بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب المضاربة"
يحتاج في هذا الكتاب إلى معرفة جواز هذا العقد, وإلى معرفة ركنه, وإلى معرفة شرائط الركن, وإلى معرفة حكمه, وإلى معرفة صفة العقد, وإلى معرفة ما يبطل به, ومعرفة حكمه إذا بطل, وإلى بيان حكم اختلاف رب المال والمضارب. "أما" الأول, فالقياس أنه لا يجوز؛ لأنه استئجار بأجر مجهول بل بأجر معدوم, ولعمل مجهول, لكنا تركنا القياس بالكتاب العزيز والسنة والإجماع. "أما" الكتاب الكريم فقوله عز شأنه {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} والمضارب يضرب في الأرض يبتغي من فضل الله عز وجل وقوله سبحانه وتعالى {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وقوله تعالى {ليْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} "وأما" السنة, فما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "كان سيدنا العباس بن عبد المطلب إذا دفع المال مضاربة, اشترط على صاحبه أن لا يسلك به بحرا ولا ينزل به واديا, ولا يشتري به دابة ذات كبد رطبة, فإن فعل ذلك ضمن فبلغ شرطه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاز شرطه" وكذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس يتعاقدون المضاربة فلم ينكر عليهم وذلك تقرير لهم على ذلك؛ والتقرير أحد وجوه السنة. "وأما" الإجماع, فإنه روي عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أنهم دفعوا مال اليتيم, مضاربة منهم سيدنا عمر وسيدنا عثمان وسيدنا علي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبيد الله بن عمر وسيدتنا عائشة رضي الله عنهم ولم ينقل أنه أنكر عليهم من أقرانهم أحد, ومثله يكون إجماعا. وروي أن عبد الله وعبيد الله ابني سيدنا عمر قدما العراق وأبو موسى الأشعري أمير بها فقال لهما: لو كان عندي فضل لأكرمتكما, ولكن عندي مال لبيت المال أدفعه إليكما, فابتاعا به متاعا واحملاه إلى المدينة وبيعاه, وادفعا ثمنه إلى أمير المؤمنين فلما قدما المدينة قال لهما سيدنا عمر رضي الله عنه: هذا مال المسلمين فاجعلا ربحه لهم فسكت عبد الله, وقال عبيد الله: ليس لك ذلك, لو هلك منا لضمنا فقال بعض الصحابة: يا أمير المؤمنين, اجعلهما كالمضاربين في المال, لهما النصف ولبيت المال النصف فرضي به سيدنا عمر رضي الله عنه وعلى هذا تعامل الناس من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا في سائر الأعصار من غير إنكار من أحد, وإجماع أهل كل عصر حجة, فترك به القياس, ونوع من القياس يدل على الجواز أيضا, وهو أن الناس يحتاجون إلى عقد المضاربة؛ لأن الإنسان قد يكون له مال لكنه لا يهتدي إلى التجارة, وقد يهتدي إلى التجارة لكنه لا مال له, فكان في شرع هذا العقد دفع الحاجتين, والله تعالى ما شرع العقود إلا لمصالح العباد ودفع حوائجهم.

"فصل": وأما ركن العقد فالإيجاب والقبول, وذلك بألفاظ تدل عليهما فالإيجاب هو لفظ المضاربة والمقارضة والمعاملة, وما يؤدي معاني هذه الألفاظ, بأن يقول رب المال: خذ هذا المال مضاربة, على أن ما رزق الله عز وجل

 

ج / 6 ص -80-         أو أطعم الله تعالى منه من ربح, فهو بيننا على كذا من نصف أو ربع أو ثلث أو غير ذلك من الأجزاء المعلومة, وكذا إذا قال: مقارضة أو: معاملة ويقول المضارب: أخذت أو: رضيت أو: قبلت ونحو ذلك فيتم الركن بينهما, أما لفظ المضاربة فصريح مأخوذ من الضرب في الأرض, وهو السير فيها, سمي هذا العقد مضاربة؛ لأن المضارب يسير في الأرض ويسعى فيها لابتغاء الفضل. وكذا لفظ المقارضة صريح في عرف أهل المدينة؛ لأنهم يسمون المضاربة مقارضة كما يسمون الإجارة بيعا, ولأن المقارضة مأخوذة من القرض, وهو القطع, سميت المضاربة مقارضة لما أن رب المال يقطع يده عن رأس المال ويجعله في يد المضارب, والمعاملة لفظ يشتمل على البيع والشراء, وهذا معنى هذا العقد, ولو قال: خذ هذا المال واعمل به على أن ما رزق الله عز وجل من شيء فهو بيننا على كذا ولم يزد على هذا فهو جائز؛ لأنه أتى بلفظ يؤدي معنى هذا العقد, والعبرة في العقود لمعانيها لا لصور الألفاظ, حتى ينعقد البيع بلفظ التمليك بلا خلاف, وينعقد النكاح بلفظ البيع والهبة والتمليك عندنا وذكر في الأصل لو قال: خذ هذه الألف فابتع بها متاعا, فما كان من فضل فلك النصف ولم يزد على هذا فقبل هذا كان مضاربة استحسانا, والقياس أن لا يكون مضاربة. "وجه" القياس أنه ذكر الشراء ولم يذكر البيع, ولا يتحقق معنى المضاربة إلا بالشراء والبيع. "وجه" الاستحسان أنه ذكر الفضل, ولا يحصل الفضل إلا بالشراء والبيع, فكان ذكر الابتياع ذكرا للبيع, وهذا معنى المضاربة ولو قال: خذ هذه الألف بالنصف ولم يزد عليه كان مضاربة استحسانا, والقياس أن لا يكون؛ لأنه لم يذكر الشراء والبيع فلا يتحقق معنى المضاربة. "وجه" الاستحسان أنه لما ذكر الأخذ, والأخذ ليس عملا يستحق به العوض, وإنما يستحق بالعمل في المأخوذ وهو الشراء والبيع, فتضمن ذكره ذكر الشراء والبيع ولو قال: خذ هذا المال فاشتر به هرويا بالنصف أو رقيقا بالنصف ولم يزد على هذا شيئا, فاشترى كما أمره فهذا فاسد. وللمشتري أجر مثل عمله فيما اشترى, وليس له أن يبيع ما اشترى إلا بأمر رب المال؛ لأنه ذكر الشراء ولم يذكر البيع, ولا ذكر ما يوجب ذكر البيع؛ ليحمل على المضاربة, فحمل على الاستئجار على الشراء بأجر مجهول, وذلك فاسد, فإذا اشترى كما أمره فالمستأجر استوفى منافعه بعقد فاسد, فاستحق أجر مثل عمله, وليس له أن يبيع ما اشترى من غير إذن الآمر؛ لأنه أمره بالشراء لا بالبيع فكان المشترى له, فلا يجوز بيعه من غير إذنه, فإن باع منه شيئا لا ينفذ بيعه من غير إجازة رب المال, ويضمن قيمته إن لم يقدر على عينه؛ لأنه صار متلفا مال الغير بغير إذنه وإن أجاز رب المال البيع, والمتاع قائم جاز, والثمن لرب المال؛ لأن عدم الجواز لحقه, فإذا أجاز فقد زال المانع, وكذلك لو كان لا يدري أنه قائم أو هالك فأجاز؛ لأن الأصل هو بقاء المبيع حتى يعلم هلاكه, وإنما شرط قيام المبيع؛ لأنه شرط صحة الإجازة لما عرف أن ما لا يكون محلا لإنشاء العقد عليه, لا يكون محلا لإجازة العقد فيه, وإن علم أنه هلك, فالإجازة باطلة لما ذكرناه. وروى بشر عن أبي يوسف في رجل دفع إلى رجل ألف درهم؛ ليشتري بها ويبيع, فما ربح فهو بينهما فهذه مضاربة ولا ضمان على المدفوع إليه المال ما لم يخالف؛ لأنه لما ذكر الشراء والبيع فقد أتى بمعنى المضاربة, وكذلك لو شرط عليه أن الوضيعة علي وعليك, فهذه مضاربة والربح بينهما, والوضيعة على رب المال؛ لأن شرط الوضيعة على المضارب شرط فاسد فيبطل الشرط, وتبقى المضاربة. وروي عن علي بن الجعد عن أبي يوسف لو أن رجلا دفع إلى رجل ألف درهم ولم يقل: مضاربة ولا بضاعة, ولا قرضا ولا شركة. وقال: ما ربحت فهو بيننا فهذه مضاربة؛ لأن الربح لا يحصل إلا بالشراء والبيع, فكان ذكر الربح ذكرا للشراء والبيع, وهذا معنى المضاربة. ولو قال: خذ هذه الألف على أن لك نصف الربح, أو ثلثه ولم يزد على هذا فالمضاربة جائزة قياسا واستحسانا, وللمضارب ما شرط, وما بقي فلرب المال, والأصل في جنس هذه المسائل: أن رب المال إنما يستحق الربح؛ لأنه نماء ماله لا بالشرط, فلا يفتقر استحقاقه إلى الشرط, بدليل أنه إذا فسد الشرط كان جميع الربح له, والمضارب لا يستحق إلا بالشرط؛ لأنه إنما يستحق بمقابلة عمله, والعمل لا يتقوم إلا بالعقد. إذا عرف هذا, فنقول في هذه المسألة إذا سمي للمضارب جزءا معلوما من الربح, فقد وجد في حقه ما يفتقر إلى استحقاقه الربح فيستحقه, والباقي يستحقه رب المال بماله, ولو قال: خذ هذا المال

 

ج / 6 ص -81-         مضاربة على أن لي نصف الربح ولم يزد على هذا فالقياس أن تكون المضاربة فاسدة, وهو قول الشافعي رحمه الله, ولكنها جائزة استحسانا, ويكون للمضارب النصف. "وجه" القياس أن رب المال لم يجعل للمضارب شيئا معلوما من الربح, وإنما سمى لنفسه النصف فقط, وتسميته لنفسه لغو؛ لعدم الحاجة إليها, فكان ذكره والسكوت عنه بمنزلة واحدة, وإنما الحاجة إلى التسمية في حق المضاربة, ولم يوجد فلا تصح المضاربة. "وجه" الاستحسان أن المضاربة تقتضي الشركة في الربح, فكان تسمية أحد النصفين لنفسه تسمية الباقي للمضارب, كأنه قال: خذ هذا المال مضاربة على أن لك النصف كما في ميراث الأبوين في قوله سبحانه وتعالى {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} لما كان ميراث الميت لأبويه وقد جعل الله تعالى عز وجل للأم منه الثلث كان ذلك جعل الباقي للأب كذا هذا. ولو قال على أن لي نصف الربح ولك ثلثه ولم يزد على هذا, فالثلث للمضارب والباقي لرب المال؛ لما ذكرنا أن استحقاق المضارب الربح بالشرط, واستحقاق رب المال لكونه من نماء ماله, فإذا سلم المشروط للمضارب بالشرط يسلم المسكوت عنه, وهو الباقي لرب المال؛ لكونه من نماء ماله. ولو قال رب المال: على أن ما رزق الله عز وجل فهو بيننا جاز ذلك, وكان الربح بينهما نصفين؛ لأن "البين" كلمة قسمة, والقسمة تقتضي المساواة إذا لم يبين فيها مقدار معلوم قال الله تعالى عز شأنه: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} وقد فهم منها التساوي في الشرب قال الله سبحانه وتعالى: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} هذا إذا شرط جزء من الربح في عقد المضاربة لأحدهما, إما المضارب وإما رب المال, وسكت عن الآخر, فأما إذا شرط لهما ولغيرهما, بأن شرط فيه الثلث للمضارب, والثلث لرب المال, والثلث لثالث سواهما, فإن كان الثالث أجنبيا, أو كان ابن المضارب, وشرط عليه العمل جاز, وكان الربح بينهم أثلاثا, وإن لم يشرط عليه العمل لم يجز, وما شرط له يكون لرب المال؛ لأن الربح لا يستحق في المضاربة من غير عمل ولا مال, وصار المشروط له كالمسكوت عنه وإن كان الثالث عبد المضارب, فإن كان عليه دين فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله إن شرط عمله؛ لأن المضارب لا يملك كسب عبده, فكان كالأجنبي, وإن لم يشترط عمله فما شرطه فهو لرب المال لما ذكرنا في الأجنبي وعند أبي يوسف ومحمد: المشروط له يكون للمضارب؛ لأن المولى يملك كسبه عندهما, كما يملك لو لم يكن عليه دين وإن كان الثالث عبد رب المال, فهو على هذا التفصيل أيضا أنه إن كان عليه دين, فإن شرط عمله فهو كالأجنبي عند أبي حنيفة؛ لأن المولى لا يملك إكسابه, وإن لم يشترط عمله فما شرط له فهو لرب المال لما قلنا. وعندهما ما شرط له فهو مشروط لمولاه, عمل أو لم يعمل؛ لأن المولى يملك كسب عبده كان عليه دين أو لا فإن لم يكن على العبد دين ففي عبد المضارب الثلثان للمضارب, والثلث لرب المال؛ لأنه إذا لم يكن عليه دين, فالملك يثبت للمولى, فكان المشروط له مشروطا للمولى, وصار كأنه شرط للمضارب الثلثين, وفي عبد رب المال الثلث للمضارب, والثلثان لرب المال؛ لأن المشروط له يكون مشروطا لمولاه إذا لم يكن عليه دين, فصار كأن رب المال شرط لنفسه الثلثين, وعلى هذا قالوا: لو شرط ثلث الربح للمضارب, والثلث لقضاء دين المضارب, والثلث لرب المال إن الثلثين للمضارب, والثلث لرب المال, وكذا لو شرط ثلث الربح للمضارب, والثلث لرب المال, والثلث لقضاء دين رب المال إن الثلثين لرب المال, والثلث للمضارب؛ لأن المشروط لقضاء دين كل واحد منهما مشروط له.

"فصل": وأما شرائط الركن فبعضها يرجع إلى العاقدين, وهما رب المال والمضارب, وبعضها يرجع إلى رأس المال, وبعضها يرجع إلى الربح. "أما" الذي يرجع إلى العاقدين وهما رب المال والمضارب, فأهلية التوكيل والوكالة؛ لأن المضارب يتصرف بأمر رب المال, وهذا معنى التوكيل, وقد ذكر شرائط أهلية التوكيل والوكالة, في كتاب الوكالة ولا يشترط إسلامهما فتصح المضاربة بين أهل الذمة وبين المسلم, والذمي والحربي المستأمن حتى لو دخل حربي دار الإسلام بأمان, فدفع ماله إلى مسلم مضاربة, أو دفع إليه مسلم ماله مضاربة فهو جائز لأن المستأمن في دارنا بمنزلة الذمي, والمضاربة مع الذمي مضاربة جائزة, فكذلك مع الحربي المستأمن, فإن كان المضارب هو المسلم فدخل دار الحرب بأمان فعمل بالمال فهو جائز؛ لأنه دخل دار رب المال فلم يوجد بينهما اختلاف الدارين فصار كأنهما في دار واحدة. وإن

 

ج / 6 ص -82-         كان المضارب هو الحربي, فرجع إلى داره الحربي, فإن كان بغير إذن رب المال بطلت المضاربة, وإن كان بإذنه فذلك جائز ويكون على المضاربة, ويكون الربح بينهما على ما شرطا إن رجع إلى دار الإسلام مسلما أو معاهدا أو بأمان استحسانا, والقياس أن تبطل المضاربة. "وجه" القياس أنه لما عاد إلى دار الحرب بطل أمانه وعاد إلى حكم الحرب كما كان, فبطل أمر رب المال عند اختلاف الدارين, فإذا تصرف فيه فقد تعدى بالتصرف فملك ما تصرف فيه. "وجه" الاستحسان أنه لما خرج بأمر رب المال صار كأن رب المال دخل معه. ولو دخل رب المال معه إلى دار الحرب لم تبطل المضاربة, فكذا إذا دخل بأمره بخلاف ما إذا دخل بغير أمره؛ لأنه لما لم يأذن له بالدخول انقطع حكم رب المال عنه, فصار تصرفه لنفسه فملك الأمر به وقد قالوا في المسلم إذا دخل دار الحرب بأمان, فدفع إليه حربي مالا مضاربة مائة درهم, أنه على قياس قول أبي حنيفة ومحمد جائز, فإن اشترى المضارب على هذا وربح أو وضع فالوضيعة على رب المال والربح على ما اشترط, ويستوفي المضارب مائة درهم والباقي لرب المال, وإن لم يكن في المال ربح إلا مائة فهي كلها للمضارب, وإن كان أقل من مائة فذلك للمضارب أيضا, ولا شيء للمضارب على رب المال؛ لأن رب المال لم يشترط المائة إلا من الربح فأما على قول أبي يوسف فالمضاربة فاسدة, وللمضارب أجر مثله, وهذا فرع اختلافهم في جواز الربا في دار الحرب لما علم. "وأما" الذي يرجع إلى رأس المال فأنواع. "منها" أن يكون رأس المال من الدراهم أو الدنانير عند عامة العلماء فلا تجوز المضاربة بالعروض, وعند مالك رحمه الله: هذا ليس بشرط وتجوز المضاربة بالعروض والصحيح قول العامة لما ذكرنا في كتاب الشركة أن ربح ما يتعين بالتعيين ربح ما لم يضمن؛ لأن العروض تتعين عند الشراء بها, والمعين غير مضمون, حتى لو هلكت قبل التسليم لا شيء على المضارب, فالربح عليها يكون ربح ما لم يضمن. "ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن", وما لا يتعين يكون مضمونا عند الشراء به حتى لو هلكت العين قبل التسليم, فعلى المشتري به ضمانه, فكان الربح على ما في الذمة فيكون ربح المضمون, ولأن المضاربة بالعروض تؤدي إلى جهالة الربح وقت القسمة؛ لأن قيمة العروض تعرف بالحرز والظن, وتختلف باختلاف المقومين, والجهالة تفضي إلى المنازعة, والمنازعة تفضي إلى الفساد, وهذا لا يجوز, وقد قالوا: إنه لو دفع إليه عروضا, فقال له: بعها واعمل بثمنها مضاربة فباعها بدراهم أو دنانير وتصرف فيها جاز؛ لأنه لم يضف المضاربة إلى العروض وإنما أضافها إلى الثمن, والثمن تصح به المضاربة, فإن باعها بمكيل أو موزون جاز البيع عند أبي حنيفة بناء على أصله في الوكيل بالبيع مطلقا, أنه يبيع بالأثمان وغيرها, إلا أن المضاربة فاسدة؛ لأنها صارت مضافة إلى ما لا تصح المضاربة به, وهو الحنطة والشعير. وأما على أصلهما فالبيع لا يجوز؛ لأن الوكيل بالبيع مطلقا لا يملك البيع بغير الأثمان, ولا تفسد المضاربة؛ لأنها لم تصر مضافة إلى ما لا يصلح به رأس مال المضاربة. "وأما" تبر الذهب والفضة فقد جعله في هذا الكتاب بمنزلة العروض, وجعله في كتاب الصرف بمنزلة الدراهم والدنانير, والأمر فيه موكول إلى التعامل, فإن كان الناس يتعاملون به فهو بمنزلة الدراهم والدنانير فتجوز المضاربة به, وإن كانوا لا يتعاملون به فهو كالعروض فلا تجوز المضاربة به. "وأما" الزيوف والنبهرجة فتجوز المضاربة بها, ذكره محمد رحمه الله؛ لأنها تتعين بالعقد كالجياد. "وأما" الستوقة فإن كانت لا تروج فهي كالعروض, وإن كانت تروج فهي كالفلوس, وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف في الدراهم التجارية لا يجوز المضاربة بها؛ لأنها كسدت عندهم وصارت سلعة. قال: ولو أجزت المضاربة بها, أجزتها بمكة بالطعام؛ لأنهم يتبايعون بالحنطة كما يتبايع غيرهم بالفلوس. "وأما" الفلوس فقد ذكرنا الكلام فيها في كتاب الشركة, فالحاصل أن في جواز المضاربة بها روايتين عن أبي حنيفة, ذكر محمد في المضاربة الكبيرة في الجامع الصغير وقال: لا تجوز المضاربة إلا بالدراهم والدنانير عند أبي حنيفة وروى الحسن عنه أنها تجوز, والصحيح من مذهب أبي يوسف أنها لا تجوز, وعند محمد تجوز بناء على أن الفلوس لا تتعين بالتعيين عنده, فكانت أثمانا كالدراهم والدنانير, وعند أبي حنيفة وأبي يوسف تتعين, فكانت كالعروض. "ومنها" أن يكون معلوما فإن كان مجهولا لا تصح المضاربة؛ لأن جهالة رأس المال تؤدي إلى جهالة الربح, وكون الربح معلوما شرط صحة المضاربة. "ومنها"

 

ج / 6 ص -83-         أن يكون رأس المال عينا لا دينا, فإن كان دينا فالمضاربة فاسدة, وعلى هذا يخرج ما إذا كان لرب المال على رجل دين, فقال له: اعمل بديني الذي في ذمتك مضاربة بالنصف, إن المضاربة فاسدة بلا خلاف فإن اشترى هذا المضارب وباع, له ربحه وعليه وضيعته, والدين في ذمته بحال عند أبي حنيفة. وعندهما ما اشترى وباع لرب المال, له ربحه وعليه وضيعته بناء على أن من وكل رجلا يشتري له بالدين الذي في ذمته لم يصح عند أبي حنيفة, حتى لو اشترى لا يبرأ عما في ذمته عنده. وإذا لم يصح الأمر بالشراء بما في الذمة لم تصح إضافة المضاربة إلى ما في الذمة, وعندهما يصح التوكيل, ولكن لا تصح المضاربة؛ لأن الشراء يقع للموكل فتصير المضاربة بعد ذلك مضاربة بالعروض؛ لأنه يصير في التقدير كأنه وكله بشراء العروض, ثم دفعه إليه مضاربة فتصير مضاربة بالعروض فلا تصح. ولو قال لرجل: اقبض مالي على فلان من الدين واعمل به مضاربة جاز؛ لأن المضاربة هنا أضيفت إلى المقبوض, فكان رأس المال عينا لا دينا. ولو أضاف المضاربة إلى عين هي أمانة في يد المضارب من الدراهم والدنانير, بأن قال للمودع أو المستبضع: اعمل بما في يدك مضاربة بالنصف جاز ذلك بلا خلاف وإن أضافها إلى مضمونة في يده كالدراهم والدنانير المغصوبة, فقال للغاصب: اعمل بما في يدك مضاربة بالنصف جاز ذلك عند أبي يوسف والحسن بن زياد. وقال زفر: لا يجوز. "وجه" قوله أن المضاربة تقتضي كون المال أمانة في يد المضارب, والمغصوب مغصوب في يده, فلا يتحقق التصرف للمضاربة, فلا يصح ولأبي يوسف أن ما في يده مضمون إلى أن يأخذ في العمل, فإذا أخذ في العمل وهو الشراء تصير أمانة في يده, فيتحقق معنى المضاربة فتصح وسواء كان رأس المال مفروزا أو مشاعا, بأن دفع مالا إلى رجل, بعضه مضاربة وبعضه غير مضاربة مشاعا في المال, فالمضاربة جائزة؛ لأن الإشاعة لا تمنع من التصرف في المال, فإن المضارب يتمكن من التصرف في المشاع, وكذا الشركة لا تمنع المضاربة, فإن المضارب إذا ربح يصير شريكا في المال, ويجوز تصرفه بعد ذلك على المضاربة فإذا لم يمنع البقاء لا يمنع الابتداء, وعلى هذا يخرج ما إذا دفع إلى رجل ألف درهم, فقال: نصفها عليك قرض, ونصفها مضاربة إن ذلك جائز. أما جواز المضاربة فلما قلنا. وأما جواز القرض في المشاع وإن كان القرض تبرعا والشياع يمنع صحة التبرع كالهبة فلأن القرض ليس بتبرع مطلق؛ لأنه وإن كان في الحال تبرعا؛ لأنه لا يقابله عوض للحال, فهو تمليك المال بعوض في الثاني. ألا ترى أن الواجب فيه رد المثل لا رد العين؟ فلم يكن تبرعا من كل وجه, فلا يعمل فيه الشيوع, بخلاف الهبة فإنها تبرع محض فعمل الشيوع فيها, وإذا جاز القرض والمضاربة كان نصف الربح للمضارب؛ لأنه ربح ملكه وهو القرض, ووضيعته عليه, والنصف الآخر بينه وبين رب المال على ما شرطا؛ لأنه ربح مستفاد بمال المضاربة, ووضيعته على رب المال ولا تجوز قسمة أحدهما دون صاحبه؛ لأنه مال مشترك بينهما, فلا ينفرد أحد الشريكين بقسمته. قالوا: ولو كان قال له: خذ هذه الألف على أن نصفها قرض عليك على أن تعمل بالنصف الآخر مضاربة على أن الربح لي فهذا مكروه؛ لأنه شرط لنفسه منفعة في مقابلة القرض, وقد "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قرض جر نفعا" فإن عمل على هذا فربح أو وضع فالربح بينهما نصفان, وكذا الوضيعة. "أما" الربح فلأن المضارب ملك نصف المال بالقرض, فكان نصف الربح له والنصف الآخر بضاعة في يده, فكان ربحه لرب المال. "وأما" الوضيعة فلأنها جزء هالك من المال, والمال مشترك, فكانت الوضيعة على قدره ولو قال: خذ هذه الألف على أن نصفها مضاربة بالنصف ونصفها هبة فقبضها المضارب على ذلك غير مقسوم, فالهبة فاسدة؛ لأنها هبة المشاع فيما يحتمل القسمة, فإن عمل في المال فربح, كان نصف الربح للمضارب حصة الهبة, ونصف الربح بينهما على ما شرطا, والوضيعة عليهما, أما نصف الربح للمضارب حصة الهبة, فلأنه يثبت الملك له فيه إذا قبض بعقد فاسد, فكان ربحه له. وأما النصف الآخر فإنما يكون ربحه بينهما على الشرط؛ لأنه استفيد بمال المضاربة مضاربة صحيحة. "وأما" كون الوضيعة عليهما, فلأنها جزء هالك من المال, والمال مشترك, فإن هلك المال في يد المضارب قبل أن يعمل أو بعد ما عمل, فهو ضامن لنصف المال وهو الهبة؛ لأنه مقبوض بعقد فاسد, فكان مضمونا عليه كالمقبوض ببيع فاسد. ولو كان دفع نصف المال بضاعة ونصفه مضاربة,

 

ج / 6 ص -84-         فقبضه المضارب على ذلك, فهو جائز, والمال على ما سميا من المضاربة, والبضاعة والوضيعة على رب المال, ونصف الربح لرب المال ونصفه على ما شرطا؛ لأن الإشاعة لا تمنع من العمل في المال مضاربة وبضاعة, وجازت المضاربة والبضاعة, وإنما كانت الوضيعة على رب المال؛ لأنه لا ضمان على المبضع والمضارب في البضاعة والمضاربة وحصة البضاعة من الربح لرب المال خاصة؛ لأن المبضع لا يستحق الربح, وحصة المضاربة بينهما على ما شرطا؛ لأنه ربح حصل من مال المضاربة, والمضاربة قد صحت, فيكون بينهما على الشرط. ولو دفع إليه على أن نصفها وديعة في يد المضارب ونصفها مضاربة بالنصف, فذلك جائز, والمال في يد المضارب على ما سميا؛ لأن كل واحد منهما أعني الوديعة والمضاربة أمانة, فلا يتنافيان, فكان نصف المال في يد المضارب وديعة, ونصفه مضاربة إلا أن التصرف لا يجوز إلا بعد القسمة؛ لأن كل جزء من المال بعضه مضاربة وبعضه وديعة, والتصرف في الوديعة لا يجوز, فإن قسم المضارب المال نصفين ثم عمل بأحد النصفين على المضاربة, فربح أو وضع فالوضيعة عليه وعلى رب المال نصفان, ونصف الربح للمضارب ونصفه على ما شرطا؛ لأن قسمة المضارب المال لم تصح؛ لأن المالك لم يأذن له فيها, فإذا أفرز بعضه فقد تصرف في مال الوديعة ومال المضاربة, فما كان في حصة الوديعة فهو غصب فيكون ربحه للغاصب, وما كان في حصة المضاربة فهو على الشرط. ومن هذا الجنس ما إذا دفع إلى رجل متاعا, فباع نصفه من المدفوع إليه بخمسمائة, ثم أمره أن يبيع النصف الباقي ويعمل بالثمن كله مضاربة, على أن ما رزق الله تعالى من شيء فهو بيننا نصفان, فباع المضارب نصف المتاع بخمسمائة, ثم عمل بها وبالخمسمائة التي عليه, فربح في ذلك أو وضع فالوضيعة عليهما نصفان, والربح بينهما نصفان في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن من مذهبه أن من كان له على رجل دين فأمره أن يشتري له بذلك الدين شيئا لا يصح, والمشترى يكون للمأمور لا للآمر, ويكون الدين على المأمور حالة, وإذا كان كذلك فههنا أمر أن يعمل بالدين وبنصف ثمن المباع, فما ربح في حصة الدين فهو للمدفوع إليه؛ لأنه تصرف في ملك نفسه فيكون ربحه له, وما ربح في نصيب الدافع فهو للدافع, والوضيعة عليهما؛ لأن المال مشترك بينهما فكان الهالك بينهما. "وأما" في قياس قول أبي يوسف ومحمد فمقدار ما ربح في الخمسمائة التي أمره أن يبيع نصف المتاع بها فهو بينهما نصفان على ما شرطا, وما ربح في النصف الذي عليه من الدين يكون لرب المال؛ لأن من أصلهما أن الأمر بالشراء بالدين يصح, وتكون المضاربة فاسدة؛ لأنه إذا اشترى صار عروضا, والمضاربة بالعروض لا تصح, فصارت المضاربة هنا جائزة في النصف فاسدة في النصف, فالربح في الصحيحة يكون بينهما على الشرط, وفي الفاسدة يكون لرب المال ولو شرط الدافع لنفسه الثلث وللمضارب الثلثين, والمسألة بحالها, فإن في قول أبي حنيفة: ثلثا الربح للمضارب على ما اشترطا, نصف الربح من نصيب المضارب خاصة, والسدس من نصيب الدافع, كأنه قال له: اعمل في نصيبك على أن الربح لك, واعمل في نصيبي على أن لك ثلث الربح من نصيبي. "وأما" على قياس قولهما فقد دفع إليه نصفه مضاربة جائزة, ونصفه مضاربة فاسدة, فما ربح في النصف الذي كان دينا فهو لرب المال؛ لأنه مضاربة فاسدة, وما ربح في النصف الذي هو ثمن المتاع فالربح بينهما على ما شرطا, فصار لرب المال ثلثا الربح, وللمضارب الثلث, وإن كان شرط لرب المال ثلثي الربح, وللمضارب الثلث, فالربح بينهما نصفان في قول أبي حنيفة؛ لأن رب المال شرط النصف من نصيب نفسه, والزيادة من نصيب المضارب وشرط الزيادة من غير عمل ولا رأس مال باطل, فيكون الربح على قدر المال وفي قياس قولهما: نصف الربح لرب المال خاصة؛ لأن المضاربة فيه فاسدة, وللمضارب ثلث ربح النصف الآخر. "ومنها" تسليم رأس المال إلى المضارب؛ لأنه أمانة فلا يصح إلا بالتسليم, وهو التخلية كالوديعة, ولا يصح مع بقاء يد الدافع على المال؛ لعدم التسليم مع بقاء يده, حتى لو شرط بقاء يد المالك على المال فسدت المضاربة, لما قلنا فرق بين هذا وبين الشركة, فإنها تصح مع بقاء يد رب المال على ماله, والفرق أن المضاربة انعقدت على رأس مال من أحد الجانبين, وعلى العمل من الجانب الآخر, ولا يتحقق العمل إلا بعد خروجه من يد رب المال, فكان هذا شرطا موافقا مقتضى العقد, بخلاف الشركة؛ لأنها انعقدت على العمل من الجانبين, فشرط زوال يد رب المال عن العمل يناقض

 

ج / 6 ص -85-         مقتضى العقد. وكذا لو شرط في المضاربة عمل رب المال, فسدت المضاربة سواء عمل رب المال معه أو لم يعمل؛ لأن شرط عمله معه شرط بقاء يده على المال, وإنه شرط فاسد. ولو سلم رأس المال إلى رب المال ولم يشترط عمله, ثم استعان به على العمل أو دفع إليه المال بضاعة جاز؛ لأن الاستعانة لا توجب خروج المال عن يده, وسواء كان المالك عاقدا أو غير عاقد لا بد من زوال يد رب المال عن ماله؛ لتصح المضاربة, حتى إن الأب أو الوصي إذا دفع مال الصغير مضاربة, وشرط عمل الصغير لم تصح المضاربة؛ لأن يد الصغير باقية لبقاء ملكه فتمنع التسليم, وكذلك أحد شريكي المفاوضة, أو العنان إذا دفع مالا مضاربة, وشرط عمل شريكه مع المضارب؛ لأن لشريكه فيه ملكا فيمنع التسليم. "فأما" العاقد إذا لم يكن مالكا للمال فشرط أن يتصرف في المال مع المضارب, فإن كان ممن يجوز أن يأخذ مال المالك مضاربة لم تفسد المضاربة, كالأب والوصي إذا دفعا مال الصغير مضاربة, وشرطا أن يعملا مع المضارب بجزء من الربح؛ لأنهما لو أخذا مال الصغير مضاربة بأنفسهما جاز, فكذا إذا شرطا عملهما مع المضارب وصار كالأجنبي, وإن كان العاقد ممن لا يجوز أن يأخذ مال المالك مضاربة, فشرط عمله, فسد العقد, كالمأذون إذا دفع مالا مضاربة وشرط عمله مع المضارب؛ لأن المأذون وإن لم يكن مالكا رقبة المال فيد التصرف ثابتة له عليه, فينزل منزلة المالك فيما يرجع إلى التصرف, فكان قيام يده مانعا من التسليم والقبض, فيمنع صحة المضاربة, وإن شرط المأذون عمل مولاه مع المضارب ولا دين عليه فالمضاربة فاسدة؛ لأن المولى هو المالك للمال حقيقة, فإذا حصل المال في يده فقد وجد يد المالك فيمنع التسليم, وإن كان عليه دين فالمضاربة جائزة في قول أبي حنيفة رحمه الله لأن المولى لا يملك هذا المال فصار كالأجنبي. "وأما" المكاتب إذا شرط عمل مولاه لم تفسد المضاربة؛ لأن المولى لا يملك إكساب مكاتبه, وهو فيها كالأجنبي. ولو دفع إلى إنسان مالا مضاربة وأمره أن يعمل برأيه, ودفعه المضارب الأول إلى آخر مضاربة على أن يعمل المضارب معه أو يعمل معه رب المال, فالمضاربة فاسدة؛ لأن اليد للمضارب والملك للمولى, وكل ذلك يمنع من التسليم, وقد قالوا في المضارب: إذا دفع المال إلى رب المال مضاربة بالثلث فالمضاربة الثانية فاسدة, والمضاربة الأولى على حالها جائزة, والربح بين رب المال وبين المضارب على ما شرطا في المضاربة الأولى, ولا أجر لرب المال. "وأما" فساد المضاربة الثانية فلأن يد رب المال يد ملك, ويد الملك مع يد المضارب لا يجتمعان, فلا تصح المضاربة الثانية, وبقيت المضاربة الأولى على حالها, ولم يذكر القدوري رحمه الله في شرحه مختصر الكرخي خلافا, وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي: أن هذا مذهب أصحابنا الثلاثة وعند زفر رحمه الله تنفسخ المضاربة الأولى بدفع المال إلى رب المال والرد عليه. "وجه" قوله أن زوال يد رب المال شرط صحة المضاربة, فكانت إعادة يده إليه مفسدة لها. "ولنا" أن رب المال يصير معينا للمضارب, والإعانة لا توجب إخراج المال عن يده, فيبقى العقد الأول, ولا أجر لرب المال؛ لأنه عمل في ملك نفسه, فلا يستحق الأجر. "وأما" الذي يرجع إلى الربح فأنواع. "منها" إعلام مقدار الربح؛ لأن المعقود عليه هو الربح, وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد ولو دفع إليه ألف درهم عن أنهما يشتركان في الربح ولم يبين مقدار الربح جاز ذلك, والربح بينهما نصفان؛ لأن الشركة تقتضي المساواة قال الله تعالى عز شأنه: فهم شركاء في الثلث ولو قال: على أن للمضارب شركا في الربح جاز في قول أبي يوسف, والربح بينهما نصفان, وقال محمد: المضاربة فاسدة. "وجه" قول محمد أن الشركة هي النصيب, قال الله تعالى {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} أي نصيب. وقال تعالى {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} أي نصيب فقد جعل له نصيبا من الربح, والنصيب مجهول فصار الربح مجهولا. "وجه" قول أبي يوسف أن الشرك بمعنى الشركة, يقال: شركته في هذا الأمر أشركه شركة وشركا قال القائل:

وشاركنا قريشا في بقاها                        وفي أحسابها شرك العنان

ويذكر بمعنى النصيب أيضا, لكن في الحمل على الشركة تصحيح للعقد فيحمل عليها. "ومنها" أن يكون المشروط لكل واحد منهما من المضارب ورب المال من الربح جزءا شائعا, نصفا أو ثلثا أو ربعا, فإن شرطا عددا مقدرا بأن

 

ج / 6 ص -86-         شرطا أن يكون لأحدهما مائة درهم من الربح أو أقل أو أكثر والباقي للآخر لا يجوز, والمضاربة فاسدة؛ لأن المضاربة نوع من الشركة, وهي الشركة في الربح, وهذا شرط يوجب قطع الشركة في الربح؛ لجواز أن لا يربح المضارب إلا هذا القدر المذكور, فيكون ذلك لأحدهما دون الآخر, فلا تتحقق الشركة, فلا يكون التصرف مضاربة, وكذلك إن شرطا أن يكون لأحدهما النصف أو الثلث ومائة درهم, أو قالا: إلا مائة درهم فإنه لا يجوز كما ذكرنا أنه شرط يقطع الشركة في الربح؛ لأنه إذا شرطا لأحدهما النصف ومائة, فمن الجائز أن يكون الربح مائتين, فيكون كل الربح للمشروط له, وإذا شرطا له النصف إلا مائة, فمن الجائز أن يكون نصف الربح مائة, فلا يكون له شيء من الربح. ولو شرطا في العقد أن تكون الوضيعة عليهما بطل الشرط, والمضاربة صحيحة والأصل في الشرط الفاسد إذا دخل في هذا العقد أنه ينظر إن كان يؤدي إلى جهالة الربح يوجب فساد العقد؛ لأن الربح هو المعقود عليه, وجهالة المعقود عليه توجب فساد العقد, وإن كان لا يؤدي إلى جهالة الربح يبطل الشرط وتصح المضاربة وشرط الوضيعة عليهما شرط فاسد؛ لأن الوضيعة جزء هالك من المال, فلا يكون إلا على رب المال, لا أنه يؤدي إلى جهالة الربح, فلا يؤثر في العقد فلا يفسد به العقد, ولأن هذا عقد تقف صحته على القبض, فلا يفسده الشرط الزائد الذي لا يرجع إلى المعقود عليه كالهبة والرهن, ولأنها وكالة والشرط الفاسد لا يعمل في الوكالة وذكر محمد في المضاربة إذا قال رب المال للمضارب: لك ثلث الربح وعشرة دراهم في كل شهر ما عملت في المضاربة صحت المضاربة من الثلث, وبطل الشرط. وذكر في المزارعة: إذا دفع إليه أرضه بثلث الخارج, وجعل له عشرة دراهم في كل شهر, فالمزارعة باطلة من أصحابنا من قال: في المسألة روايتان, رواية كتاب المزارعة تقتضي فساد المضاربة؛ لأن المشروط للمضارب من المشاهرة معقود عليه, وهو قطع عنه الشركة, وهذا يفسد المضاربة, وفي رواية كتاب المضاربة يقتضي أن تصح المضاربة؛ لأنه عقد على ربح معلوم, ثم ألحق به شرطا فاسدا, فيبطل الشرط وتصح المضاربة والصحيح هو الفرق بين المسألتين؛ لأن معنى الإجارة في المزارعة أظهر منه في المضاربة, بدليل أنها لا تصح إلا بمدة معلومة, والمضاربة لا تفتقر صحتها إلى ذكر المدة, فالشرط الفاسد جاز أن يؤثر في المزارعة ولا يؤثر في المضاربة. وعلى هذا الأصل, قال محمد فيمن دفع ألفا مضاربة على أن الربح بينهما نصفين, على أن يدفع إليه رب المال أرضه ليزرعها سنة أو دارا ليسكنها سنة, فالشرط باطل والمضاربة صحيحة؛ لأنه ألحق بها شرطا فاسدا لا تقتضيه, فبطل الشرط ولو كان المضارب هو الذي شرط عليه أن يدفع أرضه ليزرعها رب المال سنة, أو يدفع داره إلى رب المال؛ ليسكنها سنة, فسدت المضاربة؛ لأنه جعل نصف الربح عوضا عن عمله وعن أجرة الدار والأرض, فصارت حصة العمل مجهولة بالعقد فلم يصح العقد وروى المعلى عن أبي يوسف في رجل دفع مالا إلى رجل مضاربة, على أن يبيع في دار رب المال أو على أن يبيع في دار المضارب, كان جائزا ولو شرطا أن يسكن المضارب دار رب المال, أو رب المال دار المضارب, فهذا لا يجوز؛ لأنه إذا شرط البيع في أحد الدارين فإنما خص البيع بمكان دون مكان, ولم يعقد على منافع الدار, وإذا شرط للمضارب السكنى فقد جعل تلك المنفعة أجرة له وأطلق أبو يوسف أنه لا يجوز, ولم يذكر أنه لا يجوز الشرط أو لا تجوز المضاربة. وذكر القدوري رحمه الله أنه ينبغي أن يكون الفساد في الشرط لا في المضاربة ولو شرط جميع الربح للمضارب فهو قرض عند أصحابنا وعند الشافعي رحمه الله هي مضاربة فاسدة, وله أجرة مثل ما إذا عمل. "وجه" قوله أن المضاربة عقد شركة في الربح, فشرط قطع الشركة فيها يكون شرطا فاسدا. "ولنا" أنه إذا لم يمكن تصحيحها مضاربة تصحح قرضا؛ لأنه أتى بمعنى القرض, والعبرة في العقود لمعانيها, وعلى هذا إذا شرط جميع الربح لرب المال, فهو إبضاع عندنا؛ لوجود معنى الإبضاع.

"فصل": وأما بيان حكم المضاربة, فالمضاربة لا تخلو إما أن تكون صحيحة أو فاسدة, ولكل واحد منهما أحكام. أما أحكام الصحيحة فكثيرة بعضها يرجع إلى حال المضارب في عقد المضاربة, وبعضها يرجع إلى عمل المضارب, ما لكل واحد منهما أن يعمله وما ليس له أن يعمله, وبعضها يرجع إلى ما يستحقه المضارب بالعمل وما يستحقه رب

 

ج / 6 ص -87-         المال بالمال. "أما" الذي يرجع إلى حال المضارب في عقد المضاربة فهو أن رأس المال قبل أن يشتري المضارب به شيئا أمانة في يده بمنزلة الوديعة؛ لأنه قبضه بإذن المالك لا على وجه البدل والوثيقة, فإذا اشترى به شيئا صار بمنزلة الوكيل بالشراء والبيع؛ لأنه تصرف في مال الغير بأمره, وهو معنى الوكيل فيكون شراؤه على المعروف, وهو أن يكون بمثل قيمته أو بما يتغابن الناس في مثله, كالوكيل بالشراء وبيعه على الاختلاف المعروف في الوكيل بالبيع المطلق. ولو اشترى شراء فاسدا يملك إذا قبض لا يكون مخالفا ويكون الشراء على المضاربة. وكذا إذا باع شيئا من مال المضاربة بيعا فاسدا لا يصير مخالفا ولا يضمن؛ لأن المضاربة توكيل, والوكيل بالشراء والبيع مطلقا يملك الصحيح والفاسد, فلا يصير مخالفا, فإذا ظهر في المال ربح صار شريكا فيه بقدر حصته من الربح؛ لأنه ملك جزءا من المال المشروط بعمله, والباقي لرب المال؛ لأنه نماء ماله, فإذا فسدت بوجه من الوجوه صار بمنزلة الأجير لرب المال, فإذا خالف شرط رب المال صار بمنزلة الغاصب, ويصير المال مضمونا عليه, ويكون ربح المال كله بعد ما صار مضمونا عليه له؛ لأن الربح بالضمان لكنه لا يطيب له في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبي يوسف رحمه الله يطيب له وهو على اختلافهم في الغاصب والمودع إذا تصرفا في المغصوب الوديعة وربحا. ولو أراد رب المال أن يجعل المال مضمونا على المضارب, فالحيلة في ذلك أن يقرض المال من المضارب ويشهد عليه ويسلمه إليه, ثم يأخذ منه مضاربة بالنصف أو بالثلث, ثم يدفعه إلى المستقرض فيستعين به في العمل, حتى لو هلك في يده كان القرض عليه, وإذا لم يهلك وربح يكون الربح بينهما على الشرط وحيلة أخرى أن يقرض رب المال جميع المال من المضارب إلا درهما واحدا, ويسلمه إليه ويشهد على ذلك, ثم إنهما يشتركان في ذلك شركة عنان على أن يكون رأس مال المقرض درهما ورأس مال المستقرض جميع ما استقرض على أن يعملا جميعا وشرطا أن يكون الربح بينهما ثم بعد ذلك يعمل المستقرض خاصة في المال, فإن هلك المال في يده كان القرض على حاله. ولو ربح كان الربح بينهما على الشرط. "وأما" الذي يرجع إلى عمل المضارب مما له أن يعمله بالعقد, وما ليس له أن يعمل به فجملة الكلام فيه أن. المضاربة نوعان: مطلقة ومقيدة, فالمطلقة أن يدفع المال مضاربة من غير تعيين العمل والمكان والزمان وصفة العمل ومن يعامله والمقيدة أن يعين شيئا من ذلك, وتصرف المضارب في كل واحد من النوعين ينقسم أربعة أقسام, قسم منه للمضارب أن يعمله من غير الحاجة إلى التنصيص عليه, ولا إلى قول: اعمل برأيك فيه وقسم منه ما ليس له أن يعمل ولو قيل له: اعمل فيه برأيك إلا بالتنصيص عليه, وقسم منه ما له أن يعمله إذا قيل له: اعمل فيه برأيك وإن لم ينص عليه, وقسم منه ما ليس له أن يعمله رأسا وإن نص عليه. "وأما" القسم الذي للمضارب أن يعمله من غير التنصيص عليه, ولا قول: اعمل برأيك كالمضاربة المطلقة عن الشرط والقيد, وهي ما إذا قال له: خذ هذا المال واعمل به, على أن ما رزق الله من ربح فهو بيننا على كذا أو قال: خذ هذا المال مضاربة على كذا فله أن يشتري به ويبيع؛ لأنه أمره بعمل هو سبب حصول الربح, وهو الشراء والبيع, وكذا المقصود من عقد المضاربة هو الربح, والربح لا يحصل إلا بالشراء والبيع إلا أن شراءه يقع على المعروف, وهو أن يكون بمثل قيمة المشترى, أو بأقل من ذلك مما يتغابن الناس في مثله؛ لأنه وكيل وشراء الوكيل يقع على المعروف, فإن اشترى بما لا يتغابن الناس في مثله كان مشتريا لنفسه لا على المضاربة, بمنزلة الوكيل بالشراء. "وأما" بيعه فعلى الاختلاف بين أبي حنيفة وصاحبيه رضي الله تعالى عنهم في التوكيل بمطلق البيع أنه يملك البيع نقدا ونسيئة, وبغبن فاحش في قول أبي حنيفة رحمه الله فالمضارب أولى؛ لأن المضاربة أعم من الوكالة وعندهما لا يملك البيع بالنسيئة, ولا بما لا يتغابن الناس في مثله وهي من مسائل كتاب الوكالة وله أن يشتري ما بدا له من سائر أنواع التجارات في سائر الأمكنة مع سائر الناس لإطلاق العقد وله أن يدفع المال بضاعة لأن الإبضاع من عادة التجار, ولأن المقصود من هذا العقد هو الربح, والإبضاع طريق إلى ذلك, ولأنه يملك الاستئجار, فالإبضاع أولى؛ لأن الاستئجار استعمال في المال بعوض, والإبضاع استعمال فيه بغير عوض, فكان أولى, وله أن يودع؛ لأن الإيداع من عادة التجار ومن ضرورات التجارة وله أن

 

ج / 6 ص -88-         يستأجر من يعمل في المال؛ لأنه من عادة التجار وضرورات التجارة أيضا؛ لأن الإنسان قد لا يتمكن من جميع الأعمال بنفسه فيحتاج إلى الأجير. وله أن يستأجر البيوت ليجعل المال فيها؛ لأنه لا يقدر على حفظ المال إلا به, وله أن يستأجر السفن والدواب للحمل؛ لأن الحمل من مكان إلى مكان طريق يحصل الربح, ولا يمكنه النقل بنفسه وله أن يوكل بالشراء والبيع؛ لأن التوكيل من عادة التجار, ولأنه طريق الوصول إلى المقصود وهو الربح, فكان بسبيل منه كالشريك, ولأن المضاربة أعم من الوكالة, ويجوز أن يستفاد بالشيء ما هو دونه, بخلاف الوكالة المفردة, أن الوكيل لا يملك أن يوكل غيره بمطلق الوكالة, إلا إذا قيل له: اعمل برأيك؛ لأن المقصود من ذلك ليس هو التجارة وحصول الربح, بل إدخال المبيع في ملكه, وكذا الوكالة الثانية مثل الأولى, والشيء لا يستتبع مثله وكل ما للمضارب أن يعمل بنفسه, فله أن يوكل فيه غيره, وكل ما لا يكون له أن يفعله بنفسه لا يجوز فيه وكالته على رب المال؛ لأنه لما لم يملك أن يعمل بنفسه فبوكيله أولى, وله أن يرهن بدين عليه في المضاربة من مال المضاربة وأن يرتهن بدين له منها على رجل؛ لأن الرهن بالدين والارتهان من باب الإيفاء والاستيفاء, وهو يملك ذلك, فيملك الرهن والارتهان, وليس له أن يرهن بعد نهي رب المال عن العمل ولا بعد موته؛ لأن المضاربة تبطل بالنهي والموت إلا في تصرف ينضر به رأس المال والرهن ليس تصرفا ينضر به رأس المال, فلا يملكه المضارب ولو باع شيئا وأخر الثمن جاز؛ لأن التأخير للثمن عادة التجار. وأما على أصل أبي حنيفة عليه الرحمة فلأن الوكيل بالبيع يملك تأخير الثمن, فالمضارب أولى؛ لأن تصرفه أعم من تصرف الوكيل, إلا أن الوكيل بالبيع إذا أخر الثمن يضمن عندهما والمضارب لا يضمن؛ لأن المضارب يملك أن يستقيل ثم يبيع نسيئة, فيملك التأخير ابتداء فلم يضمن. فأما الوكيل فلا يملك الإقالة, ثم البيع بالنسيئة فإذا أخر ضمن. "وأما" عند أبي يوسف فإنما جاز تأخير المضارب دون الوكيل لهذا المعنى أيضا, وهو أن المضارب يملك أن يشتري السلعة أو يستقيل فيها, ثم يبيعها نساء فيملك تأخير ثمنها والوكيل لا يملك ذلك, وله أن يحتال بالثمن على رجل موسرا كان المحتال عليه أو معسرا؛ لأن الحوالة من عادة التجار؛ لأن الوصول إلى الدين قد يكون أيسر من ذمة المحال عليه منه من ذمة المحيل, بخلاف الوصي إذا احتال بمال اليتيم إن ذلك إن كان أصلح جاز, وإلا فلا؛ لأن تصرف الوصي في مال اليتيم مبني على النظر, وتصرف المضارب مبني على عادة التجار قال محمد: وله أن يستأجر أرضا بيضاء, ويشتري ببعض المال طعاما فيزرعه فيها, وكذلك له أن يقلبها ليغرس فيها نخلا أو شجرا أو رطبا, فذلك كله جائز, والربح على ما شرطا؛ لأن الاستئجار من التجارة؛ لأنه طريق حصول الربح, وكذا هو من عادة التجار فيملكه المضارب, وللمضارب أن لا يسافر بالمال؛ لأن المقصود من هذا العقد استنماء المال, وهذا المقصود بالسفر أوفر ولأن العقد صدر مطلقا عن المكان فيجري على إطلاقه, ولأن مأخذ الاسم دليل عليه؛ لأن المضاربة مشتقة من الضرب في الأرض, وهو السير, قال الله تبارك وتعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} ولأنه طلب الفضل وقد قال الله تعالى عز شأنه: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} وهذا قول أبي حنيفة ومحمد, وهو قول أبي يوسف في رواية محمد عنه. وفي رواية أصحاب الإملاء عنه: ليس له أن يسافر, وروي عنه أنه فرق بين الذي يثبت في وطنه وبين الذي لا يثبت, وبين ما له حمل ومؤنة, وبين ما لا حمل له ولا مؤنة في الشركة, فالمضارب على ذلك وقد ذكرنا وجه كل واحد من ذلك في كتاب الشركة, وقد قال أبو يوسف عن أبي حنيفة رحمه الله: إنه إذا دفع إليه المال بالكوفة وهما من أهليها, فإن أبا حنيفة قال: ليس له أن يسافر بالمال. ولو كان الدفع في مصر آخر غير الكوفة, فللمضارب أن يخرج به حيث شاء, وقد ذكرنا وجه الرواية المشهورة في كتاب الشركة. "وأما" وجه رواية أبي يوسف عنه فهو أن المسافرة بالمال مخاطرة به, فلا يجوز إلا بإذن رب المال نصا أو دلالة, فإذا دفع المال إليه في بلدهما فلم يأذن له بالسفر نصا ولا دلالة, لم يكن له أن يسافر, وإذا دفع إليه في غير بلدهما فقد وجد دلالة الإذن بالرجوع إلى الوطن؛ لأن العادة أن الإنسان لا يأخذ المال مضاربة ويترك بلده, فكان دفع المال في غير بلدهما رضا بالرجوع إلى الوطن, فكان إذنا دلالة وله أن يأذن لعبيد المضاربة بالتجارة في ظاهر الرواية؛ لأن الإذن بالتجارة

 

ج / 6 ص -89-         من التجارة, ومن عادة التجار أيضا وروى ابن رستم عن محمد: أنه لا يملك ذلك بإطلاق المضاربة؛ لأن الإذن بالتجارة أعم من المضاربة, فلا يستتبع ما هو فوقه وله أن يبيعهم إذا لحقهم دين, سواء كان المولى حاضرا أو غائبا؛ لأن البيع في الدين من التجارة, فلا يقف على حضور المولى. ولو جنى عبد المضاربة بأن قتل إنسانا خطأ, وقيمته مثل مال المضارب, بأن كان رأس المال ألف درهم فاشترى بها عبدا قيمته ألف فقتل إنسانا خطأ, لا يخاطب المضارب بالدفع أو الفداء؛ لأن الدفع أو الفداء ليس من التجارة, ولا ملك أيضا للمضارب في رقبته؛ لانعدام الفعل والتدبير في جنايته إلى رب المال؛ لأن رقبته خالص ملكه, ولا ملك للمضارب فيها, بخلاف عبد المأذون إذا جنى أنه يخاطب المأذون بالدفع أو الفداء مع غيبة المولى؛ لأن العبد المأذون في التصرف كالحر؛ لأنه يتصرف لنفسه كالحر, بدليل أنه لا يرجع بالعهدة على المولى. ولو كان متصرفا للمولى لرجع بالعهدة عليه, فلما لم يرجع دل أنه يتصرف لنفسه, وإنما يظهر حق المولى في كسبه عند فراغه عن حاجته, فإذا تعلقت الجناية برقبته صارت مشغولة, فلا يظهر حق المولى فيخاطب بالدفع كالحر. "فأما" المضارب فإنه وكيل رب المال في التصرف حتى يرجع بالعهدة عليه, والوكيل بالشراء لا يخاطب بحكم الجناية, فهو الفرق بين المسألتين فإن اختار رب المال الدفع واختار المضارب الفداء, فله ذلك؛ لأنه بالفداء يستبقي مال المضاربة, وله فيه فائدة في الجملة لتوهم الربح. ولو دفع رب المال أو فدى خرج العبد من المضاربة. "أما" إذا دفع فلا شك فيه؛ لأن بالدفع زال ملكه لا إلى بدل, فصار كأنه هلك وإذا فدى فقد لزمه ضمان ليس من مقتضيات المضاربة, ولأن اختيار الفداء دليل رغبته في عين العبد, فلا يحصل المقصود من العقد وهو الربح؛ لأن ذلك بالبيع. ولو كان قيمة العبد ألفين فجنى جناية خطأ, لا يخاطب المضارب بالدفع أو الفداء إذا كان رب المال غائبا لما قلنا, وليس لأصحاب الجناية على المضارب ولا على الغلام سبيل, إلا أن لهم أن يستوثقوا من الغلام بكفيل إلى أن يقدم المولى, وكذا لا يخاطب المولى بالدفع أو الفداء إذا كان المضارب غائبا, وليس لأحدهما أن يفدي حتى يحضرا جميعا, فإن فدى كان متطوعا بالفداء فإذا حضرا دفعا أو فديا, فإن دفعا فليس لهما شيء, وإن فديا كان الفداء عليهما أرباعا وخرج العبد من المضاربة وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: حضور المضارب ليس بشرط, ويخاطب المولى بحكم الجناية. "وجه" قوله أن نصيب المضارب لم يتعين في الربح لعدم تعين رأس المال؛ لأن التعيين بالقسمة, ولم توجد فبقي المال على حكم ملك رب المال, فكان هو المخاطب بحكم الجناية, فلا يشترط حضور المضارب. "ولهما" أنه إذا كان في المضاربة فضل كان للمضارب ملك في العبد, ولهذا لو أعتقه نفذ إعتاقه في نصيبه, وإذا كان له نصيب في العبد كان فداء نصيبه عليه فلا بد من حضوره. "وأما" قوله أن حقه لم يتعين في الربح لعدم تعيين رأس المال فممنوع, بل تعين ضرورة لزوم الفداء في نصيبه, ولا يلزم إلا بتعيين حقه, ولا يتعين حقه إلا بتعيين رأس المال, ولا يتعين رأس المال إلا بالقسمة, فثبتت القسمة ضرورة فإن اختار أحدهما الدفع والآخر الفداء فلهما ذلك؛ لأن كل واحد منهما مالك لنصيبه فصار كالعبد المشترك, غير أن في العبد المشترك إذا حضر أحد الشريكين وغاب الآخر, يخاطب الآخر بحكم الجناية من الدفع أو الفداء, وههنا لا يخاطب واحد منهما ما لم يحضرا جميعا؛ لأن تصرف أحدهما يتضمن قسمه؛ لأن المال لا يبقى على المضاربة بعد الدفع أو الفداء, والقسمة لا تصح إلا بحضرتهما, والدفع أو الفداء من أحد الشريكين لا يتضمن قسمة ولا حكما في حق الشريك الآخر, فلا يقف على حضوره. وهذا بخلاف العبد المرهون إذا كانت قيمته أكثر من الدين فجنى جناية خطأ أنه يخاطب الراهن والمرتهن بحكم الجناية, فإن اختار أحدهما الدفع والآخر الفداء لم يكن لهما ذلك, ويلزمهما أن يجتمعا على أحد الأمرين؛ لأن الملك هناك واحد فاختلاف اختيارهما يوجب تبعيض موجب الجناية في حق مالك واحد, وهذا لا يجوز, كالعبد الذي ليس برهن, وهنا مالك العبد اثنان فلو اختلف اختيارهما لا يوجب ذلك تبعيض موجب الجناية في حق مالك واحد. وقد قالوا إذا غاب أحدهما وادعيت الجناية على العبد, لم تسمع البينة حتى يحضرا؛ لأن كل واحد منهما له حق العبد, فكان التدبير في الجناية إليهما, فلا يجوز سماع البينة على أحدهما مع غيبة الآخر, وإنما أخذ بالعبد كفيل؛ لأنه لا يؤمن عليه أن يغيب فيسقط

 

ج / 6 ص -90-         حق ولي الجناية؛ لأن حقه تعلق برقبته فكان له أن يستوثق حقه بكفيل, وحقوق العقد في الشراء والبيع ترجع إلى المضارب لا إلى رب المال؛ لأن المضارب هو العاقد فهو الذي يطالب بتسليم المبيع ويطالب بتسليم الثمن, ويقبض المبيع والثمن, ويرد بالعيب ويرد عليه, ويخاصم ويخاصم لما قلنا. ولو اشترى المضارب عبدا معيبا قد علم رب المال بعيبه ولم يعلم به المضارب, فللمضارب أن يرده. ولو كان علم بالعيب ولم يعلم به رب المال لم يكن للمضارب أن يرده؛ لأن حقوق العقد تتعلق بالمضارب لا برب المال, فيعتبر علم المضارب لا علم رب المال. ولو اشترى عبدا فظهر به عيب, فقال رب المال بعد الشراء: رضيت بهذا العبد بطل الرد؛ لأن الملك لرب المال فإذا رضي به فقد أبطل حق نفسه. ولو أن رب المال دفع إليه ألف درهم مضاربة على أن يشتري بها عبد فلان بعينه, ثم يبيعه فاشتراه المضارب ولم يره, فليس له أن يرده بخيار الرؤية, ولا بخيار العيب؛ لأن أمره بالشراء بعد العلم رضا منه بذلك العيب, فكأنه قال بعد الشراء: قد رضيت بخلاف ما إذا أمره بشراء عبد غير معين؛ لأنه لا يعلم أنه يشتري العبد المعيب لا محالة حتى يكون علمه دلالة الرضا به وهل له أن يأخذ بالشفعة في دار اشتراها أجنبي إلى جنب دار المضارب, أو باع رب المال دارا لنفسه, والمضارب شفيعها بدار أخرى من المضاربة ففيه تفصيل نذكره إن شاء الله تعالى. ولو دفع المال إلى رجلين مضاربة فليس لأحدهما أن يبيع ويشتري بغير إذن صاحبه, ولا يعمل أحدهما شيئا مما للمضارب الواحد أن يعمله سواء قال لهما: اعملا برأيكما أو لم يقل؛ لأنه رضي برأيهما ولم يرض برأي أحدهما, فصارا كالوكيلين وإذا أذن له الشريك في شيء من ذلك جاز في قولهم جميعا؛ لأنه لما أذن له فقد اجتمع رأيهما, فصار كأنهما عقدا جميعا"وأما" القسم الذي ليس للمضارب أن يعمله إلا بالتنصيص عليه في المضاربة المطلقة, فليس له أن يستدين على مال المضاربة ولو استدان لم يجز على رب المال, ويكون دينا على المضارب في ماله؛ لأن الاستدانة إثبات زيادة في رأس المال من غير رضا رب المال, بل فيه إثبات زيادة ضمان على رب المال من غير رضاه؛ لأن ثمن المشترى برأس المال في باب المضاربة مضمون على رب المال, بدليل أن المضارب لو اشترى برأس المال ثم هلك المشترى قبل التسليم, فإن المضارب يرجع إلى رب المال بمثله فلو جوزنا الاستدانة على المضاربة لألزمناه زيادة ضمان لم يرض به, وهذا لا يجوز ثم الاستدانة هي أن يشتري المضارب شيئا بثمن دين ليس في يده من جنسه, حتى إنه لو لم يكن في يده شيء من رأس المال من الدراهم والدنانير, بأن كان اشترى برأس المال سلعة, ثم اشترى شيئا بالدراهم أو الدنانير, لم يجز على المضاربة, وكان المشترى له عليه ثمنه من ماله؛ لأنه اشترى بثمن ليس في يده من جنسه, فكان مستدينا على المضاربة, فلم تجز على رب المال وجاز عليه؛ لأن الشراء وجد نفاذا عليه, كالوكيل بالشراء إذا خالف. وسواء كان اشترى بثمن حال أو مؤجل؛ لأنه لما اشترى بما ليس في يده من جنسه صار مستدينا على المضاربة, وهو لا يملك ذلك. ولو كان ما في يد المضارب من العبد أو العرض يساوي رأس المال أو أكثر, فاشترى شيئا للمضاربة بالدراهم والدنانير ليبيع العرض ويؤدي ثمنه منها, لم يجز, سواء كان الثمن حالا أو مؤجلا لما ذكرنا أنه استدانة. ولو باع ما في يده من العرض بالدراهم والدنانير, وحصل ذلك في يده قبل حل الأجل لم ينتفع بذلك؛ لأنه لما خالف في حالة الشراء لزمه الثمن وصارت السلعة له؛ لأنه لم يملك الشراء للمضاربة فوقع العقد له, فلا يصير بعد ذلك للمضاربة. وكذا إذا قبض المضارب مال المضاربة ليس له أن يشتري بأكثر من رأس المال الذي في يده؛ لأن الزيادة تكون دينا, وليس في يده من مال المضاربة ما يؤديه حتى لو اشترى سلعة بألفي درهم ومال المضاربة ألف, كانت حصة الألف من السلعة المشتراة للمضاربة, وحصة ما زاد على الألف للمضارب خاصة له ربح ذلك, وعليه وضيعته, والزيادة دين عليه في ماله؛ لأنه يملك الشراء بالألف ولا يملك الشراء بما زاد عليها للمضاربة, ويملك الشراء لنفسه فوقع له. وكذا إذا قبض المضارب رأس المال وهو قائم في يده, فليس له أن يشتري للمضاربة بغير الدراهم والدنانير من المكيل والموزون والمعدود والثوب الموصوف المؤجل إذا لم يكن في يده شيء من ذلك؛ لأن الشراء بغير المال يكون استدانة على المال. ولو كان في يده من مال المضاربة مكيل أو موزون, فاشترى ثوبا أو عبدا بمكيل أو

 

ج / 6 ص -91-         موزون موصوف في الذمة, كان المشترى للمضارب؛ لأن في يده من جنسه فلم يكن استدانة ولو كان في يده دراهم فاشترى سلعة بدراهم نسيئة, لم يكن استدانة؛ لأن في يده من جنسه. ولو كان في يده دراهم فاشترى بدنانير, أو كان في يده دنانير فاشترى بدراهم فالقياس أن لا يجوز على رب المال وهو قول زفر وفي الاستحسان يجوز. "وجه" القياس أن الدراهم والدنانير جنسان مختلفان حقيقة, فقد اشترى بما ليس في يده من جنسه, فيكون استدانة, كما لو اشترى بالعروض. "وجه" الاستحسان أن الدراهم والدنانير عند التجار كجنس واحد؛ لأنهما أثمان الأشياء, بهما تقدر النفقات وأروش الجنايات وقيمة المتلفات, ولا يتعذر نقل كل واحد منهما إلى الآخر, فكانا بمنزلة شيء واحد, فكان مشتريا بثمن في يده من جنسه. وكذلك. لو اشترى بثمن هو من جنس رأس المال, لكنه يخالفه في الصفة بأن اشترى بدراهم بيض ورأس المال دراهم سود, أو اشترى بصحاح ورأس المال غلة, أو اشترى بدراهم سود ورأس المال دراهم بيض, أو اشترى بدراهم غلة ورأس المال صحاح, فذلك جائز على المضاربة. وقال زفر: لا يجوز شيء من ذلك على المضاربة, ويكون استدانة, ويجعل اختلاف الصفة كاختلاف الجنس. وقال محمد: إن اشترى بما صفته أنقص من صفة رأس المال جاز, وهذا يشير إلى أنه لو اشترى بما صفته أزيد من صفة رأس المال أنه لا يجوز على المضاربة. "ووجهه" أنه إذا اشترى بما صفته أنقص من صفة رأس المال كان في يده ذلك القدر الذي اشترى به ذلك القدر وزيادة فجاز, وإذا اشترى بما صفته أكمل لم يكن في يده القدر الذي اشترى به فلا يجوز على المضارب والصحيح قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله؛ لأنه لما جاز عند اختلاف الجنس, فلأن يجوز عند اختلاف الصفة أولى؛ لأن تفاوت الصفة دون تفاوت الجنس ولو كان رأس المال ألف درهم فاشترى سلعة بألف أو بدنانير أو بفلوس قيمة ذلك ألف, لا يملك أن يشتري بعد ذلك على ألف المضاربة شيئا بألف أخرى أو غير ذلك؛ لأن مال المضاربة كان مستحقا بالثمن الأول, فلو اشترى بعد ذلك لصار مستدينا على مال المضاربة, فلا يملك ذلك, فإن اشترى عليها أولا عبدا بخمسمائة, لا يملك بعد ذلك أن يشتري إلا بقدر خمسمائة؛ لأن الخمسمائة خرجت من المضاربة, وكذلك كل دين يلحق رأس المال؛ لأن ذلك صار مستحقا من رأس المال, فيخرج القدر المستحق من المضاربة, فإذا اشترى بأكثر مما بقي صار مستدينا على مال المضاربة فلا يصح. ولو باع المضارب واشترى وتصرف في مال المضاربة فحصل في يده صنوف من الأموال: من المكيل والموزون والمعدود وغير ذلك من سائر الأموال, ولم يكن في يده دراهم ولا دنانير ولا فلوس, فليس له أن يشتري متاعا بثمن ليس في يده مثله من جنسه وصفته وقدره, بأن اشترى عبدا بكر حنطة موصوفة, فإن اشترى بكر حنطة وسط وفي يده الوسط, أو بكر حنطة جيدة وفي يده جاز, وإن كان في يده أجود مما اشترى به أو أدون, لم يكن للمضاربة وكان للمضارب؛ لأنه إذا لم يكن في يده مثل الثمن صار مستدينا على المضاربة, فلا يجوز وليس اختلاف الصفة هنا كاختلاف الصفة في الدراهم؛ لأن اختلاف الجنس هناك بين الدراهم والدنانير لا يمنع الجواز, فاختلاف الصفة أولى؛ لأنه دونه, واختلاف الجنس هنا يمنع الجواز, فكذا اختلاف الصفة. ثم في جميع ما ذكرنا أنه لا يجوز من المضارب الاستدانة على رب المال يستوي فيه ما إذا قال رب المال: اعمل برأيك أو لم يقل؛ لأن قوله: اعمل برأيك تفويض إليه, فيما هو من المضاربة والاستدانة لم تدخل في عقد المضاربة, فلا يملكها المضارب إلا بإذن رب المال بها نصا, ثم كما لا يجوز للمضارب الاستدانة على مال المضاربة لا يجوز له الاستدانة على إصلاح مال المضاربة, حتى لو اشترى المضارب بجميع مال المضاربة ثيابا, ثم استأجر على حملها أو على قصارتها أو نقلها كان متطوعا في ذلك كله؛ لأنه إذا لم يبق في يده شيء من رأس المال صار بالاستئجار مستدينا على المضاربة فلم يجز عليها, فصار عاقدا لنفسه متطوعا في مال الغير, كما لو حمل متاعا لغيره, أو قصر ثيابا لغيره بغير أمره. وقال محمد: وكذلك إذا صبغها سودا من ماله فنقصها ذلك؛ لأن الاستدانة لا تجوز, ولا يصير شريكا بالسواد؛ لأنه لم يوجب في العين زيادة, بل أوجب نقصانا فيها, ولا يضمن بفعله, سواء قال له: اعمل برأيك أو لم يقل؛ لأنه مأذون فيه بعقد المضاربة, بدليل أنه لو كان في يده فضل, فصبغ الثياب به سودا

 

ج / 6 ص -92-         فنقصها ذلك لم يضمن, وكذلك إذا صبغها بمال نفسه ولو صبغ المتاع بعصفر أو زعفران أو صبغ يزيد فيها, وليس في يده من مال المضاربة شيء, فإن كان لم يقل: اعمل برأيك فهو ضامن, ورب المال بالخيار إن شاء ضمنه قيمة متاعه يوم صبغه, وسلم إليه المتاع, وإن شاء ترك المتاع حتى يباع فيتصرف فيه رب المال بقيمته أبيض, وتصرف المضارب بما زاد الصبغ فيه؛ لأن الصبغ عين مال قائم فما أصاب المتاع فهو مال المضاربة, وما زاد الصبغ فللمضارب خاصة؛ لأن الصبغ استدانة على المال, وذلك لا يجوز فصار الصبغ من غير المضاربة. والمضارب إذا خلط مال نفسه بمال المضاربة, ولم يقل له: اعمل برأيك يضمن وصار كأجنبي خلط المال. ولو صبغ الثياب أجنبي, كان للمالك الخيار إن شاء ضمنه قيمتها, وإن شاء تركها على الشركة, وتضاربا بثمنها على الشركة كذا هذا, وإن كان قال له: اعمل برأيك فلا ضمان عليه؛ لأنه إذا قال ذلك فله أن يخلط مال نفسه بمال المضاربة, والصبغ على ملكه فلا يضمن بخلطه, وصار المتاع بينهما, فإذا بيع المتاع قسم الثمن على قيمة الثوب أبيض, فما أصاب ذلك كان في المضاربة, وما أصاب الصبغ كان للمضارب, وإذا أذن للمضارب أن يستدين على مال المضاربة جاز له الاستدانة, وما يستدينه يكون شركة بينهما شركة وجوه, وكان المشترى بينهما نصفين؛ لأنه لا يمكن أن يجعل المشترى بالدين مضاربة؛ لأن المضاربة لا تجوز إلا في مال عين فتجعل شركة وجوه, ويكون المشترى بينهما نصفين؛ لأن مطلق الشركة يقتضي التساوي. وسواء كان الربح بينهما في المضاربة نصفين أو أثلاثا؛ لأن هذه شركة على حدة فلا يبنى على حكم المضاربة, وقد بينا في كتاب الشركة أنه لا يجوز التفاضل في الربح في شركة الوجوه, إلا بشرط التفاضل في الضمان, فإن شرطا التفاضل في الضمان كان الربح كذلك, وإن أطلقا كان المشترى نصفين, لا يجوز فيه التفاضل في الربح, وإذا صارت هذه شركة وجوه, صار الثمن دينا عليهما من غير مضاربة, فلا يملك المضارب أن يرهن به مال المضاربة, إلا بإذن رب المال فإن أذن له أن يرهن بجميع الثمن, فقد أعاره نصف الرهن ليرهن بدينه, وإن هلك صار مضمونا عليه, وليس له أن يقرض مال المضاربة؛ لأن القرض تبرع في الحال, إذ لا يقابله عوض للحال, وإنما يصير مبادلة في الثاني, ومال الغير لا يحتمل التبرع. وكذلك الهبة والصدقة؛ لأن كل واحد منهما تبرع, ولا يأخذ سفتجة؛ لأن أخذها استدانة وهو لا يملك الاستدانة, وكذا لا يعطى سفتجة؛ لأن إعطاء السفتجة إقراض وهو لا يملك الإقراض إلا بالتنصيص عليه, هكذا قال محمد, عن أبي حنيفة أنه قال: ليس له أن يقرض, ولا أن يأخذ سفتجة, حتى يأمره بذلك بعينه, فيقول له: خذ السفاتج وأقرض إن أحببت فأما إذا قال له: اعمل في ذلك برأيك فإنما هذا على البيع والشراء والشركة والمضاربة وخلط المال وهذا قول أبي يوسف, وقولنا لما ذكرنا أن قوله: اعمل في ذلك برأيك تفويض الرأي إليه في المضاربة, والتبرع ليس من عمل المضاربة, وكذا الاستدانة بل هي عند الإذن شركة وجوه, وهي عقد آخر وراء المضاربة, وهو إنما فوض إليه الرأي في المفاوضة خاصة, لا في عقد آخر لا تعلق له بها, فلا يدخل في ذلك وليس أن يشتري بما لا يتغابن الناس في مثله, وإن قال له: اعمل برأيك. ولو اشترى يصير مخالفا؛ لأن المضاربة توكيل بالشراء, والتوكيل بالشراء مطلقا ينصرف إلى المتعارف, وهو أن يكون بمثل القيمة, أو بما يتغابن الناس في مثله, ولأن الشراء بما لا يتغابن في مثله محاباة, والمحاباة تبرع, والتبرع لا يدخل في عقد المضاربة. وليس له أن يعتق على مال؛ لأنه إزالة الملك عن الرقبة بدين في ذمة المفلس, فكان في معنى التبرع, ولأنه ليس بتجارة إذ التجارة مبادلة المال بالمال, وهذا مبادلة العتق بالمال, وليس له أن يكاتب؛ لأن الكتابة ليست بتجارة؛ لانعدام مبادلة المال بالمال؛ لهذا لا يملكه المأذون له في التجارة, وليس له أن يعتق عبدا من المضاربة إذا لم يكن في نفس العبد فضل عن رأس المال, فإن أعتق لم ينفذ؛ لأن العقد السابق لا يفيده, ولأنه لا يملك الإعتاق على مال, وفيه معنى المبادلة, فالإعتاق بغير مال أولى, ولا ملك للمضارب في العبد مما لا ينفذ إعتاقه. وسواء كان في يد المضارب مال آخر سوى العبد, أو لم يكن؛ لأن العبد إذا كان بقدر رأس المال لا فضل فيه لم يتعين للمضارب فيه حق؛ لأنه مشغول برأس المال, بدليل أنه لو هلك ذلك المال يصير العبد رأس المال, وإن كان في نفس العبد المعتق فضل عن رأس المال, جاز إعتاقه في قدر حصته من الربح؛ لأنه إذا كان قيمته أكثر من رأس

 

ج / 6 ص -93-         المال, فقد تعين للمضارب فيه ملك, فينفذ إعتاقه في قدر نصيبه, كعبد بين شريكين أعتقه أحدهما, وكذلك إن كاتب عبدا من المضاربة, أو أعتقه على مال, ولم يكن فيه فضل أنه لم يجز, وإن كان فيه فضل كان كعبد بين شريكين, أعتقه أحدهما على مال, فإذا قبل العبد عتق عليه نصيبه, وكان رب المال بالخيار, ولرب المال فسخ الكتابة قبل الأداء؛ لأنه لا يتضرر به في الحال وفي الثاني أما في الحال, فلا يمتنع عليه بيع نصيبه وهبته ما دام شيء منه فكذا هذا. "وأما" الثاني فلأنه لو أدى وعتق نفسه, يفسد الباقي على رب المال, فأكد دفع هذا الضرر بالفسخ؛ لأن الكتابة قابلة للفسخ, فله أن يفسخ, كأحد الشريكين إذا باع حصته من بيت معين من دار مشتركة بينهما, كان لشريكه نقض بيعه, وإن باع ملك نفسه, لما أن الشريك يتضرر بنفاذ هذا البيع, فإنه متى أراد أن يقسم الدار يحتاج إلى قسمين؛ قسمة البيت مع المشتري, وقسمة بقية الدار مع الشريك الأول, ويتضرر, فكان له نقض البيع دفعا للضرر عنه, فكذا هذا بخلاف ما إذا دبر المضارب نصيبه, أو أعتق إنه ينفذ, وإن كان يتضرر به رب المال؛ لأن الضرر إنما يدفع إذا أمكن, وهناك لا يمكن؛ لأن التدبير والإعتاق تصرفان لا يحتملان الفسخ, بخلاف الكتابة, فإن أدى الكتابة قبل الفسخ عتق لوجود شرط العتق, وهو الأداء, إلا أن لرب المال أن يأخذ مما أداه المكاتب قدر حصته من المؤدى؛ لأنه كسب عبد مشترك بينهما. وكذلك إذا كان رأس المال ألف درهم, فاشترى بها المضارب عبدين قيمة كل واحد منهما ألف, فأعتق أحدهما إنه لا يجوز إعتاقه عند أصحابنا الثلاثة, وعند زفر يجوز إعتاقه في نصيبه منهما؛ لأن رأس المال ليس إلا الألف, فما زاد على ذلك يكون ربحا, ويكون للمضارب فيه نصيب, فينفذ إعتاقه في نصيبه. "ولنا" أنه لم يتعين للمضارب ملك في أحد العبدين؛ لأن كل واحد منهما يجوز أن يكون رأس المال, والآخر ربحا, فليس أحدهما بأن يجعل رأس المال والآخر ربحا, أولى من القلب فيجعل كل واحد منهما كأن ليس معه غيره, ولأن حق المضارب لا يتعين في الربح قبل تعين رأس المال, ورأس المال لم يتعين إلا بتعيين ملك المضارب في الربح. وكذلك لو كان في يد المضارب عشرون عبدا, قيمة كل واحد منهم ألف درهم ورأس المال ألف درهم, إنه لا يجوز عتقه في واحد منهم؛ لأنه لا يتعين للمضارب في واحد منهم ملك؛ لأن كل واحد منهم يصلح أن يكون هو رأس المال, فإذا لم يملك شيئا منهم لم ينفذ إعتاقه, من مشايخنا من قال هذا على أصل أبي حنيفة: أن العبيد والجواري لا يقسمون قسمة واحدة, بل كل شخص يقسم على حدة؛ لأن العبيد والجواري بمنزلة أجناس مختلفة من سائر الأموال, ولا يتعين للمضارب ملك في الأجناس المختلفة من العروض ونحوها فأما على أصل أبي يوسف ومحمد أنهم يقسمون قسمة واحدة بمنزلة الدواب, فظهر الربح فينفذ إعتاقه في قدر نصيبه من الربح, وقال بعض مشايخنا: إن هذا بالاتفاق؛ لأن عندهما إنما يقسم القاضي قسمة واحدة إذا رأى القاضي ذلك, فأما قبل ذلك فلا, بل العبيد بمنزلة الأجناس المختلفة؛ لهذا لا يصح التوكيل بشراء عبد بدون بيان الثمن بالاتفاق, كالتوكيل بشراء ثوب؛ لهذا لو كانت العبيد للخدمة بين اثنين, لا تجب على أحدهما صدقة الفطر بسببهم في عامة الروايات. والأصل أن مال المضاربة إذا كان من جنس واحد, وفيه فضل عن رأس المال, إنه يضم بعضه إلى بعض, ويتعين نصيب المضارب فيما زاد على رأس المال, وإذا كان من جنسين مختلفين, كل واحد منهما مثل رأس المال لا يضم أحدهما إلى الآخر, فلا يتعين للمضارب في أحدهما ملك؛ لاشتغال كل واحد منهما برأس المال, وقد قالوا في هذه المسألة: إن رب المال لو أعتق العبيد نفذ إعتاقه في جميعهم؛ لأنه إذا لم يتعين للمضارب في واحد منهم ملك, نفذ على رب المال فإذا أعتقهم بلفظة واحدة عتقوا, ويضمن حصة المضارب فيهم سواء كان موسرا أو معسرا. "أما" الضمان فلأن المضارب وإن لم يملك شيئا من العبيد, فقد كان له حق أن يتملك, وقد أفسده عليه رب المال فيضمن وإنما استوى فيه اليسار والإعسار؛ لأنه أعتق الكل مباشرة, ونفذ إعتاقه في الكل, فصار متلفا المال عليه, بخلاف ضمان العتق؛ لأنه يعتق نصيب المعتق ابتداء, ثم يسري إلى نصيب الشريك على أصل أبي يوسف ومحمد؛ لذلك اختلف فيه اليسار والإعسار, وكذلك لو اشترى المضارب عبدا من مال المضاربة, فادعى أنه ابنه إنه إن لم يكن فيه فضل لم تجز دعوته, وإن

 

ج / 6 ص -94-         كان فيه فضل جازت دعوته وعتق؛ لأن هذه دعوة تحرير, وإنها مبنية على الملك, فإذا لم يكن فيه فضل فازدادت قيمة رأس المال بعد ذلك, فظهر فيه فضل, جازت دعوته وعتق عليه, وكان كعبد بين اثنين عتق على أحدهما نصيبه بغير فعله, بأن ورث نصيبه, وإنما كان كذلك؛ لأنه لما ادعى النسب ولا ملك له في الحال, كانت دعوته موقوفة على الملك فإذا ازدادت قيمته فقد ملك جزءا منه فنفذت دعوته فيه, كمن ادعى النسب في ملك غيره ثم ملك إنه تنفذ دعوته, بخلاف ما إذا أعتقه ثم ازدادت قيمته, إنه لا ينفذ إعتاقه؛ لأن إنشاء الإعتاق في ملك الغير لا يتوقف, كمن أعتق ملك غيره ثم ملكه, ولا ضمان على المضارب في ذلك؛ لأن العبد عتق من غير صنعه؛ لأنه عتق بزيادة القيمة, والعبد المشترك إذا عتق على أحد الشريكين بغير فعله, لا يضمن للشريك شيئا ولو اشترى أمة قيمتها ألف, ورأس المال ألف, فولدت ولدا يساوي ألفا, فادعى الولد, لا يكون ولده, ولا تكون الأم أم ولد له؛ لأنه ليس لأحدهما فضل على رأس المال هكذا ذكر الكرخي وذكر القدوري رحمه الله أن هذا محمول على أنها علقت قبل أن يشتريها, فأما إذا كان العلوق بعد الشراء فحكم المسألة يتغير؛ لأن المضارب يغرم العقر مائة, فإذا استوفاها رب المال منه جعل المستوفى من رأس المال, فينتقص رأس المال وصار تسعمائة, فيتعين للمضارب ملك فيهما جميعا, فنفذت دعوته ويثبت النسب, وإذا ثبت النسب ضمن المضارب من قيمة الأم سبعمائة, حتى يستوفي رب المال تمام رأس ماله, ثم يغرم خمسين درهما وهو تمام ما بقي من الأم, فظهر أن الولد ربح بينهما فيعتق نصف الولد من المضاربة, ويسعى في النصف لرب المال قال عيسى بن أبان: إن هذا الجواب هو الصحيح وذكر محمد في الأصل مسألة أخرى طعن فيها عيسى, وهو ما إذا اشترى جارية بألف درهم تساوي ألفا, فولدت ولدا يساوي ألفا, فادعاه المضارب, لم يثبت نسبه ويغرم العقر, فإن زادت قيمة الولد حتى صارت ألفين يثبت النسب من المضارب؛ لأنه ملك بعضه لظهور الربح في الولد بزيادة قيمته, فيعتق ربعه عليه, ولا ضمان عليه؛ لأنه عتق بزيادة القيمة, ولا صنع له فيها, ويسعى العبد في ثلاثة أرباع قيمته لرب المال, والجارية على حالها لم تصر أم ولد للمضارب ما لم يستوف رب المال العقر والسعاية؛ لأن المضارب لا يظهر له الربح في الجارية حتى يصل إلى رب المال شيء من المال, فلا يملك شيئا منها ولا صحة للاستيلاد بدون الملك ولو لم تزد قيمة الولد, ولكن زادت قيمة الأم فصارت ألفين, فإن الجارية أم ولد له لظهور الربح فيها بزيادة قيمتها, وعلى المضارب ثلاثة أرباع قيمتها لرب المال, وإن لم يكن له صنع فيها؛ لأن ضمانها ضمان تملك؛ لهذا استوى فيه اليسار والإعسار فيستوي أن يكون بفعله, أو من طريق الحكم ولا يثبت نسب الولد من المضارب؛ لأنه لم يملك من الولد شيئا ما لم يأخذ رب المال شيئا من رأس ماله ولو زادت قيمتهما جميعا فصارت قيمة كل واحد منهما ألف درهم, يثبت نسب الولد وتصير الجارية أم ولد له؛ لأنه ملك بعض كل واحد منهما؛ لأنه ظهر الفضل في كل واحد منهما بزيادة قيمته, ويضمن المضارب لرب المال تمام قيمة الجارية ألفي درهم, وعقر مائة درهم, فظهر أن رب المال استوفى رأس ماله, واستوفى من الربح ألفا ومائة, وللمضارب أن يستوفي من ربح الولد مقدار ألف ومائة فعتق الولد منه بذلك المقدار, وبقي من الولد مقدار تسعمائة ربح بينهما؛ لأن لكل واحد منهما أربعمائة وخمسين, فما أصاب المضارب عتق وما أصاب رب المال سعى فيه الولد قال عيسى: هذا الجواب خطأ, والصحيح أن يقال: يضمن المضارب من الأم ثلاثة أرباع قيمتها ونصف العقر, وبقي الولد ربحا بينهما, يسعى في نصف قيمته لرب المال ويسقط عنه النصف بحصة المضارب قال القدوري رحمه الله: هذا الذي ذكره عيسى هو جواب محمد في المسألة التي قدمناها, إذا لم تزد قيمة كل واحد منهما, وعلى قياس ما قال محمد في المسألة, الزيادة تجب أن يقول: إذا لم تزد قيمتها ينبغي أن يغرم المضارب ألفا ومائة, ثم يستوفي المضارب من الولد مائة, وبقي تسعمائة بينهما فمن أصحابنا من قال: القياس ما أجاب به في المسألة التي لم تزد القيمة فيها, ووجهه أن المضارب لا يغرم بعد ما غرم تمام رأس ماله, إلا نصف ما بقي من الأم؛ لأن نصف ما بقي من الأم ربح بينهما, فلا يجوز أن يغرم الكل, والذي أجاب به في مسألة الزيادة هو الاستحسان؛ لأن في غرم تمام قيمة الجارية تكثير العتق, والعتق والرق إذا اجتمعا غلبت الحرية

 

ج / 6 ص -95-         الرق ومن أصحابنا من قال: إنما افترقت المسألتان لوصفهما؛ لأن سبب العتق في مسألة الزيادة زيادة قيمة الولد وفي المسألة الأخرى سبب العتق قبض رب المال العقر, فلما شارك رب المال المضارب في سبب عتقه أن يجتمع ربحه في الجارية. "وأما" في المسألة الأخرى لما كان عتقه بسبب الزيادة, صرف نصيب رب المال إلى الجارية؛ لأن المضارب قد ملكها وقد قيل أيضا: إن في تلك المسألة إنما قصد تكثير العتق, وفي المسألة الأخرى إذا لم تزد القيمة لا يتبين تكثير العتق؛ لأن الفضل فيما بينهما مقدار نصف العشر, فلا يتبين بذلك المقدار تكثير العتق, وقد قالوا في المضارب: إذا اشترى جارية بألف فولدت ولدا يساوي ألفا, فادعاه رب المال ثبت النسب وعتق الولد, وصارت الجارية أم ولد له, وانتقضت المضاربة, ولا ضمان عليه؛ لأن دعوته صادفت ملكه, فثبت النسب واستندت الدعوة إلى وقت العلوق, ولا قيمة للولد في ذلك الوقت, ولا فضل في المال, فلا تجب عليه القيمة, ولا العقر؛ لأنه وطئ ملك نفسه, وليس له أن يزوج عبدا ولا أمة من مال المضاربة في قول أبي حنيفة ومحمد عليهما الرحمة. وعند أبي يوسف رحمه الله: يزوج الأمة ولا يزوج العبد وقد ذكرنا المسألة في موضع آخر وروى ابن رستم عن محمد أنه ليس له أن يزوج أمة من المضاربة؛ لأنه لا يملك أن يشتري شيئا من مال المضاربة لنفسه, فلا يملك أن يعقد على جارية المضاربة لنفسه, فإن تزوج بإذن رب المال فهو جائز, إذا لم يكن في المال ربح وقد خرجت من المضاربة أما الجواز فلأنه إذا لم يكن في المال ربح لم يكن للمضارب فيها ملك, وإنما له حق التصرف, وأنه لا يمنع النكاح كالعبد المأذون. "وأما" خروج الأمة عن المضاربة, فلأن العادة أن من تزوج أمة حصنها ومنعها من الخروج والبروز, والمضاربة تقتضي العرض على البيع وإبرازها للمشتري, وكان اتفاقهما على التزويج إخراجا إياها عن المضاربة, ويحسب مقدار قيمتها من رأس المال؛ لأنه لما أخرجها من المضاربة صار كأنه استرد ذلك القدر من رأس المال, وقد قال الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: إن المضارب لا يملك أن يزوج أمة من المضاربة لعبد من المضاربة؛ لأن تصرف المضارب يختص بالتجارة, والتزويج ليس من التجارة. وذكر القدوري رحمه الله وقال: ينبغي أن يكون هذا قولهم؛ لأن عند أبي يوسف: إن كان يملك تزويج الأمة, لا يملك تزويج العبد. ولو أخذ المضارب نخلا أو شجرا أو رطبة معاملة على أن ينفق المال, لم يجز على رب المال, وإن كان قال له رب المال حين دفع إليه: اعمل فيه برأيك؛ لأن الأخذ منه معاملة عقد على منافع نفسه, ومنافع نفس المضارب لا تدخل تحت عقد المضاربة, فصار كما لو أجر نفسه للخدمة, ولا يعتبر ما شرط من الإنفاق؛ لأن ذلك ليس بمعقود عليه, بل هو تابع للعمل, كالخيط في إجارة الخياط والصبغ في الصباغة. وكذا لا يعتبر قوله: اعمل برأيك لما ذكرنا أن ذلك يفيد تفويض الرأي إليه في المضاربة, والمضاربة تصرف في المال, وهذا عقد على منافع نفسه, ومنافع نفس المضارب لا يجوز أن يستحق بدلها رب المال ولو أخذ أرضا مزارعة على أن يزرعها, فما خرج من ذلك كان نصفين, فاشترى طعاما ببعض المزارعة فزرعه, قال محمد: هذا يجوز إن قال له: اعمل برأيك وإن لم يكن قال له: اعمل برأيك لم يجز؛ لأنه يوجب حقا لرب الأرض في مال رب المال, فيصير كأنه شاركه بمال المضاربة وإنه لا يملك الإشراك بإطلاق العقد ما لم يقل: اعمل برأيك فإذا قال: ملك كذا هذا. وقال الحسن بن زياد: إن الأرض والبذر والبقر إذا كان من قبل رب الأرض, والعمل على المضارب, لم يكن ذلك على المضاربة بل يكون للمضارب خاصة, لما ذكرنا أنه عقد على منافع نفسه, فكان له بدل منافع نفسه, فلا يستحقه رب المال, وكذلك إذا شرط البقر على المضارب؛ لأن العقد وقع على منفعته, وإنما البقر آلة العمل, والآلة تبع ما لم يقع عليها العقد ولو دفع المضارب أيضا بغير بذر مزارعة جازت, سواء قال: اعمل برأيك أو لم يقل؛ لأنه لم يوجب شركة في مال رب المال, إنما أجر أرضه, والإجارة داخلة تحت عقد المضاربة والله عز وجل أعلم. "وأما" القسم الذي للمضارب أن يعمله إذا قيل له: اعمل برأيك وإن لم ينص عليه, فالمضاربة والشركة والخلط, فله أن يدفع مال المضاربة مضاربة إلى غيره, وأن يشارك غيره في مال المضاربة شركة عنان, وأن يخلط مال المضاربة بمال نفسه, إذا قال له رب المال: اعمل برأيك وليس له أن يعمل شيئا من ذلك, إذا لم يقل له ذلك أما المضاربة فلأن المضاربة مثل المضاربة

 

ج / 6 ص -96-         والشيء لا يستتبع مثله, فلا يستفاد بمطلق عقد المضاربة مثله, ولهذا لا يملك الوكيل التوكيل بمطلق العقد كذا هذا. "وأما" الشركة فهي أولى أن لا يملكها العقد؛ لأنها أعم من المضاربة, والشيء لا يستتبع مثله, فما فوقه أولى. "وأما" الخلط فلأنه يوجب في مال رب المال حقا لغيره, فلا يجوز إلا بإذنه, وإن لم يقل له ذلك, فدفع المضارب مال المضاربة مضاربة إلى غيره فنقول: لا يخلو من وجوه, إما أن كانت المضاربتان صحيحتين, وإما أن كانتا فاسدتين, وإما أن كانت إحداهما صحيحة, والأخرى فاسدة فإن كانتا صحيحتين فإن المال لا يكون مضمونا على المضارب الأول بمجرد الدفع إلى الثاني, حتى لو هلك المال في يد الثاني قبل أن يعمل يهلك أمانة وهذا قول أصحابنا الثلاثة. وقال زفر: يصير مضمونا بنفس الدفع, عمل الثاني أو لم يعمل, وإذا هلك قبل العمل يضمن, وهو رواية عن أبي يوسف أيضا. "وجه" قول زفر أن رب المال إذا لم يقل للمضارب: اعمل برأيك لم يملك دفع المال مضاربة إلى غيره, فإذا دفع صار بالدفع مخالفا, فصار ضامنا كالمودع إذا أودع. "ولنا" أن مجرد الدفع إيداع منه, وهو يملك إيداع مال المضاربة, فلا يضمن بالدفع وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا ضمان على الأول حتى يعمل الثاني ويربح, فإذا عمل به وربح كان ضامنا حين ربح, وإن عمل في المال فلم يربح حتى ضاع من يده, فلا ضمان عليه وروى محمد عن أبي يوسف أنه لا ضمان عليه حتى يعمل به الثاني, فإذا عمل ضمن, ربح الثاني أو لم يربح وهكذا روى ابن سماعة والفضل بن غانم, عن أبي يوسف, وهو قول محمد رحمه الله وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي: أن هذا ظاهر الرواية عن أبي حنيفة. "وجه" قولهما أنه لما عمل فقد تصرف في المال بغير إذن المالك, فيتعين به الضمان سواء ربح أو لم يربح ولأبي حنيفة: لا سبيل إلى التضمين بالدفع؛ لأنه إيداع وإبضاع, ولا بالعمل؛ لأنه ما لم يربح فهو في حكم المبضع, والمبضع لا يضمن بالعمل, ولا يجوز أن يضمن بالشرط؛ لأنه مجرد قول, ومجرد القول في ملك الغير, لا يتعلق به ضمان؛ لكنه إذا ربح فقد ثبت له شركة في المال بإثبات المضارب الأول, فصار الأول مخالفا فيضمن, كما لو خلط مال المضاربة بغيره, أو شارك به, وإذا وجب الضمان بالعمل والربح أو بنفس العمل على اختلافهم في ذلك, فرب المال بالخيار إن شاء ضمن الأول, وإن شاء ضمن الثاني. أما على أصل أبي يوسف ومحمد في المودع إذا أودع, فظاهر لوجود سبب وجوب الضمان من كل واحد منهما؛ لأن الأول تعدى بالدفع, والثاني تعدى بالقبض, فصار عندهما كالمودع إذا أودع. وأما على أصل أبي حنيفة في مسألة الوديعة فيحتاج إلى الفرق؛ لأن الضمان عنده على المودع الأول, لا على الثاني, وفي مسألة المضاربة أثبت له خيار تضمين الثاني, لأن المضارب الثاني يعمل في المال لمنفعة نفسه, وهي الربح, فكان عاملا لنفسه, فجاز أن يضمن والمودع الثاني لم يقبض لمنفعة نفسه, بل لمنفعة الأول؛ لحفظ الوديعة فلم يضمن, فإن ضمن المضارب الأول لا يرجع بما ضمن على الثاني, وصحت المضاربة بين الأول والثاني, والربح على ما شرطا؛ لأنه لما تقرر الضمان على الأول, فقد ملك المضمون, وصار كأنه دفع مال نفسه مضاربة إلى الثاني, فكان الربح على ما شرطا؛ لأن الشرط قد صح. وإن ضمن الثاني رجع بما ضمن على الأول, وصار حاصل الضمان على الأول؛ لأن الأول غره بالعقد, فصار مغرورا من جهته, فكان له أن يرجع عليه بما ضمن, كمودع الغاصب, وهو ضمان كفالة في الحقيقة؛ لأن الأول التزم له سلامة المقبوض عن الضمان, ولم يسلم له, بخلاف الرهن, وهو ما إذا غصب رجل شيئا فرهنه فهلك في يد المرتهن, فاختار المالك تضمين المرتهن أنه يرجع على الراهن بما ضمن, ولا يصح عقد الرهن. "ووجه" الفرق أن قبض المرهون شرط صحة الرهن, ولما ضمن المرتهن تبين أن قبضه لم يصح, فتبين أن الرهن لم يصح, إذ لا صحة له بدون القبض, فأما في المضاربة فيضمن الثاني إبطال القبض بعد وجوده؛ لأن المضاربة عقد جائز فكان لبقائه حكم الابتداء, كأنه ابتدأ العقد بعد أداء الضمان, فكان التضمين إبطال القبض بعد وجوده, وذلك لا يبطل المضاربة ألا ترى أن المضارب لو باع المال من رب المال لا تبطل المضاربة وإن بطل قبضه ولو رد المرتهن الرهن على الراهن يبطل الرهن لذلك افترقا وذكر ابن سماعة عن محمد أنه يطيب الربح للأسفل, ولا يطيب للأعلى على قياس قول أبي حنيفة عليه الرحمة؛ لأن استحقاق الأسفل بعمله, ولا خطر في عمله, فيطيب له الربح, فأما الأعلى

 

ج / 6 ص -97-         فإنما يستحق الربح برأس المال, والملك في رأس المال إنما حصل له بالضمان, فلا يخلو عن نوع خبث, فلا يطيب له وإن كانتا فاسدتين فلا ضمان على واحد منهما؛ لأن الأول أجير في مال المضاربة, والثاني أجير الأول, فصار كمن استأجر رجلا يعمل في ماله, فاستأجر الأجير رجلا, وإن كانت إحداهما صحيحة والأخرى فاسدة, فإن كانت الأولى صحيحة والأخرى فاسدة فكذلك لا ضمان على واحد منهما وإن عمل المضارب الثاني في المال؛ لأن المضارب الثاني أجير الأول, والأجير لا يستحق شيئا من الربح, فلم يثبت له شركة في رأس المال, فلا يجب الضمان على الأول ولا على الثاني؛ لأنه لا ضمان على الأجير, وله أجر مثل عمله على المضارب الأول, فلا يجب الضمان على الأول ولا على الثاني؛ لأنه لا ضمان على الأجير, وله أجر مثل عمله على المضارب الأول, وللمضارب الأول ما شرط له من الربح لوقوع المضاربة صحيحة. وإن كانت الأولى فاسدة والثانية صحيحة فكذلك؛ لأن الأول أجير في مال المضاربة, فلا حق له في الربح, فلم ينفذ شرطه فيه, فلا يلزمه الضمان إذ الضمان إنما يجب بإثبات الشركة, ويكون الربح كله لرب المال؛ لأنه ربح حصل في مضاربة فاسدة, وللمضارب الأول أجر مثله؛ لأن عمل الثاني وقع له, فكأنه عمل بنفسه وللثاني على الأول مثل ما شرط له من الربح؛ لأنه عمل مضاربة صحيحة, وقد سمى له أشياء, فهو مستحق للغير فيضمن هذا, إذا لم يقل له رب المال: اعمل برأيك فأما إذا قال له: اعمل برأيك فله أن يدفع مال المضاربة مضاربة إلى غيره؛ لأنه فوض الرأي إليه, وقد رأى أن يدفعه مضاربة, فكان له ذلك, ثم إذا عمل الثاني وربح, كيف يقسم الربح؟ فنقول: جملة الكلام فيه أن رب المال لا يخلو أما إن كان أطلق الربح في عقد المضاربة, ولم يضفه إلى المضارب, بأن قال: على أن ما رزق الله تعالى من الربح فهو بيننا نصفان, أو قال: ما أطعم الله تعالى من ربح فهو بيننا نصفان وإما أن أضافه إلى المضارب, بأن قال: على أن ما رزقك الله تعالى من الربح, أو ما أطعمك الله عز وجل من ربح أو: على أن ما ربحت من شيء, أو ما أصبت من ربح, فإن أطلق الربح ولم يضفه إلى المضارب, ثم دفع المضارب الأول المال إلى غيره مضاربة بالثلث فربح الثاني, فثلث جميع الربح للثاني؛ لأن شرط الأول للثاني قد صح؛ لأنه يملك نصف الربح, فكان ثلث جميع الربح بعض ما يستحقه الأول, فجاز شرطه للثاني, فكان ثلث جميع الربح للثاني, ونصفه لرب المال؛ لأن الأول لا يملك من نصيب رب المال شيئا, فانصرف شرطه إلى نصيبه لا إلى نصيب رب المال, فبقي نصيب رب المال على حاله, وهو النصف, وسدس الربح للمضارب الأول؛ لأنه لم يجعله للثاني فبقي له بالعقد الأول, ويطيب له ذلك؛ لأن عمل المضارب الثاني وقع له, فكأنه عمل بنفسه, كمن استأجر إنسانا على خياطة ثوب بدرهم, فاستأجر الأجير من خاطه بنصف درهم, طاب له الفضل؛ لأن عمل أجيره وقع له, فكأنه عمل بنفسه, كذا هذا. ولو دفع إلى الثاني مضاربة بالنصف, فنصف الربح للثاني, ونصفه لرب المال, ولا شيء للمضارب الأول؛ لأنه جعل جميع ما يستحقه وهو نصف الربح للثاني, وصح جعله؛ لأنه مالك للنصف, والنصف لرب المال بالعقد الأول, وصار كمن استأجر رجلا على خياطة ثوب بدرهم فاستأجر الأجير من خاطه بدرهم. ولو دفعه إليه مضاربة بالثلثين, فنصف الربح لرب المال, ونصفه للمضارب الثاني, ويرجع الثاني على الأول بمثل سدس الربح الذي شرطه له؛ لأن شرط الزيادة إن لم ينفذ في حق رب المال لما لم يرض لنفسه بأقل من نصف الربح, فقد صح فيما بين الأول والثاني؛ لأن الأول غر الثاني بتسمية الزيادة, والغرور في العقود من أسباب وجوب الضمان, وهو في الحقيقة ضمان الكفالة, وهو أن الأول صار ملتزما سلامة هذا القدر للثاني, ولم يسلم له فيغرم للثاني مثل سدس الربح, ولا يصير بذلك مخالفا؛ لأن شرطه لم ينفذ في حق رب المال, فالتحق بالعدم في حقه, فلا يضمن وصار كمن استأجر رجلا لخياطة ثوب بدرهم, فاستأجر الأجير من يخيطه بدرهم ونصف إنه يضمن زيادة الأجرة كذا هذا. ولو أضافه إلى المضارب فدفعه الأول مضاربة إلى غيره بالثلث, أو بالنصف, أو بالثلثين, فجميع ما شرط للثاني من الربح يسلم له, وما شرط للمضارب الأول من الربح يكون بينه وبين رب المال نصفين, بخلاف الفصل الأول. "ووجه" الفرق أن هنا شرط رب المال لنفسه نصف ما رزق الله تعالى للمضارب, أو نصف ما ربح المضارب, فإذا دفع إلى الثاني مضاربة بالثلث كان الذي رزق الله عز وجل المضارب الأول الثلثين, فكان الثلث للثاني والثلثان بين رب المال وبين المضارب الأول نصفين, لكل واحد منهما الثلث

 

ج / 6 ص -98-         وإذا دفع مضاربة بالنصف كان ما رزقه الله تعالى للمضارب الأول النصف, فكان النصف للثاني والنصف بينهما نصفين, وإذا دفعه مضاربة بالثلثين كان الذي رزقه الله تعالى والثلثان للثاني, والثلث بينهما, لكل واحد منهما السدس وفي الفصل الأول رب المال إنما شرط لنفسه نصف جميع ما رزق الله تعالى ونصف جميع الربح, وذلك ينصرف إلى كل الربح. وكذا له أن يخلط مال المضاربة بمال نفسه؛ لأنه فوض الرأي إليه, وقد رأى الخلط وإذا ربح قسم الربح على المالين, فربح ماله يكون له خاصة, وربح مال المضاربة يكون بينهما على الشرط, وكذا له أن يشارك غيره شركة عنان لما قلنا, ويقسم الربح بينهما على الشرط؛ لأن الشرط قد صح وإذا قسم الربح بينهما يكون مال المضاربة مع حصة المضارب من الربح, فيستوفي منها رب المال رأس ماله, وما فضل يكون بينهما على الشرط. "وأما" القسم الذي ليس للمضارب أن يعمله أصلا ورأسا, فشراء ما لا يملك بالقبض وما لا يجوز بيعه فيه إذا قبضه. "أما" الأول فنحو شراء الميتة والدم والخمر والخنزير وأم الولد والمكاتب والمدبر؛ لأن المضاربة تتضمن الإذن بالتصرف الذي يحصل به الربح, والربح لا يحصل إلا بالشراء والبيع, فما لا يملك بالشراء لا يحصل فيه الربح, وما يملك بالشراء لكن لا يقدر على بيعه, لا يحصل فيه الربح أيضا, فلا يدخل تحت الإذن, فإن اشترى شيئا من ذلك كان مشتريا لنفسه لا للمضاربة, فإن دفع فيه شيئا من مال المضاربة يضمن, وإن اشترى ثوبا أو عبدا, أو عرضا من العروض بشيء مما ذكرنا سوى الميتة والدم, فالشراء على المضاربة؛ لأن المبيع هنا مما يملك بالقبض ويجوز بيعه, فكان هذا شراء فاسدا والإذن بالشراء المستفاد بعقد المضاربة يتناول الصحيح والفاسد. "وأما" إذا كان الثمن ميتة أو دما, فما اشترى به لا يكون على المضاربة؛ لأن الميتة والدم لا تملك بالقبض أصلا. "وأما" الثاني فنحو أن يشتري ذا رحم محرم من رب المال, فلا يكون المشترى للمضاربة, بل يكون مشتريا لنفسه؛ لأنه لو وقع شراؤه للمضاربة لعتق على رب المال, فلا يقدر على بيعه بعد ذلك ولا يحصل المقصود من الإذن, فلا يدخل تحت الإذن, ولو اشترى ذا رحم محرم من نفسه, فإن لم يكن في المال ربح فالشراء على المضاربة؛ لأنه لا ملك له فيه فيقدر على بيعه فيحصل المقصود, وإن كان في المال ربح لم يكن الشراء على المضاربة؛ لأنه إذا كان في المضاربة ربح يملك قدر نصيبه من الربح فيعتق ذلك القدر عليه, فلا يقدر على بيعه ولا على بيع الباقي لأنه معتق البعض, وما لا يقدر على بيعه لا يكون للمضاربة لما قلنا. "وأما" المضاربة المقيدة فحكمها حكم المضاربة المطلقة في جميع ما وصفنا, لا تفارقها إلا في قدر القيد والأصل فيه أن القيد إن كان مفيدا يثبت؛ لأن الأصل في الشروط اعتبارها ما أمكن, وإذا كان القيد مفيدا كان يمكن الاعتبار فيعتبر؛ لقول النبي عليه أفضل الصلاة والسلام "المسلمون عند شروطهم" فيتقيد بالمذكور ويبقى مطلقا فيما وراءه على الأصل المعهود في المطلق إذا قيد ببعض المذكور, إنه يبقى مطلقا فيما وراءه, كالعام إذا خص منه بعضه, إنه يبقى عاما فيما وراءه, وإن لم يكن مفيدا لا يثبت بل يبقى مطلقا؛ لأن ما لا فائدة فيه يلغو ويلحق بالعدم. إذا عرفنا هذا فنقول: إذا دفع رجل إلى رجل مالا مضاربة على أن يعمل به في الكوفة فليس له أن يعمل في غير الكوفة؛ لأن قوله على أن من ألفاظ الشرط وأنه شرط مفيد؛ لأن الأماكن تختلف بالرخص والغلاء, وكذا في السفر خطر فيعتبر, وحقيقة الفقه في ذلك أن الإذن كان عدما وإنما يحدث بالعقد, فيبقى فيما وراء ما تناوله العقد على أصل العدم, وكذا لا يعطيها بضاعة لمن يخرج بها من الكوفة؛ لأنه إذا لم يملك الإخراج بنفسه, فلأن لا يملك الأمر بذلك أولى, وإن أخرجها من الكوفة فإن اشترى بها وباع ضمن؛ لأنه تصرف لا على الوجه المأذون فصار فيه مخالفا فيضمن, وكان المشترى لنفسه, له ربحه وعليه وضيعته, لكن لا يطيب له الربح عند أبي حنيفة, ومحمد. وعند أبي يوسف يطيب وإن لم يشتر بها شيئا, حتى ردها إلى الكوفة برئ من الضمان, ورجع المال مضاربة على حاله؛ لأنه عاد إلى الوفاق قبل تقرر الخلاف, فيبرأ عن الضمان, كالمودع إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق. ولو لم يرده حتى هلك قبل التصرف لا ضمان عليه؛ لأنه لما لم يتصرف لم يتقرر الخلاف, فلا يضمن. ولو اشترى ببعضه ورد بعضه فما اشتراه فهو له وما رد رجع على المضاربة؛ لأنه تقرر الخلاف في القدر المشترى, وزال عن القدر المردود ولو دفع إليه على أن يعمل في سوق الكوفة فعمل في الكوفة في غير

 

ج / 6 ص -99-         سوقها فهو جائز على المضاربة استحسانا, والقياس أن لا يجوز. "وجه" القياس أنه شرط عليه العمل في مكان معين, فلا يجوز في غيره, كما لو شرط ذلك في بلد معين. "وجه" الاستحسان أن التقييد بسوق الكوفة غير مفيد؛ لأن البلد الواحد بمنزلة بقعة واحدة, فلا فائدة في التعليق بهذا الشرط فيلغو الشرط ولو قال له: اعمل به في سوق الكوفة, أو: لا تعمل به إلا في سوق الكوفة فعمل في غير سوق الكوفة يضمن؛ لأن قوله: لا تعمل إلا في سوق الكوفة حجر له, فلا يجوز تصرفه بعد الحجر وفي الفصل الأول ما حجر عليه, بل شرط عليه أن يكون عمله في السوق, والشرط غير مفيد فلغا ولو قال له: خذ هذا المال تعمل به في الكوفة لم يجز له العمل في غيرها؛ لأن. في كلمة ظرف فقد جعل الكوفة ظرفا للتصرف الذي أذن له فيه, فلو جاز في غيرها لم تكن الكوفة ظرفا لتصرفه, وكذلك إذا قال له: فاعمل به في الكوفة لما قلنا, ولأن الفاء من حروف التعليق, فتوجب تعلق ما قبلها بما بعدها, وإنما يتعلق إذا لم يجز التصرف في غيرها, وكذلك إذا قال خذ هذا المال بالتصرف بالكوفة؛ لأن الباء حرف إلصاق فتقتضي التصاق الصفة بالموصوف, وهذا يمنع جواز التصرف في غيرها ولو قال: خذ هذا المال مضاربة, واعمل به في الكوفة فله أن يعمله بالكوفة, وحيث ما بدا له, لأن قوله: خذ هذا المال مضاربة, إذن له في التصرف مطلقا وقوله: واعمل به في الكوفة إذن له بالعمل في الكوفة, فكان له أن يعمل في أي موضع شاء, كمن قال لغيره: أعتق عبدا من عبيدي ثم قال له: أعتق عبدي سالما إن له أن يعتق أي عبد شاء, ولا يتقيد التوكيل بإعتاق سالم, كذا هذا إذ المضاربة توكيل بالشراء والبيع ولو قال: خذ هذا المال مضاربة إلى سنة جازت المضاربة عندنا. وقال الشافعي رحمه الله: المضاربة فاسدة. "وجه" قوله أنه إذا وقت للمضاربة وقتا, فيحتمل أنه لا يجوز كونها في الوقت, فلا يفيد العقد فائدة."ولنا" أن المضاربة توكيل, والتوكيل يحتمل التخصيص بوقت دون وقت وذكر الطحاوي وقال: لم يجز عند أصحابنا توقيت المضاربة وقياس قولهم في الوكالة, أنها لا تختص بالوقت؛ لأنهم قالوا: لو وكل رجلا ببيع عبده اليوم, فباعه غدا جاز, كالوكالة المطلقة وما قاله ليس بسديد؛ لأنهم قالوا في الوكيل: إذا قيل له: بعه اليوم, ولا تبعه غدا جاز ذلك, ولم يكن له أن يبيعه غدا. وكذا إذا قيل له: على أن تبيعه اليوم دون غد ولو قال: خذ هذا المال مضاربة بالنصف, على أن تشتري به الطعام أو قال: فاشتر به الطعام أو قال تشتري به الطعام أو قال خذ هذا المال مضاربة بالنصف في الطعام فذلك كله سواء, وليس له أن يشتري سوى الطعام بالإجماع لما ذكرنا, على أن إن للشرط والأصل في الشرط المذكور في الكلام اعتباره, والفاء لتعليق ما قبلها بما بعدها, وقوله: يشتري به الطعام تفسير التصرف المأذون به وقوله في الطعام ففي كلمة ظرف, فإذا دخلت على ما لا يصلح ظرفا تصير بمعنى الشرط, وكل ذلك يقتضي التقييد بالشرط المذكور, وأنه شرط مفيد؛ لأن بعض أنواع التجارة يكون أقرب إلى المقصود من بعض. وكذا الناس مختلفون في ذلك, فقد يهتدي الإنسان إلى بعض التجارة دون بعض, فكان الشرط مفيدا فيتقيد به, ولا يملك أن يشتري غير الطعام, والطعام هو الحنطة ودقيقها, إذ لا يراد به كل ما يتطعم, بل البعض دون البعض, والأمر يختلف باختلاف عادة البلدان, فاسم الطعام في عرفهم لا ينطلق إلا على الحنطة ودقيقها, وكذلك لو ذكر جنسا آخر بأن قال له: خذ هذا المال مضاربة بالنصف, على أن تشتري به الدقيق أو الخبز أو البر أو غير ذلك, ليس له أن يعمل من غير ذلك الجنس بلا خلاف, لكن له أن يشتري ذلك الجنس في المصر وغيره, وأن يبضع فيه, وأن يعمل فيه جميع ما يعمله المضارب في المضاربة المطلقة, لما ذكرنا أن اللفظ المطلق إذا قيد ببعض الأشياء يبقى على إطلاقه فيما وراءه. وقال ابن سماعة: سمعت محمدا قال في رجل دفع إلى رجل مالا مضاربة, فقال له: إن اشتريت به الحنطة فلك من الربح النصف ولي النصف, وإن اشتريت به الدقيق فلك الثلث ولي الثلثان فقال: هذا جائز, وله أن يشتري أي ذلك شاء على ما سمى له رب المال؛ لأنه خيره بين عملين مختلفين, فيجوز كما لو خير الخياط بين الخياطة الرومية والفارسية. ولو دفع إليه على أنه إن عمل في المصر فله ثلث الربح, وإن سافر فله النصف جاز, والربح بينهما على ما شرطا, إن عمل في المصر فله الثلث, وإن سافر فله النصف, ولو اشترى في المصر وباع في السفر, أو اشترى في السفر وباع في المصر فقد روي عن محمد أنه قال: المضاربة في هذا على الشراء, فإن اشترى في المصر فما ربح في ذلك المتاع, فهو على ما شرط في المصر. سواء

 

ج / 6 ص -100-       باعه في المصر أو في غيره؛ لأن المضارب إنما يستحق الربح بالعمل, والعمل يحصل بالشراء, فإذا اشترى في المصر تعين أحد العملين, فلا يتغير بالسفر, وإن عمل ببعض المال في السفر وبالبعض في الحضر, فربح كل واحد من المالين على ما شرط ولو قال له على أن تشتري من فلان وتبيع منه, جاز عندنا وهو على فلان خاصة ليس له أن يشتري ويبيع من غيره. وقال الشافعي رحمه الله: المضاربة فاسدة؛ لأن في تعيين الشخص تضييق طريق الوصول إلى المقصود من التصرف وهو الربح, وتغيير مقتضى العقد؛ لأن مقتضى العقد التصرف مع من شاء. "ولنا" أن هذا شرط مفيد لاختلاف الناس في الثقة والأمانة؛ لأن الشراء من بعض الناس قد يكون أربح لكونه أسهل في البيع, وقد يكون أوثق على المال فكان التقييد مفيدا, كالتقييد بنوع دون نوع وقوله: التعيين يغير مقتضى العقد قلنا: ليس كذلك, بل هو مباشرة العقد مفيدا من الابتداء, وإنه قيد مفيد, فوجب اعتباره ولو قال: على أن تشتري بها من أهل الكوفة وتبيع فاشترى وباع من رجال بالكوفة من غير أهلها, فهو جائز؛ لأن هذا الشرط لا يفيد إلا ترك السفر, كأنه قال: على أن تشتري ممن بالكوفة. وكذلك إذا دفع إليه مالا مضاربة في الصرف, على أن يشتري من الصيارفة ويبيع, كان له أن يشتري من غير الصيارفة ما بدا له من الصرف؛ لأن التقييد بالصيارفة لا يفيد إلا تخصيص البلد, أو النوع فإذا حصل ذلك من صيرفي أو غيره, فهو سواء ولو دفع إليه مالا مضاربة, ثم قال له بعد ذلك: اشتر به البز وبع فله أن يشتري البز وغيره؛ لأنه أذن بالشراء مطلقا, ثم أمره بشراء البز, فكان له أن يشتري ما شاء وهذا كقوله: خذ هذا المال مضاربة, واعمل به بالكوفة إلا أن هناك القيد مقارن, وههنا متراخ, وقد ذكرناه. وذكر القدوري رحمه الله: أن هذا محمول على أنه نهاه بعد الشراء, والحكم في التقييد الطارئ على مطلق العقد أنه إن كان ذلك قبل الشراء يعمل, وإن كان بعد ما اشترى به لا يعمل, إلى أن يبيعه بمال عين, فيعمل التقييد عند ذلك حتى لا يجوز أن يشتري إلا ما قال ولو دفع إليه مالا مضاربة على أن يبيع ويشتري بالنقد, فليس له أن يشتري ويبيع إلا بالنقد؛ لأن هذا التقييد مفيد فيتقيد بالمذكور ولو قال له: بع بنسيئة, ولا تبع بالنقد فباع بالنقد جاز؛ لأن النقد أنفع من النسيئة, فلم يكن التقييد بها مفيدا فلا يثبت القيد, وصار كما لو قال للوكيل: بع بعشرة فباع بأكثر منها جازكذا هذا. "وأما" الذي يرجع إلى عمل رب المال مما له أن يعمله, وما ليس له أن يعمله فقد قال أصحابنا: إذا باع رب المال مال المضاربة بمثل قيمته أو أكثر جاز بيعه, وإذا باع بأقل من قيمته لم يجز, إلا أن يجيزه المضارب, سواء باع بأقل من قيمته مما لا يتغابن الناس فيه, أو مما يتغابن الناس فيه؛ لأن جواز بيع رب المال من طريق الإعانة للمضارب, وليس من الإعانة إدخال النقص عليه, بل هو استهلاك فلا يتحمل قل أو كثر. وعلى هذا لو كان المضارب اثنين, فباع أحدهما بإذن رب المال لم يجز أن يبيعه, إلا بمثل القيمة, أو أكثر إلا أن يجيزه المضارب الآخر؛ لأن أحد المضاربين لا ينفرد بالتصرف بنفس العقد, بل بإذن رب المال, وهو لا يملك التصرف بنفسه إذا كان فيه غبن فلا يملك الأمر به, وإذا اشترى المضارب بمال المضاربة متاعا وفيه فضل, أو لا فضل فيه, فأراد رب المال بيع ذلك فأبى المضارب, وأراد إمساكه حتى يجد ربحا, فإن المضارب يجبر على بيعه, إلا أن يشاء أن يدفعه إلى رب المال؛ لأن منع المالك عن تنفيذ إرادته في ملكه لحق يحتمل الثبوت والعدم, وهو الربح لا سبيل إليه, ولكن يقال له: إن أردت الإمساك فرد عليه ماله وإن كان فيه ربح يقال له: ادفع إليه رأس المال, وحصته من الربح, ويسلم المتاع إليك. ولو أخذ رجل مالا ليعمل لأجل ابنه مضاربة, فإن كان الابن صغيرا لا يعقل البيع, فالمضاربة للأب, ولا شيء للابن من الربح؛ لأن الربح في باب المضاربة يستحق بالمال أو بالعمل, وليس للابن واحد منهما, فإن كان الابن يقدر على العمل فالمضاربة للابن والربح له إن عمل, فإن عمل الأب بأمر الابن فهو متطوع, وإن عمل بغير أمره صار بمنزلة الغاصب؛ لأنه ليس له أن يعمل فيه بغير إذنه, فصار كالأجنبي. وقد قالوا: في المضارب إذا اشترى جارية, فليس لرب المال أن يطأها, سواء كان فيه ربح أو لم يكن أما إذا كان فيه ربح, فلا شك فيه؛ لأن للمضارب فيه ملكا ولا يجوز وطء الجارية المشتركة, وإن لم يكن فيها ربح, فللمضارب فيها حق يشبه الملك, بدليل أن رب المال لا يملك منعه من التصرف. ولو مات كان للمضارب أن يبيعها

 

 

ج / 6 ص -101-       فصارت كالجارية المشتركة. ويجوز شراء رب المال من المضاربة, وشراء المضارب من رب المال, وإن لم يكن في المضاربة ربح في قول أصحابنا الثلاثة, وقال زفر رحمه الله: لا يجوز الشراء بينهما في مال المضاربة. "وجه" قول زفر أن هذا بيع ماله بماله, وشراء ماله بماله إذ المالان جميعا لرب المال, وهذا لا يجوز كالوكيل مع الموكل. "ولنا" أن لرب المال في مال المضاربة ملك رقبة لا ملك تصرف, وملكه في حق التصرف كملك الأجنبي, وللمضارب فيه ملك التصرف لا الرقبة, فكان في حق ملك الرقبة كملك الأجنبي حتى لا يملك رب المال منعه عن التصرف, فكان مال المضاربة في حق كل واحد منهما كمال الأجنبي, لذلك جاز الشراء بينهما ولو اشترى المضارب دارا, ورب المال شفيعها بدار أخرى بجنبها, فله أن يأخذ بالشفعة؛ لأن المشتري وإن كان له في الحقيقة لكنه في الحكم كأنه ليس له, بدليل أنه لا يملك انتزاعه من يد المضارب, ولهذا جاز شراؤه من المضارب. ولو باع المضارب دارا من المضاربة, ورب المال شفيعها فلا شفعة له, سواء كان في الدار المبيعة ربح وقت البيع, أو لم يكن أما إذا لم يكن فيها ربح فلأن المضارب وكيله بالبيع, والوكيل ببيع الدار إذا باع لا يكون للموكل الأخذ بالشفعة وإن كان فيها ربح فأما حصة رب المال فكذلك هو وكيل بيعها. وأما حصة المضارب فلأنا لو أوجبنا فيها الشفعة, لتفرقت الصفقة على المشتري, ولأن الربح تابع لرأس المال, فإذا لم تجب الشفعة في المتبوع, لا تجب في التابع. ولو باع رب المال دارا لنفسه, والمضارب شفيعها بدار أخرى من المضاربة, فإن كان في يده من مال المضاربة وفاء بثمن الدار, لم تجب الشفعة؛ لأنه لو أخذ بالشفعة لوقع لرب المال والشفعة لا تجب لبائع الدار, وإن لم يكن في يده وفاء فإن لم يكن في الدار ربح, فلا شفعة؛ لأنه أخذها لرب المال وإن كان فيه ربح, فللمضارب أن يأخذها لنفسه بالشفعة؛ لأن له نصيبا في ذلك, فجاز أن يأخذها لنفسه ولو أن أجنبيا اشترى دارا إلى جانب دار المضاربة, فإن كان في يد المضارب وفاء بالثمن, فله أن يأخذها بالشفعة للمضاربة, وإن سلم الشفعة بطلت, وليس لرب المال أن يأخذها لنفسه؛ لأن الشفعة وجبت للمضاربة وملك التصرف في المضاربة للمضارب, فإذا سلم جاز بتسليمه على نفسه وعلى رب المال وإن لم يكن في يده وفاء. فإن كان في الدار ربح فالشفعة للمضارب ولرب المال جميعا, فإن سلم أحدهما فللآخر أن يأخذها جميعا لنفسه بالشفعة, كدار بين اثنين وجبت الشفعة لهما وإن لم يكن في الدار ربح فالشفعة لرب المال خاصة؛ لأنه لا نصيب للمضارب فيه. قال أبو يوسف إذا استأجر الرجل أجيرا كل شهر بعشرة دراهم ليشتري له ويبيع, ثم دفع المستأجر إلى الأجير دراهم مضاربة, فالمضاربة فاسدة, والربح كله للدافع, ولا شيء للأجير سوى الأجرة. وقال محمد: المضاربة جائزة ولا شيء للأجير, في الوقت الذي يكون مشغولا بعمل المضاربة. "وجه" قول محمد أنه لما دفع إليه المضاربة فقد اتفقا على ترك الإجارة ونقضها, فما دام يعمل بالمضاربة فلا أجر له, ولأن الإجارة شركة, لهذا لا تقبل التوقيت. ولو شاركه بعد ما استأجره جازت الشركة, فكذا المضاربة ولأبي يوسف أنه لما استأجره فقد ملك عمله, فإذا دفع إليه مضاربة فقد شرط للمضارب ربحا بعمل قد ملكه رب المال, وهذا لا يجوز ولأن المضارب يعمل لنفسه, فلا يجوز أن يستوجب الربح والأجر, ولا يجوز أن ينقض الإجارة بالمضاربة؛ لأن الإجارة أقوى من المضاربة؛ لأنها لازمة, والمضاربة ليست بلازمة والشيء لا ينتقض بما هو أضعف منه وما ذكر محمد أن المضاربة شركة. فالجواب أن الشريك يستحق الربح بالمال, والمضارب بالعمل, ورب المال قد ملك العمل, فلا يجوز أن يستحق المضارب الربح, ولأن الشريك يعمل لنفسه, فكأنه امتنع من عمل الإجارة, فيسقط عنه الأجرة بحصته, والمضارب يعمل لرب المال فبقي عمله على الإجارة ولو اشترى المضارب بمال المضاربة وهو ألف, عبدا قيمته ألف, فقتل عمدا, فلرب المال القصاص؛ لأن العبد ملكه على الخصوص لا حق للمضارب فيه, وإن كانت قيمته ألفين, لم يكن فيه قصاص, وإن اجتمعا؛ لأن ملك كل واحد منهما لم يتعين أما رب المال فلأن رأس المال ليس هو العبد, وإنما هو الدراهم. ولو أراد أن يعين رأس ماله في العبد, كان للمضارب أن يمنعه عن ذلك, حتى يبيع ويدفع إليه من الثمن, وإذا لم يتعين ملك رب المال, لم يتعين ملك المضارب قبل استيفاء رأس المال, وإذا لم يتعين ملكهما في العبد, لم يجب القصاص لواحد منهما وإن اجتمعا, وتؤخذ قيمة العبد

 

ج / 6 ص -102-       من القاتل في ماله في ثلاث سنين؛ لأن القصاص سقط في القتل العمد لمانع مع وجود السبب, فتجب الدية في ماله ويكون المأخوذ على المضاربة يشتري به المضارب ويبيع؛ لأنه بدل مال المضاربة, فيكون على المضاربة كالثمن. وذكر محمد في النوادر: إذا كان في يد المضارب عبدان, قيمة كل واحد منهما ألف, فقتل رجل أحد العبدين عمدا, لم يكن لرب المال عليه قصاص؛ لأن ملك رب المال لم يتعين في العبد المقتول على ما بينا, وعلى القاتل قيمته في ماله, ويكون في المضاربة لما قلنا والأصل أن في كل موضع وجب بالقتل القصاص خرج العبد عن المضاربة, وفي كل موضع وجب بالقتل مال فالمال على المضاربة؛ لأن القصاص إذا استوفي فقد هلك مال المضاربة, وهلاك مال المضاربة يوجب بطلان المضاربة, والقيمة بدل مال المضاربة, فكانت على المضاربة كالثمن. وقال محمد: وإذا اشترى المضارب ببعض مال المضاربة عبدا يساوي ألفا, فقتله رجل عمدا, فلا قصاص فيه, لا لرب المال, ولا للمضارب, ولا لهما إذا اجتمعا أما رب المال فلأنه لو استوفى القصاص لا يصير مستوفيا لرأس المال بالقصاص؛ لأن القصاص ليس بمال ولهذا لو عفا المريض عن القصاص كان من جميع المال, وإذا لم يصر به مستوفيا رأس ماله, يستوفي رأس المال من بقية المال, وإذا استوفى تبين أن العبد كان ربحا, فتبين أنه انفرد باستيفاء القصاص عن عبد مشترك. "وأما" المضارب فلأنه لم يتعين له فيه ملك, ولا يجوز لهما الإجماع على الاستيفاء لهذا المعنى, وهو أن حق كل واحد منهما غير متعين. واختلف أصحابنا في القتل العمد إذا ادعي على عبد المضاربة, أنه هل يشترط حضور الولي لسماع البينة؟ قال أبو حنيفة ومحمد عليهما الرحمة: يشترط. وقال أبو يوسف رحمه الله: لا يشترط. "وجه" قوله أن العبد في باب القصاص مبقى على أصل الحرية, بدليل أنه لو أقر به يجوز إقراره, وإن كذبه الولي فلا يقف سماع البينة عليه على حضور المولى كالحر. "ولهما" أن هذه البينة يتعلق بها استحقاق رقبة العبد, فلا تسمع مع غيبة المولى كالبينة القائمة على استحقاق الملك, والبينة القائمة على جناية الخطإ وقد قالوا جميعا: لو أقر العبد بقتل عمدا, فكذبه المولى والمضارب, لزمه القصاص؛ لأن الإقرار بالقصاص مما لا يملكه المولى من عبده, وهو مما يملك, فيملكه العبد كالطلاق, فإن كان الدم بين شريكين, وقد أقر به العبد فعفا أحدهما, فلا شيء للآخر؛ لأن موجب الجناية انقلب مالا وإقرار العبد غير مقبول في حق المال, فصار كأنه أقر بجناية الخطإ, فإن كان رب المال صدقه في إقراره, وكذبه المضارب, قيل لرب المال: ادفع نصف نصيبك أو: افده وإن كان المضارب صدقه, وكذبه رب المال, قيل للمضارب: ادفع نصيبك أو: افده وصار كأحد الشريكين إذا أقر في العبد بجناية وكذبه الآخر. "وأما" وجوب القصاص على عبد المضاربة, وإن لم يجب بقتله القصاص؛ لأن عدم الوجوب بقتله لكون مستحق الدم غير متعين, فإذا كان هو القاتل, فالمستحق للقصاص هو ولي القتيل, وإنه متعين, وتجوز المرابحة بين رب المال والمضارب, وهو أن يشتري رب المال من مضاربه فيبيعه مرابحة, أو يشتري المضارب من رب المال فيبيعه مرابحة لكن يبيعه على أقل الثمنين إلا إذا بين الأمر على وجهه, فيبيعه كيف شاء وإنما كان كذلك؛ لأن جواز شراء رب المال من المضارب, والمضارب من رب المال ثبت معدولا به عن القياس لما ذكرنا أن رب المال اشترى مال نفسه بمال نفسه, والمضارب يبيع مال رب المال من رب المال إذ المالان ماله, والقياس يأبى ذلك, إلا أنا استحسنا الجواز؛ لتعلق حق المضارب بالمال وهو ملك التصرف, فجعل ذلك بيعا في حقهما لا في حق غيرهما, بل جعل في حق غيرهما ملحقا بالعدم, ولأن المرابحة بيع يجريه البائع من غير بينة واستخلاف, فتجب صيانته عن الجناية, وعن شبه الجناية ما أمكن, وقد تمكنت التهمة في البيع بينهما؛ لجواز أن رب المال باعه من المضارب بأكثر من قيمته ورضي به المضارب؛ لأن الجود بمال الغير أمر سهل, فكان تهمة الجناية ثابتة, والتهمة في هذا الباب ملحقة بالحقيقة, فلا يبيع مرابحة إلا على أقل الثمنين بيان ذلك في مسائل: إذا دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة, فاشترى رب المال عبدا بخمسمائة, فباعه من المضارب بألف, فإن المضارب يبيعه مرابحة على خمسمائة؛ لأنها أقل الثمنين إلا إذا بين الأمر على وجهه, فيبيعه كيف شاء؛ لأن المانع هو التهمة وقد زالت ولو اشترى المضارب عبدا بألف من المضاربة, فباعه من رب المال بألف ومائتين, باعه رب المال مرابحة بألف ومائة, وإن كانت

 

ج / 6 ص -103-       المضاربة بالنصف؛ لأن الربح ينقسم بين رب المال والمضارب, ولا شبهة في حصة المضارب؛ لأنه لا حق فيه لرب المال فصار كأن رب المال اشترى ذلك من أجنبي, وتمكنت الشبهة في حصة رب المال؛ لأنه ماله بعينه فكأنه اشترى من نفسه, فتسقط حصته من الربح إلا إذا بين الأمر على وجهه فيبيعه كيف شاء ولو اشترى رب المال سلعة بألف درهم, تساوي ألفا وخمسمائة, فباعها من المضارب بألف وخمسمائة, فإن المضارب يبيعها مرابحة بألف ومائتين وخمسين إلا إذا بين الأمر على وجهه لما ذكرنا قال ابن سماعة في نوادره عن محمد: سمعت أبا يوسف يقول في مسألة المضاربة وهو آخر ما قال: إذا اشترى رب المال عبدا بألف, فباعه من المضارب بمائة, ورأس المال ألف في يد المضارب, فإن المضارب يبيعه على مائة. وكذا لو اشترى المضارب بألف فباعه من رب المال بمائة, باعه رب المال بمائة يبيعه أبدا على أقل الثمنين؛ لأنه لا تهمة في الأقل, وإنما التهمة في الزيادة فيثبت ما لا تهمة فيه, ويسقط ما فيه تهمة ولو اشتراه رب المال بخمسمائة, فباعه من المضارب بألف ومائة, فإنه يبيعه مرابحة على خمسمائة وخمسين؛ لأن المائة الزيادة على الألف ربح, فنصفها للمضارب, وما اشتراه المضارب من رب المال لنفسه لا تهمة فيه, فيضم حصته من الربح إلى القدر الذي اشترى رب المال به, ويسقط خمسمائة؛ لأنها نصيب رب المال, ويسقط خمسون؛ لأنها حق رب المال من الربح فيبيعه مرابحة على خمسمائة وخمسين ولو اشتراه المضارب بستمائة, باعه مرابحة بخمسمائة؛ لأنه لا فضل في ثمنه عن رأس المال, فيسقط كل الربح ويباع على أقل الثمنين والأصل أن المضارب لا يحتسب شيئا من حصة نفسه حتى يكون ما نقد أكثر من ألف, فيجب من حصته نصف ما زاد على الألف؛ لأنه إذا لم يزد على ألف بأن اشترى بمثل رأس المال, أو بأقل منه وله في المال ربح لم يتعين له في المشترى حق؛ لكونه مشغولا برأس المال, فلا يظهر له الربح كله, كأنه اشترى ولا ربح في يده وعلى هذا القياس تجرى المسائل, فمتى كان شراء المضارب بأقل الثمنين فإن كان للمضارب حصة ضمها إلى أقل الثمنين, وإذا اشترى رب المال من المضارب, يبيعه على أقل الثمنين, ويضم إليه حصة المضارب. ولو كان رب المال اشتراه بخمسمائة, ثم باعه من المضارب بألفين فإن المضارب يبيعه بألف خمسمائة رأس المال, وخمسمائة حصة المضارب من الألفين؛ لأن نصيب رب المال من الثمن ألف وخمسمائة, فتسقط الزيادة فيها على رأس المال, وهو ألف, ويبقى من نصيب رب المال خمسمائة, ونصيب المضارب خمسمائة, ورب المال فيها كالأجنبي فيبيعه مرابحة على ألف ولو كان المضارب اشتراه بألف, ثم باعه من رب المال بألفين, باعه رب المال بألف وخمسمائة؛ لأن الألف رأس مال رب المال, وخمسمائة نصيب المضارب, ورب المال فيها كالأجنبي, وخمسمائة نصيب رب المال فيجب إسقاطها قال ابن سماعة, وروى عن أبي يوسف أنه قال وهو قوله الآخر: إن رب المال إذا اشترى عبدا بعشرة آلاف, ثم باعه من المضارب بمائة, باعه المضارب مرابحة على مائة, وكذلك لو اشترى المضارب بعشرة آلاف, فباعه من رب المال بمائة, باعه رب المال مرابحة على مائة؛ لأن البيع على أقل الثمنين لا تهمة فيه, ولأنه اشتراه بأقل الثمنين, فلا يجوز أن يزيد على الثمن الذي اشتراه فإن قيل: كيف يجوز للمضارب الحط على قول أبي يوسف؟ فالجواب أنه إنما لا يجوز له حطه عند أبي يوسف ومحمد, لحق رب المال, فإذا باعه من رب المال وحط, فقد رضي رب المال بذلك فجاز. "وأما" على قول أبي يوسف الأول الذي أشار إليه ابن سماعة, فهو أن الحط لا يجوز؛ لأنه قال: إذا كان رأس المال ألفا فربح فيه ألفا, ثم اشترى بألفين جارية, ثم باعها من رب المال بألف وخمسمائة, فإن رب المال يبيعها مرابحة على ألف وسبعمائة وخمسين؛ لأن المضارب حط من الثمن خمسمائة, نصفها من نصيبه ونصفها من مال المضاربة وهو يملك الحط في حق نصيبه, ولا يملك ذلك في مال المضاربة في قول أبي يوسف ومحمد, فلم يصح حط نصيب رب المال فلذلك باع مرابحة على ألف وسبعمائة وخمسين, فينبغي على هذا القول إذا باع مرابحة أن يقول: قام علي بكذا. ولا يقول اشتريته بكذا؛ لأن الزيادة لحقت بالثمن حكما, والشراء ينصرف إلى ما وقع العقد به. والصحيح قوله الأخير لما ذكرنا أن عدم جواز الحط في مال المضاربة لحق رب المال, فإذا اشترى هو فقد رضي بذلك, فكأنه أذن للمضارب أن يبيعه بنقصان لأجنبي

 

ج / 6 ص -104-       وذكر محمد في كتاب المضاربة: لو اشترى رب المال عبدا بألف فباعه من المضارب بألفين ألف رأس المال, وألف ربح, فإن المضارب يبيعه مرابحة على ألف وخمسمائة, يسقط من ذلك ربح رب المال, ويبيع على رأس المال, وربح المضارب لما بينا ولو كان رب المال اشترى العبد بخمسمائة, والعبد يساوي ألفين فباعه من المضارب بألفين, فإن المضارب يبيعه مرابحة على ألف؛ لأن رأس المال خمسمائة ونصيب المضارب من المال خمسمائة, وما سوى ذلك ربح رب المال, فلا يثبت حكمه على ما بينا فيما تقدم, إلا أن يبين الأمر على وجهه, فيبيعه كيف شاء؛ لأن المانع من البيع بجميع الثمن التهمة, فإذا بين فقد زالت التهمة, فيجوز البيع. ولو اشتراه رب المال بألف, وقيمته ألف, فباعه من المضارب بألفين؛ ألف مضاربة وألف ربح فإن المضارب يبيعه مرابحة على الألف؛ لأنه لما اشترى ما قيمته ألف ذهب, ربحه, فلم يبق له في المال حصة, وصار كأنه مال رب المال فباعه على رأس ماله. ولو كان رب المال اشتراه بخمسمائة, والمسألة بحالها فإن المضارب يبيعه مرابحة على خمسمائة؛ لأنه لم يبق للمضارب حصة, فصار شراء مال رب المال بعضه ببعض, فيبيعه على رأس المال الأول. ولو كان رب المال اشتراه بألفين وقيمته ألف, فباعه من المضارب بألفين, فإن المضارب يبيعه بألف ولا يبيعه على أكثر من ذلك؛ لأن قيمته ألف, فليس فيه ربح للمضارب يبيعه عليه, ولأن رب المال لما باعه بألفين ما يساوي ألفا, وهما متهمان في حق الغير في العقد, فصار كأنه أخذ ألفا, لا على طريق البيع وباعه العبد بألف, فلا يبيعه بأكثر من ذلك. ولو كان العبد يساوي ألفا وخمسمائة, والمسألة بحالها وقد اشتراه بألف وأراد المضارب أن يبيعه مرابحة, باعه مرابحة على ألف ومائتين وخمسين؛ لأن في العبد ربحا للمضارب, ونصيبه من الربح هو مع رب المال فيه كالأجنبي, فيبيعه على أقل الثمنين مع حصة المضارب من الربح وذكر محمد في الأصل: إذا اشترى المضارب عبدا بألف درهم مضاربة, فباعه من رب المال بألفين, ثم إن رب المال باعه من أجنبي مساومة بثلاثة آلاف درهم, ثم اشتراه المضارب من الأجنبي بألفي درهم, فأراد أن يبيعه مرابحة لم يجز له ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله إلا أن يبين الأمر على وجهه وفي قول أبي يوسف ومحمد, يبيعه مرابحة على ألفين. وهذه فريعة مسألة أخرى مذكورة في البيوع, وهي ما إذا اشترى شيئا فربح فيه ثم ملكه بشراء آخر, فأراد أن يبيعه مرابحة, فإن عند أبي حنيفة يسقط الربح, ويعتبر ما مضى من العقود وفي مسألتنا قد ربح فيه رب المال ألفي درهم؛ لأن المضارب لما اشتراه بألف وباعه من رب المال بألفين, فنصف ذلك الربح لرب المال, وهو خمسمائة, فلما باعه رب المال بثلاثة آلاف, فقد ربح فيه ألفا وخمسمائة؛ لأنه قام عليه بألف وخمسمائة مقدار رأس المال, ونصيب المضارب من الربح إذا ضم إلى ذلك فقد ربح ألفين, فإذا اشتراه المضارب بألفين, وجب أن يطرح الألفين من رأس المال فلا يبقى شيء ولهذا لم يجز البيع مرابحة إلا بعد أن يبين وأما على قولهما فإنما يعتبر العقد الأخير خاصة فالربح في العقد الأول لا يحط عن الثاني فيبيعه مرابحة على جميع الألفين. ولو اشترى المضارب عبدا بألف, فباعه من رب المال بألف وخمسمائة, ثم باعه رب المال من أجنبي بألف وستمائة, ثم إن المضارب اشتراه من الأجنبي بألفي درهم, فأراد أن يبيعه مرابحة, باعه على ألف وأربعمائة على قول أبي حنيفة؛ لأن رب المال قد ربح فيه ستمائة ألا ترى أن المضارب لما اشتراه بألف باعه من رب المال بألف وخمسمائة, فنصيب رب المال من الربح مائتان وخمسون, وكان رب المال اشترى بألف ومائتين وخمسين رأس المال, وحصة المضارب, فلما باعه بألف وستمائة, فقد ربح ثلاثمائة وخمسين, وقد كان ربح مائتين وخمسين بربح المضارب, فوجب أن يحط ذلك المضارب من الثمن, فيبقى ألف وأربعمائة. ولو اشترى المضارب عبدا بألف, فولاه رب المال ثم إن رب المال باعه من أجنبي بألف وخمسمائة, ثم إن المضارب اشتراه من الأجنبي مرابحة بألفين, ثم إن رب المال لما حط من الأجنبي ثلاثمائة, فإن الأجنبي يحط من المضارب أربعمائة؛ لأن رب المال لما حط من الأجنبي ثلاثمائة, استند ذلك الحط إلى العقد فكأن ذلك المقدار لم يكن, فيطرح من رأس المال وتطرح حصته من الربح, وقد كان الأجنبي ربح مثل ثلث الثمن فيطرح مع الثلاثمائة ثلثها, فيصير الحط عن المضارب أربعمائة, فإن أراد المضارب أن يبيع هذا العبد مرابحة, باعه على ألف ومائتين؛ لأن رب المال ربح أربعمائة. ألا ترى أنه لو باعه من

 

ج / 6 ص -105-       الأجنبي فربح خمسمائة, ثم حط عنه ثلاثمائة وهذا الحط من رأس المال والربح جميعا مائتين من رأس المال ومائة من الربح, فلما سقط من الربح مائة, يبقى الربح أربعمائة, فلما اشتراه المضارب بألفين ثم حط عنه أربعمائة, صار شراؤه بألف وستمائة فيطرح عنه مقدار ما ربح فيه رب المال, وهو أربعمائة, فيبيعه على ما بقي وتجوز المرابحة بين المضاربين كما تجوز بين المضارب ورب المال. قال محمد في الأصل: إذا دفع الرجل إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف, ودفع إلى رجل آخر ألف درهم مضاربة بالنصف, فاشترى أحد المضاربين عبدا بخمسمائة من المضاربة, فباعه من المضارب الآخر بألف, فأراد الثاني أن يبيعه مرابحة, باعه على خمسمائة, وهو أقل الثمنين؛ لأن مال المضاربين لرجل واحد, فصار بيع أحدهما من الآخر في حق الأجانب, كبيع الإنسان ملكه بماله, فيبيعه مرابحة على أقل الثمنين. ولو باعه الأول من الثاني بألفين, ألف من المضاربة وألف من مال نفسه, فإن الثاني يبيعه مرابحة على ألف ومائتين وخمسين؛ لأن الثاني اشترى نصفه لنفسه, وقد كان الأول اشترى ذلك النصف بمائتين وخمسين فيبيعه الثاني مرابحة على ألف؛ لأنه لا نصيب لواحد منهما في شراء صاحبه فصارا كالأجنبيين, فأما النصف الذي اشترى الثاني بألف المضاربة, فقد كان الأول اشتراه بمائتين وخمسين, وهو مال واحد فيبيعه على أقل الثمنين. ولو كان الأول اشتراه بألف المضاربة فباعه من الثاني بألفين للمضاربة, ألف رأس المال وألف ربح, فإن الثاني يبيعه مرابحة بألف وخمسمائة؛ لأنه يبيعه على أقل الثمنين وعلى حصته من الربح وأقل الثمنين ألف, وحصة المضارب خمسمائة. ولو كان الأول اشتراه بخمسمائة, والمسألة بحالها باعه الثاني على ألف؛ لأن أقل الثمنين خمسمائة, وحصة المضارب خمسمائة فيبيعه مرابحة على أقل الثمنين وحصة من الربح والربح في المضاربة بينهما على الشرط, والوضيعة على رب المال والقول قول المضارب في دعوى الهلاك؛ لأن المال أمانة في يده. "وأما" الذي يستحقه المضارب بالعمل فالذي يستحقه بعمله في مال المضاربة شيئان, أحدهما: النفقة والكلام في النفقة في مواضع في وجوبها, وفي شرط الوجوب, وفيما فيه النفقة, وفي تفسير النفقة وفي قدرها وفيما تحتسب النفقة منه. "أما" الوجوب فلأن الربح في باب المضاربة يحتمل الوجود والعدم, والعاقل لا يسافر بمال غيره لفائدة تحتمل الوجود والعدم, مع تعجيل النفقة من مال نفسه, فلو لم تجعل نفقته من مال المضاربة لامتنع الناس من قبول المضاربات مع مساس الحاجة إليها, فكان إقدامهما على هذا العقد, والحال ما وصفنا إذنا من رب المال للمضارب بالإنفاق من مال المضاربة, فكان مأذونا في الإنفاق دلالة, فصار كما لو أذن له به نصا, ولأنه يسافر لأجل المال على سبيل التبرع ولا ببدل واجب له لا محالة, فتكون نفقته في المال بخلاف المبضع لا يسافر بمال الغير على وجه التبرع, وبخلاف الأجير؛ لأنه يعمل ببدل لازم في ذمة المستأجر لا محالة فلا يستحق النفقة وهكذا روى ابن سماعة عن محمد في الشريك إذا سافر بالمال, أنه ينفق من المال كالمضارب. "وأما" شرط الوجوب فخروج المضارب بالمال من المصر الذي أخذ المال منه مضاربة, سواء كان المصر مصره أو لم يكن, فما دام يعمل به في ذلك المصر فإن نفقته في مال نفسه لا في مال المضاربة, وإن أنفق شيئا منه ضمن؛ لأن دلالة الإذن لا تثبت في المصر, وكذا إقامته في الحضر لا تكون لأجل المال؛ لأنه كان مقيما قبل ذلك فلا يستحق النفقة ما لم يخرج من ذلك المصر, سواء كان خروجه بالمال مدة سفر أو أقل من ذلك, حتى لو خرج من المصر يوما أو يومين فله أن ينفق من مال المضاربة كذا ذكر محمد عن نفسه وعن أبي يوسف من مكان المضاربة لوجود الخروج من المصر لأجل المال, وإذا انتهى إلى المصر الذي قصده, فإن كان ذلك مصر نفسه, أو كان له في ذلك المصر أهل, سقطت نفقته حين دخل؛ لأنه يصير مقيما بدخوله فيه لا لأجل المال, وإن لم يكن ذلك مصره, ولا له فيه أهل, لكنه أقام فيه للبيع والشراء, لا تسقط نفقته ما أقام فيه, وإن نوى الإقامة خمسة عشر يوما فصاعدا ما لم يتخذ ذلك المصر الذي هو فيه دار إقامة؛ لأنه إذا لم يتخذه دار إقامة, كانت إقامته فيه لأجل المال, وإن اتخذه وطنا كانت إقامته للوطن لا للمال فصار كالوطن الأصلي, فنقول: الحاصل أنه لا تبطل نفقة المضاربة بعد المسافرة بالمال إلا بالإقامة في مصره, أو في مصر يتخذه دار إقامة لما قلنا ولو خرج من المصر الذي دخله للبيع والشراء بنية العود إلى المصر

 

ج / 6 ص -106-       الذي أخذ المال فيه مضاربة, فإن نفقته من مال المضاربة حتى يدخله, فإذا دخله فإن كان ذلك مصره, أو كان له فيه أهل, سقطت نفقته وإلا فلا حتى لو أخذ المضارب مالا بالكوفة وهو من أهل البصرة, وكان قد قدم الكوفة مسافرا, فلا نفقة له في المال ما دام بالكوفة لما قلنا فإذا خرج منها مسافرا فله النفقة حتى يأتي البصرة؛ لأن خروجه لأجل المال, ولا ينفق من المال ما دام بالبصرة؛ لأن البصرة وطن أصلي له, فكان إقامته فيها لأجل الوطن لا لأجل المال, فإذا خرج من البصرة له أن ينفق من المال حتى يأتي الكوفة؛ لأن خروجه من البصرة لأجل المال. وله أن ينفق أيضا ما أقام بالكوفة حتى يعود إلى البصرة؛ لأن وطنه بالكوفة كان وطن إقامة, وأنه يبطل بالسفر, فإذا عاد إليها وليس له وطن, فكان إقامته فيها لأجل المال, فكان نفقته فيه, وكل من كان مع المضارب ممن يعينه على العمل, فنفقته من مال المضاربة حرا كان أو عبدا, أو أجيرا يخدمه أو يخدم دابته؛ لأن نفقتهم كنفقة نفسه؛ لأنه لا يتهيأ له السفر إلا بهم, إلا أن يكون معه عبيد لرب المال بعثهم ليعاونوه, فلا نفقة لهم في مال المضاربة, ونفقتهم على رب المال خاصة؛ لأن إعانة عبد رب المال كإعانة رب المال بنفسه. ورب المال لو أعان المضارب بنفسه في العمل, لم تكن نفقته في مال المضاربة كذا عبيده, فأما عبد المضارب فهو كالمضارب, والمضارب إذا عمل بنفسه في المال, أنفق عليه منه كذا عبده. "وأما" ما فيه النفقة فالنفقة في مال المضاربة, وله أن ينفق من مال نفسه, ما له أن ينفق من مال المضاربة على نفسه, ويكون دينا في المضاربة حتى كان له أن يرجع فيها؛ لأن الإنفاق من المال وتدبيره إليه, فكان له أن ينفق من ماله, ويرجع به على مال المضاربة, كالوصي إذا أنفق على الصغير من مال نفسه إن له أن يرجع بما أنفق على مال الصغير لما قلنا, كذا هذا له أن يرجع بما أنفق في مال المضاربة, لكن بشرط بقاء المال, حتى لو هلك المال لم يرجع على رب المال بشيء كذا ذكر محمد في المضاربة؛ لأن نفقة المضارب من مال المضاربة فإذا هلك هلك بما فيه كالدين يسقط بهلاك الرهن, والزكاة تسقط بهلاك النصاب, وحكم الجناية يسقط بهلاك العبد الجاني."وأما" تفسير النفقة التي في مال المضاربة فالكسوة والطعام والإدام, والشراب وأجر الأجير, وفراش ينام عليه, وعلف دابته التي يركبها في سفره, ويتصرف عليها في حوائجه, وغسل ثيابه ودهن السراج والحطب ونحو ذلك, ولا خلاف بين أصحابنا في هذه الجملة؛ لأن المضارب لا بد له منها فكان الإذن ثابتا من رب المال دلالة. "وأما" ثمن الدواء والحجامة والفصد, والتنور والأدهان, وما يرجع إلى التداوي, وصلاح البدن, ففي ماله خاصة لا في مال المضاربة وذكر الكرخي رحمه الله في مختصره في الدهن خلاف محمد: أنه في مال المضاربة عنده, وذكر في الحجامة والإطلاء بالنورة, والخضاب, قول الحسن بن زياد أنه قال على قياس قول أبي حنيفة: يكون في مال المضاربة والصحيح أنه يكون في ماله خاصة؛ لأن وجوب النفقة للمضارب في المال لدلالة الإذن الثابت عادة, وهذه الأشياء غير معتادة, هذا إذا قضى القاضي بالنفقة, يقضي بالطعام والكسوة, ولا يقضي بهذه الأشياء. "وأما" الفاكهة فالمعتاد منها يجري مجرى الطعام والإدام. وقال بشر في نوادره: سألت أبا يوسف عن اللحم فقال: يأكل كما كان يأكل؛ لأنه من المأكول المعتاد. "وأما" قدر النفقة فهو أن يكون بالمعروف عند التجار من غير إسراف, فإن جاوز ذلك ضمن الفضل؛ لأن الإذن ثابت بالعادة, فيعتبر القدر المعتاد, وسواء سافر برأس المال أو بمتاع عن المضاربة؛ لأن سفره في الحالين لأجل المال, وكذا لو سافر فلم يتفق له شراء متاع من حيث قصد, وعاد بالمال فنفقته ما دام مسافرا في مال المضاربة؛ لأن عمل التجارة على هذا, وهو أن يتفق الشراء في وقت دون وقت, ومكان دون مكان وسواء سافر بمال المضاربة وحده, أو بماله ومال المضاربة, ومال المضاربة لرجل أو رجلين, فله النفقة غير أنه سافر بماله ومال المضاربة, أو بمالين لرجلين, كانت النفقة من المالين بالحصص؛ لأن السفر لأجل المالين, فتكون النفقة فيهما وإن كان أخذ المالين مضاربة لرجل, والآخر بضاعة لرجل آخر, فنفقته في مال المضاربة؛ لأن سفره لأجله لا لأجل البضاعة؛ لأنه متبرع بالعمل بها, إلا أن يتبرع بعمل البضاعة, فينفق من مال نفسه؛ لأنه بدل العمل في المضاربة وليس على رب البضاعة شيء, إلا أن يكون أذن له في النفقة منها؛ لأنه تبرع بأخذ البضاعة فلا يستحق النفقة كالمودع. ولو خلط مال المضاربة بماله وقد أذن له في ذلك, فالنفقة

 

ج / 6 ص -107-       بالحصص؛ لأن سفره لأجل المالين. "وأما" ما تحتسب النفقة منه فالنفقة تحتسب من الربح أولا إن كان في المال ربح, فإن لم يكن فهي من رأس المال؛ لأن النفقة جزء هالك من المال, والأصل أن الهلاك ينصرف إلى الربح, ولأنا لو جعلناها من رأس المال خاصة, أو في نصيب رب المال من الربح لازداد نصيب المضارب في الربح على نصيب رب المال, فإذا رجع المضارب إلى مصره فما فضل عنده من الكسوة والطعام رده إلى المضاربة؛ لأن الإذن له بالنفقة كان لأجل السفر, فإذا انقطع السفر لم يبق الإذن, فيجب رد ما بقي إلى المضاربة. وروى المعلى عن أبي يوسف إذا كان مع الرجل ألف درهم مضاربة, فاشترى عبدا بألفين فأنفق عليه, فهو متطوع في النفقة؛ لأنه لم يبق في يده شيء من رأس المال, فالنفقة تكون استدانة على المال, وهو لا يملك ذلك فصار كالأجنبي إذا أنفق على عبد غيره, إلا أن يكون القاضي أمره بذلك, فإن رفعه إلى القاضي فأمره القاضي بالنفقة عليه, فما أنفق فهو عليهما على قدر رأس المال قال أبو يوسف رحمه الله: وهذه قسمة من القاضي بين المضارب, وبين رب المال إذا قضى بالنفقة, وإنما صارت النفقة دينا بأمر القاضي؛ لأن له ولاية على الغائب في حفظ ماله وهذا من باب الحفظ, فيملك الأمر بالاستدانة عليه, وإنما صار قضاء القاضي بالنفقة قسمة لوجود معنى القسمة, وهو التعيين؛ لأن القاضي لما ألزم المضارب النفقة لأجل نصيبه, فقد عين نصيبه, ولا يتحقق تعيين نصيب المضارب إلا بعد تعيين رأس المال, وهذا معنى القسمة. ولو دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة, فاشترى بها جارية قيمتها ألفان, فالنفقة على المضارب, وعلى رب المال في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد: النفقة على رب المال كذا حقق القدوري رحمه الله الاختلاف. "وجه" قول محمد أن المضارب لم يتعين له ملك؛ لأن رأس المال غير متعين, فكانت الجارية على حكم رب المال, فكانت نفقتها عليه, ويحتسب بها في رأس ماله في رواية عنه, وفي رواية أخرى عنه يقال لرب المال: أنفق إن شئت. "ولهما" أن نصيب المضارب من العبد على ملكه, بدليل أن إعتاقه ينفذ منه, فلا يجوز إلزام رب المال الإنفاق على ملك غيره, فإذا قضى على كل واحد منهما بنفقة نصيبه, فقد تعين الربح ورأس المال, فيكون قسمة, لوجود معنى القسمة وعلى هذا الخلاف, العبد الآبق من المضاربة إذا جاء به رجل وقيمته ألفان, وليس في يده من المضاربة غير العبد إن الجعل عليهما في قول أبي حنيفة, وأبي يوسف؛ لأن العبد على ملكهما وعند محمد: الجعل على رب المال يحسب في رأس ماله إذ هو زيادة في رأس المال, فإذا بيع استوفى رب المال رأس ماله والجعل, وما بقي يكون بينهما على ما اشترط من الربح. قال بشر عن أبي يوسف: إن الجعل لا يحتسب به في مال المضاربة, ويحتسب به فيما بين المضارب ورب المال, فإن كان هناك ربح فالجعل منه, وإلا فهو وضيعة من رأس المال, وإنما لم يلحق الجعل برأس المال في باب المرابحة لأن الذي يلحق رأس المال في المرابحة, ما جرت عادة التجار بإلحاقه به وما جرت عادتهم بإلحاق الجعل, ولأنه نادر غير معتاد, فلا يلحق بالعادة ما ليس بمعتاد, وإنما احتسب به فيما بين المضارب ورب المال؛ لأنه غرم لزم لأجل المال, ويجوز أن يحتسب بالشيء فيما بين المضارب ورب المال, ولا يلحق برأس المال في المضاربة كنفقة المضارب على نفسه. والثاني, ما يستحقه المضارب بعمله في المضاربة الصحيحة وهو الربح المسمى إن كان في المضاربة ربح, وإنما يظهر الربح بالقسمة وشرط جواز القسمة قبض رأس المال, فلا تصح قسمة الربح قبل قبض رأس المال, حتى لو دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف, فربح ألفا فاقتسما الربح, ورأس المال في يد المضارب لم يقبضه رب المال فهلكت الألف التي في يد المضارب بعد قسمتهما الربح, فإن القسمة الأولى لم تصح, وما قبض رب المال فهو محسوب عليه من رأس ماله, وما قبضه المضارب دين عليه يرده إلى رب المال, حتى يستوفي رب المال رأس ماله, ولا تصح قسمة الربح حتى يستوفي رب المال رأس المال. والأصل في اعتبار هذا الشرط ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مثل المؤمن مثل التاجر, لا يسلم له ربحه حتى يسلم له رأس ماله, كذلك المؤمن لا تسلم له نوافله حتى تسلم له عزائمه" فدل الحديث على أن قسمة الربح قبل قبض رأس المال لا تصح؛ ولأن الربح زيادة, والزيادة على الشيء لا تكون إلا بعد سلامة الأصل, ولأن المال إذا بقي في يد المضارب فحكم المضاربة بحالها, فلو صححنا قسمة الربح لثبتت قسمة الفرع قبل الأصل, فهذا لا يجوز وإذا لم تصح

 

ج / 6 ص -108-       القسمة, فإذا هلك ما في يد المضارب, صار الذي اقتسماه هو رأس المال, فوجب على المضارب أن يرد منه تمام رأس المال, فإن قبض رب المال ألف درهم, رأس ماله أولا, ثم اقتسما الربح ثم رد الألف التي قبضها بعينها إلى يد المضارب على أن يعمل بها بالنصف, فهذه مضاربة مستقبلة, فإن هلكت في يده لم تنتقض القسمة الأولى؛ لأن رب المال لما استوفى رأس المال فقد انتهت المضاربة, وصحت القسمة. فإذا رد المال فهذا عقد آخر, فهلاك المال فيه لا يبطل القسمة في غيره, ولو كان الربح في المضاربة الأولى ألفين, واقتسما الربح, فأخذ رب المال ألفا والمضارب ألفا, ثم هلك ما في يد المضارب, فإن القسمة باطلة, وما قبضه رب المال محسوب من رأس المال, ورد المضارب نصف الألف الذي قبض؛ لأنه لما هلك ما في يد المضارب من رأس المال قبل صحة القسمة, صار ما قبضه رب المال رأس ماله, وإذا صار ذلك رأس المال تعين الربح فيما قبضه المضارب بالقسمة, فيكون بينهما على الشرط, فيجب عليه أن يرد نصفه, وكذلك إن كان قد هلك ما قبضه المضارب من الربح, يجب عليه أن يرد نصفه؛ لأنه تبين أنه قبض نصيب رب المال من الربح لنفسه, فصار ذلك مضمونا عليه ولو هلك ما قبض رب المال لم يتعين بهلاكه شيء؛ لأن ما هلك بعد القبض يهلك في ضمان القابض, فبقاؤه وهلاكه سواء. قالوا: ولو اقتسما الربح ثم اختلفا, فقال المضارب: قد كنت دفعت إليك رأس المال قبل القسمة وقال رب المال: لم أقبض رأس المال قبل ذلك فالقول قول رب المال, ويرد المضارب ما قبضه لنفسه تمام رأس المال يحتسب على رأس رب المال بما قبض من رأس ماله, ويتم له رأس المال بما يرده المضارب, فإن بقي شيء بعد ذلك مما قبضه المضارب كان بينهما نصفين, وإنما كان كذلك؛ لأن المضارب يدعي أنها رأس المال, ورب المال ينكر ذلك, والمضارب وإن كان أمينا لكن القول قول الأمين في إسقاط الضمان عن نفسه, لا في التسليم إلى غيره, ولأن المضارب يدعي خلوص ما بقي من المال والربح, ورب المال يجحد ذلك, فلا يقبل قول المضارب في الاستحقاق, فإن أقاما البينة فالبينة بينة المضارب؛ لأنها تثبت إيفاء رأس المال. ولا يقال: الظاهر شاهد للمضارب فيما ادعاه من إيفاء رأس المال, إذ الربح لا يكون إلا بعد الإيفاء, إذ هو شرط صحة قسمة الربح؛ لأنا نقول قد جرت عادة التجار بالمقاسمة مع بقاء رأس المال في يد المضارب, فلم يكن الظاهر شاهدا للمضارب. وذكر ابن سماعة في نوادره عن أبي يوسف في رجل دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة صحيحة, ثم جعل رب المال يأخذ الخمسين والعشرين لنفقته, والمضارب يعمل بالنفقة ويتربح فيما يشتري ويبيع, ثم احتسبا فإنهما يحتسبان برأس المال, ألف درهم يوم يحتسبان, والربح بينهما نصفان, ولا يكون ما أخذ رب المال من النفقة نقصانا من رأس المال ولكنهما يحتسبا رأس المال ألفا من جميع المال, وما بقي من ذلك فهو بينهما نصفان؛ لأنا لو جعلنا المقبوض من رأس المال بطلت المضاربة؛ لأن استرجاع رب المال رأس ماله يوجب بطلان المضاربة, وهما لم يقصدا إبطالها, فيجعل رأس المال فيما بقي؛ لئلا يبطل, هذا إذا كان في المضاربة ربح, فإن لم يكن فيها ربح فلا شيء للمضارب؛ لأن الشرط قد صح, فلا يستحق إلا ما شرط, وهو الربح ولم يوجد. "وأما" الذي يستحقه رب المال, فالربح المسمى إذا كان ربح, وإن لم يكن فلا شيء له على المضارب, هذا كله حكم المضاربة الصحيحة."وأما" حكم المضاربة الفاسدة, فليس للمضارب أن يعمل شيئا مما ذكرنا أن له أن يعمل في المضاربة الصحيحة, ولا يثبت بها شيء مما ذكرنا عن أحكام المضاربة الصحيحة, ولا يستحق النفقة, ولا الربح المسمى, وإنما له أجر مثل عمله, سواء كان في المضاربة ربح أو لم يكن؛ لأن المضاربة الفاسدة في معنى الإجارة الفاسدة, والأجير لا يستحق النفقة ولا المسمى في الإجارة الفاسدة, وإنما يستحق أجر المثل, والربح كله يكون لرب المال؛ لأن الربح نماء ملكه, وإنما يستحق المضارب شطرا منه بالشرط, ولم يصح الشرط فكان كله لرب المال, والخسران عليه, والقول قول المضارب في دعوى الهلاك والضياع والهلاك في المضاربة الفاسدة مع يمينه, هكذا ذكر في ظاهر الرواية وجعل المال في يده أمانة كما في المضاربة الصحيحة وذكر الطحاوي فيه اختلافا, وقال: لا ضمان عليه في قول أبي حنيفة وعندهما يضمن كما في الأجير المشترك إذا هلك المال في يده

 

ج / 6 ص -109-       "فصل": وأما صفة هذا العقد فهو أنه عقد غير لازم, ولكل واحد منهما أعني رب المال والمضارب الفسخ, لكن عند وجود شرطه, وهو علم صاحبه لما ذكرنا في كتاب الشركة, ويشترط أيضا أن يكون رأس المال عينا وقت الفسخ دراهم أو دنانير, حتى لو نهى رب المال المضارب عن التصرف, ورأس المال عروض وقت النهي, لم يصح نهيه وله أن يبيعها؛ لأنه يحتاج إلى بيعها بالدراهم والدنانير؛ ليظهر الربح, فكان النهي والفسخ إبطالا لحقه في التصرف, فلا يملك ذلك, وإن كان رأس المال دراهم أو دنانير وقت الفسخ والنهي, صح الفسخ والنهي, لكن له أن يصرف الدراهم إلى الدنانير, والدنانير إلى الدراهم؛ لأن ذلك لا يعد بيعا لاتحادهما في الثمنية.

"فصل": وأما حكم اختلاف المضارب ورب المال, فإن اختلفا في العموم والخصوص, فالقول قول من يدعي العموم, بأن ادعى أحدهما المضاربة في عموم التجارات, أو في عموم الأمكنة, أو مع عموم من الأشخاص وادعى الآخر نوعا دون نوع ومكانا دون مكان, وشخصا دون شخص؛ لأن قوله: من يدعي العموم موافق للمقصود بالعقد إذ المقصود من العقد هو الربح, وهذا المقصود في العموم أوفر. وكذلك لو اختلفا في الإطلاق والتقييد فالقول قول من يدعي الإطلاق, حتى لو قال رب المال: أذنت لك أن تتجر في الحنطة دون ما سواها وقال المضارب: ما سميت لي تجارة بعينها فالقول قول المضارب مع يمينه؛ لأن الإطلاق أقرب إلى المقصود بالعقد على ما بينا. وقال الحسن بن زياد: إن القول قول رب المال في الفصلين جميعا وقيل: إنه قول زفر. "ووجهه" أن الإذن يستفاد من رب المال, فكان القول في ذلك قوله, فإن قامت لهما بينة, فالبينة بينة مدعي العموم في دعوى العموم والخصوص؛ لأنها تثبت زيادة وفي دعوى التقييد والإطلاق البينة بينة مدعي التقييد؛ لأنها تثبت زيادة فيه, وبينة الإطلاق ساكتة ولو اتفقا على الخصوص؛ لكنهما اختلفا في ذلك الخاص فقال رب المال: دفعت المال إليك مضاربة في البز وقال المضارب: في الطعام فالقول قول رب المال في قولهم جميعا؛ لأنه لا يمكن الترجيح هنا بالمقصود من العقد لاستوائهما في ذلك فترجح بالإذن, وإنه يستفاد من رب المال, فإن أقاما البينة فالبينة بينة المضارب؛ لأن بينته مثبتة وبينة رب المال نافية؛ لأنه لا يحتاج إلى الإثبات, والمضارب يحتاج إلى الإثبات لدفع الضمان عن نفسه, فالبينة المثبتة للزيادة أولى وقد قالوا في البينتين إذا تعارضتا في صفة الإذن وقد وقتتا: إن الوقت الأخير أولى؛ لأن الشرط الثاني ينقض الأول, فكان الرجوع إليه أولى. وإن اختلفا في قدر رأس المال والربح فقال رب المال: كان رأس مالي ألفين, وشرطت لك ثلث الربح. وقال المضارب: رأس المال ألف, وشرطت لي نصف الربح فإن كان في يد المضارب ألف درهم يقر أنها مال المضاربة, فالقول قول المضارب في أن رأس المال ألف, والقول قول رب المال أنه شرط ثلث الربح وهذا قول أبي حنيفة الآخر, وهو قول أبي يوسف, ومحمد. وكان قوله الأول أن القول قول رب المال في الأمرين جميعا, وهو قول زفر. "وجه" قوله الأول أن الربح يستفاد من أصل المال, وقد اتفقا على أن جملة المال مضاربة, وادعى المضارب استحقاقا فيها, ورب المال ينكر ذلك فكان القول قوله, بخلاف ما إذا قال المضارب: بعض هذه الألفين خلطته بها, أو بضاعة في يدي؛ لأنهما ما اتفقا على أن الجميع مال المضاربة, ومن كان في يده شيء فالقول قوله. "وجه" قوله الآخر أن القول في مقدار رأس المال قول المضارب؛ لأنهما اختلفا في مقدار المقبوض, فكان القول قول القابض ألا ترى أنه لو أنكر القبض أصلا, وقال لم أقبض منك شيئا كان القول قوله فكذا إذا أنكر البعض دون البعض, وإنما كان القول قول رب المال في مقدار الربح؛ لأن شرط الربح يستفاد من قبله فكان القول في مقدار المشروط قوله ألا ترى أنه لو أنكر الشرط رأسا, فقال لم أشرط لك ربحا, وإنما دفعت إليك بضاعة كان القول قوله؟ ؟ فكذا إذا أقر بالبعض دون البعض, وإذا كان القول قول المضارب في قدر رأس المال في قوله الأخير, فالقول قول رب المال في مقدار الربح في قولهم: يجعل رأس المال ألف درهم, ويجعل للمضارب ثلث الألف الأخرى, فلا يقبل قول رب المال في زيادة رأس المال, ولا يقبل قول المضارب في زيادة شرط الربح وعلى قوله الأول يأخذ رب المال الألفين جميعا. وإن كان في يده ثلاثة آلاف درهم, والمسألة بحالها أخذ رب المال ألف درهم على قوله الأخير

 

ج / 6 ص -110-       واقتسما ما بقي من المال أثلاثا وعلى قوله الأول, يأخذ رب المال ألفي درهم ويأخذ ثلثي الألف الأخرى لما بينا, وإن كان في يد المضارب قدر ما ذكر أنه قبض من رأس المال أو أقل, ولم يكن في يده أكثر مما أقر, فالقول قول المضارب عندهم جميعا؛ لأنه لا سبيل إلى قبول قول رب المال في إيجاب الضمان على المضارب, فإن جاء المضارب بثلاثة آلاف درهم فقال: ألف رأس المال, وألف ربح, وألف وديعة لآخر, أو مضاربة لآخر, أو بضاعة لآخر, أو شركة لآخر, أو على ألف دين, فالقول في الوديعة والشركة والبضاعة والدين قول المضارب في الأقاويل كلها؛ لأن من في يده شيء فالظاهر أنه له, إلا أن يعترف به لغيره, ولم يعترف لرب المال بهذه الألف, فكان القول قوله فيها. وكل من جعلنا القول قوله في هذا الباب فهو مع يمينه, ومن أقام منهما بينة على ما يدعي من فضل فالبينة بينة كل واحد منهما تثبت زيادة, فبينة رب المال تثبت زيادة في رأس المال, وبينة المضارب تثبت زيادة في الربح. وقال محمد رحمه الله: إذا قال رب المال شرطت لك ثلث الربح وزيادة عشرة دراهم وقال المضارب بل شرطت لي الثلث فالقول قول المضارب؛ لأنهما اتفقا على شرط الثلث, وادعى رب المال زيادة لا منفعة له فيها إلا فساد العقد, فلا يقبل قوله وإن قامت لهما بينة فالبينة بينة رب المال؛ لأنها تثبت زيادة شرط. ولو قال رب المال: شرطت لك الثلث إلا عشرة. وقال المضارب: بل شرطت لي الثلث فالقول قول رب المال؛ لأنه أقر له ببعض الثلث والمضارب يدعي تمام الثلث, فلا يقبل قوله في زيادة شرط الربح, وفي هذا نوع إشكال, وهو أن المضارب يدعي صحة العقد, ورب المال يدعي فساده, فينبغي أن يكون القول قول المضارب والجواب أن دعوى رب المال وإن تعلق به فساد العقد لكنه منكر لزيادة يدعيها المضارب فيعتبر إنكاره؛ لأنه مفيد في الجملة. ولو قال رب المال: شرطت لك نصف الربح وقال المضارب: شرطت لي مائة درهم أو: لم تشترط لي شيئا, ولي أجر المثل فالقول قول رب المال؛ لأن المضارب يدعي أجرا واجبا في ذمة رب المال, ورب المال ينكر ذلك, فيكون القول قوله فإن أقام رب المال البينة على شرط النصف, وأقام المضارب البينة على أنه لم يشترط له شيئا, فالبينة بينة رب المال؛ لأنها مثبتة للشرط وبينة المضارب نافية, والمثبتة أولى. ولو أقام المضارب البينة أنه شرط له مائة درهم فبينته أولى؛ لأن البينتين استويا في إثبات الشرط وبينة المضارب أوجبت حكما زائدا, وهو إيجاب الأجر على رب المال, فكانت أولى وذكر الكرخي رحمه الله أنهم جعلوا حكم المزارعة في هذا الباب حكم المضاربة إلا في هذا الفصل خاصة, وهو أنه إذا أقام رب الأرض والبذر البينة على أنه شرط للعامل نصف الخارج, وقال العامل: شرطت لي مائة قفيز فالبينة بينة الدافع, وفي المضاربة البينة بينة المضارب والفرق بينهما أن المزارعة عقد لازم في جانب العامل, بدليل أن من لا بذر له من جهته, لو امتنع من العمل يجبر عليه, فرجحنا بينة من يدعي الصحة والمضاربة ليست بلازمة, فإن المضارب لو امتنع من العمل لا يجبر عليه, فلم يقع الترجيح بالتصحيح, فرجحنا بإيجاب الضمان وهو الأجر. ولو قال رب المال: دفعت إليك بضاعة وقال المضارب: مضاربة بالنصف أو: مائة درهم فالقول قول رب المال؛ لأن المضارب يستفيد الربح بشرطه, وهو منكر, فكان القول قوله أنه لم يشترط ولأن المضارب يدعي استحقاقا في مال الغير, فالقول قول صاحب المال ولو قال المضارب: أقرضتني المال, والربح لي وقال رب المال: دفعت إليك مضاربة, أو: بضاعة فالقول قول رب المال؛ لأن المضارب يدعي عليه التمليك, وهو منكر, فإن أقاما البينة, فالبينة بينة المضارب؛ لأنها تثبت التمليك, ولأنه لا تنافي بين البينتين لجواز أن يكون أعطاه بضاعة, أو مضاربة, ثم أقرضه ولو قال المضارب: دفعت إلي مضاربة وقال رب المال: أقرضتك فالقول قول المضارب؛ لأنهما اتفقا على أن الأخذ كان بإذن رب المال ورب المال يدعي على المضارب الضمان, وهو ينكر, فكان القول قوله فإن قامت لهما بينة فالبينة بينة رب المال؛ لأنها تثبت أصل الضمان. ولو جحد المضارب المضاربة أصلا, ورب المال يدعي دفع المال إليه مضاربة فالقول قول المضارب؛ لأن رب المال يدعي عليه قبض ماله, وهو ينكر, فكان القول قوله ولو جحد ثم أقر فقد قال ابن سماعة في نوادره: سمعت أبا يوسف قال في رجل دفع إلى رجل مالا مضاربة ثم طلبه منه, فقال: لم تدفع إلي شيئا ثم قال: بلى أستغفر الله العظيم قد دفعت إلي ألف درهم مضاربة ضامن للمال؛ لأنه أمين, والأمين إذا جحد الأمانة ضمن كالمودع. وهذا لأن عقد

 

ج / 6 ص -111-       المضاربة ليس بعقد لازم, بل هو عقد جائز محتمل للفسخ, فكان جحوده فسخا له أو رفعا له, وإذا ارتفع العقد صار المال مضمونا عليه كالوديعة, فإن اشترى بها مع الجحود كان مشتريا لنفسه؛ لأنه ضامن للمال فلا يبقى حكم المضاربة؛ لأن من حكم المضارب أن يكون المال أمانة في يده, فإذا صار ضمنيا لم يبق أمينا, فإن أقر بعد الجحود لا يرتفع الضمان؛ لأن العقد قد ارتفع بالجحود, فلا يعود إلا بسبب جديد, فإن اشترى بها بعد الإقرار فالقياس أن يكون ما اشتراه لنفسه؛ لأنه قد ضمن المال بجحوده فلا يبرأ منه بفعله, وفي الاستحسان يكون ما اشتراه على المضاربة, ويبرأ من الضمان؛ لأن الأمر بالشراء لم يرتفع مع الجحود بل هو قائم مع الجحود؛ لأن الضمان لا ينافي الأمر بالشراء, بدليل أن من غصب من آخر شيئا, فأمر المغصوب منه الغاصب ببيع المغصوب أو بالشراء به صح الأمر, وإن كان المغصوب مضمونا على الغاصب. وإذا بقي الأمر بعد الجحود فإذا اشترى بموجب الأمر وقع الشراء للآمر, ولن يقع الشراء له إلا بعد انتفاء الضمان, وصار كالغاصب إذا باع المغصوب بأمر المالك وسلم أنه يبرأ من الضمان كذا هذا, وقوله: المال صار مضمونا عليه, فلا يبرأ من الضمان بفعله قلنا: العين المضمونة يجوز أن يبرأ الضامن منها بفعله كالمغصوب منه إذا أمر الغاصب أن يجعل المغصوب في موضع كذا, أو يسلمه إلى فلان, إنه يبرأ بذلك من الضمان. وكذلك رجل دفع إلى رجل ألف درهم, فأمره أن يشتري بها عبدا فجحده الألف, ثم أقر بها, ثم اشترى, جاز الشراء, ويكون للآمر وبرئ الجاحد من الضمان ولو اشترى بها عبدا ثم أقر لم يبرأ عن الضمان, وكان الشراء له لما ذكرنا في المضارب. ولو دفع إليه ألفا وأمره أن يشتري بها عبدا بعينه ثم جحد الألف ثم اشترى بها العبد, ثم أقر بالألف فإن العبد للآمر؛ لأن الوكيل بشراء العبد بعينه لا يملك أن يشتريه لنفسه, فتعين أن يكون الشراء للآمر, فصار كأنه أقر ثم اشترى بخلاف المضارب؛ لأنه يملك أن يشتري لنفسه, فلا يحمل على الشراء لرب المال, إلا أن يقر بالمال قبل الشراء. وقال أبو يوسف في المأمور ببيع العبد إذا جحده إياه فادعاه لنفسه, ثم أقر له به: إن البيع جائز, وهو بريء من ضمانه. وكذلك لو دفع إليه عبدا فأمره أن يهبه لفلان فجحده وادعاه لنفسه, ثم أقر له به فباعه, إن البيع جائز وهو بريء من ضمانه. وكذلك إن أمره بعتقه فجحده, وادعاه لنفسه ثم أقر له به فأعتقه جاز عتقه, لما ذكرنا أن الأمر بعد الجحود قائم, فإذا جحد ثم أقر فقد تصرف بأمر رب المال فيبرأ من الضمان ولو باع العبد أو وهبه أو أعتقه, ثم أقر بذلك بعد البيع قال ابن سماعة: ينبغي في قياس ما إذا دفع إليه ألفا, وأمره أن يشتري بها عبدا بعينه, إنه يجوز ويلزم الآمر؛ لأنه لا يملك أن يبيع العبد لنفسه. وقال هشام: سمعت محمدا قال في رجل دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة, فجاء بألف وخمسمائة, فقال: هذه الألف رأس المال, وهذه الخمسمائة ربح وسكت ثم قال: علي دين فيه لفلان كذا كذا قال محمد: القول قول المضارب. وقال الحسن بن زياد: إذا أقر المضارب أنه عمل بالمال, وأن في يده عشرة آلاف, وعلي فيها دين ألف, أو ألفان فقال ذلك في كلام متصل, كان القول قوله مع يمينه, يدفع الدين منه سمى صاحبه, أو لم يسمه, وإن سكت سكتة ثم أقر بذلك وسمى صاحبه أو لم يسمه لم يصدق قال: وهذا قياس قول أبي حنيفة وهذا الذي ذكره الحسن يخالف ما قال محمد "ووجهه" أنه قال: في يدي عشرة آلاف وسكت فقد أقر بالربح, فإذا قال: علي دين ألف فقد رجع عما أقر به؛ لأن الربح لا يكون إلا بعد قضاء الدين والإقرار إذا صح لا يحتمل الرجوع عنه, بخلاف ما إذا قال ذلك متصلا؛ لأن الإقرار لم يستقر بعد, وكان بمنزلة الاستثناء. "وجه" قول محمد إن أقر بالدين في حال يملك الإقرار به, فينفذ إقراره كما إذا قال: هذا ربح وعلي دين وقوله: إن قوله علي دين بعد ما سكت, يكون رجوعا عما أقر به من الربح, ممنوع فإنه يجوز أنه ربح ثم لزمه الدين, ألا ترى أن الرجل يقول: قد ربحت ولزمني دين, وهو يملك الإقرار بالدين, فإذا أقر به صح؟ ولو جاء المضارب بألفين, فقال: ألف رأس المال, وألف ربح ثم قال: ما أربح إلا خمسمائة, ثم هلك المال كله في يد المضارب فإن المضارب يضمن الخمسمائة التي جحدها, ولا ضمان عليه في باقي المال؛ لأن الربح أمانة في يده, فإذا جحده صار غاصبا بالجحود فيضمن إذا هلك, ولو قال المضارب لرب المال: قد دفعت إليك رأس مالك, والذي بقي في يدي ربح ثم رجع فقال: لم أدفعه إليك, ولكن هلك فإنه يضمن ما ادعى دفعه إلى رب المال؛ لأنه صار

 

ج / 6 ص -112-       جاحدا بدعوى الدفع, فيضمن بالجحود. وكذلك لو اختلفا في الربح ثم رجع, فقال: لم أدفعه إليك ولكنه هلك فإنه يضمن ما ادعى دفعه إلى رب المال لما بينا. ولو اختلفا في الربح, فقال رب المال: شرطت لك الثلث وقال المضارب: شرطت لي النصف ثم هلك المال في يد المضارب قال محمد: يضمن المضارب السدس من الربح, يؤديه إلى رب المال من ماله خاصة, ولا ضمان عليه فيما سوى ذلك؛ لأنا قد بينا أن القول في شرط الربح قول رب المال, وإذا كان كذلك فنصيب المضارب الثلث, وقد ادعى النصف, ومن ادعى أمانة في يده ضمنها, لذلك يضمن سدس الربح والله عز وجل الموفق.

"فصل": وأما بيان ما يبطل به عقد المضاربة فعقد المضاربة يبطل بالفسخ, وبالنهي عن التصرف, لكن عند وجود شرط الفسخ والنهي وهو علم صاحبه بالفسخ والنهي, وأن يكون رأس المال عينا وقت الفسخ والنهي, فإن كان متاعا لم يصح, وله أن يبيعه بالدراهم والدنانير حتى ينض كما ذكرنا فيما تقدم وإن كان عينا صح لكن له صرف الدراهم إلى الدنانير, والدنانير إلى الدراهم بالبيع, لما ذكرنا أن ذلك لا يعد بيعا لتجانسهما في معنى الثمنية, وتبطل بموت أحدهما؛ لأن المضاربة تشتمل على الوكالة, والوكالة تبطل بموت الموكل والوكيل وسواء علم المضارب بموت رب المال أو لم يعلم لأنه عزل حكمي فلا يقف على العلم كما في الوكالة, إلا أن رأس المال إذا صار متاعا, فللوكيل أن يبيع حتى يصير ناضا لما بينا, وتبطل بجنون أحدهما إذا كان مطبقا؛ لأنه يبطل أهلية الأمر للآمر, وأهلية التصرف للمأمور, وكل ما تبطل به الوكالة تبطل به المضاربة, وقد تقدم في كتاب الوكالة تفصيله. ولو ارتد رب المال فباع المضارب واشترى بالمال بعد الردة, فذلك كله موقوف في قول أبي حنيفة عليه الرحمة إن رجع إلى الإسلام بعد ذلك نفذ كله, والتحقت ردته بالعدم في جميع أحكام المضاربة وصار كأنه لم يرتد أصلا, وكذلك إن لحق بدار الحرب, ثم عاد مسلما قبل أن يحكم بلحاقه بدار الحرب, على الرواية التي يشترط حكم الحاكم بلحاقه للحكم بموته وصيرورة أمواله ميراثا لورثته. فإن مات أو قتل على الردة, أو لحق بدار الحرب, وقضى القاضي بلحاقه بطلت المضاربة من يوم ارتد على أصل أبي حنيفة عليه الرحمة أن ملك المرتد موقوف إن مات أو قتل, أو لحق فحكم باللحوق, يزول ملكه من وقت الردة إلى ورثته, ويصير كأنه مات في ذلك الوقت, فيبطل تصرف المضارب بأمره لبطلان أهلية الآمر, ويصير كأنه تصرف في ملك الورثة, فإن كان رأس المال يومئذ قائما في يده لم يتصرف فيه ثم اشترى بعد ذلك, فالمشترى وربحه يكون له؛ لأنه زال ملك رب المال عن المال فينعزل المضارب عن المضاربة, فصار متصرفا في ملك الورثة بغير أمرهم, وإن كان صار رأس المال متاعا فبيع المضارب فيه وشراؤه جائز, حتى ينض رأس المال لما ذكرنا في هذه الحالة, لا ينعزل بالعزل والنهي, ولا بموت رب المال, فكذلك ردته, فإن حصل في يد المضارب دنانير ورأس المال دراهم, أو حصل في يده دراهم ورأس المال دنانير, فالقياس أن لا يجوز له التصرف؛ لأن الذي حصل في يده من جنس رأس المال معنى لاتحادهما في الثمنية فيصير كأن عين المال قائم في يده إلا أنهم استحسنوا فقالوا إن باع بجنس رأس المال جاز؛ لأن على المضارب أن يرد مثل رأس المال, فكان له أن يبيع ما في يده كالعروض. وأما على أصل أبي يوسف ومحمد فالردة لا تقدح في ملك المرتد, فيجوز تصرف المضارب بعد ردة رب المال, كما يجوز تصرف رب المال بنفسه عندهما, فإن مات رب المال أو قتل كان موته كموت المسلم في بطلان عقد المضاربة, وكذلك إن لحق بدار الحرب وحكم بلحاقه؛ لأن ذلك بمنزلة الموت, بدليل أن ماله يصير ميراثا لورثته, فبطل أمره في المال, فإن لم يرتد رب المال ولكن المضارب ارتد, فالمضاربة على حالها في قولهم جميعا؛ لأن وقوف تصرف رب المال بنفسه لوقوف ملكه, ولا ملك للمضارب فيما يتصرف فيه, بل الملك لرب المال, ولم توجد منه الردة, فبقيت المضاربة إلا أنه لا عهدة على المضارب, وإنما العهدة على رب المال في قياس قول أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن العهدة تلزم بسبب المال فتكون على رب المال, وصار كما لو وكل صبيا محجورا أو عبدا محجورا, فأما على قولهما فالعهدة عليه؛ لأن تصرفه كتصرف المسلم. وإن مات المضارب أو قتل على الردة بطلت المضاربة؛ لأن موته في الردة كموته قبل الردة, وكذا إذا لحق بدار الحرب وقضي بلحوقه؛ لأن ردته مع اللحاق, والحكم به بمنزلة موته في بطلان تصرفه, فإن لحق المضارب

 

ج / 6 ص -113-       بدار الحرب بعد ردته فباع واشترى هناك, ثم رجع مسلما, فجميع ما اشترى وباع في دار الحرب يكون له, ولا ضمان عليه في شيء من ذلك؛ لأنه لما لحق بدار الحرب صار كالحربي إذا استولى على مال إنسان, ولحق بدار الحرب, إنه يملكه, فكذا المرتد, وأما ارتداد المرأة أو عدم ارتدادها سواء في قولهم جميعا, سواء كان المال لها أو كانت مضاربة؛ لأن ردتها لا تؤثر في ملكها, إلا أن تموت, فتبطل المضاربة كما لو ماتت قبل الردة, أو لحقت بدار الحرب, وحكم بلحاقها, لما ذكرنا أن ذلك بمنزلة الموت, وتبطل بهلاك مال المضاربة في يد المضارب قبل أن يشتري به شيئا في قول أصحابنا؛ لأنه تعين لعقد المضاربة بالقبض فيبطل العقد بهلاكه كالوديعة, وكذلك لو استهلكه المضارب أو أنفقه أو دفعه إلى غيره, فاستهلكه لما قلنا حتى لا يملك أن يشتري به شيئا للمضاربة به, فإن أخذ مثله من الذي استهلكه, كان له أن يشتري به على المضاربة, كذا روى الحسن عن أبي حنيفة؛ لأنه أخذ عوض رأس المال, فكان أخذ عوضه بمنزلة أخذ ثمنه, فيكون على المضاربة. وروى ابن رستم عن محمد أنه لو أقرضها المضارب رجلا, فإن رجع إليه الدراهم بعينها, رجعت على المضاربة؛ لأنه وإن تعدى يضمن لكن زال التعدي فيزول الضمان المتعلق به, وإن أخذ مثلها لم يرجع في المضاربة؛ لأن الضمان قد استقر بهلاك العين, وحكم المضاربة مع الضمان لا يجتمعان. ولهذا يخالف ما رواه الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في الاستهلاك, هذا إذا هلك مال المضاربة قبل أن يشتري المضارب شيئا, فإن هلك بعد الشراء بأن كان مال المضاربة ألفا, فاشترى بها جارية ولم ينقد الثمن البائع حتى هلكت الألف, فقد قال أصحابنا: الجارية على المضاربة ويرجع على رب المال بالألف, فيسلمها إلى البائع, وكذلك إن هلكت الثانية التي قبض يرجع بمثلها على رب المال, وكذلك سبيل الثالثة والرابعة, وما بعد ذلك أبدا حتى يسلم إلى البائع, ويكون ما دفعه أولا رب المال, وما غرم كله من رأس المال, وإنما كان كذلك لأن المضارب متصرف لرب المال, فيرجع بما لحقه من الضمان بتصرفه كالوكيل. غير أن الفرق بين الوكيل والمضارب أن الوكيل إذا هلك الثمن في يده فرجع بمثله إلى الموكل, ثم هلك الثاني لم يرجع على الموكل, والمضارب يرجع في كل مرة, ووجه الفرق أن الوكالة قد انتهت بشراء الوكيل؛ لأن المقصود من الوكالة بالشراء استفادة ملك المبيع لا الربح, فإذا اشترى فقد حصل المقصود فانتهى عقد الوكالة بانتهائه, ووجب على الوكيل الثمن للبائع, فإذا هلك في يده قبل أن ينقده البائع, وجب للوكيل على الموكل مثل ما وجب للبائع عليه, فإذا قبضه مرة فقد استوفى حقه, فلا يجب له عليه شيء آخر فأما المضاربة فإنها لا تنتهي بالشراء؛ لأن المقصود منها الربح, ولا يحصل إلا بالبيع والشراء مرة بعد أخرى, فإذا بقي العقد فكان له أن يرجع ثانيا وثالثا, وما غرم رب المال مع الأول يصير كله رأس المال؛ لأنه غرم لرب المال بسبب المضاربة, فيكون كله من مال المضاربة, ولأن المقصود من هذا العقد هو الربح فلو لم يصر ما غرم رب المال من رأس المال ويهلك مجانا, يتضرر به رب المال؛ لأنه يخسر ويربح المضارب, وهذا لا يجوز. ولو قبض المضارب الألف الأولى فتصرف فيها حتى صارت ألفين, ثم اشترى بها جارية قيمتها ألفان, فهلكت الألفان قبل أن ينقدها البائع, فإنه يرجع على رب المال بألف وخمسمائة, ويغرم المضارب من ماله خمسمائة, وهي حصته من الربح, فيكون ربع الجارية للمضارب خاصة, وثلاثة أرباعها على المضاربة, ورأس المال في هذه الثلاثة الأرباع ألفان وخمسمائة. وإنما كان كذلك؛ لأنه لما اشترى الجارية بألفين فقد اشتراها أرباعا, ربعها للمضارب وثلاثة أرباعها لرب المال؛ لأنه اشتراها بعد ما ظهر ملك المضارب في الربح؛ لأنه اشتراها بألفين, ورأس المال ألف فحصة رب المال من الربح خمسمائة, وحصة المضارب خمسمائة, فما اشتراه لرب المال رجع عليه, وما اشتراه لنفسه فضمانه عليه, وإنما خرج ربح الجارية من المضاربة؛ لأن القاضي لما ألزمه ضمان حصته من الربح فقد عينه, ولا يتعين إلا بالقيمة, فخرج الربح من المضاربة وبقي الباقي على ما كان عليه, وقد لزم رب المال ألف وخمسمائة بسبب المضاربة, فصار ذلك زيادة في رأس المال, فصار رأس المال ألفين وخمسمائة, فإن بيعت هذه الجارية بأربعة آلاف, منها للمضارب ألف؛ لأن ذلك حصته من الربح, فكان ملكه, وبقي ثلاثة آلاف على المضاربة, لرب المال منها ألفان, وخمسمائة رأس ماله, يبقى ربح خمسمائة,

 

ج / 6 ص -114-       فيكون بينهما نصفين على الشرط. ولو كانت الجارية تساوي ألفين, والشراء بألف, وهي مال المضاربة, فضاعت, غرمها رب المال كلها؛ لأن الشراء إذا وقع بألف فقد وقع بثمن, كله رأس المال, وإنما يظهر الربح في الثاني, فيكون الضمان على رب المال, بخلاف الفصل الأول فإن هناك الشراء وقع بألفين فظهر ربح المضارب, وهلك ربع الجارية, فيغرم حصة ذلك الربع من الثمن وروي عن محمد في المضارب إذا اشترى جارية بألفي درهم, ألف ربح, وقيمتها ألف, فضاعت الألفان قبل أن ينقدها البائع, إنه على أن على المضارب الربع, وهو خمسمائة, وعلى رب المال ألف وخمسمائة, وهذا على ما بينا. قال محمد: ولو اشترى جارية تساوي ألفين, بأمة تساوي ألفا, وقبض التي اشتراها, ولم يدفع أمته حتى ماتتا جميعا في يده, فإنه يغرم قيمة التي اشترى, وهي ألف, يرجع بذلك على رب المال؛ لأن المضمون عليه قيمة الجارية التي اشتراها, ولا فضل في ذلك عن رأس المال, وهذا إنما يجوز, وهو أن يشتري المضارب جارية قيمتها ألف بألفين, إذا كان رب المال قال له: اشتر بالقليل والكثير, وإلا فشراء المضارب على هذا الوجه لا يصح في قولهم جميعا, وذكر ابن سماعة عن محمد في موضع آخر في نوادره, في رجل دفع إلى رجل ألف درهم مضاربة بالنصف, فاشترى المضارب وباع حتى صار المال ثلاثة آلاف, فاشترى بثلاثة آلاف ثلاثة أعبد, قيمة كل واحد ألف, ولم ينقد المال حتى ضاع قال: يغرم ذلك كله على رب المال, ويكون رأس المال أربعة آلاف؛ لأن المضارب لم يتعين له ملك في واحد من العبيد؛ لأن كل واحد منهم يجوز أن يكون رأس المال, لهذا لا ينفذ عتقه فيهم, فيرجع بجميع ثمنهم. وقد علل محمد لهذا فقال من قبل: إن المضارب لم يكن يجوز عتقه في شيء من العبيد, وهذا يخالف ما ذكره الكرخي, فإنه قال: إن محمدا يعتبر المضمون على المضارب الذي يغرمه دون ما وجب عليه من الثمن, ومعنى هذا الكلام أن المضارب إذا قبض ولم ينقد الثمن حتى هلك, كان المعتبر ما يجب عليه ضمانه, فإن كان ما يضمنه زائدا على رأس المال, كان على المضارب حصة ذلك, وإلا فلا, وهذا بخلاف الأول؛ لأنا إذا اعتبرنا الضمان فقد ضمن أكثر من رأس المال, فإما أن يجعل عن محمد روايتان, أو يكون الشرط فيما صار مضمونا على المضارب أن يتعين حقه فيه, وهنا وإن ضمن فإنه لم يتعين حقه فيه, وأما تعليله بعدم نفاذ العتق فلا يطرد؛ لأنه لو اشترى بالألفين جارية تساوي ألفا, يضمن وإن لم ينفذ عتقه فيه, إلا أن يكون جعل نفوذ العتق في الجارية المشتراة بألفين, وقيمتها ألفان عليه؛ لوجوب الضمان عليه, فما لا ينفذ عتقه فيه, يكون عكس العلة, فلا يلزمه طرده في جميع المواضع. وقال محمد إذا اشترى المضارب عبدا بألف درهم, وهي مال المضاربة, ففقد المال, فقال رب المال: اشتريته على المضاربة, ثم ضاع المال وقال المضارب: اشتريته بعد ما ضاع, وأنا أرى أن المال عندي فإذا قد ضاع قبل ذلك فالقول قول المضارب؛ لأن الأصل في كل من يشتري شيئا أنه يعتبر مشتريا لنفسه, ولأن الحال يشهد به أيضا, وهو هلاك المال, فكان الظاهر شاهدا للمضارب, فكان القول قوله, وذكر محمد في المضاربة الكبيرة إذا اختلفا, وقال رب المال: ضاع قبل أن تشتري الجارية, وإنما اشتريتها لنفسك, وقال المضارب: ضاع المال بعد ما اشتريتها, وأنا أريد أن آخذك بالثمن, ولا أعلم متى ضاع فالقول قول رب المال مع يمينه, وعلى المضارب البينة, أنه اشترى والمال عنده إنما ضاع بعد الشراء؛ لأن رب المال ينفي الضمان عن نفسه, والمضارب يدعي عليه الضمان؛ ليرجع عليه بالثمن؛ لأنه يدعي وقوع العقد له, ورب المال ينكر ذلك, فكان القول قوله, ولأن الحال وهو الهلاك شهد لرب المال, فإن أقاما البينة فالبينة بينة المضارب؛ لأنها تثبت الضمان فكانت أولى. وإذا انفسخت المضاربة, ومال المضاربة ديون على الناس, وامتنع عن التقاضي والقبض, فإن كان في المال ربح أجبر على التقاضي والقبض, وإن لم يكن فيه ربح لم يجبر عليهما, وقيل له: أحل رب المال بالمال على الغرماء؛ لأنه إذا كان هناك ربح كان له فيه نصيب, فيكون عمله عمل الأجير, والأجير مجبور على العمل فيما التزم, وإن لم يكن هناك ربح لم تسلم له منفعة, فكان عمله عمل الوكلاء فلا يجبر على إتمام العمل, كما لا يجبر الوكيل على قبض الثمن, غير أنه يؤمر المضارب أو الوكيل أن يحيل رب المال على الذي عليه الدين حتى يمكنه قبضه؛ لأن حقوق العقد راجعة إلى العاقد, فلا يثبت ولاية القبض للآمر إلا بالحوالة من العاقد, فيلزمه أن يحيله بالمال حتى لا يتوى حقه. ولو ضمن العاقد

 

ج / 6 ص -115-       لرب المال هذا الدين الذي عليه, لم يجز ضمانه؛ لأن العاقد قد جعله أمينا فلا يملك أن يجعل نفسه ضمينا فيما جعله العاقد أمينا. ولو مات المضارب ولم يوجد مال المضاربة فيما خلف, فإنه يعود دينا فيما خلف المضارب, وكذا المودع والمستعير والمستبضع وكل من كان المال في يده أمانة, إذا مات قبل البيان ولا تعرف الأمانة بعينها, فإنه يكون عليه دينا في تركته؛ لأنه صار بالتجهيل مستهلكا للوديعة, ولا تصدق ورثته على الهلاك والتسليم إلى رب المال. ولو عين الميت المال في حال حياته, أو علم ذلك, يكون ذلك أمانة في وصية, أو في يد وارثه, كما كان في يده, ويصدقون على الهلاك والدفع إلى صاحبه, كما يصدق الميت في حال حياته والله عز وجل أعلم.