان اليمين فتزوج امرأة أخرى، ثم
استفتى
(8/58)
فقيهاً آخر، فأفتاه بصحة اليمين يفارق
الأخرى، ويمسك الأولى عملاً بفتواهما، والله أعلم.
الفصل السابع عشر: في أقوال القاضي وما ينبغي
للقاضي أن يقول وما لا ينبغي
ذكر ابن سماعة عن محمد رحمه الله أنه قال: لا يجوز للقاضي أن يقول أقر فلان
عندي بكذا الشيء يقضى به عليه من قتل، أو مال أو طلاق حتى يشهد معه على ذلك
رجل عدل ليس لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: أقر بقتل أقر
بسرقة فتقطع، لو أجزت هذا لزعمت أن طاعته مفترضة بمنزلة رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وليس هذا لأحد لا قاض ولا غيره.
قال: ولا أقيم حداً على أحد بقول قاض: أقر عندي بكذا حتى يقول معه ذلك
الرجل العدل، فإن كان القاضي عندي عدلاً، والشاهد معه على ذلك عدلاً، وسعني
أن أقيم عليه، وإلا لم يصدق قولهما، ولو كان هذا الحاكم هو الذي ولي قطع يد
هذا بإقرار زعم منه عنده كان في القياس أن أقطع يده بيده، لكني أدرأ عنه
القصاص لاختلاف الفقهاء في أن قول القاضي أقر عندي بكذا نافذ عليه، قال:
واجعل الدية في ماله عليه هذا جملة ما ذكره ابن سماعة عن محمد رحمه الله.
واعلم بأن بإخبار القاضي عن إقرار رجل بشيء لا يخلو، إما أن يكون الإخبار
عن إقراره بشيء يصح رجوعه عنه كالحد في باب الزنا والسرقة وشرب الخمر، في
هذا الوجه لا يقبل قول القاضي بالإجماع، لأنه إنما يحتاج في الرجوع إلى قول
القاضي عند جحود الخصم، وإذا جحد الخصم، فقد رجع عن الإقرار، وإمّا أن يكون
الإخبار عن إقراره بشيء لا يصح عنه الرجوع كالقصاص وحد القذف، وسائر الحقوق
التي هي للعباد، وفي هذا الوجه قبل قوله في الروايات الظاهرة عن أصحابنا
رحمهم الله.
وروى ابن سماعة عن محمد رحمه الله أنه قال: لا يقبل قوله، قال شمس الأئمة
الحلواني رحمه الله: ما ذكر في ظاهر الروايات قول أبي حنيفة وأبي يوسف
ومحمد أولاً، وما روى ابن سماعة فهو قوله آخراً، ثم في بعض النسخ وقع رواية
ابن سماعة مطلقة، وفي بعضها مقيدة لا يقبل قوله، وفي بعضها لا يقبل قوله ما
لم يضم إليه عدل آخر وهو الصحيح، وجه هذه الرواية أن القاضي ليس بمعصوم عن
الكذب، فإخباره بانفراده لا يكون حجة، وكثير من مشايخنا أخذوا بهذه الرواية
في زماننا لما رأوا من فساد القضاة، وذكر بعض مشايخنا رجوعه عن هذه الرواية
برواية هشام.
وجه الروايات الظاهرة أن القاضي أمين ألا ترى أنه تنفذ قضاياه، ولو كان
متهماً لما نفد قضاؤه، لأن كونه متهماً ينافي كونه قاضياً، وألا ترى أنه
ينافي كونه شاهداً، وألا ترى أنه لا تنفذ قضاياه في حق الوالدين
والمولودين، وإنما لا ينفذ لمكان التهمة وهاهنا
(8/59)
لما نفذ قضاياه علمنا أنه ليس بمتهم، وقول
الأمين مقبول كالوكيل والمودَع.
وكان الشيخ الإمام الزاهد إمام الهدى أبو منصور الماتريدي رحمه الله يجعل
هذه المسألة على وجوه: إن كان القاضي عالماً عدلاً نقبل قوله؛ لأن علمه
يؤمنه عن الغلط، وعدالته تؤمنه عن الجور، وإن كان عدلاً غير عالم لم يستفسر
إن أحسن ذلك قبل قوله، وإن كان جاهلاً فاسقاً أو فاسقاً غير جاهل لا يقبل
قوله إلا أن يعاين السبب.
وأنكر بعض مشايخنا ذلك، وقال: مع جهله أو فسقه لا يقبل قوله أصلاً؛ لأنه
يخاف عليه إما الغلط أو الجور، وهذا إذا أخبر القاضي عن ثبوت الحق
بالإقرار، فأما إذا أخبر عن ثبوت الحق بالبينة بأن قال: قامت بذلك بينة
عندي وعدلوا وقبلت شهادتهم على ذلك، قبل قوله وله أن يحكم بها بخلاف
الإقرار لأن رجوع الخصم ثمة يعمل، وهاهنا رجوع الخصم لا يعمل هذا الذي
ذكرنا إذا أخبر القاضي عن شيء وهو قاض.
فأما إذا أخبر عن شيء بعد العزل وصورته، إذا عزل القاضي فجاء رجل وخاصمه
إلى القاضي المقلد، وقال: إنه وقع مالي، (74ب4) وذلك كذا وكذا إلى هذا بغير
حق أو قال: إنه قتل ولي فلاناً، وهو قاض بغير حق وقال القاضي المعزول فعلت
ما فعلت بقضاء قضيته عليه بإقراره، أو ببينته فعلى رواية ابن سماعة لا يقبل
قوله: لأنه على روايته لا يقبل قوله، وهو قاض فأولى أن لا يقبل قوله بعد
العزل.
فأما على الرواياتِ الظاهرة المسألة على وجهين: إما أن كان العين الذي وقع
فيه الخصومة قائماً أو كان هالكاً، وفي الوجهين جميعاً، لا ضمان على
القاضي، وكذلك إذا قال القاضي المعزول لرجل: قضيت عليك لفلان بألف وأخذتها
منك ودفعتها إليه حين ما كنت قاضياً، وقال الرجل: لا بل أخذتها مني بعد
العزل ظلماً، فالقول قول القاضي على الروايات الظاهرة؛ لأن القاضي أضاف
إقراره إلى حالة معهودة له ينافي في تلك الحالة وجوب الضمان عليه، فإن فعل
القاضي على وجه القضاء لا يوجب الضمان بحال من الأحوال، فيكون بالإضافة إلى
تلك الحالة منكراً للضمان، والقول للمنكر في الشرع وصار كالوكيل بالبيع إذا
قال بعد العزل: قد كنت بعت وقبضت الثمن وهلك الثمن في يدي وكان ذلك قبل
العزل، وقال الموكل: استهلكت ببيعه لا يوجب الضمان على الوكيل، وإنما لا
يضمن؛ لأن فعل الوكيل على وجه الموافقة لا يوجب الضمان بحال فيكون بالإضافة
إلى تلك الحالة منكراً للضمان، وكذلك إذا قال الوصي للصبي بعد البلوغ:
أنفقت عليك من مالك كذا وكذا وذلك نفقة مثله، وقال الصبي: لا بل استهلكت
مالي، فالقول قول الوصي؛ لأن فعل الوصي بالمعروف لا يوجب الضمان بحال فيكون
بالإضافة إلى تلك الحالة منكراً للضمان وهل ينزع ذلك الشيء من يد المقضي له
إن كان قائماً؟ فهو على وجهين.
إن كان صاحب اليد يقول هذا العين ملكي من الأصل لم آخذه من هذا، ولم يقض
القاضي المعزول لي به لا ينزع من يده؛ لأن المال في يده، واليد دليل الملك،
فيحال الملك عليه إلا إذا وجد دليلاً آخر بخلافه.
(8/60)
وإن كان صاحب اليد يقول: هذا العين ملكي؛
لأن القاضي المعزول قضى لي به على هذا الرّجل كونه قاضياً ينزع من يده،
ويسلم إلى المقضي عليه لأنهم تصادقوا على وصول هذا العين إلى المقضي له من
جهة المقضي عليه بفعل ذلك القاضي والمقضي له بالإضافة إلى القضاء في تلك
الحالة يدعيان التملك عليه وهو منكر، فالقول قول المنكر، أما إذا كان العين
مستهلكاً، فالدعوى في الحاصل في الضمان، والقاضي بالإضافة إلى تلك الحالة
منكر للضمان، والقول قول المنكر في الشرع، ولهذه المسألة أجناس كثيرة
موضعها «إقرار الأصل» و «الزيادات» .
قال في «أدب القاضي» : وللقاضي أن يقرض أموال اليتامى، وهذا مذهبنا خلافاً
للشافعي، وهذا لأن القاضي يحتاج إلى حفظ أموال اليتيم، وقل ما يمكنه الحفظ
بنفسه فيحتاج إلى الدفع إلى غيره، والدفع بطريق الإقراض أنفع لليتيم من
الدفع بطريق الإيداع، لأن الوديعة إذا هلكت في يد المودع هلكت من مال
اليتيم، والقرض إذا هلك في يد المستقرض يهلك من مال المستقرض، فهو معنى
قولنا: إن الإقراض أنفع لليتيم، فإذا ملك القاضي الإيداع أولى أن يملك
الإقراض.
قال في «الأقضية» : وإنما يملك القاضي الإقراض إذا لم يجد ما يشتري به
لليتيم (و) يكون لليتيم منه غلة، فأما إذا وجد لا يملك الإقراض بل يتعين
عليه الشراء، قال هكذا روي عن محمد رحمه الله، وكذلك إذا وجد من يدفع إليه
ماله مضاربة يدفع ماله مضاربة، ولا يقرض؛ لأنها أنفع في حق الصغير؛ لأنه
يجعل به الربح للصغير وبالقرض لا يحصل، وإذا أقرض ينبغي أن يقرض من المليء
لا من المفلس؛ لأن المال في ذمة المفلس يأوي، وينبغي أن يكتب من أقرضه صكاً
خوفاً عن النسيان كيلا يفوت حق الصبيان، وينبغي أن يتفقد عن أحوالهم في كل
وقت حتى إذا أفلس واحد منهم يسترد منه المال، إذ كما لا يجوز أن يقرض
المفلس لا يجوز أن يترك المال على المفلس.
قال هشام: يذكرنا عن محمد رحمه الله في الأموال التي تجمع عند القاضي
لأيتام أي ذلك أفضل للقاضي دفعها بوديعة أو بضمان؟ فأخبرنا أن أبا حنيفة
وابن أبي ليلى وأبا يوسف رحمهم الله، كانوا يرون أن يدفعها بضمان، قال:
وكذلك قول محمد رحمه الله إذا كان الذي يضمن يوفي المحيا والممات، قال:
وليس للقاضي أن يستقرض لنفسه ذلك.
في «المنتقى» لو أن قاضياً باع مال يتيم بنفسه، أو أودع مال يتيم أو باع
أمينه بأمره، وهو يعلم بذلك من رجل، ثم مات هذا القاضي واستقضي غيره، فشهد
قوم أنهم سمعوا القاضي الأول يقول: استودعت فلاناً مال اليتيم، أو يقول:
بعت فلاناً مال فلان اليتيم بكذا وكذا فجحد فلان، قال: يقبل القاضي الثاني
هذه الشهادة، ويأخذ المستودع والمشتري بالمال وإن لم يكن الأول أشهدهم أنه
قضى بذلك، قضاؤه وقوله عليه سواء، وإذا قبض القاضي مال يتيم أو غائب ووضعه
في بيته، ولا يعلم أين هو؟ فهو ضامن، وإن
(8/61)
علم أنه دفعه إلى قوم ولا يدري إلى من
دفعه؟ فلا ضمان عليه، وكذلك إذا قال القاضي: دفعت إلى ولي من أولياء
الأيتام، ولا أدري إلى من دفعته فلا ضمان عليه.h
في «المنتقى» أيضاً ذكر في «الأصل» وسبيل القاضي أن يرد الخصوم إلى إذا لم
يستبين له فصل القضاء وإذا استبان له فصل القضاء، ذكر شمس الأئمة السرخسي
رحمه الله: أنه إذا طمع في الصلح حال استبيانه القضاء ردهم إلى الصلح ولا
يقضى ما لم ييأس عن الصلح.
وذكر في «أدب القاضي» وإذا طمع القاضِي في اصطلاح الخصمين، فلا بأس بأن
يردهم، ولا ينفذ الحكم عليهم، ولا ينبغي أن يردهم بأكثر من مرتين، فإن لم
يطمع في الصلح أنفذ القضاء بينهم، وإن أنفذ القضاء بينهم من غير أن يردهم،
فهو في سعة منهم، يريد به، وإن طمع في الصلح، وإذا أراد القاضي كتابة
السجلات والمحاضر بنفسه، وأراد أن يأخذ على ذلك أجراً فله ذلك، لأن هذا ليس
من عمل القضاء فإن تمام القضاء بالحكم، وكتابة السجل أمر زايد عليه، ولكن
إنما يأخذ بقدر ما يجوز أخذه لغيره، والتقدير فيما يجوز أخذه لغيره.
يحكى عن السيد الإمام الأجل أبي شجاع رحمه الله عن أبي حنيفة رحمه الله،
وعن بعض المتقدمين: في كل ألف درهم خمسة دراهم، وفيما دون الألف إذا كان
مشقة كتابته مثل مشقة كتابة الألف خمسة أيضاً، وإن كان على النصف من ذلك،
ففيه درهمان ونصف وإن كان ضعف ذلك عشرة دراهم.
وفي «فتاوى النسفي» وإذا كان القاضي يتولى القسمة بنفسه حل له أخذ الأجر
وكل نكاح باشره القاضي وقد وجب مباشرته عليه كنكاح الصغار والصغائر، فلا
يحل له أخذ الأجرة عليه، وما لم يجب مباشرته عليه حل له أخذ الأجرة عليه،
وأراد أن يبيع مال اليتيم لمصلحة اليتيم لا ينبغي له أن يأخذ الأجر من مال
اليتيم لأجل هذا الأذن، ولو أخذ وأذن بالبيع لا ينفذ بيعه، وإذا غاب الرجل
عن امرأته، وتزوجت بزوج آخر، ثم حضر الزوج الأول وأقام البينة على النكاح،
والمرأة تدعي الطلاق فالقاضي لا يعزرها، هكذا حكى فتوى شمس الإسلام
الأوزجندي رحمه الله؛ لأنه يمكنها أن تقول: طلقني إلا أني ما وجدت البينة
على الطلاق.
غريب مات في بلدة وترك أموالاً، فقاضي البلدة يتربص مدة يقع في قلبه أنه لو
كان له وارث يحضر في هذه المدة، فإذا تربص هذه المدة، ولم يحضر له وارث
يضعها في بيت المال ويصرفها إلى القناطر، ونفقة الأيتام وأشباه ذلك، وإذا
حضر الوارث بعدما صرفها إلى المصارف يقضي حقه من مال بيت (75أ4) المال قال
في «الأصل» .
قال أبو حنيفة رحمه الله: ويكره للقاضي تلقين الشهود بأن يقول له اشهد
بكذا، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا بأس به.
وقال في «المنتقى» : قال أبو يوسف رحمه الله: لا بأس بتلقين الشاهد إذا كان
عدلاً، وإنما قال أبو يوسف ذلك حين ابتلي بالقضاء، ورأى بعض الشهود عجزاً
عن أداء
(8/62)
الشهادة، وهذا لأن بمجلس القضاء هيبة،
وللقاضي حشمة، ومن لم يتعود التكلم في هذا المجلس يتعذر عليه البيان إذا لم
يسعه على البيان القاضي.
قال في «الأصل» : وإذا ارتاب القاضي في أمر الشهود فرق بينهم لا يسعه غير
ذلك، ويسألهم أيضاً أين كان هذا؟ ومتى كان هذا؟ ويكون هذا السؤال بطريق
الاحتياط، وإن كان لا يجب هذا على الشهود في الأصل، فإذا فرقهم، فإن
اختلفوا في ذلك اختلافاً يفسد الشهادة ردها، وإن كان لا يفسدها لا يردها،
وإن كان يتهمهم، فالشهادة لا ترد بمجرد التهمة.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف قال أبو حنيفة رحمه الله: إذا اتهم
الشهود فرق بينهم، ولا يلتفت إلى اختلافهم في لبس الثياب، وعدد من كان معهم
من الرجال والنساء، ولا إلى اختلاف المواضع بعد أن يكُون الشهادة على
الأقوال، وإن كانت الشهادة على الأفعال، فالاختلاف في المواضع اختلاف في
الشهادة.
وقال أبو يوسف رحمه الله: إذا اتهمتهم ورأيت الريبة، وظننت أنهم شهود الزور
أفرق، وأسألهم عن المواضع والثياب ومن كان معهم، فإذا اختلفوا في ذلك، فهذا
عندي أبطل به الشهادة.
وعن إبراهيم عن محمد رحمه الله في شاهدين شهدا لرجل بدار، فالقاضي يسألهما
كيف هي العلة لا يقطع بشهادتهما شيئاً، فإن قال الشاهد: لا أخبرك، ولا أزيد
على هذا هي له، أمضيت الشهادة.
وعن أبي يوسف: رجل ادعى عبداً في يد إنسان فالقاضي لا يسأل صاحب اليد من
أين هذا لك؟ وقال أبو حنيفة رحمه الله: ليس للقاضي أن يقول للشهود بشيء
لرجل لا يعلمونه باع أو وهب، وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمهما الله
إذا شهد عند القاضي شاهدان بدار لرجل فله أن يسألهما عن البناء، والله
أعلم.
الفصل الثامن عشر: في قبضِ المحاضِر من ديوان القاضي المعزول
إذا عزل القاضي وقلد غيره ينبغي للقاضي المقلد أن يبعث أمينين من أمنائه
ليقبضا من القاضي المعزول ديوانه، وديوان القاضي خريطته التي فيها الصكوك
والمحاضر، ونصب الأوصياء والقُوام في الأوقاف، وتقدير النفقات وما يشاكله؛
لأن القاضي يكتب لهذه الأشياء نسختين يضع إحداهما في يد الخصم والقيم،
والأخرى يجلدها في ديوانه، حتى إذا احتاج إلى الرجوع إليها أمكنه العمل بها
عن إيقان، فما في يد الخصم لا يؤمن عليه التغير والتبديل، والقاضي المقلد
يحتاج إلى قبض ذلك؛ لأنه يحتاج إلى الرجوع إلى ذلك في الحوادث التي ترفع
إليه، فيبعث أمينين من أمنائه ليقبضا ذلك، وإن أبى القاضِي المعزول الدفع،
فإن كان البياض الذي كتب عليه نسخة هذه الأشياء من بيت المال يجبر
(8/63)
على الدفع، لأنه إنما اتخذ ذلك للعمل به،
وقد صار العمل لغيره، فلا يترك في يده، وإن كان ذلك من مال القاضي أو من
مال الخصوم فقد اختلف المشايخ فيه.
والأصح أنه يجبر على الدفع؛ لأنه ما اتخذه للتمويل بل للعمل به إحياء لحق
المسّلمين، وقد صار العمل إلى غيره، وإذا قبضا ديوانه يقبضان الودائع
وأموال اليتامى أيضاً ويكون عند المقلد، ويأخذان أسماءَ المحبوسين أيضاً،
فالقاضي إذا حبس رجلاً بحق ينبغي أن يكتب اسمه واسم أبيه وجده، والسبب الذي
لأجله حبسه، وتاريخ الحبس، لأنه يحتاج إليه لسماع البينة على الإفلاس،
فيأخذان ذلك أيضاً، ويجعل القاضي المقلد ذلك في ديوانه، وينبغي أن يذكر في
تذكرته تاريخ الحبس من الوقت الذي أثبته المعزول لا من وقت عمله، لأنه بناء
على ذلك الحبس، ويسألان القاضي المعزول عن المحبوسين، وأسباب الحبس لا، لأن
قول القاضي المعزول حجة، وكيف يكون حجة وإنه بالعزل التحق بواحد من
الرعايا؟ ولكن ليكشف ويسأل المحبوسين عن أسباب الحبس، ويجمع بينهم وبين
خصومهم، وإن كان في المحبوسين جماعة لم يحضر لهم خصماً، وقالوا: حبسنا بغير
حق، فالقاضي المقلد لا يطلقهم تحسيناً للظن بالقاضي المعزول فيما باشر من
حبسهم، ويأمر منادياً بالنداء أنا وجدنا فلاناً وفلاناً محبوسين، فمن كان
له عليهم حق فليأتنا، فإن حضر رجل فصل الخصومة بينهما على وجهه، وإلا
أطلقهم بكفيل.
وتقدير مدة النداء والمدة التي يسع فيها الإطلاق موكول إلى رأي القاضي قبل
ما ذكر هاهنا من أخذ الكفيل قولهما، أما على قول أبي حنيفة رحمه الله لا
يأخذ بناءً على مسألتين:
إحداهما: إذا قسم القاضي التركة بين الورثة لا يحتاط بأخذ الكفيل عند أبي
حنيفة، خلافاً لهما.
الثانية: إذا قضى القاضي دين الغرماء من التركة لا يحتاط بأخذ الكفيل عند
أبي حنيفة خلافاً لهما.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: يأخذ الكفيل هاهنا
على قول الكل، والفرق لأبي حنيفة رحمه الله أن في مسألة القسمة، وقضاء
الدين حق هذا الذي حضر ظاهر، وحق الآخر موهوم، ولا يجوز تأخير هذا الحق
الظاهر، إلى وقت أخذ الكفيل لحق موهوم، أما في هذه المسألة الحق ظاهر؛
لأنَا نحمل فعل القاضي المعزول على السّداد، فلا يكون في أخذ الكفيل تأخير
حق ظاهر لحق موهوم.
ثم اعلم بأن الحبس أنواع أحدها: الحبس بالدين وإنه يشتمل على فصول.
الأول: إذا قال المحبوس: حبست بدين فلان أقررت به عند القاضي المعزول،
فالقاضي المقلد يجمع بين المحبوس وبين خصمه، فإن صدقه خصمه في ذلك أعاده
إلى الحبس إذا طلب خصمه ذلك، وأما إذا أنكر المحبوس بالدين، وقال: إن هذا
يدعي علي شيئاً بغير حق وقد حبسني ظلماً وخصمه يقول: لي عليه كذا، وقد
حبسته بحق، فالقاضي
(8/64)
يأمر خصمه بإقامة البينة على ما ادعى، فإذا
أقام وعرفهم القاضي بالعدالة أدام حبسه، وإن لم يعرفهم بالعدالة واحتاج إلى
السؤال أخذ كفيلاً بنفسه، ويطلقه ولا يحبسه، أما لا يحبسه لأنه لم يظهر سبب
حبسه، وأما لا يطلق بدون الكفيل نظراً للمدعي، لأنه لو حضر البينة لم يجد
المدعى عليه.
وإن قال بعض المحبوسين: أنا محبوس بدين فلان، فمره يأخذ مني كفيلاً
ويطلقني، فالقاضي يأمر بإحضار خصمه، فإذا حضر وصدق المحبوس في إقراره،
والقاضي يعرف المقر له باسمه ونسبه أو لم يعرفه، ولكن شهد الشهود بذلك، أو
لم يشهد الشهود بذلك، وفي الوجوه كلها القاضي يأمر المحبوس بأداء المال
إليه؛ لأن إقراره حجة عليه، ولا يطلق لتهمة المواضعة، ويأمر منادياً
بالنداء على ما بينا، فإن لم يحضره خصم آخر أطلقه في الوجوه كلها، ولم يذكر
الخصاف أخذ الكفيل في الوجه الأول والثاني، وذكر في الوجه الثالث، وبعض
مشايخنا ذكروا أخذ الكفيل في الوجوه كلها؛ لأن أخذ الكفيل للتوثق، وفي هذا
المعنى الوجوه الثلاثة سواء، وكذلك إذا لم يجيء المحبوس بالمال، ولكن قال
المقر له: أنا أختار الرفق، وأمهله مدة كذا، وأطلقه، فالقاضي لا يطلقه،
ويحتاطه بالطريق الذي قلنا، ثم يطلق بكفيل، وإن قال المحبوس: لا كفيل لي،
أو قال: لا يجب علي إعطاء الكفيل إذ ليس لي خصم يطلب مني الكفيل، فالقاضي
يتأنى في ذلك، ولم يعجل بإطلاقه حتى ينادي، فإن لم يحضر له خصم بعد ذلك
أطلقه.
الوجه الثاني: الحبس بسبب العقوبات الخالصة حقاً للعبد، كالقصاص، فإذا قال
بعض المحبوسين: إنما حبست لأني أقررت بالقصاص لفلان، وجمع القاضي بينه وبين
خصمه، وصدقه خصمه فيما أقر، ولا يخلو ذلك من أحد وجهين: إما أن يكونَ
(75ب4)
القصاص في النفس أو في الطرف، فإن كان في النفس يخرجه القاضي من السّجن،
ويمكن خصمه من الاستيفاء، ولا يتأنى بخلاف ما لو أقر بمال؛ لأن هناك يتأتى
تهمة المواضعة بأن تواضعا حتى يقر لهذا الرجل بالمال، ويدفع إليه المال،
حتى يتخلف عن السجن، ثم إذا خرج من السجن أخذ ما دفع، ويكون الخصم غيره،
أما هاهنا لا يتأتى تهمة المواضعة؛ لأن الإنسان لا يجود بنفسه ليتخلص عن
السجن، فلهذا افترقا، وإن كان القصاص في الطرف يخرجه القاضِي من السّجن
أيضاً، ويمكن خصمه من الاستيفاء، ولكن لا يعجل في إطلاقه لجواز أن يكون
لرجل آخر عليه حق في نفسه، فتواضع مع هذا الرجل ليغر له بطرفه ليتخلص عن
السجن، فيبطل حق الآخر في النفس.
الثالث: الحبس بسبب العقوبات الخالصة حقاً لِلّهِ تعالى نحو الزنا، وشرب
الخمر والسرقة، إذا قال بعض المحبوسين: إنما حبست، لأني أقررت بالزنا عند
القاضي
(8/65)
المعزول أربع مرات في أربع مجالس، فحبسني
ليقيم عليّ الحدّ، فالقاضي المقلد لا يقيم عليه الحدّ بتلك الأقارير؛ لأن
تلك الأقارير لا تكون حجة في حق القاضي المولى، فيستأنف الأمر، فإن أقر
عنده أربع مرات في أربع مجالس، أقام عليه الحد، تقادم العهد أو لم يتقادم؛
لأن تقادم العهد يمنع صحة الشهادة، أما لا يمنع صحة الإقرار فيرجمه إن كان
محصناً، ويجلده إن كان غير محصن، ولكن لا يعجل في إطلاقه لجواز أنه يجيء
خصم في نفسه، وإن رجع عن الإقرار صح رجوعه، كما لو رجع عند القاضي الأول،
ولكن لا يعجل القاضي في إطلاقه لتوهم الحيلة.
وإن قال: إنما حبست لأنه قامت البينة علي بالزنا، فحبسني القاضي المعزول
ليقيم علي الحد، فيقول: البينة القائمة عند القاضي المعزول غير معتبرة في
حق هذا القاضي، فلا يقيم عليه الحد بتلك البينة، ولو شهد الشهود عند هذا
القاضي بزناه لا يقيم عليه الحد أيضاً، إذا كان العهد قد تقادم؛ لأن تقادم
العهد يمنع صحة الشهادة، ولا يعجل في إطلاقه لتوهم الحيلة بل يتأنى، ويطلقه
بعد ذلك بكفيل لما ذكرنا.
فإن قال بعض المحبوسين: إنما حبست لأني أقررت بشرب الخمر عنده، أو لأنه
قامت البينة عليّ بشرب الخمر فحبسني ليقيم عليّ الحدّ، فهذا القاضي لا يقيم
عليه الحد عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن حد الشرب إنما يقام على الشارب إذا
كان الخمر في بطنه، والرائحة توجد منه عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله
البينة والإقرار في ذلك على السواء، والمسألة معروفة في الحدود.
وإن قال: إنما حبست لأني أقررت بالسرقة من فلان، أو لأنه قامت البينة عليّ
بالسرقة من فلان، فإن هذا القاضي يجمع بينه وبين خصمه؛ لأن الدعوى في
السرقة شرط كما في باب المال، ولا يقضى عليه بالقطع تقادم العهد أو لم
يتقادم، ولا يعجل في إطلاقه، ولو قامت البينة ثانياً لا يقضي عليه بالقطع
إذا تقادم العهد فحد السرقة وحد الزنا في حق هذا الحكم على السواء.
الرابع: الحبس بسبب عقوبة هي بين حق الله تعالى وبين حق العبد، وهو حد
القذف، إذا قال بعض المحبوسين: إنما حبست لأني قذفت هذا الرجل بالزنا،
وصدقه ذلك الرجل في إقراره استوفى منه حد القذف، ولا يعجل القاضي في
إطلاقه، ولو رجع عما أقر لا يصح رجوعه بخلاف الرجوع عن الحدود الخالصة لله
تعالى.
جئنا إلى حكم الودائع والأموال.
إذا قال القاضي المعزول: على يدي فلان كذا وكذا دفعته من المال إليه، وهو
لفلان بن فلان، فإن صدقه الذي في يديه المال في جميع ذلك أمر بالتسليم إلى
المقر له، وهذا ظاهر، وإن قال: دفع إلي فلان القاضي المعزول هذا القدر من
المال لكن لا أدري أنه لمن، وفي هذا الوجه أمر بالتسليم إلى المقر له
أيضاً، لأنه أقر أن المال وصل إليه من جهة القاضي المعزول، فكان يده يد
القاضي المعزول معنىً، وقد أقر القاضي المعزول أنه لفلان، وصاحب اليد إذا
أقر بما في يده لغيره أمر بالتسليم إليه، وإن كان صاحب اليد
(8/66)
كذب القاضي المعزول في جميع ما قال، فالقول
قوله، وهذا ظاهر أيضاً، وإن كان صاحب اليد قال: دفع إلي القاضي المعزول هذا
القدر من المال، وهو لفلان آخر غير الذي أقر له القاضي، فهذا على وجهين:
أحدهما: هذا، وفي هذا الوجه يؤمر بالتسليم إلى الذي أقر له القاضي؛ لأنه
لما أقر بالوصول إليه من جهة القاضي، فقد أقر باليد للقاضي من حيث المعنى،
فلو كان في يد القاضِي حقيقة وهو يقول: إنه لفلان يؤمر بالتسليم كذا هاهنا.
الوجه الثاني: إذا بدأ بالإقرار بالملك بأن قال: المال الذي في يدي لفلان
غير الذي أقر له القاضي المعزول دفعه إلى القاضي المعزول أمر بالتسليم إلى
الذي أقر له صاحب اليد؛ لأن إقراره بالملك الأول قد صح لأنه أقر بما في
يده، وتعلق به حق المقر له، فإذا قال بعد ذلك: دفع إلى القاضِي المعزول،
فقد أقر باليد للقاضي المعزول، والقاضي المعزول يقر أنه لفلان، فقد أقر لمن
أقر له القاضي به بعد ما أقر به الأول، فلا يصح إقراره للثاني في حق الأول،
فإن دفع إلى الأول بغير قضاء ضمن للثاني، وإن دفع بقضاء، فكذلك عند محمد،
وعند أبي يوسف لا يضمن.
أصل المسألة: إذا أقر الرجل أن هذا المال الذي في يدي لفلان دفعه إلى فلان
آخر، وقال الدافع: هو ملكي، فإن هناك يؤمر المقر بالتسليم إلى المقر له
الأول، وهل يضمن للثاني؟ فهو على التفصيل والاختلاف الذي ذكرنا، والمسألة
معروفة في كتاب الإقرار.
وإن قال القاضي المعزول: في يدي ألف درهم أصابه فلان اليتيم من تركة أبيه،
وصدقه ذو اليد في ذلك، فإن لم يدع أحد من باقي الورثة ذلك المال فهو
لليتيم؛ لأن صاحب اليد أقر للقاضي المعزول، والقاضي المعزول يقر به لليتيم،
ولم ينازعه في ذلك أحد، فيكون ذلك لليتيم، وإن قال باقي الورثة: لم يستوف
منا أحد حقه من تركة الميت كان ذلك المال مشتركاً بين جميع الورثة، واليتيم
من جملتهم؛ لأن اليد للقاضي المعزول معنى، وهو قد أقر أن المال كان لوالد
اليتيم، وما كان للإنسان يصير ميراثاً لجميع ورثته، ولا يختص به البعض إلا
إذا ثبت استيفاء الباقين حقوقهم، ولم يثبت ذلك بقول القاضي المعزول لما
أنكروا الاستيفاء؛ لأن القاضي المعزول بالعزل التحق بواحد من الرعايا، فقد
صح إقرار القاضي المعزول أن هذا ملك والدهم باعتبار اليد المقر به، ولم يصح
إقراره على سائر الورثة بالاستيفاء باعتباره يده المعنوية، وإذا لم يثبت
هذا الاستيفاء، فإن هذا المال تركة الميت، فيقسم بين سائر الورثة، واليتيم
من جملتهم، إلا أنه ينبغي للقاضي المقلد أن ينظر لليتيم ويحلف باقي الورثة
بالله: ما استوفيتم حقوقكم من تركة والدكم فلان؛ لأنه عاجز عن النظر بنفسه
فينظر له القاضي المقلد.
وإن قال القاضي المعزول: هذا المال لفلان اليتيم، ولم يقل: أصابه من تركة
والده، وادعى باقي الورثة أنه من تركة والدهم فالمال لليتيم؛ لأن القاضي
المعزول هاهنا ما أقر بالملك لوالد اليتيم ليصير مقراً بكونه ميراثاً
لورثته، بل أقر لليتيم بالملك مطلقاً،
(8/67)
وليس من ضرورة كونه مملوكاً لليتيم أن يكون
من تركة والده، فيعمل ذلك باقي الورثة يدعون لنفسهم حقاً في هذا المال، فلا
يصدقون إلا بحجة.
وإن كان مالاً بصك على رجل قد كان القاضي بين في الصك بينة، وأشهد في الصك
أنه لفلان اليتيم أصابه من تركة والده فلان، وأن سائر الورثة استوفوا
حقوقهم، فنقول: مجرد الصك ليس بحجة، وكذلك قول القاضي المعزول على استيفاء
باقي الورثة حقوقهم ليس بحجة، وإنما الحجة شهادة شهود يشهدون على إشهاد
القاضي عليهم بالاستيفاء، أو على إقرارهم بالاستيفاء، فإن شهد الشهود بذلك
كان هذا المال (76أ4) لليتيم وإلا فهو لسائر الورثة.
وإذا قال القاضي المعزول: ثبت عندي بشهادة الشهود، أن فلاناً وقف ضيعة كذا
على كذا، وحكمت بذلك، ووضعتها على يدي فلان، وأمرته بصرف غلاتها إلى السبيل
المشروط في الوقف، وصدقه بذلك صاحب اليد، فإن أقر ورثة الواقف بذلك أنفذ
القاضي المقلد هذا الوقف؛ لأن اليد على الضياع للقاضي المعزول، وهو قد أقر
بوقفيته من جهة من زعمه مالكاً، وصدقه خلفاؤه في ذلك، فيعتبر تصديقهم
بتصديق الميت لو كان حياً، وإن كان الورثة قد جحدوا ذلك، ولم يقم عليهم
بينة كان ميراثاً بينهم؛ لأن بإقرار القاضي يثبت كون الضيعة ملكاً للميت،
ولم تثبت الوقفية، فيبقى على ملكه ميراثاً بين ورثته، ولكن يستحلف الورثة
على علمهم، فإن حلفوا فالأمر ماض، وإن نكلوا قضي عليهم بالوقفية بإقرارهم،
وإن قامت البينة عليهم بذلك قضى القاضي عليهم بالوقفية، كما لو قامت البينة
على الواقف حال حياته.
وإن قال القاضي المعزول: إنه وقف على أرباب، أو قال: على المسجد، وبين
وجهاً آخر من وجوه البر، ولم يقل: وقفها فلان، فالقاضي المقلد ينفذه، ولا
يسأل عن التفسير؛ لأن التفسير يضر بالوقف، عسى فإنه ربما ينكر ورثة الواقف
الوقف، ولا يوجد على ذلك بينه فيردونه ميراثاً، وهذا هو السبيل في كل موضع
يقع الاستفسار ضاراً، فالقاضي المقلد يتركه ويكتفي بالإجمال، وينبغي للقاضي
أن يحاسب الأمناء ما جرى على أيديهم، من أموال اليتامى وغلاتهم كل ستة
أشهر، وكل سنة على حسب ما يرى حتى ينظر هل أدى الأمانة فيما فوض إليه أو
خان؟ فإن أدى الأمانة قرره عليه، وإن خان استبدل غيره.
بلغنا أن عمر رضي الله عنه كان يحاسب الأمناء كل سنة، وكذلك يحاسب القوام
على الأوقاف، لما ذكرنا، ويقبل قولهم في مقدار ما حصل في أيديهم من الغلات
والأموال، الوصي والقيم في ذلك على السواء، فإن الأصل في الشرع أن القول
قول القاضي في مقدار المقبوض، وفيما يخبر من الأوقاف على اليتيم، أو على
الضيعة، وما صرف منها في مؤنات الأراضي، إن كان وصياً يقبل قوله في
المحتمل، وإن كان فيما لا يحتمل لا يقبل قوله، هكذا ذكر الخصاف في «أدب
القاضي» ، وفرق بين الوصي وبين القيم.
(8/68)
فالوصي: من فوض إليه الحفظ والتصرف.
والقيم: من فوض إليه الحفظ دون التصرف.
وإذا عرفت الفرق بين الوصي وبين القيم، فإذا ادعى الوصي الإنفاق، فقد ادعى
ما دخل تحت ولايته، فيقبل قوله، وكثير من مشايخنا سووا بين الوصي وبين
القيم فيما لم يكن للضيعة منه بد، وقالوا: يقبل قول القيم في ذلك كما يقبل
قول الوصي، وقاسوا على قيم المسجد، أو واحد من أهل المسجد إذا اشترى للمسجد
ما لا بد منه نحو الحصير والحشيش والدهن، أو صرف شيئاً من غلات المسجد إلى
أجر الخادم، لا يضمن لكونه مأذوناً فيه دلالة، فإنه لو لم يفعل ذلك يتعطل
المسجد كذا ههنا، ومشايخ زماننا قالوا: لا فرق بين الوصي والقيم في زماننا،
فالقيم في زماننا من فوض إليه التصرف والحفظ جميعاً كالوصي.5
قال: وإن اتهم القاضي واحداً منهم، يريد به واحداً من الأوصياء فيما ادعى
من الإنفاق على اليتيم، أو على الوقف، حلفه القاضي على ذلك، وإن كان أميناً
كالمودع إذا ادعى هلاك الوديعة، أو ردها، قال بعض مشايخنا: إنما يستحلف إذا
ادعى عليه شيئاً معلوماً؛ لأن الاستحلاف يصح على دعوى صحيحة ودعوى المجهول
لا يصح.
وقال بعضهم: يحلف على كل حال؛ لأنه إنما يحلف نظراً لليتيم واحتياطاً له،
وفي مثله يستحلف على كل حال، وإن أخبروا أنهم أنفقوا على الضيعة واليتيم من
أموال الأراضي والغلات كذا وبقي في أيدينا كذا هذا القدر إن كان منهم
معروفاً بالأمانة، فالقاضي يقبل منه الإجمال، ولا يجبره على التفسير؛ لأنه
لو أجبره على التفسير ربما لا يمكنه الخروج عن العهدة مع صدقه في الإخبار،
والإنسان قد يعجز عن حفظ حسابه وعن الخروج منها فيتضرر، وليس للقاضي ولاية
الإضرار بالغير، ومن كان منهم متهماً، فالقاضي يجبرهم على التفسير شيئاً
فشيئاً، ولا يقبل منه الإجمال، وليس تفسير الجبر ههنا الجبر وإنما تفسيره
أن يحضره القاضي يومين أو ثلاثة ويخوفه، ويهدده إن لم يفسر احتياطاً في حق
اليتيم، فإن فعل ذلك، ومع هذا لم يفسر، فالقاضي يكتفي منه باليمين ويتركه.
قال: وإن قال الوصي للقاضي المقلد إن القاضي المعزول حاسبه، فالقاضي
المقلد: لا يكف عنه إلا بالبينة؛ لأنه يدعي بطلان حق المحاسبة على القاضي،
فلا يصدق عليه إلا بحجة، وإن قال الوصي أو القيم: أنفقت على اليتيم، أو
قال: على الوقف كذا من مالي وأراد أن يرجع بذلك في مال اليتيم، والوقف، لا
يقبل قوله بخلاف ما ادعى الإنفاق من مال اليتيم أو من مال الوقف، حيث يقبل
قوله في المحتمل؛ لأنه أمين فيما في يديه من مال اليتيم والوقف، ويدعي
الخروج عن عهدة الأمانة بدعوى الإنفاق، من غير أن يثبت لنفسه استحقاق شيء،
وقول الأمين في مثل هذا مقبول، فأما إذا ادعى الإنفاق من مال نفسه، فما
ادعى الخروج عن عهدة الأمانة، بل ادعى الاستحقاق لنفسه على الصغير والوقف،
ودعوى الاستحقاق لا يقبل من غير حجة.
(8/69)
قال: وإن ادعى القيم أو الوصي أن القاضي
المعزول أجرى له مشاهرة في كل شهر كذا وكذا، في كل سنة كذا وكذا، وصدقه
القاضي المعزول في ذلك، أو لم يصدقه، فالقاضي لا ينفذ ذلك؛ لأن مجرد الدعوى
ليس بحجة، وكذلك قول القاضي المعزول في الحال ليس بحجة، فإن قامت له بينة
على فعل القاضي في حال قضائه قبلت، وأنفذ القاضي المقلد ذلك، لأن للقاضي
ولاية تقدير كفايته، وأجراها له في مال اليتيم والوقف، فهذه البينة قامت
على إثبات فعل القاضي المعزول في حال قضائه، وفيما هو داخل تحت ولايته،
وقوله في حال قضائه فيما هو داخل تحت ولايته مقبول، فهذه البينة قامت على
ما هو حجة، فقبلت.
بعد هذا القاضي المقلد ينظر في ذلك إن كان ذلك مقدار أجر عمله أو دونه أنفذ
ذلك كله، وإن كان أكثر أنفذ مقدار أجر مثل عمله، وأبطل الزيادة؛ لأنه لم
يكن للقاضي المعزول أن يزيد على أجر مثل عمله، فلا يكون للمقلد تنفيذ
الزيادة.
وإن كان القيم قد استوفى الزيادة، أمره القاضي بالرد علي اليتيم؛ لأنه
استوفى ما ليس له ذلك، قال في «الأصل» : وما وجد في ديوان القاضي المعزول
من شهادة، أو قضاء أو إقرار، فهو باطل لا يعمل به القاضي المقلد، إلا أن
يقوم بينة أنه قضى به وأنفذه، وهو قاض يومئذ؛ لأن القاضي الثاني لا يعلم
حقيقة شيء من ذلك، فلا بد من طريق يقع العلم له بحقيقة تلك البينة، ويشرط
أن يشهدوا أنه قضى به، وهو يومئذ قاض لجواز أنه قضى به بعد العزل، وقضاؤه
بعد العزل باطل.
الفصل التاسع عشر: في القضاء في المجتهدات
قال في «أدب القاضي» : وما اختلف فيه القضاة، وقضى فيه قاض بقضية ثم رجع
إلى قاض آخر، يرى خلاف ذلك أمضى قضاء الأول ولا ينقضه، ولو نقضه كان
باطلاً، والأصل فيه: ما روي أنه لما انتهت الخلافة إلي علي رضي الله عنه
رفع إليه قضايا عمر وقضايا عثمان رضى الله عنهما، وطلب منه نقضها، لما أن
رأي علي رضى الله عنه في تلك القضايا كان بخلاف ذلك، فلم ينقض علي رضى الله
عنه شيئاً من ذلك، وحين قدم الكوفة قام خطيباً وقال: إني لم أقدم عليكم
لأحل عقدة عقدها عمر، أو لأعقد عقدة حلها عمر رضي الله عنه، والمعنى في ذلك
أن قضاء القاضي في موضع الاجتهاد نافد بالإجماع، فكان القضاء الثاني ينقض
الأول مخالفاً للإجماع، ومخالفة الإجماع ضلال وباطل؛ ولأن القضاء إذا جعل
في محل الاجتهاد، فقد يرجح الجانب الذي اتصل به القضاء بالقضاء، فلا يعارض
من الجانب الآخر؛ ولأنه لو جاز للثاني نقض الأول يجوز للثالث نقض الثاني
إذا كان رأيه بخلافه، وكذا للرابع والخامس إلى ما لا يتناهى وليس في أحكام
الله تعالى ما لا يتناهى.
(8/70)
واعلم (76ب4) بأن قضاء القضاة التي يرفع
إلى قاض آخر لا يخلو، إما أن يكون جوراً بخلاف الكتاب والسنة والإجماع، أو
يكون في محل الاجتهاد، واجتهد فيه الفقهاء، واختلف فيه العلماء أو يكون
بقول مهجور، فإن كان في محل الاجتهاد وحكمه ما ذكرنا، وإن كان جوراً
فالقاضي الذي رفع إليه لا ينفذه وينقضه، ولو نفذه كان لقاضي آخر أن يبطله،
لأن ما يخالف الكتاب والسنة والإجماع باطل، ولا يجوز تقرير الباطل والضلال،
وإن كان بقول مهجور، فالقاضي الذي يرفع إليه ينقضه، ولا ينفذه، ولو نفذه
كان لقاض آخر بعد ذلك أن يبطله، وسيأتي بعد هذا بيانه إن شاء الله تعالى.
وبعد هذا يحتاج إلى بيان محل الاجتهاد، قال ابن سماعة عن محمد رحمهما الله:
كل أمر جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله، وجاء عنه غير ذلك الفعل،
أو جاء عن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وجاء عن ذلك الرجل، أو
غيره من الصحابة بخلافه وعمل في الناس بأحد الأمرين دون الآخر، أو عمل بأحد
القولين، ولم يعمل بالأخر، ولم يحكم به أحد، فهو متروك منسوخ، فإن حكم به
حاكم من أهل زماننا لم يجز، أشار إلى أنه وإن قضى بالنص لكن ثبت بإجماع
الأمة انتساخه، حيث لم يعمل به أحد من الأمة، والعمل بالمنسوخ باطل غير
جائز.
قال: وإنما يجز من ذلك ما اختلف فيه الناس، وحكم به حاكم من حكام أهل
الأمصار، فأخذ بعضهم بقوله، وأخذ بعضهم بقول الآخر، يعني بعض الحكام أشار
إلى أن بمجرد خلاف بعض العلماء لا يصير المحل محل الاجتهاد ما لم يعتبر
العلماء، وسوغوا له الاجتهاد فيه.
ألا ترى أن عبد الله ابن عباس كان من الفقهاء، ثم لما لم يسوغوا الاجتهاد
له في ربا النقد، حتى أنكر عليه أبو سعيد الخدري رضى الله عنه لم يعتبر
خلافه على ما بينا قبل هذا، ثم قوله: وإنما يجز من ذلك ما اختلف فيه الناس،
يشير إلى أن العبرة بحقيقة الاختلاف في صيرورة المحل مجتهداً فيه، وفي بعض
المواضع يشير إلى أن العبرة لإنشاء الدليل، وهكذا ذكر محمد رحمه الله في
«السير الكبير» في أبواب الأنفال، وسيأتي بيان ذلك بعد هذا إن شاء الله
تعالى.
ثم إن الخصاف لم يعتبر الخلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله، وإنما اعتبر
الخلاف بين المتقدمين، والمراد من المتقدمين الصحابة ومن معهم، ومن بعدهم
من السلف.
قال صاحب «الأقضية» : فإذا زنى رجل بأم امرأته، ولم يدخل بها، فجلده
القاضي، ورأى أن لا يحرمها عليه فأقرها معه، وقضى بذلك نفذ قضاؤه؛ لأنه قضى
في فصل مجتهد فيه، فإن بين الصحابة اختلافاً في هذه الصورة، فعلي وابن
مسعود وعمران بن الحصين وأبي بن كعب رضي الله عنهم قالوا بالحرمة، وابن
عباس كان لا يقول بالحرمة، وكان يقول: الحرام لا يحرم الحلال، وربما كان
برواية مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نفا، وهذا القضاء في
حق هذا المقضي عليه متفق عليه، وفي حق
(8/71)
المقضي له إن كان جاهلاً فكذلك، وإن كان
عالماً فعلى الخلاف لما مر.
وحكى القدوري في «شرحه» ، فيمن تزوج امرأة زنى بها أبوه أو ابنه، وقضى
القاضي بنفاذ هذا النكاح، وفي نفاذ هذا خلاف بين أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله، فعلى قول أبي يوسف لا ينفذ قضاؤه، لأن الحادثة منصوص عليها في
«الكتاب» ، فإن النكاح في اللغة الوطء، ولا ينفذ حكم الحاكم على خلاف النص،
وعلى قول محمد رحمه الله ينفذ؛ لأن هذا النص ظاهر وللتأويل فيه مشاع، وحديث
ابن عباس رضي الله عنهما على ما روينا يؤيده فكان محل الاجتهاد، فينفذ
قضاؤه فيه.
وإذا خير الرجل امرأته فاختارت زوجها، أو اختارت نفسها فهذه المسألة مختلفة
في الصدر الأول، فعلى قول عمر وابن مسعود رضى الله عنهما إن اختارت زوجها
فهي امرأته، وإن اختارت نفسها فهي تطليقة بائنة، وعلى قول أهل المدينة إن
اختارت زوجها فقد بانت منه، وإذا كانت المسألة مختلفة في الصدر الأول من
هذا الوجه، فبأي قول من هذه الأقوال قضى كان قضاؤه في فصل مجتهد فيه فينفذ،
وإذا قضى القاضي بجواز بيع أمهات الأولاد لا ينفذ قضاؤه.
واعلم بأن جواز بيع أمهات الأولاد مختلف في الصدر الأول، فعمر وعلي رضى
الله عنهما أولاً كانا لا يجوزان بيعها، وهكذا روي عن عائشة رضى الله عنها،
وقال علي رضى الله عنه آخراً: يجوز بيعها. ثم أجمع المتأخرون على أنه لا
يجوز بيعها، وتركوا قول علي آخراً بعد هذا.
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني رحمه الله: ما ذكر في «الكتاب»
أنه لا ينفذ قضاؤه قول محمد رحمه الله، أما على قول أبي حنيفة وأبي يوسف
ينبغي أن ينفذ، فكأنه مال إلى قول من قال: إن المتقدمين إذا اختلفوا في شيء
على قولين، ثم أجمع من بعدهم على أحد القولين، فهذا الإجماع رفع الخلاف
المتقدم عند محمد رحمه الله خلافاً لأبي حنيفة وأبي يوسف، وإذا ارتفع
الخلاف المتقدم على قول محمد لم يكن قضاء هذا القاضي في فصل مجتهد فيه،
وعند أبي حنيفة وأبي يوسف إذا لم يرتفع الخلاف المتقدم كان هذا قضاء في فصل
مجتهد فيه فنفذ.
هما يقولان: لو ثبت الإجماع باتفاق من بعدهم لا بد من تعليل؛ لأن مخالفة
الإجماع ضلال، وتضليل بعض الصحابة أو بعض السلف محال، يوضحه أن المخالف لو
كان حياً لا ينعقد الإجماع مع مخالفته، فكذا إذا مات؛ لأن بالموت فات
المستدل لا الدليل، والمانع الدليل دون المستدل والدليل قائم، فيمنع انعقاد
الإجماع حجة لا يوجب الفصل بينما إذا سبقه مخالف، وبين ما إذا لم يسبقه
مخالف، ألا ترى أنه لو اجتمع علماء عصر على حكم واحد، وانعقد إجماعهم على
ذلك، ثم اجتمع أهل عصر بعدهم على خلاف ذلك يصح؟ وانتسخ الأول بالثاني كأنه
ورد آية مضادة لحكم آية قبلها.
ثم قول الكل لم يصلح مانعاً انعقاد الإجماع والإجماع، فقول الواحد أولى
وقولهما: بأنه يودي إلى تضليل بعض السلف، فليس كذلك؛ لأن الإجماع إنما
انعقد
(8/72)
الآن والتضليل في مخالفة الإجماع، فإذا
انعقد الإجماع لا تتحقق المخالفة، فلا يؤدي إلى الإضلال، كان الشيخ الإمام
الأجل شمس الأئمة السرخسي رحمه الله يقول: لا خلاف بين أصحابنا رحمهم الله،
أن إجماع المتأخرين يرفع الخلاف المتقدم؛ لأن حد الإجماع قد وجد والدليل
الموجب لكون الإجماع حجة لا يوجب الفصل، فكان هذا القضاء في غير محل
الاجتهاد، فلا ينفذ عند الكل، فكان ما ذكر في «الكتاب» أنه لا ينفذ قضاؤه
قول الكل، وما يقول بأنه يؤدي إلى تضليل بعض السلف.
قلنا: لا يؤدي لأنا نجعل هذا الإجماع بمنزلة البيان، أن ما أدى إليه اجتهاد
المخالف في الصدر الأول يبدل الآن، وصار بمنزلة ما لو كان حياً، وتحول رأيه
إلى خلاف ذلك، وإنما حملنا على هذا حملاً لأمر المسلمين على إجماعهم على ما
يحل لهم على تعين الحق والصواب في قولهم، وصيانة لهم عن تضليل من كان
قبلهم، قال القاضي الإمام الكبير أبو زيد رحمه الله في «تقويمه» في آخر
فصول الإجماع: إن محمداً رحمه الله روى عنهم أنه لا ينفذ القضاء أنه لا
ينفذ من غير ذكر خلاف.
وفي الباب الأول من أقضية «الجامع الكبير» أن قضاء القاضي بجواز بيع أم
الولد يتوقف على إمضاء قاض آخر، وهو الأصح، والوجه في ذلك: أن العلماء
اختلفوا على أن بيع أم الولد هل بقي مختلفاً فيه؟ قال أصحابنا: لم يبق
مختلفاً فيه كما ذكره شمس الأئمة السرخسي رحمه الله أن الإجماع المتأخر
يرفع الخلاف المتقدم.
ومن العلماء من قال: لا يرفع، فبقي مختلفاً، فكان في كونه مختلفاً فيه
اختلاف، فيتوقف على قضاء قاض آخر، فإن أمضاه قاض آخر بعده لا يكون لأحد بعد
ذلك إبطاله، وإن أبطل قاض آخر بطل، لا يكون لأحد بعد ذلك أمضاؤه، وهو كذلك
هذا الحكم في كل حادثة اختلف (77أ4) الناس فيها أنها مختلفة، أو ليست
بمختلفة أن قضاء القاضي فيها يتوقف على إمضاء قاض آخر، إن إمضاه قاض آخر
ينفذ، وليس لأحد بعد ذلك إبطاله، وإن أبطل قاض آخر بطل، وليس لأحد بعد ذلك
إمضاؤه.
وفي «الزيادات» : لو أن المسلمين أسروا أسارى من أهل الحرب، وأحرزوهم بدار
الإسلام، ثم يظهر عليهم المشركون، ولم يحرزوهم بدار الحرب حتى ظهر عليهم
قوم آخرون من المسلمين، وأخذوهم من أيديهم في دار الإسلام، فإنهم يردون على
الطريق الأول اقتسم الفريق الثاني، أو لم يقتسموا؛ لأنه لم يثبت للكفار
فيهم ملك ولاحق ما داموا في دار الإسلام، لبقائهم في أيدي الفريق الأول من
حيث الحكم والاعتبار، فصار أخذ الفريق الثاني من الكفار في دار الإسلام
كأخذهم من الفريق الأول على الفريق الأول.
قال: في «الكتاب» : إلا أن يكون الذي قسم بين الفريق الثاني يرى ما صنع
المشركون ملكاً وإحرازاً فحينئذ كان الفريق الثاني أولى بملك فقال: لأن هذا
مما يختلف فيه الفقهاء.
ومعناه أن العلماء اختلفوا في أن مجرد الاستيلاء من الكفار ملكاً، وقسم بين
(8/73)
الفريق الثاني بناء على ذلك حصل قسمة في
محل مجتهد فيه، فينفذ كقسمة الغنائم في دار الحرب.
وذكر في «السير الكبير» إذا استولى المشركون على مال المسلمين وأحرزوه
بعسكرهم في دار الإسلام، ثم استنقذه منهم جيش من المسلمين قبل الإحراز بدار
الحرب، فذلك مردود على صاحبه، وكذلك لو لم يقل الإمام بذلك حتى قسم المال
بين من أصابه فالقسمة باطلة والمال، وهو المتاع مردود عل صاحبه.
وإن علم الإمام للحال ورأى إحرازهم بالعسكر إحرازاً يأمر فخمسه وقسمه مع
غنائم المشركين بين من أصابه من المسلمين، ثم رفع إلى قاض يرى ذلك غير
إحراز جاز ما صنع الأول، ولم يبطل، لأن هذا مما يختلف فيه الفقهاء ومعناه
ما ذكرنا.
فإن قيل كيف يستقيم هذا ومن قال بأن نفس الاستيلاء سبب الملك، ومن قال بأن
مال المسلمين محل لتملك الكفار بالاستيلاء، وهو أصحابنا ما جعلوا مجرد
الاستيلاء سبباً؟ قلنا: كون مال المسلمين محلاً بالاستيلاء مختلف فيه، وكون
مجرد الاستيلاء سبباً مختلف فيه أيضاً، والإمام في هذه المسألة أخذ بقول من
قال بأن مال المسلمين محل لتملك الكفار بالاستيلاء، وبقول من قال: بأن مجرد
الاستيلاء سبب، فكان اجتهاده من الطرفين مصادفاً محلا مجتهداً فيه.
ونظير هذا ما قلنا فيمن قضى بشهادة الفاسق على الغائب، أو شهادة رجل
وامرأتين بالنكاح على الغائب ينفذ قضاؤه، وإن كان من يجوز القضاء على
الغائب يقول: ليس للنسوان شهادة في باب النكاح، وليس للفساق شهادة أصلاً،
ولكن قيل كل واحد من الفصلين مجتهد فيه، فينفذ القضاء من القاضي باجتهاده
فيهما، فكذا في مسألتنا والمعنى فيه أن المجتهد يتبع الدليل القائل به ما
ذكر، ثم في «الزيادات» وفي «السير الكبير» نص على أن قضاء القاضي بالملك
للكافر بمجرد الاستيلاء، وقبل الإحراز بدار الحرب نافذ، قيل: وقد ذكر في
«سير الجامع الكبير» : أنه لا ينفذ، لأنه لم يثبت فيه اختلاف المتقدمين،
قال: ولو قضى قاض بشاهد ويمين لا ينفذ قضاؤه، قال: لأنه خلاف التنزيل؛ لأن
ظاهر قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} (البقرة: 282) يقتضي أن
يكون حجة الاستحقاق من جانب المدعي بشهادة رجلين، أو شهادة رجل وامرأتين،
ومن جعل الحجة شهادة شاهد واحد ويمين المدعي، فقد خالف النص.
وإنما قال الزهري: إنه بدعة؛ لأنه لم يعمل به أحد من الصحابة، وإنما أحدثه
معاوية، فكان بدعة منه، وذكر في كتاب الاستحلاف أن على قول أبي حنيفة،
وسفيان الثوري رحمهما الله ينفذ قضاؤه لما روي عن رسول الله عليه السلام،
«أنه قضى بشاهد ويمين الطالب» ، وقد أخذ به بعض العلماء، فكان قضاء في فصل
مجتهد فيه فينفذ،
(8/74)
وعلى قول أبي يوسف لا ينفذ؛ لأنه خلاف
التنزيل.
وفي «أقضية الجامع» من تعليقي أن القضاء بشاهد ويمين يتوقف على إمضاء قاض
آخر، ولو قضى كل متروك التسمية عمداً ذكر في «النوادر» أن على قول أبي
حنيفة ومحمد ينفذ قضاؤه، وعلى قول أبي يوسف لا ينفذ؛ لأنه خلاف التنزيل،
ولو قضى في حد أو قصاص بشهادة رجل وامرأتين، ثم رفع إلى قاض آخر يرى خلاف
رأيه، فإنه ينفذ قضاؤه، ولا يبطله، وليس طريق نفاذ القضاء الأول في هذه
الصورة حصول في محل مجتهد فيه؛ لأنه لم يبلغنا الاختلاف فيه إلا ما روي
شاذاً عن شريح رضي الله عنه، وإنما طريقه أن القضاء الأول حصل في موضع
اشتباه الدليل.
بيانه أن المرأة من أهل الشهادة شهادة مطلقة، لأن الأهلية بمعان قائمة بها
وتلك المعاني لا تختلف وظاهر قوله تعالى: {فإن لم يكونا رجلين فرجل
وامرأتان} (البقرة: 282) يدل على قبول شهادة النساء مع الرجال مطلقاً،
نظراً إلى اللفظ وأنه وإن ورد في باب المداينة، إلا أن العبرة عندنا لعموم
اللفظ لا لخصوص السبب، ولو لم يرد نص قاطع في إبطال شهادة النساء مع الرجال
في هذه الصورة، وما روي عن الزهري، وهو قوله: مضت السنة الحديث ليس بدليل
قطعي، فكان موضع الاجتهاد، فكان قضاؤه في فصل مجتهد فيه.
وفي «السير الكبير» اشترى الرجل دابة وغزا عليها، فوجد بها في دار الحرب
عيباً، فإن كان البائع معه في العسكر خاصمه، وإن لم يكن ينبغي له أن لا
يركبها، ولكن يسوقها معه حتى يخرجها إلى دار الإسلام، ولو ركبها لحاجة
نفسه، أو حمل أمتعة عليها سقط حقه في الرد وجد دابة أخرى أو لم يجد، فإن
أتى الإمام وأخبره فأمره بالركوب فركب سقط حقه في الرد، ولو أكرهه على
الركوب لما أنه كان يخاف الهلاك، فركب ولم ينقصها ركوبه فله الرد؛ لأن عند
الإكراه ينعدم الفصل من المكره، وينعدم الرضا به، وإن لم يكرهه الإمام على
الركوب ولكن قال: اركبها وأنت على ردك فركبها سقط حقه في الرد، فإن ارتفعا
إلى القاضي بعد ذلك، فردها بالعيب على طريق الاجتهاد، لما قال له الأمير من
ذلك، ثم رفعت إلى قاض آخر يري ما صنع الأول خطأ، فإنه يمضي قضاء الأول لأن
قضاء الأول حصل في موضع الإجتهاد؛ لأن ظاهر النصوص الموجبة لطاعة الأمير
يخرج ركوبه من أن يكون رضاً بالعيب، وكذلك التنصيص من الأمير، بقوله وأنت
على ردك يسقط اعتبار دليل الرضا منه بالعيب ولو قضى بإبطال طلاق المكره،
نفذ قضاؤه؛ لأن قضاءه في فصل مجتهد، لأنه موضع اشتباه الدليل، لأن اعتبار
الطلاق بسائر التصرفات يبقى حكمه.
وإذا قضى قاض بأمر مختلف فيه، ثم رفع إلي قاض آخر فأبطله، ثم رفع إلى قاض
ثالث، فهذا القاضي يمضي القضاء الأول إلا الترك ويرد الثاني؛ لأن الأول نفذ
بالإجماع لحصوله في فصل مجتهد فيه، فكان قضاء الثاني بالرد في غير محل
لاجتهاد فلا ينفذ، ولو كان نفس القضاء الأول مجتهدا فيه بعض المشايخ قالوا
هو مختلف فيه، وبعضهم
(8/75)
قالوا: لا اختلاف فيه فرده القاضي الثاني،
فإن القاضي الثالث يمضي الرد، لأن القضاء بإبطاله حصل في فصل مجتهد فيه،
وهو لا يعلم بذلك اختلف المشايخ فيه، بعضهم قالوا: ينفذ قضاؤه وإليه أشار
محمد في كتاب الإكراه.
وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة، وعامتهم على أنه لا يجوز وإليه أشار في
«السير الكبير» ، فقد ذكر في «السير الكبير» في أبواب الفداء إذا مات الرجل
وترك رقيقاً، وعليه الديون فباع القاضي رقيقه، وقضى ديونه ثم قامت البينة
لبعضهم أن مولاه كان دبره كان بيع القاضي فيه كان باطلاً، ولو كان القاضي
عالماً بتدبيره، فاجتهد وأبطل تدبيره؛ لأنه وصية وباعه في الدين، ثم ولي
قاض آخر، يرى ذلك خطأ ينفذ قضاء الأول، وقد حصل قضاؤه بالبيع في فصل مجتهد
فيه في الفصلين، مع هذا ينفذ قضاؤه في الفصل الأول لما لم يعلم، ونفذ في
الفصل الثاني لما علم.
وهكذا ذكر في كتاب الرجوع عن الشهادات، والمذكور ثمة وإذا شهد محدودان في
قذف ولم يعلم القاضي بذلك، حتى قضى بشهادتهما ثم (77ب4) علم فإن كان من
رأيه أن شهادة المحدود في القذف بعد التوبة حجة أمضي قضاؤه، وإن لم يكن من
رأيه ذلك نقض قضاؤه، وهذا لأن القضاء بشهادة المحدود في القذف ينفذ ظاهراً
لا باطناً على ما عرف في موضعه، فكانت هذه الحالة بمنزلة ابتداء الشهادة،
ولو علم القاضي بكون الشاهد محدوداً في القذف في حال ابتداء الشهادة، إن
كان من رأيه أنه حجة يقضى بها، ومالا فلا على ما يأتي بيانه بعد هذا إن شاء
الله تعالى، فهذا تنصيص على أن قضاء القاضي في المجتهد أن ينفذ إذا علم
بكونه مجتهداً فيه فيما عدا الترك، أشار في «الجامع» أيضاً، وهكذا ذكر
الخصاف في كتابه، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله في شرح «كتاب الرجوع» :
هذا هو ظاهر المذهب، وها هنا شرط آخر لنفاذ القضاء في المجتهد أن يصير
الحكم حادثة، فيجري خصومة صحيحة بين يدي القاضي على خصمه، ثم إذا قضى
القاضي بشهادة المحدود في القذف بعد التوبة، وهو يرى أن شهادته حجة إنما
ينفذ قضاؤه؛ لأن هذا فصل مجتهد فيه، إما لأن فيه اختلافاً في الصدر الأول،
فعمر رضى الله عنه كان يراها حجة، وإما لأن الموضع موضع اشتباه الدليل؛ لأن
الآية مؤولة والخلاف بين العلماء في حرف الاستثناء إلى أو إلى رد الشهادة
ظاهر.
وعن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: لا ينفذ هذا القضاء، فإذا رفع إلى قاض آخر
يبطله، فكأنه رأى قضاء الأول مخالفاً لظاهر الآية، فلهذا قال: أبطله
الثاني.
وفي «أقضية الجامع» من تعليقي عن الشيخ الإمام الزاهد عبد الله الحدادي
رحمه الله: إذا قضى القاضي بشهادة المحدود في القذف بعد التوبة، ورفع قضاؤه
إلى قاض آخر، إنما لا يبطل الثاني قضاء الأول إذا كان الأول يراه حقاً،
وعلم الثاني أن الأول رآه حقاً، بأن أظهر الأول ذلك للثاني، أو لم يعرف
الثاني أن الأول رآه حقاً، أم لا؛ لأن الظاهر إنما يقضي بشيء إذا رأى ذلك
حقاً، أما إذا علم الثاني أن الأول لم يرد ذلك حقاً بأن قال الأول: الصحيح
قول ابن عباس أن شهادته لا تقبل، وإن مات كان للثاني أن يبطله؛ لأنه بين أن
الأول ما كان قضى حيث قضى بخلاف رأيه، وسيأتي الكلام بعد هذا في القاضي
يقضي بخلاف رأيه.
ولو كان القاضي هو المحدود في القذف، فقضى لرجل بقضية، ثم رفع قضاؤه إلى
قاض آخر، يري ذلك باطلاً يرد قضاؤه:
يجب أن يعلم بأن المحدود في القذف لا يصلح قاضياً قبل التوبة، ولا تنفذ
قضاياه بالإجماع، وإذا رفع قضاياه إلى قاض آخر أبطله القاضي الثاني لا
محالة، فلو نفذه القاضي الثاني، فالقاضي الثالث يبطله؛ لأن تنفيذ القاضي
الثاني حصل بخلاف الإجماع فكان باطلاً، فكان للثاني أن
(8/76)
يبطله، وبعد التوبة لا يصلح قاضياً عندنا،
خلافاً للشافعي فإذا رفع قضاؤه إلى قاض آخر يرى بطلانه أبطله، فقد فرق بين
قضاء المحدود في القذف، وبين القضاء بشهادة المحدود في القذف.
فقال: القاضي إذا كان محدوداً في القذف، ورفع قضاياه إلى قاض آخر يرى
بطلانه أبطله، والفرق أن قضاء المحدود في القذف نفسه مختلف فيه عندنا لا
يصلح قاضياً، وعند من خالفنا يصلح قاضياً، ونفس القضاء إذا كان مختلفاً
يتوقف على إمضاء قاض آخر، فأما القضاء بشهادة المحدود في القذف نفسه ليس
بمختلف، بل المختلف شهادة المحدود في القذف، أنها هل تصلح حجة؟ فالقضاء
بشهادة المحدود في القذف يكون حاصلاً في المختلف فيه فينفذ.
توضيح ما قلنا، أن قضاء المحدود في القذف إذا كان نفسه مختلفاً فيه لو نفذ
كان القاضي ملزماً قول نفسه، فيكون عاملاً لنفسه، والإنسان فيما يعمل لنفسه
لا يصلح قاضياً، فعلى قول من لا يرى ذلك قضاء تنعدم صورة القضاء، ونفاذ
القضاء من غير وجود صورته لا يكون، فأما القضاء بشهادة المحدود في القذف لو
نفذ كان القاضي ملزماً قول الشاهد، فيكون عاملاً لغيره لا لنفسه، فيوجد
صورة القضاء، فيمكن تنفيذه، ولو رفع قضاء القاضي المحدود في القذف إلى قاض
يرى جوازه فأمضاه، ثم رفع إلى قاض آخر يرى بطلانه، فالقاضي الثالث يمضي
إمضاء القاضي الثاني، ولا يبطل قضاء الأول؛ لأن إمضاء الثاني حصل في محل
مجتهد فيه، فنفذ فلا يكون لأحد إبطاله.
قال في «المنتقى» : وإذا كان القاضي محدوداً في القذف لا يسعه أن يقضي على
وجه الحكم، ولكن يبين المغصوب من يد الغاصب ويرفعه إلى الطالب بمنزلة من
ليس بقاض، فيكون معيناً للطالب، واستشهد صاحب «الأقضية» لإيضاح الفرق بين
قضاء القاضي المحدود في القذف، وبين القضاء المحدود بشهادة المحدود في
القذف، فقال ألا ترى أن القاضي لو قضى للزوج بشهادة زوجته ينفذ قضاؤه لوجود
صورة القضاء مصادفته محلا مجتهداً فيه، لأن هذا مجتهد فيه، أن الزوج هل
يصلح شاهداً لزوجته؟ وعلي رضى الله عنه كان يرى ذلك، ولو قضى لامرأة نفسه
بشهادة شهود لا يجوز لانعدام صورة القضاء لكونه عاملاً لنفسه، بل يتوقف على
إمضاء قاض آخر، كذا ههنا.
ولو أن قاضياً قضى بشهادة شاهدين ثم علم أنهما كافران، رد قضاؤه أو ظهر أن
قضاءه وقع بخلاف الإجماع، وإن علم أنهما عبدان، فكذلك الجواب وإنه مشكل؛
لأن
(8/77)
شريحاً رضى الله عنه كان يجيز شهادة العبد
وكذلك مالك وداود بن علي، والجواب أن الصحابة أجمعوا على عدم قبول شهادة
العبد، فإن علياً وزيد بن ثابت رضي الله عنهما لما اختلفا في المكاتب إذا
أدى بعض بدل الكتابة هل يعتق بقدره؟ قال علي رضي الله عنه: يعتق فاحتج عليه
زيد بفصل الشهادة، فقال أرأيت لو شهد أتجوز شهادته في البعض دون البعض؟
فلولا أنهم كانوا متفقين على عدم قبول شهادة العبيد، وإلا لما احتج زيد
بفصل الشهادة، وقول بعض المتأخرين بخلاف إجماع الصحابة لا يعتبر، ولا تصير
الحادثة به مجتهداً فيه بخلاف شهادة المحدود في القذف، لأنه كان مختلفاً
بين السلف.
ولو علم أنهما أعميان فقد ذكر شمس الأئمة السرخسي في شرح كتاب الرجوع أن
الجواب فيهما كالجواب في العبدين وظاهر ما ذكر في «المختصر» يدل عليه.
عبد أو صبي أو نصراني استقضى وقضى نفسه، ثم رفع قضاؤه إلى قاض آخر فأمضاه،
فإنه لا يجوز إمضاؤه، وهذا الجواب ظاهر في حق الصبي والنصراني مشكل في حق
العبد، بناءً على ما ذكرنا أن القضاء معتبر بالشهادة، والصبي لا يصلح
شاهداً أصلاً، والنصراني لا يصلح شاهداً في حق المسلمين فلا يصلح قاضياً،
فأما العبد يصلح شاهداً عند مالك وشريح فيصلح قاضياً، فإذا اتصل به أمضاه
قاض آخر ينبغي أن ينفذ كما في المحدود في القذف، والجواب ما ذكرنا، ولو أن
أعمى قضى بقضية، ورفع إلى قاض آخر فأمضى ينفذ قضاؤه؛ لأن في أهلية شهادته
خلاف ظاهر، إن كان بصيراً وقت التحمل، فالخلاف بين أبي حنيفة ومحمد رحمهما
الله، وبين أبي يوسف رحمه الله وإن كان أعمى وقت التحمل فالخلاف بينهما
وبين مالك وقد اعتبر خلافه؛ لأن الموضع موضع اشتباه الدليل؛ لأن التمييز
شرط في الشهادة، فمالك اعتبر أصل التمييز وقد وجد، ونحن اعتبرنا كمال
التمييز، ولم يوجد.
وهذا مما يشتبه وللاجتهاد فيه مجال، وليس فيه إجماع السلف بخلافه، بخلاف
فصل العبد على ما مر، ولو رفع قضاؤه إلى قاض لا يرى جواز قضائه (78آ4)
أبطله؛ لأن نفس القضاء مجتهد فيه، لأن الخلاف في أهلية شهادته خلاف في
أهلية قضائه، ثم قال: ولو رفع قضاؤه إلى قاض يرى شهادته وقضاءه جائزاً، أو
لا يدري أنه هل يرى ذلك، فانفذ حكمه ثم رجع إلى قاض يرى ذلك باطلاً، فليس
له أن يبطله؛ لأن إمضاءه حصل في محل مجتهد فيه، ثم سوى بينما إذا كان
شهادته ترى جائزة، وبينما إذا كان لا يدري؛ لأنه إذا كان لا يدري يحمل على
أنه يرى جوازه، لأن الظاهر أن القاضي لا يقضي بخلاف ما يعتقده.
ولو أن امرأة استقضت جاز قضاؤها في كل شيء، إلا الحدود والقصاص؛ لأنها تصلح
شاهدة فيما عدا الحدود والقصاص، فتصلح قاضية فيها، ولا تصلح شاهدة في
الحدود والقصاص، فلا تصلح قاضية فيها، فإن قضت في الحدود والقصاص، ثم رفع
قضاؤها إلى قاض آخر، فأمضاه نفذ قضاؤها؛ لأن في أهليتها للشهادة اشتباه
الدليل، فكان مجتهداً فيه، وإذا قضى القاضي في المجتهد فيه بخلاف رأيه ذكر
الشيخ الإمام
(8/78)
الزاهد فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله
في «مقدمة قضاء الجامع» ، أنه لا ينفذ، وهكذا ذكر في وقف «فتاوى الفضلي» ،
وإليه أشار محمد رحمه الله في قضاء «الجامع» ، فإنه قال: إذا شهد محدودان
في قذف بعدما تابا عند قاض، فرأى القاضي أن يجيز شهادتهما، وقضى بذلك نفذ
قضاؤه بشرط رؤية القاضي جواز شهادتهما لنفاذ قضائه بشهادتهما.
وذكر الخصاف في «أدب القاضي» : أن القاضي إذا قضى بخلاف رأيه ينفذ عند أبي
حنيفة رحمه الله خلافاً لهما، وكان الفقيه أبو عبد الله الجرجاني رحمه الله
يقول لا يجوز عند أبي حنيفة رحمه الله، وعند محمد رحمه الله يجوز وفي «شرح
الجامع» لأبي بكر الرازي رحمه الله أن القاضي إذا قضى بخلاف مذهبه مع العلم
لا يجوز في قولهم وذكر الشيخ الإمام ظهير الدين المرغيناني رحمه الله في
شرح كتاب «الأقضية» أن على قول أبي حنيفة ينفذ قضاؤه، وعلى قول أبي يوسف لا
ينفذ، ولا رواية في هذا عن محمد رحمه الله، قال: هكذا ذكر في بعض المواضع،
وذكر في بعض المواضع أن على قول أبي حنيفة رحمه الله يجوز، وعلى قول أبي
يوسف لا يجوز.
وذكر القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله أن على قول أبي يوسف وأبي
حنيفة لا يجوز، وعلى قول محمد يجوز، قال رحمه الله ذكر الخلاف في بعض
المواضع في نفاذ القضاء، وفي بعض المواضع ذكر الخلاف في حل الأقدام على
القضاء، وذكر في كتاب القسمة في الوصايا التي ازدادت على الثلث عند أبي
حنيفة بطريق المنازعة، وعندهما بطريق العول والمضاربة، ثم قال: وبأي ذلك
أحدث فهو حسن، فإن كان الخلاف في جواز الأخذ برأي الغير، فوجه قول من قال
بالجواز أن القاضي أمر بالمشاورة، فلو لم يجز له الأخذ برأي غيره إذا كان
مخالفاً لرأيه لم يكن للأمر بالمشاورة فائدة، وجه قول من قال بعدم الجواز
قوله تعالى: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم} (المائدة:
49) الله تعالى نهى القاضي عن اتباع هوى الغير، وإن كان الخلاف في نفاد
القضاء، فوجه قول من قال بعدم النفاذ، أنه زعم فساد قضائه فيعامل في حقه
بزعمه، وجه من قال بالنفاذ أنه قضى في محل الاجتهاد فينفذ قضاؤه، كما لو
قضى برأي نفسه، وهذا لأن القضاء إنما يرد لمكان الخطأ، ولا يتيقن بالخطأ في
موضع الاجتهاد؛ لأن كل مجتهد لا يقطع القول بأن الصواب ما أدى إليه
اجتهاده، ولا ما أدى إليه اجتهاد خصمه، بل الأمر محتمل عنده، فإذا كان
الأمر محتملاً عنده يتعين الصواب في الجانب الذي يتصل به القضاء حملاً
لأمره على الصلاح فينفذ.
وفي «رجوع الجامع» إذا قضى على الغائب، وهو لا يرى ذلك لا ينفذ عند محمد
رحمه الله، وذكر في هذه المسألة في «فتاوى الفضلي» وذكر أنه ينفذ في قول
أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله، وكان القاضي الإمام شمس الإسلام محمود
الأوزجندي رحمه الله يفتي بعدم نفاذ القضاء في هذه الصورة، وكان الصدر
الشهيد رحمه الله يفتي بنفاذ القضاء، وكان الشيخ الإمام ظهير الدين
المرغيناني يفتي بالنفاذ أيضاً، وما يفعله قضاة
(8/79)
زماننا مع تقليدهم شفعوي المذهب في اليمين
المضاف، وبيع المدبّر وأشباه ذلك، إن كان التقليد للحكم ببطلان اليمين
وبجواز بيع المدبر كانت المسألة على الاختلاف، وكان جواز حكم الشفعوي على
الخلاف، كما لو فعل المقلد بنفسه ذلك، وإن كان التقليد للحكم بما يرى كان
جواز الحكم من الشفعوي بالاتفاق، ألا ترى أن السلف كانوا يقلدون الأعمال
والقضاء من الخلفاء العباسية، ويرون ما يحكمون به على آرائهم نافذاً وإن
كان ذلك مخالفاً لرأي الخلفاء لاتباعهم في المسائل جدهم ابن عباس.
وإذا قضى القاضي بقتل في قسامة لا ينفذ قضاؤه، وصورته: قتيل وجد في محلة،
وادعى أولياء القتيل على رجل أنك قتلته، قال بعض العلماء وهو مالك والشافعي
رحمهما الله في القديم: إذا كان بين المدعى عليه، وبين القتيل عداوة ظاهرة،
ولا يعرف له عداوة على غير المدعى عليه، وبين دخوله في المحلة ووجوده
قتيلاً مدة قريبة، فالقاضي يحلف ولي القتيل على دعواه، فإذا حلف قضى
بالقصاص، وعندنا فيه الدية والقسامة، فهذا هو صورة هذه المسألة، وإنما لم
ينفذ القضاء؛ لأنه خلاف السنة وخلاف إجماع الصحابة، وعن أبي يوسف رحمه الله
أنه ينفذ القضاء، ولكن إذا رفع إلى قاض آخر أبطله إذا لم يستوف القود لماذ
ذكرنا أنه خلاف السنة وخلاف إجماع الصحابة وأول من قضى به معاوية، وقد ردوا
عليه فلهذا كان للثاني أن يبطله، ولو قضى قاض بجواز بيع الدرهم بالدرهمين
لا يجوز وقد مر هذا.
وكذلك لو قضى قاض بجواز متعة النساء لا يجوز وصورته: إذا قال الرجل لامرأة:
أتمتع بك إلى كذا، وقال: شهراً أو ما أشبه ذلك، وإنما قال: لا يجوز القضاء
بجوازها؛ لأنها منسوخة، قالت عائشة رضي الله عنها: نسختها آية الطلاق،
وقيل: نسختها السنة، وقيل: إجماع الصحابة، وابن عباس رضي الله عنهما وإن
قال بجوازها إلا أن قوله بخلاف الكتاب والسنة لا يعتبر، كيف وقد صح رجوعه
عنها؟ وعن أبي يوسف رحمه الله أنه يجوز قضاؤه، وهكذا روى خالد عن محمد عن
أبي حنيفة رحمه الله، ولو كان مكان لفظة الخلع لفظة التزويج، بأن قال الرجل
لامرأة: تزوجتك إلى كذا، فقضى قاض بجواز هذا النكاح، وأبطل الأجل جاز
قضاؤه؛ لأنه محل الاجتهاد، فإن عند زفر هذا النكاح صحيح، واشتراط الأجل
باطل، وهذا لأن اشتراط الأجل شرط فاسد، والنكاح مما لا يبطل بالشروط
الفاسدة.
وعن أبي يوسف رحمه الله برواية بشر أنه لا يجوز قضاؤه في هذه الصورة أيضاً.
وإذا نسي القاضي مذهبه قضى بمذهب غيره، قال أبو حنيفة رحمه الله: ينفذ
القضاء، وقال أبو يوسف رحمه الله: لا ينفذ، هكذا روى الخصاف في «أدب
القاضي» ، وهكذا ذكر في «العيون» في آخر «أدب القاضي» ، وهكذا ذكر القاضي
أبو علي النسفي رحمه الله، وصورة ما ذكره القاضي أبو علي رحمه الله: إذا
نسي القاضي رأيه، وقضى
(8/80)
برأي غيره، لم يذكر رأيه قال أبو حنيفة:
يأخذ برأيه في المستقبل، ولا يبطل ذلك القضاء، وقال أبو يوسف: يبطله، وذكر
القاضي الإمام ركن الإسلام علي السعدي، والشيخ الإمام شمس الأئمة السرخسي
قول محمد مع أبي يوسف رحمهما الله.
وجعل القاضي الإمام ركن الإسلام هذا هذه المسألة فرعاً لمسألة تقدم (78ب4)
ذكرها، وهو ما إذا قضى القاضي بمذهب غيره، وهو عالم بمذهب نفسه، وذكر أن
تلك المسألة على الخلاف بين أبي حنيفة وبين صاحبيه كذا هذه، ولو أن قاضياً
قضى بخلاف في دار استحقت من يد المشتري، وأخذ الضامن بدار مثلها، ثم رفع
إلى قاض آخر أبطله، وصورة المسألة رجل باع داراً له، وضمن البائع للمشتري
الخلاص، أو ضمن أجنبي له الخلاص، وتفسيره: أن يقول الضامن للمشتري: إن
استحقت الدار المشتراة من يدك فأنا ضامن لك استخلاص الدار، أحتال حتى
استخلص ذلك الدار بالبيع أو بالهبة، وأسلمها إليك، فهذا الضمان باطل عندنا؛
لأنه ضمن ما يعجز عن الوفاء به، وعند بعض الناس يصح هذا الضمان، وهذا القول
لا يستند إلى قياس صحيح، وقد استنكره المتقدمون، فقد قال شريح: من شرط
الخلاص، فهو أحمق سلم ما بعت وخذ ما اشتريت، ولا خلاص، وإذا قضى قاض بجواز
هذا الضمان، فقد قضى بما هو باطل.
ثم ما ذكرنا من تفسير ضمان الخلاص قول أبي حنيفة، وهو اختيار صاحب كتاب
«الأقضية» ، فأما على قول أبي يوسف ومحمد تفسير ضمان الخلاص والعهدة والدرك
واحد، وهو الرجوع بالثمن عند الاستحقاق، وعند أبي حنيفة تفسير ضمان الخلاص
ما ذكرنا، وتفسير ضمان الدرك ما قالا، وتفسير ضمان العهدة ضمان الصك القديم
الذي عند البائع، ثم عندهما تفسير هذه الأشياء إذا كان واحداً وهو الرجوع
بالثمن عند الاستحقاق كان هذا الضمان صحيحاً، وإذا استحق المبيع من يد
المشتري يرجع بالثمن على الضمان، فمتى قضى قاض بصحة هذا الضمان، وأثبت
للمشتري حق الخصومة مع الكفيل ينفذ هذا القضاء، فإذا رفع إلى قاض آخر لا
يبطله، فأما إذا ضمن تسليم الدار إلى المشتري لا يصح ضمانه، فلا يصح القضاء
به، لما ذكرنا.
ولو أن امرأة رجل أو نفسه عفت عن دم العمد، وأبطل ذلك قاض لما أن من رأيه
أنه لا عفو للنساء؛ لأنه لاحق لهن في القصاص، كما هو مذهب بعض العلماء،
وقضى بالقود للرجال، فقبل أن يقاد الرجل رفع إلى قاض يرى عفو النساء
صحيحاً، فالقاضي ينفذ ذلك العفو، ويبطل القضاء بالقود، لأن القضاء الأول
باطل؛ لأنه بخلاف الكتاب، وهو قوله تعالى: {ولهن الربع مما تركتم} (النساء:
12) وبخلاف قول الجمهور، وإن كان هذا الرجل قد قتل بعمده، فالقاضي الثاني
لا يتعرض لشيء هكذا ذكر الخصاف، وصاحب كتاب «الأقضية» .
قالوا: وينبغي أن يقال: إن كان المقضي له بالقصاص عالماً يقتص منه؛ لأنه
قتل شخصاً محقون الدم، وإن كان جاهلاً يقضي عليه بالدية، أصل المسألة ما
ذكر في «الأصل» إن الدم إذا كان بين اثنين، فعفى أحدهما، ثم قتل الآخر، إن
كان القاتل جاهلاً
(8/81)
تجب الدية، وإن كان عالماً يجب القصاص.
ولو أن امرأة طلقها زوجها قبل الدخول بها، وقد كانت قبضت المهر وتجهزت
بذلك، فقضى القاضي للزوج بنصف الجهاز؛ لأنه كان يرى ذلك كما قال بعض الناس،
بناء على أن الزوج لما دفع الصداق إليها، فقد رضي بتصرفها برضا الزوج كتصرف
الزوج بنفسه، ولو أن الزوج اشترى ذلك بنفسه، وساق إليها، ثم طلقها قبل
الدخول بها كان لها نصف الجهاز، فكذا هاهنا، فإذا قضى قاض لا ينفذ قضاؤه؛
لأنه بخلاف قول الجمهور، وبخلاف كتاب الله تعالى، فإن الله تعالى جعل للزوج
الطلاق قبل الدخول نصف المفروض، والمفروض هو المسمى في العقد، والجهاز لم
يكن مسمى في العقد فلا ينصف، فكان هذا قضاء بخلاف النص فكان باطلاً.
ولو قضى قاض بإبطال المهر من غير بينة ولا إقرار أخذ بقول بعض الناس، إن
قدم النكاح يوجب سقوط المهر إما بإيفاء من الزوج، أو بإبراء من المرأة،
وترك المرأة الطلب في هذه المدة دليل عليه، فهذا القضاء باطل؛ لأنه مخالف
لإجماع السلف.
ولو طلق امرأته في حال الحيض، أو في طهر جامعها فيه أو طلقها بكلمة واحدة،
وقضى قاض بإبطال كله، فهو باطل؛ لأنه يخالف السنة والإجماع فكان باطلاً.
ولو أن رجلاً قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، فتزوجها ورفع الأمر إلى قاض
يرى بطلان ذلك القضاء فأبطله، نفذ قضاؤه؛ لأنه فصل مجتهد فيه في الصدر
الأول، وإذا قضى القاضي في الخلع أنه فسخ أو طلاق نفذ قضاؤه؛ لأن المسألة
مختلفة في الصدر الأول. هكذا ذكره شيخ الإسلام.
ولو قضى قاض بالقرعة في رقيق أعتق الميت واحداً منهم لم ينقض قضاؤه، لأنه
مجتهد فيه، فمالك والشافعي يقولان بالقرعة، واعتمدا حديث الحسن البصري «أن
رجلاً أعتق ستة أعبد له في مرضه، ولا مال له غيرهم، فأقرع رسول الله صلى
الله عليه وسلم بينهم، وأعتق اثنين منهم» ، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا
ينفذ قضاؤه؛ لأن استعمال القرعة نوع قمار وإنه حرام، وأنه كان ثم انتسخ،
والعمل بالمنسوخ باطل، ولو قضى برد نكاح امرأة بعيب غم أو جنون أو نحو ذلك
لم ينقض قضاؤه؛ لأنه مجتهد فيه في الصدر الأول كان عمر رضي الله عنه يقول
برد المرأة بالعيوب الخمسة، وكان علي وابن مسعود رضى الله عنهما يقولان: لا
ترد، ولو ردت المرأة الزوج بواحد من هذه العيوب، وقضى قاض بجوازه نفذ
قضاؤه؛ لأن هذا فصل مختلف فيه بين أصحابنا رحمهم الله، فمحمد رحمه الله
يقول بالرد، فالقضاء صادف محلاً مجتهداً فيه، ولو قضى بجواز نكاح بغير
الشهود نفذ قضاؤه؛ لأن المسألة مختلفة، فمالك وعثمان البتي كانا
(8/82)
يشرطان الإعلان حتى لو حصل الإعلان بحضور
الصبيان والمجانين يصح النكاح عندهما، وقد اعتبر خلافهما؛ لأن الموضع موضع
اشتباه الدليل لأن اعتبار النكاح بسائر تصرفاته، أو بفسخه يقتضي أن لا
يشترط الشهادة ولأن الشهادة بعض الدلائل المقتضية لجواز النكاح مطلقة عن
اشتراط الشهادة، ولو قضى بجواز بيع المدبر نفذ قضاؤه؛ لأن المسألة مختلفة،
الموضع موضع الاشتباه؛ لأن التدبير إن اعتبر سبباً للحرية للحال كانت
الحرية ثابتة من وجهة، فيمنع جواز البيع، وإن اعتبر فرصة أو تعليقاً للحرية
لا يمنع جواز البيع، فكان الموضع موضع الاشتباه من هذا الوجه، ولو قضى
بشهادة الابن لأبيه، أو قضى بشهادة الأب لابنه نفذ قضاؤه عند أبي يوسف
خلافاً لمحمد، هكذا ذكر في «الأقضية» .
واعلم بأن هذه المسألة كانت مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم، فعلي رضي
الله عنه كان يرى جوازها، ثم أجمع المتأخرون على بطلانه، ورفع الخلاف عند
محمد رحمه الله، فلم يكن قضاؤه في فصل مجتهد فيه، ولم يرفع الخلاف المتقدم
عند أبي يوسف، فكان قضاؤه في فصل مجتهد فيه، وهذا تنصيص أن الخلاف بين
أصحابنا في إيقاع الخلاف المتقدم بالإجماع المتأخر على نحو ما ذكره شمس
الأئمة على ما بينا.
وإذا قضى بالشهادة على الشهادة فيما دون مسيرة سفر نفذ قضاؤه؛ لأنه مجتهد
فيه، فأبو يوسف رحمه الله لا يشترط مسيرة السفر، وإذا قضى بشهادة شاهد شهد
على خط أبيه، نفذ قضاؤه، وإذا قضى بأن العين لا يؤجل أبطل قضاؤه، وإذا قضى
بشهادة شهود على وصية مختومة من غير أن تقرأ عليهم أمضاه الآخر، وكذلك إذا
قضى بما في ديوانه وقد نسي، أو قضى بشهادة شهود على صك لا يذكرون ما فيه،
إلا أنهم يعرفون خطوطهم وخاتمهم أمضاه الآخر، ولم يكن ينبغي للأول أن يفعل
ذلك، وهذا كله قياس قول أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف.
وإذا قال الغريم للطالب: إن لم أفصل مالك اليوم فامرأته طالق، فعيب وخشي
الغريم أن لا يظهر اليوم، فيجب في عينه، فأتى القاضي وأخبره فنصب القاضي عن
الغائب وكيلاً، وأمر الوكيل بقبض المال من المطلوب حتى يبرء، فقبض المال
وحكم بحاكم آخر (79أ4) فإن أبا يوسف رحمه الله قال: لا يجوز هذا، هكذا ذكر
في «الأقضية» وهذا قولهم، وإن خص قول أبي يوسف بالذكر، وذكر الناطفي في
«الواقعات» ذكر في كتاب الحسن بن زياد، أن القاضي ينصب وكيلاً عن الغائب،
ويقبض ما عليه ولا يجب، قال الناطفي: وعليه الفتوي وجه ما ذكر، في
«الأقضية» : أنه لو جاز هذا إنما يجوز من حيث إن نصب الوكيل عن الغائب
مختلف فيه، إلا أن الخلاف فيما إذا ادعى رجل عن الغائب حقاً، وقامت البينة
عليه، فعندنا القاضي لا ينصب عنه وكيلاً، وعند بعض العلماء ينصب عنه
وكيلاً، ولم يوجد ذلك ها هنا، فلا يكون هذا قضاء على الغائب، لكن هذا تكلف
تحرزاً عن الحنث، وكذلك لو قدم رجل رجلاً إلى القاضي، وقال: لأبي على هذا
ألف درهم، وأبي غائب.
وأخاف أن يتوارى هذا، ورأى القاضي
(8/83)
أن يجعل الابن وكيلاً له، فجعله وكيلاً قبل
البينة عليه على المال، وحكم بالمال، ثم رفع إلى قاض آخر، فإنه لا يجيزه،
قال: وإنما أستحسن في المفقود خاصة أن أجعل ابنه وكيلاً في طلب حقوقه،
وإنما لم يجز القضاء لما ذكرنا أن هذا ليس بقضاء على الغائب، إنما هذا الذي
أتى القاضي أخبر أن للغائب على هذا كذا، وإنه ليس بخصمه عن الغائب، بل هو
فضولي، فلا ينفذ قضاؤه له؛ لأنه خارج عن أقوال الأئمة وأما المفقود، فهو
كالميت في حق بعض الأحكام، وللقاضي ولاية نصب القيم في مسألة أما هنا
بخلافه.
وروي عن محمد رحمه الله أنه قال: يجوز قضاؤه لاشتباه الدليل، فإن للقاضي
ولاية نصب الوكيل عن الغائب في الجملة، ونظير هذا لو جاء رجل إلى القاضي،
وقال: كان لفلان علي كذا من المال، وقد أوفيته، وإنه في بلد كذا، وإني أريد
أن أقدم تلك البلدة، وأخاف أن يجحد ويأخذني بذلك، فإن القاضي يجعل عن
الغائب خصماً، ويسمع عليه البينة، كذا لو جاءت امرأة إلى القاضي، وقالت: إن
زوجي طلقني ثلاثاً، وإنه في بلد كذا، وإني أريد أن أقدم تلك البلدة، وأخاف
أن يجحد الطلاق، فاسمع من شهودي، واكتب لي حجة، فإن القاضي يجعل عن الغائب
خصماً، ويسمع عليه البينة لما مر.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله في قاض حجر على مستحق الحجر
للفساد، فرفع ذلك إلى قاض آخر فأبطل الحجر، وأجاز البيع جاز قضاؤه، وبطل
الحجر؛ لأن نفس القضاء بالحجر مختلف فيه، فلم ينفذ من الأول، وكان للثاني
أن يبطله، وسيأتي بعد هذا إن شاء الله تعالى بخلافه، ولو رفع إلى قاض يرى
جواز الحجر، فأجاز القضاء الأول بالحجر، وأبطل تصرفات المحجور، ثم رفع إلى
غيره من القضاء، فليس له أن يبطل ذلك القضاء، ويجيز تصرفات المحجور؛ لأن
ذلك القضاء صادف محلاً للاجتهاد، وهو نفاذ القضاء الأول، فينفذ ظاهراً
وباطناً، فليس لأحد بعد ذلك أن يبطله.
وإذا قضى القاضي في المأذون في نوع أنه مأذون في نوع واحد، كما هو مذهب
الشافعي عند شرائط القضاء من الخصومة والدعوى يصير مستفتاً عليه حتى لو رفع
إلى قاض آخر يرى خلافه لا يبطله، ذكره محمد رحمه الله في أول «المأذون
الكبير» ؛ لأن هذا الفصل مختلف بين السلف، قال شريح رضي الله عنه: لا يعتبر
مأذوناً في الأنواع كلها، وبهذه المسألة تبين أن المختلف بين السلف
كالمختلف بين الصحابة.
وفي «إقرار الأصل» إذا حجر القاضي على رجل حر، ثم أقر المحجور عليه بدين،
فعلى قول أبي حنيفة إقراره صحيح؛ لأن على قول الحجر لم يصح، فصار الحال بعد
الحجر كالحال قبله، وعلى قولهما لا يصح إقراره؛ لأن على قولهما: الحجر صحيح
في التصرفات التي يبطله الهزل والكره، فالتحق بالصبي.
فإن قيل: ينبغي أن لا يصح الإقرار عندهم جميعاً؛ لأن القاضي بالقضاء
بالحجر، فإذا قضى القاضي بالحجر فقد جعله موجباً، وهذا إشارة إلى أن يقضي
القضاء بالحجر، ليس بمختلف فيه.
قلنا: هذا ليس بقضاء على الحقيقة؛ لأن القضاء لا بد له من مقضي عليه ومن
(8/84)
مقضي له ومن مقضي به، وها هنا إن وجد
المقضي عليه، وهو السفيه، والمقضي به وهو السفه لم يوجد المقضي له؛ لأن
الولي الذي رفع الأمر إلى القاضي لا يصلح مقضياً له؛ لأن القاضي بهذا الحجر
لا يقضى له على المحجور بشيء حتى لو وجد القضاء بأن وجد المقضي له أيضاً،
بأن يصرف المحجور بعد الحجر تصرفاً، ورفع إلى هذا القاضي، أو إلى قاض آخر،
وصححه، أو أبطله بعد ذلك عند الكل حتى لم يكن لقاض آخر بعد ذلك أن يبطله.
فإن قيل: إذا لم يكن هذا قضاء على الحقيقة كان بمنزلة الفتوى، فينبغي أن لا
يتحجر عندها كما لو أفتى به مفت آخر.
قلنا: الحجر يثبت من غير قضاء، إذا كان للحاجر ولاية الحجر، وإن لم يكن
الحجر نصاً كالحجر من المولى على عبده، وكالحجر من الولي على الصبي عن
التجارة، فإن ذلك صحيح، وإن لم يكن قضاء على الحقيقة؛ لأن له ولاية الحجر
كذا ها هنا للقاضي ولاية الحجر على السفيه بحكم القضاء، فيصح حجره، وإن لم
يكن حجره قضاء على الحقيقة.
الفصل العشرون: فيما يجوز فيه قضاء القاضي وما
لا يجوز
يجوز بأن يعلم بأن الإنسان لا يصلح قاضياً في حق نفسه.
إما لأنه لا يصلح شاهداً لنفسه، ومن لا يصلح شاهداً في شيء لا يصلح قاضياً
فيه؛ لأن كل واحد منهما من باب الولاية؛ لأن فيه تنفيذ القول على الغير،
إلا أن ولاية القضاء أقوى، وتنفيذ القول فيه أبلغ، فمن لا يصلح لأولى
الولايتين كيف يصلح لأعلاهما؟
وإما لأن القضاء لا بد له من مقضي له ومن مقضي عليه، فإذا قضى القاضي لنفسه
من كل وجه، أو من وجه لا ينفذ قضاؤه غير أنه إذا قضى لنفسه من كل وجه لا
ينفذ بإمضاء قاض آخر، وإذا قضى لغيره من كل وجه، فإن لم يصلح قاضياً بيقين
لا ينفذ قضاؤه، وإن أمضاه قاض آخر، وإن كان في صلاحه اختلاف، فإذا أمضاه
قاض نفذ قضاؤه بالإجماع.
وإن وقع الخلاف في قضاء القاضي أنه قضى لغيره من كل وجه، أو قضى لغيره من
وجه لنفسه، يتوقف على إمضاء قاض آخر، وسيأتي بيانه في خلال المسائل إن شاء
الله تعالى.
قال في كتاب الوكالة: وإذا وكل القاضي رجلاً ببيع دار أو بإجارتها،
وبالخصومة له في كل حق يطلبه قبل رجل، أو بطلب حق قبله رجل، فهو جائز وهذا
ظاهر، ولا يجوز للقاضي أن يقضي لوكيله، أما إذا كان وكيلاً بالخصومة؛ لأن
الوكيل في الخصومة
(8/85)
سفير ومعبر، فيكون القضاء للموكل، والقضاء
لنفسه باطل لما ذكر، ولمعنى الآخر وهو التهمة، وأما إذا كان وكيلاً بالبيع
والإجارة فكان حكم العقد وما هو المقصود منه يقع للموكل، فكان القضاء
واقعاً للموكل، وكذلك لا يقضي لوكيل أبيه وإن علا، ولا لوكيل ابنه وإن سفل؛
لأنه قضاء لنفسه من وجه؛ لأن بينهما شبه بعضية، ولأجلها لم تقبل شهادته
لهؤلاء، ولا يجوز قضاؤه لهم من الطريق الأول، ثم فرق بين القاضي نفسه وبين
من لا يقبل شهادته له في حق القضا، ء والشهادة، فقال: قضاء الإنسان وشهادته
لنفسه وعلى نفسه لا يجوز، وقضاء الإنسان لمن لا تقبل شهادته له لا يجوز،
وعليه يجوز.
والفرق أن شهادة الإنسان لنفسه، وقضاءه لنفسه إنما لا يجوز؛ لأن القضاء لا
بد له من مقضي له، ومن مقضي عليه، والشهادة لا بد لها من مشهود له، ومن
مشهود عليه، وفي حق هذا المعنى الوجهان على السواء، فأما قضاء القاضي لمن
لا تقبل شهادته له، إنما لا يجوز لمكان التهمة، ولا تهمة إذا كان القضاء
عليه، فلهذا افترقا، ولا يجوز للقاضي أن يقضي لعبده ولا لمكاتبه، ولا لعبد
من لا تقبل شهادته لهم ولا لمكاتبهم؛ لأن القضاء يقع للموكل، وكذلك لا يجوز
له أن يقضي لشريكه شركة عنان، أو مفاوضة إذا كانت الخصومة في مال هذه
الشركة؛ لأن القضاء يقع للقاضي من وجه.
ولو مات رجل وأوصى للقاضي بثلث ماله، وأوصى إلى رجل آخر لم يجز قضاؤه للميت
بشيء من الأشياء؛ لأن بقدر الثلث يقع القضاء للقاضي، وكذلك إذا كان القاضي
أحد الورثة لا يقضي، للميت بشيء، لا يكون قضاء لنفسه من وجه، وكذلك لو كان
الموصى له ابن القاضي أو امرأته أو غيرهما من لا تقبل شهادته لهما، وكان
عبيد هؤلاء؛ لأن القضاء لهؤلاء لا يجوز (79ب4) وكذلك لو كان القاضي وكيل
الوصي في ميراث الميت؛ لأن القضاء يقع له من حيث الظاهر، وكذلك لو كان
للقاضي على الميت دين لا يجوز قضاؤه للميت بشيء، وفرق بين قضاء القاضي
لغريمه بعد موت الغريم، وبين قضائه له في حال حياته.
والفرق أن الدين لا يتعلق بمال الصحيح، فبقي ماله بعد لحوق الدين خالص
ملكه، فكان القضاء واقعاً للغريم من كل وجه، فأما بعد الموت، فالدين يتعلق
بماله، فكان المال المقضي به حقاً لرب الدين من ذلك الوجه، وإذا وكل أحد
الخصمين عند القاضي، أو مكاتبه، أو بعض من لا تقبل شهادته له لا يجوز له أن
يقضي للوكيل على خصمه؛ لأن القضاء يقع للوكيل من حيث الظاهر، وإنه لا يصلح
قاضياً في حق هؤلاء والله أعلم.
وإذا وكل رجل رجلاً بالخصومة، فاستقضى الوكيل، فليس له أن يقضي في ذلك؛ لأن
القضاء يقع للوكيل من حيث الظاهر، وليس له أن يقيم وكيلاً عن موكله؛ لأنه
إن أقام بحكم القضاء كان هذا قضاء للغائب، وإن أقام بحكم الوكالة، فهذا
وكيل لم يقل له الموكل: ما صنعت من شيء فهو جائز، فوكل رجلاً بالخصومة جاز،
وليس له أن يقضي لهذا الوكيل، وإن صار الوكيل الثاني مع الوكيل الأول
وكيلين للموكل الأول، ولهذا ملك عزلهما وينعزلان بموته، ولكن من حيث إن
الوكالة الثانية مستفادة من جهة الأول؛ وإنه
(8/86)
يملك عزله كان وكيل الأول، فيكون هذا من
القاضي قضاء لوكيل نفسه من وجه، وإنه لا يجوز.
فرق بين هذا، وبينما إذا أمر القاضي رجلاً أن يبيع مال اليتيم، فخاصم
الوكيل في شيء من حقوق ذلك العقد إلى هذا القاضي، فإنه يجوز له أن يقضي
لهذا الوكيل، والفرق أن القاضي في تصرف مال اليتيم ليس بخصم، وكذا نائبه،
ولهذا لا يلحق العهدة، فانتقل العقد إلى اليتيم من كل وجه، فصار قضاء
لليتيم من كل وجه لا لوكيل القاضي، أما هاهنا بخلافه.
وإذا وكَّل رجل القاضي، ثم عزل عن القضاء، أو كانت الوكالة قبل القضاء، ثم
استقضي وعزل، فهو وكيل على حاله، حتى كان له أن يخاصم عند قاض آخر.
قال: في «الجامع الكبير» : وإذا مات الرجل، وله ديون على الناس بعضها على
القاضي، وبعضها على من لا يقبل شهادته له بحق امرأته أو ابنه، فادعى رجل
عند هذا القاضي أن الميت أوصى إليه، فاعلم بأن ها هنا ثلاث مسائل: إحداها:
هذه، والحكم فيها أن القاضي إذا قضى بوصايته صح قضاؤه استحساناً حتى لو قضى
بعض من سمينا الدين إلى هذا الوصي يبرأ، ولو رفع قضاؤه إلى قاض آخر، فإن
القاضي الآخر يمضيه ولا ينقضه، وبمثله لو أن القاضي لم يقض له بالوصاية لا
يصح قضاؤه حتى كان للورثة ولاية مطالبته بالدين.
والفرق أن القاضي بالقضاء في الفصل الثاني يعمل لنفسه؛ لأنه يثبت براءة
نفسه ويصحح دفعه إليه، والقضاء لنفسه باطل، ولا كذلك في الفصل الأول.
يوضحه أن القضاء معتبر بالشهادة، والغريم لو شهد بالوصاية لهذا الرجل بعد
ما أدى الدين إليه لا تقبل شهادته لمكان التهمة، فكذا لا يصح قضاؤه، وقيل:
قضاء الدين لو شهد الغريم بالوصاية لهذا الرجل تقبل شهادته إذا كان الموت
ظاهراً استحساناً؛ لأنه لا تهمة في هذه الشهادة؛ لأن للقاضي ولاية نصب
الوصي إذا كان الموت ظاهراً بدون الشهادة، فكذا يصح قضاؤه أيضاً.
ثم إن محمداً رحمه الله سوى في الفصل الثاني بين القاضي وبين امرأته وأبيه،
وقال: إذا رفع قضاؤه إلى قاض آخر أبطله، ولو أمضاه كان باطلاً، بعض مشايخنا
قالوا: ينبغي أن يكون الجواب في امرأته وأبيه بخلاف الجواب في حق نفسه؛ لأن
قضاء القاضي لنفسه باطل بالإجماع، فلا يجوز لأحد أن يمضيه، أما قضاؤه
لامرأته وابنه مختلف فيه؛ لأن شهادته له لا يختلف فيه، فكذا قضاؤه، فالقضاء
بالإمضاء مصادف محلاً مجتهداً فيه، فكان لغيره أن يمضيه إذا كان من رأيه
ذلك، ولو لم يبلغ أحد الأوصياء، حتى جعل له القاضي وصياً، ثم إن القاضي، أو
بعض من سميناه رفع الدين إليه يجوز الأنصباء، والنصيب، ويجوز الرفع إليه،
وبمثله لو قضى الدين إليه أولاً، ثم نصب وصياً عن الميت لا يصح النصب،
والوجه في ذلك أن للقاضي ولاية نصب الوصي عن الميت برأيه، ويكون هذا النصب
قضاء؛ لأن القاضي في هذا النصب عامل لنفسه، ولا كذلك النصب قبل قضاء الدين.
(8/87)
المسألة الثانية: مسألة دعوى الميت إذا كان
مكان دعوى الوصاية دعوى النسب في هذه المسألة، بأن جاء رجل، وادعى أنه ابن
الميت ووارثه، وأقام على ذلك بينة، وقضى القاضي بالنسب منه، إن كان القضاء
بنسبه بعد قضاء الدين إليه لا ينفذ قضاؤه، وإن كان قبل قضاء الدين إليه،
نفذ قضاؤه.
والفرق بينما قبل القضاء، وبينما بعد القضاء ما ذكرنا من الوجهين، وفي هذه
المسألة على الفرق الثاني نوع إشكال؛ لأن انتفاء التهمة في شهادة الغريم
بالإيصاء وقضائه، إنما كان؛ لأن للقاضي ولاية نصب الوصي بدون الشهادة، فلم
يكن هذا النصب مضافاً إلى الشهادة، فأما ليس للقاضي ولاية إثبات النسب من
غير شهادة، فكان ثبوت النسب مضافاً إلى الشهادة إلى ولاية القضاء، فكان
قاضياً وشاهداً لنفسه من وجه.
قلنا: لا بل التهمة منتفية هنا أيضاً؛ لأنه لم يكن للقاضي ولاية إثبات
النسب ابتداء، وله ولاية إثبات ولاية الاستيفاء للغير، وفي إثبات النسب
إثبات ولاية الاستيفاء، وله ذلك، إن لم يكن له ولاية إثبات النسب، فيصلح
قاضياً وشاهداً في القضاء بالنسب من حيث إن فيه إثبات ولاية الاستيفاء
للغير، واثبات النسب أمر زائد على هذه الولاية، فتنفى التهمة من هذا الوجه.
المسألة الثالثة: إذا كان مكان دعوى الوصاية والنسب دعوى الوكالة، بأن غاب
رب الدين، وجاء رجل، وأقام بينة أن رب الدين وكله بقبض الدين الذي له على
القاضي، أو على من سميناه من قرابته، فقضى القاضي بوكالته لا يجوز سواء كان
القضاء قبل دفع الدين إليه.
فرق بين الوصاية والوكالة قبل دفع الدين.
والفرق أن للقاضي ولاية نصب الوصي، وإن لم يكن على الميت دين، فلا يكون في
هذا النصب عاملاً لنفسه أصلاً، فلا يكون قضاؤه لنفسه أصلاً، فأما ليس
للقاضي ولاية نصب الوكيل عن الغائب، فهو بهذا القضاء يعمل لنفسه من حيث إنه
يثبت من يقتضي منه فيبرأ بدفعه إليه، فيكون قاضياً لنفسه، فلهذا لا يصح،
فإن رفع قضاه بالوكالة إلى قاض آخر، فإن كان القضاء بالوكالة بعد قضاء
الدين رده لا محالة، ولو أمضاه لا يجوز إمضاؤه؛ لأنه وقع باطلاً، لأنه قضى
لنفسه من كل وجه، وإن كان القضاء بالوكالة من الأول قبل قضاء الدين إليه،
فأمضاه الثاني جاز إمضاؤه.
علل محمد رحمه الله في «الكتاب» فقال: لأن إمضاء الثاني جعل في فصل مجتهد
فيه. واختلف عبارة المشايخ فيه، بعضهم قالوا: أراد به حقيقة الاختلاف، فمن
المشايخ من يجيز القضاء بالوصاية، وبعضهم قالوا: أراد به اشتباه الدليل.
ووجه ذلك أن الوكالة أمانة في حال الحياة، والوصاية أمانة بعد الموت،
فالقياس الظاهر يوجب التسوية، فينبغي أن يملك القاضي نصب الوكيل كما يملك
نصب الوصي، وينبغي أن يملك القضاء بالوكالة، قبل قضاء الدين كما يملك
القضاء بالوصاية، فإذا أخذ بالقياس الظاهر، وقضى بالوكالة قبل قضاء الدين،
جعل قضاؤه في محل مجتهد فيه. أو
(8/88)
نقول: هذا قضاء على الغائب مجتهد فيه، فإن
قيل: هذا القضاء إذا كان مجتهداً فيه ينبغي أن لا يتوقف على إمضاء قاض آخر،
على ما مر.
قلنا: هذا هكذا إذا كان قضاء للغير من كل وجه، أما إذا كان قضاء لنفسه من
وجه لا ينفذ بل يتوقف على إمضاء قاض آخر؛ لأن القضاء لنفسه باطل بلا خلاف،
وهذا قضاء لنفسه من وجه من حيث إن به يحصل النفع لنفسه من حيث (80أ4) أن
يقضيه الدين فيبرأ، وقضاء للغير من وجه من حيث إنه مما لا يقضيه الدين،
وينتظر حضور الموكل، فيتوقف على إمضاء قاض آخر، فإن أدى اجتهاده إلى أنه
قضاء للغير، وأمضاه نفذ؛ لأنه صادف محلاً مجتهداً فيه، فلا ينبغي لما يحصل
له من النفع غيره.
ونظير هذا إذا قضى لامرأته يتوقف على إمضاء قاض آخر، وإن كان هذا القضاء
مجتهداً فيه لهذا إن القضاء لنفسه باطل بلا خلاف، والخلاف في أن قضاء الرجل
لامرأته، هل هو قضاء لنفسه من وجه؟ فإذا أمضاه قاض آخر يترجح جانب كونه
قضاء للغير على كونه قضاء لنفسه، فينفذ ما صادفه محلاً مجتهداً فيه.
وقيل: ذلك لا ينفذ كذا هنا على أن في نفاذ القضاء على الغائب روايتان، فعلى
إحدى الروايتين لا ينفذ؛ لأن نفس القضاء مختلف فيه، فيتوقف على هذه الرواية
على إمضاء قاض آخر، وعلى إحدى الروايتين ينفذ ولا يتوقف؛ لأن على إحدى
الروايتين لا خلاف في نفس القضاء، وإنما الخلاف في أن الإنكار على سبيل
اليقين، هل هو شرط؟ فعلى قياس هذه الرواية ينبغي أن لا يتوقف القضاء
بالوكالة هنا على إمضاء قاض آخر، والله أعلم.
إذا نصب القاضي مسخراً على الغائب لا يجوز، ولو حكم عليه لا يجوز، وتفسير
المسخر أن ينصب القاضي وكيلاً عن الغائب ليسمع الخصومة عليه، والقاضي يعلم
أن المحضر ليس بخصم، فالقاضي لا يسمع الخصومة عليه، وإنما يجوز نصب الوكيل
عن خصم اختفى في بيته ولا يحضر مجلس الحكم، فالقاضي ينصب عنه وكيلاً، ولكن
بعد ما بعث أمناءه إلى داره، ونودي على باب داره على ما ذكرنا، قبل ذلك،
أما في ذلك الموضع فلا.
والدليل على أن نصب المسخر لا يجوز ما ذكر الخصاف في «أدب القاضي» : رجل
ادعى عقاراً في يدي رجل، وأقام البينة على الملك، فالقاضي لا يسمع بينته،
ولا يقضي له بالملك ما لم يعلم أن العقار المدعى به في يد المدعى عليه، أو
يشهد الشهود بذلك لجواز أن المدعي واضع رجلاً حتى يقر بأن العقار المدعى به
في يده، فيقضي القاضي بذلك عليه، ويكون بذلك استحقاقاً عليه، وعلى غيره،
والعقار في الحقيقة في يد غيره.
وذكر محمد رحمه الله في «شهادات الجامع» : رجل غاب، فجاء رجل وادعى على رجل
ذكر أنه غريم الغائب، وأن الغائب وكله بطلب كل حق له على غرمائه بالكوفة
والخصومة فيه، والمدعى عليه ينكر وكالته، فأقام المدعي بينته على وكالته،
قضى القاضي عليه بالوكالة.
(8/89)
قال شيخ الإسلام رحمه الله هذه المسألة
دليل على جواز الحكم على المسخر فإنه قال: ادعى على رجل ذكر أنه غريم
الغائب، ولم يقل: ادعى على رجل هو غريم الغائب، قال الصدر الشهيد رحمه
الله: ولكن هذا عندنا محمول على ما إذا لم يعلم القاضي بكونه مسخراً قبل،
وينبغي أن تكون هذه المسألة على روايتين؛ لأن هذا في الحاصل قضاء على
الغائب، وفي القضاء على الغائب روايتان، في إحدى الروايتين لا ينفذ؛ لأن
نفس القضاء مختلف فيه، وفي الرواية الأخرى ينفذ؛ لأن نقض القضاء ليس بمختلف
فيه، وإلى هذا مال شيخ الإسلام رحمه الله، والمسألة في شرح كتاب المفقود.
وكان الشيخ الإمام ظهير الدين رحمه الله يقول في القضاء على الغائب: يفتى
بعدم الجواز والنفاذ كيلا يتطرقوا إلى هدم مذهب أصحابنا رحمهم الله، فلو أن
القاضي حكم على المسخر، وأمضى قاض آخر صح الإمضاء، ولا يكون لأحد بعد ذلك
إبطاله.
إذا قضى القاضي بعين في يدي رجل، والمقضي به ليس في ولايته صح القضاء، ولكن
لا يصح التسليم.
صورة المسألة: بخاريّ ادعى داراً على سمرقندي عند قاض بخاري، أن الدار الذي
في يديه بسمرقند في محلة كذا إلى أخره ملكي وحقي، وفي يديه بغير حق، وأقام
بينة على دعواه، فالقاضي يقضي بالدار للمدعي، ويصح قضاؤه؛ لأن المقضي له
والمقضي عليه حاضر إلا أن التسليم لا يصح؛ لأن الدار ليست في ولايته، فكتب
إلى قاضي سمرقند لأجل التسليم.
وإذا أمر القاضي إنساناً أن يقضي بين اثنين لم يجز قضاؤه، إلا أن يكون
الخليفة أذن للقاضي بذلك؛ لأن القضاء أمر يحتاج فيه إلى العلم والأمانة
والرأي، والخليفة بالتفويض إلى هذا القاضي من غير إذن بالاستخلاف رضي بعلمه
وأمانته ورأيه، أما ما رضى بغيره، فرق بين القاضي وبين إمام الجمعة، فإن
الخليفة إذا فوض إلى إنسان إقامة الجمعة مطلقاً، فاستخلف غيره جاز.
والفرق أن هناك الإذن بالاستخلاف إن لم يوجد نصاً وجد دلالة؛ لأن الخليفة
إنما فوض إلىه إقامة الجمعة مطلقاً مع علمه أن العوارض المانعة من إقامة
الجمعة نحو المرض، والحدث في الجمعة، وغير ذلك يتوهم مقصور وعلى تقدير
التحقق، لا يمكن انتظار إذن الإمام لضيق الوقت، فقد أذن له بالاستخلاف
دلالة، أما ها هنا لما لم يوجد الإذن صريحاً لم يوجد دلالة؛ لأن أكبر ما
فيه أن العوارض المانعة من القضاء موهوم مقصور في حق هذا القاضي، ولكن
انتظار إذن الإمام هنا ممكن؛ لأن تأخير سماع الخصومات ممكن؛ لأنه غير مقدر
بوقت، فلهذا افترقا.
وفرق بين القاضي وبين الوصي أيضاً، فإن الوصي يملك التفويض إلى غيره، وإن
لم يأذن له الوصي، والفرق أن في حق الوصي الإذن بالتفويض ثابت دلالة أيضاً؛
لأن الوصي إنما يعمل بعد موت الوصي، فإذا أوصي إليه مع علمه أنه قد يعجز
على التصرف بنفسه، وعلى تقدير العجز لا يمكنه استطلاع رأيه في التفويض إلى
غيره، فقد أذن له
(8/90)
بالتفويض إلى غيره، دلالة أما هنا استطلاع
رأي الخليفة، والاستخلاف ممكن للقاضي إن عجز عن القضاء، فلا حاجة إلى إثبات
الإذن دلالة بالتفويض إلى غيره فإن كان الخليفة أذن للقاضي في الاستخلاف
إما نصاً أو دلالة بأن قال له: ما صنعت من شيء فهو جائز، ملك الاستخلاف؛
لأنه صار راضياً بغيره.
وهو نظير الوكيل بالبيع لا يملك أن يوكل غيره، وإذا أذن الموكل في التوكيل
إما نصاً أو دلالة بأن قال له: ما صنعت من شيء، فهو جائز يملك توكيل غيره،
إلا أن بين مسألة التوكيل، وبين مسألة القاضي فرق من وجه، فإن الموكل إذا
أذن للوكيل أن يوكل فوكل، وقال الوكيل الأول للوكيل الثاني: ما صنعت من شيء
فهو جائز، لا يكون للوكيل الثاني أن يوكل غيره.
والخليفة إذا أذن للقاضي في الاستخلاف فاستخلف، وقال الخليفة: ما صنعت من
شيء فهو جائز، كان له أن يستخلف غيره، فلو أن الخليفة لم يأذن له
بالاستخلاف، فأمر رجلاً فحكم بين اثنين حتى لم يجز حكمه، ثم إن القاضي أجاز
ذلك الحكم ننظر إن كان بحال يجوز حكمه لو كان قاضياً جاز إمضاء القاضي
حكمه، وإن كان بحال لا يجوز حكمه لو كان قاضياً ينظر إن كان ممن يختلف فيه
الفقهاء، كالمحدود في القذف جاز إمضاؤه ذلك، وإن كان عبداً أو صبياً لم
يجز؛ لأن القاضي إذا لم يؤذن في الاستخلاف صار الحال في حقه بعد الاستخلاف
كالحال قبل الاستخلاف، وقبل الاستخلاف لو قضى وهو من أهل القضاء توقف نفاذه
على إجازة قاض آخر، وإن لم يكن من أهل القضاء لا يتوقف، كذا ها هنا.
ولو أن الخليفة أذن للقاضي في الاستخلاف فاستخلف رجلاً، ثم أراد أن يعزله،
لم يكن له ذلك إلا إذا كان الخليفة أذن له بالعزل أيضاً، بأن قال: له ولِّ
من شئت، واستبدل من شئت.
ولو أذن له في الاستخلاف فاستخلف رجلاً، فهذا القاضي الثاني يصير قاضياً من
جهة الخليفة لا من جهة القاضي الأول، حتى لو أراد القاضي الأول أن يعزل
الثاني لم يكن له ذلك، إلا إذا قال الخليفة للقاضي الأول: استبدل من شئت.
ولو أن الخليفة أمر القاضي أن يستخلف رجلاً يسمع (80ب4) من الخصوم ويسمع من
الشهود، ويكتب الإقرار، ولا يقطع الحكم، وأمر القاضي رجلاً يقوم بذلك لا
يجاوز ذلك، فإن لهذا الرجل أن يسمع من الشهود، ويكتب إقرار من أقر عنده،
ويسأل عن الشهود، ثم ينهي ذلك للقاضي، فيكون القاضي هو الذي يحكم بعد أن
يعرف صحة ذلك؛ لأن الخليفة لو أمر القاضي أن يسمع من الشهود، ويكتب
الإقرار، ولا يقطع الحكم، بل يرفع الأمر إلى الخليفة حتى يحكم الخليفة
بنفسه، كان صحيحاً، فكذلك إذا أمره بالاستخلاف على هذا الوجه.
ثم الخليفة إذا رفع الأمر إلى القاضي، فالقاضي لا يقضي بتلك البينة بل يأمر
بإحضار المدعي، والمدعى عليه بإحضار الشهود، ويأمر الشهود أن يشهدوا ثانياً
عنده بحضرة المدعي والمدعى عليه، فإذا صحت الشهادة عنده قضى بتلك الشهادة،
وهذا
(8/91)
فصلٌ الناس عنه غافلون، فإن نائب القاضي
يسمع البينة، ويكتب الإقرار، ويبعث إلى القاضي والقاضي يقضي بذلك، ولا
ينبغي له أن يقضي بذلك، وإنما عليه أن يأمر بإعادة البينة، وأن يحضر المقر
حتى يقر عنده، ثم يحكم بما يصح عنده، وإن كان الشهود شهدوا عند الخليفة
بالحق، ثم غابوا فأعلم الخليفة القاضي بما شهدوا عنده، لهذا على هذا،
فالقاضي لا يقبل، ولا يحكم حتى يعيدوا الشهادة عنده.
وكذلك إذا كان المدعى عليه أقر عند الخليفة، ثم جحد بعد ذلك فأخبر الخليفة
القاضي بإقراره عنده، فالقاضي لا يقبل ذلك على طريق الشهادة؛ لأنه لو شهد
على إقراره غير خليفته مع رجل آخر يقبل ذلك، فخليفته أولى.
وسئل القاضي الإمام شمس الأئمة الأوزجندي رحمه الله عن القاضي إذا سمع
الدعوى، ويسمع النائب الشهادة هل يقضي النائب بالشهادة بدون إعادة الدعوى؟
قال: لا إلا أن يأمر القاضي بالحكم بتلك البينة، وسئل أيضاً عن القاضي إذا
سمع الدعوى والشهادة ولم يحكم، وأمر نائبه بالحكم، وهو مأذون بالاستخلاف
بحكم المثال الصحيح هل يصح هذا الأمر؟ وإذا حكم النائب هل يصح حكمه؟ قال:
نعم.
وفي «الفتاوى» عن الفقيه أبي القاسم: أن القضاة على قسمين: قاض قلده قاض
ولي بسبب من دفع الرشوة أو الشفعاء، فالأول إذا قضى، ثم رفع بقضيته إلى قاض
يرى خلافه، فإنه لا يبطل قضاؤه، وإذا حصل في محل الاجتهاد، والثاني إذا
قضى، ثم رفع قضاؤه إلى قاض يرى خلافه له أن ينقضه.
بعض مشايخ زماننا قالوا: إن من تقلد القضاء بالرشوة لا يصير قاضياً، وإذا
قضى لا ينفذ حكمه، ولا يحتاج فيه إلى النقض، وأما الذي طلب القضاء
بالشفعاء، فهو والذي قلد سواء في حق نفاذ قضائه في المجتهدات.
وإذا كان القاضي مأذوناً بالاستخلاف فحكم خليفته في حادثة، ووقعت الحاجة
إلى إثبات حكمه عند القاضي الأصل، ينبغي أن يثبتوا ذلك بشرائط من نفذ، ثم
دعوى صحيحة على خصم كما لو ثبتوا قضاء قاض آخر.
ومما يتصل بهذا الفصل
ما ذكر شمس الأئمة السرخسي في «شرحه» : أن في ظاهر الرواية المصر شرط نفاذ
القضاء، وفي «النوادر» ليس بشرط وذكر الخصاف في «أدب القاضي» في باب القاضي
يقضي بعلمه: إن المصر شرط نفاذ القضاء وإليه أشار محمد في «الأصل» .
وفي «المنتقى» إشارة عن أبي يوسف إلى أن المصر شرط نفاذ القضاء، فإنه قال:
قضاة أمير المؤمنين إذا خرج أمير المؤمنين، فخرجوا معه، فلهم أن يقضوا؛ لأن
هؤلاء ليسوا بقضاة أرض إنما هم قضاة الخليفة، فأينما خرج الخليفة فلقضاته
أن يقضوا، وإن خرج القاضي وحده، فليس له أن يقضي، وعن أبي يوسف في
«الإملاء» أن المصر ليس بشرط، قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وكثير من
مشايخنا أخذوا برواية «النوادر»
(8/92)
أن المصر ليس بشرط باعتبار الحاجة، فإنه
عسى تقع الحاجة إلى أن يخرج القاضي إلى محدود، ويسمع الدعوى ثمة، ويقضي
هناك، وإذا أمر القاضي إنساناً بالقسمة في الرستاق، فقسم صحت قسمته باختلاف
الروايات؛ لأن القسمة ليست من أعمال القضاء حتى يشترط لصحتها المصر في ظاهر
الرواية، والله أعلم.
الفصل الحادي والعشرون: في الجرح والتعديل
ولا يسأل القاضي عن الشهود عند أبي حنيفة إلا أن يطعن الخصم فيهم، وقال أبو
يوسف ومحمد رحمهما الله: يسأل عنهم من غير أن يطعن الخصم فيهم، وهذا في غير
الحدود والقصاص، أما في الحدود والقصاص يسأل عنهم وإن لم يطعن الخصم فيهم،
قيل: هذا اختلاف عصر وزمان، فأبو حنيفة رحمه الله كان في القرن الثالث الذي
شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخيرية، فكان الغالب فيهم العدالة،
فبقي الحكم على الغالب، وهما كانا في القرن الرابع الذي شهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم فيهم بالكذب، فكان الغالب فيهم الكذب، فأمر بالسؤال لهذا.
وكان القاضي الإمام أبو علي النسفي رحمه الله يقول: ينبغي للقاضي أن يحكم
زي الشهود وسيماهم، إن كان عليهم زي الصالحين عمل فيهم بقول أبي حنيفة، وإن
كان عليهم زي الفسقة عمل فيهم بقولهما، وقيل لا بل هذا اختلاف على الحقيقة،
حجتهما أن التعديل حق القاضي؛ لأن القاضي منهي عن القضاء بشهادة الفاسق،
مأمور بالتثبت فيه، فلا يتوقف استيفاؤه على طلب الخصم قياساً على سائر
الحقوق، ولأبي حنيفة رحمه الله الحديث المعروف وهو قوله عليه السلام:
«المسلمون عدول بعضهم على بعض» ولأن الظاهر من حال المسلمين العدالة،
والبناء على الظاهر واجب ما لم يعارضه ظاهر آخر، ففيما إذا طعن الخصم فيهم
ظاهر آخر، فوجب السؤال بخلاف ما قبل الطعن، كان قضيته ما قلنا: أن الإنسان
في الحدود وفي القصاص أيضاً إلا أنا إذا تركنا القياس، ثمة؛ لأن الظاهر لا
يخلو عن نوع احتمال وشبهه، والحدود تدرأ بالشبهات، فشرطنا السؤال ثمة
احتيالاً لدرئها قبل السؤال، فأما المال يثبت مع الشبهات؛ ولأن في الحدود
لو وقع الخطأ لا يمكن التدارك بخلاف المال.
فلو أن الخصم عدل الشهود، فهذا على وجهين: أما إن عدلهم قبل أن يشهدوا
عليه، فقال: هم شهود عدول، فلما شهدوا عليه أنكرهما، أو عدلهم بعدما شهدوا
عليه، فإن عدلهم بما شهدوا عليه، فهو على وجوه:
(8/93)
إن قال: صدقوا فيما شهدوا به علي، أو قال:
شهدوا علي بالحق، أو قال: الذي شهدوا به في هذه الشهادة حق، وفي هذه الوجوه
الأربعة القاضي يقضي عليه بما شهدوا لأن بهذه الألفاظ إقرار منه بالمال،
ويكون القضاء بالإقرار لا بالشهادة، وإن قال: هم عدول إلا أنهم أخطؤوا، أو
قال: هم عدول، ولم يزد على هذا، فإن كان المشهود عليه عدلاً من أهل
التعديل، فالقاضي يقضي بشهادتهما، عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله من
غير أن يسأل من المزكي بناء على أن العدد في المزكي عندهما ليس بشرط، وعند
محمد ما لم يسأل القاضي عن المزكي لا يقضي بشهادتهما.
بيانه أن العدد في المزكي شرط عنده، هكذا ذكر في «كتاب التزكية» وفي كتاب
«الأقضية» في أوله وفي «أدب القاضي» للخصاف، في آخر باب المدعى عليه يعدل
الشهود وفي «الرقيات» ، فعلى هذه الروايات اعتبر تعديل الشهود عليه
تعديلاً، وذكر في «الجامع الصغير» وفي كتاب «الأقضية» قريباً من الثلث
الأول، وفي «أدب القاضي» للخصاف في أول باب المدعى عليه يعدل الشهود: أن
القاضي لا يقضى بشهادتهما حتى يسأل عنهما وهكذا روي عن أبي يوسف في
«الأمالي» ، وهكذا روى هشام عن محمد، فعلى هذه الروايات (81أ4) لم يعتبر
تعديل المشهود عليه تعديلاً.
ووجه هذه الروايات أن المدعى عليه إن عدلهما بقوله: هم عدول، فقد جرحهما
بإنكاره ما شهدا به بنسبته إياهما إلى الكذب؛ ولأن تعديل الشهود حق المدعي،
وفي زعم المدعي أن هذا التعديل لم يصح؛ لأن المدعى عليه ظالم ليس من أهل
التعديل، والمنقول عن محمد رحمه الله في هذا أن المدعى عليه حين قال:
أولهما لم يزكهما.
قال الصدر الشهيد رحمه الله: فإما أن يقال: في المسألة روايتان، أو يحمل ما
ذكر في بعض الروايات أن القاضي لا يقضي بشهادتهما حتى يسأل أنه قول محمد
خاصة، لا لأن تعديله ليس بتعديل، ولكن لأن العدد في المزكي عنده شرط على ما
يأتي بيانه بعد هذا، أو يقال: ما ذكر في بعض الروايات أن تعديل المشهود
عليه ليس بتعديل محمول على ما إذا كان جاحداً، أما إذا كان ساكتاً، وهو من
أهل التعديل يصح تعديله، هكذا أول رحمه الله في «شرح الجامع الصغير» وإن لم
يكن المدعى عليه من أهل التزكية والتعديل بأن كان فاسقاً أو مستور الحال،
لا يصح تعديله، ولا يقضي القاضي بشهادتهما.
فإن قيل: يجب أن يصح تعديل المشهود عليه، وإن كان فاسقاً، أو مستور الحال؛
لأنه إقرار على نفسه، وإقرار الفاسق أو مستور الحال على نفسه صحيح.
قلنا: كما أن هذا إقرار على نفسه، فهذا إقرار بوجوب القضاء على القاضي لا
يصح، ثم إذا لم يثبت التعديل بقول الفاسق ومستور الحال، فالقاضي يسأل
المشهود عليه: أصدقوا أم لا؟ إن قال: صدقوا، فقد أقر على نفسه، فيقضي عليه
بإقراره، وإن قال: أوهموا أو أخطأوا، فالقاضي لا يقضي عليه.
وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله ينبغي للقاضي إذا أقام المدعي البينة أن
(8/94)
يسأل عن الشهود، فإن عدلهم المشهود عليه
بعدما شهدوا عليه قضى عليه، ولم يلتفت إلى طعنه بعد ذلك، هذا إذا عدلهما
المشهود عليه بعد الشهادة، فأما إذا عدلهما قبل أن يشهدوا عليه، ثم شهدا
عليه، فأنكر المشهود عليه ما شهدا به، فالقاضي لا ينفذ ذلك عليه، ولا يكتفي
بذلك التعديل.
أما على الرواية التي لا تعتبر تعديل المشهود عليه بعد الشهادة فظاهر، وأما
على الرواية الأخرى؛ لأنه يمكنه أن يقول: كنت ظننت أنهما عدلان، وأنهما لا
يشهدان على زور غير أنهما تغيراً أو فسقا، هكذا ذكر المسألة في «كتاب
الأقضية» ، وروى الحسن عن أبي حنيفة ما يدل على أن تعديله قبل الشهادة
معتبر، فإنه روى أن المشهود عليه إذا عدل الشهود بعدما شهدوا عليه، ثم طعن
فيهم، قال: لا يقبل طعنه، وقضى عليه بشهادتهم، وإن كان قد عدلهم قبل أن
يشهدوا عليه، فلما شهدوا عليه طعن فيهم، قال: لم يقض عليه بتعديله إياهم
قبل أن يشهدوا قبل الجواب بالطعن، فهذا يبين لك أن بدون الطعن يقضي عليه
بذلك التعديل السابق.
ثم التزكية نوعان: تزكية السر، وتزكية العلانية.
فتزكية العلانية: أن يحضر العدل مجلس الحكم ويسأله القاضي عن الشهود
بحضرتهم فيزكيهم، ويقول بحضرتهم: هؤلاء عدول.
والتزكية في السر أن يسأل القاضي المعدل عن الشاهد في السر، فيعدله ويجرحه
وقد كانت التزكية في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله
عنهم أن القوم كانوا صلحاء، وكان المعدل لا يخاف من المدعي والشهود؛ لأنهم
كانوا منقادين للحق، وبعد ذلك فسد أحوال الناس، وآل الأمر إلى أن المزكي لو
جرح الشهود بحضرتهم قاتلوه بالأذى، وظهر عجز المعدل عن تزكية العلانية،
فأحدثوا تزكية السر، وهو معنى ما نقل عن محمد رحمه الله في «النوادر» :
تزكية السر عناء وبلاء، وقيل: أول من أحدث تزكية السر شريح، وحين أحدثها
قيل له: أحدثت ما لم يكن، فقال: أحدثتم فأحدثنا، يعني: أظهرتم إحداث
العداوة والخصومة مع المعدل، فأحدثنا تزكية السر.
قال في «أدب القاضي» : لو جمع القاضي بين تزكية السر وبين تزكية العلانية،
فذلك أحسن، وتفسير الجمع أن المزكي عدل الشهود في السر، فالقاضي يجمع بين
الشهود وبين المزكي في مجلسه، ويقول للمزكي: أهؤلاء الذين زكيتهم؟.
قال في كتاب «الأقضية» وينبغي أن يكون المعدل في العلانية هو المعدل في
السر، وإنما كان هذا حسن حتى لا يتسمى الرجل باسم غيره، إذ لا يتفق اثنان
على اسم واحد.
قال في «أدب القاضي» : وينبغي للقاضي أن يختار للمساءلة عن الشهود من كان
عدلاً؛ لأنه يعدل غيره فلا بد من أن يكون عدلاً في نفسه، وينبغي أن يكون
صاحب خبرة بالناس؛ لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة لا يعرف العدل من غير العدل،
وينبغي أن لا يكون طماعاً حتى لا يخدع بالمال، وينبغي أن يكون فقيهاً يعرف
أسباب الجرح وأسباب التعديل؛ لأنه اختلف أقاويل أهل العلم في أسباب التعديل
والجرح، فمنهم من ضيق كل
(8/95)
التضييق حتى قال: من سمع الأذان وانتظر
الإقامة سقطت عدالته، ومنهم من وسع كل التوسيع، ولا يضيق كل التضييق ولا
يعدل مردود الشهادة من غير علم، ولا يجرح عدلاً من غير علم.
وينبغي أن يكون غنياً حتى لا يخدع بالمال، وإن وجد عالماً فقيراً، وغنياً
غير عالم اختار العالم، وإن وجد عالماً ثقة لا يخالط الناس، ووجد ثقة غير
عالم يخالط الناس يختار العالم؛ لأن العالم لا يقدم في شيء حتى يصح ذلك
عنده، فهو بعلمه يقدر على الجرح والتعديل، وغير العالم لا يعرف العدل من
غير العدل، فكان العالم أولى من هذا الوجه.
الأولى أن لا يكون المزكي مغفلاً، ولا يكون منزوياً لا يخالط الناس؛ لأنه
إذا كان مغفلاً، أولا يخالط الناس لا يعرف معاملاتهم، ولا ينكشف له حالهم،
ولا يمكنه تمييز العدل.
والعدد في المزكي ورسول القاضي إلى المزكي، وفي المترجم عن الأعجمي، وعن
الشاهد أو الخصم الأعجمي ليس بشرط عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله،
والواحد يكفي، وعند محمد رحمه الله العدد شرط، والواحد لا يكفي، ويكفيه
الاثنان إن كان المشهود به حقاً يثبت بشهادة رجلين عدلين، وإن كان حقاً لا
يثبت إلا بشهادة الأربع، وأجمعوا على أن ما سوى العدد من سائر شرائط
الشهادة سوى التلفظ بلفظة الشهادة من العدالة والبلوغ والبصر، وأن لا يكون
محدوداً في القذف شرطه، والحرية شرط بالإجماع في ظاهر الرواية، والإسلام
شرط بالإجماع، إذا كان المشهود عليه مسلماً.
وأجمعوا على أن التلفظ بلفظة الشهادة ليس بشرط، فوجه قول محمد رحمه الله:
أن التزكية والترجمة شهادة معنى؛ لأن القضاء لا يجب إلا بهما كما لا يجب
إلا بالشهادة؛ لأن العلم للقاضي لا يثبت إلا بهما، فكانت شهادة معنى،
فيعتبر بالشهادة حقيقة، والواحد لا يكفي في الشهادة حقيقة، فكذا في التزكية
والترجمة، وعن أبي حنيفة وأبي يوسف رحمها الله أنهما قالا: إن التزكية
والترجمة شهادة معنى كما قاله محمد رحمه الله إلا أنه خبر حقيقة، ولهذا لا
يشترط فيهما لفظة الشهادة، وهو قوله: أشهد.
فمن حيث إنه خبر لم يشترط فيها العدد، ومن حيث الشهادة شرطنا فيها سائر
شرائط الشهادة، ولحقيقة أن اشتراط سائر الشرائط ما سوى العدد في الشهادة
على موافقة القياس، أما العدالة فلأن بها يترجح الصدق، ولهذا شرطت العدالة
في سائر الإجارات، وأما البلوغ عن عقل والحرية؛ فلأن الشهادة ولاية على
الغير، وإنها متفرع عن الولاية عن نفسه، والولاية على نفسه لا تثبت إلا
بالبلوغ عن عقل والحرية.
وأما البصر؛ فلأن (81ب4) القدرة على التمييز إنما يثبت به، وأما الإسلام
إنما شرط إذا كان المشهود عليه مسلماً؛ لأنه لا ولاية للكافر على المسلم،
أو لأن الكافر متهم بالخيانة في حق المسلمين، دل أن اشتراط هذه الشرائط في
الشهادة على موافقة
(8/96)
القياس، فيمكن اشتراطها فيما هو في معناها
قياساً عليها.
وأما اشتراط العدد في الشهادة كان على مخالفة القياس، ولهذا لا يشترط في
سائر الإخبارات، فيقتصر عليها، ثم هذا الاختلاف في تزكية السر، فأما في
تزكية العلانية فالعدد شرط بالإجماع؛ لأن معنى الشهادة فيها أبين وأظهر ألا
ترى أنه يختص بمجلس القضاء، بخلاف تزكية السر عندهما.
وذكر أبو علي النسفي رحمه الله في «كتابه» عن محمد رحمه الله ما يدل على أن
العدد في تزكية السر عنده ليس بشرط، والذي ذكر فيما إذا عرف المزكي الشهود
بالعدالة، أو لم يعرفهم بها، لكن سأل ممن عرفهم وأخبره بعدالتهم ينبغي
للمزكي أن يعدلهم قطعاً، فيقول: هم عدول، ولا يقول: هم عدول؛ لأن الثقاة
أخبروا بعدالتهم؛ لأن هذا ليس بتعديل بل هذا إخبار عن تعديل الغير، وهذا
الإخبار لم يثبت عند القاضي لكون المخبر واحد رواه عن محمد رحمه الله.
وروى عنه رواية أخرى: أن القاضي يقبل ذلك منه؛ لأنه أحال بالتعديل على
حجته، وهذه الرواية دليل على أن العدد في المزكي عند محمد رحمه الله ليس
بشرط، أما الترجمان، إذا كان أعمى ذكر في غير رواية «الأصول» عن أبي حنيفة:
أنه لا تجوز ترجمته؛ لأن العمى جرح، وعن أبي يوسف رحمه الله أنه تجوز
ترجمته، والمرأة الواحدة إذا كانت ثقة حرة جازت ترجمتها عندهما لرجل، وهذا
في الأموال وما يجوز شهادتها فيه أما فيما لا تجوز شهادتها فيه لا تجوز
ترجمتها.q
قال في كتاب «الأقضية» : إذا أراد المزكي أن يعدل الشهود ينبغي أن يقول
إنهم عدول ثقات جائزوا الشهادة، قال: هذا هو أبلغ الألفاظ في التعديل.
وقال ابن سلمة: المزكي يقول في التزكية: هو عندي عدل مرضي جائز الشهادة،
وفي «العيون» ذكر لفظ: عندي أيضاً، وبعض المشايخ قالوا: إذا قال: عندي لا
يكون هذا تعديلاً بقوله: عندي وقع الشك، والفقيه أبو الليث رحمه الله زين
هذا القول، وقال: هذا عندي ليس شيء؛ لأن العالم بالحقائق هو الله تعالى،
وإنما يخبر المكلف عما عنده ووقع اجتهاده، وقال أبو يوسف رحمه الله: يقول
المزكي: ما أعلم منه إلا خيراً كما ذكر عمر رضي الله عنه، ولو قال: لا بأس
به فقد عدله.
وفي القاضي إذا قال المزكي: هم عدول، فهذا ليس بتعديل؛ لأن المحدود في
القذف بعد التوبة عدل ولا تقبل شهادته، وما وراه أبو علي النسفي عن محمد
رحمه الله دليل على أنه تعديل، وكذلك إذا قال: هم ثقات، فالقاضي لا يكتفي
به فقد يطلق هذا اللفظ على المستور، وبعض مشايخنا قالوا: إنه تعديل، ولو
قال: إنه مزكى يكتفي به؛ لأنه طلب منه التزكية، وقد أتى بلفظ التزكية، وصار
كالشاهد بعد الاستشهاد يأتي بلفظة الشهادة، ولو قال: لا أعلم منه إلا خيراً
فقد ذكر في «أدب القاضي» أنه تعديل، وإنه موافق لما روينا عن أبي يوسف ومن
المشايخ من قال: إنه ليس بتعديل، والأصح أنه تعديل؛ لأنه نفى ما سوى الخير
عنه، فكان مثبتاً صفة الخيرية له، إلا أنه يثبت بقدر ما
(8/97)
علم من حيث الظاهر، وهو المأخوذ به في حق
العباد، أما العلم بالحقائق لله تعالى.
وعن محمد أن المزكي إذا كان عالماً بصيراً يكتفي به منه، وإذا كان غير عالم
لا يكتفي به منه؛ لأن غير العالم ربما لا يعرف هذا تعديل، وإن قال: لا أعلم
منه إلا خصلة من أنواع الخير، لا يكون هذا تعديلاً؛ لأنه لم يثبت له إلا
خصلة من أنواع الخير، وبهذا القدر لا تثبت العدالة.
وإن قال: هو عدل فيما علمنا، فقد قال بعض العلماء: إنه تعديل، وهكذا روي عن
شريح، والأصح أنه ليس بتعديل؛ لأن قول الإنسان: فيما أعلم إذا اقترن
بالإخبار بخرجه من أن يكون إثباتاً، ألا ترى أن الشاهد إذا شهد أن لفلان
على فلان كذا فيما أعلم، لا تقبل شهادته؛ لأنه لا يكون إثباتاً وكذلك قال
أبو حنيفة ومحمد: إذا قال: لفلان علي ألف درهم فيما أعلم لا يكون إقراراً،
تأويل حديث شريح أنه كان لا يقبل شهادة المستور كما هو قول أبي حنيفة.
وإن قال: هو عدل إن لم يكن شرب الخمر، فهذا ليس بتعديل؛ لأن فيما ذكر تعريض
لوصفه بذلك النوع من الفسق، وإن قال: الله أعلم لا يكون تعديلاً بل يكون
جرحاً؛ لأنه نفى علم نفسه حيث أحال بالعلم على الله تعالى.
قال ابن سماعة في «نوادره» عن أبي يوسف قال: أجيز في تزكية السر تزكية
العبد والمرأة والمحدود في القذف والأعمى، إذا كانوا عدولاً، ولا أقبل في
تزكية العلانية إلا من كنت أقبل شهادته؛ لأن تزكية السر من باب الإخبار،
ألا ترى أنه لا يشترط فيه العدد عندهما، والمخبر به أمر ديني، وقول المرأة
والعبد والمحدود في القذف في الأمور الدينية مقبول، إذا كانوا عدولاً، ألا
ترى أنه تقبل روايتهم في الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجب
الصوم بقولهم، فأما تزكية العلانية نظير الشهادة حيث شرط فيها العدد،
وهؤلاء لا يصلحون للشهادة.
قال: وأقبل فيها رجل وامرأتان يعني في تزكية العلانية؛ لأن شهادة رجل
وامرأتين في الأموال مقبولة، فكذلك التزكية، وعلى هذا تزكية الوالد لولده
في السر جائزة، لأنها من باب الإخبار، أقصى ما فيه أنه تزكية لنفسه من حيث
المعنى، ولكن يجوز للإنسان أن يزكي نفسه إذا احتاج إليه، ألا ترى أنه كيف
زكى يوسف صلوات الله عليه في قوله تعالى: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ
عليم} (يوسف: 55) وأما في العلانية فلا تجوز إلا تزكية من تقبل شهادته له،
وكذلك على هذا تزكية العبد مولاه في السر جائزة وروى محمد عن أبي حنيفة أن
يجوز تعديل العبد والمرأة والأعمى، وعن محمد: لا يجوز تعديل هؤلاء.
قال: وينبغي للمعدل أن يختار السؤال ممن اتصف بالأوصاف التي شرطناها في
المزكي، وإنما يسأل جيرانه وأهل سوقه؛ لأنهم أعرف بحاله، هكذا ذكر في «أدب
القاضي» .
قال الشيخ الإمام الأجل شمس الأئمة الحلواني: إنه يسأل عن جيرانه، إذا لم
يكن
(8/98)
بينه وبينهم عداوة ظاهرة، ولا يتحامل هو
عليهم، يعني: لا يكون يده فوق أيديهم بنحو أن لا يعطى الجباية وما أشبهه،
وهو اختيار أبي علي النسفي، ورواه عن محمد، وذكر من جملة من يسأل عنه رفيق
الشاهد وقريبه، فقد صح عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا كان في المرء ثلاث
خصال فلا تشكوا في صلاحه إذا حمده ذوو قرابته، وجاره، ورفيقه.
وإن لم يجد في جيرانه، وأهل سوقه من يصلح للتعديل، يسأل أهل محلته، وإن وجد
كلهم غير ثقات يعتمد في ذلك تواتر الأخبار، وكذلك إذا سأل جيرانه، أو أهل
محلته، وهم غير ثقات، فاتفقوا على تعديله أو جرحه، ووقع في قلبه صدقه كان
ذلك بمنزلة تواتر الأخبار، وإن أخبر بعضهم بعدالته وبعضهم بجرحه، فالحكم
فيه كالحكم في اختلاف المزكي في التعديل والجرح، وسيأتي بيان ذلك بعد هذا
إن شاء الله تعالى.
وإن كان الشاهد غريباً لا يعرف إذا سأل عنه في السر، فالقاضي يسأل الشاهد
عن معارفه، فإذا سماهم سأل عن معارفه في السر حتى يظهر عنده أنهم هل يصلحون
للتعريف، فإن عدلوا سأل عنهم عن الشاهد، واعتمد على خبرهم في الجرح
والتعديل، ولا يوقف فيه، وسأل عن العدل الذي في بلدته، إن كان في ولاية هذا
القاضي وإن لم يكن كتب إلى قاضي ولايته تعرف عن حاله.
قال هشام: سألت محمداً عن رجل شهد عند القاضي، وهو على رأس خمسين فرسخاً،
فبعث القاضي أميناً على جعل يسأل المعدل عن الشاهد، فالجعل على من؟ قال:
على المدعي، وهذا ظاهر؛ لأن منفعة عمل الأمين راجعة إلى المدعي.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: لا ينبغي للقاضي أن يسأل عن
الشاهد رجلاً له على المشهود له مال، إذا كان المشهود له مفلساً فلسه
القاضي، أو ميتاً أقام وصية على غيره بينة؛ لأنه متهم في هذا التعديل
بيانه: إذا أظهر عدالة الشهود لزم القاضي القضاء بشهادتهم، وعند ذلك يزول
الإفلاس، وزوال الإفلاس يقع في حقه؛ لأن ماله في ذمته بمنزلة النادي زيول
ذلك النوي بزوال الإفلاس، ثبت أن في التعديل نفعاً له فكان متهماً فيه.
ونظير هذه رواية في الشاهد، إذا كان له على المشهود له مال، وأنه مفلس أنه
لا تقبل شهادته له، لهذه التهمة، وإن لم يكن مفلساً تقبل شهادته له، ويصح
تعديله لشهوده؛ لعدم هذه التهمة، إذ لا يثبت بهذه الشهادة أمر لم يكن
ثابتاً؛ لأنه كان متمكناً من استيفاء حقه قبل الشهادة وقبل التعديل، حسب
تمكنه منه بعد ذلك.
قال: ولو أن غريباً نزل بين ظهراني قوم، وشهد هذا الغريب عند القاضي في
حادثة، فسألهم القاضي، أو العدول عن حاله، وقد عرفوه بالصلاح، ولم يظهر منه
ما يسقط عدالته هل يسعهم أن يعدلوه؟ كان أبو يوسف رحمه الله أولاً (82أ4)
يقول: إن مكث بينهم ستة أشهر، ولم يعرفوا منه إلا الصلاح، يسعهم أن يعدلوه،
وإن كان ذلك
(8/99)
فليس لهم أن يعدلوه، ثم رجع وقال: إذا مكث
بينهم سنة، ولم يعرفوا منه إلا الصلاح جاز لهم أن يعدلوه، ومالا فلا؛ لأن
الحاجة إلى معرفة حاله بالتجربة، وقد ورد الشرع بتقدير مدة التجربة بالسنة،
كما في العين.
يوضحه: أن من الفرائض ما لا يجب إلا بعد كمال الحول، كالزكاة وصوم رمضان،
فما لم يحل عليه الحول لا يقفون عليه أنه متهتك أو ممن يراعي حق الله
تعالى، في الزكاة والصوم، وروى هشام عن محمد رحمه الله أنه على قدر ما يقع
في القلب صلاحه.
ورورى إبراهيم عن محمد أنه قال: من وقت في التزكية فهو مخطئ، وهذا على ما
يقع في القلب، ربما يعرف الرجل في شهرين، والآخر لا يعرف في سنة، لأنه
يرائي ويتصنع، وهذا القول أشبه بالفقه، وينبغي أن يكون على قياس أبي حنيفة
كذلك؛ لأنه يفوض إلى رأي المجتهد في مثله، ولا يقدر فيه بشيء كما في الكثير
الفاحش، وفي المدة التي يصير الكلب معلماً فيه.
ولو أن صبياً بلغ، وشهد شهادة، فحكمه حكم هذا الغريب الذي نزل من ظهراني
القوم لا يعدلوه حتى يظهر فيها عندهم صلاحه وعدالته، والمدة التي يظهر فيها
حاله عندهم، مقدرة على قول أبي يوسف كما بينا، ولا تقدر عند محمد بل هي على
ما يقع في القلب؛ لأن العدالة مبناها على توجه الخطاب، حتى يعرف ازدجاره عن
محظورات دينه وائتماره بالأوامر، والخطاب إنما توجه عليه الآن.
ولو أن نصرانياً أسلم ثم شهد، فإن كان القاضي عرفه عدلاً في النصرانية يقبل
شهادته ولا يبالي، وإن لم يعرفه بالعدالة يسأل فيمن عرفه بالعدالة في
النصرانية، ويسعه أن يعدله من غير تأني، وإنما وقع الفرق بين الصبي
والبالغ، لما ذكرنا أن العدالة والفسق إنما يعرف بتوجه الخطاب، والخطاب
متوجه على النصراني، وإذا رأيناه مزدجراً عما اعتقده محظور دينه، يستدل به
على عدالته، فلا يتغير ذلك بالإسلام، فأما الصبي فإنما يتوجه عليه الخطاب
بعد البلوغ، ولا يعرف انزجاره عن محظورات دينه قبل ذلك ليستدل به على
عدالته، فلا بد من مدة بعد البلوغ ليعرف انزجاره عن محظورات دينه.
وقال بعض مشايخنا: الصبي إذا رهق الحلم، ولم يزل رشيداً حتى بلغ أن شهادته
مقبولة، ويسع للمعدل أن يعدله، وإن لم يعرف سنه رشداً إلى أن بلغ، فإنه
يتأنى فيه، ويتربص مدة يظهر صلاحه، ويقع في القلب أنه عدل لما ذكر في
الغريب، وهذا القائل سوى بين الصبي وبين النصراني في اعتبار العدالة
السابقة، وهو اختيار أبي علي النسفي رحمه الله، وجه التسوية: أن النصراني
لا شهادة له على المسلم كالصبي، وإنما حدث لهما أهلية الشهادة على المسلمين
بالبلوغ والإسلام، ثم لما اعتبر بالعدالة التي قبل الإسلام فلأن يعتبر
العدالة التي قبل البلوغ في حق المراهق أولى، وهذا لأن المراهق مأمور
بالصلاة، ويؤدب على تركها، ويؤمر بالقضاء إذا أفسدها، وكذلك الصوم وغيرهما
من الأحكام المختصة بأهلية الشرائع، ما لم يكن النصراني، ثم لما بنى الحكم
على
(8/100)
العدالة قبل الإسلام، فلأن يبني على
العدالة التي للصبي قبل البلوغ أولى، ولكن المشهور ما ذكرنا.
في كتاب «الأقضية» عن محمد رحمه الله في نصرانيين شهدا على نصراني وعدلا في
النصرانية، ثم أسلم المشهود عليه، ثم أسلم الشاهدان، فالقاضي لا يقضي بتلك
الشهادة؛ لأنهما كافران وقت الأداء، فإن شهدا بذلك بعد الإسلام يعني أعادا
شهادتهما بعد الإسلام، فالقاضي يسأل المعدل المسلم عن حالهما؛ لأن ذلك
التعديل لم يعتبر حجة على المشهود عليه بعد الإسلام، لكونه تعديل الكافر
حتى لو كان ذلك التعديل السابق من المسلمين قضى القاضي بشهادتهما؛ لأن ذلك
التعديل وقع معتبراً.
وفي «نوادر هشام» عن محمد رحمه الله، قال: سألت محمداً عن شاهدين مشركين
شهدا على مشرك بشهادة، فعدلا فلم يقض القاضي بشهادتهما حتى أسلم المشهود
عليه، ثم أسلم الشاهدان، قال: أسأل الشاهدين أن يعيدا الشهادة، قلت: أتسأل
عن تعديلهما قال: لا لأنهما عدلا في الشرك، قلت: فمسألة الشاهدين المشركين
من المسلمين أو من المشركين، قال: من المسلمين قلت: فإن لم يعرفهما قال:
يسأل المسلمون عن العدول من أهل الشرك، ثم يسأل أولئك المشركون عن الشهود.
قال محمد رحمه الله: في رجل ارتكب ما يصير به ساقط الشهادة من الكبائر، ثم
تاب، وشهد عند القاضي قبل أن يأتي عليه زمان، لا ينبغي للمعدل أن يعدله،
حتى يأتي عليه زمان، وهو على توبته يقع في القلب أنه صحت توبته، وهذا لأن
التوبة أمر باطن لا تعرف إلا بدليلها، والامتناع عن ارتكاب الجناية محتمل
بين أن يكون على وجه التوبة (وبه) يصير عدلاً، وبين أن يكون لا على وجه
التوبة؛ لأن الفاسق لا يداوم على معصية، على سبيل الموالاة، وبه لا يصير
عدلاً، فلا بد من انضمام شيء آخر يدل على أن الامتناع على سبيل التوبة،
فضممنا مضي مدة، وهو على توبته فيها يقع في قلب المجتهد أنه صح التوبة،
وعلى قياس ما روي عن أبي يوسف فيما تقدم ينبغي أن تقدر تلك المدة لسنة أو
لستة أشهر.
وإن كان هذا الفاسق شهد وهو فاسق ثم تاب، ومضى عليه زمان، وهو على توبته
على نحو ما ذكرنا، فالقاضي لا يقضي بتلك الشهادة بل يأمر بإعادتها، فإن
أعادها وعدله المعدل، فالقاضي يقبل شهادته إن كان لم يرد شهادته التي شهدها
في حال فسقه، أما قبل الرد إنما يقبل شهادته؛ لأنه طهر شهادته بإخبار
المعدل، وأما بعد الرد إنما لا يقبل شهادته؛ لأن بعد رده الشهادة هو متهم
في التوبة، لجواز أنه قصد بها تنفيذ شهادته، ورفع ضرر عاد رد الشهادة عن
نفسه، وهو في الباطن بخلافه.
ولو أن فاسقاً معروفاً غاب غيبة منقطعة سنة أو سنتين، ثم قدم، ولا يرى منه
إلا الصلاح، فشهد عند القاضي، وسأل القاضي العدل عنه، فلا ينبغي للعدل أن
يجرحه لما كان رأى فيه من قبل، ولا ينبغي له أن يعدله أيضاً حتى يتبين
عدالته، وهو بمنزلة الغريب نزل بين ظهراني قوم.
(8/101)
وكذلك الذمي إذا أسلم، وقد عرف منه ما هو
جرح قبل الإسلام لا ينبغي للمعدل أن يجرحه لما رأى فيه من قبل، ولا يعدله
أيضاً حتى يظهر عدالته لما مرّ.
قال: ولو أن رجلاً عدلاً مشهوراً بالرضا غاب، ثم حضر وشهد، وسئل المعدل
عنه، فإن كانت الغيبة قريبة كان للمعدل أن يعدله؛ لأنه ظهر عدالته، ولم
يظهر بخلافه إذ لو كان منه شيء بخلافه لوصل الخبر؛ لأن المدة قريبة، وإن
كانت الغيبة منقطعة مسيرة ستة أشهر أو نحوه، فإن كان الرجل مشهوراً بالرضا
والعدالة كشهرة أبي حنيفة وابن أبي ليلى، فله أن يعدله، لأنه لم يظهر بخلاف
ما عرف منه إذ لو كان منه شيء بخلاف ذلك لتحدث الناس به؛ ولو تحدثوا به
لوصل الخبر ألا ترى أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يغيبون،
وكانوا لا يبطل حكم عدالتهم وطريقه ما قلنا.
وإن لم يكن الرجل مشهوراً، فالمعدل لا يعدله؛ لأن هذه مدة يجوز أن يتغير
المرء بها، وإذا لم يكن مشهوراً فالناس لا يتحدثون بأفعاله وأحواله ليستدل
بعدم وصول الخبر على عدم التغيير، وذلك ما إذا كان الرجل معروفاً مشهوراً.
وإذا عدل الشهود عند القاضي، وعرفهم القاضي بالعدالة، فشهدوا مرة أخرى، فإن
كان بين التعديل وبين الشهادة الثانية مدة قريبة قضى القاضي بشهادتهم من
غير سؤال، وإن طال الزمان، وقادم العهد سأل القاضي عنهم، يريد به على قول
من يرى السؤال عن الشهود؛ وهذا لأن الإنسان لا يبقى على صفة واحدة في جميع
الأزمان، بل يتغير على ما عليه الغالب، ولا يكون التغيير في زمان قريب
وإنما يكون في زمان طويل.
فبعد ذلك اختلف المشايخ فيما بينهم، منهم من قدر الطويل بسنة، وهو قول أبي
يوسف آخراً وهو اختيار أبي علي النسفي رحمه الله، ومنهم من قدر الطويل بستة
أشهر، وهو قول أبي يوسف أولاً، واختيار الخصاف رحمه الله، ومنهم من قدره
بأربعة أشهر، ومنهم من قدره بشهر، ومنهم من كره التقدير، وفوضه إلى رأي
القاضي، إن وقع في رأيه بعد الاجتهاد والتأمل أنه تغير في هذه المدة، ورأى
هذه المدة طويلة يسأل عنه، وإن وقع في رأيه أن لم يتغير في هذه المدة، ورأى
هذه المدة قريبة لا يسأل عنه، وهذا القول أشبه بأصول أصحابنا رحمهم الله،
وهو مروي عن محمد رحمه الله.
وإن عرف المزكي الشهود بالعدالة، غير أنه علم أن دعوى المدعي كان باطلاً،
وأن الشهود أوهموا في بعض الشهادة، فينبغي أن يبين للقاضي بما صح عنده من
عدالة الشهود، وإيهامهم في الشهادة أو بطلان دعوى المدعي، فالعدل قد ينسى،
وقد يغلط، والمزكي قد يقف على بطلان دعوى المدعي بما يعترض على أصل سبب
الاستحقاق من الإبراء أو الإيفاء في الديون، أو تلقي صاحب اليد الملك من
المدعي أو ما أشبه ذلك، والشاهد لا يعرف ذلك، ويشهد بناء على ما عاين من
سبب الاستحقاق، وبهذا لا تسقط عدالته (82ب4) فلهذا قال: يذكر عدالة الشهود
وبطلان دعوى المدعي.
ثم القاضي يتفحص عما أخبره المزكي غاية التفحص، فإن تبين له حقيقة ما أخبره
المزكي رد شهادة الشهود، وإن تبين له حقيقة ما أخبره المزكي قبل شهادة
الشهود؛ ولأنه
(8/102)
قد تثبت صحة دعوى المدعي بشهادة شهود عدول
ولم يثبت بهذا الخبر بطلان دعواه؛ لأنه لا يصلح تعارضاً لشهادتهم، فلهذا
قبل القاضي بشهادتهم.
فإن عرف المعدل من الشهود ما هو جرح، فلا ينبغي أن يذكر جرحه صريحاً، بل
يذكره بالتعريض أو الكتابة بأن يقول الله أعلم أو ما أشبهه، تحرزاً عن هتك
الستر على المسلم بقدر الممكن، وبعض مشايخنا قالوا: لا بد أن يذكر الجرح
ويذكر سببه؛ لأن أسباب الجرح كثيرة فلعل أن المعدل ظن شيئاً سبب جرح ولا
يكون سبب جرح، فلا بد من البيان لينظر القاضي فيه فإن رآه جرحاً رد شهادته
وما لا فلا.
قال: وينبغي للقاضي إذا جرح الشهود أن يكتم الجرح ويقول للمدعي: زد في
شهودك احترازاً عن هتك الستر قال بعض مشايخنا على قياس ما ذكر هاهنا: إذا
عدل بعض الشهود وجرح البعض ينبغي للقاضي أن يكتب أسماء الذين عدلوا، ويترك
أسماء المجروحين في السجل والمحضر؛ لأنه حينئذ يظهر المجروح لا محالة فيهتك
ستره، ولكن هذا ليس بصواب؛ لأن الخصم ربما يطعن وعند ذلك يحتاج القاضي إلى
معرفة الشهود، فإذا لم تكن أساميهم مذكورة في السجل ولا في الديوان لا
تجدهم حتى تتعرف عن حالهم ثانياً، فالصواب كتابة أساميهم، ولكن يكتب أسماء
المعدلين لا غير تحرزاً عن هتك الستر بقدر الممكن، وإن كان المعدل لا يعرف
الشهود بالعدالة فأخبره رجلان عدلان وسعه أن يعدلهما، هكذا ذكر في كتاب
«الأقضية» ؛ لأن خبر العدلين حجة مطلقة يجوز للقاضي أن يقطع الحكم به،
فيجوز للمعدل التعديل به.
ألا ترى أنه إذا شهد عند رجل عدلان على النسب وسعه أن يشهد على النسب، فكذا
هاهنا قالوا: هذا الاستشهاد مستقيم على ما ذكر محمد رحمه الله في مسألة
النسب في الكتب الظاهرة، أما على ما ذكر بشر بن الوليد أن على قول أبي يوسف
تجوز الشهادة على النسب بشهادة الرجلين العدلين، ولا تجوز عند أبي حنيفة
رحمه الله حتى يسمع من العامة، فهاهنا يجب أن يكون الجواب على الخلاف
أيضاً، على قول أبي حنيفة لا يسعه التعديل بإخبار العدلين حتى يسمع ذلك من
العامة.
وروى هشام عن محمد رحمه الله مسألة التعديل بإخبار العدلين، وذكر فيها
زيادة، فقال: إذا كان اللذان عدلاه يعرفان التعديل وسعه أن يعدله.
وروى إبراهيم عن محمد رجل عدل عند القاضي وأنا لا أعرفه إلا أنه وصف هل
يسعني أن أزكيه وقد عرفت أن القاضي زكاه، قال: لا يسعك إلا أن تعرفه.
وإذا شهد شاهدان لرجل على رجل بحق وعدلهما المعدل بعد موتهما فالقاضي يقضي
بشهادتهما، وكذلك لو عدلهما بعدما غابا. ولو عدلهما بعدما خرسا أو عييا
فالقاضي لا يقضي بشهادتهما، والفرق أن الموت ليس بجرح في الشاهد ألا ترى أن
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موتهم على العدالة، وكذلك من بعدهم
وكذلك الغيبة ليست بجرح في الشهادة، فأما الخرس والعمى في معنى الجرح في
الشاهد لو اقترن بالأداء يمنع الأداء، فيمنع القضاء أيضاً.
(8/103)
وفي «فتاوى أبي الليث» رحمه الله: شاهدان
شهدا عند القاضي والحاكم يعرف أحدهما بالعدالة ولا يعرف الآخر فزكاه
المعروف بالعدالة، قال بصير: لا يقبل تعديله وعن ابن سلمة روايتان. وعن
الفقيه أبي بكر البلخي رحمه الله في ثلاثة شهدوا عند الحاكم وهو يعرف اثنين
ولم يعرف الثالث، فعدله الإثنان، قال: يجوز تعديلهما إياه في شهادة أخرى
ولا يجوز في هذه الشهادة بأنه موافق لقول بصير وبه يفتى.
وفي «النوازل» : إذا سأل المعدل عن الشاهد، فسكت فهو جرح وهذا ظاهر؛ لأن
الإنسان لا يمتنع لإظهار ما هو حسن، وإنما يمتنع عن إظهار ما هو قبيح وهذا
هو الظاهر من حال المسلم.
وفيه أيضاً: الشاهد إذا كان في السر فاسقاً وفي الظاهر عدلاً، فأراد القاضي
أن يقضي، فأخبر عن نفسه أنه ليس بعدل صح إقراره على نفسه، ولكن لا يسعه ذلك
الكلام في ذلك الوقت؛ لأنه يتضمن إبطال حق المدعي وهتك ستر نفسه، وإذا سأل
القاضي المعدل عن حال الشهود، فأخبره بما علم من حالهم، ثم أراد أن يسأل عن
غيره، فلا ينبغي له أن يعلم أنه سأل غيره عن حالهم؛ لأنه متى أعلم بذلك
ربما يعتمد الثاني على قول الأول فيتهاون بالسؤال، ولا يبالغ في التفحص.Y
وإذا اختلف أصحاب المسائل في الجرح والتزكية، فحاصل الجواب في هذا الفصل أن
المخبر بأحد الأمرين إذا كان المثنى والمخبر بالأمر الآخر الواحد، فالقاضي
يأخذ بقول المثنى تزكية كان أو جرحاً؛ لأن قول المثنى حجة مطلقة، يعني به
في جميع الأحوال، وقول الواحد ليس بحجة مطلقاً فلا يعارض قول المثنى، وإن
كان من كل واحد من الجانبين ما هو حجة مطلقة بأن كان من كل واحد (من)
الجانبين مثنى فالترجيح للجارح، لأن الجارح مثبت والمعدل ناف فإنه يقول لا
أعلم فيه إلا خيراً؛ ولأن المعدل اعتمد ظاهر الحال، فإن ظاهر حال المسلم
العدالة، والجارح وقف على أمر بخلاف الظاهر خفي عن المعدل، والقاضي إنما
يسأل ليقف على خلاف الظاهر وذلك في خبر الجارح، وكذلك إذا كان من أحد
الجانبين مثنى ومن الجانب الآخر عشرة رهط، أو فوقها أو دونها لكنها فوق
المثنى كان الترجيح للجارح؛ لأن المثنى حجة متكاملة والزيادة عليها فضل،
ألا ترى أن في باب المال جعلنا الزيادة على المثنى فضلاً، كذا هاهنا، وإذا
كانت الزيادة على المثنى فضلاً صار كأن من كل جانب مثنى، وإن كان من كل
جانب رجل واحد أعاد المسألة من غيرهما هكذا اذكر المسألة في الأصل.
وفي «الأقضية» : إذ ليس من كل جانب حجة وتعذر على القاضي الحكم، فيسأل عن
غيرهما رجلان ينضم إلى المخبر من أحد الجانبين ما يتم به الحجة، فيترجح
الجارح وإن استكشف القاضي منهما يعني من المعدل ومن الجارح الأول، فيقول
للمعدل بأي سبب عدلته ويقول للجارح: بأي سبب جرحته، فهو حسن؛ لأن أسباب
الجرح مما يختلف فيه فلعل هذا الجارح اعتمد سبباً لا يكون الجرح عند القاضي
والمعدل اعتمد سبباً لا يكون سبب تعديل عند القاضي، فيسأل القاضي حتى يعمل
فيه برأيه.
(8/104)
ثم ما ذكر من الجواب فيما إذا كان من كل
جانب واحد أن القاضي أعاد المسألة عليها ظاهر على قول محمد رحمه الله، لأن
العدد في المزكي شرط عنده، فإذا كان من كل جانب واحد لم يثبت واحد منهما لا
العدالة ولا الجرح فيتوقف القاضي كشاهد واحد شهد عند القاضي فإن القاضي
يتوقف إلى أن يشهد شاهد آخر كذا هاهنا، وأما على أصل أبي حنيفة وأبي يوسف
مشكل؛ لأن عندهما العدد في المزكي ليس بشرط، فتتم الحجة من الجانبين،
فينبغي أن يكون الجرح أولى، كما لو كان من كل جانب مثنى، عامة المشايخ على
أن المذكور في الأصل والأقضية قول محمد رحمه الله، فأما على قولهما فالجرح
أولى هكذا ذكر في «المنتقى» .
وصورة ما ذكر في «المنتقى» إذا زكى الشهود واحد وجرحه واحد، قال أبو حنيفة
وأبو يوسف الجرح أولى، وقال محمد: الشهادة موقوفة على حالها حتى يجرح آخر
أو يعدل آخر، ومن المشايخ من قال: ما ذكر في «الأصل» و «الأقضية» قول الكل
وهذا القائل يقول: في المسألة روايتان عنهما، ويفرق هذا القائل على قولهما
بينما إذا كان من كل جانب واحد، وبينما إذا كان من كل جانب اثنان على رواية
«الأصل» .
ووجه الفرق: أن الاثنين مما تتم بهما الشهادة، فإذا كان من كل جانب اثنين
فقد بلغ كل فريق حد الشهادة وفي الجرح معنى الإثبات، وفي التعديل معنى
النفي، والشهادة شرعت للإثبات لا للنفي، فرجحنا الجرح للتعديل لهذا، أما
الواحد مما لا تتم به الشهادة بل كلامه خبر، والنفي والإثبات يستويان في
الخبر، فلا يمكن ترجيح الجرح فيستقبل القاضي السؤال استقبالاً، فإذا سأل
القاضي عن الشهود وطعن فيهم لا ينبغي للقاضي أن يصرح للمدعي بأن شهودك
جرحوا، بل يقول له: زد في شهودك أو يقول له لم يجد شهودك ليكون ذلك أقرب
إلى السنن، فإن قال المدعي أنا آتي بمن يعدلهم ويسمي قوماً يصلحون للمسألة،
فإن القاضي يسمع ذلك منه ويسألهم. ذكر المسألة في «العيون» وفي «أدب
القاضي» ، فإن عدلهم ذلك القوم سأل القاضي الطاعنين بما طعنوا فيهم؛ لأنه
يجوز أنهم طعنوا بما لا يصلح وجه الطعن عند القاضي والمدعي، فإن بينوا ما
هو جرح عند الكل كان الجرح أولى، وإن بينوا سبباً لا يصلح للطعن عند القاضي
لا يلتفت إليهم ويقبل شهادة الشهود وكذلك لو عدلهم المزكي فطعن الشهود
عليه، وقال القاضي: اسأل فلاناً وفلاناً سمى قوماً صالحين للمسألة يسأل
عنهم، فإن جرحوا وبينوا سبباً صالحاً، فالجرح أولى هكذا ذكر في «العيون»
وفي «أدب القاضي» أيضاً.
وفي «نوادر ابن سماعة» : قلت لمحمد رحمه الله إذا سأل القاضي في السر عن
الشهود فلم يعدلوا ثم أتاه المشهود له بالمعدلين في العلانية، قال لا يقبل
ذلك منه، وهذه الرواية تخالف رواية «العيون» وبه يفتى؛ لأن العبرة لتزكية
السر ويتمكن تهمة المواضعة بينهم؛ ولأن في التفحص عن ذلك إشاعة الفاحشة
وتهييج العداوة بينهم....
(8/105)
وفي «المنتقى» عن أبي يوسف رحمه الله إذا
عدل الشاهد (84أ4) في السر فقال المشهود عليه أنا أجيء بالبينة في العلانية
أنه صاحب كذا وكذا ... ، إذا كان كذلك لا تقبل شهادته، فإنى لا أقبل ذلك من
المدعي، إذا عدل الشاهد في السر أشار إلى أن العبرة لتزكية السر وإنه يخالف
رواية «العيون» أيضاً.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد أيضاً قلت: لمحمد رحمه الله أما من القاضي
المشهود له أن تأتيه من يعدل شهوده، قالا: لأن العبرة لتزكية السر ولتمكن
التهمة في حق من يعدل الشاهد بأمر المشهود عليه، فلعله واضعه على ذلك ولا
تهمة في حق مزكي القاضي.
وإذا شهد شاهدان على رجل بمال فقال المشهود عليه: هما عبدان، وقال
الشاهدان: نحن أحرار الأصل لم نملك قط، فالقاضي لا يقبل شهادتهما حتى يعلم
أنهما حران.
روى ابن سماعة عن أبي حنيفة رحمهم الله أنه قال: الناس أحرار إلا في أربع
مواضع: الشهادة والحدود والقصاص والعقل، ونحوه ورد عن عمر رضي الله عنه.
صورته في الشهادة ما ذكرنا.
صورته في الحد: رجل قذف إنساناً وزعم القاذف أن المقذوف عبد، فالقاضي لا
يحد القاذف حتى يعلم حرية المقذوف.
صورته في القصاص: رجل قطع يد إنسان وزعم القاطع أن المقطوعة يده عبد،
فالقاضي لا يقطع يد القاطع حتى يعلم حرية المقطوعة يده.
صورته في العقل: رجل قتل رجلاً خطأً، وزعم العاقلة أن المقتول عبد، فالقاضي
لا يقضي على العاقلة بالدية حتى يعلم حرية المقتول، وهذا كله إذا لم تكن
حرية الشاهدين وحرية المقذوف وحرية المقطوع والمقتول معلومة للقاضي بيقين
بأن كانوا مجهولين في النسب، ولم يعاين القاضي إعتاقهم من جهة أحد، فأما
إذا كانت معلومة للقاضي يتعين بأن عرف حرية أبويهم من الأصل أو عرف حريتهم
بالإعتاق، فالقاضي لا يلتفت إلى طعنهم؛ لأنه عرف كذبهم في طعنهم بيقين، فإن
سأل القاضي عن الشهود وأخبر المزكون أنهم أحرار الأصل أجزت شهادتهم، ولم
أكلفهم البينة، أشار إلى أن الإخبار عن حرية الشهود يكفي للعمل بالشهادة،
هكذا ذكر في «كتاب الأقضية» ، وهذا لأن القاضي لا يحتاج إلى القضاء
بالحرية؛ لأن ذلك إنما يكون بعد ثبوت الرق، والرق غير ثابت وإنما يحتاج إلى
ما يعرف به أن شهادتهم حجة، فصارت الحرية كالعدالة ثم العدالة تثبت،
بالإخبار فكذا الحرية.
وذكر في شهادات «الأصل» : أن القاضي إذا اكتفى بالإخبار فحسن وإن طلب على
ذلك بينة فهو أحب وأحسن؛ لأن الحاجة إلى معرفة الحرية فوق الحاجة إلى معرفة
العدالة؛ لأن أهلية الشهادة لا تثبت بدون الحرية وتثبت بدون العدالة؛ ولأن
الحرية
(8/106)
أخذت سببها من أصلين مختلفين من العدالة،
باعتباراتها من أسباب قبول الشهادة ومن الملك باعتبار أنه تجري فيها
الخصومة وفيها حق العباد، فلشبهها بالعدالة قلنا بأنها تثبت بمجرد الإخبار
ولشبهها بالملك، قلنا بأن الإثبات بالبينة أولى؛ لأن الحرية تصير مقضياً
بها.
ولو جاء إنسان وادعى رقبة هذا الشاهد بعد ذلك لا ذكر لهذه المسألة في
الكتب، قال فخر الإسلام علي البزدوي رحمه الله وفيه شبهه يجب أن لا يسمع
إذا قام البينة على حرية ويسمع إذا لم يقم.
ثم إن أصحابنا رحمهم الله فرقوا بين فصل الشهادة وبينما عداها من الفصول
وهو فصل الحد والقصاص والقتل. فقال: في فصل الشهادة: إذا أخبر المزكون
بحرية الشهود فالقاضي يجيز شهادتهم ولم يشترط إقامة البينة، وقال في الفصول
الثلاث القاضي لا يقضي بالحد والقصاص والعقد ما لم يقم البينة على الحرية.
والفرق أن الحرية من أسباب قبول الشهادة وليست من حقوق العباد التي تدخل
تحت القضاء، فكانت كالعدالة ثم العدالة تثبت بالسؤال فكذا الحرية، فأما
الحد والقصاص والعقل من الحقوق التي تدخل تحت القضاء، فلما لا يمكن إثباتها
إلا بالبينة فكذا في الحرية التي لا يجب حد القذف ولا يجب العقل والقصاص؛
لأنها لا يمكن إثباتها إلا بالبينة، هذا إذا قال الشهود: نحن أحرار، فأما
إذا قالوا: كنا عبيد فلان أعتقنا قاض لا يقضي بشهادتهم حق تقوم البينة على
العتق، بخلاف الفصل الأول.
والفرق أنهم إذا قالوا: كنا عبيد فلان فقد أقروا على أنفسهم بالرق،
وإقرارهم حجة عليهم، فيثبت الرق عليهم بإقرارهم فيحتاج القاضي بعد هذا إلى
القضاء بالعتق، والقضاء بالعتق لا يكون إلا بالبينة فأما في الفصل الأول،
فالرق لم يثبت، فلا حاجة إلى القضاء بالعتق، وإنما الحاجة إلى ما يعرف به
أن شهادتهم هل صارت حجة؟ والتقريب ما ذكرنا، وكذلك إذا قال الشهود: نحن
أحرار الأصل، وقال المزكون: كانوا عبيداً لفلان أعتقهم، فالقاضي لا يقضي
بشهادتهم حتى تقوم البينة على العتق؛ لأن الرق قد ثبت عليهم بإخبار
المزكين، فيحتاج القاضي إلى القضاء بالعتق والتقريب ما ذكرنا.
وإن أقام المشهود له بينة على المشهود عليه أن فلاناً أعتقهم وهو يملكهم،
وقضى القاضي بعتقهم كان ذلك قضاء على العتق، حتى لو حضر وأنكر الإعتاق لا
يحتاج إلى إقامة البينة عليه؛ لأن المشهود عليه انتصب خصماً عن المولى؛ لأن
المشهود له ادعى حرية الشاهد على المشهود عليه، وقد صح منه هذا الدعوى؛
لأنه لا يتمكن من إثبات حقه على المشهود عليه إلا بها والمشهود عليه أنكر
ذلك وصح منه الإنكار؛ لأنه لا يتمكن من دفع الشهود عن نفسه إلا بإنكار
الحرية.
والأصل أن من ادعى حقاً على الحاضر لا يتوصل إلى إثباته إلا بإثبات سببه
على الغائب، ينتصب خصماً عن الغائب فصار إقامة البينة على المشهود عليه
كإقامتها على المولى الغائب.
وإذا شهد الشهود على رجل بمال أو دم فطعن فيهم المدعى عليه، فالقاضي لا
(8/107)
يقضي بشهادتهم حتى يسأل عنهم، فإن سأل عنهم
وزكوا في السر والعلانية، فأراد القاضي أن يقضي بشهادتهم، فقال المشهود
عليه أنا أجرحهم وأقيم البينة على ذلك، فهذه المسألة على وجهين:
الأول أن يقيم البينة على جرح مفرد لا يدخل تحت حكم الحاكم، وهو أن يقيم
البينة على أنهم فسقة أو رماة، وعلى إقرارهم أن المدعي استأجرهم على هذه
الشهادة أو على إقرارهم، أنهم قالوا: لا شهادة للمدعي على المدعى عليه قلنا
في هذه الحادثة أو على إقرارهم أنهم قالوا: شهدنا بالزور أو على إقرارهم
أنهم لم يحضروا المجلس الذي كان فيه هذا الأمر، وفي هذا الوجه القاضي لا
يقبل هذه الشهادة عندنا خلافاً لابن أبي ليلى والشافعي رحمهما الله.
الوجه الثاني: أن يقيم البينة أن الشهود زنوا ووصفوا أو يقيم بينة أنهم
سرقوا مني كذا، أو شربوا الخمر، أو أنهم شركاء في المشهود به، أو أنهم
صالحوني على كذا درهماً حتى لا يشهدوا علي ودفعت ذلك إليهم، أو أنهم عبيد
أو محدودون في القذف، أو على أن المدعي أقر أن الشهود شهدوا بزور، أو على
أن المدعي أقر أنه استأجرهم على هذه الشهادة أو على إقراره أنهم لم يحضروا
المجلس الذي كان فيه هذا الأمر، وفي هذا الوجه القاضي يقبل هذه الشهادة
بالاتفاق.
وجه قول ابن أبي ليلى: أن هذه شهادة قامت على الجرح، والمدعي قد يحتاج إلى
إثباته بالبينة ليدفع خصومة المدعي عن نفسه، وجب أن يقبل قياساً على وجه
الثاني.
ولعلمائنا رحمهم الله في المسألة طرق وأصحها وأوضحها ما اختاره القاضي
الإمام صاعد النيسابوري، والشيخ الإمام شيخ الإسلام خواهر زاده، والصدر
الشهيد رحمهم الله، وإليه أشار محمد رحمه الله في كتاب التزكية أن الشاهد
بالشهادة على الجرح المفرد صار فاسقاً؛ لأنه ارتكب كبيرة ألحق بفاعلها
الوعيد في الدنيا والآخرة بنص القرآن؛ لأنه أظهر. قال الله تعالى: {إن الذي
يحبون أن تشيع الفاحشة} (النور: 19) ، علم أن الشاهد صار فاسقاً والمشهود
به لا يثبت بشهادة الفاسق، فإن قيل: في إثبات إظهار الفاحشة ضرورة، وهي دفع
الخصومة عن المدعي، وصار كالوجه الثاني.
قلنا: لا ضرورة، لأنها تندفع بقولهم سراً للقاضي أو للمدعي من غير أن يظهر
ذلك في مجلس الحكم. وهذا بخلاف ما لو شهدوا أنهم.... وصفوا الزنا؛ لأن في
إظهار الفاحشة هناك ضرورة وهو إقامة الحد واسترداد المسروق، بخلاف ما إذا
شهدوا أنهم شركاء في المشهود به؛ لأنه ليس في ذلك إظهار الفاحشة من جانب
الشهود، وإنما فيه حكاية ظهور الفاحشة من غيرهم وهم شهود القذف أو القاضي
والحاكي لإظهار الفاحشة، لا يكون يظهر الفاحشة فلم يصيروا فسقة وبخلاف ما
إذا شهدوا على إقرار المدعي أنهم فسقة، وما شاكله؛ لأنهم بشهادتهم ما
أظهروا الفاحشة إنما حكوا إظهار
(8/108)
الفاحشة من غيره وهو المدعي، فلم يصيروا
فسقة، بخلاف ما إذا أقام البينة أنهم صالحهم على كذا، حتى لا يشهدوا عليه
ودفع ذلك إليهم؛ لأنهم وإن أظهروا الفاحشة وكان فيه ضرورة ليصل إلى المال
حتى لو قال: لم أعطهم لم يقبل؛ لأن فيه إظهار الفاحشة من غير ضرورة.
ثم المدعى عليه إذا أقام البينة أن شاهد المدعي محدود في القذف فالقاضي
يسأل الشهود من حده هكذا ذكر في حدود «الأصل» ؛ لأن إقامة حد القذف إن حصل
من السلطان (84ب4) أو من نائبه تبطل شهادته، وإن حصل من واحد من الرعايا
بغير إذن السلطان لا تبطل شهادته، فلا بد من السؤال عن ذلك.
وإن قالوا حده قاضي كوة كذا، فالقاضي هل يسأله في أي وقت حده؟ لم يذكر محمد
رحمه الله هذا الفصل في «الأصل» .
في «كتاب الأقضية» : أن القاضي يسأل ليعلم أنه هل كان قاضياً في ذلك الوقت،
فإن قال المشهود عليه بحد القذف: أنا أقيم البينة على إقرار ذلك القاضي أنه
ما حدني ولم يؤقت واحدة من البينتين وقتاً، فإن القاضي يقضي بكونه محدوداً
في القذف. ولا يمتنع القاضي من القضاء بكونه محدوداً في القذف، بسبب بينة
الإقرار لوجهين: أحدهما أن العمل بالبينتين ممكن إذا لم يوقت واحدة من
البينتين، وما يحمل بينة الإقرار، على ما قبل إقامة الحد وبينة إقامة الحد
تحمل على ما بعد الإقرار، كان القاضي أقر قبل إقامة الحد أنه لم يحده حد
القذف، ثم أقام عليه الحد بعد ذلك ومهما أمكن العمل بالبينتين لا يعطل
واحدة منهما.
والثاني: أن البينة على الإقرار قامت على النفي من حيث المقصود؛ لأن
المقصود من إثبات هذا الإقرار على القاضي نفي شهادة اللذين شهدا عليه لا
بموت حكم آخر، فكانت هذه البينة باعتبار المقصود قائم على النفي، والبينة
على النفي لا تقبل، فصار وجوده وعدمه بمنزلة، فإن كان شهود القذف قد وقتوا
وقتاً بأن شهدوا أن قاضي بلد كذا حده حد القذف سنة سبع وخمسين وأربعمائة،
فأقام المشهود عليه البينة أن ذلك القاضي مات سنة خمسة وخمسين وأربعمائة،
وأقام البينة أنه كان غائباً في أرض كذا سنة سبع وخمسين، فإن القاضي يقضي
بكونه محدوداً في القذف، ولا يلتفت إلى بينته ولا تجيء في هذه المسألة
الطريقة الأولى الذي ذكرناها في المسألة الأولى، من إمكان العمل بالبينتين؛
لأن العمل بالبينتين غير ممكن وإنما تجيء الطريقة الأخرى، وهو أن بينة
المشهود عليه من حيث المعنى قائمة على النفي؛ لأن المقصود من إثبات موت
القاضي قبل ذلك، ومن إثبات الغيبة نفي شهادة الشهود الذين شهدوا عليه لا
حكم آخر يثبت بالغيبة، فكانت بينة المشهود عليه باعتبار المقصود قائمة على
النفي، والبينة على النفي غير مقبولة، فصار وجود هذه البينة وعدمه بمنزلة،
إلا أن يكون أمراً مشهوراً في ذلك فحينئذ لا يقضي بكونه محدوداً في قذف،
بأن كان موت القاضي قبل الوقت الذي شهد الشهود بإقامة الحد فيه مستفيضاً
ظاهراً فيما بين الناس علمه كل صغير وكبير، وكل جاهل
(8/109)
وعالم وكان كون القاضي في أرض كذا في الوقت
الذي شهد الشهود بإقامة الحد فيه ظاهر مستفيض عرفه كل صغير وكبير وعالم
وجاهل فح لا يقضي بكون الشاهد محدوداً في قذف، ويقضي على المشهود عليه
بالمال، وذلك لأن بينة ... المشهود عليه بالحد على ما أقامها قائمة على
النفي فصار وجودها وعدمها بمنزلة، فبقي بينة المشهود له بالمال على كونه
محدوداً في قذف، وإنها قائمة على الإثبات إلا أن البينة وإن قامت على
الإثبات فإنه يثبت كذب الشاهد فيما شهد
به بيقين.
كرجل ادعى عبداً في يد إنسان ادعى أنه ملكه منذ عشر سنين وشهد الشهود بذلك،
والعبد طفل رضيع، فإن الشهادة لا تقبل وإن قامت على الإثبات؛ لأنها كاذبة،
بيقين فكذا هنا عرف القاضي كذب هذه الشهادة بيقين لما ثبت عنده موت هذا
القاضي قبل الوقت الذي شهدوا بإقامة الحد فيه بيقين، وثبت كونه في أرض كذا
في الوقت الذي شهدوا بإقامة الحد فيه.
فرق بين هذا وبينما إذا شهد شاهدان أن فلاناً طلق امرأته يوم النحر بمكة،
وشهد آخران أنه أعتق عبده في ذلك اليوم بعينه بالكوفة، فإن القاضي لا يقضي
بواحدة من البينتين، وها هنا لو شهد شاهدان على الشاهد أن قاضي الكوفة حده
يوم النحر من سنة كذا بالكوفة، وأقام المشهود عليه بينة أنه يوم النحر من
سنة كذا تلك السنة كان بمكة، فإن القاضي يقضي ببينة الحد ولا يلتفت إلى
البينة الأخرى.
والفرق بينهما أن كلتا البينتين في مسألة الطلاق والعتاق قامت في محلها،
فإن كل واحدة منهما قامت على الإثبات، فكانت كل واحدة من البينتين معارضة
للأخرى وإحداهما كاذبة وليست إحداهما بأن تجعل صادقة والأخرى كاذبة، بأولى
من الأخرى، فتهاترتا فأما هاهنا بينة المشهود عليه على الموت والبينة قامت
على النفي باعتبار المقصود، وإنها على النفي ليست بحجة، فصار وجودها وعدمها
بمنزلة ولو عدم وجب القضاء بالأولى؛ لأنه لا معارض لها، فكذا هاهنا.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن محمد رحمه الله: رجل ادعى داراً في يدي رجل وأقام
على ذلك شهوداً، وأقام المشهود عليه شهوداً أن هذا الشاهد كان مدعياً ويزعم
أنها له، فهذا جرح إن عدلت بينته بذلك، وكذلك لو أقام بينة أن الشاهد كان
يدعي الشركة فيها.
الفصل الثاني والعشرون: فيما ينبغي للقاضي أن
يضعه على يدي عدل وما لا يضعه
وإذا ادعت المرأة الطلاق على الزوج وجاءت بشاهد واحد، وطلبت من القاضي أن
يضعها على يدي عدل حتى تأتي بالشاهد الآخر ينظر إن كان الطلاق رجعياً لا
يحول بينها وبين الزوج؛ لأن الطلاق رجعي لا يزيل النكاح، ألا ترى أنه لو
أقامت شاهدين على
(8/110)
الطلاق الرجعي، فالقاضي لا يحول بينها وبين
الزوج، فهاهنا أولى.
وإن كان الطلاق بائناً إن قالت المرأة: شاهدي الآخر غائب وليس في المصر،
فكذلك الجواب لا يحول بينها وبين الزوج؛ لأن في الحيلولة بينها وبين الزوج
إزالة يد الزوج واليد مقصود كالملك، فكما لا يزال بشهادة الواحد ملك
الإنسان، فكذا لا تزال يده بشهادة الواحد.
وإن قالت: شاهدي الآخر في المصر إن كان الشاهد الحاضر فاسقاً، فكذلك الجواب
لا يحال بينها وبين زوجها؛ لأن شهادة الفاسق ليست بحجة أصلاً، لا في حقوق
الله تعالى ولا في حقوق العباد، فصار وجودها والمعدوم بمنزلة.
فأما إذا كان عدلاً قال في «الأصل» : يؤجلها ثلاثة أيام وإن حال بينها وبين
زوجها فحسن، هكذا ذكر في «الأصل» . وذكر في «الجامع» بخلافه، وسيأتي بيانه
بعد هذا إن شاء الله تعالى.
أما يؤجله ثلاثة أيام؛ لأنه لا يمكن لكل مدع إحضار شهوده جمله في أول
المجلس، ولا بعد يوم ولا بعد يومين ويمكنه الإحضار بعد أيام، فقدرنا
بالثلاثة على ما عرف، وأما الحيلولة بطريق الاستحباب؛ لأن إيقاع الطلاق
البائن يوجب تحريم الفرج وإزالة ملك الزوج، وشهادة الواحد إذا كان عدلاً
حجة في حقوق الله تعالى وليست بحجة في حقوق العباد، فاعتبار حق الله تعالى
يوجب الحيلولة واعتبار حق الزوج لا يوجب، فاستحب الحيلولة.j
ولم يوجب إذا كان الشاهد الآخر في المصر؛ لأنه متى كان في المصر لا تطول
هذه الحيلولة، ولا يتضرر الزوج بها كثير ضرر، فأما إذا كان غائباً فمدة
الحيلولة تطول ويكثر الضرر على الزوج، فاعتبر حق الزوج في هذه الحالة ولم
يعتبر حق الله تعالى، وإذا كان مدة الحيلولة لا تطول راعى الجهتين بقدر
الممكن، فقال: إن حال كان حسناً.
فأما إذا أقامت شاهدين على الطلاق البائن أو على الطلقات الثلاث لم يذكر
هذا الفصل في «الأصل» . وذكر في «الجامع» أن القاضي يمنع الزوج عن الدخول
عليها والخلوة معها ما دام مشغولاً بتزكية الشهود، وهذا استحسان والقياس أن
لا يحول بينهما؛ لأنها امرأته بعد.
وجه الاستحسان: أن الشهود يحتمل أن يكونوا صدقة وعلى هذا التقدير يجب
المنع، فوجب المنع احتياطاً لأمر الفرج ولا يخرجها القاضي من منزل زوجها؛
لأن تيقناً إخراجها؛ لأنها منكوحة أو معتدة، وأياً ما كانت يحرم إخراجها،
ولكن يجعل القاضي معها امرأة أمينة تمنع الزوج من الدخول عليها، وإن كان
الزوج عدلاً.
فرق بين هذا وبينما إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً ومنزله ضيق، فجعل بينهما
سترة أو حائلاً يكتفى به، ولا يحتاج إلى امرأة أمينة إذا كان الزوج عدلاً،
والفرق بينهما أن الزوج في مسألتنا ينكر الحرمة ويستحلها، والعدل لا يمتنع
عما يستحله بدينه، أما في تلك المسألة الزوج يعتقد الحرمة فلا يخاف عليها
إذا كان عدلاً ونفقة الأمينة في بيت المال؛ لأنها مشغولة بمنع الزوج عن
الدخول عليها حقاً لله تعالى، فتكون نفقتها في مال الله
(8/111)
تعالى؛ لأنها عاملة لله تعالى احتياطاً
لأمر الله تعالى، ومال الله تعالى مال بيت المال.
قال في «الجامع» : وكذلك إذا شهد شاهد واحد عدل، فالقاضي يمنع الزوج عن
الدخول عليها استحساناً، وإنه يخالف ما ذكر في «الأصل» ، فقد ذكر في
«الأصل» في هذه الصورة أن القاضي إن حال بينهما فهو حسن، ثم قال فإن زكيت
الشهود فرق بينهما وإلا ردت المرأة على الزوج، فإن طالت المدة وطلبت من
القاضي أن يفرض لها النفقة أو كان لها نفقة مفروضة لكل شهر، فالقاضي يفرض
لها النفقة ويأمر الزوج بإعطاء المفروض.
ولكن إنما يفرض لها نفقة مدة العدة لا غير؛ لأنها إن كانت مطلقة فهي معتدة
ولها نفقة العدة، وإن لم تكن مطلقة فهي منكوحة ممنوعة من الزوج لا لمعنى من
جهة الزوج، هذا يوجب سقوط النفقة، ولكن النفقة كانت واجبة وقع الشك في
سقوطها، فلا تسقط بالشك إلا أن هذا الشك في مقدار نفقة العدة، فأما الزيادة
على نفقة العدة فقد تيقنا بسقوطها.
فإذا أخذت قدر (85أ4) نفقة العدة إن عدلت الشهود سلم لها ما أخذت؛ لأنه
تبين أنها استوفت العدة وهي حقها، وإن ردت الشهادة وردت المرأة على زوجها
رجع الزوج عليها بما أخذت؛ لأنه تبين أنها كانت منكوحة ممنوعة عن الزوج لا
لمعنى من جهة الزوج تبين أنها ما كانت مستحقة للنفقة، وأن القاضي أخطأ في
قضائه وأنها أخذت ما أخذت بغير حق.
قال محمد رحمه الله في عتاق «الأصل» : إذا ادعى العبد أو الأمة العتق على
مولاه وليس لهما بينة حاضرة، فإنه لا يحال بينهما وبين المولى، لما ذكرنا
أن في الحيلولة إزالة اليد واليد حق مقصود كالملك، فكما لا يجوز إزالة ملك
الإنسان بمجرد الدعوى، فكذا لا يجوز إزالة يده بمجرد الدعوى.
وإن أقاما شاهداً واحداً، فإن قالا: الشاهد الآخر غائب عن المصر، فكذلك
الجواب لما قلنا في الطلاق، وإن كان (حاضراً في المصر) ذكر أنه لا يحال
بينهما أيضاً، وهذا الذي ذكره صحيح في حق العبد، أما في الأمة ينبغي أن
يقال: إن حال بينهما فحسن على رواية «الأصل» ، وعلى رواية «الجامع» يحال
بينهما على نحو ما ذكرنا في الطلاق، وهذا لأن عتق الأمة يتضمن حرمة الفرج
كالطلاق، فكان الجواب في عتق الأمة نظير الجواب في طلاق المرأة.
وأما إذا أقاما شاهدين مستورين يحال بينهما جميعاً، إلى أن تظهر عدالة
الشهود؛ لأن شهادة المستورين حجة في حق الله تعالى والعباد.
ألا ترى أن القاضي لو قضى بشهادتهما، بظاهر العدالة ينفذ قضاؤه بالإجماع،
فيجوز إزالة يد المولى بشهادتهما، وهذا الجواب في الأمة يجري على إطلاقه؛
لأن في الأمة يحال بشهادة الواحد إذا لم يكن الشاهد فاسقاً، فشهادة
المستورين أولى، وفي العبد محمول على ما إذا كان المولى مخوفاً عليه، يخاف
منه الاستهلاك وتعيب العبد وكان
(8/112)
معروفاً بذلك، فأما إذا لم يكن بهذه الصفة
لا يحال بينه وبين العبد، وإنما يؤخذ منه كفيل بنفسه وبنفس العبد.
ثم طريق الحيلولة في الأمة الوضع على يدي امرأة ثقة، والأمة تخالف المرأة
الحرة، فإن هناك طريق الحيلولة أن يجعل معها امرأة ثقة ولا تخرجها من بيت
الزوج والفرق أن وضع الحرة على يدي العدل أمر مفيد؛ لأنه لا يثبت للحر يد
على الحرة إلا بالنكاح، ولا نكاح، فإذا لم يفد لم يوضع، أما هاهنا إن كانت
البينة كاذبة كانت هي أمة ووضع الأمة على يد الحر مفيد لا يثبت للحر يد على
الأمة بدون النكاح، فلهذا وضعنا.
ثم في فصل الأمة وفي فصل الطلاق قال بالحيلولة وإن كان الزوج والمولى
عدلاً، هكذا ذكر في «الأصل» و «الجامع» . وفي «المنتقى» قال: إنما توضع
الجارية على يدي العدل إذا لم يكن المدعى عليه مأموناً يخاف على الجارية أن
يجامعها، فأما إذا كان مأموناً ثقة والقاضي يعرفه بذلك لا يعزلها. ثم قال:
وكذلك إذا أقامت المرأة بينة على طلاقها.
فإن وضعت الجارية على يدي العدل وطلبت من القاضي النفقة، فالقاضي يأمر
المولى بالإنفاق عليها؛ لأن نفقتها كانت واجبة على المولى وقع الشك في
سقوطها إن كانت البينة صدقت تسقط نفقتها، وإن كانت كذبت لا تسقط نفقتها وإن
صارت ممنوعة عن المولى؛ لأن نفقة المملوك لا تسقط عن المولى، وإن كانت
ممنوعة عنه فلا تسقط نفقتها بالشك.
وإن أخذت نفقتها شهراً ثم لم تزك الشهود وردت الأمة على مولاها لا يرجع
المولى عليها بما أنفق بخلاف المسألة التي تقدم ذكرها، فإن هناك إذا لم تزك
الشهود وردت المرأة على الزوج، فإنه يرجع عليها بما أنفق والفرق أن نفقة
الملك إنما تجب باعتبار الملك نفسه وملك المولى باق في هذه الحالة، وأما
نفقة المرأة إنما تجب إذا لم تصر ممنوعة عن الزوج لا لمعنى من جهة الزوج،
وقد بين أنها صارت ممنوعة عن الزوج لا لمعنى من جهة الزوج.
وإن زكت البينة فإن أنفق المولى عليها على وجه التبرع، أو أكلت في بيت
المولى فلا رجوع له عليها كما في سائر التبرعات وإن أجبر القاضي المولى على
ذلك يرجع عليها بخلاف الطلاق.
والفرق أنا بنينا الاستحقاق بحكم الملك، وتبين أنه لا ملك وثمة الاستحقاق
بالاحتباس حق الزوج، وتبين أنها محبوسة لحق الزوج في العدة.
وفي «المنتقى» ، يقول فيما إذا زكت البينة وأعتقهما القاضي، فإن قال المدعى
عليه: قد كنت أنفق عليها كما أنفق على عبيدي فهو متطوع، وإن قال: دفعت ذلك
إليهما قرضاً لهما على أنهما حران رجع عليهما بالكسوة والدراهم ولا يرجع
عليهما بالطعام، لا استحسن أن يرجع بالطعام.
وإن كان الشاهدان على عتق العبد والأمة فاسقين، فلا شك أن في الأمة يحال
بينها وبين المولى؛ لأن في الأمة يحال بشهادة الشاهد الواحد إذا كان عدلاً
مع أنها ليست
(8/113)
بحجة في حقوق العباد، فلأن يحال بشهادة
الفاسقين وشهادتهما حجة في حقوق العباد، حتى لو قضى القاضي بشهادة الفاسق
على تحر أنه صادق ينفذ قضاؤه أولى.
وأما في العبد ففيه اختلاف الروايات. ذكر في بعض الروايات أنه يحال؛ لأنها
حجة القضاء في الجملة، فكان بمنزلة المستورين، وفي المستورين يحال في العبد
إذا كان المدعى عليه ممن يخاف على العبد، وإن كان ممن لا يخاف عليه يكتفى
بأخذ الكفيل على ما بينا، فكذا شهادة الفاسقين وفي رواية لا يحال؛ لأن
زيادة العدد تقام مقام العدالة فيصير الفاسقان بسبب زيادة العدد كشاهد واحد
عدل، وبشهادة واحد عدل لا تجب الحيلولة في العبد.
أمة في يدي رجل ادعاها رجل أنها له، وأقام على ذلك شاهدين لا يعرفهما
القاضي، فالقاضي يخرجها عن يده ويضعها على يدي عدل لما مر. ولو طلب النفقة
وأمر القاضي المشهود عليه بالإنفاق، ثم لم يزك الشهود وردت الجارية على
المولى فالمولى لا يرجع بما أنفق على أحد، وإن زكت الشهود، وقضى القاضي
بالجارية للمدعي لم يكن للمشهود عليه أن يرجع على المدعي؛ لأنه أنفق على
جاريته بغير إذنه.
وهل يرجع بذلك؟ على قول أبي حنيفة رحمه الله لا يرجع، وعلى قول أبي يوسف
ومحمد يرجع ويكون ذلك ديناً على ذمة الجارية تباع فيه الجارية إلا أن
يعدلهما المقضي له؛ لأنه لما قضى بها للمدعي ظهر أن المدعى عليه كان غاصباً
في حال ما أنفق عليها؛ لأنها في يد العدل ويد العدل يد المدعى عليه ولهذا
لو هلكت في يد العدل ضمن المدعى عليه قيمتها، فتبين أنها استهلكت شيئاً من
مال الغاصب، ومن أصل أبي حنيفة أن جناية المغصوب على مال الغاصب هدر كجناية
المملوك على مالكه، وعندهما معتبرة كالجناية على الأجنبي وهي من مسائل
الديات.
عبد في يدي رجل ادعاه رجل أنه عبده، وأقام على ذلك شاهدين لا يعرفهما
القاضي لم يؤخذ من يد المدعى عليه؛ لأن الأخذ من يده والوضع على يدي عدل في
فصل الأمة، إنما كان صيانة للفرج وإنه معدوم هاهنا، ولكن يأخذ القاضي
كفيلاً من المدعى عليه بنفسه وكيلاً بنفس العبد.
أما أخذ الكفيل بنفس العبد؛ لأن المدعي استحق القضاء بالعبد عند تزكية
الشهود والإشارة إلى العبد أمر لا بد منها لصحة القضاء، فلو لم يأخذ كفيلاً
بالعبد ربما يغيب العبد، فيعجز القاضي عن القضاء بالعبد، وأما أخذ الكفيل
بنفس المدعى عليه كيلا يغيب، فإن القضاء لا يجوز على الغائب، ثم يأمر
القاضي المدعى عليه أن يجعل الكفيل بنفسه وكيلاً بالخصومة حتى إنه إذا غاب
ولم يقدر الكفيل على إحضاره فالمدعي يخاصم الكفيل ويقضي القاضي عليه ولكن
إن أبى المدعى عليه أن يجعله وكيلاً فالقاضي لا يجبره بخلاف ما إذا أبى
إعطاء الكفيل حيث يجبر عليه وإن لم يجد المدعى عليه كفيلاً، فالقاضي يقول
للمدعي: الزم المدعى عليه والعبد.
ولو كان المدعي لا يقدر على ذلك وكان المدعى عليه مخوفاً على ما في يده
(8/114)
بالإتلاف، فرأى القاضي أن يضع العبد على
يدي عدل يضعه صيانة لحق المدعي، وكذلك إذا كان المدعى عليه فاسقاً معروفاً
بالفجور مع الغلمان يخرجه القاضي عن يده ويضعه على يدي عدل بطريق الأمر
بالمعروف، ولكن هذا لا يختص بالدعوى والبينة بل في كل موضع كان صاحب الغلام
معروفاً بالفجور مع الغلمان يخرجه القاضي عن يده ويضعه على يدي عدل بطريق
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم إذا وضعه على يدي عدل أمره أن يكتسب وينفق على نفسه إذا كان قادراً على
الكسب، ولم يذكر مثل هذا في الأمة؛ لأنها عاجزة عن الكسب عادة حتى لو كانت
الأمة قادرة على الكسب بأن كانت غسالة معروفة بذلك، أو خبازة توصى بالكسب
أيضاً، ولو كان العبد عاجزاً عن الكسب لزمنه أو صغره يؤمر المدعى (85ب4)
عليه بالنفقة، فإذاً لا فرق بين الأمة وبين العبد، هكذا حكي عن الفقيه أبي
بكر البلخي وأبي اسحق الحافظ.
وفي «نوادر ابن سماعة» عن أبي يوسف: رجل ادعى جارية في يدي رجل أنها له،
وأقام على دعواه بينة وزكت بينته، وقد كان القاضي وضعها في يدي عدل وهرب
المدعى عليه، قال: أمر الذي بقي على يديه يعني العدل أن يؤاجرها وينفق
عليها من أجرها، فإن كان لا يؤاجر مثلها آمر به أن يستدين بالنفقة عليها،
فإذا حصل اليأس الناس من صاحبها أمرت ببيعها، فبدأت من الثمن بالدين فأديته
ووقفت الباقي من الثمن، فإذا جاء الذي كانت في يديه قضيت عليه بقيمة
الجارية لأني بعتها على الذي كانت في يده، فإن كان على المقضي عليه دين
فمستحق الجارية أحق بهذا الثمن من الغرماء لأنها بمنزلة الرهين حين وضعها
القاضي على يدي عدل.
دابة أو ثوب في يدي رجل ادعاها آخر، وأقام بينة وطلب المدعي من القاضي أن
يضعه على يدي عدل لم يجبه القاضي إلى ذلك؛ لأن فيه قصر يد المدعى عليه من
غير حجة، فلا يشتغل القاضي به إلا لضرورة، ولا ضرورة في هذه الأشياء على ما
مر في العبد، ولكن القاضي يأخذ من العدل عليه كفيلاً بنفسه وبما وقع فيه
الدعوى، ويجعل الكفيل بالنفس وكيلاً بالخصومة إذا طابت نفس المدعى عليه وقد
مر هذا، ولا يجبر ذو اليد على نفقته عندنا بخلاف الرقيق والخلاف في موضعه
قد عرف.
وإن قال المدعى عليه: لا كفيل لي قيل للمدعي: الزم المدعى عليه والمدعى به
آناء الليل والنهار لتصون به حقك، فإن كان الذي في يده فاسقاً مخوفاً على
ما في يده وأبى أن يعطيه كفيلاً وكان المدعي لا يطيقه في الملازمة، فالقاضي
يقول للمدعي: أنا لا أجبر المدعى عليه على أن ينفقه لكن إن شئت أن أضعه على
يدي عدل فأنفق عليه، وإلا لا أضعه، لأن المقصود من الوضع على يد العدل
صيانة لحق المدعي وهو القضاء له بالعبد متى زكت شهوده، وهذا المقصود يفوت
متى أبى المدعي الإنفاق؛ لأن المدعى عليه لا يجبر على إنفاقه، وإن كان هو
المالك في الظاهر فلو لم ينفق المدعي على الدابة تتلف الدابة فلا يحصل
مقصود المدعي من الوضع على يدي العدل.
(8/115)
وفي «المنتقى» : رجل ادعى لؤلؤة في يدي رجل
وأقام شاهدين وسأل وضع اللؤلؤة على يدي العدل، فإن لم يعدل شاهديه، أقام
شاهدين آخرين؛ لأنه كان يتخوف أن يعينها ولا يشهد شهوده إلا بالمعاينة،
فإني أستحسن أن أضعها على يدي عدل، وكذلك كل شيء يحول من مكانه والخوف عليه
أن يعينه، فإن كانت جارية أو دابة فنفقتها عليه، وإن كان مثلها تؤاجر
أجرتها، أو أمرت العدل أن يؤاجرها.
قال هشام: سألت محمداً رحمه الله عن رجل في يده رطب أو سمك طري أو ما أشبه
ذلك، فادعاه إنسان أنه له وقدمه إلى القاضي، وهو مما يفسد إن تركه، وقال
المدعي بينتي في المصر أحضرهم، قال: لا أقف إلى ذلك ولكن أقول له يعني
للمدعي: إن شئت أحلفه على دعواك، فإن حلف لم تكن لك، وإن قال: أنا أحضر
البينة يعني اليوم، فإني أؤجل إلى قيام القاضي، وأقول للمدعى عليه لا تبرح
إلى قيامه فإن فسد الشيء في ذلك الوقت لا يضمنه المدعي لحبسه عليه.
عمرو بن أبي عمرو، عن محمد رحمه الله: رجل اشترى من آخر سمكاً أو لحماً
طرياً أو فاكهة ونحو ما يتسارع إليه الفساد ثم جحده أحدهما وادعاه الآخر
وأقام على ذلك بينة واحتاج القاضي إلى أن يسأل عن الشهود فقال الجاحد: هذا
يفسد إن ترك حتى يسأل عن الشهود، قال: إن كان شهد للمدعي شاهد واحد، وقال:
الشاهد الآخر (حاضر) ، أجّل في شهادة الآخر، ما لم يخف الفساد فإن أحضر
شاهده الآخر وإلا خلي بينة وبين البائع، ونهى المشتري أن يتعرض له.
ولو كان أقام شاهدين أمر البائع بدفعه إلى المشتري إذا خيف عليه الفساد،
فإذا قبضه المشتري أخذه القاضي وأمر أميناً ببيعه وقبض ثمنه ووضع الثمن على
يدي عدل، فإن زكت البينة قضى للمشتري بالثمن وأمر العدل بدفع الثمن إلى
الذي شهدت له الشهود، وإن لم تزك البينة سلم القاضي ذلك الثمن الذي على يدي
العدل إلى البائع.
ذكر شيخ الإسلام خواهر زاده إذا كان المدعى به منقولاً، وطلب المدعي من
القاضى أن يضعه على يدي عدل ولم يكتف بإعطاء المدعى عليه كفيلاً بنفسه
وبنفس المدعى به، فإن كان عدلاً، فالقاضي لا يجيبه وإن كان فاسقاً أجابه،
وفي العقار لا يجيبه إلا في الشجر الذي عليه ثمر؛ لأنه تفلي.
وفي «أدب القاضي» للخصاف في باب ما لا يضعه القاضي على يدي عدل إذا قالت
المرأة للقاضي: لست آمن على نفسي من زوجي أن يقربني في حالة الحيض، فضعني
على يدي عدل، فالقاضي لا يلتفت إلى ذلك، وإذا ادعى على امرأة كبيرة نكاحاً
وهي تجحد فأقام بينة عليها وسأل من القاضي أن يضعها على يدي عدل حتى يسأل
عن شهوده، فالقاضي لا يفعل ذلك في هذا الباب أيضاً، وكذا الجارية البكر إذا
كانت في منزل أبيها جاء رجل وادعى نكاحها، فالقاضي لا يضعها على يدي (عدل)
لأنه لا تهمة هنا في هذا الباب أيضاً.
وفي باب المهاياة في كتاب الصلح: أمة بين رجلين خاف كل واحد منهما صاحبه
(8/116)
عليها، وقال أحدهما: تكون عندك يوماً وعندي
يوماً، وقال الآخر: لا بل نضعها على يدي عدل، فإني أجعلها عند كل واحد
منهما يوماً ولا أضعها على يد عدل، قال مشايخنا: ويحتاط في باب الفروج في
جميع المواضع نحو العتق في الجواري، والطلاق في النساء في الشهادة وغير ذلك
إلا في هذا الموضع، فإنه لا يحتاط لحشمة ملكه وهو نظير ما لو أخبر القاضي
أن فلاناً يأتي جواريه في غير المأتى، ويستعملن في البغاء ويطأ زوجته حالة
الحيض وأمته من غير استبراء لا يكون للقاضي عليه سبيل لحشمة ملكه ها هنا.
الفصل الثالث والعشرون: في الرجلين يحكمان
بينهما حكما
يجب أن يعلم بأن التحكيم جائز ثبت جوازه بقوله تعالى: {فابعثوا حكماً من
أهله وحكماً من أهلها} (النساء: 35) ، وبما روى أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم: «أنه أنزل بني قريظة على حكم سعد بن معاذ» وبأثر عمر وعلي رضى الله
عنهما؛ وشرط جوازه أن يكون الحكم من أهل الشهادة، لأن الحكم فيما بين
المحكمين بمنزلة القاضي المولى في حق الكل، وإنما يصح تقليد القضاء لمن صلح
شاهداً، فكذا هاهنا ويشترط أن يكون أهلاً للشهادة وقت التحكيم، ووقت الحكم
جميعاً حتى أنه إذا لم يكن أهلاً للشهادة وقت التحكيم فصار أهلاً للشهادة
وقت الحكم، بأن كان الحكم عبداً فأعتق وحكم لا ينفذ حكمه، هكذا ذكر صاحب
الأقضية في الأقضية، والشيخ الإمام شيخ الإسلام في شرح كتاب الصلح.
وهذا لما ذكرنا أن الحكم فيما بين المحكمين بمنزلة القاضي الموَلَّى في حق
الكل، ثم أهلية الشهادة وقت التقليد فكذا هاهنا، وقد ذكرنا مسألة العبد في
فصل التقليد والعزل بخلاف هذا وشرط آخر، أن يكون التحكيم فيما يملك المحكم
إقامته بنفسه؛ لأن ولاية الحكم بحكم التحكيم فيقتصر على ما يملك الحكم فيه
إقامته بنفسه، وحكم هذا الحكم يفارق حكم القاضي المولَّى من حيث إن حكم هذا
الحكم إنما ينفذ في حق الخصمين، ومن رضي بحكمه ولا يتعدى إلى من لم يحكم،
وجعل في حق من لم يرض بحكمه كأنه حكم واحد من الرعايا بخلاف القاضي المولى.
ذكر ابن سماعة في «نوادره» عن محمد رحمه الله في رجلين حكّما بينهما حكماً
في خصومة، قال: لا يجوز حكم من لا تجوز شهادته له لا عبد ولا صبي ولا محدود
في قذف ولا ذمي، فقد ذكرنا أن من شرط جواز التحكيم أن يكون الحكم من أهل
الشهادة، وهؤلاء لا يصلحون شهوداً، فلا يصلحون حكماً وكما لا يصح التحكيم
للحال لا يصح
(8/117)
مضافاً أيضاً حتى لو عتق العبد أو بلغ
الصبي أو أسلم الذمي، وحكم لا ينفذ حكمه.
فرق بين هذا وبينما إذا وكل العبدَ رجل بالشراء حيث تصح الوكالة مضافاً إلى
ما بعد العتق، وإن كان لا يصح للحال، والفرق أما عند أبي يوسف رحمه الله
فلأن عنده إضافة التحكيم إلى وقت في المستقبل لا يصح فلا يمكن تصحيحها
مضافاً عند تعذر تصحيحها للحال، وأما على قول محمد رحمه الله فلأن عنده
إضافة التحكيم إلى وقت في المستقبل وإن كانت صحيحة إلا أن التحكيم هاهنا
حصل مرسلاً، والمرسل لا يصير مضافاً أصلاً.
ألا ترى أنه لو قال لها أنت طالق ونوى الإضافة إلى العبد لا يصح، ولا يقول
إن الوكالة تصح باعتبار الإضافة بل تصح باعتبار الحال؛ لأن العبد من أهل
الشراء ولهذا لو اشترى يجوز شراؤه إلا أن الشراء يتوقف على إجازة المولى
والمأمور من أهل الشراء أيضاً فصح الأمر من العبد بالشراء للحال، إلا أنه
توقف نفاذه إلى ما بعد العتق لمانع، وهو أن العبد ليس من أهل أن يلزمه حكم
الشراء، فأما تحكيم العبد في الحال لم يصح؛ لأن العبد ليس من أهل الحكم.
فرق في العبد (86أ4) بين هذه الصورة وبينما إذا تحمل الشهادة وهو عبد ثم
عتق يجوز له أن يشهد، وإن حصل التحمل حال عدم الأهلية، والفرق أن التحمل
لحصول العلم، والعبد في حق حصول العلم له بالسماع أو بالمعاينة والحر سواء
فصح التحمل وإذا صح التحمل أمكنه الأداء عند صيرورته أهلاً للأداء بالحرية،
فأما التحكيم أمر بالقضاء والأمر لطلب المأمور به، وإنما يصح طلب الشيء ممن
يتصور منه ذلك الشيء للحال والقضاء من العبد لا يتصور له في الحال؛ لأنه
ليس من أهل القضاء للحال، وإذا لم يصح الأمر صار وجوده والعدم بمنزلة.
قياس مسألة التحميل من مسألتنا: أن لو وقع الخلل في التحمل حتى لم يقع
للعبد العلم بسبب التحمل وهناك لو أراد أداء الشهادة بذلك التحمل بعد العتق
لم يقدر عليه.
ولو حكما أعمى أو فاسقاً. ذكر في الأقضية أنه لا يجوز، وهذا الجواب في حق
الفاسق مستقيم على الرواية التي قال: إن الفاسق لا يصلح قاضياً، أما على
الرواية التي قال يصلح قاضياً لكن غيره أولى يصلح حكماً من الطريق الأولى.
قال في الأقضية: ويجوز أن يجعلا بينهما امرأة يعني يجوز إذا حكما بينهما
امرأة وأراد به فيما سوى الحدود والقصاص، لما ذكرنا أن التحكيم ينبني على
الشهادة والمرأة تصلح شاهدة فيما سوى الحدود والقصاص فتصلح حكماً. وقال أبو
يوسف رحمه الله: لا يجوز التحكيم معلقاً بالأخطار ولا مضافاً إلى وقت في
المستقبل.
وقال محمد رحمه الله: يصح صورة التعليق إذا قالا لعبد: إذا أعتقت فاحكم
بيننا أو قالا لرجل: إذا أهل الهلال فاحكم بيننا، صورة الإضافة إذا قال
الرجل: جعلناك حكماً غداً، أو قالا: رأس الشهر فوجه قول محمد رحمه الله أن
التحكيم تولية وتفويض؛ لأن كل واحد من الخصمين بالتحكيم مُعرض إلى الحكم ما
كان يملك فعل ذلك بنفسه،
(8/118)
فأشبه القضاء وتقليد القضاء يجوز مضافاً
ومعلقاً، فكذا الخصومة.
وجه قول أبي يوسف رحمه الله أن التحكيم صح معنى؛ لأنه لا يثبت إلا بتراضي
الخصمين والمقصود منه قطع منازعة تحققت بينهما هاهنا، وهذا هو معنى الصلح
فلا يصح معلقاً ومضافاً قياساً على سائر المصالحات بخلاف القضاء والإمارة؛
لأنه تفويض وتزكية حقيقة ومعنى ليس فيهما معنى الصلح؛ لأن الصلح لا يثبت
إلا بالتراضي، ولا يصلح إليه إلا بقطع منازعة تحققت وهذا الحد لا يوجد في
القضاء والإمارة، فأما التحكيم إن كان تفويضاً من الوجه الذي قلتم، ففيه
معنى الصلح من الوجه الذي قلنا، فلئن كان يصح تعليقه وإضافته من الوجه الذي
قلتم لا يصح من الوجه الذي قلنا فلا يصح بالشك.
وإذا اصطلحا على حكم يحكم بينهما على أن يسأل فلاناً الفقيه ثم يحكم بينهما
بقوله جاز. وكذلك إذا اصطلحا على حكم بينهما على أن يسأل الفقهاء ثم يحكم
بينهما بما أحصوا عليه جاز، لما ذكرنا أن الحاكم المحكم فيما بين
المتخاصمين بمنزلة القاضي المولَّى، ولو شرط هذا الشرط في تقليد القضاء
يجوز، فكذا إذا شرط في التحكيم، فإن سأل ذلك الفقيه في الفصل الأول وحكم
بينهما بقوله جاز وهذا ظاهر، وإذا سأل فقيهاً واحداً في الفصل الثاني وحكم
بقوله جاز أيضاً، لأن اللام إذا لم تكن لتعريف المعهود تكون لاستغراق الجنس
والحكم المعلق في الجنس يتعلق بأدنى ما يطلق عليه اسم الجنس، عرف ذلك في
موضعه.
وإذا اصطلحا على حكم يحكم بينهما في يومه هذا أو في مجلسه هذا فهو جائز.
ألا ترى أنه جاز تقليد القضاء مؤقتاً فكذا التحكيم، فإن مضى ذلك اليوم أو
قام عن مجلس ذلك، لا يبقى حكماً.
فرق بين المحكوم وبين الوكالة على إحدى الروايتين، فإن الوكالة لا تتوقت
على إحدى الروايتين، حتى إن من قال لغيره بع عبدي اليوم، فباعه غداً جاز
استحساناً على إحدى الروايتين، والفرق أن اليوم في الوكالة تذكر للتعجيل
عرفاً وعادة، فكأنه قال للوكيل: بع عبدي هذا ولو قال هكذا ولم يعجل لا يبقى
وكيلاً كذا هنا.
أما ذكر اليوم في باب الحكومة إن كان يراد به التعجيل في جانب من يتوجه
الحكم له لا يراد به التعجيل في جانب من يتوجه عليه الحكم؛ لأنه لا يريد
التعجيل إنما يريد التأقيت، فبعد مضي الوقت إن كان بقي حكماً في حق من
يتوجه له القضاء لا يبقى حكماً في حق من يتوجه عليه القضاء، فلا يبقى حكماً
بالشك وإذا رفع حكم الحاكم إلى القاضي المولى، فالقاضي المولى ينظر في
حكمه، فإن كان موافقاً لرأيه نفذه، وإن كان مخالفاً لرأيه أبطله وإن كانت
مما يختلف فيه الفقهاء.
فرق بين هذا وبين القاضي المولى إذا قضى في حادثة اختلف فيه الفقهاء ورفع
ذلك إلى قاض آخر، يرى خلافه ليس له أن يبطله.
(8/119)
والفرق أن كون الأول قاضياً ظهر في حق
الناس كافة لما أن الأول استفاد الولاية ممن له ولاية على الناس كافة، فكما
ينفذ قضاء الأول في حق المخاصمين نفذ في حق سائر المسلمين وقضائهم، فلو جاز
لقاض آخر نقضه إذا كان مخالفاً لرأيه أدى إلى نقض ما أدي بالاجتهاد،
باجتهاد مثله وإنه لا يجوز أما كون الحكم حكماً لم يظهر في حق غير
المتخاصمين؛ لأنه استفاد الولاية من جهة المتخاصمين، وولاؤهما مقصورة
عليهما، وقد كان للقاضي المولى قبل هذا الحكم رأياً في هذه الحادثة كان
يحكم به فلو لم يجز نقض هذا الحكم، إذا كان مخالفاً لرأيه لظهر نفاذ حكم
الحاكم في حقه وأظهر كونه حكماً في حقه، وإنه لا يجوز.
وإذا اصطلح الرجلان على حكم يحكم بينهما ولم يعلماه ولكنهما قد اختصما إليه
وحكم بينهما جاز؛ لأنهما لما توجها إليه للخصومة فقد أعلماه فصار حكماً
بينهما فيجوز الصلح. وإذا اصطلحا على غائب يحكم بينهما فقدم وحكم بينهما
جاز وإذا اصطلحا على أن يحكم بينهما فلان أو فلان فأيهما حكم بينهما جاز،
لأن التحكيم صلح أو تفويض وأياً ما كان يجوز مع هذا النوع من الجهالة، أما
الصلح فلأنه لو صالح على عبدين على أن المدعي بالخيار يأخذ أيهما شاء ويترك
الآخر جاز.
وأما الوكالة فإنه لو قال رجل: وكلت هذا أو هذا ببيع عبدي هذا يجوز، وإذا
تقدما إلى أحدهما عيناه للخصومة، فلا يبقى الآخر حكماً كما في مسألة
الوكالة. إذا باع أحدهما العبد الذي وكل ببيعه، فإنه يخرج الآخر عن
الوكالة، وإذا اصطلحا على أن يحكم بينهما أول من يدخل المسجد فذلك باطل؛
لأن الجهالة هاهنا أبين وأظهر.
ألا ترى أنه لو قال أول من يدخل المسجد هذا فقد وكلته ببيع هذا العبد لا
يجوز، وهو نظير ما لو قال إذا جاءت بضاعتي فقد وكلت رجلاً من عرض الناس
ببيعها، وذلك لا يجوز كذا هاهنا.
ولو سافر الحكم أو مرض فأعمي ثم قدم من سفره أو برئ ثم حكم جاز، والأصل في
هذا أن الحكومة متى صحت لا يخرج الحكم عن الحكومة إلا بانتهاء الحكومة بأن
كانت مؤقتة أو تفصل الخصومة أو يخرج الحكم من أن يكون أهلاً للحكومة
باعتراض الردة أو ما أشبه ذلك أو بالعزل؛ لأن الحكم فيما بين المتخاصمين
بمنزلة القاضي المولى لا يخرج عن القضاء إلا بأحد ما ذكرنا من الأسباب كذا
هاهنا إذا ثبت هذا فنقول بالسفر والمرض لا يخرج من أن يكون أهلاً للحكومة،
فبقي على حكومته.
ولو عمي الحكم ثم ذهب العمى وحكم لم يجز؛ لأن بالعمى خرج من أن يكون أهلاً
للحكومة. ألا ترى أن القاضي المولى يخرج عن القضاء بالعمى فكذا الحكم.
ثم فرق بين الحكم والقاضي وبين الشاهد إذا عمي بعد تحمل الشهادة، ثم زال
العمى وشهد جاز، والفرق أن كونه غير شاهد لا يمنع ابتداء التحمل، ألا ترى
أنه لو تحمل وهو صبي أو عبد ثم بلغ الصبي أو أعتق العبد وأدّى جاز فلأن لا
يمنع بقاء التحمل أولى، أما كونه غير شاهد يمنع ابتداء القضاء والتحكيم
فيمنع البقاء، لأن ما ليس
(8/120)
بلازم فلبقائه حكم الإنشاء، ولو ارتد عن
الإسلام ثم أسلم وحكم لا يجوز حكمه؛ لأن بالارتداء يخرج من أن يكون أهلاً
للقضاء بالارتداد، فكذا الحكم وقد ذكرنا فصل العمى والارتداد في فصل
التقليد والعزل بخلاف ما ذكر هاهنا.
ولو وجه الحكم الفصل على أحدهما يريد به أن الحكم قال لأحد الخصمين: قامت
عندي الحجة بما ادعي عليك من الحق، ثم إن الذي توجه عليه الحكم عزله ثم حكم
بعد ذلك عليه لم ينفذ حكمه عليه، فقد صحح العزل من أحدهما وإنه مشكل؛ لأنه
صارحكماً بإتفاقهما، فينبغي أن لا يخرج من الحكومة إلا باتفاقهما، والوجه
في ذلك اتفاقهما إنما شرط لصيرورته حكماً، لأن في التحكيم إثبات الولاية
عليهما فلا بد من اتفاقهما إذ ليس (86ب4) لأحدهما ولاية على صاحبه، أما ليس
في العزل إثبات الولاية على الغير بل فيه إبطال ما ثبت للحكم عليه من
الولاية بتحكيمه، وإبطال ما ثبت له من الولاية بتحكيمه قبل تنفيذ القضاء
جائز، وكان بمنزلة الشركات لا تثبت إلا بتراضيهما لما فيه من إثبات الولاية
على الغير، ثم ينتقض بنقض أحدهما إذ ليس في النقض إثبات الولاية على الغير
كذا هنا.
وإذا وكل أحد الخصمين الحكم بالخصومة وقبل الحكم الوكالة خرج عن الحكومة،
لأنه بقبول الوكالة خرج من أن يكون شاهداً لصيرورته خصماً، والخصم لا يصلح
شاهداً، فيخرج من أن يكون حكماً أيضاً، هكذا ذكر في الأقضية.
بعض مشايخنا قالوا: هذا الجواب إنما يستقيم على قول أبي يوسف رحمه الله؛
لأن على قوله الوكيل بمجرد قبول الوكالة يصير خصماً، حتى لو عزل قبل
الخصومة، فشهد لموكله لا تقبل الشهادة.
أما لا يستقيم على قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله؛ لأن على قولهما الوكيل
بمجرد قبول الوكالة لا يصير خصماً حتى لو عزل قبل الخصومة، ثم شهد لموكله
قبلت شهادته وإذا لم يصر خصماً بمجرد قبول الوكالة لا يخرج من الحكومة
بمجرد قبول الوكالة له، حتى لو عزل في الحال وحكم ينفذ حكمه.
ومنهم من قال لا بل ما ذكر هاهنا قول الكل، وجه ذلك أن التوكيل بالخصومة
توكيل بالخصومة في مجلس القاضي؛ لأن مجلس الخصومة مجلس القاضي، فيصير
وكيلاً بالخصومة، إذا حضر مجلس القاضي للخصومة، فصار التوكيل كالمضاف إلى
حضوره، فإذا عزل قبل حضوره مجلس القاضي، فقد عزل قبل صيرورته وكيلاً وقبل
صيرورته خصماً، فأما الحاكم المحكم يصير خصماً بمجرد قبول الوكالة؛ لأنه
فيما بينهما بمنزلة القاضي المولى، فمجلسه كمجلس القاضي، وإنه لا يكون
غائباً عن مجلسه فكما قبل الوكالة يصير خصماً، فيخرج عن الحكومة.
وإذا اشترى الحكم العبد الذي اختصما إليه فيه أو اشتراه ابنه أو أحد ممن لا
تجوز شهادته له فقد خرج من الحكومة، أما إذا اشترى العبد هو، فلأنه صار
خصماً عن أحد الخصمين، فإن بعد ما اشتراه الحكم يحتاج إلى إثبات الملك
لبائعه ليمكنه الإثبات لنفسه
(8/121)
بالتلقي منه، وأما إذا اشتراه أحد ممن لا
تجوز شهادته له، فلأنه يصير حاكماً له، وهو لا يصلح حاكماً؛ لأنه لا يصلح
شاهداً له.
وإذا قال الحكم: قامت لفلان بينه عندي على فلان بكذا وكذا قضيت له به على
فلان، فأنكر فلان البينة والقضاء، فإن قضاءه ماض عليه. وكذلك إذا قال
الحكم: أقر فلان عندي لفلان بكذا وقضيت بها عليه، فإن قضاءه ماض عليه لأن
الحكم فيما بين المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى، لو قال على نحو ما قاله
الحكم، كان قوله حجة فكذا قول الحكم.
فإن قيل: أليس أن الحكم قد خرج عن الحكومة بالحكم فحين أخبر أنه قضى عليه
بإقراره من ليس يحكم، فينبغي أن لا يصدق في ذلك كالقاضي بعد العزل، إذا قال
قضيت لهذا على هذا بكذا، قلنا: الحكم إنما يخرج عن الحكومة إذا حكم فيما
بين المتخاصمين، وفي زعم المدعى عليه أنه لم يقض بعد لأنه أنكر القضاء،
وإنه على حكومته ففي زعم المدعى عليه أنه يجبر على الحكم وهو حكم فيعامل
معه بزعمه، وصار كالوكيل بالبيع إذا قال كنت بعت أمس فكذبه الموكل، فإنه
يصدق الوكيل وإن كانت الوكالة تنتهي بالبيع؛ لأن في زعم الموكل أنه لم يبع
وأن وكالته لم تنته، فإنه خبر عن البيع حال قيام الوكالة، فعومل معه بزعمه
كذا ها هنا،
وإذا شهد شاهدان أن هذا الحكم قضى ليلاً على هذا بألف درهم وشهد آخران أن
هذا الحكم أبرأ هذا عن الألف التي ادعاها هذا والحاكم ميت أو غائب أو حاضر،
إلا أنه يجحد البعض ويقر بالبعض فإني أقضي بالبراءة؛ لأن المدعى عليه لما
ادعى البراءة فقد أقر بالدين فوقع الاستغناء عن قبول بينة الطالب لإقرار
المدعى عليه، والمدعى عليه بعد ذلك أثبت البراءة بالبينة من غير معارضة
فتقبل بينته، ألا ترى أنه لو كان الحكم قاض مولى كان الحكم ما ذكرنا للمعنى
الذي أشرنا إليه كذا هنا.
ولو كانت الخصومة في دار وشهد شاهدان آخران للخصم الآخر أن الحكم قضى بها
لهذا تهاترت البينتان وتترك الدار في يد من كانت قبل هذا قضاء ترك؛ لأنه
تعذر العمل بالبينتين؛ لأن إحداهما كاذبة بيقين وتعذر العمل بإحداهما إذ
ليست إحداهما للعمل بها أولى من الأخرى.
ولو كانت الخصومة بينهما في ألف درهم وأقام المدعي بينة أن الحكم قضى له
على المدعى عليه بالألف التي ادعاها يوم السبت، وأقام المدعى عليه بينة أن
المدعى عليه أخرجه عن الحكومة قبل ذلك فحكمه باطل؛ لأن الثابت بالبينة
العادلة كالثابت عياناً ولو عاينا أن المدعى عليه أخرج الحكم عن الحكومة
قبل يوم السبت، ثم إن الحكم حكم عليه بعد ذلك يوم السبت كان حكمه باطلاً
كذا هنا.
قال: ولو كان المدعي أقام البينة أن الحكم قضى له بالمال يوم الجمعة، وأقام
المدع (عليه) البينة أن الحكم قضى له بالمال يوم السبت، فإن القضاء الأول
نافذ والقضاء الثاني باطل وهذا لأن الثابت بالبينة العادلة كالثابت عياناً
ولو عاينا القضاءين على الترتيب
(8/122)
الذي ادعيا كان الأول نافذاً والثاني
باطلاً، لأن الحكومة قد انتهت بالقضاء الأول بحصول المقصود وهو فعل
الخصومة، والحكم الثاني يكون بعد خروجه عن الحكومة فيقع باطلاً.
وحكم الحكم بالطلاق والنكاح والعتاق والكتابة والكفالة بالنفس والكفالة
بالمال والشفعة والنفقة والديون والقروض والتبرع والقصاص وأرش الجراحات
وقطع يد عمد وسائر حقوق العباد بينهم، فهو جائز إذا وافق رأي القاضي، أما
الطلاق والعتاق وسائر الحقوق المالية فلا شك في جواز التحكيم فيها؛ لأن حكم
الحكم صلح من وجه وتفويض من وجه، وأياً ما كان فهو جائز. وأما القصاص فقد
نص على جواز التحكيم فيها هاهنا وفي صلح «الأصل» : وعن أبي حنيفة رحمه
الله، أنه لا يجوز، وهكذا ذكره الخصاف في «أدب القاضي» ، ووجه ذلك: أنه صلح
من وجه ولا يجوز استيفاء القصاص بالصلح؛ ولأنه ليس بحجة في حق غير الحكمين
فكان فيه شبهة، والقصاص لا يستوفى مع الشبهات.
وجه ما ذكر هنا: وفي «الأصل» أن القصاص من حقوق العباد وهما يملكان
الاستيفاء بأنفسهما، فيملكان التفويض إلى غيرهما قياساً على سائر حقوق
العباد. وأما أروش الجراحات، فإن كانت بحيث لا يتحملهما العاقلة وتجب في
مال الجاني بأن كانت دون أرش الموضحة وهو خمسمائة درهم أو ثبت ذلك بالإقرار
أو النكول أو كان عبداً وقضى على الجاني جاز؛ لأنه لا يخالف حكم الشرع وقد
رضي الجاني بحكمه عليه فيجوز، وإن كانت بحيث يتحملها العاقلة بأن كان
خمسمائة فصاعداً، وقد ثبت بالبينة وكان خطأ لا يجوز قضاؤه أصلاً؛ لأنه إن
قضى بها على الجاني فقد قضى بخلاف حكم الشرع، وإن قضى بها على العاقلة
فالعاقلة ما رضوا به.
وفي «أدب القاضي» للحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه الله: الحكم في قتل
الخطأ، إن قضى بالدية على العاقلة لم يجز، وإن قضى بها على القاتل جاز وأما
قطع اليد عبداً إن قطع يد الحر فحكمه وجوب القصاص، وقد بينا الكلام في جواز
التحكيم، وإن قطع يد عبد فحكمه وجوب نصف القيمة في مال القاطع فجاز قضاؤه
عليه بالمال؛ لأنه رضي بحكومته وحكم الحاكم جائز في الأموال باتفاق
الروايات.
وقوله في «الكتاب» فهو جائز، إذا وافق رأي القاضي، معناه: أن للقاضي المولى
أن يبطل حكم الحاكم إذا خالف رأيه.
قال: ولا يجوز التحكيم في شيء من الحدود لا زنا ولا شرب خمر ولا سرقة ولا
لعان ولا قذف، وإن فعل ذلك فهو باطل؛ لأنهما لا يملكان إقامة ذلك بأنفسهما،
فلا يملكان التفويض إلى الغير ويجوز التحكيم في تضمين السرقة؛ لأنه خالص حق
المسروق منه، وله ولاية الاستيفاء ويجوز تحكيم المكاتب والعبد المأذون صحيح
وإن اعتبرناه بالتفويض فهما في تفويض ما يملكان بأنفسهما إلى غيرهما بمنزلة
الحر.
ولا يجوز كتاب الحكم بحكم إلى القاضي؛ لأنه في حقه بمنزلة واحد من الرعايا
(8/123)
والقاضي لا يقضي بكتاب واحد من الرعايا
وكذلك لا يجوز كتاب القاضي إلى حكم حكمه رجلان بشهادة شهود شهدوا عنده؛
لأنه في حقه بمنزلة واحد من الرعايا، وكذلك لا ينبغي للحكم أن يقضي بكتاب
كتبه قاض إلى قاض آخر.
وإذا حكما رجلاً فجعل الحكم الحكم إلى غيره لم يجز إلا برضا الخصمين؛
لأنهما إنما رضيا بحكمه، أمّا ما رضيا بحكم غيره، فلو أن الثاني حكم بينهما
بغير رضاهما وأجاز الأول حكمه ذكر في «الكتاب» أنه باطل.
بعض مشايخنا قالوا: ما ذكر من الجواب لا يكاد يصح على قول علمائنا؛ لأن
الحكم إما أن يعتبر بالوكيل الذي لم يؤذن له بالتوكيل، أو بالقاضي الذي لم
يؤذن له بالاستخلاف وأي الأمرين اعتبرنا يجب أن يكون إجازة الأول حكم
الثاني صحيح، فإن القاضي الذي لم يؤذن بالاستخلاف إذا أجاز حكم خليفته جاز،
والوكيل الذي لم يؤذن له في التوكيل، إذا أجاز تصرف وكيله يجوز.
والذي يؤيد هذا القول مسألة ذكرها محمد رحمه الله (87أ4) في «السير الكبير»
وصورتها: إذا نزل قوم من أهل الحرب على حكم رجل من المسلمين، فحكم فيهم
غيره بغير رضاهم لا يجوز، وإن أجاز ذلك الحكم يجوز. ومنهم من قال: هذا
الجواب صحيح على قياس ما ذكر في بعض روايات كتاب الوكالة، أن الوكيل الذي
لم يؤذن له في التوكيل إذا أجاز تصرف وكيله لا يجوز، وعلى قياس هذه الرواية
لو أجاز القاضي الذي لم يؤذن له في الاستخلاف حكم خليفته لا يجوز أيضاً،
وعلى قياس الرواية الأخرى، أن الوكيل لو أجاز تصرف وكيله يجوز لو أجاز
القاضي حكم خليفته أو أجاز الحكم حكم حاكمه يجوز أيضاً، فإذاً في الحاصل في
المسائل كلها روايتان، وسيأتي وجه الروايتين في وكالة «الأصل» ، فإن الوكيل
بالخصومة لا يملك التحكيم لأن التحكيم صلح معنى والوكيل بالخصومة لا يملك
الصلح، وإن وكله بالخصومة والصلح جميعاً أو وكله بالخصومة وأجاز منعه جاز
التحكيم وهذا ظاهر.
ولو حكم رجلان رجلاً بينهما وحكم لأحدهما ثم اصطلحا على حَكَم آخر، فالثاني
ينظر في حكم الأول إن كان عدلاً أمضاه وإن كان جوراً أبطله؛ لأن الحكم فيما
بين المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى، والقاضي المولى إذا قضى بين اثنين ثم
رفع قضاؤه إلى قاض آخر نظر القاضي الثاني في قضائه على نحو ما بينا، وإذا
رد شهادة شهود شهدوا عنده بتهمة ثم شهد أولئك الشهود عند قاض آخر، أو عند
حاكم آخر، فإنه يسأل عنهم فإن عدلوا أجازهم، وإن جرحوا ردهم؛ لأن الحكم في
حق غير المتخاصمين بمنزلة واحد من الرعايا فلا يعمل رده في حق القاضي، ولا
في حق حاكم آخر بخلاف ما إذا رد القاضي المولى شهادتهم؛ لأن رده يظهر في حق
الناس كافة فلا يكون لأحد أن يعمل بتلك الشهادة بعد ذلك.
وإذا أبى الخصمان حكم الحكم، وقالا: لم يحكم بيننا وقال الحاكم: لا، بل قد
حكمت بينهما، فإنه يصدق الحكم ما دام في مجلس الحكومة، وبعدما قام عن مجلس
الحكومة لا يصدق؛ لأنه حكى ما لم يملك استئنافه.
(8/124)
وإذا اصطلحا على حكم حكم بينهما وأجاز
القاضي حكومته قبل أن يحكم بينهما، فهذه الإجازة من القاضي لغو، حتى لو حكم
الحاكم بخلاف رأي القاضي فللقاضي أن يبطله؛ لأن هذه الإجازة لو اعتبرت إما
أن يعتبر إنفاذ التحكيم ولا وجه إليه؛ لأن التحكيم نفذ بين الخصمين لا يوقف
فيها، فلا تعمل الإجازة فيها؛ لأن الإجازة إنما تعمل في الموقوف لا في غير
الموقوف، وإما أن يعتبر إنقاذ الحكم ولا وجه إليه أيضاً؛ لأن الحكم لم يوجد
وإجازه الشيء قبل وجوده باطلة، فصار وجود هذه الإجازة والعدم بمنزلة.
قال شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: وهذا الجواب صحيح فيما إذا لم يكن
القاضي مأذوناً في الاستخلاف، فأما إذا كان مأذوناً في الاستخلاف يجب أن
تجوز إجازته، ويجعل إجازة القاضي بمنزلة استخلافه إياه في الحكم بينهما فلا
يكون له أن يبطل حكمه بعد ذلك.
وإذا حكم رجل بين رجلين ولم يكونا حكماه، فقالا بعد حكمه: رضينا بحكمه
وأجزنا عليه، فهو جائز؛ لأن الإجازة في الانتهاء بمنزلة الإذن في الابتداء،
ولو أذنا له بالحكم بينهما في الابتداء جاز، فكذا إذا أجازا حكمه في
الانتهاء.
وإذا اصطلح رجلان على أن يبعث كل واحد منهما حكماً من أهله فهو جائز، وإذا
قضى أحدهما على أحد الخصمين وقضى الآخر على الخصم الآخر لا يجوز، لما ذكرنا
أن الحكم في حق المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى، والقاضي المولى إذا كان
اثنين لا ينفرد أحدهما بالقضاء؛ لأن القضاء أمر يحتاج فيه إلى الرأي
والخليفة رضي برأي المثنى لا برأي الواحد كذا هاهنا الخصمان رضيا برأي
المثنى، فلا ينفرد أحدهما بالحكم.
وعن هذا قلنا إذا اصطلح مسلم وذمي على مسلم وذمي يحكمان بينهما وحكما
جميعاً للمسلم على الذمي جاز؛ لأنهما يصلحان حكماً على الذمي، فيصلحا
شاهداً عليه، ولو حكما للذمي على المسلم لا يجوز؛ لأن الذمي لا يصلح حكماً
على المسلم فخرج من البين وتعذر تنفيذ حكم المسلم أيضاً، وإن صلح حكماً
عليه؛ لأنه ما رضى برأيه وحده.
وعلى هذا المسلمان إذا حكما حراً وعبداً بينهما فحكم الحر بينهما لم يجز؛
لأن العبد لا يصلح حكماً، فخرج هو من البين بقي الحر منفرداً وهما ما رضيا
برأي المنفرد، وإذا حكم الذميان ذمياً يحكم بينهما، ثم أسلم أحد الخصمين
فقد خرج الحكم من الحكومة، هكذا ذكر في «الكتاب» ، وأراد بقوله خرج من
الحكومة يعني خرج عن الحكومة في حق الحكم على المسلم، أما في حق الحكم على
الذمي يبقى حكماً، وهذا لما عرف أن البقاء معتبر بالابتداء، والذمي يصلح
لابتداء التحكيم على الذمي فيصلح لبقائه حكماً عليه، ولا يصلح لابتداء
التحكيم على المسلم فلا يصلح لبقائه حكماً، ويجوز حكم الحاكم المحكم في
الطلاق المضاف إليه أشار في صلح «الأصل» وفي «أدب القاضي» للخصاف، فإنه
استثنى من حكمه في صلح «الأصل» الحدود. وفي «أدب القاضي» استثنى الحدود
والقصاص، فهذا إشارة إلى أن ما عدا ذلك داخل في حكمه،
(8/125)
وهو الصحيح من المذهب، لكن كثير من مشايخنا
امتنعوا عن الفتوى في الطلاق المضاف وأمثاله كيلا يتجاسر العوام، فيؤدي إلى
التهاون بأحكام الشرع.
وإذا حلف الحكم أحد الخصمين ونكل عن اليمين وقضى عليه، فقال المقضي عليه:
لا أجيز حكمه علي وحلفه، فحكمه عليه ماض، ألا ترى أن المقضي عليه بالنكول
من جهة القاضي لو أراد أن يرد قضاءه عليه، ليس له ذلك كذا هاهنا لما مر أن
الحكم فيما بين المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى، ولو كان المدعي من
الابتداء أقام البينة على دعواه وعدلوا وحكم الحاكم بها على المدعى عليه
جاز كما يجوز من القاضي المولى، فإن أنكر المقضي عليه الحكم أو أنكر
التحكيم وادعى المدعي ذلك كان للمدعي أن يحلفه؛ لأنه يدعي عليه معنى لو أقر
به يلزمه، فإذا أنكر يستحلف عليه كما في سائر الدعاوي، فإن نكل عن اليمين
لزمه دعوى صاحبه، وإن كان المدعي أقام بينة على ما ادعى من التحكيم والحكم
ينظر إن كان الشهود الذين شهدوا على التحكيم والحكم (غير) الذين يجري الحكم
بشهادتهم، لا تقبل شهادتهم لتمكن التهمة في الفصل الثاني؛ لأنهم يريدون
تصحيح شهادتهم الأولى وإلزام حكمهما بواسطة ما قالا، ومثل هذه التهمة
منتفية عن شهادتهم في الفصل الأول.
وفي «الزيادات» : إذا رفع حكم الحاكم في المجتهدات إلى قاض يرى خلاف ما حكم
فنفذه مع ذلك، ثم رفع إلى قاض آخر يرى رد حكم الحكم أيضاً فالقاضي الثاني
لا يرده؛ لأن إجازة القاضي حكم الحكم بمنزلة إنشاء القضاء منه، والقاضي إذا
قضى في المجتهدات بخلاف رأيه ينفذ قضاؤه، وقد ذكرنا هذا الفصل مع ما فيه من
الخلاف فيما تقدم، وإذا لم يكن القاضي مأذوناً في الاستخلاف فأمر رجلاً حتى
حكم بين اثنين، وأجاز القاضي حكم ذلك الحكم، قد ذكرنا أنه ينفذ حكمه على
إحدى الروايتين ولكن هذا إذا كان الحاكم ممن يصلح قاضياً، وإن كان لا يصلح
قاضياً كالعبد والصبي وغيرهما لا ينفذ حكمه بإجازته باتفاق الروايات، وإن
كان ممن يختلف الفقهاء في صلاحيته للحكومة نفذ حكمه بإجازته؛ لأن إجازة
القاضي حكم الحكم قضاء منه بأصالته، وإنه مجتهد فيه وقضاء القاضي في
المجتهدات نافذ.
وإذا حكما رجلاً فيما بينهما فقضى لأحدهما على صاحبه باجتهاده، ثم رجع عن
قضائه وقضى للآخر، فإن القضاء الأول ماض والقضاء الثاني باطل، لما ذكرنا إن
الحكم في حق الخصمين بمنزلة القاضي المولى في حق الناس كافة، والقاضي
المولى متى قضى بحادثة باجتهاده ثم أراد أن ينقض ذلك القضاء ويقضي بخلافه
في تلك الحادثة ليس له ذلك كذا هنا.
وإذا اصطلح الرجلان على حكم يحكم فيها بينهما، فقضى لأحدهما على صاحبه في
بعض الدعاوي الذي حكماه في ذلك، ثم رجع المقضي عليه عن تحكيم هذا الحكم
فيما بقى من الدعاوي، فإن قضاء الأول نافذ وما يقضى بعد ذلك لا ينفذ كما
ذكرنا إن عزل كل واحد منهما للحكم عامل فيما لم يقض بعد، فأما فيما قضى نفذ
ووقع الفراغ
(8/126)
عليه، فإنه لا يعمل عزله وكان كالوكيل ببيع
عبدين إذا باع أحدهما ثم عزل الموكل عمل عزله فيما لم يبع، ولم يعمل فيما
باع وكذلك هاهنا.
قال: وإذا اصطلح الخصمان على حكم بينهما، فأقام المدعي شاهدين عنده، أن له
على هذا الرجل وعلى كفيله الغائب فلان ألف درهم فقال المدعى عليه: الشاهدان
عبدان فإنه يسمع طعن المشهود عليه؛ لأنه فيما بين المتخاصمين بمنزلة القاضي
المولى والقاضي يسمع مثل هذا الطعن، فكذا الحكم. فإن أقام الشاهدان بينة أن
مولاهما كان أعتقهما وعدلت بينة العتق، فالحكم يقضي بعتقهما في حق المشهود
عليه ويقضي بالمال عليه ولا يقضي به على الكفيل، ولا يثبت العتق في حق
المولى بحكم الحكم، وإن كان لو حصل هذا من القاضي المولى يثبت العتق في حق
المولى، ويثبت المال على الكفيل (87ب4) لما ذكرنا أن حكم الحكم إنما يظهر
في حق من قضى بحكمه، دون من لم يرض بحكمه، والمولى والكفيل ما رضيا بحكمه
فلا يظهر حكمه في حقهما، أما المتخاصمان فقد رضيا بحكمه فظهر حكمه في
حقهما.
فإن جاء مولى العبدين وأنكر العتق وقدمهما إلى القاضي، فإن شهد هذان
الشاهدان على عتقهما أو غيرهما يريد بقوله: هذان الشاهدان اللذان شهدا على
عتقهما عند الحكم قضى القاضي به فشهادتهما بالمال جائزة؛ لأنه لم يظهر عنده
خطأ حكم الحاكم فيما حكم ولا ينقض حكمه، وإن لم تكن بيتهما بينة على العتق
وقضى القاضي برقهما للمولى أبطل حكم الحكم فيما حكم؛ لأنه ظهر عند القاضي
أن الحكم حكم بشهادة العبد والحكم بشهادة العبد باطل فكان له أن يبطل.
قال: ولو ادعى رجل قبل رجلين أنهما غصباه ثوباً أو شيئاً من الكيلي أو
الوزني فغاب أحدهما، ورضي الآخر والمدعى عليه بحكم يحكم بينهما، فأقام
المدعي بينة على حقه عليهما، فإنه يلزم الحاضر نصف ذلك ولا يلزم الغائب منه
شيء؛ لأن الحاضر رضي بحكمه، أما الغائب فلم يرض بحكمه.
وكذلك على هذا إذا ادعى رجل على ميت ديناً وورثته غيب إلا واحد، فاصطلح هذا
الوارث الحاضر مع المدعي على حكم يحكم بينهما، وأقام المدعي بينة على الميت
بحقه وحكم الحاكم بذلك لا يظهر حكمه في حق الغيب؛ لأنهم ما رضوا بحكمه. غير
أن في مسألة الورثة يقضي على الحاضر بجميع الدين ويستوفي ذلك مما في يده
وفي مسألة الغصب يقضي على الحاضر بالنصف. والوجه في ذلك: أن الحكم فيما بين
المتخاصمين بمنزلة القاضي المولى في حق الناس كافة، ثم القاضي يقضي بجميع
الدين على الميت بحضرة أحد الورثة لما عرف أن أحد الورثة ينتصب خصماً عن
الميت في جميع ما يدعى على الميت، وصار من حيث المعنى كأن المورث حي وهو
حاضر.
وإذا قضى القاضي بجميع الدين والدين مقدم على الميراث وما في يده من
الميراث يؤخذ جميع الدين مما في يده، فإذا عرفت الجواب في حق القاضي
المولى، فكذا الجواب في الحكم، أما في الغصب القاضي المولى لا يقضي إلا
بنصف القيمة؛ لأن أحدهما ليس بخصم عن الآخر، فإذا عرفت هذا في القاضي
المولى، فكذا الجواب في الحكم.
(8/127)
وإذا اشترى من آخر عبداً وقبضه ونقد الثمن،
ثم طعن بعيب، واصطلحا على حكم، فقضى بالرد على البائع فهو جائز؛ لأن
التحكيم حصل بما يملك الخصمان فعله بأنفسهما، فيصح كما في سائر الصور، وإذا
صح التحكيم صار الحكم فيما بينهما بمنزلة القاضي المولى لو قضى بالرد على
البائع يجوز، فكذا ها هنا، فإن أراد البائع أن يخاصم بائعه في ذلك العيب لا
يجوز لما ذكرنا أن حكم الحكم في حق غير المتخاصمين بمنزلة صلح باشره، ولو
حصل الرد على البائع بطريق الصلح ليس للبائع أن يخاصم بائعه في ذلك العيب،
ويجعل هذا الرد بمنزلة بيع جديد في حق البائع الأول فكذا هنا، ولو اصطلحوا
جميعاً (على حكم هذا الحكم) المشتري الثاني والمشتري الأول والبائع الأول
على حكم هذا الحكم، ورد هو العبد على البائع الثاني، فأراد البائع الثاني
أن يرده على البائع الأول، ليس له ذلك قياساً، وله ذلك استحساناً.
وجه القياس أن البائع الأول ليس بخصم للحال إذ لا خصومة معه في العيب قبل
الرد على البائع الثاني، فلا يصح تحكيمه، فصار وجود هذا التحكيم والعدم
بمنزلة.
وجه الاستحسان: أن البائع الأول، إن لم يكن خصماً في هذا العيب في الحال
فهو يعرض أن يصير خصماً بسبب هذا العيب، فإنه إذا رد العبد على البائع
الثاني، كان للبائع الثاني أن يخاصم البائع الأول فيه، فصار الحكم في حقهم
بمنزلة القاضي المولى، والقاضي المولى لو رد العبد على البائع الثاني، كان
للبائع الثاني أن يرده على البائع الأول، فكذا الحكم. ولو نقض البائع الأول
الحكومة بعدما رد العبد على البائع الثاني قبل أن يرده عليه صح النقض؛ لأن
هذا نقض قبل الحكم عليه وإنه جائز، وإذا صح العزل لا يملك الحكم رد العبد
على البائع الأول بعد ذلك.
وإن خاصم البائع الثاني البائع الأول بعد ذلك بسبب هذا العيب عند قاض من
القضاة، فالقياس أن لا يرده القاضي على البائع الأول؛ لأن التحكيم من
البائع الأول لم يصح على جواب الاستحسان، فصار وجوده والعدم بمنزلة، وفي
الاستحسان يرده؛ لأن الحكم حين رد على البائع الثاني، فهو حكم في حق البائع
الأول، فصح حكمه بالرد في حق البائع الأول فلا يبطل هذا الحكم بعزل الحكم،
ألا ترى أنه لا يبطل هذا الحق بعزل القاضي المولى، حتى إن القاضي المولى
إذا رد العبد على البائع الثاني، ثم عزل هذا القاضي وولي قاض آخر فرفعت
إليه هذه الحادثة رد العبد على البائع الأول كذا هنا.
ولو أن رجلاً باع سلعة لرجل بأمره فطعن المشتري بعيب، فحكما بينهما حكماً
برضا الآمر، وردها الحكم على البائع بسبب ذلك العيب بإقرار البائع أو
بنكوله أو ببينة قامت، فإن كان الرد بالبينة أو بنكول الوكيل فله أن يرده
على الموكل وإن كان الرد بإقراره بالعيب، وذلك عيب لا يحدث مثله رده على
الموكل أيضاً، وإن كان يحدث مثله لم يرد على الموكل حتى يقيم البينة أن هذا
العيب كان عند الموكل؛ لأنه صار حكماً في حقهم بتراضيهم، فصار بمنزلة
القاضي المولى والحكم فيما إذا كان الرد من القاضي المولى على نحو ما
ذكرنا، فكذا إذا كان الرد من الحكم.
(8/128)
ولم يذكر القياس والاستحسان في هذه المسألة، كما في المسألة المتقدمة؛ لأن
هناك البائع الأول ليس بخصم في العيب للحال، فلا يصح تحكيمه للحال قياساً،
أما هنا الآمر خصم في الحال؛ لأن الرد على الوكيل رد على الآمر، فصح
التحكيم من الآمر في الحال قياساً واستحساناً، وإن كانت الحكومة بغير رضا
الآمر لا يلزم الآمر من ذلك شيء إلا ببينة أو كان عيباً لا يحدث مثله وهذا
لأن التحكيم في حق الآمر لما لم يصح لعدم رضاه صار بمنزلة ما لو قبل
المأمور المبيع بالعيب بغير قضاء، وهناك الجواب على التفصيل إن كان يحدث
منه يلزم المأمور دون الآمر، باتفاق الروايات، وإن كان عيباً لا يحدث مثله،
ففيه اختلاف الروايات في بعضها يلزم الأمر، وفي بعضها يلزم المأمور، كذا
هنا.
ولو كان هذا الرجل اشترى عبداً لرجل بأمره وطعن المشتري بعيب به وحكما فيما
بينهما رجلاً برضا الآمر ورده ببينة أو بإقرار أو بنكول كان ذلك جائزاً على
الآمر وهذا ظاهر، ولو كان التحكيم بغير رضا الآمر ورد ببعض ما ذكرنا، فكذلك
الجواب كان الرد جائزاً على الآمر.
فرق بين الوكيل بالشراء وبين الوكيل بالبيع، فإن في الوكيل بالبيع إذا حصل
التحكيم بغير رضا الآمر ورد المشتري على الوكيل نفذ الرد على الوكيل دون
الموكل، والفرق أن حكم الحكم في حق غير الممكن بمنزلة الصلح الذي باشراه،
ولو كان مكان الرد في الوكيل بالبيع صلحاً باشراه بغير قضاء نفذ عليه وعلى
الآمر جميعاً لفقه، وهو أن الرد بالعيب بغير قضاء بمنزلة الإقالة في حق
الثالث، والآمر ثالثهما، والإقالة في حق الوكيل بالبيع في هذه الحالة لا
يصح؛ لأن الوكالة انتهت نهايتها بالبيع والتسليم والتحق الوكيل بالإصابة،
فأما الإقالة من الوكيل بالشراء ما دام المشترى في يده صحيحة، لأن الوكالة
بالشراء لا تنتهى ما دام المشترى في يد الوكيل بالشراء. |