البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [باب صفة الأئمة]
إذا كان الصبي ابن سبع سنين، أو ثمان سنين، وهو مميز من أهل الصلاة؛ صحَّت إمامته للبالغين في الفرض والنفل.
وهل يصحُّ أن يكون إمامًا في الجمعة؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يصحُّ؛ لأن الإمام شرط في الجمعة، وصلاة الصبي نافلة.
والثاني: يصحُّ؛ لأن من صحَّ أن يكون إماما في غير الجمعة؛ صحَّ أن يكون إمامًا في الجمعة كالبالغ، هذا مذهبنا.
وقال مالك: (يجوز أن يكون إمامًا في النفل دون الفرض) .
وعن أبي حنيفة روايتان:
إحداهما: (أن الصبي لا صلاة له، وإنما يؤمر بفعلها؛ لكي يتعلمها، ويتمرَّن عليها، فإذا فعلها؛ كانت تشبه الصلاة) .
فعلى هذه الرواية: لا يكون إمامًا لغيره.
والرواية الثانية: (أن صلاة الصبي صحيحة، وهي نافلة) .
فعلى هذه الرواية: يجوز أن يكون إمامًا في النفل دون الفرض.
دليلنا: ما روي «عن عمرو بن سلمة: أنه قال: كنت غلامًا قد حفظت قرآنًا كثيرًا، فانطلق بي أبي وافدًا إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفر من قومه، فعلَّمهم الصلاة، وقال: "يؤمُّكم أقرؤكم لكتاب الله"، وكنت أُصلِّي بهم، وعلى جنائزهم، وأنا ابن سبع سنين، أو ثمان سنين» .

(2/391)


فموضع الدليل من هذا: أن القوم إنما قدموا به على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ ليعرفوه أنه أقرؤهم، فلما عرف ذلك قال: «يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله» ، ولا أقرأ هناك غيره، فكأنه قال: يؤمكم هذا.
وروي عن عائشة أنها قالت: "كنا نأخذ الصبيان من الكتاب، ليصلوا بنا قيام رمضان ".

[مسألة إمامة من ليس أهلًا لها]
] : ولا تصح إمامة الكافر؛ لأنه ليس من أهل الصلاة، فإن صلى الكافر، لم يحكم بإسلامه بنفس الصلاة.
وقال القاضي أبو الطيب: إذا صلى الحربي في دار الحرب، حكم بإسلامه.
وقال المحاملي: يحكم بإسلامه في الظاهر، ولكن لا يلزمه حكم الإسلام بذلك.
والمذهب الأول: وقال أبو حنيفة: "إن صلى منفردًا لم يحكم بإسلامه، وإن صلى في جماعة؛ استدللنا بذلك على إسلامه".
وقال محمد بن الحسن: إذا صلى في المسجد حكم بإسلامه، سواء صلى في جماعة أو منفردًا، وكذلك إذا أذن حيث يؤذن المسلمون، أو حج، أو طاف فإنه يحكم بإسلامه.
وقال أحمد: "يحكم بإسلامه بالصلاة بكل حال".
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، وأن

(2/392)


محمدًا رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» .
فمن قال: يحرم قتاله بالصلاة فقد خالف ظاهر الخبر.
وروي: «أن رجلًا مر بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو يقسم الغنيمة، فقال: يا محمد، اعدل؛ فإنك لم تعدل. فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ويلك، إذا لم أعدل، فمن يعدل"، ثم مر الرجل، فوجه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أبا بكر وراءه ليقتله، فوجده يصلي، فقال: يا رسول الله، وجدته يصلي، فوجه عمر ليقتله، فوجده يصلي، فقال: يا رسول الله، وجدته يصلي، فوجه بعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال: "إنك لن تدركه"، فذهب علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فلم يجده» .
فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتله؛ لأنه نسبه إلى الجور، وذلك يوجب كفره، وقد علم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بخبر أبي بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أنه يصلي، فدل على أنه لا يصير مسلمًا بنفس الصلاة.
ولأنها عبادة من شرطها تقديم الإيمان، فوجب ألا يكون فعلها دلالة على الإسلام، كصوم رمضان، وزكاة المال، وأما إذا أتى الكافر بالشهادتين: فإن أتى بهما على سبيل الحكاية، مثل: أن يقول: سمعت أن فلانًا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، لم يكن هذا إسلامًا منه، بلا خلاف بين أصحابنا؛ لأنه حكى ذلك عن غيره، كما أن من حكى الكفر لا يكون كافرًا.
وإن أتى بهما على وجه الإجابة لاستدعاء غيره، بأن قيل له: قل: أشهد أن لا إله

(2/393)


إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله، فقال ذلك، وبرئ من كل دين خالف الإسلام حكم بإسلامه، بلا خلاف.
وإن أتى بالشهادتين من غير استدعاء، أو أتى بهما في الصلاة، أو في الأذان ففيه وجهان، ذكرناهما في الأذان:
أحدهما: يحكم بإسلامه، وهو قول أبي إسحاق، وهو الصحيح؛ لأنه قد أتى بالشهادتين على سبيل الحكاية، فهو كما لو دعي إليهما فأجاب.
والثاني: لا يحكم بإسلامه؛ لأنه متردد بين: أن يكون أراد به الإخبار عن غيره، أو الإسلام.
وروي: (أن أبا محذورة، وأبا سامعة كانا مؤذنين على سبيل الحكاية قبل إسلامهما) .

[فرع صلاة كافر بمسلم]
] : وإذا صلى الكافر بالمسلمين عزر؛ لأنه أفسد على المسلمين صلاتهم، واستهزأ بدينهم.
وحكي عن الأوزاعي: أنه قال: (يعاقب) ، ولعله أراد: التعزير.
وهل تجب الإعادة على من صلى خلفه؟ ينظر فيه:
فإن علم بحاله قبل الصلاة لزمته الإعادة؛ لأنه علق صلاته بصلاة باطلة مع العلم بها.
وإن لم يعلم بحاله نظرت: فإن كان كافرًا متظاهرًا بكفره، كاليهودي، والنصراني، والمجوسي لزمته الإعادة؛ لثلاثة معان:

(2/394)


أحدها: أنه قد ترك الاستدلال عليه بالعلم الظاهر، وهو الزنار، والغيار، فكان مفرطًا.
والثاني: أن العادة جرت أن الكافر لا يحسن أن يصلي كصلاة المسلمين، إذا لم يتعودها، فأما إذا لم ينبه المسلم لذلك: كان مفرطًا.
والثالث قاله الشافعي: (أنه ائتم بمن لا يجوز له الائتمام به بحال، فلزمته الإعادة، كما لو صلى خلف امرأة) .
وإن كان كافرًا مستترًا بكفره، كالزنديق والملحد ففيه وجهان:
أحدهما وهو المنصوص: (أن عليه الإعادة) ؛ لأنه ائتم بمن لا يجوز الائتمام به بحال.
والثاني: لا إعادة عليه؛ لأنه لم يفرط، فهو كما لو صلى خلف جنب.

[فرع الكافر يسلم ويؤم الناس ثم يرتد]
] : وإذا أسلم الكافر، وصلى خلفه رجل، فلما فرغ من الصلاة قال الإمام: قد كنت جحدت الإسلام، وارتددت؛ قال الطبري: فإن صلاة المؤتم به لا تبطل؛ لأنه إذا عرف منه الإسلام، لم يزل عن حكمه، إلا بأن يسمع منه الجحود، وقد سمع منه ذلك بعد الصلاة، فلم يحكم ببطلان الصلاة.
فإن كان له حال ردة، وحال إسلام، فصلى خلفه، ولم يدر في أي حالتيه صلى؟ قال الشافعي: (أحببت له أن يعيد، فإن لم يفعل لم يجب؛ لأن الأصل هو الإسلام) .
وإن صلى خلف غريب، لا يدري أمسلم هو، أم كافر؟ لم تكن عليه الإعادة؛ لأن الظاهر من أمر من يصلي، أنه مسلم.

(2/395)


[فرع الصلاة خلف الفساق]
] : وأما الصلاة خلف الفساق والمبتدعين: فقال الشيخ أبو حامد: المخالفون لنا على ثلاثة أضرب:
[الأول] : قوم نخطؤهم ولا نكفرهم، ولا نفسقهم، كأصحاب أبي حنيفة، ومالك، وأحمد، ومن أشبههم، فهؤلاء يجوز الائتمام بهم ولا يكره، إلا أن يعلم أنهم تركوا شيئًا من فروض الطهارة، والصلاة، مثل: ترتيب الطهارة، أو النية، أو قراءة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، أو غير ذلك، فلا تصح الصلاة خلفهم؛ لأنهم إذا أتوا بواجبات الطهارة والصلاة لم يؤثر اعتقادهم في كون هذه الأشياء غير واجبة في الصلاة، ولا يأثمون بذلك.
وذكر صاحب " الإبانة " في الائتمام بهم ثلاثة أوجه:
أحدها: هذا؛ لما ذكرناه.
والوجه الثاني حكاه في " النهاية "، عن الإمام أبي إسحاق الإسفراييني: أنه لا يصح الائتمام بهم، وإن أتوا بجميع الواجبات في الطهارة والصلاة عندنا؛ لأنهم يعتقدون ذلك نافلة.
والثالث وهو قول القفال: أنه يصح الائتمام بهم، وإن لم يأتوا بشيء من الواجبات عندنا؛ لأنه يحكم بصحة صلاتهم في الشرع، بدليل أنه لا يباح قتلهم، فلو لم يحكم بصحة صلاتهم؛ لوجب قتلهم.
الضرب الثاني: من نكفرهم، وهو من يقول بخلق القرآن، وقد نص الشافعي على كفر من يقول بخلق القرآن، وكذلك الغلاة من الرافضة الذين يقولون: إن عليًّا كان نبيًّا، وإن جبريل غلط.

(2/396)


والجهمية والقدرية كفار، فهؤلاء لا يصح الائتمام بهم.
قيل للشيخ أبي حامد: فمن ينفي الرؤية يحكم بكفره؟ فقال: لا ينفي الرؤية إلا معتزلي.
الضرب الثالث: قوم نفسقهم ولا نكفرهم، وهم الذين يسبون السلف ويكفرونهم، وكذلك من يشرب الخمر ويزني، ويأخذ الأموال غصبًا؛ فتكره الصلاة خلفهم، وإن صلي خلفهم صحت الصلاة.
وقال مالك: من فسق بغير تأويل: كشارب الخمر، والزاني لا تصح الصلاة خلفه، ومن فسق بتأويل كمن يسب السلف ويكفرهم تصح الصلاة خلفه) .
دليلنا: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قال: «صلوا خلف كل بر وفاجر» ، و (الفاجر) : هو الفاسق.

(2/397)


ولما روي: (أن ابن عمر وأنسًا كانا يصليان خلف الحجاج) ولا نشك في فسقه.

[فرع إمامة المرأة]
] : ولا يجوز أن تكون المرأة إمامًا للرجل ولا للخنثى، وبه قال عامة الفقهاء.
وقال أبو ثور والمزني، ومحمد بن جرير الطبري: (يجوز أن تكون إمامًا للرجل في التراويح، إذا لم يكن قارئ غيرها، وتقف خلف الرجال) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أخروهن من حيث أخرهن الله» ، فلو قدمناهن فعلنا ما نهينا عنه.
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا تؤم امرأة رجلًا» .
فإن صلى خلفها، ولم يعلم بحالها ثم علم؛ لزمته الإعادة؛ لأن عليها أمارة تدل على كونها امرأة؛ فلم يعذر في الائتمام بها.

(2/398)


[فرع إمامة المرأة بالخنثى]
] : ويجوز أن تأتم المرأة بالخنثى المشكل؛ لأنه لا بد أن يكون رجلًا أو امرأة، وصلاة المرأة خلفهما صحيحة، ولا يجوز أن يكون الخنثى إمامًا للرجل، ولا للخنثى؛ لجواز أن يكون الإمام امرأة، والمأموم رجلًا.
فإن صلى الخنثى خلف امرأة؛ فإنا نأمره بالإعادة، فإن لم يعد، حتى بان أنه امرأة، فهل تلزمه الإعادة؟ فيه قولان، حكاهما أبو علي السنجي.
وكذلك إذا صلى الرجل خلف الخنثى، أمر الرجل بالإعادة، فإن لم يعد، حتى بان الخنثى رجلًا، فهل يلزم المؤتم به الإعادة؟ على القولين المحكيين.
وهكذا: إذا صلى الخنثى خلف الخنثى، أمر المأموم بالإعادة فلو لم يعد، حتى بان أنه امرأة، أو بان أن الإمام رجل، أو بانا امرأتين، أو رجلين؛ فهل يلزم المأموم الإعادة؟ على القولين المحكيين على أبي علي السنجي:
أحدهما: تلزمهم الإعادة، وهو الصحيح؛ لأنهم استفتحوا الصلاة، وهو شاكون في صحتها، فلم تصح بالتبين، كما لو دخل في الصلاة، وهو شاك بدخول الوقت، وبان أن الوقت كان قد دخل.
والثاني: لا تلزمهم الإعادة؛ لأنا تبينا أنهم صلوا خلف من تصح صلاتهم خلفه.
قال أصحابنا: ولهذه المسألة نظائر:
منها: إذا باع الرجل مال أبيه، وهو يظن أنه حي، فبان أنه كان ميتًا؛ فهل يصح البيع؟ فيه قولان.
ومنها: إذا وكل وكيلًا في ابتياع شيء، فباعه على توهم أنه لم يكن اشتراه الوكيل له، وكان قد اشتراه؛ فهل يصح بيعه؟ فيه قولان.

(2/399)


وكذلك القولان، لو كان عبدًا فأعتقه.
وأصلها: إذا كاتب عبده كتابة فاسدة، ولم يعلم بفسادها، ثم باعه، أو وصى برقبته فهل يصح؟ فيه قولان، نص عليهما في " مختصر المزني ".

[فرع إمامة المجنون]
] : ولا تصح الصلاة خلف المجنون؛ لأنه ليس من أهل الصلاة، وإن كان له حال إفاقة، وحال جنون، فصلى خلفه، ولم يعلم في أي حالتيه صلى، قال صاحب " الفروع ": فالصلاة جائزة قياسًا على ما قاله الشافعي في المرتد، قال: ويحتمل ألا تصح الصلاة؛ لأن المجنون يوقف عليه بأحواله في الأغلب.

[مسألة إمامة الجنب]
] : ولا تصح الصلاة خلف المحدث والجنب؛ لأنه ليس من أهل الصلاة، فإن صلى خلفه، ولم يعلم بحاله، ثم علم، فإن كان في غير الجمعة لم تلزمه الإعادة، وبه قال عمر، وعثمان، وعلي، وابن عمر، وابن عباس، ومن التابعين: الحسن،

(2/400)


والنخعي، وابن جبير، ومن الفقهاء: الأوزاعي، وأحمد، وأبو ثور.
وقال الشعبي، وابن سيرين، وحماد، وأبو حنيفة، وأصحابه: (لا تصح صلاة المؤتم به بكل حال) .
وقال مالك: (إن كان الإمام عالمًا بحدث نفسه أو جنايته؛ لم تصح صلاة المؤتم به، وإن كان غير عالم به صحت) .
وحكى ابن القاص، وصاحب " الفروع ": أن هذا قول آخر للشافعي، وليس بمشهور.
وقال عطاء: إن كان حدث الإمام جنابة لم تصح صلاة المؤتم به، وإن كان حدثه غير جنابة، فإن علم به في الوقت أعاد، وإن خرج الوقت لم يعد.
ودليلنا: ما روى أبو بكرة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل في صلاة الفجر، وأحرم الناس خلفه، فذكر أنه جنب، فأومأ إليهم أن مكانكم، ثم خرج، واغتسل، ورجع ورأسه يقطر ماء، وأحرم بالصلاة» .
ولم يأمرهم بالإعادة، وإنما أومأ إليهم؛ لأن الكلام إلى المصلي يكره.
وكذلك روي عن أبي بكر وعمر: أنهما فعلا مثل ذلك.

(2/401)


وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا سها الإمام، فصلى بقوم، وهو جنب، فقد مضت صلاتهم، ثم يغتسل هو ويعيد» .
وإن كان هو على غير وضوء فمثل ذلك.
ولأنه ليس على حدثه أمارة تدل عليه، فعذر في الصلاة خلفه.
فإن كان هذا في صلاة الجمعة، فإن كان الإمام تمام الأربعين، لم تصح صلاتهم؛ لأنه فقد شرط الجمعة، وهو العدد.
وإن كان زائدًا على الأربعين فحكى صاحب " التلخيص " فيه قولين، ومن أصحابنا من يحكيهما وجهين:
أحدهما: لا تصح؛ لأن الإمام شرط فيها، ولم يوجد.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأن العدد قد وجد، وحدث الإمام لا يمنع صحة الجماعة فيها، كما لا يمنع في سائر الصلوات.
إذا ثبت هذا: وعلم المأموم بجناية الإمام، أو حدثه نوى مفارقته، وأتم لنفسه، وإن لم ينو مفارقته بطلت صلاته؛ لأنه يعتقد أنه في غير صلاة، والائتمام بغير مصل لا يصح.
وإن علم الإمام بجنابة نفسه أو حدثه، فإن كان لم يمض من عدد الركعات شيء، وكان موضع طهارته قريبًا أومأ إليهم: كما أنتم، ومضى وتطهر ورجع، وأحرم بالصلاة وتبعوه، كما فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وإن كان موضع طهارته بعيدًا، فقد قال الشافعي في القديم: (يصلون لأنفسهم) .

(2/402)


فمن أصحابنا من قال: إنما ذلك في القديم؛ لأن الاستخلاف لا يصح في القديم.
ومنهم من قال: إنما قال ذلك؛ ليخرج من الخلاف؛ لأن الناس قد اختلفوا في صحة الصلاة بإمامين.
وإن ذكر ذلك بعد أن صلى بهم ركعة أو أكثر، فإنهم لا ينتظرونه؛ لأنه إذا عاد وصلى بهم فإنهم يفارقونه، إذا أتموا صلاتهم، وإن كان لا بد لهم من مفارقته، لم ينتظروه.

[فرع إمامة المتيمم]
] : ويجوز أن يصلي المتوضئ خلف المتيمم.
وقال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إنه لا يجوز ذلك) .
دليلنا: حديث عمرو بن العاص الذي ذكرناه في (التيمم) .
وهل تصح صلاة الطاهرة خلف المستحاضة؟ فيه وجهان.
أحدهما: تصح، كما تصح صلاة المتوضئ خلف المتيمم.
والثاني: لا تصح؛ لأن المستحاضة لم تأت بالطهارة عن النجس، ولا بما يقوم مقامها.

[مسألة مرض الإمام]
] : إذا مرض الإمام، وعجز عن القيام في الصلاة، فالأفضل أن يستخلف من يصلي بهم قائمًا؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مرض مرضه الذي توفي فيه، استخلف أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فصلى بالناس سبعة عشر يومًا، وكان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد يخرج في بعض الأوقات، ويصلي بهم قاعدًا» ، وإنما فعل هذا مرة، أو مرتين؛ ليبين الجواز، وأكثر أمره الاستخلاف، فدل على أنه أفضل.
فإن صلى قاعدًا كان على المأمومين أن يصلوا قيامًا، إذا كانوا قادرين على

(2/403)


القيام، فإن صلوا قعودًا مع القدرة على القيام، لم تصح صلاتهم، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وأبو ثور.
وقال مالك: (لا تصح صلاة القائم خلف القاعد) ، في إحدى الروايتين، والرواية الأخرى كقولنا.
وقال الأوزاعي، وإسحاق، وأحمد: (يصلون خلفه قعودًا) ، وهو اختيار ابن المنذر.
دليلنا ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى بالناس في مرضه الأول قاعدًا، والناس خلفه قعود» ، ثم: «صلى بهم في مرضه الذي مات فيه قاعدًا، والناس خلفه قيام» ، وهذا ناسخ لما قبله.

[فرع إمامة المومئ]
] : وتصح صلاة القائم والقاعد خلف المومئ.
وقال أبو حنيفة: (لا تصح) .
دليلنا: أن المومئ طاهر يسقط فرض نفسه بطهارة كاملة، فجاز أن يأتم به القائم والقاعد، كالقائم.
فقولنا: (يسقط فرض نفسه) احتراز من المصلوب على خشبة، فلا يجوز الائتمام به؛ لأنه لا يسقط فرض نفسه.
وقولنا: (طاهر) احتراز ممن عليه نجاسة لا يقدر على إزالتها.
وقولنا: (بطهارة كاملة) احتراز من الصلاة خلف المستحاضة، في أحد الوجهين.
ولأنه عاجز عن ركن من أركان الصلاة لمرض، فجاز للقادر عليه الائتمام به، كالقيام.
فقولنا: (لمرض) احتراز من المصلوب، ومن الأمي، في أحد القولين.

(2/404)


فإن صلى خلف القاعد، أو المومئ، فقدر الإمام على القيام، أو القعود لزمه ذلك، فإن لم يفعل بطلت صلاته؛ لأنه ترك القيام مع القدرة عليه.
فإن علم المأموم بقدرته على القيام، ولم يقم نوى مفارقته، وإن لم ينو مفارقته قال الشافعي: (بطلت صلاته) .
فإن قيل: فكيف يعلم المأموم بقدرته على القيام؟
فالجواب: أن الشافعي لم يتعرض لكيفية العلم، إنما قال: (لو علم) ، وقد تكلم على ما يقل وجوده، كقوله: (إذا مات، وخلف مائة جدة) ، مع أنه قد يعلم بأن يكون الإمام منقبض الرجل لا يمكنه بسطها وقبضها، ثم رآه المأموم في أثناء الصلاة يبسطها ويقبضها، فيستدل بذلك على قدرته على القيام.

[مسألة إمامة الأمي]
] : قال الشافعي: (والأمي: من لا يحسن فاتحة الكتاب، وإن أحسن غيرها من القرآن، والقارئ: هو من يحسن فاتحة الكتاب، وإن لم يحسن غيرها من القرآن) .
إذا ثبت هذا: ففي صلاة القارئ خلف الأمي قولان منصوصان، والثالث خرجه أبو إسحاق المروزي:
أحدها: لا يصح، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأحمد، وهو الصحيح؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» .
فإذا قدموا من لا يحسن الفاتحة، فقد دخلوا تحت النهي، وذلك يقتضي فساد المنهي عنه؛ ولأنه قد يتحمل عنه القراءة، إذا أدركه راكعًا، وهذا ليس من أهل التحمل.

(2/405)


والقول الثاني قاله الشافعي في القديم: (إن كانت الصلاة سرية، صحت صلاة القارئ خلفه، وإن كانت جهرية لم تصح) .
لأن القراءة لا تجب على المأموم في الجهرية، بل يتحملها الإمام على القول القديم، وهذا الإمام عاجز عن التحمل، فلم تصح، كالحاكم إذا كان لا يحسن الحكم، فإنه لا يصح حكمه.
وإذا كانت سرية لزمت المأموم القراءة، وهو قادر عليها، فجاز له أن يأتم بمن يعجز عنها، كصلاة القائم خلف القاعد.
والثالث خرجه أبو إسحاق المروزي على هذا التعليل: تصح صلاته خلفه بكل حال؛ لأن على القول الجديد، يلزم المأموم القراءة بكل حال، هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (إذا صلى أمي بقارئ بطلت صلاتهما) ، أما صلاة القارئ: فلما ذكرناه، وأما صلاة الأمي: فلأنه كان يمكنه أن يقدم القارئ ويأتم به؛ لأن قراءة الإمام عنده تجزئ عن المأموم، فإذا لم يفعل فقد ترك القراءة مع القدرة عليها، فبطلت صلاته.
وكذلك إذا صلى خلفه أمي بطلت صلاته؛ لأنه علق صلاته بصلاة باطلة، وصلاة المأموم تبطل ببطلان صلاة الإمام عنده.
ودليلنا: هو أن كل من صحت صلاته، إذا ائتم بغيره صحت صلاته، وإن لم يأتم بغيره، كالقارئ خلف القارئ.

[فرع المقدم في الإمامة]
] : قال الشافعي: (فإن كان هناك رجلان: أحدهما يحسن جميع القرآن غير الفاتحة، والآخر يحسن سبع آيات من القرآن من غير الفاتحة، كان من يحسن جميع القرآن غير الفاتحة أولى ممن يحسن سبع آيات من غير الفاتحة؛ لأنه أكثر قرآنًا) ، فإن

(2/406)


أمّ الذي يحسن سبع آيات لا غير، بالذي يحسن جميع القرآن إلا الفاتحة، صحت صلاتهما، كما لو أمّ من يحسن الفاتحة لا غير، بمن يحسن الفاتحة وغيرها.
وإن كان هناك رجلان: أحدهما يحسن أول الفاتحة لا غير، والآخر يحسن آخر الفاتحة لا غير، لم يصح أن يأتم أحدهما بالآخر، إذا قلنا: لا يأتم القارئ بالأمي، وهذا مما يسأل عنه على وجه التعنت، فيقال: أيهما أحق بالإمامة؟
قال الشافعي: (فإن ائتم رجل برجل لا يدري: هل هو قارئ، أم لا؟ فصلاته صحيحة؛ لأن الظاهر أنه لا يؤم الناس إلا من يحسن الفاتحة، وأحب إليّ لو أعاد الصلاة؛ لجواز ألا يحسن الفاتحة) .
فإن كانت الصلاة مما يجهر فيها، فلم يجهر هذا الإمام بالقراءة، فعلى المأموم أن يعيد الصلاة؛ لأن الظاهر أنه لما ترك الجهر أنه لا يحسن القراءة.
فإن قال بعد الفراغ: أنا أحسن القراءة، وقد قرأت سرًّا، وإنما نسيت الجهر، أو تركته عامدًا، لم يلزم المأموم الإعادة.
والمستحب: أن يعيد؛ لجواز ألا يصدق فيما قال.

[فرع إمامة الأرت والألثغ]
] : قال الشافعي: (ولا يؤم أرت ولا ألثغ) .
قال أصحابنا: و (الأرت) : هو الذي يدغم أحد الحرفين في الآخر، فيسقط أحدهما.
و (الألثغ) : من يبدل حرفًا بحرف، بأن يأتي بالثاء مكان السين، أو بالثاء

(2/407)


مكان الكاف، أو باللام مكان الراء. وأنشدني بعض شيوخي:
وألثغ سألته عن اسمه ... فقل لي إثمي مرداث
فعدت من لثغته ألثغًا ... فقلت أين الكاث والطاث
وأراد: أن اسمه مرداس، وأراد: الكاس، والطاس.
وحكم هذين حكم الأمي، فإن ائتم بهما من هو في مثل حالهما صحت صلاته، كما إذا ائتم أمي بأمي، وإن ائتم به القارئ الفصيح؛ فعلى الأقوال الثلاثة التي مضت في صلاة القارئ خلف الأمي.

[فرع إمامة اللاحن]
] : وأما الصلاة خلف من يلحن: فاللحن على ضربين: لحن يحيل المعنى، ولحن لا يحيل المعنى.
فإن كان لا يحيل المعنى، كقوله: (أهدنا) بفتح الهمزة، أو (نستعين) بكسر النون الأولى، أو ضمهما، أو فتح الثانية، أو كسرها، وما جرى هذا المجرى، فهذا لا يمنع صحة صلاة الإمام، ولا صحة من يأتم به، سواء كان ذلك في الفاتحة أو غيرها؛ لأنه لا يحيل المعنى، ولكن يكره الائتمام به؛ لأن الإمامة موضع كمال، وهذا ليس في موضع الكمال.
وإن كان اللحن يحيل المعنى نظرت:
فإن كان في الفاتحة، مثل أن يقول: (أنعمتُ عليهم) بضم التاء، أو: (ولا الظالين) بالظاء، فإن كان لا يحسن غير ذلك، بأن لم يطاوعه لسانه، أو لم يجد من يعلمه فهذا كالأمي، تصح صلاته، وصلاة الأمي خلفه، وأما صلاة القارئ خلفه فعلى ما مضى من الأقوال.

(2/408)


وإن كان يحسن القراءة الصحيحة، فتعمد ذلك، أو لا يحسن، ولكن يقدر على التعلم، ولم يفعل فصلاته باطلة؛ لأنه ترك القراءة مع القدرة عليها.
فأما صلاة المؤتم به: فهو كمن صلى خلف جنب، فإن علم ببطلان صلاته، لم تصح صلاته خلفه، وإن كان لم يعلم بذلك، صحت صلاته خلفه.
وإن كان هذا اللحن في غير الفاتحة، مثل: أن يقول في قَوْله تَعَالَى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] [التوبة: 3] ، بكسر اللام من (رسولِه) ، فإن كان لا يعرف أن هذا لحن، أو كان يعرف، ولكن نسيه، فقرأه على وجه السهو، لم يضره ذلك؛ لأنه ليس بأكثر من أن لا يقرأ هذا الآية.
وإن كان يعرف ذلك، فتعمد قراءته بطلت صلاته؛ لأنه إن كان يعتقده فهو كفر؛ لأنه يقول: (أن الله بريء من المشركين ومن رسوله) ، وإن كان لا يعتقد فهو استهزاء بالقرآن، فبطلت صلاته.
وأما المؤتم به: فهو كمن صلى خلف جنب، فإن علم بحاله لم تصح صلاته، وإن لم يعلم صحت صلاته.
قال الشيخ أبو حامد: ومن تلفظ بلفظة أعجمية في القرآن، فإن إمامته مكروهة؛ لما روي: " أن ناسًا حول مكة قدموا رجلًا من آل السائب؛ ليصلي بهم، فأخره المسور بن مخرمة، وقدم آخر، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فقال له: لم فعلت ذلك؟ فقال: كان في وقت الحج، وخشيت أن يسمع بعض الحجيج قراءته، فيأخذ بعجمته، فقال: هنالك ذهبت؟ فقال: نعم، فقال: أصبت ".
وكذلك العربي إذا كان لا يبين الحروف، يكره الائتمام به.

(2/409)


[فرع صلاة الفريضة خلف المتنفل]
] : يجوز للمفترض أن يأتم بالمتنفل، مثل: أن يصلي العشاء خلف من يصلي التراويح، فإذا سلم الإمام قام المأموم، فأتم صلاته.
ويجوز للمتنفل أن يأتم بالمفترض، كمن نوى أربع ركعات تطوعًا خلف من يصلي العشاء، ويجوز للمفترض أن يأتم بالمفترض في صلاة أخرى، كمن يصلي الظهر خلف من يصلي العصر، هذا مذهبنا، وبه قال عطاء، وطاوس، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق.
وقال الزهري، وربيع، ومالك، ويحيى الأنصاري: (إذا اختلفت نية الإمام والمأموم لم يصح أن يأتم به) .
وقال أبو حنيفة وأصحابه: (يجوز للمتنفل أن يصلي خلف المفترض، ولا يجوز للمفترض أن يصلي خلف المتنفل، ولا للمفترض أن يصلي خلف المفترض، إذا اختلف فرضاهما) .
دليلنا: ما روي: «أن معاذًا كان يصلي مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العشاء، ثم يرجع إلى قومه في بني سلمة، فيصلي بهم العشاء، هي له تطوع، ولهم فريضة العشاء، فأخر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذات ليلة العشاء، ثم رجع معاذ إلى قومه، فصلى بهم، واستفتح سورة البقرة، فتنحى رجل، وصلى فقال له قومه: نافقت، فأتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وقال: يا رسول الله، إن معاذًا يصلي معك العشاء، ثم يرجع إلينا فيصلي بنا، فأخرت العشاء، فصلى معك، ثم رجع إلينا وصلى بنا، وافتتح بسورة البقرة، فتنحيت، وصليت وحدي، وإنا أصحاب نواضح، نعمل بأيدينا، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "أفتان أنت يا معاذ؟ أفتان أنت يا معاذ؟ "، وأمره أن يقرأ سورة كذا» ، وفي رواية أخرى: أمره

(2/410)


أن يقرأ: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] [الطارق] ، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] [الأعلى] ، و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] [الليل] .
ولأن الاقتداء يقع في الأفعال الظاهرة، وذلك ممكن مع اختلاف النية.

[فرع صلاة الفرض خلف مصلي الجنازة والخسوف]
] : وهل يجوز أن يصلي المفترض خلف من يصلي على الجنازة، أو خلف من يصلي صلاة الخسوف؟ قال أصحابنا البغداديون: لا يصح؛ لأنه لا يمكنه الاقتداء به، مع اختلاف الأفعال.
وقال الخراسانيون: فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لما ذكرناه.
والثاني وهو قول القفال: أنه يصح؛ لأنه مقتد بمصل.
فإذا قلنا بهذا: فإنه يقوم قائمًا حتى يسلم الإمام في صلاة الجنازة، ثم يركع هو.
وفي صلاة الخسوف يركع مع الإمام الركوع الأول، فإذا رفع الإمام رأسه من الركوع رفع معه، وثبت المأموم قائمًا، حتى يركع الإمام الثاني، ثم يتابعه في السجود.
قال المسعودي: [في " الإبانة " ق \ 80] : وهل تصح صلاة الصبح والمغرب خلف من يصلي الظهر أو العصر أو العشاء؟ فيه قولان؛ لأنه يحتاج أن يخرج من صلاة الإمام قبل تمامها.
وأصحابنا البغداديون قالوا: تصح قولًا واحدًا.

(2/411)


[فرع كراهة إمامة من يكرهه المأتمون]
] : ويكره أن يؤم الرجل قومًا، وهم له كارهون؛ لما روى أبو داود في "سننه": أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة: رجل يقدم قومًا، وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة دبارًا -أي: بعد ما فرغوا من الصلاة- ورجل اعتبد محرره» .
وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يقبل الله صلاة رجل أمّ قومًا، وهم له كارهون، ولا صلاة امرأة زوجها عاتب عليها، ولا صلاة عبد آبق، حتى يرجع» .
قال الشيخ أبو حامد: قال الشافعي: (وهذا الخبر لا يثبت، ولكني أكره إمامته بهم، لكراهتهم له) .
وروى الترمذي في "سننه ": أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله ثلاثة: رجلًا أمّ قومًا وهو له كارهون، وامرأة بات زوجها عليها ساخطًا، ورجلًا سمع: حي على الفلاح، فلم يجبه» .

(2/412)


وهكذا: إذا كرهه أكثرهم كره له أن يؤمهم؛ لأن الاعتبار بالكثرة، وإن كرهه أقلهم لم يكره؛ لأن أحدًا لا يخلو ممن يكرهه، هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال القفال: إن نصب الإمام رجلًا للصلاة بالناس لم يكره أن يصلي بهم، وإن كرهوه.
وإن أمّ رجل نساء من ذوي محارمه جاز، ولم يكره له الخلو بهن؛ لأنه يجوز له الخلو بهن، وإن كن من غير ذوات محارمه، فإن كن امرأة أو امرأتين كره له الخلو بهن؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يخلون رجل بامرأة، فإن ثالثهما الشيطان» .
فإن كن نساء كثيرًا، فهل يجوز للرجل الأجنبي الخلو بهن؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي في (الخناثى) بناء على المرأة إذا أرادت الحج، ووجدت نساء ثقات، هل يقمن مقام المحرم؟ فيه وجهان:

(2/413)


فإن أمّ الخنثى أجنبية منه كره له الخلو بها؛ لجواز أن يكون رجلًا، فإن كن نساء كثيرًا ففيه وجهان.
وكذا: لو أمّ رجل خنثى أجنبيًّا منه، كره له الخلو به؛ لجواز أن يكون امرأة، فإن كان الخناثى كثيرًا فهل يجوز له الخلو بهم؟ فيه وجهان، كما قلنا في النساء.
وهكذا: ينبغي أن يكره للخنثى أن يخلو بالخنثى؛ لجواز أن يكون أحدهما رجلًا، والآخر امرأة، فإن كانوا كثيرًا ففيه وجهان.

[فرع إمامة التمتام ونحوه]
] : ويكره الائتمام بـ (التمتام) : وهو الذي يكرر التاء، فيقول: (إياك نستتعين) ، وبـ (الفأفاء) : وهو الذي يكرر الفاء، فيقول: (ففلله) ، وبـ (الوأواء) : وهو الذي يكرر الواو؛ لما يزيدون من الحروف، فإن صلى خلف أحدهم صح؛ لأنه يأتي بزيادة هو مغلوب عليها.

[مسألة الأولى بالإمامة]
] : الأسباب التي يتعلق بها التقديم في الصلاة خمسة: الفقه، والقراءة، والهجرة، والنسب، والسن.
ولا يختلف المذهب: أن صاحب الفقه والقراءة مقدمان على غيرهما من أصحاب الأسباب الثلاثة.
والدليل عليه: ما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا بالسنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا بالهجرة سواء فأقدمهم سنًّا» .

(2/414)


فإن تساويا في القراءة، وأحدهما أفقه، فالأفقه أولى؛ لأنه أكمل.
فإن كان أحدهما يحسن الفقه، ولا يحسن الفاتحة، والآخر يحسن الفاتحة، ولا يحسن الفقه فالذي يحسن الفاتحة أولى؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بالفاتحة.
فإن كان أحدهما يحسن القرآن كله، ومن الفقه ما يحتاج إليه في الصلاة، والآخر يحسن من القرآن ما يجزئ في الصلاة، ولكنه يحسن فقهًا كثيرًا، فقد قال الشافعي: (إن قدم الفقيه فحسن، وإن قدم القارئ فحسن، ويشبه أن يكون الفقيه أولى) .
قال أصحابنا: تقديم الفقيه أولى؛ لأن ما يحتاج إليه من القرآن في الصلاة محصور، وما يحتاج إليه من الفقه في الصلاة غير محصور، وربما تحدث عليه حادثة في الصلاة تحتاج إلى الاجتهاد فيها، وإلى هذا ذهب مالك، والأوزاعي، وأبو حنيفة.
وقال الثوري، وأحمد، وأبو إسحاق: (القارئ أولى) ، واختاره ابن المنذر؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله تعالى» .
ودليلنا: ما ذكرناه: من أن الواجب من القراءة في الصلاة محصور، وما يحتاج إليه من الفقه فيها غير محصور.
وأما الخبر: فإنما كان ذلك في الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -؛ لأنهم كانوا يسلمون كبارًا، فيتعلمون القراءة، ويتعلمون أحكامها.
وروي عن ابن مسعود: أنه قال: (ما كنا نتجاوز عشر آيات حتى نعرف حكمها، وأمرها ونهيها) ، ولهذا لا يوجد منهم قارئ إلا وهو فقيه، وكثير يوجد منهم فقيه غير قارئ.
وقيل: إن الذي كان يحفظ منهم جميع القرآن سبعة وهم: أبو بكر، وعثمان،

(2/415)


وعلي، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وابن عباس، بخلاف أهل وقتنا، فإنهم يتعلمون القرآن، ثم الفقه.
وأما الأسباب الثلاثة، وهي: النسب، والسن، والهجرة، فاختلف أصحابنا في ترتيب المذهب فيها:
فذكر الشيخ أبو إسحاق في " المهذب "، وابن الصباغ، والمحاملي فيها قولين:
أحدهما وهو قوله القديم: (أن النسب مقدم، ثم الهجرة بعده، ثم السن) .
قال الشيخ أبو إسحاق: وهو الأصح، ووجهه: ما روي، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «الأئمة من قريش» ، ولم يفرق بين الإمامة العظمى والصغرى.
ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «قدموا قريشًا، ولا تقدموها» .
ولأنه قدم الهجرة على السن في حديث أبي مسعود، والنسب مقدم على الهجرة.
والثاني وهو قوله الجديد: (أن السن مقدم، ثم النسب، ثم الهجرة؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال للرجلين: "وليؤمكما أكبركما» .
وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صلوا كما رأيتموني أصلي، وليؤذن لك أحدكم، وليؤمكم أكبركم» ، ولم يفرق بين أن يكون الأكبر أشرف من الأصغر، أو الأصغر أشرف؛ ولأن الأكبر أخشع في الصلاة، فكان أولى.
وذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق "، وصاحب " الفروع ": أن النسب والسن مقدمان على الهجرة، بلا خلاف على المذهب.
وفي النسب والسن قولان:
قال الشيخ أبو حامد: وأما تقديم الهجرة على السن فلم يرد به الهجرة وحدها، وإنما أراد من له هجرة ونسب؛ لأن أكثر المهاجرين كانوا من قريش.
إذا ثبت هذا: فالنسب المراد هاهنا أن من كان من بني هاشم، وبني المطلب،

(2/416)


فيقدم على غيره من قريش، ثم يقدم قريش على غيرهم، ويحتمل أن يقدم العرب على العجم.
وأما السن: فإن الرجل إذا نشأ في الإسلام، وشاخ فيه قدم على من أبلى عمره في الشرك، ثم أسلم، وكذلك يقدم من تقدم إسلامه على من تأخر إسلامه.
وأما الهجرة: فإن من هاجر يقدم على من لم يهاجر، ومن تقدمت هجرته قدم على من تأخرت هجرته، وكذلك أولاد المهاجرين، يقدمون على أولاد من لم يهاجر، وكذلك في تقدم الهجرة بالآباء أيضًا، وسواء كانت الهجرة قبل الفتح أو بعده، وأما قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا هجرة بعد الفتح» ، فأراد أن الهجرة لا تجب على أهل مكة بعد الفتح.
فإن استويا في جميع الأسباب، فلا نص للشافعي فيه.

(2/417)


قال أصحابنا: فيقدم أورعهم وأزكاهم.
وقال بعض المتقدمين: يقدم أحسنهم.
فمن أصحابنا من قال: أراد أحسنهم وجهًا؛ لأن ذلك فضيلة كالنسب.
ومنهم من قال: بل أراد أحسنهم ذكرًا بين الناس.
قال ابن الصباغ: وهذا حسن.

[فرع تقديم صاحب البيت في الإمامة]
] : إذا حضر جماعة في دار رجل، وحضرتهم الصلاة، وصاحب البين يحسن من القرآن ما يجزئ في الصلاة، فصاحب البيت أحق بالإمامة ممن حضر معه، وإن كانوا أفقه منه وأقرأ، إلا أن يكون الحاضر سلطانًا فهو أحق؛ لما روى أبو مسعود البدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يؤم الرجل في بيته، ولا في سلطانه، ولا يجلس على تكرمته في بيته إلى بإذنه» .
ولأن لصاحب البيت ولاية خاصة على الدار، لا يشاركه فيها غيره.
واختلف في التكرمة: فقال قوم: هي المائدة.
وقال آخرون: هي البساط والفراش، ولم يذكر الشيخ أبو حامد في " التعليق " غير هذا.
فإن حضر المستأجر ومالك الدار في الدار المستأجرة، فالمستأجر أحق بالتقدم من مالكها؛ لأنه أحق بمنافعها.
وإن حضر العبد وغيره في دار، جعلها السيد لسكنى العبد، فالعبد أحق؛ لأنه أحق بمنافعها.
وعلى قياس هذا: إذا استعار من رجل دارًا، فحضر المستعير وغيره، فالمستعير أولى.

(2/418)


وإن حضر العبد وسيده في الدار التي جعلها لسكناه، فالسيد أحق؛ لأنه هو المالك لرقبة الدار.
وعلى قياس هذا: إذا حضر المعير والمستعير في الدار المعارة، فالمعير أولى؛ لأنه هو المالك لرقبة الدار، ويملك الرجوع في المنفعة.
وحكى في " الإبانة " [ق \ 80] : أن القفال كان يقول هكذا في الابتداء، ثم رجع عنه، وقال: بل المستعير أولى بخلاف العبد؛ لأن المستعير سكن لنفسه، والعبد سكن لسيده.

[فرع الإمام الراتب]
] : وإن حضر إمام المسجد الراتب مع غيره من الرعية، فإمام المسجد أحق بالتقديم، وإن كان هناك من هو أفقه منه وأقرأ؛ لما روي: (أن ابن عمر قدم مولى له كان إمامًا في مسجد، وقال: أنت أحق بالإمامة في مسجدك) .
وإن أذن رب الدار، أو إمام السجد لمن حضر معه أن يتقدم، فله أن يتقدم.
وقال بعض الناس: لا يجوز.
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الخبر: "إلا بإذنه".
فإن حضر الإمام الأعظم مع رب الدار، أو مع إمام المسجد فالإمام الأعظم أولى؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "ولا في سلطانه "؛ ولأنه راع وهم رعيته، فكان تقديم الراعي أولى.
وإن قدم الإمام الأعظم رجلًا، كان أحق من غيره.
وإن دخل الإمام الأعظم بلدًا، وله فيه خليفة، كان أولى بالتقدم فيه من خليفته؛ لأن ولايته أعم.

(2/419)


قال الشافعي: (فإن اجتمع مقيمون ومسافرون، وفيهم وال، كان تقديم الوالي أولى، سواء كان من المسافرين أو من المقيمين، وإن لم يكن فيهم وال، فالمقيم أولى بالتقديم؛ لأنه صلاته أكمل، فإن تقدم مسافر وصلى بهم جاز) .
وهل يكره؟ فيه قولان.

[فرع إمامة العبد]
] : ولا تكره إمامة العبد للأحرار.
وقال أبو مجلز وأبو حنيفة: (تكره) .
وقال مالك: (لا يؤم في جمعة، ولا عيد) .
وقال الأوزاعي: (لا يؤم الناس، ويؤم أهله) .
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسمعوا وأطيعوا، ولو أمر عليكم عبد أجدع، ما أقام فيكم الصلاة» .
وروي: (أنه كان لعائشة غلام لم يعتق، يكنى أبا عمرو، وكان يؤمها، ويؤم محمد بن أبي بكر، وعروة بن الزبير) .
إذا ثبت هذا: فالحر أولى بالإمامة؛ لأنه موضع كمال، والحر أكمل.

[فرع إمامة المجهول]
] : ويكره أن يؤم من لا يعرف أبوه، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وأصحابه.

(2/420)


وقال الثوري، وأحمد، وإسحاق: (لا يكره) ، وروي عن مالك في ذلك رواية أخرى.
وقالت عائشة: (ما عليه من وزر أبويه شيء) .
دليلنا: ما روي: (أن رجلًا كان يؤم الناس بالعقيق لا يعرف أبوه، فنهاه عمر بن عبد العزيز) ؛ ولأنه موضع كمال، وهذا ليس في موضع الكمال.

[فرع إمامة الأعمى]
] : تجوز إمامة الأعمى بالبصير والأعمى؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استخلف ابن أم مكتوم في بعض غزواته على المدينة، وكان يصلي به» .
وهل هو أولى أم البصير؟ فيه ثلاثة أوجه:
أحدها وهو المنصوص للشافعي: (أنهما سواء؛ لأن الأعمى لا يرى ما يشغله، والبصير يتوقى الأنجاس فاستويا) .
والثاني وهو قول الشيخ أبي إسحاق: أن البصير أولى؛ لأنه يتوقى الأنجاس التي تفسد الصلاة، وأما نظره إلى ما يشغل: فلا يفسد الصلاة.

(2/421)


والثالث وهو قول أبي إسحاق المروزي: أن الأعمى أولى؛ لأنه لا ينظر إلى ما يلهيه، فيتوفر على الخشوع.
قال ابن الصباغ: وهذان الوجهان يخالفان نص الشافعي، وما قاله أحدهما يعارضه ما قال الآخر فسقطا، واستوى البصير والأعمى.
وبالله التوفيق

(2/422)