الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع

فصل فِي الشَّهَادَات
جمع شَهَادَة وَهِي إِخْبَار عَن شَيْء بِلَفْظ خَاص

(2/631)


وَالْأَصْل فِيهَا قبل الْإِجْمَاع آيَات كَقَوْلِه تَعَالَى {وَلَا تكتموا الشَّهَادَة} وَقَوله تَعَالَى {واستشهدوا شهيدين من رجالكم}
وأخبار كَخَبَر الصَّحِيحَيْنِ لَيْسَ لَك إِلَّا شَاهِدَاك أَو يَمِينه وَخبر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن الشَّهَادَة فَقَالَ للسَّائِل ترى الشَّمْس قَالَ نعم فَقَالَ على مثلهَا فاشهد أَو دع رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ وَالْحَاكِم وصححا إِسْنَاده
وأركانها خَمْسَة شَاهد ومشهود لَهُ ومشهود عَلَيْهِ ومشهود بِهِ وَصِيغَة
ثمَّ شرع فِي شُرُوط الرُّكْن الأول فَقَالَ (وَلَا تقبل الشَّهَادَة) عِنْد الْأَدَاء (إِلَّا مِمَّن اجْتمعت فِيهِ خَمْسَة) بل عشرَة (خِصَال) كَمَا ستعرفها الأولى (الْإِسْلَام) فَلَا تقبل شَهَادَة الْكَافِر على الْمُسلم
وَلَا على الْكَافِر خلافًا لأبي حنيفَة فِي قبُوله شَهَادَة الْكَافِر على الْكَافِر وَلأَحْمَد فِي الْوَصِيَّة لقَوْله تَعَالَى {وَأشْهدُوا ذَوي عدل مِنْكُم} وَالْكَافِر لَيْسَ بِعدْل وَلَيْسَ منا وَلِأَنَّهُ أفسق الْفُسَّاق ويكذب على الله تَعَالَى فَلَا يُؤمن من الْكَذِب على خلقه
(و) الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة (الْبلُوغ وَالْعقل) فَلَا تقبل شَهَادَة صبي لقَوْله تَعَالَى {من رجالكم} وَلَا مَجْنُون بِالْإِجْمَاع
(و) الرَّابِعَة (الْحُرِّيَّة) وَلَو بِالدَّار فَلَا تقبل شَهَادَة رَقِيق خلافًا لِأَحْمَد وَلَو مبعضا أَو مكَاتبا لِأَن أَدَاء الشَّهَادَة فِيهِ معنى الْولَايَة وَهُوَ مسلوب مِنْهَا
(و) الْخَامِسَة (الْعَدَالَة) فَلَا تقبل شَهَادَة فَاسق لقَوْله تَعَالَى {إِن جَاءَكُم فَاسق بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} وَالسَّادِسَة أَن تكون لَهُ مُرُوءَة وَهِي الاسْتقَامَة لِأَن من لَا مُرُوءَة لَهُ لَا حَيَاء لَهُ وَمن لَا حَيَاء لَهُ قَالَ مَا شَاءَ لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا لم تستح فَاصْنَعْ مَا شِئْت وَالسَّابِعَة أَن يكون غير مُتَّهم فِي شَهَادَته لقَوْله تَعَالَى {ذَلِكُم أقسط عِنْد الله وأقوم للشَّهَادَة وَأدنى أَلا ترتابوا} والريبة حَاصِلَة بالمتهم
وَالثَّامِنَة أَن يكون ناطقا فَلَا تقبل شَهَادَة الْأَخْرَس وَإِن فهمت إِشَارَته والتاسعة أَن يكون يقظا كَمَا قَالَه صَاحب التَّنْبِيه وَغَيره فَلَا تقبل شَهَادَة مُغفل
والعاشرة أَن لَا يكون مَحْجُورا عَلَيْهِ بِسَفَه
فَلَا تقبل شَهَادَته كَمَا نقل فِي أصل الرَّوْضَة قبيل فصل التَّوْبَة عَن الصَّيْمَرِيّ وَجزم بِهِ الرَّافِعِيّ فِي كتاب الْوَصِيَّة

(2/632)


وَخرج بِقَيْد الْأَدَاء التَّحَمُّل فَلَا يشْتَرط عِنْده هَذِه الشُّرُوط بِدَلِيل قَوْلهم إِنَّه لَو شهد كَافِر أَو عبد أَو صبي ثمَّ أَعَادَهَا بعد كَمَاله قبلت كَمَا قَالَه الزَّرْكَشِيّ فِي خادمه قَالَ وَلَا يسْتَثْنى من ذَلِك غير شُهُود النِّكَاح فَإِنَّهُ يشْتَرط الْأَهْلِيَّة عِنْد التَّحَمُّل أَيْضا (وللعدالة) الْمُتَقَدّمَة (خمس شَرَائِط) الأول (أَن يكون مجتنبا للكبائر) أَي لكل مِنْهَا
(و) الثَّانِي أَن يكون (غير مصر على الْقَلِيل من الصَّغَائِر) من نوع أَو أَنْوَاع وَفسّر جمَاعَة الْكَبِيرَة بِأَنَّهَا مَا لحق صَاحبهَا وَعِيد شَدِيد بِنَصّ كتاب أَو سنة
وَقيل هِيَ الْمعْصِيَة الْمُوجبَة للحد وَذكر فِي أصل الرَّوْضَة أَنهم إِلَى تَرْجِيح هَذَا أميل وَأَن الَّذِي ذَكرْنَاهُ أَولا هُوَ الْمُوَافق لما ذَكرُوهُ عِنْد تَفْصِيل الْكَبَائِر انْتهى
لأَنهم عدوا الرِّبَا وَأكل مَال الْيَتِيم وَشَهَادَة الزُّور وَنَحْوهَا من الْكَبَائِر وَلَا حد فِيهَا وَقَالَ الإِمَام هِيَ كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بِالدّينِ
انْتهى وَالْمرَاد بهَا بِقَرِينَة التعاريف الْمَذْكُورَة غير الْكَبَائِر الاعتقادية الَّتِي هِيَ الْبدع فَإِن الرَّاجِح قبُول شَهَادَة أَهلهَا مَا لم نكفرهم كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه هَذَا ضَبطهَا بِالْحَدِّ وَأما ضَبطهَا بالعد فأشياء كَثِيرَة
قَالَ ابْن عَبَّاس هِيَ إِلَى السّبْعين أقرب وَقَالَ سعيد بن جُبَير إِنَّهَا إِلَى سَبْعمِائة أقرب أَي بِاعْتِبَار أَصْنَاف أَنْوَاعهَا وَمَا عدا ذَلِك من الْمعاصِي فَمن الصَّغَائِر وَلَا بَأْس بعد شَيْء من النَّوْعَيْنِ
فَمن الأول تَقْدِيم الصَّلَاة أَو تَأْخِيرهَا عَن وَقتهَا بِلَا عذر وَمنع الزَّكَاة وَترك الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر مَعَ الْقُدْرَة ونسيان الْقُرْآن واليأس من رَحْمَة الله وَأمن مكره تَعَالَى وَأكل الرِّبَا وَأكل مَال الْيَتِيم والإفطار فِي رَمَضَان من غير عذر وعقوق الْوَالِدين وَالزِّنَا واللواط وَشَهَادَة الزُّور وَضرب الْمُسلم بِغَيْر حق والنميمة
وَأما الْغَيْبَة فَإِن كَانَت فِي أهل الْعلم وَحَملَة الْقُرْآن فَهِيَ كَبِيرَة كَمَا جرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري وَإِلَّا فصغيرة وَمن الصَّغَائِر النّظر الْمحرم وهجر الْمُسلم فَوق ثَلَاثَة أَيَّام والنياحة وشق الجيب والتبختر فِي الْمَشْي وَإِدْخَال صبيان أَو مجانين يغلب تنجيسهم الْمَسْجِد وَاسْتِعْمَال نَجَاسَة فِي بدن أَو ثوب لغير حَاجَة فبارتكاب كَبِيرَة أَو إِصْرَار على صَغِيرَة من نوع أَو أَنْوَاع تَنْتفِي الْعَدَالَة إِلَّا إِن تغلب طَاعَته على مَعَاصيه
كَمَا قَالَه الْجُمْهُور فَلَا تَنْتفِي عَدَالَته وَإِن اقْتَضَت عبارَة المُصَنّف الانتفاء مُطلقًا
فَائِدَة فِي الْبَحْر لَو نوى الْعدْل فعل كَبِيرَة غَدا كزنا لم يصر بذلك فَاسِقًا بِخِلَاف نِيَّة الْكفْر (و) الثَّالِث أَن يكون الْعدْل (سليم السريرة) أَي العقيدة بِأَن لَا يكون مبتدعا لَا يكفر وَلَا يفسق ببدعته فَلَا تقبل شَهَادَة

(2/633)


مُبْتَدع يكفر أَو يفسق ببدعته فَالْأول كمنكري الْبَعْث وَالثَّانِي كساب الصَّحَابَة وَيسْتَثْنى من هَذَا الخطابية فَلَا تقبل شَهَادَتهم وهم فرقة يجوزون الشَّهَادَة لصَاحِبِهِمْ إِذا سَمِعُوهُ يَقُول لي على فلَان كَذَا هَذَا إِذا لم يبينوا السَّبَب كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ فَإِن بينوا السَّبَب كَأَن قَالُوا رَأَيْنَاهُ يقْرضهُ كَذَا فَتقبل حِينَئِذٍ شَهَادَتهم
(و) الرَّابِع أَن يكون الْعدْل (مَأْمُونا) مِمَّا توقع فِيهِ النَّفس الأمارة صَاحبهَا (عِنْد الْغَضَب) من ارْتِكَاب قَول الزُّور والإصرار على الْغَيْبَة وَالْكذب لقِيَام غَضَبه فَلَا عَدَالَة لمن يحملهُ غَضَبه على الْوُقُوع فِي ذَلِك
(و) الْخَامِس أَن يكون (محافظا على مُرُوءَة مثله) بِأَن يتخلق الشَّخْص بِخلق أَمْثَاله من أَبنَاء عصره مِمَّن يُرَاعِي مناهج الشَّرْع وآدابه فِي زَمَانه ومكانه لِأَن الْأُمُور الْعُرْفِيَّة قَلما تنضبط بل تخْتَلف باخْتلَاف الْأَشْخَاص والأزمنة والبلدان وَهَذَا بِخِلَاف الْعَدَالَة فَإِنَّهَا تخْتَلف باخْتلَاف الْأَشْخَاص
فَإِن الْفسق يَسْتَوِي فِيهِ الشريف والوضيع بِخِلَاف الْمُرُوءَة فَإِنَّهَا تخْتَلف فَلَا تقبل شَهَادَة من لَا مُرُوءَة لَهُ كمن يَأْكُل أَو يشرب فِي سوق وَهُوَ غير سوقي كَمَا فِي الرَّوْضَة وَغير من لم يغلبه جوع أَو عَطش أَو يمشي فِي سوق مَكْشُوف الرَّأْس أَو الْبدن غير الْعَوْرَة مِمَّن لَا يَلِيق بِهِ مثله ولغير محرم بنسك أما الْعَوْرَة فكشفها حرَام أَو يقبل زَوجته أَو أمته بِحَضْرَة النَّاس وَأما تَقْبِيل ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أمته الَّتِي وَقعت فِي سَهْمه بِحَضْرَة النَّاس فَقَالَ الزَّرْكَشِيّ كَانَ تَقْبِيل اسْتِحْسَان لَا تمتّع أَو ظن أَنه لَيْسَ ثمَّ من ينظره أَو على أَن الْمرة الْوَاحِدَة لَا تضر على مَا اقْتَضَاهُ نَص الشَّافِعِي وَمد الرجل عِنْد النَّاس بِلَا ضَرُورَة كقبلة أمته بحضرتهم وَمن ذَلِك إكثار حكايات مضحكة بَين النَّاس بِحَيْثُ يصير ذَلِك عَادَة لَهُ
وَخرج بالإكثار مَا لم يكثر أَو كَانَ ذَلِك طبعا لَا تصنعا كَمَا وَقع لبَعض الصَّحَابَة وَلبس فَقِيه قبَاء أَو قلنسوة فِي مَحل لَا يعْتَاد الْفَقِيه لبس ذَلِك فِيهِ وإكباب على لعب الشطرنج بِحَيْثُ يشْغلهُ عَن مهامته وَإِن لم يقْتَرن بِهِ مَا يحرمه أَو على غناء أَو استماعه وإكثار رقص
وحرفة دنيئة مُبَاحَة كحجامة وكنس زبل وَنَحْوه ودبغ مِمَّن لَا يَلِيق ذَلِك بِهِ
وَاعْترض جعلهم الحرفة الدنيئة مِمَّا يخرم الْمُرُوءَة مَعَ قَوْلهم إِنَّهَا من فروض الكفايات وَأجِيب بِحمْل ذَلِك على من اخْتَارَهَا لنَفسِهِ مَعَ حُصُول الْكِفَايَة بِغَيْرِهِ وَأما الحرفة غير الْمُبَاحَة كالمنجم والعراف والكاهن والمصور فَلَا تقبل شَهَادَتهم قَالَ الصَّيْمَرِيّ لِأَن شعارهم التلبيس

(2/634)


تَنْبِيه هَذَا الشَّرْط الْخَامِس إِنَّمَا هُوَ شَرط فِي قبُول الشَّهَادَة لَا فِي الْعَدَالَة فَإِنَّهُ مَعَ ذَلِك لَا يخرج عَن كَونه عدلا لَكِن شَهَادَته لم تقبل لفقد مروءته
وَمن شُرُوط الْقبُول أَيْضا أَن لَا يكون مُتَّهمًا والتهمة أَن يجر إِلَيْهِ بِشَهَادَتِهِ نفعا أَو يدْفع عَنهُ بهَا ضَرَرا كَمَا سَيَأْتِي فِي كَلَامه
تَتِمَّة لَو شهد اثْنَان لاثْنَيْنِ بِوَصِيَّة من تَرِكَة فَشهد الِاثْنَان للشاهدين بِوَصِيَّة من تِلْكَ التَّرِكَة قبلت الشهادتان فِي الْأَصَح لانفصال كل شَهَادَة عَن الْأُخْرَى وَلَا تجر شَهَادَته نفعا وَلَا تدفع عَنهُ ضَرَرا وَتقبل شَهَادَة الْحِسْبَة فِي حُقُوق الله تَعَالَى المتمحضة كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْم
وَفِيمَا فِيهِ لله تَعَالَى حق مُؤَكد وَهُوَ مَا لَا يتأثر بِرِضا الْآدَمِيّ كَطَلَاق وَعتق وعفو عَن قصاص وإبقاء عدَّة وانقضائها وحد لله تَعَالَى وَكَذَا النّسَب على الصَّحِيح
وَمَتى حكم قَاض بِشَاهِدين فبانا غير مقبولي الشَّهَادَة ككافرين نقضه هُوَ وَغَيره
وَلَو شهد كَافِر أَو عبد أَو صبي ثمَّ أَعَادَهَا بعد كَمَاله قبلت شَهَادَته لانْتِفَاء التُّهْمَة أَو فَاسق تَابَ لم تقبل للتُّهمَةِ وَتقبل من غير تِلْكَ الشَّهَادَة بِشَرْط اختباره بعد التَّوْبَة مُدَّة يظنّ فِيهَا صدق تَوْبَته وقدرها الْأَكْثَرُونَ بِسنة وَيشْتَرط فِي تَوْبَة مَعْصِيّة قولية القَوْل فَيَقُول قذفي بَاطِل وَأَنا نادم عَلَيْهِ وَلَا أَعُود إِلَيْهِ وَيَقُول فِي شَهَادَة الزُّور شهادتي بَاطِلَة وَأَنا نادم عَلَيْهَا
وَالْمَعْصِيَة غير القولية يشْتَرط فِي التَّوْبَة مِنْهَا إقلاع عَنْهَا وَنَدم عَلَيْهَا وعزم أَن لَا يعود لَهَا ورد ظلامة آدَمِيّ إِن تعلّقت بِهِ

فصل كَمَا فِي بعض النّسخ يذكر فِيهِ الْعدَد فِي الشُّهُود والذكورة
والأسباب الْمَانِعَة من الْقبُول وَأسْقط ذكر فصل فِي بَعْضهَا
(والحقوق) الْمَشْهُود بهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يعْتَبر فِيهَا عددا أَو وَصفا (ضَرْبَان) أَحدهمَا (حق الله تَعَالَى و) ثَانِيهمَا (حق الْآدَمِيّ) وَبَدَأَ بِهِ فَقَالَ
(فَأَما حق الْآدَمِيّ) لِأَنَّهُ الْأَغْلَب وقوعا (فَهُوَ على ثَلَاثَة أضْرب) الأول (ضرب لَا يقبل فِيهِ إِلَّا شَاهِدَانِ ذكران) أَي رجلَانِ وَلَا مدْخل فِيهِ للإناث وَلَا للْيَمِين مَعَ الشَّاهِد (وَهُوَ مَا لَا يقْصد مِنْهُ المَال) أصلا كعقوبة لله تَعَالَى والآدمي (و) مَا (يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال) غَالِبا كَطَلَاق وَنِكَاح ورجعة وَإِقْرَار بِنَحْوِ زنا

(2/635)


وَمَوْت ووكالة ووصاية وَشركَة وقراض وكفالة وَشَهَادَة على شَهَادَة
لِأَن الله تَعَالَى نَص على الرجلَيْن فِي الطَّلَاق وَالرَّجْعَة والوصاية
وروى مَالك عَن الزُّهْرِيّ مَضَت السّنة بِأَنَّهُ لَا يجوز شَهَادَة النِّسَاء فِي الْحُدُود وَلَا فِي النِّكَاح كَالطَّلَاقِ وَقيس بالمذكورات غَيرهَا مِمَّا يشاركها فِي الْمَعْنى الْمَذْكُور وَالْوكَالَة وَالثَّلَاثَة بعْدهَا وَإِن كَانَت فِي مَال الْقَصْد مِنْهَا الْولَايَة والسلطنة
لَكِن لما ذكر ابْن الرّفْعَة اخْتلَافهمْ فِي الشّركَة والقراض قَالَ وَيَنْبَغِي أَن يُقَال إِن رام مدعيهما إِثْبَات التَّصَرُّف فَهُوَ كَالْوَكِيلِ أَو إِثْبَات حِصَّته من الرِّبْح فيثبتان بِرَجُل وَامْرَأَتَيْنِ إِذْ الْمَقْصُود المَال وَيقرب مِنْهُ دَعْوَى الْمَرْأَة النِّكَاح لإِثْبَات الْمهْر أَو شطره أَو الْإِرْث فَيثبت بِرَجُل وَامْرَأَتَيْنِ إِذْ الْمَقْصُود مِنْهُ المَال
وَإِن لم يثبت النِّكَاح بهما فِي غير هَذِه الصُّورَة
(و) الثَّانِي (ضرب يقبل فِيهِ شَاهِدَانِ) رجلَانِ (أَو رجل وَامْرَأَتَانِ أَو شَاهد) أَي رجل وَاحِد
(وَيَمِين الْمُدَّعِي) بعد أَدَاء شَهَادَة شَاهده وَبعد تعديله
وَيذكر حتما فِي حلفه صدق شَاهده لِأَن الْيَمين وَالشَّهَادَة حجتان مختلفتا الْجِنْس فَاعْتبر ارتباط إِحْدَاهمَا بِالْأُخْرَى ليصيرا كالنوع الْوَاحِد (وَهُوَ) أَي هَذَا الضَّرْب الثَّانِي فِي كل (مَا كَانَ) مَالا عينا كَانَ أَو دينا أَو مَنْفَعَة أَو كَانَ (الْقَصْد مِنْهُ المَال) من عقد مَالِي أَو فَسخه أَو حق مَالِي كَبيع وَمِنْه الْحِوَالَة لِأَنَّهَا بيع دين بدين وإقالة وَضَمان وَخيَار وَأجل
وَذَلِكَ لعُمُوم قَوْله تَعَالَى {واستشهدوا شهيدين من رجالكم فَإِن لم يَكُونَا رجلَيْنِ فَرجل وَامْرَأَتَانِ} وروى مُسلم وَغَيره أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قضى بِشَاهِد وَيَمِين زَاد الشَّافِعِي فِي الْأَمْوَال وَقيس بهَا مَا فِيهِ مَال
تَنْبِيه من هَذَا الضَّرْب الْوَقْف أَيْضا كَمَا قَالَه ابْن سُرَيج وَقَالَ فِي الرَّوْضَة إِنَّه أقوى من الْمَعْنى وَصَححهُ الإِمَام وَالْبَغوِيّ وَغَيرهمَا انْتهى
وَصَححهُ أَيْضا الرَّافِعِيّ فِي الشَّرْح الصَّغِير كَمَا أَفَادَهُ فِي الْمُهِمَّات
(و) الثَّالِث (ضرب يقبل فِيهِ) شَاهِدَانِ (رجلَانِ أَو رجل وَامْرَأَتَانِ أَو أَربع نسْوَة) منفردات (وَهُوَ) أَي هَذَا الضَّرْب الثَّالِث فِي كل (مَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال) غَالِبا كبكارة وولادة وحيض ورضاع وعيب امْرَأَة تَحت ثوبها كجراحة على فرجهَا حرَّة كَانَت

(2/636)


أَو أمة واستهلال ولد لما روى ابْن أبي شيبَة عَن الزُّهْرِيّ مَضَت السّنة بِأَنَّهُ يجوز شَهَادَة النِّسَاء فِيمَا لَا يطلع عَلَيْهِ غَيْرهنَّ من ولادَة النِّسَاء وعيوبهن وَقيس بِمَا ذكر غَيره مِمَّا يُشَارِكهُ فِي الضَّابِط الْمَذْكُور
وَإِذا قبلت شَهَادَتهنَّ فِي ذَلِك منفردات فقبول الرجلَيْن أَو الرجل والمرأتين أولى
تَنْبِيه قيد الْقفال وَغَيره مَسْأَلَة الرَّضَاع بِمَا إِذا كَانَ الرَّضَاع من الثدي فَإِن كَانَ من إِنَاء حلب فِيهِ اللَّبن لم تقبل شَهَادَة النِّسَاء بِهِ لَكِن تقبل شَهَادَتهنَّ بِأَن هَذَا اللَّبن من هَذِه الْمَرْأَة لِأَن الرِّجَال لَا يطلعون عَلَيْهِ غَالِبا وَخرج بِعَيْب امْرَأَة تَحت ثوبها مَا نَقله فِي الرَّوْضَة عَن الْبَغَوِيّ وَأقرهُ الْعَيْب فِي وَجه الْحرَّة وكفيها فَإِنَّهُ لَا يثبت إِلَّا برجلَيْن وَفِي وَجه الْأمة وَمَا يَبْدُو عِنْد المهنة فَإِنَّهُ يثبت بِرَجُل وَامْرَأَتَيْنِ لِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ المَال
فَإِن قيل هَذَا وَمَا قبله إِنَّمَا يأتيان على القَوْل بِحل النّظر إِلَى ذَلِك أما على مَا صَححهُ الشَّيْخَانِ فِي الأولى وَالنَّوَوِيّ فِي الثَّانِيَة من تَحْرِيم ذَلِك فَتقبل النِّسَاء فِيهِ منفردات
أُجِيب بِأَن الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ يطلع عَلَيْهِمَا الرِّجَال غَالِبا وَإِن قُلْنَا بِحرْمَة نظر الْأَجْنَبِيّ لِأَن ذَلِك جَائِز لمحارمها وَزوجهَا وَيجوز نظر الْأَجْنَبِيّ لوجهها لتعليم ومعاملة وَتحمل شَهَادَة وَقد قَالَ الْوَلِيّ الْعِرَاقِيّ أطلق الْمَاوَرْدِيّ نقل الْإِجْمَاع على أَن عُيُوب النِّسَاء فِي الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ لَا يقبل فِيهِ إِلَّا الرِّجَال وَلم يفصل بَين الْأمة والحرة وَبِه صرح القَاضِي حُسَيْن فيهمَا انْتهى
أَي فَلَا تقبل النِّسَاء الخلص فِي الْأمة لما مر أَنه يقبل فِيهَا رجل وَامْرَأَتَانِ لما مر وكل مَا لَا يثبت من الْحُقُوق بِرَجُل وَامْرَأَتَيْنِ لَا يثبت بِرَجُل وَيَمِين لِأَن الرجل وَامْرَأَتَيْنِ أقوى وَإِذا لم يثبت بالأقوى لَا يثبت بِمَا دونه وكل مَا يثبت بِرَجُل وَامْرَأَتَيْنِ يثبت بِرَجُل وَيَمِين إِلَّا عُيُوب النِّسَاء وَنَحْوهَا
كإرضاع فَإِنَّهَا لَا تثبت بِشَاهِد وَيَمِين لِأَنَّهَا أُمُور خطرة بِخِلَاف المَال وَقد علم من تَقْسِيم المُصَنّف الْمَذْكُور أَنه لَا يثبت شَيْء بامرأتين وَيَمِين وَهُوَ كَذَلِك لعدم وُرُود ذَلِك وقيامهما مقَام رجل فِي غير ذَلِك لوروده
فرع مَا قبل فِيهِ شَهَادَة النسْوَة على فعله لَا تقبل شَهَادَتهنَّ على الْإِقْرَار بِهِ فَإِنَّهُ مِمَّا يسمعهُ الرِّجَال غَالِبا كَسَائِر الأقارير كَمَا ذكره الدَّمِيرِيّ
(وَأما حُقُوق الله تَعَالَى فَلَا تقبل فِيهَا النِّسَاء) أصلا وَالْخُنْثَى كَالْمَرْأَةِ فِي هَذَا وَفِي جَمِيع مَا مر (وَهِي) أَي حُقُوق الله تَعَالَى (على ثَلَاثَة أضْرب) أَيْضا الأول (ضرب لَا يقبل فِيهِ أقل من أَرْبَعَة) من الرِّجَال (وَهُوَ) أَي هَذَا الضَّرْب
(الزِّنَا) لقَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يرْمونَ الْمُحْصنَات ثمَّ لم يَأْتُوا بأَرْبعَة شُهَدَاء} وَلما فِي صَحِيح مُسلم عَن سعد بن عبَادَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَو وجدت مَعَ امْرَأَتي رجلا أمهله حَتَّى آتِي بأَرْبعَة شُهَدَاء قَالَ نعم وَلِأَنَّهُ لَا يقوم إِلَّا من اثْنَيْنِ فَصَارَ كَالشَّهَادَةِ على فعلين وَلِأَنَّهُ

(2/637)


من أغْلظ الْفَوَاحِش فغلظت الشَّهَادَة فِيهِ ليَكُون أستر وَإِنَّمَا تقبل شَهَادَتهم بِالزِّنَا إِذا قَالُوا حانت منا التفاتة فَرَأَيْنَا أَو تعمدنا النّظر لإِقَامَة الشَّهَادَة
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ فَإِن قَالُوا تعمدنا لغير الشَّهَادَة فسقوا وَردت شَهَادَتهم انْتهى هَذَا إِذا تكَرر ذَلِك مِنْهُم وَلم تغلب طاعتهم على معاصيهم وَإِلَّا فَتقبل لِأَن ذَلِك صَغِيرَة وَيَنْبَغِي إِذا أطْلقُوا الشَّهَادَة أَن يستفسروا إِن تيَسّر وَإِلَّا فَلَا تقبل شَهَادَتهم وَلَا بُد أَن يَقُولُوا رَأَيْنَاهُ أَدخل حشفته أَو قدرهَا من فاقدها فِي فرجهَا وَإِن لم يَقُولُوا كالأصبع فِي الْخَاتم أَو كالمرود فِي المكحلة
تَنْبِيه اللواط فِي ذَلِك كَالزِّنَا وَكَذَا إتْيَان الْبَهِيمَة على الْمَذْهَب الْمَنْصُوص فِي الْأُم قَالَ فِي زِيَادَة الرَّوْضَة لِأَن كلا جماع ونقصان الْعقُوبَة فِيهِ لَا يمْنَع من الْعدَد كَمَا فِي زنا الْأمة قَالَ البُلْقِينِيّ وَوَطْء الْميتَة لَا يُوجب الْحَد على الْأَصَح
وَهُوَ كإتيان الْبَهَائِم فِي أَنه لَا يثبت إِلَّا بأَرْبعَة على الْمُعْتَمد انْتهى
وَخرج بِمَا ذكر وَطْء الشُّبْهَة إِذا قصد بِالدَّعْوَى بِهِ المَال أَو شهد بِهِ حسبَة ومقدمات الزِّنَا كقبلة ومعانقة فَلَا تحْتَاج إِلَى أَرْبَعَة وَيقبل فِي الْإِقْرَار بِالزِّنَا وَمَا ألحق بِهِ رجلَانِ كَغَيْرِهِ من الأقارير
(و) الثَّانِي (ضرب يقبل فِيهِ اثْنَان) أَي رجلَانِ
(وَهُوَ) أَي هَذَا الضَّرْب الثَّانِي (مَا سوى الزِّنَا) وَمَا ألحق بِهِ (من الْحُدُود) سَوَاء أَكَانَ قتلا للمرتد أم لقاطع الطَّرِيق بِشَرْطِهِ أم لقطع فِي سَرقَة أم فِي طَرِيق أم فِي جلد لشارب مُسكر
(و) الثَّالِث (ضرب يقبل فِيهِ) رجل (وَاحِد وَهُوَ هِلَال شهر رَمَضَان) بِالنِّسْبَةِ للصَّوْم على أظهر الْقَوْلَيْنِ عِنْد الشَّيْخَيْنِ احْتِيَاطًا للصَّوْم أما بِالنِّسْبَةِ لحلول أجل أَو لوُقُوع طَلَاق فَلَا
كَمَا مر ذَلِك فِي الصّيام وَألْحق بذلك مسَائِل مِنْهَا مَا لَو نذر صَوْم رَجَب مثلا فَشهد وَاحِد بِرُؤْيَتِهِ فَهَل يجب الصَّوْم إِذا قُلْنَا يثبت بِهِ رَمَضَان
حكى ابْن الرّفْعَة فِيهِ وَجْهَيْن عَن الْبَحْر وَرجح ابْن الْمقري فِي كتاب الصّيام الْوُجُوب مِنْهَا مَا فِي الْمَجْمُوع آخر الصَّلَاة على الْمَيِّت عَن الْمُتَوَلِي أَنه لَو مَاتَ ذمِّي فَشهد عدل بِإِسْلَامِهِ لم يكف فِي الْإِرْث وَفِي الِاكْتِفَاء بِهِ فِي الصَّلَاة عَلَيْهِ وتوابعها وَجْهَان بِنَاء على الْقَوْلَيْنِ فِي هِلَال رَمَضَان وَمُقْتَضَاهُ تَرْجِيح الْقبُول وَهُوَ الظَّاهِر وَإِن أفتى القَاضِي حُسَيْن بِالْمَنْعِ وَمِنْهَا ثُبُوت شَوَّال بِشَهَادَة الْعدْل الْوَاحِد بطرِيق التّبعِيَّة فِيمَا إِذا ثَبت رَمَضَان بِشَهَادَتِهِ وَلم ير الْهلَال بعد الثَّلَاثِينَ فانفطر على الْأَصَح وَمِنْهَا المسمع للخصم كَلَام القَاضِي أَو للْقَاضِي كَلَام الْخصم يقبل فِيهِ الْوَاحِد وَهُوَ من بَاب الشَّهَادَة كَمَا ذكره الرَّافِعِيّ قبيل الْقَضَاء على الْغَائِب وَمِنْهَا صور زِيَادَة على ذَلِك ذكرتها فِي شرح المنهاح وَغَيره
(وَلَا تقبل شَهَادَة) على فعل كزنا وَشرب خمر وغصب وَإِتْلَاف وولادة ورضاع واصطياد وإحياء وَكَون الْيَد على مَال إِلَّا بإبصار لذَلِك الْفِعْل مَعَ فَاعله لِأَنَّهُ يصل بِهِ إِلَى الْعلم وَالْيَقِين فَلَا يَكْفِي فِيهِ السماع من الْغَيْر قَالَ تَعَالَى {وَلَا تقف مَا لَيْسَ لَك بِهِ علم} وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على مثلهَا فاشهد أَو دع إِلَّا أَن فِي الْحُقُوق مَا اكْتفى فِيهِ بِالظَّنِّ الْمُؤَكّد لتعذر الْيَقِين فِيهِ وَتَدْعُو الْحَاجة

(2/638)


إِلَى إثْبَاته كالملك فَإِنَّهُ لَا سَبِيل إِلَى مَعْرفَته يَقِينا وَكَذَا الْعَدَالَة والإعسار وَتقبل فِي الْفِعْل من أَصمّ لإبصاره وَيجوز تعمد النّظر لفرجي الزَّانِيَيْنِ لتحمل الشَّهَادَة كَمَا مرت الْإِشَارَة إِلَيْهِ لِأَنَّهُمَا هتكا حُرْمَة أَنفسهمَا والأقوال كعقد وَفسخ وَطَلَاق وَإِقْرَار يشْتَرط فِي الشَّاهِد بهَا سَمعهَا وإبصار قَائِلهَا حَال تلفظه بهَا حَتَّى لَو نطق بهَا من وَرَاء حجاب وَهُوَ يتحققه لم يكف
وَمَا حَكَاهُ الرَّوْيَانِيّ عَن الْأَصْحَاب من أَنه لَو جلس بِبَاب بَيت فِيهِ اثْنَان فَقَط فَسمع تعاقدهما بِالْبيعِ وَغَيره كفى من غير رُؤْيَة زيفه الْبَنْدَنِيجِيّ بِأَنَّهُ لَا يعرف الْمُوجب من الْقَابِل
وَلَا تقبل شَهَادَة (الْأَعْمَى) فِيمَا يتَعَلَّق بالبصر لجَوَاز اشْتِبَاه الْأَصْوَات وَقد يحاكي الْإِنْسَان صَوت غَيره
(إِلَّا فِي سِتَّة) وَفِي بعض النّسخ خَمْسَة (مَوَاضِع) وَسَيَأْتِي تَوْجِيه ذَلِك الْموضع الأول (الْمَوْت) فَإِنَّهُ يثبت بِالتَّسَامُعِ لِأَن أَسبَابه كَثِيرَة مِنْهَا مَا يخفى وَمِنْهَا مَا يظْهر وَقد يعسر الإطلاع عَلَيْهَا فَجَاز أَن يعْتَمد على الاستفاضة
(و) الْموضع الثَّانِي (النّسَب) لذكر أَو أُنْثَى وَإِن لم يعرف عين الْمَنْسُوب إِلَيْهِ من أَب أَو جد فَيشْهد أَن هَذَا ابْن فلَان أَو أَن هَذِه بنت فلَان أَو قَبيلَة فَيشْهد أَنه من قَبيلَة كَذَا لِأَنَّهُ لَا مدْخل للرؤية فِيهِ فَإِن غَايَة الْمُمكن أَن يُشَاهد الْولادَة على الْفراش وَذَلِكَ لَا يُفِيد الْقطع بل الظَّاهِر فَقَط
وَالْحَاجة دَاعِيَة إِلَى إِثْبَات الْإِنْسَان إِلَى الأجداد المتوفين والقبائل الْقَدِيمَة فسومح فِيهِ قَالَ ابْن الْمُنْذر وَهَذَا مِمَّا لَا أعلم فِيهِ خلافًا وَكَذَا يثبت النّسَب بالاستفاضة إِلَى الْأُم فِي الْأَصَح
كَالْأَبِ وَإِن كَانَ النّسَب فِي الْحَقِيقَة إِلَى الْأَب
(و) الْموضع الثَّالِث (الْملك الْمُطلق) من غير إِضَافَة لمَالِك معِين إِذا لم يكن مُنَازع
تَنْبِيه هَذِه الثَّلَاثَة من الْأُمُور الَّتِي تثبت بالاستفاضة وَبَقِي من الْأُمُور الَّتِي تثبت بالاستفاضة الْعتْق وَالْوَلَاء وَالْوَقْف وَالنِّكَاح كَمَا هُوَ الْأَصَح عِنْد الْمُحَقِّقين لِأَنَّهَا أُمُور مُؤَبّدَة فَإِذا طَالَتْ مدَّتهَا عسر إِقَامَة الْبَيِّنَة على ابتدائها فمست الْحَاجة إِلَى إِثْبَاتهَا بالاستفاضة وَلَا يشك أحد أَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وَعَن أَبَوَيْهَا زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَن فَاطِمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا بنت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا مُسْتَند غير السماع
وَمَا ذكر فِي الْوَقْف هُوَ بِالنّظرِ إِلَى أَصله
وَأما شُرُوطه فَقَالَ النَّوَوِيّ فِي فَتَاوِيهِ لَا يثبت بالاستفاضة شُرُوط الْوَقْف وتفاصيله بل إِن كَانَ وَقفا على جمَاعَة مُعينين أَو جِهَات مُتعَدِّدَة قسمت الْغلَّة بَينهم بِالسَّوِيَّةِ أَو على مدرسة مثلا وتعذرت معرفَة الشُّرُوط صرف النَّاظر الْغلَّة فِيمَا يرَاهُ من مصالحها انْتهى
وَالْأَوْجه حمل هَذَا على مَا أفتى بِهِ ابْن الصّلاح شَيْخه من أَن الشُّرُوط إِن شهد بهَا مُنْفَرِدَة لم يثبت بهَا وَإِن ذكرهَا فِي شَهَادَته بِأَصْل الْوَقْف سَمِعت لِأَنَّهُ يرجع حَاصله إِلَى بَيَان كَيْفيَّة الْوَقْف وَمِمَّا يثبت بالاستفاضة الْقَضَاء وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل والرشد وَالْإِرْث وَاسْتِحْقَاق الزَّكَاة وَالرّضَاع وَحَيْثُ يثبت النِّكَاح بالاستفاضة لَا يثبت الصَدَاق بهَا بل يرجع لمهر الْمثل وَلَا يَكْفِي الشَّاهِد بالاستفاضة أَن يَقُول سَمِعت النَّاس يَقُولُونَ كَذَا وَإِن كَانَت

(2/639)


شَهَادَته مَبْنِيَّة عَلَيْهَا بل يَقُول أشهد أَنه لَهُ أَو أَنه ابْنه مثلا لِأَنَّهُ قد يعلم خلاف مَا سمع من النَّاس وَلَو صرح بذلك لم تقبل شَهَادَته على الْأَصَح لِأَن ذكره يشْعر بِعَدَمِ جزمه بِالشَّهَادَةِ وَيُؤْخَذ من التَّعْلِيل حمل هَذَا على مَا إِذا ظهر بِذكرِهِ تردد فِي الشَّهَادَة فَإِن ذكره لتقوية أَو حِكَايَة حَال قبلت شَهَادَته
وَهُوَ ظَاهر وَلَيْسَ لَهُ أَن يَقُول أشهد أَن فُلَانَة ولدت فلَانا وَأَن فلَانا أعتق فلَانا لما مر أَنه يشْتَرط فِي الشَّهَادَة بِالْفِعْلِ الإبصار وبالقول الإبصار والسمع وَشرط الاستفاضة الَّتِي يسْتَند الشَّاهِد إِلَيْهَا فِي الْمَشْهُود بِهِ سَماع الْمَشْهُود بِهِ من جمع كثير يُؤمن توافقهم على الْكَذِب بِحَيْثُ يَقع الْعلم أَو الظَّن الْقوي بخبرهم
كَمَا ذكره الشَّيْخَانِ فِي الشَّرْح وَالرَّوْضَة لِأَن الأَصْل فِي الشَّهَادَة اعْتِمَاد الْيَقِين وَإِنَّمَا يعدل عَنهُ عِنْد عدم الْوُصُول إِلَيْهِ إِلَى ظن يقرب مِنْهُ على حسب الطَّاقَة
(و) الْموضع الرَّابِع (التَّرْجَمَة) إِذا اتَّخذهُ القَاضِي مترجما وَقُلْنَا بِجَوَازِهِ وَهُوَ الْأَصَح فَتقبل شَهَادَته فِيهَا لِأَن التَّرْجَمَة تَفْسِير للفظ فَلَا يحْتَاج إِلَى مُعَاينَة وَإِشَارَة
وَقَوله (وَمَا شهد بِهِ قبل الْعَمى) سَاقِط فِي بعض النّسخ فَمن عد الْمَوَاضِع سِتَّة عد ذَلِك وَمن عدهَا خَمْسَة لم يعد ذَلِك وَمَعْنَاهُ أَن الْأَعْمَى لَو تحمل شَهَادَة فِيمَا يحْتَاج لِلْبَصَرِ قبل عرُوض الْعَمى لَهُ ثمَّ عمي بعد ذَلِك شهد بِمَا تحمله إِن كَانَ الْمَشْهُود لَهُ وَعَلِيهِ معروفي الِاسْم وَالنّسب لِإِمْكَان الشَّهَادَة عَلَيْهِمَا فَيَقُول أشهد أَن فلَان ابْن فلَان أقرّ لفُلَان ابْن فلَان بِكَذَا بِخِلَاف مجهولهما أَو أَحدهمَا أخذا من مَفْهُوم الشَّرْط نعم لَو عمي ويدهما أَو يَد الْمَشْهُود عَلَيْهِ فِي يَده
فَشهد عَلَيْهِ فِي الأولى مُطلقًا مَعَ تَمْيِيزه لَهُ من خَصمه وَفِي الثَّانِيَة بِالْمَعْرُوفِ الِاسْم وَالنّسب قبلت شَهَادَته
كَمَا بَحثه الزَّرْكَشِيّ فِي الأولى وَصرح بِهِ فِي أصل الرَّوْضَة فِي الثَّانِيَة (و) الْموضع الْخَامِس أَو السَّادِس على مَا تقدم مَا تحمله (على المضبوط) عِنْده كَأَن يقر شخص فِي أُذُنه بِنَحْوِ طَلَاق أَو عتق أَو مَال لشخص مَعْرُوف الِاسْم وَالنّسب فَيتَعَلَّق الْأَعْمَى بِهِ ويضبطه حَتَّى يشْهد عَلَيْهِ بِمَا سمع مِنْهُ عِنْد قَاض بِهِ فَتقبل على الصَّحِيح لحُصُول الْعلم بِأَنَّهُ الْمَشْهُود عَلَيْهِ وَله أَن يطَأ زَوجته اعْتِمَادًا على صَوتهَا للضَّرُورَة وَلِأَن الْوَطْء يجوز بِالظَّنِّ
وَلَا يجوز لَهُ أَن يشْهد على زَوجته اعْتِمَادًا على صَوتهَا كَغَيْرِهَا خلافًا لما بَحثه الْأَذْرَعِيّ من قبُول شَهَادَته عَلَيْهَا اعْتِمَادًا على ذَلِك
(وَلَا تقبل شَهَادَة جَار لنَفسِهِ نفعا) فَترد شَهَادَته لعَبْدِهِ سَوَاء أَكَانَ مَأْذُونا لَهُ أم لَا
ومكاتبه لِأَن لَهُ فِيهِ علقَة نعم لَو شهد بشرَاء شقص لمشتريه وَفِيه شُفْعَة لمكاتبه قبلت
ولغريم لَهُ ميت وَإِن لم تستغرق تركته الدُّيُون أَو عَلَيْهِ حجر فلس لِأَنَّهُ إِذا أثبت للْغَرِيم شَيْئا أثبت لنَفسِهِ الْمُطَالبَة بِهِ وَترد شَهَادَته أَيْضا بِمَا هُوَ ولي أَو وَصِيّ أَو وَكيل فِيهِ وَلَو بِدُونِ جعل لِأَنَّهُ يثبت لنَفسِهِ سلطنة التَّصَرُّف وببراءة

(2/640)


من ضمنه بأَدَاء أَو إِبْرَاء لِأَنَّهُ يدْفع بِهِ الْغرم عَن نَفسه وبجراحة مُوَرِثه قبل اندمالها لِأَنَّهُ لَو مَاتَ كَانَ الْأَرْش لَهُ وَلَو شهد لموروث لَهُ مَرِيض أَو جريح بِمَال قبل الِانْدِمَال قبلت شَهَادَته
وَالْفرق بَين هَذِه وَالَّتِي قبلهَا أَن الْجراحَة سَبَب للْمَوْت النَّاقِل للحق إِلَيْهِ بِخِلَاف المَال
وَاحْتج لمنع قبُول الشَّهَادَة فِي ذَلِك وَأَمْثَاله
بقوله تَعَالَى {وَأدنى أَلا ترتابوا} والريبة حَاصِلَة هُنَا
وَبِقَوْلِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تقبل شَهَادَة خصم وَلَا ظنين والظنين الْمُتَّهم (و) لهَذَا (لَا) تقبل شَهَادَة (دَافع عَنْهَا) أَي عَن نَفسه (ضَرَرا) كَشَهَادَة عَاقِلَة بفسق شُهُود قتل يحملونه من خطأ أَو شبه عمد وَشَهَادَة غُرَمَاء مُفلس بفسق شُهُود دين آخر ظهر عَلَيْهِ لأَنهم يدْفَعُونَ بهَا ضَرَر الْمُزَاحمَة
تَتِمَّة لَا تقبل شَهَادَة مُغفل لَا يضْبط أصلا وَلَا غَالِبا لعدم الوثوق بقوله أما من لَا يضْبط نَادرا والأغلب فِيهِ الْحِفْظ والضبط فَتقبل شَهَادَته قطعا لِأَن أحدا لَا يسلم من ذَلِك وَمن تعادل غلطه وَضَبطه فَالظَّاهِر أَنه كمن غلب غلطه وَلَا شَهَادَة مبادر بِشَهَادَتِهِ قبل أَن يستشهد للتُّهمَةِ وَلخَبَر الصَّحِيحَيْنِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ خير الْقُرُون قَرْني ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ الَّذين يَلُونَهُمْ ثمَّ يَجِيء قوم يشْهدُونَ وَلَا يستشهدون فَإِن ذَلِك فِي مقَام الذَّم لَهُم وَأما خبر مُسلم أَلا أخْبركُم بِخَير الشُّهُود الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قبل أَن يسْأَلهَا فَمَحْمُول على شَهَادَة الْحِسْبَة
وَهِي مَأْخُوذَة من الاحتساب وَهُوَ طلب الْأجر فَتقبل سَوَاء أسبقها دَعْوَى أم لَا وَسَوَاء أَكَانَت فِي غيبَة الْمَشْهُود عَلَيْهِ أم لَا وَهِي كَغَيْرِهَا من الشَّهَادَات فِي شُرُوطهَا السَّابِقَة فِي حُقُوق الله تَعَالَى المتمحضة كَصَلَاة وَزَكَاة وَصَوْم بِأَن يشْهد بِتَرْكِهَا وَفِيمَا لله تَعَالَى فِيهِ حق مُؤَكد كَطَلَاق وَعتق وعفو عَن قصاص وَبَقَاء عدَّة وانقضائها وحد لله تَعَالَى بِأَن يشْهد بِمُوجب ذَلِك وَالْمُسْتَحب ستره إِذا رأى الْمصلحَة فِيهِ وإحصان وتعديل وَكَفَّارَة وبلوغ وَكفر وَإِسْلَام وَتَحْرِيم مصاهرة وَثُبُوت نسب وَوَصِيَّة
ووقف إِذا عَمت جهتهما وَلَو أخرت الْجِهَة الْعَامَّة فَيدْخل نَحْو مَا أفتى بِهِ الْبَغَوِيّ من أَنه لَو وقف دَارا على أَوْلَاده ثمَّ الْفُقَرَاء فاستولى عَلَيْهَا ورثته وتملكوها فَشهد شَاهِدَانِ حسبَة قبل انْقِرَاض أَوْلَاده بوقفيتها قبلت شَهَادَتهمَا لِأَن آخِره وقف على الْفُقَرَاء لَا إِن خصت جهتهما فَلَا تقبل شَهَادَتهمَا لتعلقهما بِحُقُوق خَاصَّة
وَخرج بِحُقُوق الله تَعَالَى حُقُوق الْآدَمِيّين كَالْقصاصِ وحد الْقَذْف والبيوع والأقارير لَكِن إِذا لم يعلم صَاحب الْحق بِهِ أعلمهُ الشَّاهِد بِهِ ليستشهده بعد الدَّعْوَى
وَإِنَّمَا تسمع شَهَادَة الْحِسْبَة عِنْد الْحَاجة إِلَيْهَا فَلَو شهد اثْنَان أَن فلَانا أعتق عَبده أَو أَنه أَخُو فُلَانَة من الرَّضَاع لم يكف حَتَّى يَقُولَا إِنَّه يسترقه أَو أَنه يُرِيد نِكَاحهَا وَكَيْفِيَّة شَهَادَة الْحِسْبَة أَن الشُّهُود يجيئون إِلَى القَاضِي وَيَقُولُونَ نَحن نشْهد على فلَان بِكَذَا فَأحْضرهُ لنشهد عَلَيْهِ فَإِن ابتدأوا وَقَالُوا فلَان زنى فهم قذفة
وَمَا تقبل فِيهِ شَهَادَة الْحِسْبَة هَل تسمع فِيهِ دَعْوَاهَا وَجْهَان أوجههمَا كَمَا جرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري تبعا للإسنوي وَنسبه الإِمَام للعراقيين لَا تسمع لِأَنَّهُ لَا حق للْمُدَّعِي فِي الْمَشْهُود بِهِ وَمن لَهُ الْحق لم يَأْذَن فِي الطّلب وَالْإِثْبَات بل أَمر فِيهِ الْإِعْرَاض وَالدَّفْع مَا أمكن
وَالْوَجْه الثَّانِي وَرجحه البُلْقِينِيّ أَنَّهَا تسمع وَيجب حمله على غير حُدُود الله تَعَالَى
وَلذَا فصل بعض الْمُتَأَخِّرين فَقَالَ إِنَّهَا تسمع فِي مَحْض حُدُود الله تَعَالَى

(2/641)