الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع

بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
الْحَمد لله الَّذِي نشر للْعُلَمَاء أعلاما وَثَبت لَهُم على الصِّرَاط الْمُسْتَقيم أقداما وَجعل مقَام الْعلم أَعلَى مقَام وَفضل الْعلمَاء بِإِقَامَة الْحجَج الدِّينِيَّة وَمَعْرِفَة الْأَحْكَام وأودع العارفين لطائف سره فهم أهل المحاضرة والإلهام ووفق العاملين لخدمته فهجروا لذيذ الْمَنَام وأذاق المحبين لَذَّة قربه وأنسه فشغلهم عَن جَمِيع الْأَنَام أَحْمَده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على جزيل الإنعام وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ الْملك العلام وَأشْهد أَن سيدنَا وَنَبِينَا مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَبده وَرَسُوله وَصفيه وخليله إِمَام كل إِمَام وعَلى آله وَأَصْحَابه وأزواجه وَذريته الطيبين الطاهرين صَلَاة وَسلَامًا دائمين متلازمين إِلَى يَوْم الدّين وَبعد فَيَقُول الْفَقِير إِلَى رَحْمَة ربه الْقَرِيب

(1/3)


الْمُجيب مُحَمَّد الشربيني الْخَطِيب إِن مُخْتَصر الإِمَام الْعَالم الْعَلامَة الحبر الْبَحْر الفهامة شهَاب الدُّنْيَا وَالدّين أَحْمد بن الْحُسَيْن بن أَحْمد الْأَصْفَهَانِي الشهير بِأبي شُجَاع الْمُسَمّى بغاية الِاخْتِصَار لما كَانَ من أبدع مُخْتَصر فِي الْفِقْه صنف وَأجْمع مَوْضُوع لَهُ فِيهِ على مِقْدَار حجمه ألف التمس مني بعض الأعزة عَليّ المترددين إِلَيّ أَن أَضَع عَلَيْهِ شرحا يُوضح مَا أشكل مِنْهُ وَيفتح مَا أغلق مِنْهُ ضاما إِلَى ذَلِك من الْفَوَائِد المستجدات وَالْقَوَاعِد المحررات الَّتِي وَضَعتهَا فِي شروحي على التَّنْبِيه والمنهاج والبهجة فاستخرت الله تَعَالَى مُدَّة من الزَّمَان بعد أَن صليت رَكْعَتَيْنِ فِي مقَام إمامنا الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وأرضاه وَجعل الْجنَّة منقلبه ومثواه فَلَمَّا انْشَرَحَ لذَلِك صَدْرِي شرعت فِي شرح تقربه أغين أولي الرغبات راجيا بذلك جزيل الْأجر وَالثَّوَاب أجافي فِيهِ الإيجاز المخل والإطناب الممل حرصا على التَّقْرِيب لفهم قاصده والحصول على فَوَائده ليكتفي بِهِ الْمُبْتَدِي عَن المطالعة فِي غَيره والمتوسط عَن الْمُرَاجَعَة لغيره فَإِنِّي مُؤَمل من الله تَعَالَى أَن يَجْعَل هَذَا الْكتاب عُمْدَة ومرجعا ببركة الأكرم الْوَهَّاب فَمَا كل من صنف أَجَاد وَلَا كل من قَالَ وفى بالمراد وَالْفضل مواهب وَالنَّاس فِي الْفُنُون مَرَاتِب وَالنَّاس يتفاوتون فِي الْفَضَائِل وَقد تظفر الْأَوَاخِر بِمَا تركته الْأَوَائِل وَكم ترك الأول للْآخر وَكم لله على خلقه من فضل وجود وكل ذِي نعْمَة مَحْسُود والحسود لَا

(1/4)


يسود وسميته بالإقناع فِي حل أَلْفَاظ أبي شُجَاع أعانني الله على إكماله وَجعله خَالِصا لوجهه الْكَرِيم بكرمه وأفضاله فَلَا ملْجأ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ وَلَا إعتماد إِلَّا عَلَيْهِ وَهُوَ حسبي وَنعم الْوَكِيل وأسأله السّتْر الْجَمِيل قَالَ الْمُؤلف رَحمَه الله تَعَالَى بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم أَي أبتديء وأفتتح أَو أؤلف وَهَذَا أولى إِذْ كل فَاعل يبْدَأ فِي فعله بِبسْم الله يضمر مَا جعل التَّسْمِيَة مبدأ لَهُ كَمَا أَن الْمُسَافِر إِذا حل أَو ارتحل فَقَالَ بِسم الله كَانَ الْمَعْنى باسم الله أحل أَو ارتحل وَالِاسْم مُشْتَقّ من السمو وَهُوَ الْعُلُوّ فَهُوَ من الْأَسْمَاء المحذوفة الإعجاز كيد وَدم لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال بنيت أوائلها على السّكُون وَأدْخل عَلَيْهَا همزَة الْوَصْل لتعذر الِابْتِدَاء بالساكن وَقيل من الوسم وَهُوَ الْعَلامَة وَفِيه عشر لُغَات نظمها بَعضهم فِي بَيت فَقَالَ ... سم وسما وَاسم بِتَثْلِيث أول ... لَهُنَّ سَمَاء عَاشر تمت انجلى ...
وَالله علم على الذَّات الْوَاجِب الْوُجُود الْمُسْتَحق لجَمِيع المحامد لم يتسم بِهِ سواهُ تسمى بِهِ قبل أَن يُسمى وأنزله على آدم فِي جملَة الْأَسْمَاء قَالَ تَعَالَى {هَل تعلم لَهُ سميا} أَي هَل تعلم أحدا سمى الله غير الله وَأَصله إِلَه كإمام ثمَّ أدخلُوا عَلَيْهِ الْألف

(1/5)


وَاللَّام ثمَّ حذفت الْهمزَة الثَّانِيَة طلبا للخفة ونقلت حركتها إِلَى اللَّام فَصَارَ اللاه بلامين متحركين ثمَّ سكنت الأولى وأدغمت فِي الثَّانِيَة للتسهيل والإله فِي الأَصْل يَقع على كل معبود بِحَق أَو بَاطِل ثمَّ غلب على المعبود بِحَق كَمَا أَن النَّجْم اسْم لكل كَوْكَب ثمَّ غلب على الثريا وَهُوَ عَرَبِيّ عِنْد الْأَكْثَر وَعند الْمُحَقِّقين أَنه اسْم الله الْأَعْظَم وَقد ذكر فِي الْقُرْآن الْعَزِيز فِي أَلفَيْنِ وثلثمائة وَسِتِّينَ موضعا وَاخْتَارَ النَّوَوِيّ تبعا لجَماعَة أَنه الْحَيّ القيوم قَالَ وَلذَلِك لم يذكر فِي الْقُرْآن إِلَّا فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع فِي الْبَقَرَة وَآل عمرَان وطه والرحمن الرَّحِيم صفتان مشبهتان بنيتا للْمُبَالَغَة من مصدر رحم والرحمن أبلغ من الرَّحِيم لِأَن زِيَادَة الْبناء تدل على زِيَادَة الْمَعْنى كَمَا فِي قطع بِالتَّخْفِيفِ وَقطع بِالتَّشْدِيدِ وَقدم الله عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ اسْم ذَات وهما اسْما صفة وَقدم الرَّحْمَن على الرَّحِيم لِأَنَّهُ خَاص إِذْ لَا يُقَال لغير الله بِخِلَاف الرَّحِيم وَالْخَاص مقدم على الْعَام
فَائِدَة قَالَ النَّسَفِيّ فِي تَفْسِيره قيل إِن الْكتب الْمنزلَة من السَّمَاء إِلَى الدُّنْيَا مائَة وَأَرْبَعَة صحف شِيث سِتُّونَ وصحف إِبْرَاهِيم ثَلَاثُونَ وصحف مُوسَى قبل التَّوْرَاة عشر والتوراة وَالزَّبُور وَالْإِنْجِيل وَالْفرْقَان ومعاني كل الْكتب مَجْمُوعَة فِي الْقُرْآن ومعاني الْقُرْآن مَجْمُوعَة فِي الْفَاتِحَة ومعاني الْفَاتِحَة مَجْمُوعَة فِي الْبَسْمَلَة ومعاني الْبَسْمَلَة مَجْمُوعَة فِي بائها وَمَعْنَاهَا بِي كَانَ مَا

(1/6)


كَانَ وَبِي يكون مَا يكون زَاد بَعضهم ومعاني الْبَاء فِي نقطتها الْحَمد لله بَدَأَ بالبسملة ثمَّ بالحمدلة اقْتِدَاء بِالْكتاب الْعَزِيز وَعَملا بِخَبَر كل أَمر ذِي بَال أَي حَال يهتم بِهِ شرعا لَا يبْدَأ فِيهِ بِبسْم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم فَهُوَ أقطع أَي نَاقص غير تَامّ فَيكون قَلِيل الْبركَة وَفِي رِوَايَة رَوَاهَا أَبُو دَاوُد بِالْحَمْد لله وَجمع المُصَنّف رَحمَه الله تَعَالَى كَغَيْرِهِ بَين الابتداءين عملا بالروايتين وَإِشَارَة إِلَى أَنه لَا تعَارض بَينهمَا إِذْ الِابْتِدَاء حَقِيقِيّ وإضافي فالحقيقي حصل بالبسملة والإضافي بالحمدلة أَو أَن الِابْتِدَاء لَيْسَ حَقِيقِيًّا بل هُوَ أَمر عرفي يَمْتَد من الْأَخْذ فِي التَّأْلِيف إِلَى الشُّرُوع فِي الْمَقْصُود فالكتب المصنفة مبدؤها الْخطْبَة بِتَمَامِهَا وَالْحَمْد اللَّفْظِيّ لُغَة الثَّنَاء بِاللِّسَانِ على الْجَمِيل الِاخْتِيَارِيّ على جِهَة التبجيل أَي التَّعْظِيم سَوَاء تعلق بالفضائل وَهِي النعم القاصرة أم بالفواصل وَهِي النعم المتعدية فَدخل فِي الثَّنَاء الْحَمد وَغَيره وَخرج بِاللِّسَانِ الثَّنَاء بِغَيْرِهِ كالحمد النَّفْسِيّ وبالجميل الثَّنَاء بِاللِّسَانِ على غير جميل إِن قُلْنَا بِرَأْي ابْن عبد السَّلَام إِن الثَّنَاء حَقِيقَة فِي الْخَيْر وَالشَّر وَإِن قُلْنَا بِرَأْي الْجُمْهُور وَهُوَ الظَّاهِر أَنه حَقِيقَة فِي الْخَيْر فَقَط ففائدة ذَلِك تَحْقِيق الْمَاهِيّة أَو دفع توهم إِرَادَة الْجمع بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز عِنْد من يجوزه وبالاختياري الْمَدْح فَإِنَّهُ يعم الِاخْتِيَارِيّ وَغَيره تَقول مدحت اللؤلؤة على حسنها دون حمدتها وبعلى جِهَة التبجيل مَا كَانَ على جِهَة الِاسْتِهْزَاء والسخرية نَحْو {ذُقْ إِنَّك أَنْت الْعَزِيز الْكَرِيم} وَعرفا فعل ينبيء عَن تَعْظِيم الْمُنعم من حَيْثُ إِنَّه منعم على الحامد أَو غَيره سَوَاء كَانَ ذكرا بِاللِّسَانِ أم اعتقادا

(1/7)


ومحبة بالجنان أَو عملا وخدمة بالأركان كَمَا قيل ... أفادتكم النعماء مني ثَلَاثَة ... يَدي ولساني وَالضَّمِير المحجبا ...
وَالشُّكْر لُغَة هُوَ الْحَمد عرفا وَعرفا صرف العَبْد جَمِيع مَا أنعم الله بِهِ عَلَيْهِ من السّمع وَغَيره إِلَى مَا خلق لأَجله والمدح لُغَة الثَّنَاء بِاللِّسَانِ على الْجَمِيل مُطلقًا على جِهَة التَّعْظِيم وَعرفا مَا يدل على اخْتِصَاص الممدوح بِنَوْع من الْفَضَائِل وَجُمْلَة الْحَمد لله خبرية لفظا إنشائية معنى لحُصُول الْحَمد بالتكلم بهَا مَعَ الإذعان لمدلولها وَيجوز أَن تكون مَوْضُوعَة شرعا للإنشاء وَالْحَمْد مُخْتَصّ بِاللَّه تَعَالَى كَمَا أفادته الْجُمْلَة سَوَاء جعلت فِيهِ أل للاستغراق كَمَا عَلَيْهِ الْجُمْهُور وَهُوَ ظَاهر أم للْجِنْس كَمَا عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيّ لِأَن لَام لله للاختصاص فَلَا فَرد مِنْهُ لغيره تَعَالَى أم للْعهد العلمي كَالَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى {إِذْ هما فِي الْغَار} كَمَا نَقله ابْن عبد السَّلَام وَأَجَازَهُ الواحدي على معنى أَن الْحَمد الَّذِي حمد الله بِهِ فِي نَفسه وحمده بِهِ أنبياؤه وأولياؤه مُخْتَصّ بِهِ وَالْعبْرَة بِحَمْد من ذكر فَلَا فَرد مِنْهُ لغيره وَأولى الثَّلَاثَة الْجِنْس وَقَوله رب بِالْجَرِّ على الصّفة مَعْنَاهُ الْمَالِك لجَمِيع الْخلق من الْإِنْس وَالْجِنّ وَالْمَلَائِكَة وَالدَّوَاب وَغَيرهم إِذْ كل مِنْهَا يُطلق عَلَيْهِ عَالم يُقَال عَالم الْإِنْس وعالم الْجِنّ إِلَى غير ذَلِك وَسمي الْمَالِك بالرب لِأَنَّهُ يحفظ مَا يملكهُ ويربيه وَلَا يُطلق على غَيره إِلَّا مُقَيّدا كَقَوْلِه تَعَالَى {ارْجع إِلَى رَبك} وَقَوله الْعَالمين اسْم جمع عَالم بِفَتْح اللَّام وَلَيْسَ جمعا لَهُ لِأَن الْعَالم عَام فِي الْعُقَلَاء وَغَيرهم وَالْعَالمِينَ مُخْتَصّ بالعقلاء وَالْخَاص لَا يكون جمعا لما هُوَ أَعم مِنْهُ قَالَه ابْن مَالك وَتَبعهُ ابْن هِشَام فِي تَوْضِيحه وَذهب كثير إِلَى أَنه جمع عَالم على حَقِيقَة الْجمع ثمَّ اخْتلفُوا فِي تَفْسِير الْعَالم الَّذِي هُوَ جمع هَذَا الْجمع فَذهب أَبُو الْحسن إِلَى أَنه أَصْنَاف الْخلق الْعُقَلَاء وَغَيرهم وَهُوَ ظَاهر كَلَام الْجَوْهَرِي وَذهب أَبُو عُبَيْدَة إِلَى أَنه أَصْنَاف الْعُقَلَاء فَقَط وهم الْإِنْس وَالْجِنّ وَالْمَلَائِكَة

(1/8)


ثمَّ قرن بالثناء على الله تَعَالَى وَالثنَاء على نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقوله وَصلي الله وَسلم على سيدنَا مُحَمَّد النَّبِي لقَوْله تَعَالَى {ورفعنا لَك ذكرك} أَي لَا أذكر إِلَّا وتذكر معي كَمَا فِي صَحِيح ابْن حبَان وَلقَوْل الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أحب أَن يقدم الْمَرْء بَين يَدي خطبَته أَي بِكَسْر الْخَاء وكل أَمر طلبه غَيرهَا حمدا لله وَالثنَاء عَلَيْهِ وَالصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإفراد الصَّلَاة عَن السَّلَام مَكْرُوه كَمَا قَالَه النَّوَوِيّ فِي أذكاره وَكَذَا عَكسه وَيحْتَمل أَن المُصَنّف أَتَى بهَا لفظا وأسقطها خطأ وَيخرج بذلك من الْكَرَاهَة وَالصَّلَاة من الله تَعَالَى رَحْمَة مقرونة بتعظيم وَمن الْمَلَائِكَة اسْتِغْفَار وَمن الْآدَمِيّين أَي وَمن الْجِنّ تضرع وَدُعَاء قَالَه الْأَزْهَرِي وَغَيره وَاخْتلف فِي وَقت وجوب الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على أَقْوَال
أَحدهَا كل صَلَاة وَاخْتَارَهُ الشَّافِعِي فِي التَّشَهُّد الْأَخير مِنْهَا
وَالثَّانِي فِي الْعُمر مرّة
وَالثَّالِث كلما ذكر وَاخْتَارَهُ الْحَلِيمِيّ من الشَّافِعِيَّة والطَّحَاوِي من الْحَنَفِيَّة وَاللَّخْمِيّ من الْمَالِكِيَّة وَابْن بطة من الْحَنَابِلَة
وَالرَّابِع فِي كل مجْلِس
وَالْخَامِس فِي أول كل دُعَاء وَفِي وَسطه وَفِي آخِره لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تجعلوني كقدح الرَّاكِب بل اجعلوني فِي أول كل دُعَاء وَفِي وَسطه وَفِي آخِره رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ عَن جَابر
وَمُحَمّد علم على نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْقُول من اسْم مفعول الْفِعْل المضعف سمي بِهِ بإلهام من الله تَعَالَى بِأَنَّهُ يكثر حمد الْخلق لَهُ لِكَثْرَة خصاله الحميدة كَمَا رُوِيَ فِي السّير أَنه قيل لجده عبد الْمطلب وَقد سَمَّاهُ فِي سَابِع وِلَادَته لمَوْت أَبِيه قبلهَا لم سميت ابْنك مُحَمَّدًا وَلَيْسَ من أَسمَاء آبَائِك وَلَا قَوْمك قَالَ رَجَوْت أَن يحمد فِي السَّمَاء وَالْأَرْض وَقد حقق الله تَعَالَى رَجَاءَهُ كَمَا سبق

(1/9)


فِي علمه وَالنَّبِيّ إِنْسَان حر ذكر من بني آدم سليم عَن منفر طبعا وَمن دناءة أَب وخنا أم أُوحِي إِلَيْهِ بشرع يعمله بِهِ وَإِن لم يُؤمر بتبليغه وَالرَّسُول إِنْسَان أُوحِي إِلَيْهِ بشرع وَأمر بتبليغه فَكل رَسُول نَبِي وَلَا عكس وعَلى آله وهم على الْأَصَح مؤمنو بني هَاشم وَبني الْمطلب وَقيل كل مُؤمن تَقِيّ وَقيل أمته وَاخْتَارَهُ جمع من الْمُحَقِّقين وَالْمطلب مفتعل من الطّلب واسْمه شيبَة الْحَمد على الْأَصَح لِأَنَّهُ ولد وَفِي رَأسه شيبَة ظَاهِرَة فِي ذؤابتيه وهَاشِم لقب واسْمه عَمْرو وَقيل لَهُ هَاشم لِأَن قُريْشًا أَصَابَهُم قحط فَنحر بَعِيرًا وَجعله لِقَوْمِهِ مرقة وثريدا فَلذَلِك سمي هاشما لهشمه الْعظم وعَلى صَحبه وَهُوَ جمع صَاحب والصحابي من اجْتمع مُؤمنا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته وَلَو سَاعَة وَلَو لم يرو عَنهُ شَيْئا فَيدْخل فِي ذَلِك الْأَعْمَى كَابْن أم مَكْتُوم وَالصَّغِير وَلَو غير مُمَيّز كمن حنكه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو وضع يَده على رَأسه وَقَوله أَجْمَعِينَ تَأْكِيد
وَفِي بعض النّسخ أما بعد سَاقِطَة فِي أَكْثَرهَا أَي بعد مَا تقدم من الْحَمد وَغَيره وَهَذِه الْكَلِمَة يُؤْتى بهَا للانتقال من أسلوب إِلَى آخر وَلَا يجوز الْإِتْيَان بهَا فِي أول الْكَلَام وَيسْتَحب الْإِتْيَان بهَا فِي الْخطب والمكاتبات اقْتِدَاء برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد عقد البُخَارِيّ لَهَا بَابا فِي كتاب الْجُمُعَة وَذكر فِيهِ أَحَادِيث كَثِيرَة وَالْعَامِل فِيهَا أما عِنْد سِيبَوَيْهٍ لنيابتها عَن الْفِعْل أَو الْفِعْل نَفسه

(1/10)


عِنْد غَيره وَالْأَصْل مهما يكن من شَيْء بعد فقد سَأَلَني أَي طلب مني بعض الأصدقاء جمع صديق وَهُوَ الْخَلِيل وَقَوله حفظهم الله تَعَالَى جملَة دعائية أَن أعمل أَي أصنف مُخْتَصرا وَهُوَ مَا قل لَفظه وَكثر مَعْنَاهُ لَا مَبْسُوطا وَهُوَ مَا كثر لَفظه وَمَعْنَاهُ قَالَ الْخَلِيل الْكَلَام يبسط ليفهم ويختصر ليحفظ فِي علم الْفِقْه الَّذِي هُوَ الْمَقْصُود من بَين الْعُلُوم بِالذَّاتِ وباقيها لَهُ كالآلات لِأَن بِهِ يعرف الْحَلَال وَالْحرَام وَغَيرهمَا من الْأَحْكَام وَقد تظاهرت الْآيَات وَالْأَخْبَار والْآثَار وتواترت وتطابقت الدَّلَائِل الصَّرِيحَة وتوافقت على فَضِيلَة الْعلم والحث على تَحْصِيله وَالِاجْتِهَاد فِي اقتباسه وتعليمه فَمن الْآيَات قَوْله تَعَالَى {هَل يَسْتَوِي الَّذين يعلمُونَ وَالَّذين لَا يعلمُونَ} وَقَوله تَعَالَى {وَقل رب زِدْنِي علما} وَقَوله تَعَالَى {إِنَّمَا يخْشَى الله من عباده الْعلمَاء} والآيات فِي ذَلِك كَثِيرَة مَعْلُومَة
وَمن الْأَخْبَار قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من يرد الله بِهِ خيرا يفقه فِي الدّين رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَلي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ لِأَن يهدي الله بك رجلا وَاحِدًا خير لَك من حمر النعم رَوَاهُ سهل عَن ابْن مَسْعُود وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاث صَدَقَة جَارِيَة أَو علم ينْتَفع بِهِ أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ وَالْأَحَادِيث فِي ذَلِك كَثِيرَة مَعْلُومَة مَشْهُورَة
وَمن الْآثَار عَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ كفى بِالْعلمِ شرفا أَن يَدعِيهِ من لَا يُحسنهُ ويفرح بِهِ إِذا نسب إِلَيْهِ وَكفى بِالْجَهْلِ ذما أَن يتبرأ مِنْهُ من هُوَ فِيهِ وَعَن عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَيْضا الْعلم خير من المَال الْعلم يحرسك وَأَنت تحرس المَال وَالْمَال تنقصه النَّفَقَة وَالْعلم يزكو بِالْإِنْفَاقِ وَعَن الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ من لَا يحب الْعلم لَا خير فِيهِ فَلَا يكن بَيْنك وَبَينه معرفَة وَلَا صداقة فَإِنَّهُ حَيَاة الْقُلُوب ومصباح البصائر وَعَن الشَّافِعِي أَيْضا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ طلب الْعلم أفضل من صَلَاة النَّافِلَة وَعَن ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ مجْلِس فقه خير من عبَادَة سِتِّينَ سنة والْآثَار فِي ذَلِك كَثِيرَة مَعْلُومَة

(1/11)


ثمَّ اعْلَم أَن مَا ذَكرْنَاهُ فِي فضل الْعلم إِنَّمَا هُوَ فِيمَن طلبه مرِيدا بِهِ وَجه الله تَعَالَى فَمن أَرَادَهُ لغَرَض دُنْيَوِيّ كَمَال أَو رياسة أَو منصب أَو جاه أَو شهرة أَو نَحْو ذَلِك فَهُوَ مَذْمُوم قَالَ الله تَعَالَى {من كَانَ يُرِيد حرث الْآخِرَة نزد لَهُ فِي حرثه وَمن كَانَ يُرِيد حرث الدُّنْيَا نؤته مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَة من نصيب} وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من تعلم علما ينْتَفع بِهِ فِي الْآخِرَة يُرِيد بِهِ عرضا من الدُّنْيَا لم يرح رَائِحَة الْجنَّة أَي لم يجد رِيحهَا وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة أَي من الْمُسلمين عَالم لَا ينْتَفع بِعِلْمِهِ وَفِي ذمّ الْعَالم الَّذِي لم يعْمل بِعِلْمِهِ أَخْبَار كَثِيرَة وَفِي هَذَا الْقدر كِفَايَة لمن وَفقه الله تَعَالَى
وَالْفِقْه لُغَة الْفَهم مُطلقًا كَمَا صَوبه الأسنوي وَاصْطِلَاحا كَمَا فِي قَوَاعِد الزَّرْكَشِيّ معرفَة أَحْكَام الْحَوَادِث نصا واستنباطا على مَذْهَب أَي مَا ذهب إِلَيْهِ الإِمَام الشَّافِعِي من الْأَحْكَام فِي الْمسَائِل مجَازًا عَن مَكَان الذّهاب وَذكر المُصَنّف هُنَا الشَّافِعِي

(1/12)


رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فلنتعرض إِلَى طرف من أخباره تبركا بِهِ فَنَقُول هُوَ حبر الْأمة وسلطان الْأَئِمَّة مُحَمَّد أَبُو عبد الله بن إِدْرِيس بن الْعَبَّاس بن عُثْمَان بن شَافِع بن السَّائِب بن عبيد بن عبد يزِيد بن هَاشم بن عبد الْمطلب بن عبد منَاف جد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن عبد منَاف وَهَذَا نسب عَظِيم كَمَا قيل
نسب كَأَن عَلَيْهِ من شمس الضُّحَى
نورا وَمن فلق الصَّباح عمودا ... مَا فِيهِ إِلَّا سيد من سيد
حَاز المكارم والتقى والجودا
وشافع بن السَّائِب هُوَ الَّذِي نسب إِلَيْهِ الشَّافِعِي لَقِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ مترعرع وَأسلم أَبوهُ السَّائِب يَوْم بدر فَإِنَّهُ كَانَ صَاحب راية بني هَاشم فَأسر فِي جملَة من أسر وفدى نَفسه ثمَّ أسلم وَعبد منَاف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بِالْهَمْز وَتَركه ابْن غَالب بن فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة بن خُزَيْمَة بن مدركة بن إلْيَاس بن مُضر بن نزار بن معد بن عدنان وَالْإِجْمَاع مُنْعَقد على هَذَا النّسَب إِلَى عدنان وَلَيْسَ فِيمَا بعده إِلَى آدم طَرِيق صَحِيح فِيمَا ينْقل
وَعَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا انْتهى فِي النّسَب إِلَى عدنان أمسك ثمَّ يَقُول كذب النسابون أَي بعده
ولد الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ على الْأَصَح بغزة الَّتِي توفّي فِيهَا هَاشم جد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقيل بعسقلان وَقيل بمنى سنة خمسين وَمِائَة ثمَّ حمل إِلَى مَكَّة وَهُوَ ابْن سنتَيْن وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن وَهُوَ ابْن سبع سِنِين والموطأ وَهُوَ ابْن عشر وتفقه على مُسلم بن خَالِد مفتي مَكَّة الْمَعْرُوف بالزنجي لشدَّة شقرته من بَاب أَسمَاء الأضداد وَأذن لَهُ فِي الْإِفْتَاء وَهُوَ ابْن خمس عشرَة سنة مَعَ أَنه نَشأ يَتِيما فِي حجر أمه فِي قلَّة من الْعَيْش وضيق خَال وَكَانَ فِي صباه يُجَالس الْعلمَاء وَيكْتب مَا يستفيده فِي الْعِظَام وَنَحْوهَا

(1/13)


حَتَّى مَلأ مِنْهَا خبايا ثمَّ رَحل إِلَى مَالك بِالْمَدِينَةِ ولازمه مُدَّة ثمَّ قدم بَغْدَاد سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَة فَأَقَامَ بهَا سنتَيْن وَاجْتمعَ عَلَيْهِ علماؤها وَرجع كثير مِنْهُم عَن مَذَاهِب كَانُوا عَلَيْهَا إِلَى مذْهبه وصنف بهَا كِتَابه الْقَدِيم ثمَّ عَاد إِلَى مَكَّة فَأَقَامَ بهَا مُدَّة ثمَّ عَاد إِلَى بَغْدَاد سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة فَأَقَامَ بهَا شهرا ثمَّ خرج إِلَى مصر وَلم يزل بهَا ناشرا للْعلم ملازما للاشتغال بجامعها الْعَتِيق إِلَى أَن أَصَابَته ضَرْبَة شَدِيدَة فَمَرض بِسَبَبِهَا أَيَّامًا على مَا قيل ثمَّ انْتقل إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى وَهُوَ قطب الْوُجُود يَوْم الْجُمُعَة سلخ رَجَب سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ وَدفن بالقرافة بعد الْعَصْر من يَوْمه وانتشر علمه فِي جَمِيع الْآفَاق وَتقدم على الْأَئِمَّة فِي الْخلاف والوفاق وَعَلِيهِ حمل الحَدِيث الْمَشْهُور عَالم قُرَيْش يمْلَأ طباق الأَرْض علما وَمن كَلَامه رَضِي الله عَنهُ
أمت مطامعي فأرحت نَفسِي
فَإِن النَّفس مَا طمعت تهون ... وأحييت القنوع وَكَانَ مَيتا
فَفِي إحيائه عرضي مصون ... إِذا طمع يحل بقلب عبد
علته مهانة وعلاه هون
وَله أَيْضا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
مَا حك جِلْدك مثل ظفرك
فتول أَنْت جَمِيع أَمرك ... وَإِذا قصدت لحَاجَة
فاقصد لمعترف بقدرك
وَقد أفرد بعض أَصْحَابه فِي فَضله وَكَرمه وَنسبه وأشعاره كتبا مَشْهُورَة وَفِيمَا ذكرته تذكرة لأولى الْأَلْبَاب وَلَوْلَا خوف الْملَل لشحنت كتابي هَذَا مِنْهَا بِأَبْوَاب وَذكرت فِي شرح الْمِنْهَاج وَغَيره مَا فِيهِ الْكِفَايَة وَيكون ذَلِك الْمُخْتَصر فِي غَايَة الِاخْتِصَار أَي

(1/14)


بِالنِّسْبَةِ إِلَى أطول مِنْهُ وَغَايَة الشَّيْء مَعْنَاهَا ترَتّب الأثرعلى ذَلِك الشَّيْء كَمَا تَقول غَايَة البيع الصَّحِيح حل الِانْتِفَاع بِالْمَبِيعِ وَغَايَة الصَّلَاة الصَّحِيحَة إجزاؤها وَفِي نِهَايَة الإيجاز بمثناة تحتية بعد الْهمزَة أَي الْقصر وَظَاهر كَلَامه تغاير لَفْظِي الِاخْتِصَار والإيجاز والغاية وَالنِّهَايَة وَهُوَ كَذَلِك فالاختصار حذف عرض الْكَلَام والإيجاز حذف طوله كَمَا قَالَه ابْن الملقن فِي إشاراته عَن بَعضهم وَقد علم مِمَّا تقرر الْفرق بَين الْغَايَة وَالنِّهَايَة يقرب أَي يسهل لوضوح عِبَارَته على المتعلم أَي المبتديء فِي التَّعَلُّم شَيْئا فَشَيْئًا درسه أَي بِسَبَب اختصاره وعذوبة أَلْفَاظه ويسهل أَي يَتَيَسَّر على المبتديء أَي فِي طلب الْفِقْه حفظه عَن ظهر قلب لما مر عَن الْخَلِيل أَن الْكَلَام يختصر ليحفظ
تَنْبِيه حرف المضارعة فِي الْفِعْلَيْنِ مَفْتُوح وسألني أَيْضا بعض الأصدقاء أَن أَكثر فِيهِ من التقسيمات لما يحْتَاج إِلَى تقسيمه من الْأَحْكَام الْفِقْهِيَّة الْآتِيَة كَمَا فِي الْمِيَاه وَغَيرهَا مِمَّا ستعرفه وَمن حصر أَي ضبط الْخِصَال الْوَاجِبَة والمندوبة فأجبته أَي السَّائِل إِلَى ذَلِك أَي إِلَى تصنيف مُخْتَصر بالكيفية الْمَطْلُوبَة وَقَوله طَالبا حَال من ضمير الْفَاعِل أَي مرِيدا للثَّواب أَي الْجَزَاء من الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على تصنيف هَذَا الْمُخْتَصر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا مَاتَ ابْن آدم انْقَطع عمله إِلَّا من ثَلَاث صَدَقَة جَارِيَة أَو علم ينْتَفع بِهِ أَو ولد صَالح يَدْعُو لَهُ وَقَوله رَاغِبًا حَال أَيْضا مِمَّا ذكر أَي ملتجئا إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْإِعَانَة من فَضله عَليّ بِحُصُول التَّوْفِيق الَّذِي هُوَ خلق قدرَة الطَّاعَة فِي العَبْد للصَّوَاب الَّذِي هُوَ ضد الْخَطَأ بِأَن يقدرني الله على إِتْمَامه كَمَا أقدرني على ابْتِدَائه فَإِنَّهُ كريم جواد لَا يرد من سَأَلَهُ وَاعْتمد عَلَيْهِ إِنَّه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على مَا يَشَاء أَي

(1/15)


يُريدهُ قدير أَي قَادر وَالْقُدْرَة صفة تُؤثر فِي الشَّيْء عِنْد تعلقهَا بِهِ وَهِي إِحْدَى الصِّفَات الثَّمَانِية الْقَدِيمَة الثَّابِتَة عِنْد أهل السّنة الَّتِي هِيَ صِفَات الذَّات الْقَدِيم الْمُقَدّس وَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بعباده جمع عبد وَهُوَ كَمَا قَالَ فِي الْمُحكم الْإِنْسَان حرا كَانَ أَو رَقِيقا فقد دعِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك فِي أشرف المواطن ك {الْحَمد لله الَّذِي أنزل على عَبده الْكتاب} {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} وَقَالَ أَبُو عَليّ الدقاق لَيْسَ لِلْمُؤمنِ صفة أتم وَلَا أشرف من الْعُبُودِيَّة كَمَا قَالَ الْقَائِل ... لَا تدعني إِلَّا بياعبدها ... فَإِنَّهُ أشرف أسمائي ...
وَقَوله لطيف من أَسْمَائِهِ تَعَالَى بِالْإِجْمَاع واللطف الرأفة والرفق وَهُوَ من الله تَعَالَى التَّوْفِيق والعصمة بِأَن يخلق قدره الطَّاعَة فِي العَبْد
فَائِدَة قَالَ السُّهيْلي لما جَاءَ البشير إِلَى يَعْقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أعطَاهُ فِي الْبشَارَة كَلِمَات كَانَ يَرْوِيهَا عَن أَبِيه عَن جده عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهِي يَا لطيفا فَوق كل لطيف ألطف بِي فِي أموري كلهَا كَمَا أحب ورضني فِي دنياي وآخرتي وَقَوله خَبِير من أَسْمَائِهِ تَعَالَى أَيْضا بِالْإِجْمَاع أَي هُوَ عَالم بعباده وبأفعالهم وأقوالهم وبمواضع حوائجهم وَمَا تخفيه صُدُورهمْ
وَإِذ قد أنهينا الْكَلَام بِحَمْد الله تَعَالَى على مَا قصدناه من أَلْفَاظ الْخطْبَة فَنَذْكُر طرفا من محَاسِن هَذَا الْكتاب قبل الشُّرُوع فِي الْمَقْصُود فَنَقُول إِن الله تَعَالَى قد علم من مُؤَلفه خلوص نِيَّته فِي تصنيفه فَعم النَّفْع بِهِ فَقل من متعلم إِلَّا ويقرؤه أَولا إِمَّا بِحِفْظ وَإِمَّا بمطالعة وَقد اعتنى بشرحه كثير من الْعلمَاء فَفِي ذَلِك دلَالَة على أَنه كَانَ من الْعلمَاء العاملين القاصدين بعلمهم وَجه الله تَعَالَى
جعل الله تَعَالَى قراه الْجنَّة وَجعله فِي أَعلَى عليين مَعَ الَّذين أنعم عَلَيْهِم من النَّبِيين وَالصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَفعل ذَلِك بِنَا وبوالدينا ومشايخنا ومحبينا وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم
وَلما كَانَت الصَّلَاة أفضل الْعِبَادَات بعد الْإِيمَان وَمن أعظم شُرُوطهَا الطَّهَارَة لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِفْتَاح الصَّلَاة الطّهُور وَالشّرط

(1/16)


مقدم طبعا فَقدم وضعا بَدَأَ المُصَنّف بهَا فَقَالَ

(1/17)


هَذَا كتاب بَيَان أَحْكَام الطَّهَارَة
اعْلَم أَن الْكتاب لُغَة مَعْنَاهُ الضَّم وَالْجمع يُقَال كتبت كتبا وَكِتَابَة وكتابا وَمِنْه قَوْلهم تكتبت بَنو فلَان إِذا اجْتَمعُوا وَكتب إِذا خطّ بالقلم لما فِيهِ من اجْتِمَاع الْكَلِمَات والحروف
قَالَ أَبُو حَيَّان وَلَا يَصح أَن يكون مشتقا من الْكتب لِأَن الْمصدر لَا يشتق من الْمصدر
وَأجِيب بِأَن الْمَزِيد يشتق من الْمُجَرّد
وَاصْطِلَاحا اسْم لجملة مُخْتَصَّة من الْعلم ويعبر عَنْهَا بِالْبَابِ وبالفصل أَيْضا
فَإِن جمع بَين الثَّلَاثَة قيل الْكتاب اسْم لجملة مُخْتَصَّة من الْعلم مُشْتَمِلَة على أَبْوَاب وفصول ومسائل غَالِبا وَالْبَاب اسْم لجملة مُخْتَصَّة من الْكتاب مُشْتَمِلَة على فُصُول ومسائل غَالِبا والفصل اسْم لجملة مُخْتَصَّة من الْبَاب مُشْتَمِلَة على مسَائِل غَالِبا
وَالْبَاب لُغَة مَا يتَوَصَّل مِنْهُ إِلَى غَيره والفصل لُغَة الحاجز بَين الشَّيْئَيْنِ وَالْكتاب هُنَا خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف مُضَاف إِلَى محذوفين كَمَا قدرته وَكَذَا يقدر فِي كل كتاب أَو بَاب أَو فصل بِحَسب مَا يَلِيق بِهِ وَإِذ قد علمت ذَلِك فَلَا احْتِيَاج إِلَى تَقْدِير ذَلِك فِي كل كتاب أَو بَاب أَو فصل اختصارا
(الطَّهَارَة لُغَة وَشرعا) وَالطَّهَارَة لُغَة النَّظَافَة والخلوص من الأدناس حسية كَانَت كالأنجاس أَو معنوية كالعيوب يُقَال طهر بِالْمَاءِ وهم قوم يتطهرون أَي يتنزهون عَن الْعَيْب وَأما فِي الشَّرْع فَاخْتلف فِي تَفْسِيرهَا وَأحسن مَا قيل فِيهِ إِنَّه ارْتِفَاع الْمَنْع الْمُتَرَتب على الْحَدث وَالنَّجس فَيدْخل فِيهِ غسل الذِّمِّيَّة والمجنونة ليحلا لحليلهما الْمُسلم فَإِن الِامْتِنَاع من الْوَطْء قد زَالَ وَقد يُقَال إِنَّه لَيْسَ شَرْعِيًّا لِأَنَّهُ لم يرفع حَدثا وَلم يزل نجسا وَكَذَا يُقَال فِي غسل الْمَيِّت الْمُسلم فَإِنَّهُ أَزَال الْمَنْع من الصَّلَاة عَلَيْهِ وَلم يزل بِهِ حدث وَلَا نجس بل هُوَ تكرمة للْمَيت وَقيل هِيَ فعل مَا تستباح بِهِ الصَّلَاة

(1/18)


(تَقْسِيم الطَّهَارَة إِلَى وَاجِب ومستحب) وتنقسم إِلَى وَاجِب كالطهارة عَن الْحَدث ومستحب كتجديد الْوضُوء والأغسال المسنونة ثمَّ الْوَاجِب يَنْقَسِم إِلَى بدني وقلبي فالقلبي كالحسد وَالْعجب وَالْكبر والرياء
قَالَ الْغَزالِيّ معرفَة حُدُودهَا وأسبابها وطبها وعلاجها فرض عين يجب تعلمه والبدني إِمَّا بِالْمَاءِ أَو بِالتُّرَابِ أَو بهما كَمَا فِي ولوغ الْكَلْب أَو بِغَيْرِهِمَا كالحريف فِي الدّباغ أَو بِنَفسِهِ كانقلاب الْخمر خلا
(القَوْل فِي أَنْوَاع الْمِيَاه) وَقَوله (الْمِيَاه) جمع مَاء وَالْمَاء مَمْدُود على الْأَفْصَح وَأَصله موه تحركت الْوَاو وَانْفَتح مَا قبلهَا فقلبت ألفا ثمَّ أبدلت الْهَاء همزَة
وَمن عَجِيب لطف الله تَعَالَى أَنه أَكثر مِنْهُ وَلم يحوج فِيهِ إِلَى كثير معالجة لعُمُوم الْحَاجة إِلَيْهِ (الَّتِي يجوز التَّطْهِير بهَا) أَي بِكُل وَاحِد مِنْهَا عَن الْحَدث والخبث
وَالْحَدَث فِي اللُّغَة الشَّيْء الْحَادِث وَفِي الشَّرْع يُطلق على أَمر اعتباري يقوم بالأعضاء يمْنَع من صِحَة الصَّلَاة حَيْثُ لَا مرخص وعَلى الْأَسْبَاب الَّتِي يَنْتَهِي بهَا الطُّهْر وعَلى الْمَنْع الْمُتَرَتب على ذَلِك وَالْمرَاد هُنَا الأول لِأَنَّهُ الَّذِي لَا يرفعهُ إِلَّا المَاء بِخِلَاف الْمَنْع لِأَنَّهُ صفة الْأَمر الاعتباري فَهُوَ غَيره لِأَن الْمَنْع هُوَ الْحُرْمَة وَهِي ترْتَفع ارتفاعا مُقَيّدا بِنَحْوِ التَّيَمُّم بِخِلَاف الأول
وَلَا فرق فِي الْحَدث بَين الْأَصْغَر وَهُوَ مَا نقض الْوضُوء والمتوسط وَهُوَ مَا أوجب الْغسْل من جماع أَو إِنْزَال والأكبر وَهُوَ مَا أوجبه من حيض أَو نِفَاس
والخبث فِي اللُّغَة مَا يستقذر وَفِي الشَّرْع مستقذر يمْنَع من صِحَة الصَّلَاة حَيْثُ لَا مرخص وَلَا فرق فِيهِ بَين المخفف كبول صبي لم يطعم غير لبن والمتوسط كبول غَيره من غير نَحْو الْكَلْب والمغلظ كبول نَحْو الْكَلْب
وَإِنَّمَا تعين المَاء فِي رفع الْحَدث لقَوْله تَعَالَى {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} وَالْأَمر للْوُجُوب فَلَو رفع غير المَاء لما وَجب التَّيَمُّم عِنْد فَقده
وَنقل ابْن الْمُنْذر وَغَيره الْإِجْمَاع على اشْتِرَاطه فِي الْحَدث إِزَالَة الْخبث لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي خبر الصَّحِيحَيْنِ حِين بَال الْأَعرَابِي فِي الْمَسْجِد صبوا عَلَيْهِ ذنوبا من مَاء والذنُوب الدَّلْو الممتلئة مَاء
وَالْأَمر للْوُجُوب كَمَا مر فَلَو كفى غَيره لما وَجب غسل الْبَوْل بِهِ وَلَا يُقَاس بِهِ غَيره لِأَن الطُّهْر بِهِ عِنْد الإِمَام تعبدي وَعند غَيره مَعْقُول الْمَعْنى لما فِيهِ من الرقة واللطافة الَّتِي لَا تُوجد فِي غَيره
الْأَفْعَال كَانَ بِمَعْنى الْحل وَهُوَ هُنَا بِمَعْنى الْأَمريْنِ لِأَن من أَمر غير المَاء على أَعْضَاء الطَّهَارَة بنية الْوضُوء أَو الْغسْل لَا يجوز وَيحرم لِأَنَّهُ تقرب بِمَا لَيْسَ مَوْضُوعا للتقرب فعصى لتلاعبه (سبع مياه) بِتَقْدِيم السِّين على الْمُوَحدَة أَحدهَا (مَاء السَّمَاء) لقَوْله تَعَالَى {وَينزل عَلَيْكُم من السَّمَاء}

(1/19)


تَنْبِيه يجوز إِذا أضيف إِلَى الْعُقُود كَانَ بِمَعْنى الصِّحَّة وَإِذا أضيف إِلَى مَاء ليطهركم بِهِ وَبَدَأَ المُصَنّف رَحمَه الله بهَا لشرفها على الأَرْض كَمَا هُوَ الْأَصَح فِي الْمَجْمُوع
وَهل للمراد بالسماء فِي الْآيَة الجرم الْمَعْهُود أَو السَّحَاب قَولَانِ
حَكَاهُمَا النَّوَوِيّ فِي دقائق الرَّوْضَة وَلَا مَانع من أَن ينزل من كل مِنْهُمَا
(و) ثَانِيهَا (مَاء الْبَحْر) أَي المالح لحَدِيث هُوَ الطّهُور مَاؤُهُ الْحل ميتَته صَححهُ التِّرْمِذِيّ وَسمي بحرا لعمقه واتساعه
تَنْبِيه حَيْثُ أطلق الْبَحْر فَالْمُرَاد بِهِ المالح غَالِبا ويقل فِي العذب كَمَا قَالَه فِي الْمُحكم
فَائِدَة اعْترض بَعضهم على الشَّافِعِي فِي قَوْله كل مَاء من بَحر عذب أَو مالح فالتطهير بِهِ جَائِز بِأَنَّهُ لحن وَإِنَّمَا يَصح من بَحر ملح وَهُوَ مخطىء فِي ذَلِك
قَالَ الشَّاعِر (الطَّوِيل) فَلَو تفلت فِي الْبَحْر وَالْبَحْر مالح لأصبح مَاء الْبَحْر من رِيقهَا عذبا وَلَكِن فهمه السقيم أَدَّاهُ إِلَى ذَلِك قَالَ الشَّاعِر وَكم من عائب قولا صَحِيحا وآفته من الْفَهم السقيم (و) ثَالِثهَا (مَاء النَّهر) العذب وَهُوَ بِفَتْح الْهَاء وسكونها كالنيل والفرات وَنَحْوهمَا بِالْإِجْمَاع
(و) رَابِعهَا (مَاء الْبِئْر) لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء لما سُئِلَ عَن بِئْر بضَاعَة بِالضَّمِّ لِأَنَّهُ تَوَضَّأ مِنْهَا وَمن بِئْر رومة
تَنْبِيه شَمل إِطْلَاقه الْبِئْر بِئْر زَمْزَم لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ مِنْهَا
وَفِي الْمَجْمُوع حِكَايَة الْإِجْمَاع على صِحَة الطَّهَارَة بِهِ وَإنَّهُ لَا يَنْبَغِي إِزَالَة النَّجَاسَة بِهِ سِيمَا فِي الِاسْتِنْجَاء لما قيل إِنَّه يُورث البواسير وَذكر نَحوه ابْن الملقن فِي شرح البُخَارِيّ وَهل إِزَالَة النَّجَاسَة بِهِ حرَام أَو مَكْرُوه أَو خلاف الأولى أوجه حَكَاهَا الدَّمِيرِيّ وَالطّيب النَّاشِرِيّ من غير تَرْجِيح تبعا للْأَذْرَعِيّ
وَالْمُعْتَمد الْكَرَاهَة لِأَن أَبَا ذَر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَزَال بِهِ الدَّم الَّذِي أدمته قُرَيْش حِين رَجَمُوهُ كَمَا هُوَ فِي صَحِيح مُسلم وغسلت أَسمَاء بنت أبي بكر وَلَدهَا عبد الله ابْن الزبير رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم حِين قتل وتقطعت أوصاله بِمَاء زَمْزَم بِمحضر من الصَّحَابَة وَغَيرهم وَلم يُنكر ذَلِك عَلَيْهَا أحد مِنْهُم
(و) خَامِسهَا (مَاء الْعين) الأرضية كالنابعة من أَرض أَو الْجَبَل أَو الحيوانية كالنابعة من الزلَال وَهُوَ شَيْء ينْعَقد من المَاء على صُورَة الْحَيَوَان أَو الإنسانية كالنابعة من بَين أَصَابِعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذَاتهَا على خلاف فِيهِ وَهُوَ أفضل الْمِيَاه مُطلقًا

(1/20)


(و) سادسها (مَاء الثَّلج) بِالْمُثَلثَةِ (و) سابعها (مَاء الْبرد) بِفَتْح الر لِأَنَّهُمَا ينزلان من السَّمَاء ثمَّ يعرض لَهما الجمود فِي الْهَوَاء كَمَا يعرض لَهما على وَجه الأَرْض قَالَه ابْن الرّفْعَة فِي الْكِفَايَة
فَلَا يردان على المُصَنّف وَكَذَا لَا يرد عَلَيْهِ أَيْضا رشح بخار المَاء لِأَنَّهُ مَاء حَقِيقَة وَينْقص بِقَدرِهِ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد كَمَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي مَجْمُوعه وَغَيره وَإِن قَالَ الرَّافِعِيّ تازع فِيهِ عَامَّة الْأَصْحَاب وَقَالُوا يسمونه بخارا أَو رشحا لَا مَاء على الْإِطْلَاق وَلَا مَاء الزَّرْع إِذا قُلْنَا بطهوريته وَهُوَ الْمُعْتَمد لِأَنَّهُ لَا يخرج عَن أحد الْمِيَاه الْمَذْكُورَة
(القَوْل فِي أَقسَام الْمِيَاه من حَيْثُ التَّطْهِير بهَا وَعَدَمه) (ثمَّ الْمِيَاه) الْمَذْكُورَة (على أَرْبَعَة أَقسَام)
أَحدهَا مَاء (طَاهِر) فِي نَفسه (مطهر) لغيره (غير مَكْرُوه) اسْتِعْمَاله (وَهُوَ المَاء الْمُطلق)
(حَقِيقَة المَاء الْمُطلق) وَهُوَ مَا يَقع عَلَيْهِ اسْم مَاء بِلَا قيد بِإِضَافَة كَمَاء ورد أَو بِصفة كَمَاء دافق أَو بلام عهد كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نعم إِذا رَأَتْ المَاء يَعْنِي الْمَنِيّ قَالَ الْوَلِيّ الْعِرَاقِيّ وَلَا يحْتَاج لتقييد الْقَيْد بِكَوْنِهِ لَازِما لِأَن الْقَيْد الَّذِي لَيْسَ بِلَازِم كَمَاء الْبِئْر مثلا ينْطَلق اسْم المَاء عَلَيْهِ بِدُونِهِ فَلَا حَاجَة للِاحْتِرَاز عَنهُ وَإِنَّمَا يحْتَاج إِلَى الْقَيْد فِي جَانب الْإِثْبَات كَقَوْلِنَا غير الْمُطلق هُوَ الْمُقَيد بِقَيْد لَازم
اه
(المَاء الْمُطلق يَشْمَل الْمُتَغَيّر بِمَا لَا يسْتَغْنى عَنهُ حكما أَو اسْما) تَنْبِيه تَعْرِيف الْمُطلق بِمَا ذكر هُوَ مَا جرى عَلَيْهِ فِي الْمِنْهَاج
وَأورد عَلَيْهِ الْمُتَغَيّر كثيرا بِمَا لَا يُؤثر فِيهِ كطين وطحلب وَمَا فِي مقره وممره فَإِنَّهُ مُطلق مَعَ أَنه لم يعر عَمَّا ذكر
وَأجِيب بِمَنْع أَنه مُطلق وَإِنَّمَا أعْطى حكمه فِي جَوَاز التَّطْهِير بِهِ للضَّرُورَة فَهُوَ

(1/21)


مُسْتَثْنى من غير الْمُطلق على أَن الرَّافِعِيّ قَالَ أهل اللِّسَان وَالْعرْف لَا يمتنعون من إِيقَاع اسْم المَاء الْمُطلق عَلَيْهِ وَعَلِيهِ لَا إِيرَاد وَلَا يرد المَاء الْقَلِيل الَّذِي وَقعت فِيهِ نَجَاسَة وَلم تغيره وَلَا المَاء الْمُسْتَعْمل لِأَنَّهُ غير مُطلق
(و) ثَانِيهَا مَاء (طَاهِر) فِي نَفسه (مطهر) لغيره إِلَّا (أَنه مَكْرُوه) اسْتِعْمَاله شرعا تَنْزِيها فِي الطَّهَارَة (وَهُوَ المَاء المشمس) أَي المتشمس لما روى الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه كَانَ يكره الِاغْتِسَال بِهِ وَقَالَ إِنَّه يُورث البرص لَكِن بِشُرُوط الأول أَن يكون بِبِلَاد حارة أَي وتنقله الشَّمْس عَن حَالَته إِلَى حَالَة أُخْرَى كَمَا نَقله فِي الْبَحْر عَن الْأَصْحَاب
وَالثَّانِي أَن يكون فِي آنِية منطبعة غير النَّقْدَيْنِ وَهِي كل مَا طرق نَحْو الْحَدِيد والنحاس
وَالثَّالِث أَن يسْتَعْمل فِي حَال حرارته فِي الْبدن لِأَن الشَّمْس بحدتها تفصل مِنْهُ زهومة تعلو المَاء فَإِذا لاقت الْبدن بسخونتها خيف أَن تقبض عَلَيْهِ فيحتبس الدَّم فَيحصل البرص وَيُؤْخَذ من هَذَا أَن اسْتِعْمَاله فِي الْبدن لغير الطَّهَارَة كشرب كالطهارة بِخِلَاف مَا إِذا اسْتعْمل فِي غير الْبدن كَغسْل ثوب لفقد الْعلَّة الْمَذْكُورَة وَبِخِلَاف المسخن بالنَّار المعتدل وَإِن سخن بِنَجس وَلَو بروث نَحْو كلب فَلَا يكره لعدم ثُبُوت النَّهْي عَنهُ ولذهاب الزهومة لقُوَّة تأثيرها وَبِخِلَاف مَا إِذا كَانَ بِبِلَاد بَارِدَة أَو معتدلة وَبِخِلَاف المشمس فِي غير المنطبع كالخزف والحياض أَو فِي منطبع نقد لصفاء جوهره أَو اسْتعْمل فِي الْبدن بعد أَن برد وَأما الْمَطْبُوخ بِهِ فَإِن كَانَ مَائِعا كره وَإِلَّا فَلَا كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ
وَيكرهُ فِي الأبرص لزِيَادَة الضَّرَر وَكَذَا فِي الْمَيِّت لِأَنَّهُ مُحْتَرم وَفِي غير الْآدَمِيّ من الْحَيَوَان إِن كَانَ البرص يُدْرِكهُ كالخيل وَإِنَّمَا لم يحرم المشمس كالسم لِأَن ضَرَره مظنون بِخِلَاف السم وَيجب اسْتِعْمَاله عِنْد فقد غَيره
أَي عِنْد ضيق الْوَقْت
(القَوْل فِي المَاء شَدِيد السخونة والبرودة) وَيكرهُ أَيْضا تَنْزِيها شَدِيد السخونة أَو الْبُرُودَة فِي الطَّهَارَة لمَنعه الإسباغ وَكَذَا مياه ديار ثَمُود وكل مَاء مغضوب على أَهله

(1/22)


كَمَاء ديار قوم لوط وَمَاء الْبِئْر الَّتِي وضع فِيهَا السحر لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَإِن الله تَعَالَى مسخ ماءها حَتَّى صَار كنقاعة الْحِنَّاء وَمَاء ديار بابل
(القَوْل فِي أَقسَام الطَّاهِر غير المطهر) (و) ثَالِثهَا مَاء (طَاهِر) فِي نَفسه (غير مطهر) لغيره (وَهُوَ) المَاء الْقَلِيل (الْمُسْتَعْمل) فِي فرض الطَّهَارَة عَن حدث كالغسلة الأولى أما كَونه طَاهِرا فَلِأَن السّلف الصَّالح كَانُوا لَا يحترزون عَمَّا يتطاير عَلَيْهِم مِنْهُ
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَاد جَابِرا فِي مَرضه فَتَوَضَّأ وصب عَلَيْهِ من وضوئِهِ
وَأما دَلِيل إِنَّه غير مطهر لغيره فَلِأَن السّلف الصَّالح كَانُوا مَعَ قلَّة مِيَاههمْ لم يجمعوا الْمُسْتَعْمل للاستعمال ثَانِيًا بل انتقلوا إِلَى التَّيَمُّم وَلم يجمعوه للشُّرْب لِأَنَّهُ مستقذر
(القَوْل فِي المَاء الْمُسْتَعْمل) تَنْبِيه المُرَاد بِالْفَرْضِ مَا لَا بُد مِنْهُ أَثم الشَّخْص بِتَرْكِهِ كحنفي تَوَضَّأ بِلَا نِيَّة أم لَا كصبي إِذْ لَا بُد لصِحَّة صلاتهما من وضوء وَلَا أثر لاعتقاد الشَّافِعِي أَن مَاء الْحَنَفِيّ فِيمَا ذكر لم يرفع حَدثا بِخِلَاف اقتدائه بحنفي مس فرجه حَيْثُ لَا يَصح اعْتِبَارا باعتقاده لِأَن الرابطة مُعْتَبرَة فِي الِاقْتِدَاء دون الطهارات
تَنْبِيه اخْتلف فِي عِلّة منع اسْتِعْمَال المَاء الْمُسْتَعْمل فَقيل وَهُوَ الْأَصَح إِنَّه غير مُطلق كَمَا صَححهُ النَّوَوِيّ فِي تَحْقِيقه وَغَيره وَقيل مُطلق وَلَكِن منع من اسْتِعْمَاله تعبدا كَمَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ
وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح التَّنْبِيه إِنَّه الصَّحِيح عِنْد الْأَكْثَرين
وَخرج بِالْمُسْتَعْملِ فِي فرض الْمُسْتَعْمل فِي نفل الطَّهَارَة كالغسل الْمسنون وَالْوُضُوء المجدد فَإِنَّهُ طهُور على الْجَدِيد
تَنْبِيه من الْمُسْتَعْمل مَاء غسل بدل مسح من رَأس أَو خف وَمَاء غسل كَافِرَة لتحل لحليلها الْمُسلم
وَأورد على ضَابِط الْمُسْتَعْمل مَاء غسل بِهِ الرّجلَانِ بعد مسح الْخُف وَمَاء غسل بِهِ الْوَجْه قبل بطلَان التَّيَمُّم وَمَاء غسل بِهِ الْخبث المعفو عَنهُ فَإِنَّهَا لَا ترفع الْحَدث مَعَ أَنَّهَا لم تسْتَعْمل فِي فرض
وَأجِيب عَن الأول بِمَنْع عدم رَفعه لِأَن غسل الرجلَيْن لم يُؤثر شَيْئا
وَعَن الثَّانِي بِأَنَّهُ اسْتعْمل فِي فرض وَهُوَ رفع الْحَدث الْمُسْتَفَاد بِهِ أَكثر من فَرِيضَة
وَعَن الثَّالِث بِأَنَّهُ اسْتعْمل فِي فرض أَصَالَة
(لَا يكون المَاء مُسْتَعْملا إِلَّا إِذا انْفَصل عَن الْعُضْو) فَائِدَة المَاء مَا دَامَ مترددا على الْعُضْو لَا يثبت لَهُ حكم الِاسْتِعْمَال مَا بقيت الْحَاجة إِلَى الِاسْتِعْمَال بالِاتِّفَاقِ للضَّرُورَة فَلَو

(1/23)


نوى جنب رفع الْجَنَابَة وَلَو قبل تَمام الانغماس فِي مَاء قَلِيل أَجزَأَهُ الْغسْل بِهِ فِي ذَلِك الْحَدث وَكَذَا فِي غَيره وَلَو من غير جنسه كَمَا هُوَ مُقْتَضى كَلَام الْأَئِمَّة وَصرح بِهِ القَاضِي وَغَيره وَلَو نوى جنبان مَعًا بعد تَمام الانغماس فِي مَاء قَلِيل طهرا أَو مُرَتبا وَلَو قبل تَمام الانغماس فَالْأول فَقَط أَو نويا مَعًا فِي أَثْنَائِهِ لم يرْتَفع حَدثهمَا عَن باقيهما وَلَو شكا فِي الْمَعِيَّة فَالظَّاهِر كَمَا بَحثه بَعضهم أَنَّهُمَا يطهران لأننا لَا نسلب الطّهُورِيَّة بِالشَّكِّ وسلبها فِي حق أَحدهمَا فَقَط تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح وَالْمَاء المتردد على عُضْو المتوضىء وعَلى بدن الْجنب وعَلى الْمُتَنَجس إِن لم يتَغَيَّر طهُور فَإِن جرى المَاء من عُضْو المتوضىء إِلَى عضوه الآخر وَإِن لم يكن من أَعْضَاء الْوضُوء كَأَن جَاوز مَنْكِبه أَو تقاطر من عُضْو وَلَو من عُضْو بدن الْجنب صَار مُسْتَعْملا نعم مَا يغلب فِيهِ التقاذف كمن الْكَفّ إِلَى الساعد وَعَكسه لَا يصير مُسْتَعْملا للْعُذْر وَإِن خرقه الْهَوَاء كَمَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ وَلَو غرف بكفه جنب نوى رفع الْجَنَابَة أَو مُحدث بعد غسل وَجهه الغسلة الأولى على مَا قَالَه الزَّرْكَشِيّ وَغَيره أَو الغسلات الثَّلَاث كَمَا قَالَه ابْن عبد السَّلَام وَهُوَ أوجه إِن لم يرد الِاقْتِصَار على أقل من ثَلَاث من مَاء قَلِيل وَلم ينْو الاغتراف بِأَن نوى اسْتِعْمَالا أَو أطلق صَار مُسْتَعْملا فَلَو غسل بِمَا فِي كَفه بَاقِي يَده لَا غَيرهَا أَجزَأَهُ أما إِذا نوى الاغتراف بِأَن قصد نقل المَاء من الْإِنَاء وَالْغسْل بِهِ خَارجه لم يصر مُسْتَعْملا
(القَوْل فِي المَاء الْمُتَغَيّر وشروطه)

(1/24)


(و) مثل المَاء الْمُسْتَعْمل المَاء (الْمُتَغَيّر) طعمه أَو لَونه أَو رِيحه (بِمَا) أَي بِشَيْء (خالطه من) الْأَعْيَان (الطاهرات) الَّتِي لَا يُمكن فصلها المستغنى عَنْهَا كمسك وزعفران وَمَاء شجر ومني وملح جبلي تغيرا يمْنَع إِطْلَاق اسْم المَاء عَلَيْهِ سَوَاء كَانَ المَاء قَلِيلا أم كثيرا لِأَنَّهُ لَا يُسمى مَاء وَلِهَذَا لَو حلف لَا يشرب مَاء أَو وكل فِي شِرَائِهِ فَشرب ذَلِك أَو اشْتَرَاهُ لَهُ وَكيله لم يَحْنَث وَلم يَقع الشِّرَاء لَهُ وَسَوَاء أَكَانَ التَّغَيُّر حسيا أم تقديريا
(حَقِيقَة التَّغْيِير التقديري) حَتَّى لَو وَقع فِي المَاء مَائِع يُوَافقهُ فِي الصِّفَات كَمَاء الْورْد الْمُنْقَطع الرَّائِحَة فَلم يتَغَيَّر وَلَو قدرناه بمخالف وسط كلون الْعصير وَطعم الرُّمَّان وريح اللاذن لغيره ضرّ بِأَن تعرض عَلَيْهِ جَمِيع هَذِه الصِّفَات لَا الْمُنَاسب للْوَاقِع فِيهِ فَقَط وَلَا يقدر بالأشد كلون الحبر وَطعم الْخلّ وريح الْمسك بِخِلَاف الْخبث لغلظه أما الْملح المائي فَلَا يضر التَّغَيُّر بِهِ وَإِن كثر لِأَنَّهُ مُنْعَقد من المَاء وَالْمَاء الْمُسْتَعْمل كمائع فيفرض مُخَالفا وسطا للْمَاء فِي صِفَاته لَا فِي تَكْثِير المَاء فَلَو ضم إِلَى مَاء قَلِيل فَبلغ قُلَّتَيْنِ صَار طهُورا وَإِن أثر فِي المَاء بفرضه مُخَالفا
وَلَا يضر تغير يسير بطاهر لَا يمْنَع الِاسْم لتعذر صون المَاء عَنهُ ولبقاء إِطْلَاق اسْم المَاء عَلَيْهِ وَكَذَا لَو شكّ فِي أَن تغيره كثير أَو يسير نعم إِن كَانَ التَّغَيُّر كثيرا ثمَّ شكّ فِي أَن التَّغَيُّر الْآن يسير أَو كثير لم يطهر عملا بِالْأَصْلِ فِي الْحَالَتَيْنِ قَالَه الْأَذْرَعِيّ وَلَا يضر تغير بمكث وَإِن فحش التَّغَيُّر وطين وطحلب وَمَا فِي مقره وممره ككبريت وزرنيخ ونورة لتعذر صون المَاء عَن ذَلِك وَلَا يضر أوراق شَجَرَة تناثرت وتفتتت واختلطت وَإِن كَانَت ربيعية أَو بعيدَة عَن المَاء لتعذر صون المَاء عَنْهَا إِن طرحت وتفتتت أَو أخرج مِنْهُ الطحلب أَو الزرنيخ ودق نَاعِمًا وَأُلْقِي فِيهِ فَغَيره فَإِنَّهُ يضر أَو تغير بالثمار الساقطة فِيهِ لِإِمْكَان التَّحَرُّز عَنْهَا غَالِبا
(حَقِيقَة الْفرق بَين المخالط والمجاور) وَاحْترز بِقَيْد المخالط عَن المجاور الطَّاهِر كعود ودهن وَلَو مطيبين وكافور صلب فَلَا يضر التَّغَيُّر بِهِ لِإِمْكَان فَصله وَبَقَاء اسْم الْإِطْلَاق عَلَيْهِ
وَكَذَا لَا يضر التَّغَيُّر بِتُرَاب وَلَو مُسْتَعْملا طرح لِأَن تغيره مُجَرّد كدورة فَلَا يمْنَع إِطْلَاق اسْم المَاء عَلَيْهِ نعم إِن تغير حَتَّى صَار لَا يُسمى إِلَّا طينا رطبا ضرّ وَمَا تقرر فِي التُّرَاب الْمُسْتَعْمل هُوَ الْمُعْتَمد وَإِن خَالف فِيهِ بعض الْمُتَأَخِّرين
(القَوْل فِي أَقسَام المَاء الْمُتَنَجس) (و) رَابِعهَا (مَاء نجس) أَي مُتَنَجّس (وَهُوَ الَّذِي حلت فِيهِ) أَو لاقته (نَجَاسَة) تدْرك بالبصر (وَهُوَ) قَلِيل (دون الْقلَّتَيْنِ) بِثَلَاثَة أَرْطَال فَأكْثر سَوَاء تغير أم لَا لمَفْهُوم حَدِيث الْقلَّتَيْنِ الْآتِي وَلخَبَر مُسلم إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من نَومه فَلَا يغمس يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده نَهَاهُ عَن الغمس خشيَة النَّجَاسَة وَمَعْلُوم أَنَّهَا إِذا خفيت لَا تغير المَاء فلولا أَنَّهَا تنجسه بوصولها لم يَنْهَهُ

(1/25)


(لَا يَتَنَجَّس الْكثير إِلَّا بالتغيير بِالنَّجَاسَةِ) (أَو كَانَ كثيرا) بِأَن بلغ قُلَّتَيْنِ فَأكْثر (فَتغير) بِسَبَب النَّجَاسَة لِخُرُوجِهِ عَن الطاهرية وَلَو كَانَ التَّغَيُّر يَسِيرا حسيا أَو تقديريا فَهُوَ نجس بِالْإِجْمَاع الْمُخَصّص لخَبر الْقلَّتَيْنِ الْآتِي وَلخَبَر التِّرْمِذِيّ وَغَيره المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء كَمَا خصصه مَفْهُوم خبر الْقلَّتَيْنِ الْآتِي فالتغير الْحسي ظَاهر
(حَقِيقَة التَّغْيِير التقديري) والتقديري بِأَن وَقعت فِيهِ نَجَاسَة مائعة توافقه فِي الصِّفَات كبول انْقَطَعت رَائِحَته وَلَو فرض مُخَالفا لَهُ فِي أغْلظ الصِّفَات كلون الحبر وَطعم الْخلّ وريح الْمسك لغيره فَإِنَّهُ يحكم بِنَجَاسَتِهِ فَإِن لم يتَغَيَّر فطهور لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ لم يحمل الْخبث قَالَ الْحَاكِم على شَرط الشَّيْخَيْنِ
وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد وَغَيره بِإِسْنَاد صَحِيح فَإِنَّهُ لَا ينجس وَهُوَ المُرَاد بقوله لم يحمل الْخبث أَي يدْفع النَّجس وَلَا يقبله وَفَارق كثير المَاء كثير غَيره فَإِنَّهُ ينجس بِمُجَرَّد ملاقاة النَّجَاسَة بِأَن كَثِيره قوي ويشق حفظه عَن النَّجس بِخِلَاف غَيره وَإِن كثر
تَنْبِيهَانِ الأول لَو شكّ فِي كَونه قُلَّتَيْنِ وَوَقعت فِيهِ نَجَاسَة هَل ينجس أَو لَا ينجس رأيان أصَحهمَا الثَّانِي بل قَالَ النَّوَوِيّ فِي شرح الْمُهَذّب الصَّوَاب أَنه لَا ينجس إِذْ الأَصْل الطَّهَارَة وشككنا فِي نَجَاسَة منجسة وَلَا يلْزم من حُصُول النَّجَاسَة التَّنْجِيس
الثَّانِي لَو تغير بعض المَاء فالمتغير كنجاسة جامدة لَا يجب التباعد عَنْهَا بقلتين وَالْبَاقِي إِن قل فنجس وَإِلَّا فطاهر فَلَو غرف دلوا من مَاء قُلَّتَيْنِ فَقَط وَفِيه نَجَاسَة جامدة لم تغيره وَلم يغرفها مَعَ المَاء فباطن الدَّلْو طَاهِر لانفصال مَا فِيهِ عَن الْبَاقِي قبل أَن ينقص عَن قُلَّتَيْنِ لَا ظَاهرهَا لتنجسه بِالْبَاقِي الْمُتَنَجس بِالنَّجَاسَةِ لقلته فَإِن دخلت مَعَ المَاء أَو قبله فِي الدَّلْو انعكس الحكم
فَائِدَة تَأْنِيث الدَّلْو أفْصح من تذكيره
(القَوْل فِي حكم زَوَال التَّغْيِير) فَإِن زَالَ تغيره الْحسي أَو التقديري بِنَفسِهِ بِأَن لم يحدث فِيهِ شَيْء كَأَن زَالَ بطول الْمكْث أَو بِمَاء انْضَمَّ إِلَيْهِ بِفعل أَو غَيره أَو أَخذ مِنْهُ وَالْبَاقِي قلتان طهر لزوَال سَبَب التَّنْجِيس
فَإِن زَالَ تغيره بمسك أَو نَحوه كزعفران أَو بِتُرَاب لم يطهر لأَنا لَا نَدْرِي أَن أَوْصَاف النَّجَاسَة زَالَت أَو غلب عَلَيْهَا مَا ذكر فاستترت وَيسْتَثْنى من النَّجس ميتَة لَا دم لَهَا سَائل أَصَالَة بِأَن لَا يسيل دَمهَا عِنْد شقّ عُضْو مِنْهَا فِي حَيَاتهَا كزنبور وعقرب ووزغ وذباب وقمل وبرغوث لَا نَحْو حَيَّة وضفدع وفأرة فَلَا تنجس مَاء أَو غَيره بوقوعها فِيهِ بِشَرْط أَن لَا يَطْرَحهَا طارح وَلم تغيره لمَشَقَّة الِاحْتِرَاز عَنْهَا وَلخَبَر البُخَارِيّ إِذا وَقع الذُّبَاب فِي شراب أحدكُم فليغمسه كُله ثمَّ لينزعه فَإِن فِي أحد جناحيه دَاء أَي وَهُوَ الْيَسَار كَمَا قيل وَفِي الآخر شِفَاء زَاد أَبُو دَاوُد

(1/26)


وَإنَّهُ يتقى بجناحه الَّذِي فِيهِ الدَّاء وَقد يُفْضِي غمسه إِلَى مَوته فَلَو نجس الْمَائِع لما أَمر بِهِ وَقيس بالذباب مَا فِي مَعْنَاهُ من كل ميتَة لَا يسيل دَمهَا فَلَو شككنا فِي سيل دَمهَا امتحن بجنسها فتجرح للْحَاجة قَالَه الْغَزالِيّ فِي فَتَاوِيهِ وَلَو كَانَت مِمَّا يسيل دَمهَا لَكِن لَا دم فِيهَا أَو فِيهَا دم لَا يسيل لصغرها فلهَا حكم مَا يسيل دَمهَا قَالَه القَاضِي أَبُو الطّيب
(القَوْل فِي النَّجَاسَة المعفو عَنْهَا) وَيسْتَثْنى أَيْضا نجس لَا يُشَاهد بالبصر لقلته كنقطة بَوْل وخمر وَمَا يعلق بِنَحْوِ رجل ذُبَاب لعسر الِاحْتِرَاز عَنهُ فَأشبه دم البراغيث
قَالَ الزَّرْكَشِيّ وَقِيَاس اسْتثِْنَاء دم الْكَلْب من يسير الدَّم المعفو عَنهُ أَن يكون هُنَا مثله وَقد يفرق بَينهمَا بالمشقة وَالْفرق أوجه ويعفى أَيْضا عَن رَوْث سمك لم يُغير المَاء وَعَن الْيَسِير عرفا من شعر نجس من غير نَحْو كلب وَعَن كَثِيره من مركوب وَعَن قَلِيل دُخان نجس وغبار سرجين وَنَحْوه مِمَّا تحمله الرّيح كالذر وَعَن حَيَوَان مُتَنَجّس المنفذ إِذا وَقع فِي المَاء للْمَشَقَّة فِي صونه وَلِهَذَا لَا يُعْفَى عَن آدَمِيّ مستجمر وَعَن الدَّم الْبَاقِي على اللَّحْم والعظم فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنهُ وَلَو تنجس حَيَوَان طَاهِر من هرة أَو غَيرهَا ثمَّ غَابَ وَأمكن وُرُوده مَاء كثيرا ثمَّ ولغَ فِي طَاهِر لم يُنجسهُ مَعَ حكمنَا بِنَجَاسَة فَمه لِأَن الأَصْل نَجَاسَته وطهارة المَاء وَقد اعتضد أصل طَهَارَة المَاء بِاحْتِمَال ولوغه فِي مَاء كثير فِي الْغَيْبَة فرجح
(القَوْل فِي ضبط الْقلَّتَيْنِ بِالْوَزْنِ) (والقلتان) بِالْوَزْنِ (خَمْسمِائَة رَطْل) بِكَسْر الرَّاء أفْصح من فتحهَا (بالبغدادي) أخذا من رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ وَغَيره إِذا بلغ المَاء قُلَّتَيْنِ بقلال هجر لم يُنجسهُ شَيْء والقلة فِي اللُّغَة الجرة الْعَظِيمَة سميت بذلك لِأَن الرجل الْعَظِيم يقلها بيدَيْهِ أَي يرفعها وهجر بِفَتْح الْهَاء وَالْجِيم قَرْيَة بِقرب الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة يجلب مِنْهَا القلال وَقيل هِيَ بِالْبَحْرَيْنِ قَالَه الْأَزْهَرِي
قَالَ فِي الْخَادِم وَهُوَ الْأَشْبَه
ثمَّ رُوِيَ عَن الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن ابْن جريج أَنه قَالَ رَأَيْت قلال هجر فَإِذا الْقلَّة مِنْهَا تسع قربتين أَو قربتين وشيئا
أَي من قرب الْحجاز فاحتاط الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَحسب الشَّيْء نصفا إِذْ لَو كَانَ فَوْقه لقَالَ تسع ثَلَاث قرب إِلَّا شَيْئا على عَادَة الْعَرَب فَتكون القلتان خمس قرب وَالْغَالِب أَن الْقرْبَة لَا تزيد على مائَة رَطْل بغدادي وَهُوَ مائَة وَثَمَانِية وَعِشْرُونَ درهما وَأَرْبَعَة أَسْبَاع دِرْهَم فِي الْأَصَح فالمجموع بِهِ خَمْسمِائَة رَطْل
(تَقْرِيبًا فِي الْأَصَح) فيعفى عَن نقص رَطْل أَو رطلين على مَا صَححهُ فِي

(1/27)


الرَّوْضَة وَصحح فِي التَّحْقِيق مَا جزم بِهِ الرَّافِعِيّ أَنه لَا يضر نقص قدر لَا يظْهر بنقصه تفَاوت فِي التَّغَيُّر بِقدر معِين من الْأَشْيَاء الْمُغيرَة كَأَن تَأْخُذ إناءين فِي وَاحِد قلتان وَفِي الآخر دونهمَا ثمَّ تضع فِي أَحدهمَا قدرا من المغير وتضع فِي الآخر قدره
فَإِن لم يظْهر بَينهمَا تفَاوت فِي التَّغَيُّر لم يضر ذَلِك وَإِلَّا ضرّ وَهَذَا أولى من الأول لضبطه
(القَوْل فِي الْقلَّتَيْنِ بالمساحة) وبالمساحة فِي المربع ذِرَاع وَربع طولا وعرضا وعمقا
وَفِي المدور ذراعان طولا وذراع عرضا وَالْمرَاد فِيهِ بالطول العمق وبالعرض مَا بَين حائطي الْبِئْر من سَائِر الجوانب وبالذراع فِي المربع ذِرَاع الْآدَمِيّ وَهُوَ شبران تَقْرِيبًا
وَأما فِي المدور فَالْمُرَاد بِهِ فِي الطول ذِرَاع التُّجَّار الَّذِي هُوَ بِذِرَاع الْآدَمِيّ ذِرَاع وَربع تَقْرِيبًا
(حَقِيقَة حكم المَاء الْجَارِي) وَالْمَاء الْجَارِي وَهُوَ مَا انْدفع فِي مستو أَو منخفض كراكد فِيمَا مر من التَّفْرِقَة بَين الْقَلِيل وَالْكثير وَفِيمَا اسْتثْنِي لمَفْهُوم حَدِيث الْقلَّتَيْنِ فَإِنَّهُ لم يفصل بَين الْجَارِي والراكد لَكِن الْعبْرَة فِي الْجَارِي بالجرية نَفسهَا لَا بِمَجْمُوع المَاء وَهِي كَمَا فِي الْمَجْمُوع الدفعة بَين حافتي النَّهر عرضا وَالْمرَاد بهَا مَا يرْتَفع من المَاء عِنْد تموجه أَي تَحْقِيقا أَو تَقْديرا فَإِن كثرت الجرية لم تنجس إِلَّا بالتغير وَهِي فِي نَفسهَا مُنْفَصِلَة عَمَّا أمامها وَمَا خلفهَا من الجريات حكما وَإِن اتَّصَلت بهما حسا
إِذْ كل جرية طالبة لما أمامها هاربة عَمَّا خلفهَا من الجريات وَيعرف كَون الجرية قُلَّتَيْنِ بِأَن يمسحا وَيجْعَل الْحَاصِل ميزانا ثمَّ يُؤْخَذ قدر عمق الجرية وَيضْرب فِي قدر طولهَا ثمَّ الْحَاصِل فِي قدر عرضهَا بعد بسط الأقدار من مخرج الرّبع لوُجُوده فِي مِقْدَار الْقلَّتَيْنِ فِي المربع فَمسح الْقلَّتَيْنِ بِأَن تضرب ذِرَاعا وربعا طولا فِي مثلهمَا عرضا فِي مثلهمَا عمقا يحصل مائَة وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ وَهِي الْمِيزَان أما إِذا كَانَ أَمَام الْجَارِي ارْتِفَاع يردهُ فَلهُ حكم الراكد

(فصل فِي الدّباغ) فِي بَيَان مَا يطهر بدباغه وَمَا يسْتَعْمل من الْآنِية وَمَا يمْتَنع
(وجلود) الْحَيَوَانَات (الْميتَة) كلهَا (تطهر) ظَاهرا وَبَاطنا (بالدباغ) وَلَو بإلقاء الدابغ عَلَيْهِ بِنَحْوِ ريح أَو بإلقائه على الدابغ كَذَلِك لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيّمَا إهَاب دبغ فقد طهر رَوَاهُ مُسلم
وَفِي رِوَايَة هلا أَخَذْتُم إهابها فدبغتموه فانتفعتم بِهِ وَالظَّاهِر مَا لَاقَى الدابغ وَالْبَاطِن مَا لم يلاق الدابغ وَلَا فرق فِي الْميتَة بَين أَن تكون مأكولة اللَّحْم أم لَا كَمَا يَقْتَضِيهِ عُمُوم الحَدِيث

(1/28)


(ضَابِط الدّباغ) والدبغ نزع فضوله وَهِي مائيته ورطوبته الَّتِي يُفْسِدهُ بَقَاؤُهَا ويطيبه نَزعهَا بِحَيْثُ لَو نقع فِي المَاء لم يعد إِلَيْهِ النتن وَالْفساد وَذَلِكَ إِنَّمَا يحصل بحريف بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء كالقرظ والعفص وقشور الرُّمَّان وَلَا فرق فِي ذَلِك بَين الطَّاهِر كم ذكر وَالنَّجس كذرق الطُّيُور وَلَا يَكْفِي التجميد بِالتُّرَابِ وَلَا بالشمس وَنَحْو ذَلِك مِمَّا لَا ينْزع الفضول
وَإِن جف الْجلد وَطَابَتْ رَائِحَته لِأَن الفضلات لم تزل وَإِنَّمَا جمدت بِدَلِيل أَنه لَو نقع فِي المَاء عَادَتْ إِلَيْهِ العفونة
(القَوْل فِي حكم الْجلد بعد الدبغ) وَيصير المدبوغ كَثوب مُتَنَجّس لملاقاته للأدوية النَّجِسَة أَو الَّتِي تنجست بِهِ قبل طهر عينه فَيجب غسله لذَلِك فَلَا يصلى فِيهِ وَلَا عَلَيْهِ قبل غسله وَيجوز بَيْعه قبله مَا لم يمْنَع من ذَلِك مَانع وَلَا يحل أكله سَوَاء كَانَ من مَأْكُول اللَّحْم أم من غَيره لخَبر الصَّحِيحَيْنِ إِنَّمَا حرم من الْميتَة أكلهَا وَخرج بِالْجلدِ الشّعْر لعدم تأثره بالدبغ
قَالَ النَّوَوِيّ ويعفى عَن قَلِيله
(إِلَّا جلد الْكَلْب وَالْخِنْزِير) فَلَا يطهره الدبغ قطعا لِأَن الْحَيَاة فِي إِفَادَة الطَّهَارَة أبلغ من الدبغ والحياة لَا تفِيد طَهَارَته
(و) كَذَا (مَا تولد مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا) مَعَ حَيَوَان طَاهِر لما ذكر (وَعظم) الْحَيَوَانَات (الْميتَة وشعرها) وقرنها وظفرها وظلفها (نجس) لقَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم} وَتَحْرِيم مَا لَا حُرْمَة لَهُ وَلَا ضَرَر فِيهِ يدل على نَجَاسَته وَالْميتَة مَا زَالَت حَيَاتهَا بِغَيْر ذَكَاة شَرْعِيَّة فَيدْخل فِي الْميتَة مَا لَا يُؤْكَل إِذا ذبح وَكَذَا مَا يُؤْكَل إِذا اخْتَلَّ فِيهِ شَرط من شُرُوط التذكية كذبيحة الْمَجُوسِيّ وَالْمحرم للصَّيْد وَمَا ذبح بالعظم وَنَحْوه
(القَوْل فِي مَا قطع من حَيّ) والجزء الْمُنْفَصِل من الْحَيّ كميتة ذَلِك الْحَيّ إِن كَانَ طَاهِرا فطاهر وَإِن كَانَ نجسا فنجس لخَبر مَا قطع من حَيّ فَهُوَ كميتته رَوَاهُ الْحَاكِم وَصَححهُ على شَرط الشَّيْخَيْنِ فالمنفصل من الْآدَمِيّ أَو السّمك أَو الْجَرَاد طَاهِر وَمن غَيرهَا نجس
(إِلَّا شعر) أَو صوف أَو ريش أَو وبر الْمَأْكُول فطاهر بِالْإِجْمَاع وَلَو نتف مِنْهَا أَو انتتفت
قَالَ الله تَعَالَى {وَمن أصوافها وأوبارها وَأَشْعَارهَا أثاثا ومتاعا إِلَى حِين} وَهُوَ مَحْمُول على مَا أَخذ بعد التذكية أَو فِي الْحَيَاة على مَا هُوَ الْمَعْهُود وَلَو شككنا فِيمَا ذكر هَل انْفَصل من طَاهِر أَو نجس حكمنَا بِطَهَارَتِهِ لِأَن الأَصْل الطَّهَارَة
وشككنا فِي النَّجَاسَة وَالْأَصْل عدمهَا بِخِلَاف مَا لَو رَأينَا قِطْعَة لحم وشككنا هَل هِيَ من مذكاة أَو لَا لِأَن الأَصْل عدم التذكية وَالشعر على الْعُضْو المبان نجس إِذا كَانَ الْعُضْو نجسا تبعا لَهُ وَالشعر الْمُنْفَصِل من (الْآدَمِيّ) سَوَاء انْفَصل مِنْهُ فِي حَال حَيَاته أم بعد مَوته طَاهِر لقَوْله تَعَالَى {وَلَقَد كرمنا بني آدم} وَقَضِيَّة التكريم أَن لَا يحكم بِنَجَاسَتِهِ بِالْمَوْتِ وَسَوَاء الْمُسلم وَغَيره وَأما قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْمُشْركُونَ نجس} فَالْمُرَاد بِهِ نَجَاسَة الِاعْتِقَاد أَو اجتنابهم كالنجس لَا نَجَاسَة الْأَبدَان
وَتحل ميتَة السّمك وَالْجَرَاد لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحلّت لنا ميتَتَانِ وَدَمَانِ السّمك وَالْجَرَاد والكبد وَالطحَال
ثمَّ اعْلَم أَن الْأَعْيَان جماد وحيوان فالجماد كُله طَاهِر لِأَنَّهُ خلق لمنافع الْعباد وَلَو من بعض الْوُجُوه
قَالَ تَعَالَى {هُوَ الَّذِي خلق لكم مَا فِي الأَرْض جَمِيعًا}

(1/29)


وَإِنَّمَا يحصل الِانْتِفَاع أَو يكمل بِالطَّهَارَةِ إِلَّا مَا نَص الشَّارِع على نَجَاسَته وَهُوَ كل مُسكر مَائِع لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كل مُسكر خمر وكل خمر حرَام وَكَذَا الْحَيَوَان كُله طَاهِر لما مر إِلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِع أَيْضا وَهُوَ الْكَلْب وَلَو معلما لخَبر مُسلم طهُور إِنَاء أحدكُم إِذا ولغَ فِيهِ الْكَلْب أَن يغسلهُ سبع مَرَّات أولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ
وَجه الدّلَالَة أَن الطَّهَارَة إِمَّا لحَدث أَو خبث أَو تكرمة وَلَا حدث على الْإِنَاء وَلَا تكرمة لَهُ فتعينت طَهَارَة الْخبث فثبتت نَجَاسَة فَمه وَهُوَ أطيب أَجْزَائِهِ بل هُوَ أطيب الْحَيَوَانَات نكهة لِكَثْرَة مَا يَلْهَث فبقيتها أولى وَالْخِنْزِير لِأَنَّهُ أَسْوَأ حَالا من الْكَلْب وَفرع كل مِنْهُمَا مَعَ الآخر أَو مَعَ غَيره من الْحَيَوَانَات الطاهرة كالمتولد بَين ذِئْب وكلبة تَغْلِيبًا للنَّجَاسَة وَإِن الفضلات مِنْهَا مَا يَسْتَحِيل فِي بَاطِن الْحَيَوَان وَهُوَ نجس كَدم وَلَو تحلب من كبد أَو طحال لقَوْله تَعَالَى {حرمت عَلَيْكُم الْميتَة وَالدَّم} أَي الدَّم المسفوح وقيح لِأَنَّهُ دم مُسْتَحِيل وقيء وَإِن لم يتَغَيَّر وَهُوَ الْخَارِج من الْمعدة لِأَنَّهُ من الفضلات المستحيلة كالبول وجرة وَهِي بِكَسْر الْجِيم مَا يُخرجهُ الْبَعِير أَو غَيره للاجترار وَمرَّة وَهِي بِكَسْر الْمِيم مَا فِي المرارة
وَأما الزباد فطاهر
قَالَ فِي الْمَجْمُوع لِأَنَّهُ إِمَّا لبن سنور بحري كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ أَو عرق سنور بري كَمَا سمعته من ثِقَات من أهل الْخِبْرَة بِهَذَا وَلَكِن يغلب اخْتِلَاطه بِمَا يتساقط من شعره فليحترز عَمَّا وجد فِيهِ فَإِن الْأَصَح منع أكل الْبري وَيَنْبَغِي الْعَفو عَن قَلِيل شعره وَأما الْمسك فَهُوَ أطيب الطّيب كَمَا رَوَاهُ مُسلم
وفأرته طَاهِرَة وَهِي خراج بِجَانِب سرة الظبية كالسلعة فتحتك حَتَّى تلقيها وَاخْتلفُوا فِي العنبر فَمنهمْ من قَالَ إِنَّه نجس لِأَنَّهُ مستخرج من بطن دويبة لَا يُؤْكَل لَحمهَا وَمِنْهُم من قَالَ إِنَّه طَاهِر لِأَنَّهُ ينْبت فِي الْبَحْر ويلفظه وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر وروث وَلَو من سمك وجراد لما روى البُخَارِيّ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما جِيءَ لَهُ بحجرين وروثة ليستنجي بهَا أَخذ الحجرين ورد الروثة وَقَالَ وَهَذَا ركس والركس النَّجس وَبَوْل لِلْأَمْرِ بصب المَاء عَلَيْهِ فِي بَوْل الْأَعرَابِي فِي الْمَسْجِد رَوَاهُ الشَّيْخَانِ
ومذي وَهُوَ بِالْمُعْجَمَةِ مَاء أَبيض رَقِيق يخرج بِلَا شَهْوَة عِنْد ثورانها لِلْأَمْرِ بِغسْل الذّكر مِنْهُ فِي خبر الصَّحِيحَيْنِ فِي قصَّة عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وودي وَهُوَ بِالْمُهْمَلَةِ مَاء أَبيض ثخين يخرج عقب الْبَوْل أَو عِنْد حمل شَيْء ثقيل قِيَاسا على مَا قبله وَالأَصَح طَهَارَة مني غير الْكَلْب وَالْخِنْزِير وَفرع أَحدهمَا لِأَنَّهُ أصل حَيَوَان طَاهِر وَلبن مَا لَا يُؤْكَل غير لبن الْآدَمِيّ كلبن الأتان لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل فِي الْبَاطِن كَالدَّمِ أما لبن مَا يُؤْكَل لَحْمه كلبن الْفرس وَإِن ولدت بغلا فطاهر
قَالَ تَعَالَى {لَبَنًا خَالِصا سائغا للشاربين}
وَكَذَا لبن الْآدَمِيّ إِذْ لَا يَلِيق بكرامته أَن يكون منشؤه نجسا وَكَلَامهم شَامِل للبن الْميتَة وَبِه جزم فِي

(1/30)


الْمَجْمُوع وَلبن الذّكر وَالصَّغِيرَة وَهُوَ الْمُعْتَمد وَمِنْهَا مَا لَا يَسْتَحِيل وَهُوَ طَاهِر كعرق ولعاب ودمع من حَيَوَان طَاهِر والعلقة وَهِي الدَّم الغليظ المستحيل من الدَّم فِي الرَّحِم والمضغة وَهِي الْعلقَة الَّتِي تستحيل فَتَصِير قِطْعَة لحم ورطوبة الْفرج من حَيَوَان طَاهِر وَلَو غير مَأْكُول طَاهِرَة
(القَوْل فِي مَا يطهر من نجس الْعين) وَلَا يطهر نجس الْعين بِغسْل وَلَا باستحالة إِلَّا شَيْئَانِ أَحدهمَا الْجلد إِذا دبغ كَمَا مر وَالثَّانِي الْخمْرَة إِذا تخللت بِنَفسِهَا فَتطهر وَإِن نقلت من شمس إِلَى ظلّ أَو عَكسه فَإِن خللت بطرح شَيْء فِيهَا لم تطهر وَمَا نجس بملاقاة شَيْء من كلب غسل سبعا
إِحْدَاهَا بِتُرَاب طهُور يعم مَحل النَّجَاسَة وَالْخِنْزِير كَالْكَلْبِ وَكَذَا مَا تولد مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا فيلحف بذلك
وَمَا نجس ببول صبي لم يتَنَاوَل قبل مُضِيّ حَوْلَيْنِ غير لبن للتغذي نضح بِالْمَاءِ لخَبر الصَّحِيحَيْنِ عَن أم قيس أَنَّهَا جَاءَت بِابْن لَهَا صَغِير لم يَأْكُل الطَّعَام فأجلسه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجره فَبَال عَلَيْهِ فَدَعَا بِمَاء فنضحه وَلم يغسلهُ
وَمَا نجس بِغَيْر الْكَلْب وَنَحْوه وَالصَّبِيّ الَّذِي لم يتَنَاوَل غير اللَّبن إِن كَانَت النَّجَاسَة حكمِيَّة وَهِي مَا يتَيَقَّن وجودهَا وَلَا يدْرك لَهَا طعم وَلَا لون وَلَا ريح كفى وُصُول المَاء إِلَى ذَلِك الْمحل بِحَيْثُ يسيل عَلَيْهِ زَائِدا على النَّضْح وَإِن كَانَت عَيْنِيَّة وَجب بعد زَوَال عينهَا إِزَالَة الطّعْم وَإِن عسر وَلَا يضر بَقَاء لون كلون الدَّم أَو ريح كريح الْخمر عسر زَوَاله للْمَشَقَّة بِخِلَاف مَا إِذا سهل فَيضر بَقَاؤُهُ فَإِن بقيا بِمحل وَاحِد مَعًا ضرّ لقُوَّة دلالتهما على بَقَاء الْعين وَيشْتَرط وُرُود المَاء على الْمحل إِن كَانَ قَلِيلا لِئَلَّا يَتَنَجَّس المَاء لَو عكس
(القَوْل فِي حكم الغسالة) والغسالة طَاهِرَة إِن انفصلت بِلَا تغير وَلم يزدْ الْوَزْن وَقد طهر الْمحل
فروع يطهر بِالْغسْلِ مصبوغ بمتنجس انْفَصل مِنْهُ وَلم يزدْ الْمَصْبُوغ وزنا بعد الْغسْل على وَزنه قبل الصَّبْغ وَإِن بَقِي اللَّوْن لعسر زَوَاله فَإِن زَاد وَزنه ضرّ فَإِن لم ينْفَصل عَنهُ لتعقده بِهِ لم يطهر لبَقَاء النَّجَاسَة فِيهِ وَلَو صب على مَوضِع نَحْو بَوْل أَو خمر من أَرض مَاء غمره طهر
أما إِذا صب على نفس نَحْو الْبَوْل فَإِنَّهُ لَا يطهر وَاللَّبن بِكَسْر الْمُوَحدَة إِن خالطه نَجَاسَة جامدة كالروث لم

(1/31)


يطهر وَإِن طبخ وَصَارَ آجرا لعين النَّجَاسَة وَإِن خالطه غَيرهَا كالبول طهر ظَاهره بِالْغسْلِ وَكَذَا بَاطِنه إِن نقع فِي المَاء إِن كَانَ رخوا يصله المَاء كالعجين وَلَو سقيت سكين أَو طبخ لحم بِمَاء نجس كفى غسلهمَا ويطهر الزئبق الْمُتَنَجس بِغسْل ظَاهره إِن لم يَتَخَلَّل بَين تنجسه وغسله تقطع وَإِلَّا لم يطهر كالدهن
وَيَكْفِي غسل مَوضِع نَجَاسَة وَقعت على ثوب وَلَو عقب عصره وَلَو تنجس مَائِع غير المَاء وَلَو دهنا تعذر تَطْهِيره إِذْ لَا يَأْتِي المَاء على كُله وَإِذا غسل فَمه الْمُتَنَجس فليبالغ فِي الغرغرة ليغسل كل مَا فِي حد الظَّاهِر وَلَا يبلع طَعَاما وَلَا شرابًا قبل غسله لِئَلَّا يكون آكلا للنَّجَاسَة
(القَوْل فِي حكم أواني الذَّهَب وَالْفِضَّة) (وَلَا يجوز) لذكر أَو غَيره (اسْتِعْمَال) شَيْء من (أواني الذَّهَب) وأواني (الْفضة) بِالْإِجْمَاع وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تشْربُوا فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا تَأْكُلُوا فِي صحافها
مُتَّفق عَلَيْهِ
وَيُقَاس غير الْأكل وَالشرب عَلَيْهِمَا وَإِنَّمَا خصا بِالذكر لِأَنَّهُمَا أظهر وُجُوه الِاسْتِعْمَال وأغلبها وَيحرم على الْوَلِيّ أَن يسْقِي الصَّغِير بمسعط من إنائهما وَلَا فرق بَين الْإِنَاء الْكَبِير والإناء الصَّغِير حَتَّى مَا يخلل بِهِ أَسْنَانه والميل الَّذِي يكتحل بِهِ إِلَّا لضَرُورَة كَأَن يحْتَاج إِلَى جلاء عينه بالميل فَيُبَاح اسْتِعْمَاله وَالْوُضُوء مِنْهُ صَحِيح والمأخوذ مِنْهُ من مَأْكُول أَو غَيره حَلَال لِأَن التَّحْرِيم للاستعمال لَا لخُصُوص مَا ذكر
وَيحرم الْبَوْل فِي الْإِنَاء مِنْهُمَا أَو من أَحدهمَا وكما يحرم استعمالهما يحرم أَيْضا اتخاذهما من غير اسْتِعْمَال لِأَن مَا لَا يجوز اسْتِعْمَاله للرِّجَال وَلَا لغَيرهم يحرم اتِّخَاذه كآلة الملاهي
(القَوْل فِي أواني غير الذَّهَب وَالْفِضَّة) وَيحل (اسْتِعْمَال كل إِنَاء طَاهِر) مَا عدا ذَلِك سَوَاء أَكَانَ من نُحَاس أم من غَيره فَإِن موه غير النَّقْد كإناء نُحَاس وَخَاتم وَآلَة

(1/32)


حَرْب من نُحَاس أَو نَحوه بِالنَّقْدِ وَلم يحصل مِنْهُ شي وَلَو بِالْعرضِ على النَّار أَو موه النَّقْد بِغَيْرِهِ أَو صدأ مَعَ حُصُول شَيْء من المموه بِهِ أَو الصدأ حل اسْتِعْمَاله لقلَّة المموه فِي الأولى فَكَأَنَّهُ مَعْدُوم وَلعدم الْخُيَلَاء فِي الثَّانِيَة فَإِن حصل شَيْء من النَّقْد فِي الأولى لكثرته أَو لم يحصل شَيْء من غَيره فِي الثَّانِيَة لقلته حرم اسْتِعْمَاله وَكَذَا اتِّخَاذه فالعلة مركبة من تضييق النَّقْدَيْنِ وَالْخُيَلَاء وَكسر قُلُوب الْفُقَرَاء
وَيحرم تمويه سقف الْبَيْت وجدرانه وَإِن لم يحصل مِنْهُ شَيْء بِالْعرضِ على النَّار وَيحرم استدامته إِن حصل مِنْهُ شَيْء بِالْعرضِ عَلَيْهَا وَإِلَّا فَلَا
وَيحل اسْتِعْمَال واتخاذ النفيس كياقوت وَزَبَرْجَد وبلور بِكَسْر الْبَاء وَفتح اللَّام ومرجان وعقيق والمتخذ من الطّيب الْمُرْتَفع كمسك وَعَنْبَر وعود لِأَنَّهُ لم يرد فِيهِ نهي وَلَا يظْهر فِيهِ معنى السَّرف وَالْخُيَلَاء
وَمَا ضبب من إِنَاء بِفِضَّة ضبة كَبِيرَة وَكلهَا أَو بَعْضهَا وَإِن قل لزينة حرم اسْتِعْمَاله واتخاذه أَو صَغِيرَة بِقدر الْحَاجة فَلَا تحرم للصغر وَلَا تكره للْحَاجة
وَلما روى البُخَارِيّ عَن عَاصِم الْأَحول قَالَ رَأَيْت قدح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد أنس بن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَكَانَ قد انصدع أَي انْشَقَّ فسلسله بِفِضَّة أَي شده بخيط فضَّة وَالْفَاعِل هُوَ أنس كَمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ قَالَ أنس لقد سقيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْقدح أَكثر من كَذَا وَكَذَا أَو صَغِيرَة وَكلهَا أَو بَعْضهَا لزينة أَو كَبِيرَة كلهَا لحَاجَة جَازَ مَعَ الْكَرَاهَة فيهمَا أما فِي الأولى فللصغر وَكره لفقد الْحَاجة وَأما فِي الثَّانِيَة فللحاجة وَكره للكبر وضبة مَوضِع الِاسْتِعْمَال لنَحْو شرب كَغَيْرِهِ فِيمَا ذكر من التَّفْصِيل لِأَن الِاسْتِعْمَال مَنْسُوب إِلَى الْإِنَاء كُله
تَنْبِيه مرجع الْكبر والصغر الْعرف
فَإِن شكّ فِي كبرها فَالْأَصْل الْإِبَاحَة قَالَه فِي الْمَجْمُوع
وَخرج بِالْفِضَّةِ الذَّهَب فَلَا يحل اسْتِعْمَال إِنَاء ضبب بِذَهَب سَوَاء أَكَانَ مَعَه غَيره أم لَا
لِأَن الْخُيَلَاء فِي الذَّهَب أَشد من الْفضة وبالطاهر النَّجس كالمتخذ من ميتَة فَيحرم اسْتِعْمَاله فِيمَا ينجس بِهِ كَمَاء قَلِيل ومائع لَا فِيمَا لَا ينجس بِهِ كَمَاء كثير أَو غَيره مَعَ الْجَفَاف
فروع (تسمير الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير فِي الْإِنَاء) كالتضبيب فَيَأْتِي فِيهِ التَّفْصِيل السَّابِق بِخِلَاف طرحها فِيهِ فَلَا يحرم بِهِ اسْتِعْمَال الْإِنَاء مُطلقًا وَلَا يكره وَكَذَا لَو شرب بكفه وَفِي إصبعه خَاتم أَو فِي فَمه دَرَاهِم أَو شرب بكفيه وَفِيهِمَا دَرَاهِم
(القَوْل فِي حكم اسْتِعْمَال أواني الْكفَّار وأشباههم) وَيجوز اسْتِعْمَال أواني الْمُشْركين إِن كَانُوا لَا يتعبدون بِاسْتِعْمَال النَّجَاسَة كَأَهل الْكتاب فَهِيَ كآنية الْمُسلمين لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ من مزادة مُشركَة وَلَكِن يكره اسْتِعْمَالهَا لعدم تحرزهم فَإِن كَانُوا يتدينون بِاسْتِعْمَال النَّجَاسَة كطائفة من الْمَجُوس

(1/33)


يغتسلون بأبوال الْبَقر تقربا فَفِي جَوَاز اسْتِعْمَالهَا وَجْهَان أخذا من الْقَوْلَيْنِ فِي تعَارض الأَصْل وَالْغَالِب وَالأَصَح الْجَوَاز لَكِن يكره اسْتِعْمَال أوانيهم وملبوسهم وَمَا يَلِي أسافلهم أَي مِمَّا يَلِي الْجلد أَشد وأواني مَائِهِمْ أخف وَيجْرِي الْوَجْهَانِ فِي أواني مدمني الْخمر والقصابين الَّذين لَا يحترزون من النَّجَاسَة وَالأَصَح الْجَوَاز أَي مَعَ الْكَرَاهَة أخذا مِمَّا مر

(فصل فِي السِّوَاك)
وَهُوَ بِكَسْر السِّين مُشْتَقّ من ساك إِذا دلك
(والسواك) لُغَة الدَّلْك وآلته وَشرعا اسْتِعْمَال عود من أَرَاك أَو نَحوه
كأشنان فِي الْأَسْنَان وَمَا حولهَا لإذهاب التَّغَيُّر وَنَحْوه واستعماله (مُسْتَحبّ فِي كل حَال) مُطلقًا كَمَا قَالَه الرَّافِعِيّ عِنْد الصَّلَاة وَغَيرهَا لصِحَّة الْأَحَادِيث فِي اسْتِحْبَابه كل وَقت
(إِلَّا بعد الزَّوَال) أَي زَوَال الشَّمْس وَهُوَ ميلها عَن كبد السَّمَاء فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يكره تَنْزِيها اسْتِعْمَاله (للصَّائِم) وَلَو نفلا لخَبر الصَّحِيحَيْنِ لخلوف الصَّائِم أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك
والخلوف بِضَم الْخَاء تغير رَائِحَة الْفَم وَالْمرَاد بِهِ الخلوف بعد الزَّوَال لخَبر أَعْطَيْت أمتِي فِي شهر رَمَضَان خمْسا ثمَّ قَالَ وَأما الثَّانِيَة فَإِنَّهُم يمسون وخلوف أَفْوَاههم أطيب عِنْد الله من ريح الْمسك والمساء بعد الزَّوَال وأطيبية الخلوف تدل على طلب إبقائه فَكرِهت إِزَالَته وتزول الْكَرَاهَة بالغروب لِأَنَّهُ لَيْسَ بصائم الْآن وَيُؤْخَذ من ذَلِك أَن من وَجب عَلَيْهِ الْإِمْسَاك لعَارض كمن نسي نِيَّة الصَّوْم لَيْلًا لَا يكره لَهُ السِّوَاك بعد الزَّوَال وَهُوَ كَذَلِك لِأَنَّهُ لَيْسَ بصائم حَقِيقَة وَالْمعْنَى فِي اختصاصها بِمَا بعد الزَّوَال أَن تغير الْفَم بِالصَّوْمِ إِنَّمَا يظْهر حِينَئِذٍ قَالَه الرَّافِعِيّ وَيلْزم من ذَلِك كَمَا قَالَ الْإِسْنَوِيّ أَن يفرقُوا بَين من تسحر أَو تنَاول فِي اللَّيْل شَيْئا أم لَا فَيكْرَه للمواصل قبل الزَّوَال وَأَنه لَو تغير فَمه بِأَكْل أَو نَحوه

(1/34)


نَاسِيا بعد الزَّوَال أَنه لَا يكره لَهُ السِّوَاك وَهُوَ كَذَلِك
قَالَ التِّرْمِذِيّ الْحَكِيم يكره أَن يزِيد طول السِّوَاك على شبر وَاسْتحبَّ بَعضهم أَن يَقُول فِي أَوله اللَّهُمَّ بيض بِهِ أسناني وَشد بِهِ لثاتي وَثَبت بِهِ لهاتي وَبَارك لي فِيهِ يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ
قَالَ النَّوَوِيّ وَهَذَا لَا بَأْس بِهِ
(القَوْل فِي كَيْفيَّة الاستياك) وَيسن أَن يكون السِّوَاك فِي عرض الْأَسْنَان ظَاهرا وَبَاطنا فِي طول الْفَم لخَبر إِذا استكتم فاستاكوا عرضا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي مراسيله ويجزىء طولا لَكِن مَعَ الْكَرَاهَة
نعم يسن أَن يستاك فِي اللِّسَان طولا كَمَا ذكره ابْن دَقِيق الْعِيد
(القَوْل فِي آلَة السِّوَاك) وَيحصل بِكُل خشن يزِيل القلح كعود من أَرَاك أَو غَيره أَو خرقَة أَو أشنان لحُصُول الْمَقْصُود بذلك لَكِن الْعود أولى من غَيره
والأراك أولى من غَيره من العيدان واليابس المندى بِالْمَاءِ أولى من الرطب وَمن الْيَابِس الَّذِي لم يند وَمن الْيَابِس المندى بِغَيْر المَاء كَمَاء الْورْد وعود النّخل أولى من غير الْأَرَاك كَمَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع
وَيسن غسله للاستياك ثَانِيًا إِذا حصل عَلَيْهِ وسخ أَو ريح أَو نَحوه كَمَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع وَلَا يَكْفِي الاستياك بِأُصْبُعِهِ وَإِن كَانَت خشنة لِأَنَّهُ لَا يُسمى استياكا هَذَا إِذا كَانَت مُتَّصِلَة فَإِن كَانَت مُنْفَصِلَة وَهِي خشنة أَجْزَأت إِن قُلْنَا بطهارتها وَهُوَ الْأَصَح
وَيسن أَن يستاك باليمنى من يمنى فَمه لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحب التَّيَامُن مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنه كُله فِي طهوره وَترَجله وتنعله وسواكه
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
(القَوْل فِي مَوَاضِع تَأَكد السِّوَاك) (وَهُوَ فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع) أَي أَحْوَال (أَشد اسْتِحْبَابا) أَحدهَا (عِنْد تغير) الْفَم وَقَوله (من أزم) بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الزَّاي وَهُوَ السُّكُوت أَو الْإِمْسَاك عَن الْأكل
(و) من (غَيره) أَي الأزم كثوم وَأكل ذِي ريح كريه (و) ثَانِيهَا (عِنْد الْقيام من النّوم) لخَبر الصَّحِيحَيْنِ كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَامَ من النّوم يشوص فَاه أَي يدلكه بِالسِّوَاكِ (و) ثَالِثهَا (عِنْد الْقيام إِلَى الصَّلَاة) وَلَو نفلا وَلكُل رَكْعَتَيْنِ من نَحْو التَّرَاوِيح أَو لمتيمم أَو لفاقد الطهُورَيْنِ وَصَلَاة الْجِنَازَة وَلَو لم يكن الْفَم متغيرا أَو استاك فِي وضوئها لخَبر الصَّحِيحَيْنِ لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة أَي أَمر إِيجَاب وَلخَبَر رَكْعَتَانِ بسواك أفضل من سبعين رَكْعَة بِلَا سواك رَوَاهُ الْحميدِي بِإِسْنَاد جيد وكما يتَأَكَّد فِيمَا ذكر يتَأَكَّد أَيْضا للْوُضُوء لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَوْلَا أَن أشق على أمتِي لأمرتهم بِالسِّوَاكِ عِنْد كل وضوء أَي أَمر إِيجَاب وَمحله فِي الْوضُوء على مَا قَالَه ابْن الصّلاح وَابْن النَّقِيب فِي عمدته بعد غسل الْكَفَّيْنِ وَكَلَام الإِمَام وَغَيره يمِيل إِلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر وَإِن قَالَ الْغَزالِيّ كالماوردي مَحَله قبل التَّسْمِيَة ولقراءة قُرْآن أَو حَدِيث أَو علم شَرْعِي وَلذكر الله تَعَالَى ولنوم ولدخول منزل وَعند الاحتضار وَيُقَال إِنَّه يسهل خُرُوج الرّوح وَفِي السحر وللأكل وَبعد الْوتر وللصائم قبل وَقت الخلوف
فَائِدَة من فَوَائِد السِّوَاك أَنه يطهر الْفَم ويرضي الرب ويبيض الْأَسْنَان ويطيب النكهة وَيُسَوِّي الظّهْر ويشد اللثة ويبطىء

(1/35)


الشيب ويصفي الْخلقَة ويذكي الفطنة ويضاعف الْأجر ويسهل النزع كَمَا مر وَيذكر الشَّهَادَة عِنْد الْمَوْت
وَيسن التَّخْلِيل قبل السِّوَاك وَبعده وَمن أثر الطَّعَام وَكَون الْخلال من عود السِّوَاك وَيكرهُ بالحديد وَنَحْوه