حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح شرح نور الإيضاح

ص -5-           بسم الله الرحمن الرحيم
"بسم الله الرحمن الرحيم" الحمد لله الذي شرف خلاصة عباده بوراثة صفوة خير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي أيد الشريعة بوراثها ورفع بها منارها وبسط مطوى أناثها, والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل مخلقوق وعلى آله وصحبه القائمين بالحقوق, أما بعد:
فهذه تقييدات لطيفة على شرح نور الإيضاح المسمى بمراقي الفلاح, أسأل الله تعالى أن يمن بتمامها وحسن اختتامها, جمعتها لمن هو قاصر مثلي راجيا قبولها من الله تعالى الولي العلي, مأخوذة مما كتبه المرحوم عبد الرحمن أفندي خلوات, ومن شرح المؤلف الكبير و شرح السيد محمد أبي السعود رحم الله تعالى الجميع وشكر منهم السعي والصنيع مع فوائد أخر من غيرها, وفرائد فتح الله تعالى بها, فما كان فيها من صواب فمن المنقولات, ومن خطأ فمن كثير الزلات, وعلى الله أعتمد في كل حال, وأسأله الرضا والستر في الحال والمآل قال المؤلف: "بسم الله الرحمن الرحيم" لما كان من الواجب صناعة على كل مصنف ثلاثة أشياء البسملة والحمدلة والصلاة على النبي صلى الله عيله وسلم, ومن الجائز أربعة: مدح الفن وذكر الباعث له وتسمية الكتاب وبيان كيفيته من التبويب والتفصيل افتتح المصنف كتابه بها وقدمها على غيرها لقوة حديثها ولموافقة أسلوب القرآن قال المحققون: ينبغي لكل شارع في فن أن يتكلم على البسملة بحسب ذلك الفن الذي ذكرت فيه وهذا الفن هو الفقه الذي موضوعه فعل المكلف من حيث ما يعرض له من الأحكام الخمسة وهي: الوجوب والندب والإباحة والحرمة والكراهة, والإتيان بالبسملة عمل يصدر من المكلف فلا بد أن يتصف بحكم, فتارة يكون فرضا كما عند الذبح, وإن كان لا يشترط هذا اللفظ بتمامه بل لا يسن, وإنما المنقول باسم الله, الله أكبر, ويكفي كل ذكر خالص لله تعالى, ولا يرد حل ذبيحة ناسي التسمية لأن الشرع أقام كونه مسلما

 

ص -6-           ...................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مقام الذكر للعجز وتارة يكون واجبا على القول بأنها آية من الفاتحة, وإن كان خلاف المذهب؛ لأن الأخبار الواردة فيها مع المواظبة تفيد الوجوب وتارة يكون سنة كما في الوضوء, وأول كل أمر ذي بال ومنه الأكل والجماع ونحوهما, وتارة يكون مباحا كما هي بين الفاتحة والسورة على الراجح, وفي ابتداء المشي والقعود مثلا؛ لأنها إنما تطلب لما فيه شرف صونا عن اقتران اسمه تعالى بالمحقرات وتيسيرا على العبادة, فإن أتي بها في محقرات الأمور كلبس النعال على وجه التعظيم والتبرك فهو حسن, وتارة يكون الإتيان بها حراما كما عند الزنا ووطء الحائض وشرب الخمر وأكل مغصوب, أو مسروق قبل الإستحلال, أو أداء الضمان, والصحيح أنه إن استحل ذلك عند فعل المعصية كفر, وإلا لا, وتلزمه التوبة إلا إذا كان على وجه الاستخفاف فيكفر أيضا, ومما فرع على القول الضعيف ما في آخر كتاب "الصيد من الدر المختار": إن السارق لو ذبح الشاة المسروقة ووجدها صاحبها لا تؤكل لكفر السارق بتسميته على المحرم القطعي بلا تملك ولا إذن شرعي, واعلم أن المستحل لا يكفر إلا إذا كان المحرم حراما لعينه وثبتت حرمته بدليل قطعي وإلا فلا, صرح به في الدرر عن الفتاوي في آخر كتاب الخطر, فينبغي أن تؤكل هذه الشاة ويؤيده قولهم تصح التضحية بشاة الغصب, لكنه لا يحل له التناول والانتفاع على المفتي به وإن ملكها قبل أداء الضمان أو رضا مالكها بأدائه أو إبرائه أو تضمين القاضي؛ لأن الحل قضية أخرى غير المالك, وتارة يكون الإتيان بها مكروها كما في أول سورة براءة ودون أثنائها فيستحب, وعند تعاطي الشبهات ومنه عند شرب الدخان وفي محل النجاسات, فإن قيل: الإبتداء بالباء ولفظ اسم ليس ابتداء باسم الله تعالى؛ لأنهما ليسا من أسمائه تعالى. أجيب عن الثاني: بأن التصدير باسم الله تعالى إما أن يكون بذكر اسم خاص كلفظ الله مثلا أو بذكر اسم عام كلفظ اسم مضاف إليه تعالى فإنه يراد به جميع أسمائه تعالى لعموم الإضافة, ويستفاد منه التبرك بالجميع وهو أولى, وعن الأول بأن الباء من تتمة ذكره على الوجوب المطلوب, قال القطب عبد القادر الجيلاني: الاسم الأعظم هو الله لكن بشرط أن تقول الله وليس في قلبك سواه, كذا في "شرح المشكاة". "والرحمن الرحيم": صفتان مشبهتان بنيتا للمبالغة أي يفيد أنها بحسب المادة والاستعمال لا بحسب الصيغة والوضع؛ لأن صيغ المبالغة منحصرة في الخمسة المشهورة, ومنها: فعيل بشرط أن يكون عاملا للنصب و"رحيم" هنا: ليس عاملا له, وبشرط أن يكون محولا عن فاعل, ولذا قالوا: إن كريما وظريفا ليسا منها لعدم تحويلهما, واختلف في "الرحمن والرحيم" هل هما بمعنى واحد: كندمان ونديم؟ ذكر أحدهما بعد الآخر تأكيدا. قيل: نعم. وقيل: بينهما فرق؛ فالرحمن: أبلغ من الرحيم, إما بحسب شمول الرحمن للدارين واختصاص الرحيم بالآخرة؛ فإنه المعافي, والعفو يختص بالمؤمنين في الآخرة ويؤيده حديث الرحمة المسلسل بالأولية, وإما باعتبار جلائل النعم ودقائقها فالأبلغية

 

ص -7-           ............................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على الأول من حيث الحكم, وعلى الثاني من حيث الكيف, وقيل: فعلان لمبالغة الفعل فيفيد جلالة الفعل, وفعيل: لمبالغة الفاعل فيفيد التكرار مرة بعد أخرى, ففي كل منهما مبالغة ليست في الآخر تتمة ورود في الحديث:
"إن الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماء والأرض فجعل في الأرض منها واحدة فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطيور بعضها على بعض وأخر تسعا وتسعين, فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة". رواه أحمد, وروى البخاري في "كتاب التوحيد" من صحيحه عن أبي هريرة فيما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: "إن رحمتي سبقت غضبي" وفي رواية: "تغلب غضبي", والمراد: بيان سعة الرحمة وشمولها للخلق حتى كأنها السابق والغالب كما في "شرح المشكاة", والمراد: السبق والغلبة باعتبار التعلق أي تعلق الرحمة غالب على تعلق الغضب؛ لأن الرحمة مقتضى ذاته المقدسة, والغضب متوقف على صدور ذنب من العبد. قوله: "الحمد لله", قال بعضهم: إن الأحكام المذكورة في البسملة تقال في الحمدلة, فتارة يكون الإتيان بها واجبا أي فرضا كما في خطبة الجمعة, وتارة يكون مندوبا كما في خطبة النكاح ونحوها, وفي ابتداء الدعاء ولأمر ذي البال وبعد أكل وشرب ونحو ذلك, وتارة يكون مكروها كما في الأماكن المستقذرة, وتارة يكون حراما كما في حالة الفرح بالمعصية, وبعد أكل حرام إلا أن يقصد الحمد على حصول الغذاء من حيث هو المستلزم لقوة البدن اهـ. وذكر في الهندية من الخطر والإباحة أن الحمدلة بعد أكل الحرام لا تحرم فينزل على هذا, وقوله: كما في خطبة الجمعة يعني: إذا اقتصر عليها فإنها تجزئ وتقع فرضا لا أن لفظها متعين؛ لأنه لو اقتصر على تسبيحة أو تهليلة تجزئ وتقع فرضا, وتارة يكون سنة مؤكدة كما في الحمدلة بعد العطاس. قوله: "شرف خلاصة عباده" أي: المختارين من عباده الذين استخلصهم لحفظ الشريعة وهم العلماء غير الأنبياء, قوله: "بوارثة صفوته" الباء للسببية والمراد بالصفوة الأنبياء والإضافة فيه وفي عباده وعباده لتشريف المضاف. وقوله: "خير عباده" بدل من صفوته, وعباد جمع عابد من العبادة, والأول جمع: عبد, والمراد بالعلماء هم أهل السنة والجماعة وهم أتباع أبي الحسن الأشعري و أبي منصور الماتريدي رضي الله عنهما, قال صلى الله عليه وسلم: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك", وهؤلاء هم أهل العلوم الشرعية والإلهية من أهل السنة والجماعة؛ لأن الناس مع وجودهم آمنون من كل محنة وضلالة دينية, وقال صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء إن الأنبياء لا يورثون درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر". صححه جماعة, وفي رواية: "يحبهم أهل السماء وتستغفر لهم الحيتان في البحر وإنما العالم من عمل بعلمه", وفي رواية أخرى: "أقرب الناس من درجة النبوة أهل العلم والجهاد", وفي رواية أخرى: "كاد حملة القرآن أن يكونوا أنبياء إلا أنهم لا

 

ص -8-           عباده وأمدهم بالعناية فأحسنوا لذاته العبادة وحفظوا شريعته وبلغوها عباده, وأشهد أن لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يوحى إليهم", وفي رواية أخرى: "من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه", وفي رواية أخرى: "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل", قال بعضهم: هذا الحديث لا أصل له, ولكن معناه صحيح لما تقرر أن العلماء ورثة الأنبياء. قاله ابن حجر في "شرح الهمزية". قوله: "وأمدهم بالعناية": أي قواهم بالعناية: أي بعنايته بهم يعني أنه اعتنى بهم: أي سهل لهم أفعال الخير والبر فتيسرت لهم. قوله: "فأحسنوا لذاته العبادة": اعلم أن العبادة أعلاها أن تكون لذاته لا لطمع في جنة ولا خوف من نار حتى لو لم يكونا كان مستحقا للعبادة وهي رتبة الكاملين من العباد وهم وإن أرادوا الجنة فإنما يريدونها لكونها محل المشاهدة والزيارة لا للتلذذ بالمستلذات فإن ذلك عادة من ألفها في الدنيا وأوسطها أن يعبد للطمع في الجنة والخوف من النار, وأدناها أن يعبد ليتيسر أمور معاشه مثلا في دنياه, فالمراد حينئذ من خلاصة العباد ليس مطلق العلماء؛ لأن هذه الرتبة لا تثبت لجميعهم بل المراد الكاملون. وقوله: "فأحسنوا": عطف على أمدهم مع إفادة التفريع, والعبادة: هي مطلق الطاعات, وفرق شيخ الإسلام بين العبادة والطاعة والقربة: فالأولى ما تتوقف على معرفة المعبود مع النية, والثانية: امتثال الأمر والنهي عرف الآمر والناهي أم لم يعرف. والثالثة: ما تتوقف على معرفة المتقرب إليه وإن لم تتوقف على نية كالعتق, فأخصها العبادة, وأعمها الطاعة لانفرادها في النظر الموصل إلى معرفة الله تعالى. قوله: "وحفظوا شريعته" أي: من كلا المبطلين والزائغين فهي مستورة بهم لا يقدر أحد على خرق منيع حجابها وحفظوها أيضا بتقريرها والعمل بها, والشريعة فعلية بمعنى مفعولة, وهي: الأحكام المشروعة, وهي النسب التامة المتعلقة بكيفية الأعمال قلبية وجوارحية: كثبوت الوجوب للنية في نحو الصلاة وثبوت السنية للمضمضة وثبوت الحرمة لبيع الغرر ونحو ذلك. قوله: "وبلغوها عباده": عطف مغاير فإنه لا يلزم من الحفظ التبليغ أو من عطف الخاص إن أريد بالحفظ ما يعم الحفظ بالتقريركما مر وخصه لمزيد نفعه لقيام الأمر به. وقالوا: إن العالم لا يجب عليه السعي ويسأل العالم فإذا سأله وجب عليه السعي إلى الجاهل لإزالة جهله؛ وإنما يجب على الجاهل أن يسعى ويسأل العالم فإذا سأله وجبت إجابته ووجت إرشاده. قوله: "وأشهد أن لا إله إلا الله": أي: أصدق بقلبي وأقر بلساني مع الإذعان والانقياد أنه لا إله إلا الله, والإتيان بهما في الخطب مطلوبة لخبر أبي داود و الترمذي و البيهقي وصححه مرفوعا: "كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء" أي قليلة البركة, كذا في شرح المواهب, والقول الجامع المندفع عنه الموانع في معناها: أنه لا معبود مستحق للعبادة إلا الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد في الواقع, كما قاله العصام في "الأصول". قال السنوني: وإن شئت قلت: لا مستغني على العموم ولا مفترق إليه على العموم إلا الله عز وجل. قال: وهذا المعنى أظهر من الأول وأقرب منه, وهو أصل له؛ إذ لا يستحق أن يعبد: أي يذل له كل شيء إلا من كان مستغنيا عن كل

 

ص -9-           إله إلا الله الملك البر الرحيم وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله النبي الكريم القائل
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شيء ومفتقرا إليه كل شيء. فظهر أن العبارة الثانية أحسن من الأولى؛ لأنها تستلزم اندراج جميع عقائد الإيمان تحت هذه الكلمة الشريفة, وينبغي أن لا يطيل مد ألف لا جدا وأن يقطع الهمزة من "إله" ومن "إلا", وأن يشدد اللام وأن يفخم اللفظ المعظم اهـ. وينبغي أن يظهر الهاء من لفظ الجلالة, وفي شرح الجوهرة لمؤلفها اختلف هل الأفضل للمكلف عند التلفظ بـ "لا إله إلا الله" مد ألف لا النافية يعني مدا زائدا على المد الطبيعي؟ إذ هو لا بد منه أو القصر يعني الاقتصار على المد الطبيعي, فمنهم من اختار المد ليستشعر المتلفظ بها نفي الألوهية عن كل ما سواه تعالى, ومنهم من اختار القصر لئلا تخترمه المنية قبل التلفظ بذكره تعالى, وفرق الفخر بين أن يكون أول كلام يعني عند دخوله في الإسلام فتقصر وإلا فتمد, ومن الواجب أن يستحضر الذاكر في ذهنه عند النفي وجود الفرد المعبود الواجب الوجود, وإلا فالنفي مطلقا كفر والعياذ بالله تعالى, وروى مالك وغيره:
"أفضل ما قلت أنا و النبيون من قبلي لا إله إلا الله", ويتفرع عليه أنه لو حلف ليذكرن الله تعالى بأفضل الذكر يبر بها. قوله: "الملك" أخص من "المالك"؛ لأنه من ملك الأشياء وتصرف بالأمر والنهي, ولا يلزم في المالك أن يكون متصرفا بهما, قوله: "البر" المحسن والبار: التقي الطائع. قوله: "وأشهد أن سيدنا" من ساد قومه يسودهم سيادة من باب: كتب, والاسم: السؤدد بالضم وهو المجد والشرف, والسيد: الرئيس والكريم والمالك. واختلف في أصله فقيل: سيود بوزن فيعل بسكون الياء وكسر العين وهو مذهب البصريين, اجتمع فيه الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء لاجتماع المثلين, والقاعدة أن المدغم هو الذي ينقلب ويرد من جنس المدغم فيه لكن لما كانت الياء أخف من الواو قلبت ياء مطلقا. وقيل: بفتح العين وهو مذهب الكوفيين؛ لأنه لا يوجد فيعل بكسر العين في الصحيح فتعين الفتح قياسا على عيطل ونحوه, ثم أبدلت الفتحة كسرة لمناسبة الياء وقيل: أصله سويد: كأمير: فاستثقلت الكسرة على الواو فحذفت فاجتمع ساكنان الواو والياء فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء, كما في "الصحاح والمصباح" وغيرهما. قال الفاسي "في شرح الدلائل": والأول أشهر اهـ.
 قوله: "محمدا" قيل: هو في التسمية سابق على أحمد قاله ابن القيم, وذهب القاضي عياض إلى أن أحمد كان قبل محمد؛ لأن تسميته بأحمد وقعت في الكتب السابقة وتسميته بمحمد وقعت في القرآن. قال ابن العربي: وأسماؤه صلى الله عليه سلم: ألف كأسمائه تعالى وهي توقيفية كأسمائه تعالى على المختار, ومحمد أشهر وأفضل من أحمد على الأصح كذا في "حاشية الحموي على الإشباه, وأحمد أفعل تفضيل محول عن الفاعل كأعلم أو عن المفعول كأشهر, لكن الأول لأفعل التفضيل أكثر أفاده المنلا علي في "شرح الشمائل", ومن عجائب خصائصه صلى الله عليه وسلم أن حمى الله هذين الاسمين أن يسمى بأحدهما أحد قبل زمانه صلى الله عليه وسلم مع ذكرهما في الكتب القديمة والأمم السابقة, ومع أنهما من الأعلام المنقولة

 

ص -10-        .........................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فلم يقع ذلك لأحد قبله أصلا, أما أحمد فبالاتفاق, وأما محمد فعلى الأصح كما ذكره الشهاب في "شرح الشفاء", وقيل: لما قرب زمانه ونشر أهل الكتاب نعته سمى بعض العرب أبناءهم بمحمد رجاء أن يكون أحدهم هو والله أعلم حيث يجعل رسالته, وكنيته صلى الله عليه وسلم أبو القاسم؛ لأنه أكبر أولاده وأولهم وقيل: لأنه يقسم الجنة بين أهلها, ويشترط لصحة الإيمان به صلى الله عليه وسلم معرفة اسمه إذ لا تتم المعرفة إلا به وكونه بشرا من العرب وكونه خاتم النبيين اتفاقا لورود ذلك القواطع المتواترة, ولا يشترط معرفة اسم أبيه عندنا كما قاله العلامة زين في كتاب "السير من الإشباه" وتبعه الحموي, واشترط ذلك جمع من المحدثين كما في "اتحاف الموالي شرح بدء الأمالي" تنبيه لا يشترط عندنا في إسلام الكافر لفظ الشهادتين ولا ترتيبهما؛ لأنهم نصوا على أن من أنكر الصانع جل وعلا إسلامه بلا إله إلا الله, ومن أقر بالوحداينة وأنكر الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم يدخل في الإسلام بمحمد رسول الله. وقالو: إن من صلى في الوقت مقتديا وتمم صلاته يحكم عليه بالإسلام, وفي القهستاني من بحث المرتد إذا قال الكافر: لا إله لا الله محمد رسول الله صار مسلما, ولا بأس أن يكنى أبا القاسم, وما رواه البخاري وغيره من قوله صلى الله عليه وسلم:
"سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي", منسوخ لأن عليا رضي الله عنه كنى ابنه محمد بن الحنفية أبا القاسم, ولولا علمه بالنسخ لما كناه بها, أو يقال: كان النهي مخصوصا بزمانه صلى الله عليه وسلم لدفع الالتباس كما ذكره الفقهاء في كتاب الاستحسان.
قوله: "عبده": من الصفات التي غلبت عليها الاسمية مشتق من العبودية التي هي التذلل والخضوع لا من العبادة التي هي غايتها. قاله الشهاب القليوبي: وتبقى العبودية في الجنة دون العبادة, فهي أفضل من العبادة على الصحيح, وهو أشرف أوصافه وأحبها إليه صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أحبها إلى الله تعالى, ومن ثم وصفه به في أشرف المقامات. قوله: "ورسوله" فعول بمعنى: مفعول, وهو إنسان حر ذكر أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه, فإن لم يؤمر بتبليغه فهو نبي فقط كما هو المشهور عندهم, وقيل: مترادفان. قوله: "النبي": فعيل بمعنى فاعل, من النبأ وهو الخبر؛ لأنه مخبر عن الله عز وجل أو بمعنى مفعول؛ لأنه مخبر فهو من المهموز عند المحققين منهم سيبويه وهو الحق كما قاله الزمخشري و الرضي وغيرهما. قال في "الصحاح" نقلا عن سيبويه: غير أنهم تركوا الهمز في النبي كما تركوه في الذرية والبرية والخابية إلا أهل مكة فإنهم يهمزون هذه الأحرف يعني هذه الكلمات ولا يهمزون في غيرها, ويخالفون العرب في ذلك. وفي المصباح والإبدال والإدغام لغة فاشية وقيل: من النبوة بمعنى الرفعة؛ لأنه رفيع الرتبة فأبدلت الواو ياء لسبقها وسكونها, وروى أبو داود مرفوعا أن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا, والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر, وفي بعض الأخبار: إن الأنبياء ألف ألف أو مائتا ألف وأربعة وعشرون ألفا. قال

 

ص -11-        تعلموا العلم وتعلموا له السكينة والحلم "وعلى آله وأصحابه القائمين بنصرة الدين في الحرب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النسفي: في "بحر الكلام": والسلامة في هذا المقام أن تقول: آمنت بالله وبجميع ما جاء من عند الله على ما أراد الله تعالى به وبجميع الأنبياء والرسل حتى لا يعتقد نبيا من ليس نبيا أوعكسه. قوله: "الكريم" فعيل بمعنى مفعول؛ لأنه أكرمه الله تعالى على جميع خلقه حتى الرؤساء الأربعة من الملائكة, خلافا لمن شذ من المعتزلة وخرق الإجماع. ويحتمل أن يكون كريم بمعنى مكرم اسم فاعل, وكرمه صلى الله عليه وسلم ظاهر, بل انتهى كماله إليه صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة. قوله: "القائل تعلموا العلم" فيه براعة الاستهلال كقوله: آنفا "فأحسنوا لذاته العبادة", وقوله: "وحفظوا شريعته", والعلم والمعرفة بمعنى واحد, وإنما لا يطلق عليه تعالى عارف لعدم ورود الشرع به. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"العلم خير من العمل ملاك الدين الورع والعالم من يعمل بعلمه", وعنه صلى الله عليه وسلم: "إن العمل القليل مع العلم ينفع, وإن العمل الكثير مع الجهل لا ينفع", رواه ابن عبد البر. والعلم نفعه متعد بخلاف العمل, ومن أعظم الأدلة على شرف العلم أن الله تعالى جعل العلماء في المرتبة الثالثة في قوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18] الآية. وقال ابن عباس: درجات العلماء فوق المؤمنين بسبعمائة درجة ما بين الدرجتين خمسمائة عام, وقال صلى الله عليه وسلم: "فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم", قال حجة الإسلام: فانظر كيف جعل العلم مقارنا لدرجة النبوة, وعنه صلى الله عليه سلم: "العلم حياة الإسلام وعماد الإيمان ومن علم علما أتم الله له أجره, ومن تعلم فعمل به علمه الله علم ما لم يعلم", وأوحى الله تعالى إلى إبراهيم عليه السلام: "يا إبراهيم أنا عليم أحب كل عليم", وورد: "يشفع الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء", وورد: "يوزن يوم القيامة مداد العلماء ودم الشهداء فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء", وورد: "من تفقه في دين الله عز وجل كفاه الله همه ورزقه من حيث لا يحتسب", وورد: "أن طالب العلم إذا مات وهو في طلبه مات شهيدا وأنه إذا خرج من بيته لطلبه فهو في سبيل الله حتى يرجع", وروى الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى بسنده إلى رسول الله الله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم", وورد: "اطلبوا العلم ولو بالصين", وورد: "لأن تغدو فتعلم بابا من العلم خير من أن تصلي مائة ركعة", وورد: "العلم خزائن ومفاتيحها السؤال, ألا فسألوا فإنه يؤجر فيه أربعة: السائل والعالم والسامع والمحب لهم", وورد: "لا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله ولا للعالم أن يسكت على علمه", واعلم أن كل علم يتوصل به إلى فرض عين فتحصيله فرض عين, كالعلم المتعلق بمعرفة الله تعالى والصلاة والزكاة والصوم والحج ومعرفة الحلال والحرام ونحو ذلك, وما يتوصل به إلى فرض الكفاية فتحصيله فرض كفاية وتمامه في خطبة الدر المختار, وتعليم المتعلم. قوله: "وتعلموا له السكينة والحلم": أي تعلموا لتعليمه وتعلمه السكينة وهي سكون الأعضاء والوقار, والحلم: صفة راسخة لا يستفز صاحبها الغضب. قال صلى الله عليه وسلم: "إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتخير

 

ص -12-        ..............................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه". وقال صلى الله عليه وسلم: "اطلبوا العلم واطلبوا مع العلم السكينة والحلم, لينوا لمن تعلمون ولمن تعلمون منه, ولا تكونوا جبابرة العلماء فيغلب جهلكم عليكم", قوله: "وعلى آله وأصحابه" كذا في النسخ والظاهر أن المصنف سقط من قلمه: "صلى الله عليه وسلم" فتوهم ذكره فعطف عليه أو من الناسخ الأول, والصلاة هنا هي: المأمور بها في خبر: أمرنا أن نصلي عليك فكيف نصلي؟ فقال: "قولوا اللهم صل على محمد" الخ. لا مطلق الصلاة, والفرق بينهما أن مطلق الصلاة معناه الرحمة, والصلاة المأمور بها: معناها طلب الرحمة؛ لأنها من مخلوق فيلاحظ كونها مأمورا بها ليحصل بها امتثال الأمر فتكون أتم من غيرها. وقيل: معناها العطف وهي فرض في العمر مرة واحدة, وتقوم مقامها الصلاة الواقعة في مكتوبة أو غيرها بعد البلوغ, وتجب كلما ذكر على أحد قولين, وتسن في كل تشهد أخير من الفرض وفي كل تشهد نفل إلا في سنة الظهر القبلية, والجمعة القبلية والبعدية, وتندب في أوقات الإمكان, وتحرم على الحرام, وتكره عند فتح التاجر متاعه, ولا يكره أفرادها عن السلام على الأصح عندنا, وهذا الخلاف في حق نبينا صلى الله عليه وسلم. أما في حق غيره من الأنبياء فلا خلاف في عدم كراهة الأفراد لأحد من العلماء ذكره الحموي محشي "الإشباه". وظاهر ما في "النهاية" من كتاب الصلاة أنه لا يجب "السلام"؛ لأنه جعل الوجوب قول الشافعي: وأما قوله تعالى: {وَسَلِّمُوا} فالمراد منه سلموا لقضائه, كذا في مبسوط شيخ الإسلام, والظاهر أن ذكر الآل والأصحاب مندوب. أما الأصحاب فظاهر؛ لأنهم سلفنا وقد أمرنا بالترضي عنهم ونهينا عن لعنهم, وأما الآل فلقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصلوا علي الصلاة البتراء" قالوا: وما الصلاة البتراء يا رسول الله؟. قال: "تقولون اللهم صل على محمد وتمسكون, بل قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد", ذكره الفاسي وغيره, والمراد بالآل: هنا سائر أمة الإجابة مطلقا, وقوله صلى الله عليه وسلم: "آل محمد كل تقي", حمل على التقوى من الشرك؛ لأن المقام للدعاء, ونقل اللفاني في شرح جوهرته أنه يطلق على مؤمني بني هاشم أشراف, والواحد: شريف كما هو مصطلح السلف, وإنما حدث تخصيص الشريف بولد الحسن والحسين مصر خاصة في عهد الفاطميين. قال: ويجب إكرام الأشراف ولو تحقق فسقهم؛ لأن فرع الشجرة منها ولو مال. وقوله: وأصحابه جمع صاحب بمعنى صحابي لأن فاعلا يجمع على أفعال صرح به سيبويه, ومثله بصاحب وأصحاب وارتضاه الزمخشري و الرضي و أبو حيان وهو عند جمهور الأصوليين من طالت صحبته متبعا مدة يثبت معها إطلاق صاحب فلان عرفا بلا تحديد في الأصح, ولذا صح نفيه عن الوافد اتفاقا إذ يقال ليس صحابيا بل وفد وارتحل من ساعته, وقيل: لا يشترط. قال في التحرير: وينبني عليه ثبوت عدالة غير الملازم فلا يحتاج إلى التزكية أو يحتاج, وعلى هذا المذهب جرى الحنفية

 

ص -13-        والسلم, "وبعد": فيقول العبد الذليل الراجي عفو ربه الجليل حسن بن عمار بن علي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولولا اختصاص الصحابي بحكم لأمكن جعل الخلاف في مجرد الاصطلاح ولا مشاحة فيه, اهـ. وحاصله أن غير الملازم يحتاج إلى التعديل ولا يقبل إرساله1 عند من لايقبل المرسل, ومن هنا يعلم اشتراط طول الصحبة في حق التابعين بالأولى, وأما من مات على الإسلام من الصحابة وقد تخللت منه ردة كالأشعث بن قيس فإن أحدا لم يتخلف عن ذكره في الصحابة, ولا عن تخريج أحاديثه في المسانيد وكان ارتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم فأتي به أسيرا إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فعاد إلى السلام فقبل أبو بكر منه ذلك وزوجه أخته, لكن يعود له اسم الصحبة فقط مجردا عن ثوابها, وذكر الأصحاب بعد الآل تخصيص بعد تعميم إن أريد بالآل جميع الأمة لعلو مقامهم بشرف الصحبة أو بالعكس أن أريد بهم أقرباؤه صلى الله عليه وسلم. قوله: "القائمين بنصرة الدين" يحتمل قصره على الأصحاب ويحتمل حذف نظيره من الآل وهو يرشد إلى أن المراد بالآل المتقون والدين تقدم المراد بت. قوله: "في الحرب والسلم" يقال رجل حرب: أي عد ومحارب للذكر والأنثى والجمع والواحد أفاده في القاموس, ويطلق على مقابل الصلح وهو المراد هنا, والسلم بكسر السين المسالم, والصلح ويفتح ويؤنث, والسلم بفتح السين أيضا هو الدلو بعروة واحدة كدلو السقائين قاموس, والمعنى أنهم نصروا الدين في حالة القتال والصلح والمراد أنهم في جميع أحوالهم ناصرون للحق في رضاهم وغضبهم, ومخاصمتهم ومصالحتهم سواء كان ذلك مع القريب أم الغريب, ولا يسخطون الله تعالى برضا الخلق, ورد في صحيح ابن حبان على عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"من التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس", وفيه أيضا عنها رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أراد سخط الله ورضا الناس عاد حامده من الناس ذاما", وأخرج الطبراني بسند جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أسخط الله في رضا الناس سخط الله عليه وأسخط عليه من أرضاه في سخطه, ومن أرضى الله في سخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه من أسخطه في رضاه حتى يزين قوله وعمله في عينه", اهـ.
قوله: "وبعد": الكلام فيها شهير, والذي يفيده صنيعه صلى الله عليه وسلم في خطبه ومراسلاته سنية الإتيان بها, لكن بصيغة: "أما بعد", والظاهر أن قولهم: "وبعد" لتأديته معنى "أما بعد" يقوم مقامها في تحصيل المندوب, وقد فشا التعبير بها. قوله: "العبد" هو أشرف أوصاف الشخص وهو أحب أوصافه إليه صلى الله عيله وسلم؛ لكونه أحبها إليه تعالى وقد مر. قوله: "عفو ربه" العفو: الصفح وترك عقوبة المستحق, والمحو, والإمحاء2, وأطيب الماء وخيار الشيء, فعله يتعدى بنفسه وباللام وبعن كذا في القاموس, "والرجاء": هو الطمع في

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله عند من لا يقبل المرسل كذا في النسخ، ولعل لا زائدة من الناسخ كما هو ظاهر للمتأمل، اهـ. مصححه.
2 الامحاء هو بتشديد الميم على وزن الانفعال أدغمت نونه في الميم مطاوع المحو كتبه مصححه.

 

ص -14-        الشرنبلالي الحنفي غفر الله ذنوبه وستر عيوبه ولطف به في جميع أموره ما ظهر منها وما خفي وأحسن لوالديه ولمشايخه وذريته ومحبيه ومواليه. وأدام النعم مسبغة في الباطن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المطلوب مع الأخذ في الأسباب, وأما مع تركه والتمادي على الغفلات فهو مذموم, ومن كلام العارف يحيى ابن معاذ: أعمال كالسراب وقلوب من التقوى خراب وذنوب بعدد التراب وتطمع مع هذا في الكواعب الأتراب هيهات هيهات أنت سكران من غير شراب", أهـ .قوله: "الجليل": هو العظيم كما في القاموس وبين الذليل والجليل الطباق. قوله: "الشرنبلالي" قال المؤلف في آخر رسالته در الكنوز: هذا هو الشائع والأصل الشرابلولي نسبة لقرية تجاه منف العليا بإقليم المنوفية بسواد مصر المحروسة, يقال لها شبرابلول واشتهرت النسبة إليها بلفظ الشرنبلالي اهـ, وفي القاموس: شبري كسكري ثلاثة وخمسون موضعا كلها بمصر منها عشرة بأشرقية وخمسة بالمرتاحية وستة بجزيرة قوسنيا وإحدى عشرة بالغربية وسبعة بالسمنودية وثلاثة بالمنوفية وثلاثة بجزيرة بني نصر وأربعة بالبحيرة واثنان برمسيس واثنان بالجيزة. قوله: "غفر الله له ذنوبه" أصل الغفر: الستر, ومنه سمى المغفر لأنه يستر الرأس عند الحرب. وغفر الذنوب سترها بعدم المؤاخذة بها, وقيل: محوها من الصحيفة بالكلية لقوله عز وجل:
{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39], قوله: "ذنوبه" أي معاصيه صغيرها وكبيرها. قوله: "وستر عيوبه" أي ما يعيبه ويشينه وإن لم يكن معصية, فإن العور مثلا عيب وليس بذنب فالمعطف للمغايرة أو من عطف العام. قوله: "ولطف به" أي أوصل إليه بره وإحسانه. قوله: "في جميع أموره" أي جليلها وحقيرها. قوله: "ما ظهر منها وما خفي": يحتمل أن المراد ما يعم الأحوال الباطنية والظاهرية أي ما يتعلق بالقلب وما يتعلق بالجوارح, أو المراد بالباطنية ما لا يطلع عليه إلا خاصته كالأمور المتعلقة بالحلية والأولاد, وبالظاهرية ما تصدر مع غير هؤلاء كإخوان الدرس والمعاملة ويحتملها معا قوله: "وأحسن لوالديه" أي أنعم عليهما بأنواع النعم فإن الإحسان لفظ يعم كل خير ثم يحتمل أن قرأ والديه بالتثنية والجمع والدعاء لهما مطلوب, قال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً}. [الإسراء24]. وهو مفتاح الرزق, ولبعضهم أقل الدعاء للوالدين في اليوم والليلة خمس مرات, كأنه يريد عقب كل مكتوب؛ لأن الله قرن الإحسان إليهما بعبادته, وأعظم العبادات الصلوات بعد الإيمان وهي خمس في اليوم والليلة. قوله: "ولمشايخه" بالياء من غير همز جمع شيخ, والدعاء لهم مطلوب؛ لأنهم آباء الأرواح كما أن الوالدين آباء الأشباح. قوله: "وذريته" أي: نسله من الذرء بمعنى: الخلق أي: الجماعة المخلوقين منه. قوله: "ومحبيه": المراد بهم المحبون له حبا إيمانيا كأن يحبوه لعلمه وطاعته وإن لم يكن للنفس ميل لذلك. قوله: "وإليه": إن قلت إن المطلوب تقديم نفسه في الدعاء كما قال الخليل عليه السلام: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} وقال نوح عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً} فكيف قدم من ذكر عليه؟ أجيب بأنه لما قدم نفسه أولا بقوله: غفر الله له ذنوبه سهل عليه تقديم غيره عليه ثانية, ولمراعاة السجع, قوله: "وأدم النعم مسبغة" أي عامة تامة, فالسابغة العامة كالدرع السابغة والثوب والمراد أنه

 

ص -15-        والظاهر عليهم وعليه: إن هذا كتاب صغير حجمه غزير علمه صحيح حكمه احتوى على ما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 يحيط من ذكر بالنعم, واعلم أنه يجب الإيمان بأن الله تعالى يستجيب الدعاء ويعطيه به الرضا ويرد به القضاء وينفع به الأحياء والأموات, دل على ذلك الآيات القاطعة والأحاديث المتواترة. أخرج الطبري والخطيب من حديث ابن مسعود رفعه:
"حصنوا أموالكم بالزكاة وداووا مرضاكم بالصدقة وأعدوا للبلايا الدعاء", فإن قيل: نرى الداعي يبالغ في الدعاء ويضرع ولا يستجاب له. قلنا: إن للدعاء آدابا وشروطا فمن أتى بها كان من أهل الإجابة ومن أخطأها اعتدى فلا يستحق الإجابة, وأيضا قد تتأخر إلى وقتها فإن لكل شيء وقتا على أن الإجابة ليست منحصرة في الإسعاف بالمطلوب بل هي حصول واحد من الثلاثة المذكورة في قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخرها له في الآخرة, وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها", رواه الإمام أحمد وصححه الحاكم, وقد يمنع العبد الإجابة لرفعة مقامه, وقد يجاب كراهة سؤاله. ومن شروط الإجابة: إخلاص النية. ومنها: أن لا يستعجل الإجابة لحديث: "يستجاب لأحدكم ما لم يقل دعوت فلم يستجب لي", وحضور القلب وأن لا يدعو بمحرم, ومنها: طيب المطعم والمشرب والملبس وأن يوقن الإجابة وأن لا يعلق بالمشيئة, وفي شرح الأربعين النووية للشرخيتي أن من التعليق قوله: "اللهم عاملنا بما أنت أهله كأنه -والله تعالى أعلم- يقول: "إن عاملتنا بما أنت أهله, ومنها أن لا يدعو بمستحيل. قوله: "إن هذا كتاب": مقول القول قوله: "صغير حجمه": أي جسمه أي بالنسبة للشرح الكبير ونحوه. قوله: "غزير علمه" بالغين والزاي المعجمتين أي كثير, قال في القاموس: الغزير الكثير من كل شيء وغزر ككرم غزارة وغزرا وغزرا بالضم. قوله: "صحيح حكمه": مفرد مضاف فيعم كل حكم فيه, والإضافة فيه وفيما قبله لأدنى ملابسة لتحقيقهما فيه, واعلم أن الأحكام الصحيحة غالبها من كتب ظاهر الرواية المسماة بالأصول, وهي: "الجامع الكبير" و "الجامع الصغير" آخر مصنفات محمد بعد انصرافه من العراق, ولذا لم يروهما عنه أبو حفص وكلها لمحمد, ويعبر عن المبسوط بالأصل وبعضهم لم يعد السير بقسميه من الأصول وما عدا ذلك فهو رواية النوادر, كالأمالي لأبي يوسف "والرقيات" مسائل جمعها محمد حين كان قاضيا بالرقة بفتح الراء المهملة وتشديد القاف: مدينة على جانب الفرات, رواها عنه محمد إسماعيل "والكيسانيات" مسائل أملاها محمد على أبي عمر و سليمان بن شعيب الكيساني نسبة إلى كيسان بفتح الكاف فنسبت إليه و"الهارونيات": مسائل جمعها محمد في زمن هارون الرشيد و "الجرجانيات": مسائل جمعها محمد بجرجان, وكل ما كان كبيرا فهو من رواية محمد عن الإمام, والصغير روايته عن الإمام بواسطة أبي يوسف, روي أن الشافعي استحسن مبسوط الإمام محمد فحفظه وأسلم حكيم من كفار أهل الكتاب بسبب مطالعته, وقال: هذا كتاب محمدكم الأصغر فكيف كتاب محمدكم الأكبر؟ وفي النهاية وابن أمير حاج أن محمدا قرأ أكثر الكتب على أبي يوسف إلا ما كان فيه اسم الكبير كالمضاربة الكبير, و المزارعة الكبير

 

ص -16-        به تصحيح العبادات الخمس بعبارة منيرة كالبدر والشمس, دليله من الكتاب العزيز والسنة الشريفة والإجماع, تسربه قلوب المؤمنين وتلذ به الأعين والأسماع, جمعت فيه ما احتوى عليه شرحي للمقدمة بالتماس أفاضل أعيان للخيرات مقدمة, تقريبا للطلاب وتسهيلا لما به الفوز في المآب. وسميته: "مراقي الفلاح بإمداد الفتاح شرح نور الإيضاح ونجاة الأرواح" والله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمأذون الكبير, والجامع الكبير والسير الكبير اهـ. ولم يذكر اسم أبي يوسف في شيء من السير الكبير؛ لأنه صنفه بعدما استحكمت النفرة بينهما, وكلما احتاج إلى رواية عنه قال: أخبرني الثقة اهـ. قوله: "احتوى": أي اشتمل هذا الكتاب. قوله: "على ما به" أي على مسائل, والمراد دالها وهو النقوش وهو من احتوى الشيء على جزئه لأن الكتاب اسم للألفاظ الدالة على المعاني. وقوله: به أي بمعرفة تلك المسائل تصحيح العبادات الخمس أراد الطهارة والصلاة والصوم والزكاة والحج, وعد الطهارة عبادة لأنه يثاب عليها بالنية وإن كانت لا تشترط فيها. قوله: "بعبارة ما حال من": يعني أن الذي احتوى عليه هذا الكتاب كان بعبارة منيرة أي واضحة ظاهرة أو موضحة للمقصود للواقف عليها أو خبر عن الكتاب بعد الإخبار بما تقدم عنه, ويحتمل أنه ظرف لغو متعلق باحتوى ونسبة الإنارة إلى العبارة مجاز عقلي. قوله: "كالبدر" على حذف مضاف أي كإنارة البدر سمي بدر التمامة كتمام البدر التي هي عشرة آلاف درهم؛ أو لأنه يبادر طلوعه غروب الشمس وثلاثة أيام من أول الشهر هلال وبعده قمر إلى ستة وعشرين, وهذه إحدى طرق ذكره بعض مشايخي فيما كتب على مولد المدابغي, وذكر الشمس بعد القمر من باب الترقي. قوله: "دليله" الخ لم يذكر القياس؛ لأنه لم يخرج عنها. قوله: "تسر به قلوب المؤمنين" أي لما فيه من تصحيح عباداتهم. قوله: "وتلذ به الأعين والأسماع": أي أصحاب الأعين والأسماع فمآله يرجع إلى ما قبله. قوله: "شرحي للمقدمة" يعني شرحه الكبير والأم في المقدمة شهير. قوله: "بالتماس أفاضل أعيان" عبر به إشارة إلى مساواة الطالب له بأن يكون من أقرانه ويحتمل أنه من تلامذته, وعبر به تواضعا وهو متعلق بجمعت, وقوله: "أفاضل أعيان" المراد بالأعيان: العلماء, والأفاضل: أعلمهم. قوله: "للخيرات مقدمة": المجرور متعلق بما بعده يعني: أن هؤلاء الجماعة لا يقدمون إلا الخير, والخير: اسم عام لأنواع البر. قوله: "تقريبا" علة لجمعت الخ المفيد للاختصار, قوله: وتسهيلا: أي على الطلاب. قوله: لما به الفوز: أي الظفر وما به الفوز هو تصحيح العبادات الذي احتوى عليه هذا الكتاب. قوله: "في المآب": أي المرجع وهو يوم القيامة. قوله: "مراقي الفلاح" المرقي: جمع مرقاة وهو السلم والفلاح الظفر بالمقصود شبه الفلاح بمنزل له مراق تشبيها مضمرا في النفس و المراقي تخييل وفي القاموس: والمراقاة وتكسر: الدرجة. قوله: "بإمداد الفتاح": متعلق بمحذوف تقديره يرقاه بإمداد و لايصح تعليقه بمراقي؛ لأن الذي بإمداد الفتاح هنا هو الرقي, والمراد بالأمداد: الإستمداد والتحصيل أي إن الرقي بتحصيل الفتاح وذكره في القاموس معاني كثيرة للمادة. قوله: "نور الإيضاح" قال في القاموس: وضح الأمر يضح وضوحا وضحه وضحة وهو واضح ووضاح واتضح وأوضح وتوضح بأن وضحه وأوضحه فأفاد أن الإيضاح: الإبانة, ومعنى المصنف على هذا نور الإبانة أي الإبانة التي كالنور في

 

ص -17-        الكريم أسأل, وبحبيب المصطفى إليه أتوسل أن ينفع به جميع الأمة وأن يتقبله بفضله, ويحفظه من شر من ليس من أهله إذ هو من أجل النعمة, وأعظم المنة والله أسال أن ينفع به عباده ويديم به الإفادة: إنه على ما يشاء قدير, وبالإجابة جدير آمين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الظهور و الاهتداء. قوله: "ونجاة الأرواح": أي من العذاب فإن العذاب يقع على الروح كما يقع على الجسم, وإنما كان بهذا المتن نجاة الأرواح؛ لأن فيه تصحيح العبادة. والغالب أن من صحت عبادته لا سيما الصلاة انتهى عن الفحشاء والمنكر فينجو من العذاب. قوله: "والله الكريم أسأل": أي لا أطلب النفع والقبول وحفظ هذا الكتاب إلا من الله تعالى. قوله: "وبحبيبه المصطفى الخ": أي: لا أتوسل إليه في إتمام هذه المرادات إلا بحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم. ورد: "توسلوا بجاهي فإن جاهي عند الله عظيم", قوله: "أن ينتفع به جميع الأمة": المراد بالجمع المجموع فإنه لا يتعبد كلهم على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه, والنفع إيصال الخير إلى الغير, قوله: وأن يتقبله بفضله بأن يجعله خالصا لا لرياء ولا سمعة فإن العلم إذا صاحبه نحو الرياء كان سببا للعذاب, فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتي به فعرفه نعمته فعرفها قال: فما فعلت فيها قال: قاتلت فيك حتى استشهدت قال: كذبت ولكنك قاتلت لأن يقال جريء فقد قيل, ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار, ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتي به فعرفه نعمته فعرفها قال: فما عملت فيها قال: تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال: كذبت ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل, ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار" الحديث. وقبوله هو الرضا به والإنابة عليه. قوله: بفضله أشار به إلى الرد على فرقة من المعتزلة أوجبت عليه تعالى الصلاح والإصلاح, قوله: "من ليس من أهله" كالحاسد الذي يحمل بعض تراكيبه على غير المراد منها أو يدخل فيه ما ليس منه أو يتعلمه ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه. قوله: "إذ هو من أجل النعمة" علة للجمل الثلاثة أي من أجل النعمة على الأمة إن نفعهم الله به؛ لأن فيه تصحيح عباداتهم ومن أجل النعمة على المؤلف أن تقبله منه ومن أجل النعمة التي يتنافس في مثلها ويحسد عليها فدعا بحفظه من شر من ذكر, قوله: "وأعظم المنة" هي النعمة, قال في القاموس: من عليه منا أنعم واصطنع عنده صنيعة, فالعطف عطف مرادف. قوله: "والله أسأل أن ينفع به عباده" أعاده ثانيا لشدة رغبته في ذلك وحرصه عليه, قوله: "إنه على ما يشاء قدير" ومن جملته نفع العباد بهذا الكتاب, وإدامة الإفادة به. قوله: "وبالإجابة جدير". قال في القاموس: الجدير: مكان بني حواليه, والخليق والجمع جديرون وجدراء أهـ والمراد هنا المعنى الثاني.