بدائع
الصنائع في ترتيب الشرائع "كتاب الاستحسان"
وقد يسمى كتاب الحظر والإباحة وقد يسمى كتاب
الكراهة والكلام في هذا الكتاب في الأصل في
موضعين في بيان معنى اسم الكتاب وفي بيان
أنواع المحظورات والمباحات المجموعة فيه "أما"
الأول فالاستحسان يذكر ويراد به كون الشيء على
صفة الحسن ويذكر ويراد به فعل المستحسن وهو
رؤية الشيء حسنا يقال استحسنت كذا أي رأيته
حسنا فاحتمل تخصيص هذا الكتاب بالتسمية
بالاستحسان لاختصاص عامة ما أورد فيه من
الأحكام بحسن ليس في غيرها ولكونها على وجه
يستحسنها العقل والشرع "وأما" التسمية بالحظر
والإباحة فتسمية طابقت معناها ووافقت مقتضاها
لاختصاصه ببيان جملة من المحظورات والمباحات
وكذا التسمية بالكراهة لأن الغالب فيه بيان
المحرمات وكل محرم مكروه في الشرع لأن الكراهة
ضد المحبة والرضا قال الله تبارك وتعالى:
{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ
خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً
وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} والشرع
لا يحب الحرام ولا يرضى به إلا أن ما تثبت
حرمته بدليل مقطوع به من نص الكتاب العزيز أو
غير ذلك فعادة محمد أنه يسميه حراما على
الإطلاق وما تثبت حرمته بدليل غير مقطوع به من
أخبار الآحاد وأقاويل الصحابة الكرام رضي الله
عنهم وغير ذلك يسميه مكروها وربما يجمع بينهما
فيقول حرام مكروه إشعارا منه أن حرمته ثبتت
بدليل ظاهر لا بدليل قاطع. "وأما" بيان أنواع
المحرمات والمحللات المجموعة فيه فنقول وبالله
تعالى التوفيق المحرمات المجموعة في هذا
الكتاب في الأصل نوعان نوع ثبتت حرمته في حق
الرجال والنساء جميعا ونوع ثبتت حرمته في حق
الرجال دون النساء "أما" الذي ثبتت حرمته في
حق الرجال والنساء جميعا فبعضها مذكور في
مواضعه في الكتب فلا نعيده ونذكر ما لا ذكر له
في الكتب ونبدأ بما بدأ به محمد رحمه الله
الكتاب وهو حرمة النظر والمس والكلام فيها في
ثلاث مواضع أحدها في بيان ما يحل من ذلك ويحرم
للرجل من المرأة والمرأة من الرجل والثاني في
بيان ما يحل ويحرم للرجل من الرجل والثالث في
بيان ما يحل ويحرم للمرأة من المرأة. "أما"
الأول فلا يمكن الوصول إلى معرفته إلا بعد
معرفة أنواع النساء فنقول وبالله تعالى
التوفيق النساء في هذا الباب سبعة أنواع نوع
منهن المنكوحات ونوع منهن المملوكات ونوع منهن
ذوات الرحم المحرم
ج / 5 ص -119-
وهو
الرحم المحرم للنكاح كالأم والبنت والعمة
والخالة ونوع منهن ذوات الرحم بلا محرم وهن
المحارم من جهة الرضاع والمصاهرة ونوع منهن
مملوكات الأغيار ونوع منهن من لا رحم لهن أصلا
ولا محرم وهن الأجنبيات الحرائر ونوع منهن
ذوات الرحم بلا محرم وهو الرحم الذي لا يحرم
النكاح كبنت العم والعمة والخال والخالة "أما"
النوع الأول وهن المنكوحات فيحل للزوج النظر
إلى زوجته ومسها من رأسها إلى قدمها لأنه يحل
له وطؤها لقوله تعالى
{وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} وأنه فوق النظر والمس فكان إحلالا لهما من طريق الأولى إلا أنه لا
يحل له وطؤها في حالة الحيض لقوله تبارك
وتعالى
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا
النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} فصارت حالة الحيض مخصوصة عن عموم النص الذي تلونا. وهل يحل الاستمتاع
بها فيما دون الفرج؟ اختلف فيه قال أبو حنيفة
وأبو يوسف رضي الله عنهما لا يحل الاستمتاع
بما فوق الإزار وقال محمد رحمه الله يجتنب
شعار الدم وله ما سوى ذلك واختلف المشايخ في
تفسير قولهما بما فوق الإزار قال بعضهم المراد
منه ما فوق السرة فيحل الاستمتاع بما فوق
سرتها ولا يباح بما تحتها إلى الركبة وقال
بعضهم المراد منه مع الإزار فيحل الاستمتاع
بما تحت سرتها سوى الفرج لكن مع المئزر لا
مكشوفا ويمكن العمل بعموم قولهما بما فوق
الإزار لأنه يتناول ما فوق السرة وما تحتها
سوى الفرج مع المئزر إذ كل ذلك فوق الإزار
فيكون عملا بعموم اللفظ والله سبحانه وتعالى
أعلم. "وجه" قول محمد ظاهر قوله تبارك وتعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً} جعل الحيض أذى فتختص الحرمة بموضع الأذى وقد روي أن سيدتنا عائشة رضي
الله عنها سئلت عما يحل للرجل من امرأته
الحائض فقالت يتقي شعار الدم وله ما سوى ذلك
"ووجه" قولهما ما روي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال:
"لنا ما تحت السرة وله ما
فوقها" وروي "أن
أزواج النبي عليه الصلاة والسلام كن إذا حضن
أمرهن أن يتزرن ثم يضاجعهن" ولأن الاستمتاع بها بما يقرب من الفرج سبب الوقوع في الحرام قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم
"ألا إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه فمن
حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه" وفي رواية
"من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه"
والمستمتع بالفخذ يحوم حول الحمى ويرتع حوله
فيوشك أن يقع فيه دل أن الاستمتاع به سبب
الوقوع في الحرام. وسبب الحرام حرام أصله
الخلوة بالأجنبية "وأما" الآية الكريمة فحجة
عليه لأن ما حول الفرج لا يخلو عن الأذى عادة
فكان الاستمتاع به استعمال الأذى وقول سيدتنا
عائشة رضي الله عنها له ما سوى ذلك أي مع
الإزار فحمل على هذا توفيقا بين الدلائل صيانة
لها عن التناقض وكذلك المرأة يحل لها النظر
إلى زوجها واللمس من فرقه إلى قدمه لأنه حل
لها ما هو أكثر من ذلك وهو التمكين من الوطء
فهذا أولى ويحل النظر إلى عين فرج المرأة
المنكوحة لأن الاستمتاع به حلال فالنظر إليه
أولى إلا أن الأدب غض البصر عنه من الجانبين
لما روي عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها أنها
قالت قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وما
نظرت إلى ما منه ولا نظر إلى ما مني ولا يحل
إتيان الزوجة في دبرها لأن الله تعالى عز شأنه
نهى عن قربان الحائض ونبه على المعنى وهو كون
المحيض أذى والأذى في ذلك المحل أفحش وأذم
فكان أولى بالتحريم وروي عن سيدنا علي رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال:
"من أتى حائضا
أو امرأة في دبرها أو أتى كاهنا فصدقه فيما
يقول فهو كافر بما أنزل على محمد صلى الله
عليه وسلم"
"نهى عن إتيان النساء في محاشهن" أي أدبارهن. وعلى ذلك جاءت الآثار من الصحابة الكرام رضي الله تعالى
عنهم أنها سميت اللوطية الصغرى ولأن حل
الاستمتاع في الدنيا لا يثبت لحق قضاء الشهوات
خاصة لأن لقضاء الشهوات خاصة دارا أخرى وإنما
يثبت لحق قضاء الحاجات وهي حاجة بقاء النسل
إلى انقضاء الدنيا إلا أنه ركبت الشهوات في
البشر للبعث على قضاء الحاجات وحاجة النسل لا
تحتمل الوقوع في الأدبار فلو ثبت الحل لثبت
لحق قضاء الشهوة خاصة والدنيا لم تخلق له.
"وأما" النوع الثاني وهن المملوكات فحكمهن حكم
المنكوحات فيحل للمولى النظر إلى سائر بدن
جاريته ومسها من رأسها إلى قدمها لأنه حل له
ما هو أكثر منه لقوله عز وجل
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآية إلا أن حالة الحيض صارت
ج / 5 ص -120-
مخصوصة
فلا يقربها في حالة الحيض ولا يأتي في دبرها
لما ذكرنا من الدلائل وفي الاستمتاع بها فيما
دون الفرج على الاختلاف وكذا إذا ملكها بسائر
أسباب الملك لا يحل له أن يقربها قبل أن
يستبرئها والأصل فيه ما روي عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه
"قال في سبايا أوطاس ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن ولا الحيالى حتى
يستبرأن بحيضة"
ولأن فيه خوف اختلاط المياه وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم
"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره" وكذا فيه وهم ظهور الحبل بها فيدعيه ويستحقها فيتبين أنه يستمتع بملك
الغير. "وأما" الدواعي من القبلة والمعانقة
والنظر إلى الفرج عن شهوة فلا يحل عند عامة
العلماء إلا في المسبية وقال مكحول رحمه الله
يحل "وجه" قوله أن الملك في الأصل مطلق التصرف
ولهذا لم تحرم الدواعي في المسبية ولا على
الصائم فكان ينبغي أن لا يحرم القربان أيضا
إلا أن الحرمة عرفناها بالنص فتقتصر الحرمة
على مورد النص على أن النص إن كان معلولا بخوف
اختلاط المياه فهذا معنى لا يحتمل التعدية إلى
الدواعي فلا يتعدى إليها. "وجه" قول العامة أن
حرمة القربان إنما تثبت خوفا عن توهم العلوق
وظهور الحبل وعند الدعوة والاستحقاق يظهر أن
الاستمتاع صادف ملك الغير وهذا المعنى موجود
في الدواعي من المستبرأة ونحوها فيتعدى إليها
ولا يتعدى في المسبية فيقتصر الحكم فيها على
مورد النص ولأن الاستمتاع بالدواعي وسيلة إلى
القربان والوسيلة إلى الحرام حرام أصله الخلوة
وهذا أولى لأن الخلوة في التوسل إلى الحرام
دون المس فكان تحريمها تحريما للمس بطريق
الأولى كما في تحريم التأفيف من الضرب والشتم
ومن اعتمد على هذه النكتة منع فضل المسبية
وزعم أن لا نص فيها عن أصحابنا وهو غير سديد
فإن حل الدواعي من المسبية منصوص عليه من محمد
رحمه الله فلا يستقيم المنع فكان الصحيح هو
العلة الأولى وحرمة الدواعي في باب الظهار
والإحرام ثبت لمعنى آخر ذكرناه في كتاب الحج
والظهار. "وأما" النوع الثالث وهو ذات الرحم
المحرم فيحل للرجل النظر من ذوات محارمه إلى
رأسها وشعرها وأذنيها وصدرها وعضدها وثديها
وساقها وقدمها لقوله تبارك وتعالى
{وَلا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا
لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} الآية نهاهن سبحانه وتعالى عن إبداء الزينة مطلقا واستثنى سبحانه
إبداءها للمذكورين في الآية الكريمة منهم ذو
الرحم المحرم والاستثناء من الحظر إباحة في
الظاهر والزينة نوعان ظاهرة وهو الكحل في
العين والخاتم في الأصبع والفتخة للرجل وباطنة
وهو العصابة للرأس والعقاص للشعر والقرط للأذن
والحمائل للصدر والدملوج للعضد والخلخال للساق
والمراد من الزينة مواضعها لا نفسها لأن إبداء
نفس الزينة ليس بمنهي. وقد ذكر سبحانه وتعالى
الزينة مطلقة فيتناول النوعين جميعا فيحل
النظر إليها بظاهر النص ولأن المخالطة بين
المحارم للزيارة وغيرها ثابتة عادة فلا يمكن
صيانة مواضع الزينة عن الكشف إلا بحرج وأنه
مدفوع شرعا وكل ما جاز النظر إليه منهن من غير
حائل جاز مسه لأن المحرم يحتاج إلى إركابها
وإنزالها في المسافرة معها وتتعذر صيانة هذه
المواضع عن الانكشاف فيتعذر على المحرم
الصيانة عن مس المكشوف ولأن حرمة النظر إلى
هذه المواضع ومسها من الأجنبيات إنما ثبت خوفا
عن حصول الشهوة الداعية إلى الجماع والنظر إلى
هذه الأعضاء ومسها في ذوات المحارم لا يورث
الشهوة لأنهما لا يكونان للشهوة عادة بل
للشفقة ولهذا جرت العادة فيما بين الناس
بتقبيل أمهاتهم وبناتهم. وقد روي
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قدم
من الغزو قبل رأس السيدة فاطمة رضي الله عنها" وهذا إذا لم
يكن النظر والمس عن شهوة ولا غلب على ظنه أنه
لا يشتهي فأما إذا كان يشتهي أو كان غالب ظنه
وأكبر رأيه أنه لو نظر أو مس اشتهى لم يجز له
النظر والمس لأنه يكون سببا للوقوع في الحرام
فيكون حراما ولا بأس أن يسافر بها إذا أمن
الشهوة لما روي عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال:
"لا يحل
لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر
ثلاثا فما فوقها إلا ومعها زوجها أو ذو رحم
محرم منها" ولأن الذي
يحتاج المحرم إليه في السفر مسها في الحمل
والإنزال ويحل له مسها فتحل المسافرة معها
وكذا لا بأس أن يخلو بها إذا أمن على نفسه
لأنه لما حل المس فالخلوة أولى فإن خاف على
نفسه لم يفعل لما روي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم
ج / 5 ص -121-
أنه قال:
"لا يخلون الرجل بمغيبة وإن قيل حموها ألا حموها الموت" وهو محمول على حالة الخوف أو يكون نهي ندب وتنزيه والله سبحانه
وتعالى أعلم ولا يحل النظر إلى بطنها وظهرها
وإلى ما بين السرة والركبة منها ومسها لعموم
قوله تبارك وتعالى:
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ}
الآية إلا أنه سبحانه وتعالى رخص النظر
للمحارم إلى مواضع الزينة الظاهرة والباطنة
بقوله عز شأنه
{وَلا
يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا
لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ} الآية فبقي غض البصر عما وراءها مأمورا به. وإذا لم يحل النظر فالمس
أولى لأنه أقوى ولأن رخصة النظر إلى مواضع
الزينة للحاجة التي ذكرناها ولا حاجة إلى
النظر إلى ما وراءها فكان النظر إليها بحق
الشهوة وأنه حرام ولأن الله تبارك وتعالى جعل
الظهار منكرا من القول وزورا والظهار ليس إلا
تشبيه المنكوحة بظهر الأم في حق الحرمة ولو لم
يكن ظهر الأم حرام النظر والمس لم يكن الظهار
منكرا من القول وزورا فيؤدي إلى الخلف في خبر
من يستحيل عليه الخلف هذا إذا كانت هذه
الأعضاء مكشوفة فأما إذا كانت مستورة بالثياب
واحتاج ذو الرحم المحرم إلى إركابها وإنزالها
فلا بأس بأن يأخذ بطنها أو ظهرها أو فخذها من
وراء الثوب إذا كان يأمن على نفسه لما ذكرنا
أن مس ذوات الرحم المحرم لا يورث الشهوة عادة
خصوصا من وراء الثوب حتى لو خاف الشهوة في
المس لا يمسه وليجتنب ما استطاع وكل ما يحل
للرجل من ذوات الرحم المحرم منه من النظر
والمس يحل للمرأة ذلك من ذي رحم محرم منها وكل
ما يحرم عليه يحرم عليها والله عز وجل أعلم.
"وأما" النوع الرابع وهو ذوات المحرم بلا رحم
فحكمهن حكم ذوات الرحم المحرم وقد ذكرناه
والأصل فيه قول النبي عليه الصلاة والسلام "يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب" وروي أن أفلح
بن أبي القعيس رحمه الله استأذن أن يدخل على
سيدتنا عائشة رضي الله عنها فسألت رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال عليه الصلاة
والسلام
"ليلج عليك فإنه عمك أرضعتك امرأة أخيه". "وأما" النوع الخامس وهو مملوكات الأغيار فحكمهن أيضا في حل النظر
والمس وحرمتهما حكم ذوات الرحم المحرم فيحل
النظر إلى مواضع الزينة منهن ومسها ولا يحل ما
سوى ذلك. والأصل فيه ما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مس ناصية أمة ودعا لها بالبركة" وروي أن
سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه رأى أمة متقنعة
فعلاها بالدرة وقال ألقي عنك الخمار يا دفار
أتتشبهين بالحرائر فدل على حل النظر إلى رأسها
وشعرها وأذنها وروي عن سيدنا عمر رضي الله
تعالى عنه أنه مر بجارية تعرض على البيع فضرب
بيده على صدرها وقال اشتروا ولو كان حراما لم
يتوهم منه رضي الله عنه أن يمسها ولأن بالناس
حاجة إلى النظر إلى هذه المواضع ومسها عند
البيع والشراء لمعرفة بشرتها من اللين
والخشونة ونحو ذلك لاختلاف قيمتها باختلاف
أطرافها فألحقت بذوات الرحم المحرم دفعا للحرج
عن الناس ولهذا يحل بهن المسافرة بلا محرم ولا
حاجة إلى المس والنظر إلى غيرها لأنها تصير
معلومة بالنظر إلى الأطراف ومسها وهذا إذا أمن
على نفسه الشهوة فإن لم يأمن وخاف على نفسه أن
يشتهي لو نظر أو مس فلا بأس أن ينظر إليها وإن
اشتهى إذا أراد أن يشتريها فلا بد له من النظر
لما قلنا فيحتاج إلى النظر فصار النظر من
المشتري بمنزلة النظر من الحاكم والشاهد
والمتزوج فلا بأس بذلك وإن كان عن شهوة فكذا
هذا وكذا لا بأس له أن يمس. وإن اشتهى إذا
أراد أن يشتريها عند أبي حنيفة رضي الله عنه
وروي عن محمد رحمه الله أنه يكره للشاب مس شيء
من الأمة والصحيح قول أبي حنيفة رضي الله عنه
لأن المشتري يحتاج إلى العلم ببشرتها ولا يحصل
ذلك إلا باللمس فرخص للضرورة وكذا يحل للأمة
النظر والمس من الرجل الأجنبي ما فوق السرة
ودون الركبة إلا أن تخاف الشهوة فتجتنب كالرجل
وكل جواب عرفته في القنة فهو الجواب في
المدبرة وأم الولد لقيام الرق فيهما. "وأما"
النوع السادس وهو الأجنبيات الحرائر فلا يحل
النظر للأجنبي من الأجنبية الحرة إلى سائر
بدنها إلا الوجه والكفين لقوله تبارك وتعالى
{قُلْ
لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ
أَبْصَارِهِمْ}
إلا أن النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة وهي
الوجه والكفان رخص بقوله تعالى {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} والمراد من الزينة مواضعها ومواضع الزينة الظاهرة الوجه والكفان
فالكحل زينة الوجه والخاتم زينة الكف ولأنها
تحتاج إلى البيع والشراء والأخذ والعطاء ولا
يمكنها
ج / 5 ص -122-
ذلك عادة
إلا بكشف الوجه والكفين فيحل لها الكشف وهذا
قول أبي حنيفة رضي الله عنه وروى الحسن عن أبي
حنيفة رحمهما الله أنه يحل النظر إلى القدمين
أيضا. "وجه" هذه الرواية ما روي عن سيدتنا
عائشة رضي الله تعالى عنها في قوله تبارك
وتعالى
{إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} القلب والفتخة وهي خاتم أصبع الرجل فدل على جواز النظر إلى القدمين
ولأن الله تعالى نهى عن إبداء الزينة واستثنى
ما ظهر منها والقدمان ظاهرتان ألا ترى أنهما
يظهران عند المشي؟ فكانا من جملة المستثنى من
الحظر فيباح إبداؤهما "وجه" ظاهر الرواية ما
روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه
قال في قوله جل شأنه
{إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}
أنه الكحل والخاتم وروي عنه في رواية أخرى أنه
قال الكف والوجه فيبقى ما وراء المستثنى على
ظاهر النهي ولأن إباحة النظر إلى وجه الأجنبية
وكفيها للحاجة إلى كشفها في الأخذ والعطاء ولا
حاجة إلى كشف القدمين فلا يباح النظر إليهما
ثم إنما يحل النظر إلى مواضع الزينة الظاهرة
منها من غير شهوة فأما عن شهوة فلا يحل لقوله
عليه الصلاة والسلام
"العينان
تزنيان" وليس زنا العينين إلا النظر عن شهوة ولأن النظر عن شهوة سبب الوقوع
في الحرام فيكون حراما إلا في حالة الضرورة
بأن دعي إلى شهادة أو كان حاكما فأراد أن ينظر
إليها ليجيز إقرارها عليها فلا بأس أن ينظر
إلى وجهها. وإن كان لو نظر إليها لاشتهى أو
كان أكبر رأيه ذلك لأن الحرمات قد يسقط
اعتبارها لمكان الضرورة ألا ترى أنه خص النظر
إلى عين الفرج لمن قصد إقامة حسبة الشهادة على
الزنا؟ ومعلوم أن النظر إلى الفرج في الحرمة
فوق النظر إلى الوجه ومع ذلك سقطت حرمته لمكان
الضرورة فهذا أولى وكذا إذا أراد أن يتزوج
امرأة فلا بأس أن ينظر إلى وجهها وإن كان عن
شهوة لأن النكاح بعد تقديم النظر أدل على
الألفة والموافقة الداعية إلى تحصيل المقاصد
على ما قال النبي عليه الصلاة والسلام
"للمغيرة بن شعبة رضي الله عنه حين أراد أن يتزوج امرأة اذهب فانظر
إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" دعاه عليه الصلاة والسلام إلى النظر مطلقا وعلل عليه الصلاة والسلام
بكونه وسيلة إلى الألفة والموافقة. "وأما"
المرأة فلا يحل لها النظر من الرجل الأجنبي ما
بين السرة إلى الركبة ولا بأس أن تنظر إلى ما
سوى ذلك إذا كانت تأمن على نفسها والأفضل
للشاب غض البصر عن وجه الأجنبية وكذا الشابة
لما فيه من خوف حدوث الشهوة والوقوع في الفتنة
يؤيده المروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله
عنهما أنه قال في قوله تبارك وتعالى {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أنه الرداء والثياب فكان غض البصر وترك النظر أزكى وأطهر وذلك قوله
عز وجل
{قُلْ
لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى
لَهُمْ} وروي "أن
أعميين دخلا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وعنده بعض أزواجه سيدتنا عائشة رضي الله تعالى
عنها وأخرى فقال لهما قوما فقالتا إنهما
أعميان يا رسول الله فقال لهما أعمياوان
أنتما" إلا إذا لم
يكونا من أهل الشهوة بأن كانا شيخين كبيرين
لعدم احتمال حدوث الشهوة فيهما. والعبد فيما
ينظر إلى مولاته كالحر الذي لا قرابة بينه
وبينها سواء وكذا الفحل والخصي والعنين
والمخنث إذا بلغ مبلغ الرجال سواء لعموم قوله
تبارك وتعالى
{قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} وإطلاق قوله عز شأنه
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} ولأن الرق والخصاء لا يعدمان الشهوة وكذا العنة والخنوثة "أما" الرق
فظاهر "وأما" الخصاء فإن الخصي رجل إلا أنه
مثل به إلى هذا أشارت سيدتنا عائشة رضي الله
عنها فقالت إنه رجل مثل به أفتحل له المثلة ما
حرم الله تبارك وتعالى على غيره. "وأما" العنة
والخنوثة فالعنين والمخنث رجلان فإن قيل أليس
أن المملوك بملك اليمين للمرأة مستثنى من قوله
جل وعلا {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} إلى قوله عز شأنه
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} من غير فصل بين العبد والأمة. والاستثناء من الحظر إباحة فالجواب أن
قوله سبحانه وتعالى
{أو ما ملكت أيمانهن} ينصرف
إلى الإماء لأن حكم العبيد صار معلوما بقوله
سبحانه وتعالى
{أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} إذ العبد من جملة التابعين من الرجال فكان قوله عز شأنه
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} مصروفا إلى الإماء لئلا يؤدي إلى التكرار فإن قيل حكم الإماء صار
معلوما بقوله تبارك وتعالى
{أَوِ التَّابِعِينَ}
فالصرف إليهن يؤدي إلى التكرار أيضا فالجواب
أن المراد بالنساء الحرائر فوقعت الحاجة إلى
تعريف حكم الإماء فأبان بقوله جل شأنه
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}
أن حكم الحرة والأمة فيه سواء
ج / 5 ص -123-
وروي عن
سيدتنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت:
"كان يدخل
على نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم مخنث
فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة فدخل رسول
الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو ينعت
امرأة فقال لا أرى هذا يعلم ما ههنا لا يدخل
عليكن فحجبوه" وكذا
روي
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على أم سلمة رضي الله عنها
وعندها مخنث فأقبل على أخي أم سلمة فقال يا
عبد الله إن فتح الله عليكم غدا الطائف دللتك
على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان
فقال عليه الصلاة والسلام لا أرى يعرف هذا ما
ههنا لا يدخلن عليكم" هذا إذا بلغ الأجنبي مبلغ الرجال فإن كان صغيرا لم يظهر على عورات
النساء ولا يعرف العورة من غير العورة فلا بأس
لهن من إبداء الزينة لهم لقوله جل وعلا
{أَوِ
الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى
عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}
مستثنى من قوله عز شأنه
{وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} إلا لمن ذكر والطفل في اللغة الصبي ما بين أن يولد إلى أن يحتلم وأما
الذي يعرف التمييز بين العورة وغيرها وقرب من
الحلم فلا ينبغي لها أن تبدي زينتها له ألا
ترى أن مثل هذا الصبي أمر بالاستئذان في بعض
الأوقات بقوله تبارك وتعالى
{وَالَّذِينَ
لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ
مَرَّاتٍ} إلا إذا لم يكونا من أهل الشهوة بأن كانا شيخين كبيرين لعدم احتمال
حدوث الشهوة فيهما وروي
"أن أعميين دخلا على سيدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم وعنده بعض أزواجه سيدتنا عائشة
وأخرى فقال لهما قوما فقالتا إنهما أعميان يا
رسول الله فقال أعمياوان أنتما" هذا حكم النظر إلى الوجه والكفين وأما حكم مس هذين العضوين فلا يحل
مسهما لأن حل النظر للضرورة التي ذكرناها ولا
ضرورة إلى المس مع ما أن المس في بعث الشهوة
وتحريكها فوق النظر وإباحة أدنى الفعلين لا
يدل على إباحة أعلاهما هذا إذا كان شابين فإن
كانا شيخين كبيرين فلا بأس بالمصافحة لخروج
المصافحة منهما من أن تكون مورثة للشهوة
لانعدام الشهوة وقد روي
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصافح العجائز" ثم إنما يحرم النظر من الأجنبية إلى سائر أعضائها سوى الوجه والكفين
أو القدمين أيضا على اختلاف الروايتين إذا
كانت مكشوفة فأما إذا كانت مستورة بالثوب فإن
كان ثوبها صفيقا لا يلتزق ببدنها فلا بأس أن
يتأملها ويتأمل جسدها لأن المنظور إليه الثوب
دون البدن وإن كان ثوبها رقيقا يصف ما تحته
ويشف أو كان صفيقا لكنه يلتزق ببدنها حتى
يستبين له جسدها فلا يحل له النظر لأنه إذا
استبان جسدها كانت كاسية صورة عارية حقيقة وقد
قال النبي صلى الله عليه وسلم
"لعن الله الكاسيات العاريات" وروي عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت دخلت علي أختي السيدة
أسماء وعليها ثياب شامية رقاق وهي اليوم عندكم
صفاق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
"هذه ثياب
تمجها سورة النور فأمر بها فأخرجت فقلت يا
رسول الله زارتني أختي فقلت لها ما قلت فقال
يا عائشة إن المرأة إذا حاضت لا ينبغي أن يرى
منها إلا وجهها وكفاها" فإن ثبت هذا من النبي عليه الصلاة والسلام كان تفسيرا لقوله عز وجل
{إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} فدل على صحة ظاهر الرواية أن الحرة لا يحل النظر منها إلا إلى وجهها
وكفيها والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما"
النوع السابع وهو ذوات الرحم بلا محرم فحكمهن
حكم الأجنبيات الحرائر لعموم الأمر بغض البصر
والنهي عن إبداء زينتهن إلا للمذكورين في محل
الاستثناء وذو الرحم بلا محرم غير مذكور في
المستثنى فبقيت منهية عن إبداء الزينة له
والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما" الثاني وهو
ما يحل من ذلك ويحرم للرجل من الرجل فنقول
وبالله التوفيق يحل للرجل أن ينظر من الرجل
الأجنبي إلى سائر جسده إلا ما بين السرة
والركبة إلا عند الضرورة فلا بأس أن ينظر
الرجل من الرجل إلى موضع الختان ليختنه
ويداويه بعد الختن وكذا إذا كان بموضع العورة
من الرجل قرح أو جرح أو وقعت الحاجة إلى
مداواة الرجل ولا ينظر إلى الركبة ولا بأس
بالنظر إلى السرة فالركبة عورة والسرة ليست
بعورة عندنا وعند الشافعي على العكس من ذلك
والصحيح قولنا لما روي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال"
"ما تحت
السرة عورة" والركبة ما
تحتها فكانت عورة إلا أن ما تحت الركبة صار
مخصوصا فبقيت الركبة تحت العموم ولأن الركبة
عضو مركب من عظم الساق والفخذ على وجه يتعذر
تمييزه والفخذ من العورة والساق ليس من العورة
فعند الاشتباه يجب العمل بالاحتياط وذلك فيما
قلنا بخلاف السرة لأنه اسم لموضع
ج / 5 ص -124-
معلوم لا
اشتباه فيه وقد روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه
أنه كان إذا اتزر أبدى سرته ولو كانت عورة لما
احتمل منه كشفها هذا حكم النظر. "وأما" حكم
المس فلا خلاف في أن المصافحة حلال لقوله عليه
الصلاة والسلام
"تصافحوا تحابوا" وروي عنه
عليه الصلاة والسلام أنه قال:
"إذا لقي
المؤمن أخاه فصافحه تناثرت ذنوبه" ولأن
الناس يتصافحون في سائر الأعصار في العهود
والمواثيق فكانت سنة متوارثة واختلف في القبلة
والمعانقة قال أبو حنيفة رضي الله عنه ومحمد
رحمه الله يكره للرجل أن يقبل فم الرجل أو يده
أو شيئا منه أو يعانقه وروي عن أبي يوسف رحمه
الله أنه لا بأس به "ووجهه" ما روي أنه
"لما قدم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه من
الحبشة عانقه سيدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقبل بين عينيه"
وأدنى درجات فعل النبي الحل وكذا روى أصحاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا رجعوا
من أسفارهم كان يقبل بعضهم بعضا ويعانق بعضهم
بعضا واحتجا بما روي أنه سئل رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقيل
"أيقبل بعضنا بعضا فقال لا فقيل أيعانق بعضنا
بعضا فقال عليه الصلاة والسلام لا فقيل أيصافح
بعضنا بعضا فقال عليه الصلاة والسلام نعم" وذكر الشيخ أبو منصور رحمه الله أن المعانقة إنما تكره إذا كانت
شبيهة بما وضعت للشهوة في حالة التجرد فأما
إذا قصد بها المبرة والإكرام فلا تكره وكذا
التقبيل الموضوع لقضاء الوطر والشهوة هو
المحرم فإذا زال عن تلك الحالة أبيح وعلى هذا
الوجه الذي ذكره الشيخ يحمل الحديث الذي احتج
به أبو يوسف رحمه الله والله أعلم بالصواب.
"وأما" الثالث وهو بيان ما يحل من ذلك وما
يحرم للمرأة من المرأة فكل ما يحل للرجل أن
ينظر إليه من الرجل يحل للمرأة أن تنظر إليه
من المرأة وكل ما لا يحل له، لا يحل لها،
فتنظر المرأة من المرأة إلى سائر جسدها إلا ما
بين السرة والركبة لأنه ليس في نظر المرأة إلى
المرأة خوف الشهوة والوقوع في الفتنة كما ليس
ذلك في نظر الرجل إلى الرجل حتى لو خافت ذلك
تجتنب عن النظر كما في الرجل ولا يجوز لها أن
تنظر ما بين سرتها إلى الركبة إلا عند الضرورة
بأن كانت قابلة فلا بأس لها أن تنظر إلى الفرج
عند الولادة. وكذا لا بأس أن تنظر إليه لمعرفة
البكارة في امرأة العنين والجارية المشتراة
على شرط البكارة إذا اختصما وكذا إذا كان بها
جرح أو قرح في موضع لا يحل للرجال النظر إليه
فلا بأس أن تداويها إذا علمت المداواة فإن لم
تعلم تتعلم ثم تداويها فإن لم توجد امرأة تعلم
المداواة ولا امرأة تتعلم وخيف عليها الهلاك
أو بلاء أو وجع لا تحتمله يداويها الرجل لكن
لا يكشف منها إلا موضع الجرح ويغض بصره ما
استطاع لأن الحرمات الشرعية جاز أن يسقط
اعتبارها شرعا لمكان الضرورة كحرمة الميتة
وشرب الخمر حالة المخمصة والإكراه لكن الثابت
بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة لأن علة ثبوتها
الضرورة والحكم لا يزيد على قدر العلة هذا
الذي ذكرنا حكم النظر والمس. "وأما" حكم
الدخول في بيت الغير فالداخل لا يخلو إما أن
يكون أجنبيا أو من محارمه فإن كان أجنبيا فلا
يحل له الدخول فيه من غير استئذان لقوله تبارك
وتعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ
بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا
وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} قيل تستأنسوا أي تستأذنوا وقيل تستعلموا وهما متقاربان لأن الاستئذان
طلب الإذن والاستعلام طلب العلم والإذن إعلام
وسواء كان السكن في البيت أو لم يكن لقوله
تعالى
{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا
تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ}. وهذا يدل على أن الاستئذان ليس للسكان أنفسهم خاصة بل لأنفسهم
ولأموالهم لأن الإنسان كما يتخذ البيت سترا
لنفسه يتخذه سترا لأمواله وكما يكره اطلاع
الغير على نفسه يكره اطلاعه على أمواله وفي
بعض الأخبار أن "من دخل بيتا بغير إذن قال له
الملك الموكل به عصيت وآذيت فيسمع صوته الخلق
كلهم إلا الثقلين فيصعد صوته إلى السماء
الدنيا فتقول ملائكة السماء أف لفلان عصى ربه
وأذى. وإذا استأذن فأذن له حل له الدخول يدخل
ثم يسلم ولا يقدم التسليم على الدخول كما قال
بعض الناس لقوله سبحانه وتعالى
{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ
تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً
طَيِّبَةً} ولأنه لو سلم قبل الدخول فإذا دخل يحتاج إلى التسليم ثانيا وإن لم
يؤذن له بالدخول وقيل له ارجع فليرجع ويكره له
أن يقعد على الباب لقوله عز وجل
{وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} وفي بعض الأخبار
"الاستئذان ثلاث مرات من لم يؤذن له فيهن
فليرجع أما الأول فيسمع الحي وأما الثاني
فيأخذوا حذرهم وأما
ج / 5 ص -125-
الثالث
فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردوا" فإذا استأذن
ثلاث مرات ولم يؤذن له ينبغي أن يرجع ولا يقعد
على الباب لينتظر لأن للناس حاجات وأشغالا في
المنازل فلو قعد على الباب وانتظر لضاق ذرعهم
وشغل قلوبهم ولعل لا تلتئم حاجاتهم فكان
الرجوع خيرا له من القعود وذلك قوله تعالى
{هُوَ أَزْكَى
لَكُمْ} هذا إذا كان الدخول للزيارة ونحوها فأما إذا كان الدخول لتغيير
المنكر بأن سمع في دار صوت المزامير والمعازف
فليدخل عليهم بغير إذنهم لأن تغيير المنكر فرض
فلو شرط الإذن لتعذر التغيير والله سبحانه
وتعالى أعلم. وإن كان من محارمه فلا يدخل بغير
استئذان أيضا، وإن كان يجوز له النظر إلى
مواضع الزينة الظاهرة والباطنة لعموم النص
الذي تلونا ولو دخل عليها من غير استئذان
فربما كانت مكشوفة العورة فيقع بصره عليها
فيكرهان ذلك وهكذا روي "أن رجلا سأل النبي عليه الصلاة والسلام وقال أنا أخدم أمي وأفرشها
ألا أستأذن عليها؟ فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم نعم فسأله ثلاثا فقال عليه الصلاة
والسلام يسرك أن تراها عريانة؟ فقال لا قال
استأذن عليها" وكذا روي عن حذيفة رضي الله عنه أن رجلا سأله فقال أستأذن على أختي؟
فقال رضي الله عنه إن لم تستأذن رأيت ما يسوءك
إلا أن الأمر في الاستئذان على المحارم أيسر
وأسهل لأن المحرم مطلق النظر إلى موضع الزينة
منها شرعا هذا الذي ذكرنا حكم الأحرار
البالغين. "وأما" حكم المماليك والصبيان أما
المملوك فيدخل في بيت سيده من غير استئذان إلا
في ثلاثة أوقات ؛ قبل صلاة الفجر وعند الظهر
وبعد صلاة العشاء الآخرة لقوله تبارك وتعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ
يَبْلُغُوا الْحُلُمَ} إلى قوله تعالى
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ
بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ
بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ}
ولأن هذه أوقات التجرد وظهور العورة في العادة
"أما" قبل صلاة الفجر فوقت الخروج من ثياب
النوم ووقت الظهيرة وقت وضع الثياب للقيلولة
وأما بعد صلاة العشاء فوقت وضع ثياب النهار
للنوم ولا كذلك بعد هذه الأوقات الثلاث لأن
العورات بعدها تكون مستورة عادة. والعبد
والأمة في ذلك سواء وسواء كان المملوك صغيرا
أو كبيرا بعد أن كان يعرف العورة من غير
العورة لأن هذه أوقات غرة وساعات غفلة فربما
يكون على حالة يكره أن يراه أحد عليها وهذا
المعنى يستوي فيه الذكر والأنثى والكبير
والصغير بعد أن يكون من أهل التمييز ويكون
الخطاب في الصغار للسادات بالتعليم والتأديب
كما في الآباء مع الأبناء الصغار "وأما"
الصبيان فإن كان الصغير ممن لا يميز بين
العورة وغيرها فيدخل في الأوقات كلها وإن كان
من أهل التمييز بأن قرب من البلوغ يمنعه الأب
من الدخول في الأوقات الثلاثة تأديبا وتعليما
لأمور الدين كالأمر بالصلاة إذا بلغ سبعا
وضربه عليها إذا بلغ عشرا والتفريق بينهم في
المضاجع والله عز وجل أعلم هذا إذا كان البيت
مسكونا بأن كان له ساكن وأما إذا لم يكن
كالخانات والرباطات التي تكون للمارة والخربات
التي تقضى فيها حاجة البول والغائط فلا بأس أن
يدخله من غير استئذان لقوله سبحانه وتعالى
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ
مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} أي منفعة لكم وهي منفعة دفع الحر والبرد في الخانات والرباطات ومنفعة
قضاء الحاجة من البول والغائط في الخربات
والله سبحانه وتعالى أعلم. وروي في الخبر أنه
"لما نزلت آية الاستئذان قال سيدنا أبو بكر
رضي الله عنه يا رسول الله فكيف بالبيوت التي
بين مكة والمدينة وبين المدينة والشام ليس
فيها ساكن؟ فأنزل الله تعالى عز وجل قوله
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا
بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ
لَكُمْ} والله
عز وجل الموفق هذا الذي ذكرنا حكم الدخول.
"وأما" حكم ما بعد الدخول وهو الخلوة فإن كان
في البيت امرأة أجنبية أو ذات رحم محرم لا يحل
للرجل أن يخلو بها لأن فيه خوف الفتنة والوقوع
في الحرام وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال:
"لا يخلون رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان" وإن كانت المرأة ذات رحم محرم منه فلا بأس بالخلوة والأفضل أن لا
يفعل لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله
عنهما أنه قال ما خلوت بامرأة قط مخافة أن
أدخل في نهي النبي عليه الصلاة والسلام. ويكره
للمرأة أن تصل شعر غيرها من بني آدم بشعرها
لقوله عليه الصلاة والسلام
"لعن الله الواصلة والمستوصلة" ولأن الآدمي بجميع أجزائه مكرم والانتفاع بالجزء المنفصل منه إهانة
له ولهذا كره بيعه ولا بأس بذلك من شعر
البهيمة وصوفها لأنه
ج / 5 ص -126-
انتفاع
بطريق التزين بما يحتمل ذلك ولهذا احتمل
الاستعمال في سائر وجوه الانتفاع فكذا في
التزين. ولا بأس للرجل أن يعزل عن أمته بغير
إذنها "وأما" المنكوحة فإن كانت حرة يكره له
العزل من غير إذنها بالإجماع لأن لها في الولد
حقا وفي العزل فوت الولد ولا يجوز تفويت حق
الإنسان من غير رضاه فإذا رضيت جاز وإن كانت
أمة فلا بد من الإذن أيضا بلا خلاف لكن الكلام
في أن الإذن بذلك إلى المولى أم إليها قال أبو
حنيفة رحمه الله الإذن فيها إلى مولاها وقال
أبو يوسف ومحمد رحمهما الله إليها "وجه"
قولهما أن لها حقا في قضاء الشهوة والعزل يوجب
نقصانا فيه ولا يجوز إبطال حق الإنسان من غير
رضاه "وجه" قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن
الكراهة في الحرة لمكان خوف فوت الولد الذي
لها فيه حق والحق ههنا في الولد للمولى لا
للأمة وقولهما فيه نقصان قضاء الشهوة فنعم لكن
حقها في أصل قضاء الشهوة لا في وصف الكمال ألا
ترى أن من الرجال من لا ماء له وهو يجامع
امرأته من غير إنزال ولا يكون لها حق الخصومة
دل أن حقها في أصل قضاء الشهوة لا في وصف
الكمال والله سبحانه وتعالى أعلم. ويكره للرجل
أن يقول في دعائه أسألك بحق أنبيائك ورسلك
وبحق فلان لأنه لا حق لأحد على الله سبحانه
وتعالى جل شأنه وكذا يكره أن يقول في دعائه
أسألك بمعقد العز من عرشك وروي عن أبي يوسف
أنه لا بأس بذلك لورود الحديث وهو ما روي "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في دعائه اللهم إني
أسألك بمعقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من
كتابك وباسمك الأعظم وجدك الأعلى وكلماتك
التامة" "وجه"
ظاهر الرواية أن ظاهر هذا اللفظ يوهم التشبيه
لأن العرش خلق من خلائق الله تبارك وتعالى جل
وعلا فاستحال أن يكون عز الله تبارك وتعالى
معقودا به وظاهر الخبر الذي هو في حد الآحاد
إذا كان موهما للتشبيه فالكف عن العمل به
أسلم. ويكره حمل الخرقة لمسح العرق والامتخاط
ترفعا بها وتكبرا لأن التكبر من المخلوق مذموم
وكذا هو تشبيه بزي العجم وقال سيدنا عمر رضي
الله عنه إياكم وزي العجم فأما الحاجة فلا بأس
به لأنه لو لم يحمل لاحتاج إلى الأخذ بالكم
والذيل وفيه إفساد ثوبه. ولا بأس بربط الخيط
في الأصبع أو الخاتم للحاجة لأن فيه استعانة
على قضاء حاجة المسلم بالتذكير ودفع النسيان
وأنه أمر مندوب إليه وروي أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أمر بعض الصحابة بذلك. ويكره
استقبال القبلة بالفرج في الخلاء لما روي عن
النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:
"إذا أتيتم الغائط فعظموا قبلة الله تبارك
وتعالى فلا تستقبلوها ولا تستدبروها ولكن
شرقوا أو غربوا" وهذا
بالمدينة. "وأما" الاستدبار فعن أبي حنيفة رضي
الله عنه فيه روايتان في رواية يكره وفي رواية
لا يكره لما روى عبد الله ابن سيدنا عمر رضي
الله تعالى عنهما أنه
"رأى النبي عليه الصلاة والسلام مستقبل الشام مستدبر القبلة" ولأن فرجه لا
يوازي القبلة حالة الاستدبار وإنما يوازي
الأرض بخلاف حالة الاستقبال هذا إذا كان في
الفضاء فإن كان في البيوت فكذلك عندنا وعند
الشافعي عليه الرحمة لا بأس بالاستقبال في
البيوت واحتج بما روى عبد الله ابن سيدنا عمر
رضي الله تعالى عنهما سئل عن ذلك فقال إنما
ذلك في الفضاء "ولنا" ما روينا من حديث رسول
الله صلى الله عليه وسلم مطلقا من غير فصل بين
الفضاء والبيوت والعمل بقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم أولى من العمل بقول الصحابي
ولأن الفارق بين الفضاء وبين البيوت إن كان
وجود الحائل من الجدار ونحوه فقد وجد الحائل
في الفضاء وهو الجبال وغيرها ولم يمنع الكراهة
فكذا هذا. ويكره أن تكون قبلة المسجد إلى
متوضأ أو مخرج أو حمام لأن فيه ترك تعظيم
المسجد وأما مسجد البيت وهو الموضع الذي عينه
صاحب البيت للصلاة فلا بأس بذلك لأنه ليس
بمسجد حقيقة فلا يكون له حكم المسجد. وتكره
التصاوير في البيوت لما روي عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن سيدنا جبريل عليه الصلاة
والسلام أنه قال:
"لا ندخل بيتا فيه كلب أو صورة" ولأن إمساكها تشبه بعبدة الأوثان إلا إذا كانت على البسط أو الوسائد
الصغار التي تلقى على الأرض ليجلس عليها فلا
تكره لأن دوسها بالأرجل إهانة لها فإمساكها في
موضع الإهانة لا يكون تشبها بعبدة الأصنام إلا
أن يسجد عليها فيكره لحصول معنى التشبه ويكره
على الستور وعلى الأزر المضروبة على الحائط
وعلى الوسائد الكبار وعلى السقف لما فيه من
تعظيمها
ج / 5 ص -127-
ولو لم
يكن لها رأس فلا بأس لأنها لا تكون صورة بل
تكون نقشا فإن قطع رأسه بأن خاط على عنقه خيطا
فذاك ليس بشيء لأنها لم تخرج عن كونها صورة بل
ازدادت حلية كالطوق لذوات الأطواق من الطيور
ثم المكروه صورة ذي الروح فأما صورة ما لا روح
له من الأشجار والقناديل ونحوها فلا بأس به.
ويكره التعشير والنقط في المصحف لقول عبد الله
بن مسعود رضي الله عنهما جردوا مصاحفكم وذلك
في ترك التعشير والنقط ولأن ذلك يؤدي إلى
الخلل في تحفظ القرآن لأنه يتكل عليه فلا
يجتهد في التحفظ بل يتكاسل لكن قيل هذا في
بلادهم فأما في بلاد العجم فلا يكره لأن العجم
لا يقدرون على تعلم القرآن بدونه ولهذا جرى
التعارف به في عامة البلاد من غير نكير فكان
مسنونا لا مكروها. ولا بأس بنقش المسجد بالجص
والساج وماء الذهب لأن تزيين المسجد من باب
تعظيمه لكن مع هذا تركه أفضل لأن صرف المال
إلى الفقراء أولى وإليه أشار عمر بن عبد
العزيز رضي الله عنهما حين رأى مالا ينقل إلى
المسجد الحرام فقال المساكين أحوج من الأساطين
وكان لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريد
النخل وهذا إذا نقش من مال نفسه فأما من مال
المسجد فلا ينبغي أن يفعل ولو فعل القيم من
مال المسجد قيل إنه يضمن. ولا يعق عن الغلام
والجارية عندنا وعند الشافعي رحمه الله
العقيقة سنة واحتج بما روي
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عق عن سيدنا الحسن وسيدنا الحسين رضي
الله عنهما كبشا كبشا".
"ولنا" ما روي عن سيدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال:
"نسخت الأضحية كل دم كان قبلها ونسخ صوم رمضان كل صوم كان قبله ونسخت
الزكاة كل صدقة كانت قبلها"
والعقيقة كانت قبل الأضحية فصارت منسوخة بها
كالعتيرة والعقيقة ما كانت قبلها فرضا بل كانت
فضلا وليس بعد نسخ الفضل إلا الكراهة بخلاف
صوم عاشوراء وبعض الصدقات المنسوخة حيث لا
يكره التنفل بها بعد النسخ لأن ذلك كان فرضا
وانتساخ الفرضية لا يخرجه عن كونه قربة في
نفسه والله سبحانه وتعالى أعلم. ويكره للرجل
أن يجعل الراية في عنق عبده ولا بأس بأن يقيده
أما الراية وهي الغل فلأنه شيء أحدثته
الجبابرة وقد قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم
"كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في
النار" فأما التقييد فليس بمحدث بل كان يستعمله الصحابة الكرام رضي الله
تعالى عنهم روي أن عبد الله بن عباس رضي الله
عنهما قيد عبدا له يعلمه تأويل القرآن وبه جرت
العادة في سائر الأعصار من غير نكير فيكون
إجماعا ولأن ضرب الراية على العبد لإبقاء
التمكن من الانتفاع مع الأمن عن الإباق إلا أن
لا يحصل بالراية لأن كل أحد إذا رآه يمشي مع
الراية يظنه آبقا فيصرفه عن وجهه ويرده إلى
مولاه فلا يمكنه الانتفاع به فلم يكن ضرب
الراية عليه مفيدا. ولا بأس بالحقنة لأنها من
باب التداوي وأنه أمر مندوب إليه قال النبي
عليه الصلاة والسلام
"تداووا فإن الله تعالى لم يخلق داء إلا وقد خلق له دواء إلا السام
والهرم". ويكره
اللعب بالنرد والشطرنج والأربعة عشر وهي لعب
تستعمله اليهود لأنه قمار أو لعب وكل ذلك حرام
"أما" القمار فلقوله عز وجل
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ} وهو القمار كذا روى ابن عباس وابن سيدنا عمر رضي الله عنهم وروي عن
مجاهد وسعيد بن جبير والشعبي وغيرهم رضي الله
عنهم أنهم قالوا الميسر القمار كله حتى الجوز
الذي يلعب به الصبيان وعن سيدنا علي رضي الله
عنه أنه قال الشطرنج ميسر الأعاجم وعن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ما ألهاكم عن ذكر الله فهو ميسر" "وأما" اللعب فلقوله عليه الصلاة والسلام
"كل لعب حرام إلا ملاعبة الرجل امرأته وقوسه وفرسه" وقوله عليه الصلاة والسلام
"ما أنا من دد ولا دد مني" وحكي عن الشافعي رحمه الله أنه رخص في اللعب بالشطرنج وقال لأن فيه
تشحيذ الخاطر وتذكية الفهم والعلم بتدابير
الحرب ومكايده فكان من باب الأدب فأشبه
الرماية والفروسية وبهذا لا يخرج عن كونه
قمارا ولعبا وكل ذلك حرام لما ذكرنا وكره أبو
يوسف التسليم على اللاعبين بالشطرنج تحقيرا
لهم لزجرهم عن ذلك ولم يكرهه أبو حنيفة رضي
الله عنه لأن ذلك يشغلهم عما هم فيه فكان
التسليم بعض ما يمنعهم عن ذلك فلا يكره. ولا
بأس بعيادة اليهود والنصارى لما روي
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد يهوديا فقال له قل لا إله إلا
الله محمد رسول الله فنظر إلى أبيه
ج / 5 ص -128-
فقال له
أبوه أجب محمدا فأسلم ثم مات فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم الحمد لله الذي أنقذ بي
نسمة من النار" ولأن عيادة
الجار قضاء حق الجوار وأنه مندوب إليه قال
الله تبارك وتعالى
{وَالْجَارِ الْجُنُبِ} من غير فصل مع ما في العيادة من الدعوة إلى الإيمان رجاء الإيمان
فكيف يكون مكروها؟. ويكره الابتداء بالتسليم
على اليهودي والنصراني لأن السلام اسم لكل بر
وخير ولا يجوز مثل هذا الدعاء للكافر إلا أنه
إذا سلم لا بأس بالرد عليه مجازاة له ولكن لا
يزيد على قوله وعليك لما روي عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
"إن اليهود إذا
سلم عليكم أحدهم فإنما يقول السام عليكم
فقولوا وعليك". ولا بأس بدخول أهل الذمة المساجد عندنا وقال مالك رحمه الله
والشافعي لا يحل لهم دخول المسجد الحرام احتج
مالك رحمه الله بقوله عز وجل
{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وتنزيه المسجد عن النجس واجب يحققه أنه يجب تنزيه المسجد عن بعض
الطاهرات كالنخامة ونحوها قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم "إن المسجد
لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة من النار"
فعن النجاسة أولى واحتج الشافعي رحمه الله
بقوله جل وعلا
{فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} خص المسجد الحرام بالنهي عن قربانه فيدل على اختصاص حرمة الدخول به
ليكون التخصيص مفيدا. "ولنا" أن المشركين من
وفود العرب وغيرهم كانوا يدخلون المسجد على
رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه روي أن أبا
سفيان دخل المسجد عام الحديبية وكذا وفد ثقيف
دخلوا المسجد
"وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة من دخل المسجد فهو
آمن" جعل عليه
الصلاة والسلام المسجد مأمنا ودعاهم إلى دخوله
وما كان عليه الصلاة والسلام ليدعو إلى الحرام
"وأما" الآية الكريمة فالمراد أنهم نجس
الاعتقاد والأفعال لا نجس الأعيان إذ لا نجاسة
على أعيانهم حقيقة وقوله عز وجل
{فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} نهي عن دخول مكة للحج لا عن دخول المسجد الحرام نفسه لقوله تعالى
{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ
فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ}.
ومعلوم أن خوف العيلة إنما يتحقق بمنعهم عن
دخول مكة لا عن دخول المسجد الحرام نفسه لأنهم
إذا دخلوا مكة ولم يدخلوا المسجد الحرام لا
يتحقق خوف العيلة ولما روي
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سيدنا عليا رضي الله عنه ينادي
ألا لا يحجن بعد هذا العام مشرك" فثبت أن هذا نهي عن دخول مكة للحج إلا أنه سبحانه وتعالى ذكر المسجد
الحرام لما أن المقصد من إتيان مكة البيت
والبيت في المسجد والله سبحانه وتعالى أعلم.
ومسلم باع خمرا وأخذ ثمنها وعليه دين يكره
لصاحب الدين أن يأخذه منه ولو كان البائع
نصرانيا فلا بأس بأخذه "ووجه" الفرق أن بيع
الخمر من المسلم باطل لأنها ليست بمتقومة في
حق المسلم فلا يملك ثمنها فبقي على حكم ملك
المشتري فلا يصح قضاء الدين به وإن كان البائع
نصرانيا فالبيع صحيح لكونها مالا متقوما في
حقه فملك ثمنها فصح قضاء الدين منه والله عز
وجل أعلم. رجل دعي إلى وليمة أو طعام وهناك
لعب أو غناء جملة الكلام فيه أن هذا في الأصل
لا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون عالما أن
هناك ذاك وإما إن لم يكن عالما به فإن كان
عالما فإن كان من غالب رأيه أنه يمكنه التغيير
يجيب لأن إجابة الدعوى مسنونة قال النبي عليه
الصلاة والسلام
"إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليأتها"
وتغيير المنكر مفروض فكان في الإجابة إقامة الفرض ومراعاة السنة وإن
كان في غالب رأيه أنه لا يمكنه التغيير لا بأس
بالإجابة لما ذكرنا أن إجابة الدعوة مسنونة
ولا تترك السنة لمعصية توجد من الغير ألا ترى
أنه لا يترك تشييع الجنازة وشهود المأتم وإن
كان هناك معصية من النياحة وشق الجيوب ونحو
ذلك؟ كذا ههنا. وقيل هذا إذا كان المدعو إماما
يقتدى به بحيث يحترم ويحتشم منه فإن لم يكن
فترك الإجابة والقعود عنها أولى وإن لم يكن
عالما حتى ذهب فوجد هناك لعبا أو غناء فإن
أمكنه التغيير غير وإن لم يمكنه ذكر في الكتاب
وقال لا بأس بأن يقعد ويأكل قال أبو حنيفة رضي
الله عنه ابتليت بهذا مرة لما ذكرنا أن إجابة
الدعوة أمر مندوب إليه فلا يترك لأجل معصية
توجد من الغير هذا إذا لم يعلم به حتى دخل فإن
علمه قبل الدخول يرجع ولا يدخل وقيل هذا إذا
لم يكن إماما يقتدى به فإن كان لا يمكث بل
يخرج لأن في المكث استخفافا بالعلم والدين
وتجرئة لأهل الفسق على الفسق وهذا لا يجوز
وصبر أبي حنيفة رحمه الله محمول على وقت لم
يصر فيه مقتدى به على الإطلاق ولو صار لما صبر
ودلت المسألة على أن مجرد الغناء
ج / 5 ص -129-
معصية
وكذا الاستماع إليه وكذا ضرب القصب والاستماع
إليه ألا ترى أن أبا حنيفة رضي الله عنه سماه
ابتلاء. ويكره الاحتكار والكلام في الاحتكار
في موضعين أحدهما في تفسير الاحتكار وما يصير
به الشخص محتكرا والثاني في بيان حكم
الاحتكار. "أما" الأول فهو أن يشتري طعاما في
مصر ويمتنع عن بيعه وذلك يضر بالناس وكذلك لو
اشتراه من مكان قريب يحمل طعامه إلى المصر
وذلك المصر صغير وهذا يضر به يكون محتكرا وإن
كان مصرا كبيرا لا يضر به لا يكون محتكرا ولو
جلب إلى مصر طعاما من مكان بعيد وحبسه لا يكون
احتكارا. وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه يكون
احتكارا لأن كراهة الاحتكار بالشراء في المصر
والامتناع عن البيع لمكان الإضرار بالعامة وقد
وجد ههنا ولأبي حنيفة رضي الله عنه قول النبي
عليه الصلاة والسلام "الجالب مرزوق" وهذا جالب
ولأن حرمة الاحتكار بحبس المشترى في المصر
لتعلق حق العامة به فيصير ظالما بمنع حقهم على
ما نذكر ولم يوجد ذلك في المشتري خارج المصر
من مكان بعيد لأنه متى اشتراه ولم يتعلق به حق
أهل المصر فلا يتحقق الظلم ولكن مع هذا الأفضل
له أن لا يفعل ويبيع لأن في الحبس ضررا
بالمسلمين وكذلك ما حصل له من ضياعه بأن زرع
أرضه فأمسك طعامه فليس ذلك باحتكار لأنه لم
يتعلق به حق أهل المصر لكن الأفضل أن لا يفعل
ويبيع لما قلنا ثم الاحتكار يجري في كل ما يضر
بالعامة عند أبي يوسف رحمه الله قوتا كان أو
لا وعند محمد رحمه الله لا يجري الاحتكار إلا
في قوت الناس وعلف الدواب من الحنطة والشعير
والتبن والقت. "وجه" قول محمد رحمه الله أن
الضرر في الأعم الأغلب إنما يلحق العامة بحبس
القوت والعلف فلا يتحقق الاحتكار إلا به "وجه"
قول أبي يوسف رحمه الله إن الكراهة لمكان
الإضرار بالعامة وهذا لا يختص بالقوت والعلف
"وأما" حكم الاحتكار فنقول يتعلق بالاحتكار
أحكام "منها" الحرمة لما روي عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
"المحتكر ملعون والجالب مرزوق" ولا يلحق اللعن إلا بمباشرة المحرم وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه
قال:
"من احتكر
طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله
منه"
ومثل هذا الوعيد لا يلحق إلا بارتكاب الحرام
ولأن الاحتكار من باب الظلم لأن ما بيع في
المصر فقد تعلق به حق العامة فإذا امتنع
المشتري عن بيعه عند شدة حاجتهم إليه فقد
منعهم حقهم ومنع الحق عن المستحق ظلم وأنه
حرام وقليل مدة الحبس وكثيرها سواء في حق
الحرمة لتحقق الظلم. "ومنها" أن يؤمر المحتكر
بالبيع إزالة للظلم لكن إنما يؤمر ببيع ما فضل
عن قوته وقوت أهله فإن لم يفعل وأصر على
الاحتكار ورفع إلى الإمام مرة أخرى وهو مصر
عليه فإن الإمام يعظه ويهدده فإن لم يفعل ورفع
إليه مرة ثالثة يحبسه ويعزره زجرا له عن سوء
صنعه ولا يجبر على البيع وقال محمد يجبر عليه
وهذا يرجع إلى مسألة الحجر على الحر لأن الجبر
على البيع في معنى الحجر وكذا لا يسعر لقوله
عز وجل
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
وقوله عليه الصلاة والسلام
"لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه" وروي "أن السعر علا في المدينة وطلبوا التسعير من رسول الله صلى الله
عليه وسلم فلم يسعر وقال إن الله تبارك وتعالى
هو المسعر القابض الباسط". "ومنها" أنه إذا
خاف الإمام الهلاك على أهل المصر أخذ الطعام
من المحتكرين وفرقه عليهم فإذا وجدوا ردوا
عليهم مثله لأنهم اضطروا إليه ومن اضطر إلى
مال الغير في مخمصة كان له أن يتناوله بالضمان
لقوله تعالى
{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
وكذا يكره تلقي الركبان إذا كان يضر بأهل
المصر لما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام
نهى عن تلقي الركبان ولأن فيه إضرارا بالعامة
فيكره كما يكره الاحتكار. ويكره خرق الزق الذي
فيه خمر لمسلم عند أبي حنيفة رحمه الله ولو
خرق يضمن وعند أبي يوسف ومحمد لا يكره ولا
يضمن وعلى هذا الخلاف كسر آلات الملاهي من
البربط والعود والزمارة ونحوها والمسألة تعرف
في كتاب البيوع رجل ابتلع درة رجل فمات
المبتلع فإن ترك مالا كانت قيمة الدرة في
تركته وإن لم يترك مالا لا يشق بطنه لأن الشق
حرام وحرمة النفس أعظم من حرمة المال وعليه
قيمة الدرة لأنه استهلكها وهي ليست من ذوات
الأمثال فكانت مضمونة بالقيمة فإن ظهر له مال
في الدنيا قضى منه وإلا فهو
ج / 5 ص -130-
مأخوذ به
في الآخرة. حامل ماتت فاضطرب في بطنها ولد فإن
كان في أكبر الرأي أنه حي يشق بطنها لأنا
ابتلينا ببليتين فنختار أهونهما وشق بطن الأم
الميتة أهون من إهلاك الولد الحي. رجل له ورثة
صغار فأراد أن يوصي نظر في ذلك فإن كان أكبر
رأيه أنه تقع الكفاية لهم بما سوى ثلث الوصية
من المتروك فالوصية بالثلث أفضل لأن فيه رعاية
الجانبين وإن كان أكبر رأيه أنه لا تقع
الكفاية لهم إلا بكل المتروك فالمتروك لهم
أفضل من الوصية لما روي "أن سعد بن أبي وقاص
رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال بكم يوصي الرجل من ماله؟ فقال عليه
الصلاة والسلام بالثلث والثلث كثير لأن تدع
ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالة يتكففون
الناسط. رجل رأى رجلا قتل أباه وادعى القاتل
أنه قتله بقصاص أو ردة ولم يعلم الابن من ذلك
شيئا وسع الابن أن يقتله لأنه عاين السبب
الموجب للقصاص في الأصل وهو القتل العمد لقوله
عليه الصلاة والسلام "العمد قود إلا أن يعفى
أو يفادى" والقاتل يدعي أمرا عارضا فلا يسمع
إلا بحجة وكذلك إذا أقر بالقتل في السر ثم
ادعى أنه قتله بقصاص أو بردة كان الابن في سعة
من قتله لأن الإقرار بالقتل العمد إقرار
بالسبب الموجب للقصاص في الأصل على ما بينا
ولو لم يعاين القتل ولا أقر به عنده ولكن شهد
عنده شاهدان عدلان على معاينة القتل أو على
الإقرار به لم يسعه قتله حتى يقضي القاضي
بشهادتهما فرقا بين الإقرار وبين الشهادة.
ووجه الفرق بينهما ظاهر لأن الشهادة ليست بحجة
بنفسها بل بقضاء القاضي لما فيها من تهمة جر
النفع فلا تندفع التهمة إلا بقضاء القاضي
"فأما" الإقرار فحجة بنفسه إذ الإنسان غير
متهم في الإقرار على نفسه فهو الفرق وكذلك يحل
لمن عاين القتل أو سمع إقراره به أن يعين
الولي على قتله لأنه إعانة لصاحب الحق على
استيفاء حقه ظاهرا ولو شهد عند الابن اثنان
بما يدعيه القاتل مما يحل دمه من القتل والردة
فإن كانا ممن يقضي القاضي بشهادتهما لو شهدا
عنده لا ينبغي للابن أن يعجل بالقتل لجواز أن
يتصل القضاء بشهادتهما فيتبين أنه قتله بغير
حق والامتناع عن المباح أولى من ارتكاب
المحظور. وإن كانا ممن لا يقضي القاضي
بشهادتهما لو شهدا عنده كالمحدودين في القذف
والنساء وحدهن كان في سعة من قتله لما ذكرنا
أن الشهادة ليست بحجة بنفسها بل بقضاء القاضي
فإن كانت ممن لا يتصل بها القضاء كان وجودها
وعدمها بمنزلة واحدة ولكن مع هذا إن توقف في
ذلك فهو أفضل لاحتمال اتصال القضاء به في
الجملة أو لاحتمال أن يكون صدقا حقيقة عند
الله عز وجل ولو شهد عنده رجل واحد عدل غير
محدود في القذف ينبغي أن يتوقف في القتل لجواز
أن ينضم إليه شاهد آخر ولهذا لو شهد عند
القاضي لتوقف أيضا فكان الانتظار أفضل ولو لم
ينتظر واستعجل في قتله كان في سعة منه لأن
الموجود أحد شطري الشهادة وأنه لا يعتبر بدون
الشطر الآخر. ولو عاين الوارث رجلا أخذ مالا
من أبيه أو أقر عنده أنه أخذ مالا من أبيه
وادعى أنه كان وديعة له عند أبيه أو كان دينا
له عليه اقتضاه منه وسعه أن يأخذه منه لأنه
لما عاين أخذ المال منه فقد عاين السبب الموجب
للضمان في الأصل وهو الأخذ لأن الأخذ في الأصل
سبب لوجوب ضمان المأخوذ وهو رد عينه إن كان
قائما ورد بدله إن كان هالكا لقوله عليه
الصلاة والسلام
"على اليد ما أخذت حتى ترده" ودعوى الإيداع والدين أمر عارض فلا يسمع إلا بحجة وله أن يأخذ منه
ولو امتنع عن الدفع يقاتله عليه لقوله عليه
الصلاة والسلام "قاتل دون مالكط وكذا إذا أقر
بذلك لأنه أقر بالسبب الموجب للضمان على ما
بينا فله أن يأخذ منه وكذلك يسع لمن عاين ذلك
أو سمع إقراره أن يعينه على الأخذ منه لكونه
إعانة على استيفاء الحق ظاهرا ولو لم يعاين
ذلك ولا أقر به عنده ولكن شهد شاهدان عدلان
عنده أن هذا الشيء الذي في يد فلان ملك ورثته
عن أبيك لا يسعه أخذه منه حتى يقضي القاضي
بخلاف الإقرار وقد مر الفرق بينهما في فصل
القتل والله عز وجل أعلم. "وأما".الذي ثبت
حرمته في حق الرجال دون النساء فثلاثة أنواع
منها لبس الحرير المصمت من الديباج والقز لما
روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج
وبإحدى يديه حرير وبالأخرى ذهب فقال هذان
حرامان على ذكور أمتي حل لإناثها" وروي
"أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أعطى سيدنا عمر رضي
الله تعالى عنه حلة فقال يا رسول الله كسوتني
حلة
ج / 5 ص -131-
وقد قلت
في حلة عطارد إنما يلبسه من لا خلاق له في
الآخرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني
لم أكسكها لتلبسها وفي رواية إنما أعطيتك
لتكسو بعض نسائك" فإن قيل أليس روي
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وعليه
قباء من ديباج؟" قيل نعم ثم نسخ لما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال:
"لبس رسول الله صلى الله عليه وسلم جبة حريرا أهداها له أكيدر دومة
وذلك قبل أن ينهي عنه"
كذا قال أنس وهذا في غير حال الحرب. "وأما" في
حال الحرب فكذلك عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف
ومحمد لا يكره لبس الحرير في حال الحرب وجه
قولهما أن في لبس الحرير في حال الحرب ضرورة
لأنه يحتاج إلى دفع ضرر السلاح عنه والحرير
أدفع له وأهيب للعدو وأيضا فرخص للضرورة ولأبي
حنيفة رضي الله عنه إطلاق التحريم الذي روينا
من غير فصل بين حال الحرب وغيرها. وما ذكراه
من الضرورة يندفع بلبس ما لحمته حرير وسداه
غير حرير لأن دفع ضرر السلاح وتهيب العدو يحصل
به فلا ضرورة إلى لبس الحرير الخالص فلا تسقط
الحرمة من غير ضرورة ولا فرق بين الكبير
والصغير في الحرمة بعد أن كان ذكرا لأن النبي
عليه الصلاة والسلام أدار هذا الحكم على
الذكورة بقوله عليه الصلاة والسلام
"هذان حرامان
على ذكور أمتي" إلا أن
اللابس إذا كان صغيرا فالإثم على من ألبسه لا
عليه لأنه ليس من أهل التحريم عليه كما إذا
سقي خمرا فشربها كان الإثم على الساقي لا عليه
كذا ههنا هذا إذا كان كله حريرا وهو المصمت
فإن كانت لحمته حريرا وسداه غير حرير لا يكره
لبسه في حال الحرب بالإجماع لما ذكرنا من
ضرورة دفع مضرة السلاح وتهيب العدو فأما في
غير حال الحرب فمكروه لانعدام الضرورة وإن كان
سداه حريرا ولحمته غير حرير لا يكره في حال
الحرب وغيرها وههنا نكتتان إحداهما أن الثوب
يصير ثوبا للحمة لأنه إنما يصير ثوبا بالنسج.
والنسج تركيب اللحمة بالسدى فكانت اللحمة
كالوصف الأخير فيضاف الحكم إليه وهذه النكتة
تقتضي إباحة لبس الثياب العتابي والنكتة
الثانية وهي نكتة الشيخ أبي منصور أن السدى
إذا كان حريرا واللحمة غير حرير يصير السدى
مستورا باللحمة فأشبه الحشو وهذه النكتة تقتضي
أن لا يباح لبس العتابي لأن سداه ظاهر غير
مستور والصحيح هو النكتة الأولى لأن رواية
الإباحة في لبس مطلق ثوب سداه حرير ولحمته غير
حرير منصوصة فتجري على إطلاقها فلا تناسبها
إلا النكتة الأولى ولو جعل حشو القباء حريرا
أو قزا لا يكره لأنه مستور بالظهارة فلم يحصل
معنى التزين والتنعم ألا يرى أن لابس هذا
الثوب لا يسمى لابس الحرير والقز ولو جعل
الحرير بطانة يكره لأنه لابس الحرير حقيقة
وكذا معنى التنعم حاصل للتزين بالحرير
ولطفه.هذا إذا كان الحرير كثيرا فإن كان قليلا
كأعلام الثياب والعمائم قدر أربعة أصابع فما
دونها لا يكره وكذا العلم المنسوج بالذهب لأنه
تابع والعبرة للمتبوع ألا ترى أن لابسه لا
يسمى لابس الحرير والذهب وكذا جرت العادة
بتعمم العمائم ولبس الثياب المعلمة بهذا القدر
في سائر الأعصار من غير نكير فيكون إجماعا
وكذا الثوب والقلنسوة الذي جعل على أطرافها
حرير لا يكره إذا كان قدر أربعة أصابع فما
دونها لما قلنا. وروي
"أن النبي عليه الصلاة والسلام لبس فروة وعلى أطرافها حرير" وعن محمد أنه لا يسع ذلك في القلنسوة وإن كان أقل من أربعة أصابع
وإنما رخص أبو حنيفة رضي الله عنه إذا كان في
عرض الثوب وذكر في نوادر هشام عن محمد رحمه
الله أنه يكره تكة الديباج والإبريسم لأنه
استعمال الحرير مقصودا لا بطريق التبعية فيكره
وإن قل بخلاف العلم ونحوه هذا الذي ذكرنا حكم
لبس الحرير. "فأما" حكم التوسد به والجلوس
والنوم عليه فغير مكروه عند أبي حنيفة عليه
الرحمة وعند أبي يوسف ومحمد مكروه "لهما"
إطلاق التحريم الذي روينا من غير فصل بين
اللبس وغيره ولأن معنى التزين والتنعم كما
يحصل باللبس يحصل بالتوسد والجلوس والنوم
ولأبي حنيفة ما روي أنه كان على بساط عبد الله
بن عباس رضي الله عنهما مرفقة من حرير وروي أن
أنسا رضي الله عنه حضر وليمة فجلس على وسادة
حرير عليها طيور فدل فعله رضي الله عنه على
رخصة الجلوس على الحرير وعلى الوسادة الصغيرة
التي عليها صورة وبه تبين أن المراد من
التحريم في الحديث تحريم اللبس فيكون فعل
الصحابي مبينا لقول النبي عليه الصلاة والسلام
لا مخالفا له والقياس باللبس غير
ج / 5 ص -132-
سديد لأن
التزين بهذه الجهات دون التزين باللبس لأنه
استعمال فيه إهانة المستعمل بخلاف اللبس فيبطل
الاستدلال به. "وأما" المرأة فيحل لها لبس
الحرير المصمت والديباج والقز لأن النبي عليه
الصلاة والسلام أحل هذا للإناث بقوله عليه
الصلاة والسلام
"حل لإناثها".
"ومنها" الذهب لأن النبي عليه الصلاة والسلام
جمع بين الذهب وبين الحرير في التحريم على
الذكور بقوله عليه الصلاة والسلام "هذان حرامان على ذكور أمتي" فيكره للرجل التزين بالذهب كالتختم ونحوه ولا يكره للمرأة لقوله عليه
الصلاة والسلام
"حل
لإناثها" وروي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه
"أنه قال اتخذت خاتما من ذهب فدخلت على سيدنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال مالك اتخذت حلي أهل الجنة قبل أن
تدخلها؟ فرميت ذلك واتخذت خاتما من حديد فدخلت
عليه فقال مالك اتخذت حلي أهل النار؟ فاتخذت
خاتما من نحاس فدخلت عليه فقال إني أجد منك
ريح الأصنام فقلت كيف أصنع يا رسول الله؟ فقال
عليه الصلاة والسلام اتخذه من الورق ولا تزد
على المثقال". والأصل أن استعمال الذهب فيما يرجع إلى التزين مكروه في حق الرجل دون
المرأة لما قلنا واستعماله فيما ترجع منفعته
إلى البدن مكروه في حق الرجل والمرأة جميعا
حتى يكره الأكل والشرب والأدهان والتطيب من
مجامر الذهب للرجل والمرأة لقول النبي عليه
الصلاة والسلام
"إن الذي يشرب من آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم"
ومعلوم أن الذهب أشد حرمة من الفضة ألا يرى أنه رخص عليه الصلاة
والسلام التختم بالفضة للرجال ولا رخصة في
الذهب أصلا فكان النص الوارد في الفضة واردا
في الذهب دلالة من طريق الأولى كتحريم التأفيف
مع تحريم الضرب والشتم وكذلك الاكتحال بمكحلة
الذهب أو بميل من ذهب مكروه للرجل والمرأة
جميعا لأن منفعته عائدة إلى البدن فأشبه الأكل
والشرب. "وأما" الإناء المضبب بالذهب فلا بأس
بالأكل والشرب فيه عند أبي حنيفة رضي الله عنه
وهو قول محمد ذكره في الموطإ وعند أبي يوسف
يكره "وجه" قول أبي يوسف أن استعمال الذهب
حرام بالنص وقد حصل باستعمال الإناء فيكره
"وجه" قولهما أن هذا القدر من الذهب الذي عليه
هو تابع له والعبرة للمتبوع دون التابع كالثوب
المعلم والجبة المكفوفة بالحرير وعلى هذا
الخلاف الجلوس على السرير المضبب والكرسي
والسرج واللجام والركاب والثفر المضببة وكذا
المصحف المضبب على هذا الخلاف وكذا حلقة
المرأة إذا كانت من الذهب ولبس ثوب فيه كتابة
بذهب على هذا الاختلاف. "وأما" السيف المضبب
والسكين فلا بأس به بالإجماع وكذلك المنطقة
المضببة لورود الآثار بالرخصة بذلك في السلاح
ولا بأس بشد الفص بمسمار الذهب لأنه تبع للفص
والعبرة للأصل دون التبع كالعلم للثوب ونحوه.
"وأما" شد السن المتحرك بالذهب فقد ذكر الكرخي
رحمه الله أنه يجوز ولم يذكر خلافا وذكر في
الجامع الصغير أنه يكره عند أبي حنيفة وعند
محمد رحمهما الله لا يكره ولو شدها بالفضة لا
يكره بالإجماع وكذا لو جدع أنفه فاتخذ أنفا من
ذهب لا يكره بالاتفاق لأن الأنف ينتن بالفضة
فلا بد من اتخاذه من ذهب فكان فيه ضرورة فسقط
اعتبار حرمته. وقد روي
"أن عرفجة أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من
ورق فأنتن فأمره سيدنا رسول الله صلى الله
عليه وسلم أن يتخذ أنفا من ذهب" وبهذا الحديث يحتج محمد على ما ذكر في الجامع لجواز تضبيب السن
بالذهب ولأنه يباح له أن يشده بالفضة فكذا
بالذهب لأنهما في حرمة الاستعمال على السواء
ولأنه تبع للسن والتبع حكمه حكم الأصل وهذا
يوافق أصل أبي حنيفة رضي الله عنه وحجة ما ذكر
أبو حنيفة رضي الله عنه في الجامع إطلاق
التحريم من غير فصل ولا يرخص مباشرة المحرم
إلا لضرورة وهي تندفع بالأدنى وهو الفضة فبقي
الذهب على أصل التحريم والاستدلال بالفضة غير
سديد لتفاوت بين الحرمتين على ما مر. ولو سقط
سنه يكره أن يأخذ سن ميت فيشدها مكان الأولى
بالإجماع وكذا يكره أن يعيد تلك السن الساقطة
مكانها عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله ولكن
يأخذ سن شاة ذكية فيشدها مكانها وقال أبو يوسف
رحمه الله لا بأس بسنه ويكره سن غيره قال ولا
يشبه سنه سن ميت استحسن ذلك وبينهما عندي فصل
ولكن لم يحضرني "ووجه" الفصل له من وجهين
أحدهما أن سن نفسه جزء منفصل للحال عنه لكنه
يحتمل أن يصير متصلا في الثاني بأن يلتئم
فيشتد
ج / 5 ص -133-
بنفسه
فيعود إلى حالته الأولى وإعادة جزء منفصل إلى
مكانه ليلتئم جائز كما إذا قطع شيء من عضوه
فأعاده إلى مكانه فأما سن غيره فلا يحتمل ذلك.
والثاني أن استعمال جزء منفصل عن غيره من بني
آدم إهانة بذلك الغير والآدمي بجميع أجزائه
مكرم ولا إهانة في استعمال جزء نفسه في
الإعادة إلى مكانه "وجه" قولهما أن السن من
الآدمي جزء منه فإذا انفصل استحق الدفن كله
والإعادة صرف له عن جهة الاستحقاق فلا تجوز
وهذا لا يوجب الفصل بين سنه وسن غيره. "ومنها"
الفضة لأن النص الوارد بتحريم الذهب على
الرجال يكون واردا بتحريم الفضة دلالة فيكره
للرجال استعمالها في جميع ما يكره استعمال
الذهب فيه إلا التختم به إذا ضرب على صيغة ما
يلبسه الرجال ولا يزيد على المثقال لما روينا
من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما وكذا
المنطقة وحلية السيف والسكين من الفضة لما مر
وما لا يكره استعمال الذهب فيه لا يكره
استعمال الفضة من طريق الأولى لأنها أخف حرمة
من الذهب وقد ذكرنا جميع ذلك على الاتفاق
والاختلاف فلا نعيده. "وأما" التختم بما سوى
الذهب والفضة من الحديد والنحاس والصفر فمكروه
للرجال والنساء جميعا لأنه زي أهل النار لما
روينا من الحديث. "وأما" الأواني المموهة بماء
الذهب والفضة الذي لا يخلص منه شيء فلا بأس
بالانتفاع بها في الأكل والشرب وغير ذلك
بالإجماع وكذا لا بأس بالانتفاع بالسرج
والركاب والسلاح والسرير والسقف المموه لأن
التمويه ليس بشيء ألا يرى أنه لا يخلص؟ والله
سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. |