البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب ما يفسد الماء من الطاهرات وما لا يفسده]
إذا اختلط بالماء شيء طاهر، ولم يتغير به الماء لقلة المخالط.. لم تمنع الطهارة بالماء؛ لأن الماء باق على إطلاقه. وإن لم يتغير الماء بما خالطه من الطاهرات التي تسلب تطهير الماء إذا غيرته لا لقلة المخالط، ولكن لموافقته الماء في صفاته، كالعرق، وماء الورد إذا انقطعت رائحته.. قال ابن الصباغ: وهذا يبعد؛ لأنه لا بد أن ينفرد عنه بطعم، فإن اتفق ذلك.. ففيه وجهان:
أحدهما: يعتبر هذا المخالط بغيره من الطاهرات التي تغير صفته صفة الماء، فيقال: لو كان هذا المخالط من الطاهرات التي تخالف صفتها صفة الماء.. هل كانت تتغير صفة هذا الماء به؟
فإن قيل: نعم.. قيل: فهذا أيضًا يمنع الطهارة به وإن لم يتغير الماء.
وإن قيل: لا يتغير صفة هذا الماء.. قيل: فكذا هذا أيضًا لا تمنع الطهارة به؛ لأنه لما لم يمكن اعتبار هذا المخالط بنفسه، لموافقته الماء في الصفة.. اعتبر بغيره مما يخالف الماء، كما نقول - في الجناية على الحر التي ليس لها أرش مقدر -: لما لم يتمكن اعتبارها بنفسها.. اعتبرت بالجناية على العبيد.
قال ابن الصباغ: وهذا يبعد؛ لأن الأشياء تختلف في ذلك، فبأيها تعتبر؟ فإن قال: بأدناها صفة إلى الماء.. قيل: فاعتبر هذا المخالط بنفسه، فإن له صفة ينفرد بها عن الماء.
والوجه الثاني - وهو الصحيح -: إن كان الماء أكثر من المخالط له.. جازت الطهارة به؛ لبقاء إطلاق اسم الماء عليه. وإن كان المخالط له أكثر من الماء.. لم تجز الطهارة به؛ لأن إطلاق اسم الماء يزول بذلك.
وإن كان المخالط للماء المطلق ماء مستعملًا في الحدث، وقلنا: إنه ليس بمطهر.. فإن الشيخ أبا حامد وابن الصباغ قالا: يكون الاعتبار هاهنا بالكثرة وجهًا

(1/19)


واحدًا. وقال القاضي أبو الطيب: هي على وجهين، كما لو خالطه ماء ورد انقطعت رائحته، أو عرق.
إذا ثبت هذا: فذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب ": إذا احتاج في طهارته إلى خمسة أرطال ماء، ومعه أربعة أرطال ماء، فكمله برطل من مائع لم يتغير به، كماء ورد انقطعت رائحته.. فهل تجوز الطهارة به؟ فيه وجهان:
أحدهما - وهو قول أبي علي الطبري، وأبي حنيفة -: (أنه لا تصح الطهارة به) ؛ لأنه كمل الوضوء بالماء والمائع، فأشبه إذا غسل بعض أعضائه بالماء، وبعضها بالمائع.
والثاني: تصح الطهارة به. قال أصحابنا: وهو الصحيح؛ لأن المائع استهلك في الماء، فصار كما لو طرح ذلك في ماء يكفيه.
والذي تبين لي في هذه المسألة: أنها مبنية على الوجهين في المائع إذا وقع في الماء ولم يغيره، لموافقته الماء في الصفة:
فإن قلنا: إن المائع الذي توافق صفته صفة الماء يعتبر بغيره من الطاهرات التي تخالف صفته صفة الماء.. لم تجز الطهارة به هاهنا بشيء من هذه الخمسة الأرطال وجهًا واحدًا؛ لأنا لو قدرنا في عقولنا أن رطلًا من قطران، أو زعفران، وقع في أربعة أرطال من الماء.. لغيره.
وإن قلنا: إن الاعتبار بكثرة الماء، أو بكثرة المخالط.. فهاهنا وجهان:
[أحدهما] : قال أبو علي الطبري: لا تجوز الطهارة به.
والثاني: قال سائر أصحابنا: تجوز.
فكان أبو علي الطبري يقول: إن المائع الطاهر إذا خلط بماء يكفي للطهارة، ولم يغير صفة الماء، وكان الماء أكثر.. تصح الطهارة به، وإن كان الماء لا يكفي للطهارة إلا بالذي خالطه من المائعات الطاهرات.. لم تصح الطهارة به.

(1/20)


ويأتي على قول أبي علي: لو احتاج في الغسل عن الجنابة إلى عشرة أرطال ماء وليس معه إلا تسع أرطال ماء، فطرح فيه رطلًا من ماء ورد انقطعت رائحته، ولم يتغير به الماء، فإن اغتسل بجميعه عن الجنابة.. لم تصح. وإن توضأ بجميعه عن الحدث.. صح. وهذا ظاهر الفساد.
وغيره من أصحابنا قالوا: لا فرق بينهما؛ ولهذا قاسوا ما يكفي للطهارة إلا بالمائع على ما يكفي بنفسه للطهارة، فهي وإن كانت مقدمة في " المهذب " في الباب الأول، إلا أنها مبنية على الوجه الأول في الباب الثاني. ولعله فرعها على الصحيح.
وإن تغيرت إحدى صفات الماء من طعم، أو لون، أو رائحة بشيء مما خالطه من الطاهرات.. نظرت:
فإن كان مما لا يمكن حفظ الماء منه، كالطحلب - وهو نبت ينبت في الماء - وما يجري عليه الماء من الملح، والكحل، والزرنيخ، والنورة، وما أشبه ذلك.. جازت الطهارة به؛ لأنه لا يمكن صون الماء عن ذلك.
وإن جرى الماء على التراب، فتغير الماء به.. لم يمنع الطهارة به، واختلف أصحابنا الخراسانيون في علته:
فمنهم من قال: لأنه لا يمكن صون الماء عنه، فهو كالطحلب إذا تغير به الماء.
ومنهم من قال: لأن التراب يوافق الماء في التطهير.

(1/21)


وإن تناثرت أوراق الشجر في الماء، فتغيرت بعض صفاته.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو المشهور -: أنه تصح الطهارة به. قال الطبري: وهذا قول من يقول: إن العلة في الماء إذا جرى عليه التراب، فغيره.. أنه لا يمكن صون الماء عنه؛ لأن هذا لا يمكن أيضًا صون الماء عنه.
والوجه الثاني: لا تصح الطهارة به. قال الطبري: وهذا قول من يقول: إن العلة في التراب: أنه يوافق الماء في التطهير؛ لأن هذا لا يوافق الماء في التطهير.
والثالث: إن كان الورق خريفيا.. لم يمنع الطهارة بالماء. وإن كان ربيعيا.. منع، والفرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أن الربيعي يخرج منه رطوبة تختلط بالماء. والخريفي يابس لا يخرج منه شيء.
والثاني: أن الربيعي قلما يتناثر، فيمكن صون الماء عنه، والخريفي يتناثر غالبًا، فلا يمكن صون الماء عنه.
والأول أصح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره.
وإن طرح في الماء ملح، فغير إحدى صفات الماء.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها - وهو قول الشيخ أبي حامد، والبغداديين من أصحابنا -: إن كان الملح انعقد من الماء.. لم يمنع الطهارة به؛ لأنه كان ماء في الأصل، فهو كالثلج إذا ذاب في الماء. وإن كان الملح جبليا.. منع الطهارة بالماء، كما لو طرح فيه دقيقًا، فغيره.

(1/22)


والثاني - وهو قول القفال، واختيار المسعودي [في " الإبانة ": ق \ 2]-: أنه لا تمنع الطهارة بالماء، سواء كان الملح انعقد من الماء، أو كان جبليا؛ لأن كل ملح أصله الماء.
والثالث - يحكى عن ابن القاص -: أن كل واحد من المحلين يمنع؛ لأنه قد خرج عن صفة الماء، فهو كالطحلب. والأول هو المشهور.
وإن طرح التراب في الماء، فغير صفته.. فالبغداديون من أصحابنا قالوا: تجوز الطهارة به؛ لأنه يوافق الماء في التطهير، فهو كما لو صب ماء ملح على ماء عذب، فتغير به.
وأما الخراسانيون فقالوا: إن قلنا: إن الماء إذا جرى عليه فتغير به، أن العلة فيه: أنه يوافق الماء في التطهير.. لم تمنع الطهارة بالماء هاهنا.
وإن قلنا: إن العلة هناك: أنه لا يمكن صون الماء عنه.. منع الطهارة به.
وإن أخذ الطحلب، أو ورق الشجر، ودق وطرح في الماء، فغيره.. فهل تصح الطهارة به؟ فيه وجهان، حكاهما أبو علي في " الإفصاح "، والشيخ أبو حامد:
أحدهما: تصح الطهارة به، كما لو تغير بالطحلب الذي نبت فيه.
والثاني: لا تصح الطهارة به، وهو المشهور؛ لأنه زال عن أصله بصنعة آدمي، بخلاف النابتة فيه، فإنه لا يمكن صون الماء عنه.

(1/23)


[فرع: حكم ما غير الماء كزعفران]
] : وإن وقع في الماء زعفران، أو كافور، أو دقيق، أو ثمر، أو ما أشبه ذلك، فغير إحدى صفاته.. لم تسلب طهارته، فيجوز شربه، ولكن يسلب تطهيره، فلا تصح الطهارة به.
وقال أبو حنيفة: (إن كان الماء يجري بطبعه، صحت الطهارة به، إلا ماء اللحم وماء الباقلاء، فلا تصح الطهارة به، وإن كان الماء لا يجري بطبعه.. لم تصح الطهارة به) .
دليلنا: أنه زال عنه إطلاق اسم الماء بمخالطة ما ليس بمطهر، والماء مستغن عنه، فلم تصح الطهارة به، كماء اللحم، وماء الباقلاء. وإذا شدد (الباقلا) .. قصر، وإذا خفف.. مُدَّ.
فقولنا: (زال عنه إطلاق اسم الماء) احتراز من هذه الأشياء الطاهرة إذا وقعت في الماء، ولم تغير صفاته.
وقولنا: (بمخالطة) احترازٌ من الماء إذا تروح بجيفة بقربه.
وقولنا: (ما ليس بمطهر) احتراز من التراب، على المشهور من المذهب.
وقولنا: (والماء مستغن عنه) احتراز من الماء إذا جرى على الكُحل، أو نبت فيه الطحلب، فتغير به.
وإن حلف: لا يشرب الماء، فشرب من هذا الماء، قال القاضي في " التحقيق ": لا يحنث.
وإن وكل من يشتري له الماء، فاشترى له الوكيل هذا الماء، لم يصح الشراء في حق هذا الموكل؛ لأنه لا يدخل في إطلاق اسم الماء.

(1/24)


[فرع: تغير رائحة الماء بمجاور]
وإن وقع في الماء دُهن طيب، أو عود، فتغير به ريح الماء، ففيه قولان:
أحدهما - وهو الأصح -: أنه لا يمنع الطهارة بالماء؛ لأن تغيره عن مجاورة، فهو كما لو تغير ريحه بجيفة بقربه.
والثاني: يمنع الطهارة به، كما لو طرح فيه زعفران فتغير به.
وإن وقع في الماء قطران فغير ريح الماء.. فقد قال الشافعي في " الأم " [1/6] : (لا يجوز الوضوء به) ، وقال بعده بأسطر: (إن وقع به قطران، أو بان، فتغير به ريح الماء، لم يمنع الوضوء به) .
فقال الشيخ أبو حامد، والمحاملي: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، فحيث قال: (لا يجوز الوضوء به) ، أراد: إذا اختلط بأجزاء الماء، وحيث قال: (يجوز) ، أراد: إذا لم يختلط بالماء، وإنما تغير به عن مجاورة.
قال أبو علي الطبري: وقيل: إن القطران على ضربين: ضرب يختلط بالماء، وضرب لا يختلط به.

[فرع: حكم ما لا يختلط بالماء كالكافور]
وإن وقع في الماء قليل كافور، وهو مما لا يختلط بجميع أجزاء الماء، وإنما يختلط باليسير منه، فتغير به ريح الماء.. ففيه وجهان:
أحدهما: تجوز الطهارة به؛ لأن تغيره عن مجاورة.
والثاني: لا تجوز، كما لو وقع فيه زعفران، فتغير به.
وبالله التوفيق

(1/25)