البيان في مذهب الإمام الشافعي

 [كتاب الإقرار]

(13/415)


كتاب الإقرار الحكم يتعلق بالإقرار، والأصل فيه: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} [آل عمران: 81] إلى قوله {أَقْرَرْنَا} [آل عمران: 81] [آل عمران: 81] وقَوْله تَعَالَى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] [التوبة: 102] وقَوْله تَعَالَى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] [الأعراف: 172] .
وأما السنة: فروي: أن ماعزا والغامدية أقرا عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالزنا، فأمر برجمهما وقال: «اغد يا أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت.. فارجمهما» .
وأما الإجماع: فلا خلاف بين الأمة في تعلق الحكم بالإقرار.
وأما القياس: فلأن الإقرار آكد من الشهادة؛ لأنه لا يتهم فيما يقر به على نفسه، فإذا تعلق الحكم بالشهادة.. فلأن يتعلق بالإقرار أولى.

(13/417)


إذا ثبت هذا: فهل يجب الإقرار؟ ينظر في الحق المقر به:
فإن كان لآدمي، أو حقا لله تعالى لا يسقط بالشبهة - كالزكاة والكفارة - ودعت الحاجة إلى الإقرار به.. لزمه الإقرار به؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] [النساء: 135] ، ولا يكون شهيدا على نفسه إلا بالإقرار.
وإن كان حقا لله تعالى يسقط بالشبهة - كحد الزنا والسرقة والشرب - ولم يظهر عليه.. لم يجب عليه أن يقر به، بل يستحب له أن يكتمه، وقد مضى بيان ذلك.

[مسألة يجوز الإقرار إلا من مكلف]
مسألة: [لا يجوز الإقرار إلا من مكلف] :
قال الشافعي: (ولا يجوز الإقرار إلا من بالغ رشيد) .
وجملة ذلك: أن الناس على ضربين: مكلف وغير مكلف.
فأما (غير المكلف) : فهو الصبي والمجنون، فلا يصح إقرارهما بحق من الحقوق.
وقال أبو حنيفة: (إذا كان الصبي مميزا.. صح إقراره إذا أذن الولي له بالبيع والشراء، فيصح إقراره به) .
دليلنا: أنه لا يصح منه ذلك، وقد مضى.
فإن أقر مراهق وادعى أنه غير بالغ، وادعى المقر له أنه بالغ.. لم نحكم بصحة إقراره حتى يقيم المقر له البينة على بلوغه؛ لأن الأصل عدم بلوغه. فإن سأله المقر له أن يحلف له.. لم يتوجه عليه اليمين؛ لأنا حكمنا أنه غير بالغ. فإذا ثبت بلوغه بعد ذلك وادعى المقر له أنه كان بالغا وقت إقراره له وسأله أن يحلف له بعد بلوغه.. توجهت عليه اليمين؛ لأنه قد صار بالغا.
ولا يصح إقرار المكره؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» ولأن المكره غير داخل في التكليف. ولا يصح إقرار المغمى عليه؛ لأنه غير مكلف.
وأما (المكلف) : فعلى ضربين: محجور عليه وغير محجور عليه.
فأما (غير المحجور عليه) فإقراره صحيح.

(13/418)


قال ابن الصباغ: سواء كان عدلا أو فاسقا؛ لأنه غير متهم في حق نفسه.
فإن أقر السكران في حال سكره.. فهل يصح منه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يصح؛ لأنه زائل العقل، فلم يصح إقراره كالمغمى عليه.
والثاني: يصح، وهو الصحيح؛ لأن الشافعي قال: (ولو شرب خمرا أو نبيذا فسكر، فأقر في حال سكره.. لزمه ما أقر به) .
وإن أكره رجل على شرب خمر فشربها حتى زال عقله ثم أقر.. لم يلزمه إقراره وجها واحدا؛ لأنه معذور في ذهاب عقله.
وأما (المحجور عليه) : فعلى أربعة أضرب: ضرب محجور عليه للفلس، ومحجور عليه للسفه، ومحجور عليه للرق، ومحجور عليه للمرض.
فأما (المحجور عليه للفلس) : فإن أقر بحق يتعلق ببدنه أو بذمته.. صح؛ لأنه لا ضرر على الغريم بذلك، وهل يشارك المقر الغرماء بالدين؟ على قولين مضى بيانهما في (التفليس) .
وإن أقر بعين في يده.. فهل يقبل إقراره على الغرماء؟ على القولين.
وأما (المحجور عليه للسفه) : فيقبل إقراره فيما يتعلق ببدنه، ولا يقبل إقراره بالمال، وقد مضى ذلك في (الحجر) .
وأما (المحجور عليه للرق) فإقراره مقبول فيما يتعلق ببدنه، ولا يقبل إقراره بالمال في حق سيده، لكن إذا عتق.. طولب به، وقد مضى بيان ذلك في (الحدود) .

[فرع اعترف بأنه باع عبده من نفسه]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو أقر أنه باع عبده من نفسه بألف، فصدقه

(13/419)


العبد.. عتق والألف عليه، وإن أنكر. فهو حر والسيد مدع والعبد منكر)
وجملة ذلك: أن السيد قال لعبده: بعتك نفسك بألف، فقال العبد: قبلت.. فنقل المزني: (أنه يصح ويعتق، فيجب عليه الألف) ، قال الربيع: وفيه قول آخر: (أنه لا يصح) واختلف أصحابنا فيه: فذهب أكثرهم أنها على قولين.
أحدهما: لا يصح البيع؛ لأن البيع لا بد أن يكون الثمن فيه عينا أو دينا، والعبد لا يملك العين، والدين لا يثبت في ذمته لسيده، فيكون كالكتابة الفاسدة.
الثاني: يصح البيع، وهو الصحيح؛ لأنه لو قال له: إن ضمنت لي ألفا فأنت حر، فقال العبد على الفور: ضمنت.. صح ذلك وعتق، ووجب عليه المال. وكذلك: إذا قال له: أنت حر على ألف، فقبل العبد على الفور.. عتق ووجب المال في ذمته، وشراؤه لنفسه إنما هو من ضمانه المال في مقابلة الحرية؛ لأن الإنسان لا يملك نفسه وإنما ذلك عبارة عن إسقاط حق الرق عنه، فجرى مجرى عتقه على مال.
وقال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة: يصح البيع قولا واحدا؛ لما ذكرناه.
إذا ثبت هذا: فادعى السيد أنه باعه نفسه بألف، وقلنا: يصح البيع، فإن صدقه العبد.. عتق وثبت الألف في ذمته. وإن أنكره العبد ولا بينة للسيد.. حلف العبد: أنه ما اشترى نفسه ولم يجب عليه شيء، وعتق بإقرار سيده. وهكذا الحكم إذا قال رجل لحر: بعتك ولدك أو والدك، فأنكر المدعى عليه.. فإنه يحلف ويسقط عنه الثمن ويعتق العبد بإقرار سيده.

[فرع إقرار المحجور عليه لمرض بحق]
وأما (المحجور عليه لمرض) فإن أقر بحق يتعلق ببدنه؛ كالحدود والقصاص.. قبل: لأنه لا ضرر على الورثة بذلك. وإن أقر بدين أو عين لغير الورثة.. قبل: لأنه غير متهم. وإن أقر بدين في صحته وبدين في مرضه واتسع ماله للجميع.. قسم بينهم، وإن ضاق ماله.. فإنه يقسم بينهم على قدر ديونهم. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: (يقدم الدين المقر به في الصحة) .
وحكى أبو زيد المروزي عن بعض أصحابنا: أنه قول للشافعي. وليس بمشهور؛

(13/420)


لأنهما دينان ثبتا في ذمته ولم يختص أحدهما برهن، فاستويا في حق من وجب عليه، كما لو أقر بالجميع في الصحة أو في المرض.
وإن أقر في مرض موته لوارثه.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (فمن أجاز الإقرار لوارثه.. أجازه، ومن أبى.. رده) واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: لا يصح - وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد - لأنه محجور عليه في حق غيره، ومن كان محجورا عليه في حق إنسان.. لم يصح إقراره له، كالصبي في حق جميع الناس.
والثاني: يصح إقراره له. وبه قال الحسن البصري، وعمر بن عبد العزيز، وأبو عبيد، وأبو ثور.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: وهو الأصح؛ لأنه يصح إقراره بوارث، فصح إقراره للوارث، كالصحيح. ولأنه يصح إقراره لغير الوارث، فصح إقراره للوارث، كالأجنبي.
وقال الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني: يصح إقراره له قولا واحدا - كما ذكرناه - والقول الآخر حكاه عن غيره.
فإذا قلنا: يصح إقراره للوارث.. فلا تفريع عليه.
وإن قلنا: لا يصح إقراره للوارث.. فالاعتبار بالوارث كونه وارثا حال موت المقر دون حال الإقرار. فإن أقر لأخيه في مرض موته، ثم حدث له ابن قبل موته.. قبل إقراره لأخيه. وإن أقر لأخيه وله ابن، فمات ابنه قبله وصار الأخ وارثا له.. لم يصح إقراره له. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال الخراسانيون: هل الاعتبار في الإقرار بكونه وارثا حال موت المقر، أو حال إقراره؟ فيه قولان. المشهور: أن الاعتبار بكونه وارثا عند الموت؛ لأن ما يرد لأجل الورثة إنما هو حال الموت كالوصية.

(13/421)


قال الشيخ أبو إسحاق: وإن ملك رجل أخاه، ثم أقر في مرض موته: أنه كان أعتقه في صحته وهو أقرب عصبته.. نفذ عتقه، وهل يرث؟
فإن قلنا: الإقرار للوارث لا يصح.. لم يرثه؛ لأن توريثه يوجب إبطال الإقرار بحريته، وإذا بطلت الحرية.. سقط الإرث، فتثبت الحرية وسقط الإرث.
وإن قلنا: الإقرار للوارث يصح.. نفذ العتق بإقراره، وثبت الإرث بنسبه.
فإن أقر المريض: أنه أعتق عبدا في صحته، وكان عليه دين يستغرق تركته.. صح إقراره وحكم بعتقه؛ لأن الإقرار ليس بإيقاع للعتق، وإنما هو إخبار بما تقدم وقوعه.

[مسألة إقرار من ثبت له الحق الذي أقر به إذا لم يكذبه المقر له]
مسألة: [صحة إقرار من ثبت له الحق الذي أقر به إذا لم يكذبه المقر له] :
يصح الإقرار لكل من ثبت له الحق المقر به، فإذا أقر رجل لحر بحق في ذمته أو في يده أو في بدنه.. صح إقراره، ولا نعتبر فيه قبول المقر له، وإنما يعتبر فيه تصديقه له أو سكوته، فإن كذبه المقر له.. بطل إقراره.
فإن كان المقر به دينا في ذمته أو حقا في يديه، وكذبه المقر له.. لم يلزم المقر شيء. وإن كان المقر به عينا.. ففيه وجهان.
أحدهما: يأخذها الحاكم من المقر إلى أن يأتي من يدعيها ويقيم عليها البينة؛ لأن المقر والمقر له لا يدعيانها، فكان على الحاكم حفظها كالمال الضائع.
والثاني: يقر في يد المقر؛ لأنه محكوم له بملكها باليد، فإذا أقر بها لغيره وكذبه المقر له.. بقيت على ملكه بحكم اليد.
فإن أقرت المرأة لعبد بالنكاح، أو أقر له رجل بالقصاص أو تعزير القذف.. ثبت له ذلك بتصديقه، ولا يعتبر فيه تصديق السيد؛ لأن الحق للعبد في ذلك دون السيد.
وإن أقر له بمال.. فذكر الشيخ أبو إسحاق: إن قلنا: إنه يملك المال.. صح الإقرار له، وإن قلنا: لا يملك.. كان الإقرار لمولاه، يلزم بتصديقه ويبطل برده.

(13/422)


وذكر ابن الصباغ: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال في الإقرار بالحكم الظاهر: (إذا قال: لعبد فلان عندي ألف درهم.. كان ذلك إقرارا صحيحا لسيده، سواء كان مأذونا له في التجارة أو غير مأذون له؛ لأن غير المأذون له يثبت له المال بالوصية) .
وإن قال: لهذه الدار أو لهذه البهيمة ألف.. لم يصح إقراره.
وإن قال: لمالك هذه الدابة بسببها ألف درهم.. كان إقراره بذلك صحيحا، ويحمل على أنه جنى عليها. وإن قال: له ألف بسبب حملها.. لم يصح؛ لأن الحمل لا يجب بسببه شيء ما دام حملا، فإذا قال: بسبب ولدها.. لزمه.

[مسألة الإقرار لحمل امرأة]
وإن أقر لحمل امرأة بمال.. فلا يخلو من ثلاثة أحوال:
إما أن يضيف ذلك إلى جهة صحيحة، أو يطلق، أو يضيف إلى جهة باطلة.
فإن أضاف ذلك إلى جهة صحيحة؛ بأن قال: عندي له كذا من ميراث أو وصية له.. صح الإقرار؛ لأن الحمل يملك بالإرث والوصية.
وإن أطلق؛ بأن قال: له عندي كذا.. ففيه قولان:
أحدهما: لا يصح الإقرار - وبه قال أبو يوسف - لأن الحمل لا يملك المال إلا من جهة الإرث والوصية، فإذا لم يضف الإقرار إلى ذلك.. جاز أن يريد من غيرهما، فلم يصح.
والثاني: يصح الإقرار - وبه قال محمد بن الحسن - وهو الأصح؛ لأن من صح له الإقرار مضافا إلى جهة.. صح الإقرار له مطلقا، كالطفل.
وإن أضاف ذلك إلى جهة باطلة؛ بأن قال: له علي كذا من معاملة بيني وبينه، أو من جناية عليه، فإن قلنا: إنه لو أطلق الإقرار له لا يصح.. فها هنا أولى أن لا يصح. وإن قلنا: إن الإقرار المطلق له يصح.. فهل يصح الإقرار له هاهنا؟ فيه

(13/423)


قولان، كالقولين فيمن وصل إقراره فيما يسقطه، ويأتي توجيههما.
وكل موضع قلنا: يصح الإقرار للحمل.. نظرت: فإن وضعته ميتا.. لم يصح الإقرار؛ لأن الميت لا يملك من جهة الإرث والوصية.
وإن وضعته حيا، فإن تيقن أنه كان موجودا حال الوصية.. لزم الإقرار له، وإن لم يتيقن وجوده حال الإقرار.. لم يلزم الإقرار، وقد مضى تيقن وجوده في مواضع قبل هذا. فإن وضعت ولدا واحدا.. فجميع المقر به له، سواء كان ذكرا أو أنثى.
وإن وضعت ولدين، فإن كانا ذكرين أو أنثيين.. فهو بينهما نصفان. وإن كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى. فإن أضاف المقر ذلك إلى الوصية.. فهو بينهما بالسوية.
وإن أضاف ذلك إلى الميراث: فإن كانا أخوين لأم.. فهو بينهما بالسوية، وإن كان إلى غيره من الميراث.. فللذكر مثل حظ الأنثيين.
وإن أطلق الإقرار لهما، وقلنا: يصح.. فاختلف أصحابنا فيه.
فقال الشيخ أبو حامد: يكون بينهما بالسوية. وقال ابن الصباغ: يرجع إلى بيان المقر.
فإن وضعت ولدين حيا وميتا.. فالإقرار للحي؛ لأن الميت كالمعدوم، ويسلم إلى ولي الحي.

[فرع إقراره بمال لمسجد]
وإن أقر لمسجد بمال، فإن قال: من غلة وقف عليه أو وصية له، أو من معاملة بيني وبين وليه في ماله.. صح الإقرار. وإن أطلق الإقرار.. ففيه وجهان، بناء على القولين في الإقرار المطلق للحمل.

[مسألة إقراره بحق لله تعالى أو لآدمي ثم رجع عن إقراره]
وإن أقر بحق لآدمي، أو بحق لله لا يسقط بالشبهة؛ كالزكاة والكفارة، ثم رجع.. لم يقبل رجوعه؛ لأنه حق ثبت لغيره، فلم يملك إسقاطه بغير رضاه.
وإن أقر بحق لله تعالى يسقط بالشبهة، ثم رجع.. فقد مضى بيانه في (الحدود) .

(13/424)


[مسألة إجابة المقر بلفظ صريح أو محتمل]
إذا ادعى رجل على رجل ألف درهم، فقال المدعى عليه: نعم، أو أجل، أو صدقت، أو لعمري.. كان ذلك إقرارا؛ لأن هذه الألفاظ وضعت للتصديق.
وإن قال المدعى عليه: لا أنكر ما تدعيه، أو أنا مقر بما تدعيه، أو لا أنكر أن تكون محقا في دعواك.. كان ذلك إقرارا؛ لأنه لا يحتمل غير التصديق.
وإن قال المدعى عليه: بلى.. كان إقرارا.
قال في " الفروع ": وقيل: إن هذا ليس بجواب؛ لأنه يصلح للنفي.
وإن قال المدعى عليه: أنا أقر بما تدعيه، أو: أنا أقر.. لم يكن إقرارا؛ لأنه يحتمل: أنه أراد الوعد بالإقرار في المستقبل.
وإن قال المدعى عليه: لا أنكر.. لم يكن إقرارا؛ لأنه لم يسم ما لم ينكره، فيحتمل أن يكون أراد: لا أنكر فضلك، أو لا أنكر وحدانية الله.
وكذلك: إذا قال المدعى عليه: لا أقر ولا أنكر.. لم يكن إقرارا؛ لما مضى.
وإن قال المدعى عليه: أنا مقر.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يكون إقرارا؛ لأنه يحتمل: أني مقر ببطلان دعواك.
والثاني: يكون إقرارا؛ لأنه جواب عن الدعوى، فانصرف الإقرار إلى ما ادعي عليه.
وإن قال المدعى عليه: لعل، أو عسى، أو أظن، أو أحسب، أو أقدر.. لم يكن إقرارا؛ لأن هذه الألفاظ وضعت لشك.

[فرع أجوبة تحتمل الإقرار وغيره]
وإن ادعى عليه ألف درهم، فقال المدعى عليه: لفلان علي أكثر مما لك علي..

(13/425)


قال المسعودي [في ((الإبانة)) ] : لم يكن إقرارا لواحد منهما؛ لاحتمال أنه قاله على سبيل السخرية.
وإن قال المدعى عليه: لي مخرج من هذه الدعوى.. لم يكن إقرارا.
وقال ابن أبي ليلى: يكون إقرارا.
دليلنا: أنه لم يقر له بالحق، وإنما حكى: أن له مخرجا من هذه الدعوى، فهو كما لو قال: لا حق علي لك.
وإن ادعى عليه ألف درهم، فقال المدعى عليه: إن كنت تدعي بها من ثمن متاع.. فلا يلزمني ذلك، وإن كنت تدعي بها من جهة القرض.. فحتى أجيب، وإن كنت تدعي ألفا مطلقا.. فلا يلزمني ذلك، وإن كنت تدعي ألفا برهن لي عندك.. فحتى أجيب.. صح وينفعه هذا التفصيل؛ لأنه لو أقر بألف، ثم ادعى الرهن.. أخذ منه الألف ولا يصدق في الرهن.
وكذلك: لو ادعى على المرتهن عبدا.. فمن حقه أن يقول: إن كنت تدعي عبدا مطلقا.. فلا يلزمني التسليم، وإن كنت تدعي عبدا مرهونا بألف درهم فحتى أجيب.. صح.

[فرع أجوبة أخرى يحتمل فيها الإقرار وعدمه]
وإن ادعى عليه بألف درهم، فقال المدعى عليه: خذ أو اتزن.. لم يكن إقرارا؛ لأنه يحتمل: خذ الجواب مني، أو اتزن من غيري إن كانت عليه.
وإن قال المدعى عليه: خذها أو اتزنها.. ففيه وجهان:
أحدهما: يكون إقرارا؛ لأن هاء الكناية ترجع إلى ما تقدم من الدعوى.
والثاني - وهو قول أكثر أصحابنا -: لا يكون إقرارا؛ لأن الصفة ترجع إلى المدعى به، ولم يقر أنه واجب.
وإن ادعى عليه ألف درهم، فقال المدعى عليه: وهي صحاح.. فاختلف أصحابنا فيه:

(13/426)


فقال أبو عبد الله الزبيري: يكون ذلك إقرارا منه؛ لأنه إقرار منه بصفة المدعى به عليه، والإقرار بالصفة إقرار بالموصوف.
وقال أكثر أصحابنا: لا يكون إقرارا منه؛ لأن الصفة ترجع إلى المدعى به، ولم يقر بوجوبه عليه.
وإن ادعى عليه ألف درهم، فقال المدعى عليه: ما أكثر ما تتقاضاني، أو لقد أهممتني، أو ليست بحاضرة اليوم، أو والله لأقضكه.. قال الطبري: لم يكن إقرارا. وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا) . وبه قال بعض أصحابنا.
دليلنا: أنه لم يقر بوجوبها عليه بشيء من هذه الألفاظ، فلم تلزمه.
وإن قال: لفلان علي ألف درهم في علمي.. كان إقرارا؛ لأن ما في علمه لا يحتمل إلا الوجوب.
وإن قال رجل لرجل: اقض الألف التي لي عليك، أو أعطني عبدي هذا، أو اشتر مني عبدي هذا، فقال: نعم.. فهل يكون ذلك إقرارا منه بالألف والعبد؟ فيه وجهان:
أحدهما: يكون إقرارا، كما لو قال له: عندك لي ألف، أو هذا العبد لي، فقال: نعم.
والثاني: لا يكون إقرارا؛ لأن الجواب يرجع إلى القضاء والعطية والشراء، وقد يقضي الإنسان ما لا يجب عليه، ويعطيه ويشتري منه ما لا يملكه. والأول أصح. وإن قال: أعطني الألف التي لي عليك، فقال: غدا.. قال الطبري: لك يكن إقرارا. وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا) .
دليلنا: أن قوله: (غدا) موعد جواب الدعوى، فصار كما لو قال: غدا أجيب.

(13/427)


وإن قال: لفلان علي ألف درهم، أو لا؟ لم يكن إقرارا؛ لأنه يشك أن عليه الألف أو لا شيء عليه، فلا يلزمه شيء بالشك.
وإن قال لرجل: أخبر فلانا: أن له عليك ألف درهم؟ فقال المسؤول: نعم.. قال الطبري: لا يكون إقرارا. وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا) .
دليلنا: أنه أذن له في الخبر المنقسم إلى الصدق والكذب، فلم يكن إقرارا.
وكذلك: إذا قال لرجل: لا تخبر فلانا: أن له علي ألف درهم.. لم يكن إقرارا. وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا) .
دليلنا: أنه منعه من أن يضيف إليه حقا، والمنع من الإخبار ليس بإقرار، كما لو قال: ليس لفلان علي شيء لا تخبره به.
وإن قال: لي عليك ألف درهم أقرضتكها، فقال المدعى عليه: والله لا اقترضت منك غيرها، أو لم تمن بها علي.. قال الصيمري: كان إقرارا.
ولو قال: ما أعجب هذا أو نتحاسب.. لم يكن إقرارا.

[فرع كتب لزيد علي ألف]
لو كتب رجل: لزيد علي ألف درهم، ثم قال للشهود: اشهدوا علي بما فيه.. لم يكن إقرارا. وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا) .
دليلنا: أنه ساكت عن الإقرار بالمكتوب فلم يكن إقرارا، كما لو كتب عليه غيره فقال: اشهدوا بما كتب فيه، أو كما لو كتب على الأرض.. فإن أبا حنيفة وافقنا في ذلك.

[مسألة الاستثناء والتعليق على شرط في الإقرار]
فإن قال: له علي ألف إن شاء الله.. لم يلزمه شيء؛ لأن ما علق بمشيئة الله تعالى

(13/428)


لا يعلم، فهو كما لو قال: امرأته طالق، أو عبده حر إن شاء الله.
وإن قال: له علي ألف إن شاء زيد، أو إذا قدم الحاج.. لم يكن إقرارا؛ لأن الإقرار إخبار عن حق واجب فلم يصح تعليقه على الشرط.
وإن قال لرجل: لك علي ألف إن شئت.. لم يكن إقرارا؛ لأن ما لا يلزمه لا يصير واجبا عليه بوجود الشرط.
وإن قال: لك علي ألف درهم إن قبلت إقراري.. قال ابن الصباغ: فعندي أنه لا يكون إقرارا.
وإن قال: هذا لك بألف إن شئت أو إن قبلت، فقال: قبلت أو شئت.. كان ذلك بيعا صحيحا.
والفرق بينهما: أن الإيجاب في البيع يقع متعلقا بالقبول، فإذا لم يقبل.. لم يصح، فجاز تعليقه عليه، والإقرار لا يتعلق بالقبول، وإنما هو إخبار عن حق سابق، فلم يصح تعليق وجوبه بشرط القبول.

[فرع علق إقراره على شاهدين]
وإن قال: لك علي ألف إن شهد لك بها شاهدان، أو قال: إن شهد لك شاهدان بألف علي فهي علي.. لم يكن إقرارا؛ لأنه إقرار معلق بشرط مستقبل.
وإن قال: إن شهد لك علي شاهدان، أو فلان وفلان بألف فهما صادقان.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يكون إقرارا؛ لأنه إقرار معلق على شرط، فلم يكن إقرارا لازما، كما لو قال: إن شهد علي فلان بألف.. صدقته، أو وزنته لك.
والثاني - وهو قول ابن القاص واختيار القاضي أبي الطيب -: أنه يكون إقرارا؛ لأنه أخبر أنهما إذا شهدا بذلك.. كانا صادقين، ولا يكونان صادقين إلا إذا كانت الألف واجبة عليه، فوجبت عليه وإن لم يشهدا. ويخالف قوله: إن شهد لك فلان بألف علي صدقته أو وزنته لك؛ لأنه قد يصدق من ليس بصادق وقد يزن ما لا يجب عليه.

(13/429)


قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (وإن قال: لفلان علي ألف إن شهد بها فلان وفلان.. فإنه لا يكون إقرارا؛ لأنه إقرار معلق على شرط مستقبل، فإن شهد بها فلان وفلان وهما عدلان.. لزمه الألف بالشهادة دون الإقرار) .

[فرع علق معسر إقراره على اليسار]
قال الطبري: لو قال معسر: لفلان علي ألف درهم إن رزقني الله مالا.. كان إقرارا.
وقال أبو حنيفة: (لا يكون إقرارا) . وبه قال بعض أصحابنا؛ لأنه إقرار معلق على شرط.
والأول أصح؛ لأن اليسار ميقات لأداء ما على المعسر، وبيان ميقات الأداء لا يبطله، كما لو قال: له علي ألف إلى رأس الشهر.

[فرع علق إقراره على شرط مقدم أو مؤخر أو على الموت]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (إذا قال: له علي ألف درهم إذا جاء رأس الشهر.. كان ذلك إقرارا. وإن قال: إن جاء رأس الشهر فله علي ألف درهم.. لم يكن إقرارا) .
قال أصحابنا: والفرق بينهما: أنه إذا قال: له علي ألف.. فقد أقر بالألف، فإذا قال بعد ذلك: إذا جاء رأس الشهر.. احتمل أن يكون أراد محلها.. فلم يبطل إقراره بذلك، وإذا بدأ بالشرط فقال: إذا جاء رأس الشهر فله علي ألف.. لم يقر بالحق وإنما علقه بالشرط، فلم يكن إقرارا.
وقال القاضي أبو الطيب: في ذلك نظر، ولا فرق بين تقديم الشرط وتأخيره.
وإن قال: له علي ألف إلا أن يبدو لي.. ففيه وجهان، حكاهما الطبري في " العدة ".
وإن قال: له علي ألف إن مت.. لم يكن إقرارا.
وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا) .
دليلنا: أنه إقرار معلق بالموت فلم يكن إقرارا، كما لو علقه بقدوم زيد.

(13/430)


[فرع صحة الإقرار بغير لسان قومه]
يصح الإقرار بالعجمية، كما يصح بالعربية، فإن أقر أعجمي بالعربية، أو عربي بالعجمية، واعترف أنه عالم بما أقر به.. لزمه ما أقر به.
وإن قال: لم أعلم ما معناه، فإن صدقه المقر له على ذلك.. سقط الإقرار، وإن كذبه ولا بينة مع المقر له أن المقر يعلم ما أقر به.. فالقول قول المقر مع يمينه؛ لأن الظاهر من حال العجمي أنه لا يعرف العربية، ومن العربي أنه لا يعرف العجمية.

[مسألة الإقرار بالدين والوصية]
إذا مات رجل وخلف ابنا لا وارث له غيره، وخلف عبدا قيمته ألف درهم لا مال له غيره، فحضره رجلان فقال له أحدهما: لي على أبيك ألف درهم فصدقه، ثم قال الثاني: أوصى لي أبوك بثلث ماله فصدقه.. قدم إقراره لصاحب الدين، فيباع العبد ويقضى صاحب الدين دينه. فإن رجع العبد إلى الابن ببيع أو هبة أو إرث.. لم يلزمه شيء للموصى له؛ لأن الدين إذا استغرق التركة.. لم تصح الوصية.
وإن صدق الموصى له أولا، ثم صدق صاحب الدين.. قال القفال وابن الحداد: فللموصى له ثلث العبد، ولصاحب الدين ثلثا العبد يتعلق به دينه؛ لأنه أقر أولا للموصى له فلزمه إقراره بثلث العبد، فلا يقبل رجوعه عنه إلى الإقرار لصاحب الدين.
وإن صدقهما معا.. قال القفال وابن الحداد: إذا قسم العبد على أربعة أسهم: سهم للموصى له، وثلاثة تباع لصاحب الدين؛ لأنه لا مزية لأحدهما في التصديق، فصار كما لو أوصى لأحدهما بالعبد وللآخر بثلثه وأجاز لهما الابن.
وقال الشيخ أبو الحسين الطبري: عندي أنه لصاحب الدين؛ إذ حكمهما إذا صدقهما حكم ما لو أقاما البينة، ولو أقاما البينة.. لقدم صاحب الدين، فكذلك إذا صدقهما. والمشهور هو الأول.
فإذا قلنا بالمشهور، وسلم إلى الموصى له في الأولى ثلث العبد، وفي الثانية

(13/431)


ربعه، ثم رجع إلى ملك الابن ببيع أو هبة أو إرث.. لزمه تسليمه ليباع فيما بقي من الدين؛ لأن الوصية لم تبطل الدين، وإنما قدمت الوصية لإقرار المدعى عليه.
وإن حضره رجلان، فقال أحدهما: أوصى لي أبوك بثلث ماله، وقال الآخر: أوصى لي أبوك بثلث ماله، فقال لهما: صدقتما.. قسم الثلث بينهما نصفين؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
وإن صدق أحدهما قبل الآخر.. قال القاضي أبو الطيب: انفرد الأول بثلث جميع التركة بإقرار الابن من غير مزاحمة له، وإقراره للثاني إذا لم يصادقه الأول.. لم يثبت حقه، ولا ينقص ما ثبت له بإقراره؛ لأنه لا يقبل رجوعه عنه، ويكون للثاني سدس جميع المال يأخذه مما في يد الابن؛ لأنه ثبت له بإقراره له، فيبقى للابن نصف التركة.
وإن صدق الابن الأول وكذب الثاني، فأقام الثاني شاهدين.. ثبت للثاني ثلث جميع التركة بالبينة ولا يشاركه الأول فيه؛ لأن إقرار الوارث لا يعارض البينة، وثبت للأول ثلث ما بقي من التركة، وهو سهمان من تسعة أسهم من جميع التركة؛ لأنه يقر بأنه مستحق لثلث جميع التركة إلا أن الثلث الذي قبضه صاحب البينة كالمغصوب؛ لأنه يكذب البينة، فلزمه ثلث ما بقي في يده من التركة.
وإن صدق الابن الثاني، وأراد الثاني أن يقيم البينة.. سمعت بينته؛ لأنه يستفيد بذلك استحقاق ثلث جميع التركة، وإذا لم يقم البينة.. لم يستحق إلا سدسها. وأما الأول.. فلا يعارض الثاني؛ لأن الإقرار لا يعارض البينة، ويكون للأول نصف الثلث؛ لأن البينة قد ثبتت عليه في حق المدعي وفي حق الوارث، فرجع حقه إلى نصف الثلث.

[فرع إقرار الوارث بعتق اثنين من التركة وبدين على أبيه]
وإن مات رجل وخلف ابنا ولا وارث له غيره، وخلف ثلاثة أعبد قيمتهم سواء لا مال له غيرهم، فقال أحدهم: قد أعتقني أبوك في مرض موته فلم يجبه، وقال

(13/432)


العبد الثاني: أعتقني أبوك في مرض موته، فقال الابن: صدقتما.. قال ابن الحداد: أقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة.. عتق ورق الآخر.
وإن صدق الأول ثم صدق الثاني.. عتق الأول بغير قرعة؛ لأنه ثبت له العتق بإقراره من غير مزاحمة، ولا يقبل رجوعه عنه بتصديقه للثاني. وأما الثاني: فإنه أقر له بالعتق مع المزاحمة فيقرع بينه وبين الأول، فإن خرجت القرعة على الأول.. رق الثاني، وإن خرجت على الثاني.. عتق أيضا.
وإن مات رجل وخلف ابنا لا وارث له غيره، وخلف عبدا قيمته ألف لا مال له غيره، فادعى العبد على الابن أن أباه أعتقه في حال صحته، وادعى رجل: أن له على أبيه ألف درهم دينا، فقال الابن: صدقتما.. قال ابن الحداد: عتق نصف العبد وبيع نصفه في الدين؛ لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر في التصديق.
وإن صدق العبد أولا ثم صدق صاحب الدين.. عتق العبد وبطل إقراره لصاحب الدين.
وإن صدق صاحب الدين أولا، ثم صدق العبد.. بيع العبد في الدين، ولا يصح إقراره بالعتق.
فإن كانت بحالها إلا أن العبد ادعى أن أباه أعتقه في مرض موته، فإن صدق العبد أولا.. عتق ثلث العبد وبيع ثلثاه في الدين، وإن صدقهما معا.. عتق ربع العبد وبيع ثلاثة أرباعه في الدين، وإن صدق صاحب الدين أولا.. بيع العبد في الدين وبطل العتق.

[فرع يقدم صاحب البينة في الدين على الإقرار]
وإن مات رجل وخلف ابنا لا وارث له غيره، وخلف ألف درهم لا مال له غيرها، فادعى رجل على الابن أن له على أبيه ألف درهم دينا فصدقه، ثم ادعى آخر على الابن أن له على أبيه ألف درهم دينا فكذبه، فأقام الثاني بينة بدينه.. قال ابن الحداد: قدم صاحب البينة؛ لأن البينة مقدمة على الإقرار.

(13/433)


[فرع الإقرار بما يستحقه لغيره]
قال الطبري في " العدة ": إذا أقرت المرأة بصداقها الذي في ذمة زوجها لغيرها، أو أقر الزوج بالمال الذي ثبت له على الزوجة بالخلع لغيره، أو أقر المجني عليه بأرش الجناية على الجاني لغيره.. فقال صاحب " التلخيص ": لا يقبل إقراره في جميع هذه المسائل؛ لأنا قد علمنا ثبوته على من هو عليه لمالكه فلا يجوز أن يكون لغيره، والإقرار لا ينقل الملك؛ ولهذا: لو شهد رجلان أن فلانا أقر بدار لفلان وهو يملكها يوم الإقرار.. لم تصح هذه الشهادة.
قال أبو علي السنجي: وقعت هذه المسألة فأفتيت فيها هكذا، ثم رأيتها لأصحابنا بنيسابور هكذا؛ لأن الدار إذا كانت ملكا له فإقراره بها لغيره كذب، إلا أن يقولا وكانت في يده، وتصرفه فيها تصرف المالك، ولم يكن له فيها منازع.. فحينئذ يقبل.
قال أبو علي السنجي: وهذه المسائل كلها إذا قلنا: لم تصح هبة الدين، ولا بيعه من غير من هو عليه في أحد الوجهين.
قال الطبري: وقد تعود الناس اليوم الإقرار للوارث بمال في مرض الموت يقصدون به قطع الميراث عن غيره من غير عقد ولا سبب، وذلك حرام ويكون موروثا. ولو حدث مثل هذا وادعى سائر الورثة على المقر له: أن أبانا قد أقر لك بذلك وظن أنك تملكه بإقراره، فاحلف أنه أقر لك بحق لازم.. لزمه أن يحلف.
وكذلك: لو أقر البائع بقبض الثمن وأشهد على نفسه بذلك، ثم قال: قد أقررت به على ما جرت العادة أن المشتري لا يدفع الثمن ما لم يكتب البائع الصك ويشهد عليه، فحلفوه أني كنت قبضته منه.. حلف.
والله أعلم

(13/434)


[باب جامع الإقرار]
إذا أقر بمجهول؛ بأن قال: له علي شيء.. صح إقراره. وتخالف الدعوى، حيث قلنا: لا تصح بالمجهول؛ لأن الإقرار حق عليه، فلذلك صح مع الجهالة به. وفي الدعاوى لا يمكن الحكم بالمجهول. ثم يطالب المقر بتفسير ما أقر به؛ لأنا لا نعلم إلا من جهته. فإن امتنع عن التفسير.. قلنا للمقر له: بين أنت ما أقر لك به، فإن قال: أقر لي بكذا.. قلنا للمقر: قد فسر المقر له إقرارك بكذا، فإن صدقه.. لزمه، وإن كذبه أو امتنع عن الجواب.. قلنا: إن فسرت ما أقررت به وحلفت عليه، وإلا.. جعلناك ناكلا وحلفنا المقر له على ما يدعيه وأوجبناه عليك، فإن فسر المقر إقراره.. فلا كلام، وإن لم يفسر.. حلفنا المقر له على ما فسره وأوجبناه عليه، وإن امتنع المقر له عن اليمين.. قيل له: انصرف فلا حكم لك عندنا.
وهذا هو المشهور: وحكى الشيخ أبو إسحاق: أن من أصحابنا من قال فيه قولان:
أحدهما: هذا.
والثاني: يحبس المقر إلى أن يفسر. ولم يذكر المسعودي [في ((الإبانة)) ق \ 293] غير هذا.
وإن فسر المقر الشيء الذي أقر به.. نظرت: فإن فسره بما يتمول في العادة وإن قل؛ كالدرهم والفلس.. قبل تفسيره ورجع إلى المقر له، فإن صدقه على ذلك.. ثبت ذلك، وإن كذبه في القدر وادعى أكثر مما أقر به من جنس ما فسر به إقراره وأنه أراده بإقراره.. ثبت القدر المقر به وحلف المقر على نفي الزيادة، فيحلف: أنه لا يستحق عليه ما ادعاه وأنه لم يرده بإقراره، يمينا واحدة.
وإن ادعى المقر له جنسا آخر غير الجنس الذي أقر به المقر.. سقط ما أقر به

(13/435)


المقر؛ لأنه كذبه، وكان القول قول المقر مع يمينه في نفي ما ادعاه عليه، فإذا حلف.. سقط حكم الإقرار، وإن نكل المقر عن اليمين.. ردت على المقر له.
قال أصحابنا العراقيون: فيحلف: أنه أراد بقوله ما ادعاه المقر له وأنه يستحقه عليه.
وقال المسعودي [في ((الإبانة)) ق \ 296] : يحلف أن لي عليه كذا، ولا يحلف أنه أراد بإقراره؛ لأنه لا يمكنه الإطلاع على مراده.
وإن فسره بما لا يتمول؛ بأن فسره بقشر جوزة أو قمع باذنجانة أو قشر رمانة أو قشر لوزة.. لم يقبل تفسيره؛ لأن إقراره يقتضي ثبوت حق عليه، وهذا مما لا يثبت في الذمة فيطالب بتفسير إقراره.
وإن فسر إقراره بما ليس بمال في الشرع؛ كلحم الميتة والدم وجلد الكلب أو كلب غير معلم.. لم يقبل تفسيره؛ لأن ذلك لا ينتفع به.
وإن فسره بالكلب المعلم أو الخنزير أو الخمر أو السرجين أو جلد الميتة قبل الدباغ.. فهل يقبل تفسيره؟ فيه ثلاثة أوجه - حكاها الشيخ أبو إسحاق -:
أحدها: يقبل؛ لأنه يقع عليها اسم الشيء.
والثاني: لا يقبل؛ لأن الإقرار إخبار عما يجب ضمانه؛ وهذه الأشياء لا تثبت في الذمة ولا يجب ضمانها.
والثالث: إن فسره بالخمر أو بالخنزير.. لم يقبل؛ لأنه لا يجب تسليمه. وإن فسره بالكلب أو بالسرجين أو جلد الميتة قبل الدباغ.. قبل؛ لأن هذه الأشياء يجب تسليمها.
وإن فسر إقراره بحق الشفعة.. قبل؛ لأنه حق عليه يؤول إلى المال.
وإن فسره برد السلام وجواب الكتاب.. لم يقبل؛ لأن ذلك لا يثبت في ذمته؛ لأن رد السلام - وإن كان واجبا - فإنه يسقط بفواته.

(13/436)


وإن فسره بحد القذف.. ففيه وجهان - حكاهما ابن الصباغ -:
أحدهما: يقبل؛ لأنه حق لآدمي.
والثاني: لا يقبل؛ لأنه لا يؤول إلى المال بحال.
وإن فسره برد وديعة عنده له.. قال المسعودي [في ((الإبانة)) ق \ 296] : قبل؛ لأن الرد شيء واجب عليه.
هذا مذهبنا، وقال أبو حنيفة: (إذا قال: له علي شيء.. لم يقبل منه تفسيره بغير المكيل والموزون) .
دليلنا: أن غير المكيل والموزون مملوك يدخل تحت العقد، فجاز أن يفسر به الإقرار المجهول، كالمكيل والموزون.
وإن قال: غصبتك شيئا، ثم قال: غصبتك نفسك.. لم يقبل؛ لأن الإقرار يقتضي غصب شيء منه، ويطالب بتفسيره.
وإن شهد شاهدان على رجل لرجل بمال مجهول.. فهل تقبل شهادتهما؟ فيه وجهان:
أحدهما: تصح شهادتهما. وتعلق هذا القائل بأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولو رهن عنده رهنا على مائة، ثم ادعى أن المرتهن أقر بقبض شيء من الحق، أو قال: قد أقبضته بعض الحق، وقامت البينة بذلك.. فالقول قول المرتهن في قدره، فإذا لم يحلف.. قام وارثه مقامه بها) .
والثاني: لا تصح هذه الشهادة؛ لأن البينة سميت بينة؛ لأنها تبين ما شهدت به، وهذه ما أبانت.
ومن قال بهذا.. تأول ما قاله الشافعي على أنه أراد: إذا شهدت البينة على إقرار المقر بحق مجهول.. فإن الشهادة مقبولة.

(13/437)


[مسألة الإقرار بشيء عليه لفلان يوجب التفسير]
وإن ادعى على رجل ألف درهم، فقال المدعى عليه: علي له شيء.. فهو كما لو أقر له ابتداء بشيء، فيطالب بتفسيره على ما مضى، فإن امتنع من التفسير.. جعله الحاكم ناكلا.
قال الشيخ أبو حامد: ويحلف الحاكم المدعي أنه أراد بقوله: (له علي شيء) ألف درهم وأنه يستحق ما ادعاه عليه.
وإن قال: أردت به درهما.. قيل للمقر له: ما تقول؟ فإن قال: نعم أراد هذا بإقراره ولكن لي عليه ألف درهم.. قيل له: خذ هذا الدرهم وحلفه على الباقي.
وإن قال المدعي: ما أراد بإقراره بالشيء الدرهم، وإنما أراد الألف الذي ادعيت عليه.. فقد ادعى عليه بشيئين: أحدهما: الألف، والثاني: أنه اعترف له به.
قال الشيخ أبو حامد: فله أن يحلفه على شيئين: أنه لم يرد بقوله: له علي شيء ألفا، وأنه لا يستحق عليه من الألف إلا درهما، ويكفيه يمين واحدة؛ لأنهما حقان لشخص واحد.
وإن فسر إقراره بجنس غير الدرهم؛ بأن قال: له علي ثوب أو عبد.. قيل للمدعي: ما تقول؟ فإن قال: نعم أراد به هذا ولي عليه هذا والألف الدرهم أيضا.. ثبت له ما أقر له به، وحلف المقر على الألف المدعى بها عليه. وإن قال المقر له: صدق أنه أراد بقوله له علي شيء هذا الذي فسره، ولكن ما لي عليه هذا وإنما لي عليه ألف درهم.. بطل إقراره بالثوب؛ لأنه كذبه، وحلف المقر: أنه لا يستحق عليه ألف درهم.
وإن قال المقر له: كذب في التفسير، بل أراد بقوله: له علي شيء الألف الدرهم التي ادعيت.. فقد ادعى عليه بشيئين: الألف درهم والاعتراف بها، فيحلف المقر يمينا واحدة أنه ما أراد بقوله: له علي شيء ألف درهم وأنه لا يستحق عليه ألف

(13/438)


درهم، ويسأل المقر له عما فسر به المقر إقراره، فإن قال: هو لي.. أخذه، وإن قال: ليس لي.. بطل الإقرار له.

[مسألة الإقرار بمال يوجب المطالبة بالتفسير]
وإن قال: له علي مال.. طولب بتفسيره، فإذا فسره بما يقع عليه اسم المال - وإن قل - قبل منه، والكلام في الرجوع إلى المقر له على ما مضى في الإقرار بالشيء.
وإن فسره بخمر أو خنزير أو كلب معلم أو جلد ميتة قبل الدباغ أو سرجين.. لم يقبل وجها واحدا؛ لأن ذلك وإن وقع عليه اسم الشيء.. فلا يقع عليه اسم المال.
هذا مذهبنا، وقال أبو حنيفة: (إذا قال: له علي مال.. فلا يقبل في تفسيره إلا المال الذي تجب فيه الزكاة) . واختلف أصحاب مالك فيه: فمنهم من قال كقولنا. ومنهم من قال: لا يقبل أقل من نصاب في الزكاة من نوع أموالهم.
ومنهم من قال: لا يقبل منه إلا ما يستباح به البضع، أو ما يقطع به السارق.
دليلنا: أن اسم المال يقع على القليل والكثير مما يتمول به في العادة، فقبل تفسيره فيه كالذي سلموه.

[فرع إقراره بمال عظيم ونحوه]
وإن قال: له علي مال عظيم، أو كثير، أو جليل، أو نفيس، أو عظيم جدا، أو عظيم عظيم.. فإنه لا يتقدر بمقدار، بل إذا فسره بما يقع عليه اسم المال.. قبل منه.
واختلف أصحاب أبي حنيفة فيه:
فمنهم من قال: لا يقبل فيه أقل من عشرة دراهم. وقيل: إنه مذهب أبي حنيفة.
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يقبل فيه أقل من مائتي درهم.
ومنهم من قال: لا يقبل فيه أقل من قدر الدية.

(13/439)


وقال الليث بن سعد: (لا يقبل فيه أقل من اثنين وسبعين درهما؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} [التوبة: 25] [التوبة: 25] وكانت غزواته وسراياه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اثنتين وسبعين) .
دليلنا: أن ما من قدر من المال إلا وهو عظيم وكثير بالإضافة إلى ما هو دونه فقبل تفسيره فيه كالذي سلمه كل واحد منهم، وما احتج به الليث.. فلا حجة فيه؛ لأن ذلك ليس بحد لأقل الكثير، ولا يمتنع وقوع الكثير على أقل من ذلك.

[فرع أقر بأن عليه أكثر من مال فلان]
وإن قال: له علي أكثر من مال فلان، أو أكثر من المال الذي في يد فلان.. رجع في تفسيره إليه، فإذا فسره بأي قدر من المال.. قبل منه، سواء فسره بمثل مال فلان أو بأقل منه، وسواء علم مبلغ مال فلان أو لم يعلم؛ لأنه يحتمل أن قوله: (أكثر) أي: أكثر من مال فلان نفعا؛ لكونه حالا أو لكونه في الذمة.
وإن قال: له علي أكثر من مال فلان عددا، أو علي له مال عدده أكثر من عدد مال فلان، فإن أقر أنه يعرف قدر مال فلان.. لزمه قدر مال فلان، ورجع في الزيادة إليه، فبأي قدر فسر الزيادة من المال.. قبل منه؛ لأنه يحتمل ما قاله.
وإن قال: لا أعلم قدر مال فلان إلا كذا.. لزمه قدر ما أقر أنه يعرف أنه مال فلان، ورجع في الزيادة عليه إليه.
وإن قال: لا أعلم قدر مال فلان، وحلف أنه لا يعلم قدر مال فلان.. قبل تفسيره وإن كان بأقل من مال فلان؛ لأنه إذا لم يعلم قدر مال فلان.. فقد أقر بمجهول فرجع في تفسيره إليه.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في " الأم ": (فإن أقام المقر له بينة أن المقر يعرف قدر مال فلان وهو كذا.. لم أحكم بهذه البينة، بل لا يلزمه إلا ما أقر به؛ لأنه يجوز أن يكون قد عرف قدر مال فلان، ثم اعتقد بعد ذلك أنه قد ذهب بعضه ولا يدري كم ذلك

(13/440)


البعض، وكل من أقر بشيء.. فإنه يلزمه ما تحقق إقراره فيه، ويرجع في المحتمل إليه وهذا محتمل، فكان القول فيه قوله) .

[مسألة إقراره بأن لفلان درهما]
وإن قال: لفلان علي درهم، فإن كان في بلد يتعاملون فيه بالدراهم الوازنة - وهي دراهم الإسلام التي في كل درهم منها ستة دوانيق، وكل عشرة دراهم منها وزن سبعة مثاقيل - فإنه يلزمه درهم من دراهم الإسلام؛ لأن إطلاق الدراهم ينصرف إلى الدراهم الوازنة.
وإن فسره بدرهم ناقص، كالدراهم الطبرية التي وزن كل درهم أربعة دوانيق، أو دراهم خوارزم التي وزن كل درهم أربعة دوانيق ونصف، فإن كان ذلك منفصلا عن إقراره.. لم يقبل منه؛ لأن إطلاق الدراهم إنما ينصرف في البدل التي يتعامل فيها بالدراهم الوازنة إليها. وإن كان ذلك متصلا بإقراره.. قبل منه، كما لو قال: له علي درهم إلا دانقين.
وحكى ابن الصباغ عن بعض أصحابنا أنه قال: هل يقبل منه ذلك؟ فيه قولان، كما لو قال: له علي ألف درهم قضيتها.
وليس بصحيح؛ لأن الدراهم يعبر بها عن الوازنة والناقصة، وإنما حملت على الوازنة؛ لأن عرف الإسلام قائم بها، فإذا فسرها بأنقص منها متصلا بكلام.. كان كالاستثناء فقبل منه.
وأما إذا كان المقر في بلد يتعاملون فيها بالدراهم الناقصة الوزن عن دراهم الإسلام.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في كتاب (الإقرار والمواهب) : (ولو كان ببلد دراهمهم كلها نقص، ثم أقر بدرهم.. كان درهما من درهم البلد) .

(13/441)


ووجهه: أنه إذا كان هذا عرفا عندهم.. انصرف الإطلاق إليه، كما ينصرف الإطلاق إليه في البيع.
فمن أصحابنا من قال: يلزمه من دراهم الإسلام؛ لأن ذلك وزن الإسلام. هكذا ذكر ابن الصباغ: أن إطلاق الإقرار بالدرهم في البلد التي يتعاملون فيها بالدراهم الناقصة.. هل ينصرف الإقرار إليها؟ على الوجهين.. المنصوص: (أنه ينصرف إليها) .
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أن إطلاق الإقرار بالدرهم ينصرف إلى دراهم الإسلام في كل موضع، فإن فسره المقر بدرهم ناقص عن وزن درهم الإسلام وكان المقر في بلد يتعاملون فيها بالدراهم الناقصة.. فهل يقبل منه؟ فيه وجهان. المنصوص: (أنه يقبل منه) .

[فرع اعترف له بدرهم كبير أو صغير]
فإن قال: له علي درهم كبير.. لزمه درهم من دراهم الإسلام؛ لأنه هو الكبير في العرف، فإن كان في البلد دراهم كبار القدر.. لزمه ذلك.. وإن فسره بما هو أكبر منه من وزن دراهم الإسلام.. قبل منه؛ لأنه يحتمل ما قاله.
وإن قال: له علي درهم صغير أو دريهم.. قال ابن الصباغ: فإن كان للناس دراهم صغار.. لزمه درهم صغير، وإن كانت دراهمهم وازنة.. لزمه درهم وازن صغير. يريد: صغير القدر.
وذكر الشيخ أبو إسحاق: أنه إذا قال: درهم صغير أو دريهم.. فإنه يلزمه درهم وازن، فإن كان في البلد دراهم صغار ففسره بها.. قبل.
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الإقرار والمواهب) : (إذا قال: له علي مائة درهم عددا.. فهي وازنة) .
قال ابن الصباغ: ومعنى ذلك: أنه إذا كان في بلد يتعاملون فيها بالوزانة، فقال: عددا.. اقتضى أن يكون عددا بحكم اللفظ، ووزانة بحكم الاسم، وهما لا يتنافيان.

(13/442)


[فرع أقر بدراهم ففسرها بالمزيفة]
وإن أقر له بدراهم، ففسرها بدراهم زيف.. نظرت: فإن فسرها بدراهم كلها نحاس أو رصاص لا فضة فيها.. لم يقبل منه، سواء وصل ذلك بإقراره أو فصله؛ لأن النحاس والرصاص لا يسمى دراهم.
وإن فسرها بدراهم فضة مغشوشة برصاص أو نحاس.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال القاضي أبو الطيب: يقبل منه، سواء وصل ذلك بإقراره أو فصله؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (ولو قال: من سكة كذا وكذا.. صدق مع يمينه، كانت أردأ الدراهم أو أوسطها) . قال القاضي: وأردأ الدراهم المغشوشة.
وقال الشيخان - أبو إسحاق الشيرازي وأبو حامد الإسفرائيني -: حكمه حكم النقص، فإن وصلها بإقراره.. قبل، وإن لم يصلها.. لم يقبل؛ لأن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (ولو قال: له علي درهم، ثم قال: نقص أو زيف.. لم يصدق) . وما احتج به القاضي.. فإنها تعود إلى أدنى الدراهم سكة. ولأن الدراهم المغشوشة خارجة عن ضرب الإسلام، كالنقص.
قال ابن الصباغ: فإن كان المقر ببلد يتعامل فيه بالدراهم المغشوشة.. فينبغي إذا أطلق أن لا يلزمه إلا منها، كما قلنا في النقص.

[فرع أقر بغصب ألف درهم أو بأنها وديعة عنده]
وإن قال: غصبته ألف درهم، أو عندي له ألف درهم وديعة، ثم قال: هي نقص أو زيف.. قال ابن الصباغ: والذي يقتضي المذهب: أنه لا يقبل منه، كما لو قال: له علي ألف درهم. وقال أبو حنيفة: (يقبل منه في الغصب والوديعة) .
دليلنا: أن الاسم يقتضي الوازنة غير الزيف، فلم يقبل ما يخالف الاسم، كما لو قال: له علي ألف درهم.

(13/443)


[فرع أقر بدراهم ثم فسر نوع سكتها]
وإن قال: له علي دراهم، ثم فسرها بسكة دراهم البلد.. قبل منه، وإن فسرها بغير سكة البلد.. فالمنصوص: (أنه يقبل منه) .
وقال المزني: لا يقبل منه؛ لأن إطلاق اسم الدراهم ينصرف إلى سكة دراهم البلد، كما قلنا في البيع.
وليس بشيء؛ لأن الإقرار إخبار، فإذا كان مطلقا.. قبل تفسيره بما يحتمله، بخلاف البيع؛ فإنه إيجاب في الحال فاعتبر فيه عرف البلد.

[مسألة الإقرار بدرهم أو أكثر من مرة مطلقا أو مقيدا]
إذا أقر له يوم السبت بدرهم، وأقر له يوم الأحد بدرهم، وأطلق الإقرارين.. لم يلزمه إلا درهم واحد إلا أن يعترف أنه أراد بالثاني غير الأول. وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: (يلزمه درهمان) .
واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: لا فرق بين المجلس والمجلسين. ومنهم من فرق بين المجلس والمجلسين.
دليلنا: أن الإقرار إخبار، فإذا أقر، ثم أقر.. احتمل أن يكون الثاني هو الأول، واحتمل أن يكون غيره، وكان المرجع إليه فلم يلزمه ما زاد على درهم بالشك.
وإن قال: له علي درهم من ثمن عبد، ثم قال: له علي درهم من ثمن ثوب.. لزمه درهمان؛ لأن الثاني غير الأول.
وإن قال: له علي درهم من ثمن عبد، ثم قال: له علي درهم وأطلق.. لم يلزمه إلا درهم واحد؛ لأن الثاني يجوز أن يكون هو الأول، ويجوز أن يكون غيره، فلا يلزمه غير الأول بالشك، كما لو أطلق الإقرار فيهما.

[فرع أقر بدرهم ودرهم وما أشبه ذلك من حروف العطف]
وإن قال: له علي درهم ودرهم.. لزمه درهمان؛ لأن الواو لا تحتمل غير العطف، وحكم المعطوف حكم المعطوف عليه.

(13/444)


وإن قال: له علي درهم ودرهمان.. لزمه ثلاثة دراهم، لما ذكرناه.
وإن قال: له علي درهم، ثم درهم.. لزمه درهمان؛ لأن ثم للعطف وإن كانت تقتضي الترتيب مع العطف.
وإن قال: له علي درهم فدرهم.. رجع إليه: فإن قال: أردت العطف.. لزمه درهمان، وإن قال: لم أرد العطف.. فقد قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (يقبل منه) ، وقال: (إذا قال لامرأته: أنت طالق فطالق.. يلزمه طلقتان) .
فنقل أبو علي بن خيران جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى وخرجهما على قولين:
أحدهما: يلزمه درهمان وطلقتان - وبه قال أبو حنيفة - لأن الفاء من حروف العطف، فهو كما لو عطف بالواو.
والثاني: لا يلزمه إلا درهم وطلقة؛ لأن قوله يحتمل الصفة والإيجاب، فلم يلزمه ما زاد على درهم وطلقة بالشك.
وقال سائر أصحابنا: يلزمه درهم وطلقتان قولا واحدا.
والفرق بينهما: أن الدراهم تدخلها الصفة والتفضيل، فيجوز أن يريد: فدرهم أجود منه، والطلاق إيقاع لا تدخله الصفة والتفضيل.
قال أبو علي في " الإفصاح " فوزان الإقرار من الطلاق أن يقول: أنت طالق مطلقة، ويريد بذلك الصفة.. فيقبل منه، كما قلنا في الإقرار.
وإن قال: له علي درهم ودرهم ودرهم.. فالمنصوص: (أنه تلزمه ثلاثة دراهم) .
وقال في (الطلاق) : (إذا قال: أنت طالق وطالق وطالق.. فإنه يلزمه طلقتان، ويرجع إليه في قوله: وطالق الأخير: فإن قال: أردت به تأكيد الثانية.. لم يلزمه إلا طلقتان. وإن قال: لم أنو شيئا.. ففيه قولان: أحدهما: يلزمه ثلاث طلقات. والثاني: لا يلزمه إلا طلقتان) .
وقال أبو علي بن خيران: الإقرار هاهنا مثل الطلاق، فإن قال: أردت تأكيد الثاني

(13/445)


بالثالث.. لم يلزمه إلا درهمان، وإن لم تكن له نية.. فعلى قولين كالطلاق.
وقال سائر أصحابنا: يلزمه ثلاثة دراهم بكل حال قولا واحدا.
والفرق بينهما: أن الطلاق يدخله التأكيد للتخويف والإرهاب، ويؤكد بالمصدر فيقول: أنت طالق طلاقا، فقبل قوله أنه أراد تأكيده، والإقرار لا يدخله التأكيد، فلم يقبل قوله أنه أراده.
وإن قال: له علي درهم، ثم درهم، ثم درهم.. لزمه ثلاثة دراهم، فإن قال: أردت بالثالث تأكيد الثاني.. قبل قوله عند أبي علي بن خيران، ولا يقبل عند سائر أصحابنا؛ لما مضى في التي قبلها.

[فرع أقر بدرهم فوق درهم ونحوه]
فإن قال: له علي درهم فوق درهم أو تحت درهم، أو فوقه درهم أو تحته درهم، أو مع درهم أو معه درهم، أو قبل درهم أو قبله درهم، أو بعد درهم أو بعده درهم، أو على درهم أو عليه درهم.. فاختلف أصحابنا في ذلك.
فمنهم من قال: في الجميع قولان:
أحدهما: يلزمه درهمان؛ لأن هذه الألفاظ تقتضي ضم درهم إليه، فأفادت ما أفادت حروف العطف.
والثاني: لا يلزمه إلا درهم؛ لأن قوله: فوق درهم أو فوقه درهم؛ أي: في الجودة، وقوله: تحت درهم أو تحته درهم؛ أي: في الرداءة، وقوله: مع درهم أو معه درهم؛ أي مع درهم لي أو معه درهم لي، وكذلك قوله: علي درهم أو عليه درهم، وقوله: قبل درهم أو قبله درهم؛ أي: قبل درهم أملكه، وقوله: بعد درهم أو بعده درهم؛ أي: بعد درهم لي ملكته، وإذا احتمل هذا.. لم يلزمه ما زاد على درهم بالشك.
ومنهم من قال: يلزمه في قوله: قبل درهم أو قبله درهم، أو بعد درهم أو بعده درهم درهمان قولا واحدا، وفي باقيها لا يلزمه إلا درهم؛ لأن قبل وبعد لا تحتمل إلا التأريخ، فصار أحد الدرهمين مضموما إلى الآخر.

(13/446)


وقال أبو حنيفة وأصحابه: (إنه إذا قال: فوق درهم.. لزمه درهمان، وإذا قال: تحت درهم.. لم يلزمه إلا درهم؛ لأن قوله: فوق درهم يقتضي الزيادة، وقوله: تحت يقتضي الدون) .
ودليلنا عليهم: ما مضى.
وإن قال: له علي درهم في عشرة، فإن أراد الحساب في الضرب.. لزمه عشرة، وإن لم يرد ذلك.. لم يلزمه إلا درهم؛ لأنه يحتمل أنه أراد في عشرة لي.

[فرع أقر بدرهم ثم قال: لا بل درهم أو درهمان]
وإن قال: له علي درهم، لا بل درهم.. لم يلزمه إلا درهم واحد.
وإن قال: له علي درهم، لا بل درهمان.. لم يلزمه إلا درهمان.
وقال زفر وداود: (يلزمه في الأولى درهمان، وفي الثانية ثلاثة دراهم) .
دليلنا: أن الأول من جنس الثاني، وقد نفى الأول وأثبت الثاني، فلم يلزمه إلا ما أثبته، كما لو قال: له علي درهمان إلا درهم.
وإن قال: له علي هذا الدرهم - وأشار إلى درهم - لا بل هذان الدرهمان - وأشار إلى درهمين آخرين - لزمه الدراهم الثلاثة؛ لأن الأول غير داخل في الدرهمين الآخرين، فلزمه الجميع، بخلاف قوله: له علي درهم، لا بل درهمان ولم يشر إلى دراهم بأعيانها؛ فإن الدرهم الأول داخل في الدرهمين الآخرين.

[فرع أقر بدرهم ثم قال لا بل دينار]
ونحو ذلك] :
وإن قال: له علي درهم، لا بل دينار، أو قال: له علي درهم، لا بل قفيز حنطة.. لزمه الدرهم والدينار والقفيز؛ لأن الثاني غير الأول فصار راجعا عن الأول مقرا بالثاني، فلم يقبل رجوعه، ولزمه حكم إقراره الثاني.

(13/447)


وكذلك إذا قال: له علي درهم ودينار، أو درهم وقفيز حنطة.. لزمه الدرهم والدينار والقفيز؛ لأنه عطف الثاني على الأول فلزمه الجميع.
وإن قال: له علي دينار فقفيز حنطة.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (لم يلزمه إلا دينار) . ووجهه: أنه أراد: له علي دينار فقفيز حنطة خير منه. ويأتي فيه قول أبي علي بن خيران في قوله: له علي درهم فدرهم على ما مضى.
وإن قال: له علي درهم أو دينار.. ففيه وجهان، حكاهما في " العدة ":
أحدهما - ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق غيره -: أنه لا يلزمه إلا أحدهما ويلزمه تعيينه؛ لأنه لم يقر إلا بأحدهما.
والثاني: لا يلزمه شيء، كما لو قال: لزيد أو لعمرو علي دينار.
وإن قال: له علي درهم في دينار.. لم يلزمه إلا درهم؛ لأنه يحتمل أنه أراد: في دينار لي.
وإن قال: له علي عشرة دراهم، لا بل تسعة.. قال ابن الصباغ: لزمه عشرة؛ لأنه أقر بها، ثم أضرب عنها فلم يقبل. ويخالف إذا قال: له علي درهم، لا بل درهمان؛ لأنه أضرب عن الإقرار بالدرهم إلا أنه أدخله في الثاني، فلم يلزمه الزيادة.
وإن قال: له علي عشرة دراهم أو تسعة.. قال الطبري: لا يلزمه إلا الأقل؛ لأنه يقين.

[مسألة الإقرار بدراهم بصيغة الجمع]
إذا قال: له علي دراهم.. لزمه أن يفسر، فإن فسر ذلك بثلاثة دراهم أو بأكثر منها.. قبل منه. وإن فسرها بدون الثلاثة.. لم يقبل منه.
وحكي عن بعض الناس أنه قال: يقبل منه التفسير بالدرهمين.

(13/448)


دليلنا: أن العرب وضعت للعدد صيغة، فقالوا: رجل للواحد، ورجلان للاثنين، ورجال للثلاثة فما زاد، فدل على أن أقل الجمع ثلاثة.
فإن قال: له علي دراهم عظيمة أو كثيرة.. قبل في تفسير ذلك منه الثلاثة.
وقال أبو حنيفة: (لا يقبل منه أقل من عشرة) .
وقال أبو يوسف ومحمد: لا يقبل منه أقل من مائتي درهم.
دليلنا: أن أقل الجمع ثلاثة، ووصفه لها بالكثرة والعظم لا يقتضي زيادة في العدد، كما لو قال: له علي حنطة عظيمة أو كثيرة.

[فرع أقر بما بين درهم وعشرة]
وإن قال: له علي ما بين الدرهم والعشرة أو إلى العشرة.. لزمه ثمانية؛ لأن الواحد والعاشر حدان فلا يدخلان في المحدود.
قال ابن الصباغ: فمن أصحابنا من قال: يلزمه تسعة - وحكي ذلك عن أبي حنيفة - لأن الأول ابتداء الغاية والعاشر هو الحد، فدخل الابتداء فيه ولم يدخل الحد.
وقال محمد بن الحسن: يلزمه العشرة.
قال ابن الصباغ: فهذا له وجه؛ لأنا قد ذكرناه في (المرافق) : أن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه.

[فرع أقر بما لا يزيد على مائة أو بألف في الكيس أو على جدار]
قال الطبري في " العدة ": إذا قال: ما لزيد علي أكثر من مائة درهم.. لم يكن مقرا بالمائة. وقال أبو حنيفة: (يكون مقرا بالمائة) .
دليلنا: أن قوله: (ما) نفي لا إثبات فيه، فلا يكون إقرارا، كما لو قال: ما له علي قليل ولا كثير.

(13/449)


قال الطبري في " العدة ": إن قال: له علي ألف درهم في هذا الكيس.. فحكى أبو ثور أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: (فإن كان في الكيس ألف درهم أو أكثر.. لزمه ألف درهم، وإن لم يكن في الكيس ألف درهم.. لم يلزمه غير ما في الكيس) .
وحكى أبو علي السنجي: أن القفال قال: يلزمه الألف ولا يسقط عنه شيء بالإضافة إلى الكيس، ألا ترى أنه لو اقتصر على الإقرار بالألف فلم يضف إلى الكيس.. كان يلزمه الألف.
ولو قال: له علي الألف الذي في هذا الكيس.. فهاهنا يخرج على قولين:
أحدهما: يلزمه الألف إذا لم يكن فيه شيء.
والثاني: لا شيء عليه إلا أن يكون فيه شيء فيلزمه، بناء على ما لو حلف ليشربن ماء هذا الكوز ولم يكن فيه شيء.. فهل يحنث؟ على قولين.
قال الطبري: وإن قال: له علي ألف أو على هذا الجدار.. لم يلزمه الألف.
وقال أبو حنيفة: (يلزمه) .
دليلنا: أن إيصال الشك ممن عليه غير ملزم للإقرار، فهو كما لو قال: علي له أو على أخي أو شريكي ألف.

[مسألة أقر بكذا ولم يفسره]
وإن قال: له علي كذا ولم يفسره.. كان كما لو قال: له علي شيء، فيرجع في تفسيره إليه، فإن قال: له علي كذا درهم - برفع الدرهم - لزمه درهم، وتقديره: له علي شيء هو درهم. وإن قال: له علي كذا درهما - بنصب الدرهم - لزمه درهم، ويكون الدرهم منصوبا على التفسير. وإن قال: له علي كذا درهم - بخفض الدرهم - ففيه وجهان:
[أحدهما] : قال القاضي أبو الطيب: يلزمه بعض درهم، ويرجع في بيان البعض إليه؛ لأن كذا تكون كناية عن جزء من الدرهم مضاف إليه.

(13/450)


و [الثاني] : قال الشيخ أبو حامد: يلزمه درهم.
وإن قال: له علي كذا درهم، ووقف ولم يعرب الدرهم.. قال ابن الصباغ:
فعندي أنها على الوجهين في خفض الدرهم؛ لأن المجرور يوقف عليه ساكنا، كما يوقف على المرفوع، وإذا احتمل ذلك.. لم يلزمه إلا اليقين.
وإن قال: له علي كذا كذا، ولم يفسره.. رجع في تفسيره إليه، كما لو قال: له علي شيء شيء، ولا يفيد تكراره.
وإن قال: له علي كذا كذا درهم أو درهما.. لزمه درهم.
وإن قال: له علي كذا كذا درهم، بخفض الدرهم أو بوقفه.. فعلى الوجهين في التي قبلها في خفض الدرهم ووقفه.
وإن قال: له علي كذا وكذا ولم يفسره بشيء.. رجع في تفسيره إليه. فإذا فسر ذلك بأي شيء كان.. قبل منه، كما لو قال: له علي شيء وشيء.
فإن قال: له علي كذا وكذا درهما.. فقد نقل المزني فيه قولين:
أحدهما: (يلزمه درهمان) .
والثاني: (لا يلزمه إلا درهم) .
واختلف أصحابنا فيه على أربعة طرق:
فـ[الطريق الأول] : منهم من قال: فيه قولان:
أحدهما: يلزمه درهمان؛ لأنه ذكر جملتين، فإذا فسر ذلك بدرهم.. عاد التفسير إلى كل واحدة من الجملتين، كما لو قال: له علي عشرون درهما.. فإن التفسير يعود إلى العشرين.
والثاني: لا يلزمه إلا درهم؛ لأن (كذا) يجوز تفسيره بأقل من درهم، فإذا فسر

(13/451)


كذا وكذا بدرهم.. جاز أن يريد لكل واحد منهما نصف درهم فلم يلزمه أكثر من درهم بالشك.
و [الطريق الثاني] : من أصحابنا من قال: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين.
فحيث قال: (يلزمه درهمان) أراد: إذا قال: كذا وكذا درهما بنصب الدرهم؛ لأنه جعل الدرهم مفسرا لكل واحدة من الجملتين، فرجع إلى كل واحدة منهما.
وحيث قال: (لا يلزمه إلا درهم) أراد: إذا قال: كذا وكذا درهم برفع الدرهم؛ لأنه خبر عن المبهمين، فيكون معنى ذلك: هما درهم.
وقد نص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - على هذا الطريق في (الإقرار والمواهب) .
و [الطريق الثالث] : من أصحابنا من قال: هي على اختلاف حالين آخرين:
فحيث قال: (يلزمه درهمان) أراد: إذا فسره بالدرهم ولم ينو شيئا.
وحيث قال: (يلزمه إلا درهم) أراد: إذا فسره بالدرهم وقال: نويت الدرهم.
و [الطريق الرابع] : منهم من قال: هي على اختلاف حالين آخرين:
فحيث قال: (لا يلزمه إلا درهم) أراد: إذا قال: له علي كذا وكذا أو كذا درهم، كما لو قال: له علي درهمان أو درهم.
وقال محمد بن الحسن: إذا قال: له علي كذا كذا درهما.. لزمه أحد عشر درهما. وإن قال: له علي كذا وكذا درهما.. لزمه أحد وعشرون درهما.
ووجهه: أن أقل عددين لم يدخل فيهما حرف عطف يفسران بالواحد أحد عشر، وأقل عددين يعطف أحدهما على الآخر يفسران بالواحد أحد وعشرون.
قال أبو إسحاق المروزي: يحتمل إذا كان المقر من أهل العربية أن يحمل إقراره على ما قاله محمد بن الحسن، والطريق الثالث والرابع يبعدان عن كلام الشافعي

(13/452)


- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وما قاله محمد بن الحسن.. خطأ؛ لأنه لو كان كما قال.. لوجب عليه إذا قال: له علي درهم - بخفض الدرهم - مائة درهم؛ لأن أقل عدد يخفض مما فسر به مائة.

[مسألة الإقرار بألف من دون تفسير]
وإن قال: له علي ألف، ولم يبين من أي شيء.. رجع في تفسيره إليه؛ لأنه قد أقر بمبهم، فبأي جنس من المال فسره.. قبل منه.
قال ابن الصباغ: حتى لو فسره بحبات الحنطة.. قبل منه.
وإن فسره بألف كلب.. فهل يقبل منه؟ على وجهين، مضى بيانهما.
قال الشيخ أبو إسحاق الإسفراييني: وإن فسره بأجناس.. قبل منه.
وإن قال: له علي ألف ودرهم، أو ثوب وعبد.. لزمه الدرهم والثوب والعبد، ورجع في تفسير الألف إليه، وبه قال مالك.
وقال أبو ثور: (يكون المعطوف تفسيرا للمعطوف عليه، وهو الألف) .
وقال أبو حنيفة: (إن عطف على العدد المبهم مكيلا أو موزونا.. كان تفسيرا له، وإن كان مذروعا أو معدودا، كالثوب والعبد.. لم يكن تفسيرا له) .
دليلنا على أبي ثور: أن المعطوف لا يقتضي أن يكون من جنس المعطوف عليه؛ لأنه قد يعطف الشيء على غير جنسه، فلم يكن تفسيرا له.
وعلى أبي حنيفة: أنه مفسر معطوف على مبهم فلم يكن تفسيرا للمبهم، كما لو قال: له علي مائة وثوب.

[فرع أقر بألف وثلاثة دراهم أو بخمسة عشر درهما]
وإن قال: له علي ألف وثلاثة دراهم، أو له علي مائة وخمسون درهما، أو علي له خمسة وعشرون درهما، أو خمسون وألف درهم، أو مائة وألف درهم.. ففيه وجهان:

(13/453)


[أحدهما] : قال أبو علي بن خيران وأبو سعيد الإصطخري: يكون تفسيرا لما يليه من الجملتين، وما قبل ذلك يرجع في تفسيره إليه، كما لو قال: له علي ألف ودرهم.
و [الثاني] : قال سائر أصحابنا: يكون ذلك تفسيرا للجملتين؛ لأنه ذكر الدرهم للتفسير؛ ولهذا لا تجب به زيادة عدد، فكان راجعا إلى ما تقدمه من الجملتين، بخلاف قوله: ألف ودرهم؛ فإنه عطفه على الألف؛ ولهذا يجب الدرهم مع الألف.
فإن باعه شيئا بمائة أو خمسين درهما وبخمسة وعشرين درهما أو ما أشبه ذلك.. لم يصح البيع على قول أبي علي بن خيران وأبي سعيد الإصطخري، ويصح البيع على قول سائر أصحابنا.
وإن قال: له علي خمسة عشر درهما.. لزمه خمسة عشر درهما بلا خلاف بين أصحابنا؛ لأن هذين العددين ركبا عددا واحدا ليس أحدهما معطوفا على الآخر.

[فرع أقر بألف وكر حنطة]
وإن قال: له علي ألف وكر حنطة.. قال الشيخ أبو حامد: فإن الحنطة تكون تفسيرا للكر، ويرجع في تفسير الألف إليه.
فإن قال: له علي ألف وثلاثة دراهم.. كانت الدراهم تفسيرا والثلاثة؛ لأن الدراهم تصلح لكل واحد منهما؛ ولهذا لو قال: له علي ألف درهم.. صح، والحنطة لا تصلح للألف؛ ولهذا لو قال: له علي ألف حنطة.. لم يصح.

[مسألة الاستثناء في الإقرار]
يصح الاستثناء في الإقرار؛ لأن القرآن ورد بالاستثناء، وهو لغة العرب فالاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات.

(13/454)


فإذا قال: له علي عشرة دراهم إلا درهما.. لزمه تسعة دراهم. وإن قال: له علي عشرة دراهم إلا تسعة.. لزمه درهم.
وحكي عن ابن درستويه النحوي أنه قال: لا يصح استثناء الأكثر. وإليه ذهب أحمد بن حنبل.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] [الحجر: 42] وقال تعالى في موضع آخر: قَالَ {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] {إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 83] [ص: 82 - 83] فاستثنى الغاوين من العباد، واستثنى العباد من الغاوين، ولا بد أن يكون أحدهما أكثر من الآخر.
وإن قال: له علي عشرة دراهم إلا عشرة دراهم.. لزمه عشرة دراهم؛ لأن الاستثناء إذا رفع جميع المستثنى منه.. لم يكن له حكم.
وإن قال: له علي عشرة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهمين.. كان المقر به تسعة؛ لأنه لما استثنى ثلاثة من العشرة المثبتة.. كان نافيا للثلاثة، فإذا استثنى الدرهمين من الثلاثة.. كان مثبتا لهما مع السبعة الباقية، فصار عليه تسعة.
وإن قال: له علي ثلاثة دراهم إلا درهمين.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يلزمه ثلاثة دراهم؛ لأن الاستثناء الأول يرفع جميع المستثنى منه فبطل، والثاني معلق به فبطل ببطلانه.
والثاني: يلزمه درهم؛ لأن الاستثناء الأول باطل فسقط وبقي الاستثناء الثاني فصح.
والثالث: يلزمه درهمان. قال ابن الصباغ: وهو الأقيس؛ لأن الاستثناء مع المستثنى منه عبارة عما بقي، وذلك عبارة عن استثناء درهمين من ثلاثة.

(13/455)


وإن قال: له علي عشرة دراهم إلا خمسة وخمسة.. ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل الاستثناءان.
والثاني: يصح الأول دون الثاني.
قال الطبري: وإن قال: له علي ألف درهم - أستغفر الله - إلا مائة درهم.. صح الاستثناء.
وقال أبو حنيفة: (لا يصح الاستثناء) .
دليلنا: أن الفصل اليسير بين الاستثناء والمستثنى منه إذا لم يكن حرف إبطال الاستثناء.. لا يبطله، كما لو قال: له علي ألف - يا فلان - إلا مائة.

[مسألة كون المستثنى من غير جنس المستثنى منه]
يجوز أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه؛ بأن يقول: له علي مائة درهم إلا دينار. وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (إن استثنى مكيلا أو موزونا.. جاز، وإن استثنى عبدا أو ثوبا من مكيل أو موزون.. لم يجز) .
وقال زفر ومحمد: لا يجوز بحال. وبه قال أحمد.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] [الكهف: 50] وقال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا} [الواقعة: 25] {إِلا قِيلا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة: 26] [الواقعة: 25-26] ، وقال الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس
فاستثنى اليعافير - وهي: ذكور الظباء - والعيس - وهي: الجمال البيض - من الأنيس.

(13/456)


إذا ثبت هذا: فقال: له علي ألف إلا درهما.. قيل له: قد أقررت بألف مبهم وفسرت المستثنى منه ففسر الألف المقر بها، فإن فسره بجنس قيمته أكثر من درهم.. سقط منه قدر الدرهم، وبقي الباقي عليه. وإن فسره بجنس قيمته درهم أو أقل.. ففيه وجهان:
أحدهما: يبطل التفسير؛ لأن الاستثناء قد صح، فإذا فسر الإقرار المبهم بما يرفع الاستثناء.. لم يصح التفسير، ويطالب بالتفسير على ما مضى.
والثاني: يصح التفسير، ويبطل الاستثناء؛ لأنه فسره بما يقبل منه، فإذا كان الاستثناء يرفعه.. حكم ببطلان الاستثناء.
وإن قال: له علي ألف درهم إلا ثوبا.. قلنا له: بين قيمة الثوب، فإن بين قيمته بقدر يبقى بعده من الألف شيء.. قبل منه. قال ابن الصباغ: وعندي أنه ينبغي أن يكون ذلك قدر ما يجوز أن يكون قيمة الثوب.
وإن فسره بما قيمته أغلى من الثوب وكانت قدر ألف.. ففيه الوجهان الأولان:
أحدهما: يلزمه الألف، ويبطل الاستثناء.
والثاني: يبطل التفسير، ويطالب بتفسير قيمة الثوب بقدر يكون أقل من ألف درهم.
وإن قال: له علي ألف إلا ثوبا.. فقد أقر بمبهم واستثنى منه مبهما، فيطالب بتفسيرهما، والكلام فيه إذا فسر على ما مضى.

[فرع استثنى من جنسين كل على حدى]
إذا قال: له علي ألف درهم إلا مائة درهم، وعشرة دنانير إلا قيراطا.. فيه وجهان:
أحدهما: يلزمه تسعمائة درهم وعشرة دنانير إلا قيراطا؛ لأن الظاهر أنه أقر

(13/457)


بمالين، وهما ألف درهم وعشرة دنانير وعقب كل واحد منهما استثناء.
والثاني - وهو قول أبي حنيفة -: أنه يلزمه تسعمائة درهم وقيراط إلا قيمة عشرة دنانير؛ لأنه أقر له بألف درهم واستثنى منه مائة درهم، وعطف على المائة عشرة دنانير فكانت قيمتها مستثناة مع المائة، ثم استثنى من الدنانير قيراطا فكان باقيا عليه؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات.

[فرع استثنى من جنسين معا]
وإن قال: له علي ألف درهم ومائة دينار إلا مائة درهم وعشرة دنانير.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه ألف درهم، ويكون الاستثناء يرجعان إلى المائة الدينار؛ لأنهما يعقبانها فرجعا إليها.
والثاني - وهو قول أبي حنيفة -: أن المائة الدرهم تكون مستثناة من ألف درهم، والعشرة الدنانير مستثناة من المائة الدينار؛ لأن الظاهر أنه استثنى كل جنس من جنسه.

[فرع استثنى عبدا من عبيد أو كان بيده عبد وجارية وأقر بأحدهما]
وإن كان في يده عشرة عبيد، فقال: هؤلاء العبيد لزيد إلا واحدا.. صح الإقرار، ويطالب بتعيين العبيد الذين للمقر له، فإن قال: له هؤلاء التسعة.. صح، وإن قال: ليس له إلا هذا.. كان الباقي منهم للمقر له. وإن كذبه المقر له في التعيين.. كان القول قول المقر مع يمينه؛ لأنه أعرف بما أقر.
فإن مات من العبيد تسعة وبقي واحد، فقال المقر: هذا الذي بقي ليس له، فإن كان العبيد غير مضمونين على المقر.. فهل يقبل منه؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل منه؛ لأن هذا تفسير برفع جميع المقر به فلم يقبل، كما لو قال: له علي درهم إلا درهما.
والثاني: يقبل قوله، وهو الأصح؛ لأن التفسير يرفع إلى وقت الإقرار وقد كان التفسير لو لم يمت التسعة صحيحا وكذلك إذا ماتوا، فصار كما لو قال: هؤلاء العبيد له إلا غانما ثم

(13/458)


ماتوا إلا غانما. ويخالف إذا استثنى الجميع؛ فإن ذلك مضاد للإقرار فسقط.
وإن كانوا مضمونين على المقر؛ بأن أقر أنه غصبهم.. قبل وجها واحدا؛ لأنه يجب عليه قيمة التالفين. وكذلك إذا قتلهم أو قتلهم غيره.. فإنه يقبل قوله وجها واحدا؛ لما ذكرناه.
وإن كان في يده عبد وجارية، فقال: أحد هذين لزيد.. صح إقراره وطولب بالبيان، فإن قال: العبد له وصادقه المقر له.. سلم إليه العبد.
وإن قال المقر له: بل الجارية لي دون العبد.. فالقول قول المقر مع يمينه في الجارية. وأما العبد: فقد أقر به لمن كذبه، فالحكم فيه على ثلاثة أوجه:
أحدها: يبقى على ملك المقر؛ لأنه على ملكه، فإذا أقر به لمن لا يدعيه.. بقي على ملكه.
والثاني: ينتزعه الحاكم ويحفظه إلى أن يجيء من يدعيه.
والثالث: يحكم بعتقه.

[فرع أقر بدار لفلان إلا بيتا وعينه أو أقر بإعارتها له]
إذا قال: هذه الدار لزيد إلا هذا البيت، أو هذه الدار لزيد وهذا البيت لي.. فإن البيت يكون للمقر؛ لأنه بمنزلة الاستثناء أو أصرح منه، فقبل.
فإن قال: هذه الدار لفلان هبة عارية أو هبة سكنى.. لم يكن إقرارا بالدار، بل يكون إقرارا بإعارة الدار، فإن رجع المعير في العارية.. صح رجوعه في المستقبل، ولا يصح رجوعه فيما استوفى المستعير من المنفعة.
فإن قيل: قوله: هذه الدار لفلان إقرار بالدار، فإذا قال: هبة عارية أو هبة سكنى.. كان ذلك منه رجوعا عن الإقرار بالدار، فلم يقبل.
قلنا: إنما يكون إقرارا لو اقتصر في الإقرار على قوله: هذه الدار لفلان، فأما إذا

(13/459)


وصله بقوله: هبة عارية أو هبة سكنى.. لا يكون إقرارا بالدار، وإنما هو إقرار بهبة منافعها. ولأنه مقر بالعين والمنفعة، فإذا استثنى العين وبقاء المنفعة.. صح، كما لو قال: هذه الدار له إلا هذا البيت.

[مسألة أقر بثوب في منديل ونحوه أو أقر بغصبه]
وإن قال: عندي لفلان ثوب في منديل، أو تمر في جراب.. كان إقرارا بالثوب دون المنديل، وبالتمر دون الجراب؛ لأنه يحتمل في منديل لي، وفي جراب لي.
وكذلك: إذا قال: غصبت منه ثوبا في منديل، أو زيتا في زق.. كان مقرا بغصب الثوب دون المنديل، والزيت دون الزق.
وكذلك: إذا قال: غصبت زقا فيه زيت، وجرة فيها خل.. كان مقرا بغصب الزق دون الزيت، والجرة دون الخل. وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة: (إذا قال: غصبت منه ثوبا في منديل، أو زيتا في زق.. كان مقرا بغصبهما) .
دليلنا: أنه يحتمل أن يكون المنديل له، فقوله: (غصبت ثوبا في منديل) يحتمل في منديل لي، ولو قال ذلك.. لم يكن غاصبا لهما، فإذا أطلقه.. كان قوله محتملا له، فلم يكن مقرا بغصبهما، كما لو قال: عندي له ثوب في منديل، وكما لو قال: غصبت دابة في إصطبلها.
وإن قال: عندي له خاتم.. لزمه الخاتم بفصها؛ لأن اسم الخاتم يجمعهما.
وإن قال: له عندي ثوب مطرز.. لزمه الثوب بطرازه، سواء كان الطراز منسوجا مع الثوب أو مركبا عليه.

(13/460)


ومن أصحابنا من قال: إن كان الطراز مركبا على الثوب بعد النسج.. ففيه وجهان:
أحدهما: يلزمه الثوب مع طرازه؛ لأنه من أجزاء الثوب.
والثاني: لا يلزمه الطراز؛ لأنه متميز عن الثوب.

[فرع أقر بدار مفروشة أو بدابة عليها سرج أو بعبد عليه عمامة أو ثوب]
وإن قال: عندي له دار مفروشة.. كان مقرا بالدار دون الفراش؛ لأنه يجوز أن تكون مفروشة بفراش للمقر.
قال الطبري: فإن قال: عندي له دابة بسرجها، أو سفينة بطعامها.. كان مقرا بالدابة والسرج والسفينة والطعام؛ لأنه لا يحتمل إلا الإقرار بالأمرين جميعا.
قال ابن القاص في " التلخيص ": فإن قال: له عندي دابة عليها سرج.. كان مقرا بالدابة دون السرج. وإن قال: له عندي عبد عليه عمامة أو ثوب.. كان مقرا بالعبد والعمامة والثوب.
فوافق على ذلك أكثر أصحابنا، وفرقوا بينهما؛ بأن قالوا: الدابة لا يد لها على السرج، وللعبد يد على العمامة والثوب فكان مقرا للعبد وبما في يده.
قال أبو علي السنجي: لا يكون مقرا بالسرج ولا بالعمامة والثوب؛ لأن ابن القاص قد ذكر الفرس والعبد في " المفتاح " ولم يفرق بينهما. ولأنه يحتمل أن قوله: عليه عمامة أو ثوب لي، ومتى احتمل قوله دخوله وعدم دخوله.. لم يدخل بالشك. ولأن يده ثابتة على الجميع فلم يدخل في الإقرار إلا ما تيقن.

[مسألة الإقرار وملابسات الوديعة]
وإن قال: له علي ألف درهم وديعة.. قبل قوله؛ لأن الوديعة عليه ردها. فإن قال: له علي ألف درهم - بعد ذلك - كنت أظنها باقية وقد كانت تلفت قبل إقراري..

(13/461)


لم يقبل قوله؛ لأنه قد أقر بوجوب ردها، فلا يقبل رجوعه. وإن قال: أتلفت بعد إقراري.. قبل قوله مع يمينه؛ لأنه يحتمل ما يدعيه.
وإن قال: علي لزيد ألف درهم، ثم جاء بألف ثم قال: هذه الألف التي أقررت بها وكانت وديعة له عندي، فإن صدقه زيد.. فلا كلام، وإن كذبه وقال: هذه وديعة لي عندك والتي أقررت بها لي غيرها.. ففيه قولان - حكاهما الشيخ أبو إسحاق -:
أحدهما: لا يقبل قوله - وحكى ابن الصباغ: أنه قول أبي حنيفة - لأن معنى قوله: (علي) للإيجاب وذلك يقتضي كونها في ذمته. ألا ترى أنه إذا قال: ما على فلان علي.. كان ضامنا؟ والوديعة ليست بواجبة عليه، فلم يقبل تفسيره بها.
والثاني: يقبل قول المقر مع يمينه - ولم يذكر ابن الصباغ ولا المسعودي [في ((الإبانة)) ق \ 296] غيره - لأن الوديعة عليه حفظها وردها، فإذا فسر إقراره بقوله: (علي) بالوديعة.. قبل، كما لو قال: عندي له ألف درهم، ثم قال هي وديعة.. فإنه يقبل، و (علي) : بمعنى عندي؛ ولهذا قال الله تعالى: {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} [الشعراء: 14] [الشعراء: 14] أي: عندي ذنب.
وإن قال: له علي ألف درهم في ذمتي، فجاء بألف وقال: الألف التي كنت أقررت لك بها كانت وديعة وتلفت عندي، وهذه بدلها.. قبل قوله؛ لأنه يجوز أن تكون تلفت بتعديه، أو بتفريطه فتكون بدلها في ذمته.
وأما إذا جاء بألف وقال: التي أقررت بها هي هذه وهي وديعة عندي، فقال المقر له: هذه وديعة لي عندك وتلك دين لي في ذمتك.. فهل يقبل قول المقر؟
إن قلنا في التي قبلها: لا يقبل قوله.. فهاهنا أولى.
وإن قلنا: تقبل هناك.. فهاهنا وجهان.
أحدهما: لا يقبل؛ لأن الوديعة لا تثبت بالذمة، بخلاف ما لو قال: علي ألف درهم ثم فسرها بالوديعة؛ لأنه لم يصرح بكونها في ذمته.

(13/462)


والثاني: يقبل قوله مع يمينه؛ لجواز أن تكون وديعة تعدى بها فكان ضمانها في ذمته.

[فرع أقر بألف وديعة أو مضاربة]
إذا قال: له علي ألف درهم وديعة أو مضاربة دينا.. قبل قوله؛ لأنه قد يتعدى بالوديعة، وأما مال المضاربة: فيكون مضمونا عليه.
وإن قال: له علي ألف أخذتها منه.. فقد اختلف أصحابنا الخراسانيون فيه:
فمنهم من قال: هو كما لو قال: دفعها إلى وديعة، فلو ادعى بعد ذلك أنها تلفت.. قبل قوله فيها مع يمينه؛ لأنه قد تضاف الوديعة إلى آخذها كما تضاف إلى دافعها.
وقال القفال: لا يقبل قوله: إنها وديعة عنده، بل تكون مضمونة عليه - وهو قول أبي حنيفة - لأن الأخذ يقتضي الغصب، فإذا فسره بالوديعة.. لم يقبل.

[فرع أقر بألف عارية]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: (ولو قال: له عندي ألف درهم عارية.. كانت مضمونة) .
قال أصحابنا: هل تصح عارية الدراهم والدنانير؟ فيه وجهان:
أحدهما: يصح؛ لأنه يمكن الانتفاع بها مع بقاء عينها.
والثاني: لا يصح؛ لأنه لا ينتفع بها مع بقاء عينها انتفاعا مقصودا.
فإذا استعارها.. كانت مضمونة عليه على الوجهين، فإذا أقر بذلك.. كانت مضمونة عليه، سواء قلنا: تصح إعارتها أو لا تصح؛ لأن ما ضمن بالعقد الصحيح.. ضمن بالعقد الفاسد كالبيع.

[مسألة الإقرار بحصة في العبد أو السلعة]
وإن قال: له في هذا العبد ألف، أو من هذا العبد ألف.. قلنا له: بين ما أردت بهذا؟

(13/463)


فإن قال: أردت: أنه وزن عني ألفا في ثمنه قرضا.. كان مقرا بألف في ذمته.
وإن قال: نقد في ثمنه عن نفسه ألف درهم.. قيل له: بين كم كان ثمن العبد، وكيف وقع الشراء؟ فإن قال: اشتريته أنا وهو صفقة واحدة.. قلنا: فكم نقدت أنت من الثمن؟ فإن قال: نقدت ألفا.. كان مقرا له بنصف العبد. وإن قال: نفدت ألفين.. كان مقرا بثلث العبد، وسواء كان ذلك قيمة العبد أو أقل أو أكثر. فإن قال: اشترى ربعه أو ثلثه بألف بعقد، واشتريت الباقي أو اتهبته أو ورثته.. قبل قوله. فإن كذبه المقر له في شيء من ذلك.. كان القول قول المقر مع يمينه؛ لأن ما قاله محتمل.
وإن قال: جنى عليه العبد جناية أرشها ألف درهم.. قبل قوله في ذلك.
وإن قال: وصى له بألف درهم من ثمنه.. استحق الألف من ثمنه.
وإن قال: هو مرهون عنده بألف.. فهل يقبل قوله؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يقبل؛ لأن الدين في الرهن يتعلق بالذمة، والرهن وثيقة فيكون تفسيره مخالفا لظاهر إقراره.
والثاني: يقبل؛ لأن الدين يتعلق بالرهن والذمة.
إذا ثبت هذا: فقال صاحب " التلخيص " إذا قال: لفلان علي ألف درهم في هذه السلعة.. سئل، فإن قال: نقد في ثمنها ألف درهم.. قيل له: وأنت كم نقدت؟ فإن قال: ألفين.. كانت بينهما أثلاثا.
قال أصحابنا: هذا غلط، وإنما قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - هذا: إذا قال: له علي في هذا العبد ألف.. (سئل عن قوله) فأما إذا قال: له علي ألف في هذه السلعة.. فالألف لازمه له بكل حال؛ لأن قوله: (له علي ألف) إقرار، فإضافة إلى السلعة لا تغيره.

(13/464)


[فرع أقر بأن له في هذا العبد شرك]
وإن قال: له في هذا العبد شرك.. صح إقراره ورجع إليه في تفسير ذلك الشرك منه، فبأي قدر فسره.. قبل منه. وبه قال محمد بن الحسن.
وقال أبو يوسف: يكون له النصف.
دليلنا: أن الشرك يقع على القليل والكثير فقبل قوله فيه، كما لو قال: له فيه شيء.

[مسألة أقر بأن له حصة من ميراث أبيه أو من ميراثه من أبيه]
وإذا قال: له في ميراث أبي، أو من ميراث أبي ألف.. كان مقرا له على أبيه بدين. وإن قال: له في ميراثي من أبي، أو من ميراثي من أبي ألف.. رجع في تفسيره إليه: فإن قال: أردت الإقرار.. قبل منه. وإن قال: أردت الهبة مني.. قبل قوله، ويكون بالخيار: بين أن يسلم له ما وهب له، وبين أن لا يسلم له.
والفرق بينهما: أنه إذا أطلق ولم يصف الميراث إلى نفسه.. اقتضى وجوبها في التركة لحق كان على أبيه، فإذا أضاف الميراث إلى نفسه ثم جعل له منها جزءا, احتمل أن يكون ذلك هبة منه له، والهبة لا تلزم عليه إلا بالتسليم.
وكذلك إذا قال: له في هذه الدار نصفها، أو له نصف هذه الدار.. كان إقرارا بنصفها. وإن قال: له في داري نصفها.. لم يكن إقرارا؛ لما ذكرناه.
وإن قال: له في ميراثي أو من ميراثي من أبي ألف بحق، أو في داري أو من داري نصفها بحق.. لزمه ذلك إقرارا؛ لأنه قد اعترف أن المقر له يستحق ذلك فلزمه.
وإن قال: له في هذا المال ألف.. كان ذلك إقرارا.
وإن قال: له في مالي، أو من مالي ألف.. فنص الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع:
(أنه لا يكون إقرارا، بل يرجع إليه في تفسيره) كما قال في قوله: له في ميراثي من أبي، أو من ميراثي من أبي ألف. وقال في (الإقرار والمواهب) : (لو قال: له في

(13/465)


مالي ألف.. كان إقرارا) واختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: في قوله: (له في مالي ألف) قولان:
أحدهما: يكون إقرارا؛ لأن الألف التي في ماله وفاؤها عليه وماله ظرف لها؛ كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج: 24] [المعارج: 24] وأراد به حق الله تعالى، وهو واجب عليهم.
والثاني: لا يكون إقرارا، وهو الصحيح؛ لأنه أضاف المال إلى نفسه ثم جعل لغيره منه ألفا فلا يحمل على غير الهبة، والهبة لا تلزم عليه إلا بالقبض.
ومنهم من قال: لا يكون إقرارا قولا واحدا؛ لأنه لا فرق بين قوله: له في مالي ألف، وبين قوله: له من مالي ألف، وكذلك: له في داري أو من داري، وفي ميراثي أو من ميراثي. وما قاله في (الإقرار والمواهب) يحتمل: أن يكون سهوا من الكاتب أو متأولا على أنه قال: علي له في مالي ألف؛ لأنه إذا قال: علي له.. فقد صرح بوجوبه عليه، فكان إقرارا.

[مسألة تخلل الإقرار بسكوت]
إذا قال: له عندي ألف وسكت، ثم قال بعد ذلك: من ثمن مبيع لم أقبضه.. لم يقبل قوله، ويكون القول قول المقر له، فإذا حلف: أنه ليس له عنده مبيع بالألف المقر بها.. استحق الألف؛ لأنه فسر إقراره بما يسقط وجوب تسليمه منفصلا عنه فلم يقبل.
وإن قال: له عندي ألف درهم من ثمن مبيع وسكت، ثم قال بعد ذلك: لم أقبضه.. قبل قوله، فإن خالفه المقر له.. كان القول قول المقر مع يمينه؛ لأن إقراره تعلق بالمبيع، والأصل عدم القبض فقبل قوله فيه.
وإن قال: له عندي ألف من ثمن مبيع لم أقبضه.. قبل قوله، فإن أنكر المقر له وقال: بل هي عنده دين من غير ثمن مبيع.. فالقول قول المقر مع يمينه، ولا فرق

(13/466)


بين أن يعين المبيع أو لا يعينه. وبه قال أبو يوسف ومحمد.
وقال أبو حنيفة: (إن عين المبيع.. قبل قوله، وسواء وصل بإقراره أو لم يصل فإن أطلق.. لم يقبل منه) .
دليلنا: أنه أقر بحق عليه في مقابلة حق له لا ينفك أحدهما عن الآخر، فإذا لم يثبت ما له.. لم يثبت ما عليه، كما لو عين المبيع.

[فرع أقر له بخمسة دراهم في ثوب لسنة]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في (الإقرار والمواهب) : (إذا قال: عندي له خمسة دراهم في ثوب اشتريته منه إلى سنة) .
ومعناه: أني أسلمت إليه في ثوب خمسة دراهم إلى سنة، وصدقه المقر له.. نظرت: فإن قال ذلك بعد التفرق من مجلس السلم.. فقد بطل السلم. وإن كان قبل التفرق.. فلكل واحد منهما الخيار في فسخه.
وإن كذبه المقر له وقال: بل عنده لي خمسة دراهم دين لا عن سلم.. فالقول قول المقر له مع يمينه؛ لأن المقر وصل بإقراره ما يرفعه، فلم يقبل.
وإن قال: له عندي ثوب في خمسة دراهم، ومعنى ذلك: دفع إلي ثوبا بخمسة دراهم.. كان مقرا بخمسة دراهم.
وإن قال: له عندي ثوب فيه خمسة دراهم.. كان مقرا له بالثوب دون الدراهم، كما قلنا في قوله: له عندي جراب فيه تمر.

[مسألة أقر بحق ثم وصله بما يسقطه]
إذا أقر له بحق ثم وصله بما يسقطه لا من الوجه الذي أثبته؛ مثل أن يقول: تكفلت ببدن فلان على أني بالخيار، أو له عندي ألف من ثمن خمر أو كلب، أو من ثمن مبيع

(13/467)


هلك قبل القبض، أو له علي ألف قضيته إياها.. فهل يقبل قوله في ذلك؟ فيه قولان:
أحدهما: يقبل قوله - وبه قال أبو حنيفة - لأنه يحتمل ما قاله، كما لو قال: من ثمن مبيع لم أقبضه.
والثاني: لا يقبل قوله؛ لأنه وصل إقراره بما يسقطه فلم يقبل منه، كما لو قال: له علي ألف درهم إلا ألف درهم.
فأما إذا وصله بما يرفعه من الوجه الذي أثبته؛ بأن قال: له علي ألف درهم إلا درهما.. فإنه لا يقبل.
وإن قال: له علي ألف درهم إلى سنة.. فاختلف أصحابنا فيه.
فمنهم من قال: هي على قولين، كما لو قال: له علي ألف درهم قضيته إياها.
ومنهم من قال: يقبل منه قولا واحدا؛ لأن ذلك لا يسقط الإقرار وإنما يؤخره.
وقال أبو حنيفة: (يكون مدعيا للأجل، والقول فيه قول المقر له مع يمينه) .
دليلنا: أن الأجل أحد نوعي الدين، فوجبت أن يثبت بالإقرار كالحلول.

[فرع ادعى عليه مائة فقال قضيتك منها خمسين]
وإن ادعى على رجل مائة درهم، فقال المدعى عليه: قد قضيتك منها خمسين.. فقد صار مقرا له بهذه الخمسين ومدعيا لقضائها، وهل يقبل قوله في القضاء؟ على القولين. وأما الخمسون الأخرى: فالقول قول المدعى عليه مع يمينه فيها؛ لأن الأصل براءة ذمته منها.

[فرع الإقرار بملكه أو قبضه عبدا من فلان]
قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - في (الإقرار والمواهب) : (إذا قال: ملكت هذا

(13/468)


العبد من فلان أو قبضته منه.. كان إقرارا له بالملك واليد، فإن كذبه فلان في انتقاله إليه.. كان القول قوله مع يمينه، فإذا حلف.. رد إليه. وإن قال: ملكته على يد فلان أو أخذته أو قبضته أو وصل على يديه.. لم يكن إقرارا له بالملك ولا باليد؛ لأن قوله: (على يده) يقتضي معاونته.
وإن قال أودعني ألفا فلم أقبضها، أو أقرضني أو أعطاني أو أنقدني ألفا فلم أقبضها.. قبل قوله إذا كان متصلا، ولا يقبل إذا كان منفصلا) .
وقال أبو يوسف: لا يقبل قوله في أنقدني ألفا.
دليلنا: أنه لم يقر بالقبض فلم يلزمه، كما لو قال: أقرضني فلم أقبضه.

[مسألة أقر لزيد ثم قال: لا بل لعمرو]
وغير ذلك] :
إذا قال: هذه الدار لزيد، لا بل لعمرو، أو غصبت هذه الدار من زيد، لا بل من عمرو، أو قال: غصبتها من زيد وغصبها زيد من عمرو.. فالحكم في ذلك كله واحد، ويلزمه تسليم الدار إلى زيد؛ لأنه أقر له بها. وهل يلزمه أن يغرم لعمرو قيمة الدار؟ فيه قولان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأنه أقر للثاني بما عليه، وإنما منع الشرع من قبوله، وذلك لا يوجب الضمان.
والثاني: يجب عليه أن يغرم لعمرو قيمة الدار، وهو الأصح؛ لأنه حال بينه وبين الدار بإقراره الأول، فلزمه أن يغرم له، كما لو شهد رجلان عل رجل بعتق عبده، فحكم الحاكم بشهادتهما ثم رجعا عن الشهادة.
وحكى المسعودي [في ((الإبانة)) ق\297] : أن من أصحابنا من قال: إذا قال: هذه الدار لزيد، بل لعمرو ولم يقل: غصبتها.. أنه لا يغرم لعمرو شيئا قولا واحدا؛ لأنه لم يقر بالجناية على نفسه. والصحيح هو الأول.

(13/469)


ولا فرق بين أن يوالي الإقرار لهما، أو أن يفصل بينهما بفصل طويل أو قصير.
واختلف أصحابنا في موضع القولين:
فمنهم من قال: القولان إذا سلمها الحاكم إلى زيد، أو حكم عليه الحاكم بالتسليم وأجبره على تسليمها. فأما إذا سلمها المقر بنفسه إلى زيد.. فإنه يغرم لعمرو قيمتها قولا واحدا؛ لأنه ضمنها بالتسليم.
ومنهم من قال: القولان في الحالين، وهو الصحيح؛ لأن الحاكم إنما يسلمها أو يخبره بإقراره.
وإن باع من رجل عينا وأخذ ثمنها، ثم أقر بها لغيره.. لم يقبل إقراره بها للثاني لحق المشتري. وهل يلزمه أن يغرم قيمتها للثاني؟ اختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: فيه قولان كالأولى. ومنهم من قال: يلزمه أن يغرم له قيمتها قولا واحدا؛ لأنه قد أخذ عوضها.
وإن أقر رجل أن الدار التي في تركة أبيه لزيد، لا بل لعمرو، وسلمت إلى زيد.. فهل يغرم لعمرو قيمتها؟
قال ابن الصباغ: من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما لو قال: غصبتها من زيد، لا بل من عمرو. ومنهم من قال: لا يغرم لعمرو شيئا قولا واحدا.
والفرق بينهما: أن هاهنا أقر بما يغلب على ظنه، ولا يوجد ذلك منه بالعلم والإحاطة، وإذا أقر بمال نفسه.. حمل أمره على العلم والإحاطة، فلم يعذر في الرجوع.
فإن كان في يده دار، فقال: غصبتها من زيد وملكها لعمرو.. وجب عليه تسليمها إلى زيد؛ لأن قوله: (غصبتها من زيد) يقتضي: أنها كانت في يده بحق، وقوله: (وملكها لعمرو) لا ينافي ذلك؛ لأنها قد تكون في يد زيد بإجارة أو موصى له بمنفعتها وملكها لعمرو. ولا تقبل شهادته لعمرو؛ لأنه قد أقر أنه غاصب، وشهادة الغاصب غير مقبولة، ولا يلزمه أن يغرم لعمرو قيمتها قولا واحدا؛ لأنه لم يكن منه تفريط إلا أن يعلم المقر أنها في يد زيد بغير حق.. فلا يجوز له تسليمها إليه فيما بينه وبين الله تعالى، فإن سلمها إليه ضمنها.

(13/470)


فأما إذا قال: هذه الدار ملكها لعمرو وغصبتها من زيد.. فاختلف أصحابنا فيه:
فمنهم من قال: الحكم فيها كالحكم في التي قبلها؛ لأنه لا فرق بين أن يقدم ذكر الغصب أو الملك؛ لأنهما لا يتنافيان على ما مضى.
ومنهم من قال: يلزمه هاهنا أن يسلمها إلى زيد، وهل يلزمه أن يغرم لعمرو؟ فيه قولان، كما قلنا فيه إذا قال: هذه الدار لزيد، لا بل لعمرو.
وحكى ابن الصباغ: أن من أصحابنا من قال: يلزمه أن يسلمها إلى عمرو، وهل يضمنها لزيد؟ على قولين؛ لأنه أقر بالملك لعمرو، فلم يقبل إقراره باليد لزيد.

[فرع أقر بغصب عبد من أحد رجلين]
إذا قال: غصبت هذا العبد من أحد هذين الرجلين.. فإنه يطالب بتعيين المغصوب منه منهما.
فإن قال: لا أعرف عينه.. نظرت: فإن صدقاه على ذلك.. انتزع العبد من يده وكانا خصمين فيه. وإن كذباه وادعى كل واحد منهما أنه يعلم أنه غصبه منه.. فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بفعله، فإذا حلف.. انتزع منه العبد وكانا خصمين فيه، وإن نكل.. حلف المدعي وكان كما لو أقر له.
وإن قال المقر له: هو لهذا.. فإنه يكون له لا ويغرم للآخر شيئا قولا واحدا؛ لأنه لم يقر له بشيء. فإن قال الآخر: أحلفوه أنه لا يعلم أنه لي.. فهل يلزمه أن يحلف؟ يبنى على القولين فيه إذا أقر له به بعد الأول:
فإن قلنا: يلزمه أن يغرم له قيمته.. لزمه أن يحلف له؛ لجواز أن يخاف اليمين فيقر.
وإن قلنا: لا يلزمه أن يغرم له قيمته.. لم يلزمه أن يحلف؛ لأنه لا فائدة في عرض اليمين عليه.

(13/471)


[مسألة ادعى عبده أن سيده أعتقه فأنكر السيد فأقام العبد شاهدين ثم اشتراه أحدهما]
وإن كان في يده عبد، فادعى عليه أنه أعتقه فأنكر، فأقام عليه شاهدين بأنه أعتقه، فإن قبلت شهادتهما.. عتق، وإن ردت شهادتهما.. فالقول قول السيد مع يمينه، فإذا حلف.. استقر ملكه عليه.
فإن اشتراه الشاهدان أو أحدهما.. حكم بصحة البيع من جهة البائع؛ لأنه محكوم له بملكه، ويكون الشراء من جهة المشتري ابتداء، كما إذا وجد المسلم مع المشرك أسيرا مسلما فاشتراه.. فإنه يكون استنقاذا. فإذا أنفذ البيع.. حكم بعتقه على المشتري؛ لتقدم إقراره بعتقه، ويثبت عليه الولاء؛ لأن العتق لا ينفك عن الولاء، ويكون موقوفا؛ لأن المشتري لا يدعيه والبائع لا يدعيه.
فإن مات هذا العبد وخلف مالا، فإن كان له وارث مناسب أو من له فرض.. ورث ميراثه. وإن لم يكن له وارث.. نظرت: فإن أقر البائع أنه قد كان أعتقه.. قبل قوله ولزمه رد الثمن على المشتري، وكان مال المعتق أو ما بقي عن أهل الفرض له؛ كما إذا لاعن امرأته ونفى نسب ولدها، ثم مات الولد وخلف مالا.. فأكذب الرجل نفسه.
وإن لم يقر البائع أنه قد كان أعتقه، لكن اعترف المشتري أنه كان قد كذب في الشهادة في العتق.. لم يقبل قوله في إبطال العتق، ولكن يكون له أخذ مال المعتق بالولاء؛ لأنه حكم بعتقه عليه.
وإن أقر البائع أنه كان أعتقه، وأقر المشتري أنه كان شهد بالزور.. فالذي يقتضي المذهب: أن ماله يوقف بينهما إلى أن يصطلحا عليه؛ لأنه لا مزية لقول أحدهما على الآخر.
وإن لم يقر البائع بعتقه، ولا رجع المشتري عن شهادته بالعتق.. فنقل المزني أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قال: (أوقفت المال حتى يجيء من يدعي الولاء) .

(13/472)


قال المزني: ينبغي أن يكون للمشتري أن يأخذ من مال المعتق أقل الأمرين: من ثمنه أو المال؛ لأنه إن كان صادقا.. فالثمن له دين على البائع، وما ترك المعتق.. فهو للبائع، فكان للمشتري أخذ ما دفع من الثمن من مال البائع، كمن له على رجل حق وامتنع من دفعه ووجد من له الحق مالا له. وإن كان المشتري كاذبا في الشهادة.. فقد عتق عليه، فكان له أخذ ماله.
فمن أصحابنا من غلط المزني وقال: ليس للمشتري ذلك؛ لأنه يقول: إن كنت صادقا في شهادتي.. فقد خلصته من الرق وتطوعت بدفع الثمن فلا أرجع به. وإن كنت كاذبا في الشهادة.. فلا حق لي على البائع.
ومن أصحابنا من قال: بل ما قاله المزني هو الصحيح، وقد نص عليه الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في (الإقرار) بالحكم الظاهر كما ذكره المزني، ودفعه للثمن على وجه القربة لا يسقط رجوعه عنه. ألا ترى أن مسلما لو افتدى مسلما من أيدي المشركين بمال، ثم غلب المسلمون المشركين ووجد ماله.. فإن له أخذه ويختص به من بين سائر المسلمين؟
فإن كانت بحالها فمات البائع وخلف ابنا، ثم مات المعتق.. فالذي يقتضي المذهب: أن ابن البائع إذا أقر أن أباه كان قد أعتق العبد في حياته.. أن له أن يأخذ مال المعتق ويرد إلى المشتري ما دفع من الثمن إن وجده بعينه أو بدله إن ترك أبوه معه تركة، وإن لم يترك أبوه معه تركة.. لم يلزمه أن يغرم.
وإن لم يقر ابن البائع بأن أباه أعتقه في حياته، لكن أقر المشتري أنه كذب في الشهادة بالعتق.. فإن له أخذ مال المعتق بالولاء.
وإن لم يقر ابن البائع بالعتق، ولا رجع المشتري عن الشهادة.. فليس للمشتري أن يأخذ من مال المعتق شيئا؛ لأنه يقر أنه مال لابن البائع، ولا يستحق عليه شيئا، وإنما يدعي بالثمن على أبيه.
وإن مات المشتري وخلف ابنا.. فالذي يقتضي المذهب: أنه إذا أقر أن أباه كذب

(13/473)


في شهادته.. كان له مال المعتق؛ لأنه قد يتوصل إلى ذلك بإخبار أبيه له في حياته، فكان كما لو أقر الأب بذلك.

[مسألة مات وخلف تركة وابنين فادعى رجل دينا فصدقه أحدهما]
وإن مات رجل وخلف ابنين وتركه، فادعى رجل أن له على أبيهما دينا، فأنكره أحدهما وصدقه الآخر، فإن كان عدلا.. قبلت شهادته له وحلف معه.. استحق دينه. وإن كان غير عدل.. فالمنصوص: (أنه لا يلزم المقر إلا حصته من الدين) .
قال أبو عبيد ابن حربويه وأبو جعفر الاستراباذي: وفيها قول آخر: أنه يلزمه جميع الدين. فجعلاها على قولين - وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق -:
أحدهما: يلزمه جميع الدين - وبه قال أبو حنيفة - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] [النساء: 12] فرتب الميراث على الوصية والدين، فاقتضى الظاهر: أنه لا يحصل للمقر شيء من التركة إلا من بعد قضاء جميع الدين. ولأن المقر يقول: أخي ظالم بجحوده الدين وغاصب لما أخذه من التركة، ولو غصب بعض التركة غاصب.. لتعلق جميع الدين بالباقي، فكذلك هذا مثله.
والثاني: لا يزم المقر إلا حصته من الدين، وهو الأصح؛ لأن إقرار المقر تضمن تعلق جميع الدين بجميع التركة، كما لو قامت به بينة. فإذا لم يقبل إقراره في حق أخيه.. لم يلزمه أكثر مما يتعلق بنصيبه، كما لو قال: له علي وعلى أخي كذا وكذا.. فإنه لا يلزمه إلا حصته. ولأنه لا خلاف أنه إذا أقر أحد الابنين أن أباه أوصى لرجل بثلث ماله وكذبه أخوه.. فإنه لا يلزم المقر إلا ثلث ما بيده من التركة، فكذلك هذا مثله. ولأنه لا خلاف أن شهادته مقبولة، فلو كان جميع الدين يتعلق بنصيبه.. لم تقبل شهادته؛ لأنه يدفع بها عن نفسه ضررا.
وقال أكثر أصحابنا: لا يلزم المقر إلا حصته من الدين قولا واحدا؛ لما ذكرناه.
قال الشيخ أبو حامد: وأظن أن أبا عبيد وأبا جعفر أخذا هذا القول من قول

(13/474)


الشافعي: (إذا قتل رجل وعليه دين، وخلف ابنين وهناك لوث، فحلف أحد الابنين خمسين يمينا.. فإنه يقضى له بنصف الدية ويقضى جميع الدين من ذلك النصف) .
والفرق بينهما: أن الميت هناك لم يثبت له تركة إلا نصف الدية، فكان جميع دينه فيها، وهاهنا للمنكر نصف التركة، فلم يتعلق جميع الدين بنصف التركة. ولأن في القسامة قد أقر الابنان بالدين، وهاهنا أحد الابنين منكر عين الدين.

[مسألة الإقرار بالنسب وشروطه]
الإقرار بالنسب جائز ويثبت النسب به. وذهب بعض الناس إلى: أن النسب لا يثبت بالإقرار.
دليلنا: ما روي: «أن سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة اختصما في ابن أمة زمعة، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الولد للفراش، وللعاهر الحجر» فقضى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد بالإقرار.
إذا ثبت هذا: فر يخلو المقر: إما أن يقر بالنسب على نفسه، أو على غيره.
فإن أقر على نفسه؛ بأن ادعى بنوة غيره، فإن كان المقر به صغيرا أو مجنونا.. لم يثبت نسبه إلا بثلاث شرائط:
إحداهن: أن يكون المقر به مجهول النسب، فأما إذا كان معروف النسب من رجل.. لم يحكم بصحة إقرار المقر؛ لأن في ذلك إبطال نسبه الثابت.
الشريطة الثانية: إذا كان لا ينازع المقر فيه أحد، فأما إذا كان هناك غيره يدعي بنوته حال الدعوى.. لم يحكم بثبوت نسبه من أحدهما إلا بالإقرار؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر.

(13/475)


الشريطة الثالثة: إذا كان المقر به يمكن أن يكون ابنا للمقر؛ بأن يقر من هو ابن خمس عشرة سنة ببنوة من هو ابن خمس سنين أو أقل، فأما إذا أقر ببنوة من هو ابن سبع سنين أو أكثر.. لم يحكم بصحة إقراره؛ لأنا نقطع بكذبه.
إذا ثبت هذا: وأقر رجل ببنوة صغير أو مجنون مجهول النسب مما يجوز أن يكون ابنا للمقر، ثم بلغ الصغير أو عقل المجنون، فأنكر نسبه من المقر ولم يصادقه المقر على إنكاره.. لم يسمع إنكاره؛ لأن نسبه قد ثبت من المقر فلا يبطل بإنكاره، كما لو ادعى ملك صغير في يده مجهول الحرية، ثم بلغ الصغير وأنكر الرق.. فإنه لا يقبل إنكاره. فإن صادقه المقر أنه ليس بابنه.. فهل يسقط نسبه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يسقط نسبه، كما لو أقر بمال فكذبه المقر له وصدقه المقر.
والثاني: لا يسقط، وهو الأصح؛ لأن النسب إذا ثبت.. لم يسقط، كالنسب الثابت بالفراش.
وإن كان المقر به بالغا عاقلا.. لم يثبت نسبه إلا بالشرائط المتقدمة، ويشترط مع ذلك شريطة رابعة؛ وهو: أن يصادقه المقر به؛ لأنه يمكن تصديقه فاعتبر ذلك، بخلاف الصغير والمجنون.

[فرع أقر بأن مملوكه وهو أكبر منه أنه ابنه]
إذا أقر رجل لمن هو أكبر منه أنه ابنه، وكان المقر به مملوكا للمقر.. فقد قلنا: إنه لا يثبت نسبه منه، ولا يعتق عليه عندنا. وقال أبو حنيفة: (يعتق عليه) .
دليلنا: أنه أقر بما يقطع بكذبه فيه، فلم يتعلق به حكم، كما لو قال لامرأته: إنها ابنته وهي أكبر منه.. فإن النكاح لا ينفسخ بينهما.

(13/476)


[فرع إقراره ببنوة صغير وعلاقته بإثبات زوجية أمه]
وإن أقر ببنوة صغير.. لم يكن إقرار بزوجية أمه.
وقال أبو حنيفة: (يكون إقرارا بزوجية أمه إذا كانت مشهورة الحرية) .
دليلنا: أنه أقر بولد فلم يكن إقرارا بزوجية أمه، كما لو تكن مشهورة الحرية.

[فرع أقر ببنوته لميت مجهول النسب]
وإن أقر ببنوة ميت مجهول النسب يجوز أن يكون ابنا له، فإن كان المقر به صغيرا أو مجنونا.. ثبت نسبه من المقر وورثه.
وقال أبو حنيفة: (لا يثبت نسبه؛ لأنه متهم أنه قصد أخذ ماله) .
دليلنا: أنه سبب يثبت به نسبه كما لو كان حيا، فيثبت به نسبه إذا كان ميتا كالبينة.
وأما ثبوت التهمة.. فلا يمنع من صحة الإقرار، ألا ترى أنه يقبل إقراره بنسبه في حياته وإن كان متهما ليتصرف في ماله، وتجب نفقته فيه إذا كان معسرا؟
فإما إذا كان الميت المقر به بالغا عاقلا.. ففيه وجهان:
أحدهما: لا يثبت نسبه؛ لأنه يعتبر في ثبوت نسبه تصديقه، وذلك غير ممكن بعد موته.
والثاني: يثبت، وهو الأصح؛ لأن تصديقه متعذر منه بعد موته، فسقط اعتباره، كالصغير والمجنون.

[فرع الإقرار بالنسب على غيره]
وإن كان المقر بالنسب يحتمل نسب المقر به على غيره.. لم يثبت بذلك النسب بينه وبينه. فإن كان من بينه وبينه حيا.. لم يصح إقرار المقر؛ لأنه فرع لغيره، فلا يثبت النسب إلا بعد ثبوته من الأصل. وإن كان من بينه وبينه ميتا؛ بأن يقر برجل أنه

(13/477)


أخوه لأبيه أو لأمه أو لأب وأم ميتين، فإن كان المقر لا يرث أباه أو أمه؛ بأن كان عبدا أو كافرا أو قاتلا.. لم يثبت إقراره بأخيه؛ لأنه إذا لم يقبل إقراره على أبيه أو أمه بدين.. فلأن لا يقبل إقراره عليهما بابن لهما أولى.
وإن كان يجوز ميراثهما.. نظرت في المقر به: فإن كان بحيث لو أقر به الأب أو الأم لم يثبت نسبه منه؛ بأن كان المقر به أكبر أو ثابت النسب من غيرهما.. لم يصح الإقرار. وإن كان بحيث لو أقر به الأب أو الأم قبل إقراره.. نظرت: فإن كان الأب أو الأم قد نفى نسبه عن نفسه.. فذكر الشيخ أبو إسحاق: أنه لا يقبل إقرار الأخ به؛ لأنه يريد أن يحمل على غيره نسبا قد نفاه عن نفسه.
وذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: أنه إذا نفى نسب ولده باللعان، ثم مات الأب وأقر به وارثه.. ثبت نسبه؛ لأن تركته قد صارت له، فقبل إقراره.
وإن لم ينف الأب أو الأم نسب المقر به.. ثبت نسبه بإقرار الوارث لهما.
وقال مالك وأبو حنيفة: (لا يثبت) .
دليلنا: ما روي: «أن سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة تنازعا في ابن أمة زمعة، فقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي، ولد على فراشه، فقضى به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد بن زمعة» .

[فرع مات وخلف ابنين فأقر أحدهما بأخ له من أبيه]
إذا مات رجل وخلف ابنين، فأقر أحدهما بأخ له من أبيه، وأنكر الثاني ذلك.. لم يثبت نسب المقر به؛ لأن النسب لا يتبعض فلا يمكن إثباته في حق المقر دون المنكر، وهو إجماع. وهل يشارك المقر به المقر فيما في يده من التركة؟
قال أصحابنا الخراسانيون: فيه قولان:
أحدهما: لا يشاركه. وهو المشهور.

(13/478)


والثاني: يشاركه. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد.
وقال سائر أصحابنا العراقيين: لا يشاركه في الحكم قولا واحدا؛ لأنه أقر بنسب لم يثبت فلم يشارك في الميراث، كما لو أقر بنسب مشهور النسب. وهل يلزم هذا المقر إذا كان صادقا في إقراره فيما بينه وبين الله تعالى أن يدفع إليه ما يستحق مما في يده؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يلزمه؛ لأنه إنما يستحق ذلك بالنسب، ولم يثبت نسبه.
والثاني: يلزمه، وهو الأصح؛ لأن نسبه ثابت فيما بينه وبين الله تعالى.
فإذا قلنا بهذا: فكم يلزمه أن يدفع إليه؟ فيه وجهان:
أحدهما: نصف ما في يده - وهو قول أبي حنيفة - لأنهما اتفقا على أن المنكر أخذ الذي أخذه وهو لا يستحقه فصار كالغاصب.
والثاني: لا يلزمه أن يدفع إليه إلا ثلث ما في يده - وهو قول مالك - لأن التركة بينهم أثلاث فلا يستحق مما في يده إلا الثلث، كما لو قامت بينة على نسبه.
وأصل هذين الوجهين: القولان في أحد الابنين إذا أقر بدين على أبيه فكذبه أخوه.
وحكى ابن اللبان وجها ثالثا: أنه يدفع إليه ثلث ما في يده ويضمن له سدس ما بيد أخيه؛ لأن يده قد ثبتت على نصف جميع التركة وسلم إلى أخيه ذلك. ولو كان الحاكم حكم عليه بالقسمة وأقرع بينه وبين أخيه.. لم يلزمه ضمان ذلك.
فعلى هذا: لو لم يعلم بالأخ المجهول حين قاسمه أخوه.. فهل يضمن له؟ فيه وجهان:
أحدهما: يضمن؛ لأنه قاسمه وسلمه.
والثاني: لا يضمن؛ لأن القسمة وجبت في الظاهر.

(13/479)


[فرع مات وخلف ورثة وأنكر بعضهم النسب من الميت]
وإن مات رجل وخلف جماعة ورثة، فإن أقر اثنان منهم بنسب الميت وأنكر الباقون.. لم يثبت نسب المقر به، سواء كان المقران عدلين أو فاسقين.
وقال أبو حنيفة: (يثبت؛ لأن قولهما بينة) .
دليلنا: أنه إقرار من بعض الورثة، فلم يثبت به النسب، كما لو كانا فاسقين. ولأنه لو كانت بينة.. لاعتبر فيها لفظ الشهادة.

[فرع ادعى مجهول أنه أخ لجماعة من أبيهم]
وإن مات رجل وخلف أولادا معروفي النسب منه، فادعى رجل مجهول النسب أنه أخوهم لأبيهم فأنكروه، فإن أقام بينة.. قضي له. وإن لم يكن معه بينة.. فالقول قولهم مع أيمانهم؛ لأن الأصل عدم ثبوت نسبه. فإن حلفوا له.. فلا كلام، وإن ردوا عليه فحلف.. ثبت نسبه ويشاركهم في الميراث. وإن حلف له البعض، ونكل البعض عن اليمين.. فهل يحلف المدعي على الذي رد عليه اليمين؟
إن قلنا: إنه يشاركه في الميراث لو أقر له.. حلف.
وإن قلنا: لا يشاركه.. فهل يحلف له؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحلف؛ لأن يمينه لا تفيد لأجل من حلف.
والثاني: يحلف؛ لأن الحالفين قد يقرون فتثبت يمينه على الناكلين، ولا يؤمن إذا لم يحلف أن لا ينكلوا بعد ذلك.

[فرع إقرار أحد الابنين بزوجة لأبيهما]
وإن مات رجل وخلف ابنين، فأقر أحدهما بزوجة لأبيه وارثة وأنكر أخوه:

(13/480)


فإن قلنا: لو أقر بأخ ثالث وأنكره الآخر شاركه فيما في يده.. فهاهنا أولى.
وإن قلنا: لا يشاركه الأخ.. فهل تشاركه الزوجة فيما في يده؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا تشاركه، كما لو أقر بأخ.
والثاني: تشاركه؛ لأن المقر به حصتها من الميراث.
أما الزوجية: فقد زالت بالموت، فإذا قلنا: تشاركه.. فبكم تشاركه؟ على الأوجه الثلاثة في الأخ.

[فرع مات وخلف بنتا فأقرت بأخ لها من أبيها ولا وارث غيرها]
وإن مات رجل وخلف بنتا لا غير، فأقرت بأخ لها من أبيها ولم يكن هناك عصبة، فإن كانت تحوز جميع الميراث؛ بأن كانت مولاة.. ثبت نسب الابن المقر به وورث معها. وإن كانت لا تحوز جميع الميراث.. فإن باقي الميراث للمسلمين.
فإن لم يقر معها الإمام.. لم يثبت النسب، فإن قلنا: لا يشاركها فيما بيدها.. فلا كلام.
وإن قلنا: يشاركها، فإن قلنا: إن الأخ الذي أقر به الأخ مع إنكار أخيه يأخذ منه ثلث ما بيده.. قال القاضي أبو الفتوح: أخذ الأخ هاهنا خمسي ما بيدها.
والذي يقتضي المذهب: أنه يأخذ ثلث ما بيدها لا غير على هذا.
وإن قلنا: إن الأخ يأخذ من أخيه نصف ما بيده.. أخذ الأخ هاهنا ثلثي ما بيدها.
وإن أقر معها الإمام.. فهل يثبت نسب المقر به؟ فيه وجهان - حكاهما الشيخ أبو إسحاق -:
أحدهما: لا يثبت نسب المقر به؛ لأن الإمام لا يرث المال، وإنما هو نائب عن المسلمين في القبض فلم يثبت إقراره، كالوكيل إذا أقر على موكله بغير إذنه.
والثاني: يثبت نسبه - ولم يذكر ابن الصباغ غيره - لأنه نافذ الإقرار في بيت المال.

(13/481)


[فرع أقرت امرأة أو خنثى بولد]
فإن أقرت المرأة بولد يمكن أن يكون منها.. ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: يقبل.
والثاني: لا يقبل.
والثالث: إن كانت غير فراش لرجل.. قبل، وإن كانت فراشا.. لم يقبل، وقد مضت هذه الأوجه بعللها في (اللقيط) .
قال ابن اللبان: فمن قبل إقرار المرأة بالولد.. قبل إقرار ورثتها بولدها، ومن لم يقبل إقرارها.. لم يقبل إقرار ورثتها إلا أن يصدقهم زوجها. قال: وكذلك من قبل إقرار المرأة.. قبل الإقرار بالأم، ومن لم يقبل إقرار المرأة.. لم يقبل الإقرار بالأم لإمكان إقامة البينة. وإن أقر الخنثى بولد، فإن بان رجلا.. فهو كالرجل، وإن بان امرأة.. فقد مضى بيان حكم إقرار المرأة. وإن كان باقيا على الإشكال: فإن قلنا: للمرأة دعوى في النسب.. ثبت نسبه؛ لأنه إن كان رجلا.. ثبت، وإن كان امرأة.. صح.
فعلى هذا: إذا مات الولد المقر به قبل أن يتبين حال الخنثى.. ورث منه ميراث أم ووقف الباقي على البيان. وإن قلنا: لا دعوى للمرأة.. قال القاضي: احتمل أن لا يقبل إقرار الخنثى لاحتمال كونه امرأة، ويحتمل أن يقبل، وهو الصحيح. ويثبت النسب بقوله؛ لأن النسب يحتاط لإثباته ولا يحتاط لإسقاطه.
فإن مات الخنثى المقر، ثم مات الولد المقر به وللخنثى إخوة.. فهل يرثون الولد إذا كان خلف مالا؟ قال القاضي: الذي يقتضيه المذهب: أنهم لا يرثون؛ لأنهم يحتملون أن يكونوا أعماما فيرثوا، ويحتمل أن يكونوا أخوالا فلا يرثوا، فلم يرثوا مع الشك. ولو مات هذا الخنثى وخلف أبويه، ثم مات الولد المقر به.. فإن الأب لا يرث من ولد الخنثى، وترث أم الخنثى منه.
ولو قتل هذا الولد.. لم يكن لإخوة الخنثى ولا لأبيه القصاص. ولو أبرأ أبو الخنثى القاتل.. احتمل أن يقال: سقط القصاص عن هذا القاتل؛ لأن القصاص

(13/482)


يسقط بالشبهة، ويحتمل أن يكون جدا أبا أب، ولسنا نقطع بكونه غير وارث أصلا.
قال: ويحتمل أن لا يسقط القصاص وهو الظاهر.

[فرع مات عن زوجة وأخ لأب وأقرت الزوجة بابن]
وإن مات رجل وخلف زوجة وأخا لأب، فأقرت الزوجة بابن للميت وأنكر الأخ.. لم يثبت نسب الابن. فإن كان المال في يد الأخ.. لم تأخذ الزوجة منه إلا الثمن؛ لأنه لا تدعي سواه. وإن كان في يدها.. لم يأخذ الأخ إلا ثلاثة أرباعه. هكذا ذكر أكثر أصحابنا. قال ابن الصباغ: لها أن تأخذ الربع من الأخ؛ لأن ذلك لا يلزمها في الحكم. فإذا أخذت الربع.. وجب عليها فيما بينها وبين الله تعالى أن تدفع نصفه إلى الابن الذي أقرت به.

[فرع مات عن ابنين أحدهما مجنون فأقر العاقل بثالث]
وإن مات رجل وخلف ابنين، أحدهما بالغ عاقل والآخر مجنون أو صغير، فأقر البالغ العاقل بأخ ثالث.. لم يثبت نسبه؛ لأنه لا يحوز جميع الميراث.
فإن أفاق المجنون أو بلغ الصبي وأقر معه بالأخ الذي أقر به.. ثبت نسبه.
وإن مات الصغير أو المجنون: فإن كان لهما وارث غير الأخ البالغ المقر.. قام مقامهما في الإقرار. وإن لم يكن لهما وارث غير الأخ البالغ العاقل.. ثبت نسب المقر به بإقراره الأول؛ لأنه قد صار جميع الورثة.
وإن مات رجل وخلف ابنين عاقلين بالغين، فأقر أحدهما بأخ ثالث وأنكره أخوه، ثم مات المنكر ولا وارث له غير المقر.. فهل يثبت نسب المقر به؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يثبت؛ لأن النسب لا يثبت مع إنكار الورثة، وقد كان الأخ منكرا لنسبه.
والثاني: يثبت نسبه، وهو المذهب؛ لأن المنكر سقط إنكاره بموته، وقد صار المقر جميع الورثة.
فعلى هذا: إن خلف المنكر ولدا.. اعتبر إقراره مع عمه؛ لأنه يقوم مقام أبيه.

(13/483)


[فرع أقر بالغ عاقل بأخ مثله ثم أقر بثالث]
وإن مات رجل وخلف ابنا بالغا عاقلا فأقر بأخ بالغ عاقل فصدقه.. ثبت نسبه. فإن أقرا معا بنسب أخ ثالث بالغ عاقل.. ثبت نسب الثالث. فإن أنكر الثالث نسب الثاني.. ففيه وجهان - حكاهما الشيخ أبو إسحاق -:
أحدهما: لا يقبل إنكاره؛ لأنه فرع له، فلا يسقط بقوله.
والثاني - ولم يذكر ابن الصباغ غيره -: أنه يسقط نسب الثاني؛ لأن الثالث ابن وارث، فاعتبر إقراره في ثبوت نسب الثاني، وهاهنا يقول الثالث: أدخلني أخرجك.

[فرع مات مسلم أو كافر وخلف ابنين مسلما وكافرا فأقر أحدهما بثالث]
وإن مات مسلم وخلف ابنين وكافرا، فأقر الابن المسلم بأخ ثالث.. ثبت نسبه؛ لأنه هو الوارث. فإن كان المقر به مسلما.. ورث معه، وإن كان كافرا.. لم يرث. وإن مات كافر وخلف ابنين مسلما وكافرا، فأقر الكافر بأخ ثالث.. ثبت نسبه. فإن كان المقر به كافرا.. ورث، وإن كان مسلما.. لم يرث.

[فرع مات وخلف ابنا فأقر بأخوين أو بتوأمين]
وإن مات رجل وخلف ابنا، فأقر بأخوين في وقت واحد، فصدق كل واحد منهما صاحبه.. ثبت نسبهما. وإن كذب كل واحد منهما صاحبه.. لم يثبت نسبهما. وإن صدق أحدهما صاحبه وكذبه الآخر.. ثبت نسب المصدق دون المكذب.
وإن أقر الابن بنسب أحد التوأمين.. ثبت نسبهما، فإن أقر بهما وكذب أحدهما الآخر.. لم يؤثر التكذيب في نسبهما؛ لأنهما لا يفترقان في النسب.

[فرع الإقرار بعم]
فرع: [في الإقرار بعم] :
وإن كان بين المقر والمقر به اثنان؛ مثل أن يقر بعم. فقد قال بعض أصحابنا: يعتبر تصديق الأب والجد.

(13/484)


والذي يقتضي المذهب: أنه لا يعتبر تصديق الأب هاهنا، بل يكفي تصديق الجد؛ لأنه هو الأصل الذي يثبت النسب منه، ولو كذبه ابنه لم يؤثر تكذيبه، فلا معنى لاعتبار تصديقه الابن.

[مسألة خلف أخا لأب فأقر بابن]
وإن مات رجل وخلف أخا لأب، فأقر بابن للميت.. ثبت نسب الابن، وهل يرث؟ اختلف أصحابنا فيه: فقال أبو العباس: يرث - واختاره ابن الصباغ - لأنه إذا ثبت نسبه.. فالميراث مستحق بالنسب، فلا يجوز أن يثبت النسب ولا يثبت الميراث.
وقال سائر أصحابنا: لا يرث، وهو الأصح؛ لأنا لو ورثنا الابن.. لخرج الأخ عن أن يكون وارثا، وإذا لم يكن وارثا.. لم يقبل إقراره بالنسب؛ وإذا لم يقبل إقراره بالنسب.. لم يثبت نسب الابن ولا ميراثه؛ فإثبات الميراث له يؤدي إلى نفي نسبه وميراثه، فأثبتنا النسب وأسقطنا الميراث، ولنا مثل هذه المسألة ثمان مسائل:
إحداهن: إذا تزوجت الحرة بعبد بألف في ذمته، وضمن السيد عن المهر، ثم باعه منها بالألف التي ضمنها قبل الدخول.. فلا يصح البيع، وقد مضى بيانها في (الصداق) .
الثانية: إذا أعتق في مرض موته جارية وتزوجها، ثم مات.. فإنها لا ترثه، وقد مضى ذكرها.
الثالثة: إذا أعتق في مرض موته جارية قيمتها مائة وتزوجها على مائة، ومات وخلف مائتين لا غير.. فلا ميراث لها ولا صداق، وقد مضت أيضا.
الرابعة: إذا كانت له جارية قيمتها مائة، وزوجها من عبد على مائة وأعتقها قبل الدخول، وخلف مائة لا غير.. فلا يثبت لها الفسخ، وقد مضت أيضا.
الخامسة: إذا أعتق عبدين، ثم ادعى رجل أن المعتق كان غصبهما منه، وقد صارا عدلين فشهدا للمدعي بذلك.. فلا تقبل شهادتهما؛ لأنا لو قبلنا شهادتهما.. بطل عتقهما، وإذا بطل عتقهما.. بطلت شهادتهما.

(13/485)


السادسة: إذا أعتق عبدين في مرض موته وخرجا من ثلثه، فادعى رجل أن له على الميت دينا ينقص الثلث عن قيمتها وشهد له بذلك العبدان.. لم تقبل شهادتهما؛ لما مضى في التي قبلها.
السابعة: إذا اشترى أباه أو ابنه في مرض موته.. فإنه لا يرثه، وقد مضى بيانها.
الثامنة: إذا أوصى له بأبيه أو بابنه فقبل الوصية في مرض موته.. فإنه لا يرثه، وقد مضت.

[فرع خلف أخا لأب فجاء مجهول وادعى أنه ابن الميت]
وإن مات رجل وخلف أخا لأب، فجاء رجل مجهول النسب فادعى أنه ابن الميت، وأنكر الأخ، فإن كان مع الابن بينة.. قضي له، وإن لم يكن معه بينة.. فالقول قول الأخ مع يمينه.. فإن حلف الأخ.. انصرف المدعي، وإن نكل الأخ عن اليمن فحلف الابن.. ثبت نسبه، وهل يرث؟ إن قلنا: إن يمينه بمنزلة بينة يقيمها.. ورث. وإن قلنا: إنها كإقرار الأخ.. لم يرث على قول أكثر أصحابنا، ويرث على قول أبي العباس وابن الصباغ.

[مسألة إقرار مسلم بولد جاء مع امرأة رومية إلى دار الإسلام]
وإن خرجت امرأة من أرض الروم إلى دار الإسلام ومعها ولد صغير، فأقر رجل في دار الإسلام أنه ولده منها.. لحقه نسبه وإن لم يعرف الرجل أنه خرج إلى دار الروم، ولا عرفت المرأة أنها خرجت إلى دار الإسلام؛ لإمكان أن يكون الرجل خرج إلى دار الروم ولم يعلم به فأصابها بنكاح أو شبهة، أو خرجت إلى دار الإسلام ولم

(13/486)


يعلم بها فأصابها بنكاح أو شبهة، ويجوز أن يكون تزوجها وهي في دار الروم وبعث إليها بمائة فاستدخلته. هذا نقل أصحابنا العراقيين.
وقال القفال: إنما يلحق به الولد إذا كان إمكان الوطء بنكاح أو بشبهة نكاح حاصلا؛ بأن لا يعرف حاله، فأما إذا عرف حاله؛ بأن لم يغب عن أعيننا، أو غاب مدة لا يتصور بلوغه إلى تلك الأرض، وعلم أيضا أن المرأة لم تغب طوال عمرها إلى دار الإسلام إلى الآن، فلا يثبت النسب. وقال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في موضع: (لا يلحقه نسبه) .
وقال في موضع: (يلحقه نسبه) . وليست على قولين وإنما هي على اختلاف حالين:
وحيث قلنا: يثبت النسب.. فلا اعتبار بتصديق المرأة وتكذيبها؛ لأن النسب حقه وحق الولد وقد أقر به.
قال المسعودي [في ((الإبانة)) ق\299] : إذ صارت المرأة فراشا لرجل ومعها ولد، فأقرت أنه ولد لغيره.. لم يقبل قولها، بل القول قول صاحب الفراش.

[مسألة ادعاء نسب لأجل إرث]
إذا مات رجل ولا وارث له معروف، فجاء رجل وادعى أنه وارثه.. لم تسمع دعواه حتى يبين سبب الميراث؛ لأنه قد يعتقد أنه وارث بسبب لا يورث به كالمحالفة، أو يكون من ذوي الأرحام. فإن بين سببا يورث به.. لم يحكم له بالميراث حتى يقيم البينة وشاهدين ذكرين عدلين ويذكرا نسبا أو سببا يورث به، فإن ذكرا وقالا: لا نعلم له وارثا سواه وهما من أهل الخبرة الباطنة بحاله.. حكم للمدعي بالميراث. وحكي عن ابن أبي هريرة أنه قال: لا يثبت الإرث حتى يقولا: لا وارث له غيره على وجه القطع؛ لأنهما إذا قالا: لا نعلم له وارثا سواه.. فلم ينفيا غيره ويجوز أن يكون هناك وارث غيره موجود لا يعلمانه. وهذا خطأ؛ لأنهما لا يمكنهما

(13/487)


ذلك؛ لجواز أن يكون تزوج امرأة سرا، أو وطئ امرأة بشبهة وأتت منه بولد. فإن قالا: نشهد أنه لا وارث له غيره.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (سألتهما عن ذلك، فإن قالا: أردنا أنا لا نعلم له وارثا غيره.. كان كما لو صرحا به. وإن قالا: نريد به قطعا ويقينا.. قيل لهما: قد أخطأتما؛ لأنه قد يجوز أن يكون له وارث لا تعلمانه، ولا ترد شهادتهما بذلك) . وقال أبو حنيفة: (القياس أن ترد شهادتهما؛ لأنهما كذبا، ولكن لا ترد استحسانا) .
دليلنا: أنهما إذا صحباه الزمن الطويل وعرفا حاله.. جرى ذلك مجرى القطع، فلم ينسبا إلى الكذب. وإن لم يكونا من أهل الخبرة الباطنة بالميت، أو كانا من أهل الخبرة الباطنة به إلا أنهما لم يقولا: لا نعلم له وارثا سواه.. فإنه يثبت بذلك نسب المدعي، ولا يثبت بذلك نفي نسب غيره. فإن كان له فرض لا يحجب عنه، كالأبوين والزوجين.. أعطي أقل فرض يستحقه بحال، فيعطى كل واحد من الأبوين سدسا عائلا، ويدفع إلى الزوج ربع عائل. قال الشيخان - أبو حامد وأبو إسحاق -: ويدفع إلى الزوجة ثمن عائل. وقال أبو علي في " الإفصاح ": يدفع إليها ربع ثمن عائلا، وقد مضى مثل ذلك في (الدعاوى) .
وإن كان المدعي ممن له تعصيب.. بعث الحاكم إلى البلاد التي كان يسافر إليها الميت ويقيم بها فيسأل بها: هل له وارث؟ فإن لم يوجد له وارث ومضت مدة لو كان له وارث لظهر.. نظر في المدعي، فإن كان ممن لا يحجب، كالأب والابن.. دفعت التركة إليه.. وإن كان ممن يحجب، كالأخ وابن الأخ.. ففيه وجهان:

(13/488)


أحدهما: لا يدفع إليه شيء؛ لجواز أن يكون هناك وارث يحجبه.
والثاني: يدفع إليه؛ لأن الظاهر مع البحث أنه لا وارث له؛ إذ لو كان له وارث.. لظهر. ويؤخذ منه كفيل بما أخذه. وهل يجب أخذ الكفيل منه أو يستحب؟ فيه وجهان، مضى بيانهما في (الدعاوى) .

[مسألة له أمتان ولكل ولد فألحق أحدهما لا بعينه بنسبه]
إذا كان لرجل أمتان، لكل واحدة منهما ولد، فقال السيد: أحدهما ابني.. لحقه نسب أحدهما لا بعينه وطولب بتعيينه. وإنما يتصور هذا بشرطين:
أحدهما: إذا لم يكن لإحداهما زوج.
والثاني: إذا لم يقر السيد بوطء إحداهما.
فأما إذا كان لكل واحدة منهما زوج، أو لإحداهما زوج وأمكن أن يكون الولد منه.. فإن الولد يلحق به دون السيد. فإن أقر السيد بوطئهما أو بوطء إحداهما.. فإن التي أقر بوطئها تكون فراشا له، فإذا أتت بولد لأقل مدة الحمل.. لحقه من غير إقرار. فإذا عدم الشرطان.. فإنه يطالب ببيان ولده منهما، فإن قال: هذا ولدي.. حكم بحريته ويسئل عن سبب استيلاده: فإن قال: استولدتها في ملكي.. ثبت لأمه حرمة الاستيلاد، ولا ولاء على الولد. وإن قال: استولدتها في نكاح.. كانت أمه قنا، وثبت له على ولده الولاء؛ لأنه ملكه، ثم عتق عليه. فإن قالت الأمة الأخرى: بل أنا التي أقررت بحرية ولدي، فإن صدقها.. كان الحكم فيها وفي ولدها كالذي أقر به أولا، ولا يبطل بذلك إقراره للأمة الأولى ولولدها. وإن كذب الثانية.. فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف.. سقطت دعوى الثانية ورقت ورق ولدها.
فإن مات.. ورثه الابن المقر به، فإن كان أقر أنه استولد أمه في ملكه.. عتقت بموته. وإن أقر أنه استولدها في نكاح.. لم تعتق عليه بموته، وإن لم يكن له وارث غير ابنها.. عتقت على ابنها، وإن كان مع الابن وارث.. عتق على الابن

(13/489)


نصيبه ولا يقوم عليه الباقي. وإن مات السيد قبل أن يبين.. قام وارثه مقامه في البيان، فإن بين الولد منهما وكيفية الاستيلاد.. كان الحكم فيه كما لو بين السيد. وإن بين الوارث الولد منهما وقال: لا أدري كيف كان الاستيلاد.. ففيه وجهان:
أحدهما: تكون الأم رقيقة؛ لأن الأصل فيها الرق.
والثاني: تكون أم ولد؛ لأن الظاهر ممن أقر بولد أمته أنه استولدها في ملكه.
وإن امتنع الورثة من التعيين، فإن لم يدع الولدان عليهم بالعلم.. فلا كلام. وإن ادعيا عليهم بالعلم.. حلفوا أنهم لا يعلمون، ويعرض الولدان على القافة، فإن ألحقت القافة به أحدهما.. لحقه وكان حرا. فإن كان السيد قد أقر أن أحدهما ابنه استولد أمه في ملكه.. لم يكن على الولد الذي ألحقته القافة به ولاء وعتقت أمه بموت السيد. وإن كان قد أقر أنه ابنه من نكاح.. كان على الولد الولاء ولم تعتق أمه بموت السيد. وإن لم يتقدم منه إقرار بكيفية الاستيلاد.. فهل تكون أمه أم ولد؟ على الوجهين إذا عين الوارث الولد ولم يبين كيفية الاستيلاد، ويحتمل أن يكون في ثبوت الولاء على الولد الذي ألحقته القافة به هذان الوجهان. وإن لم يكن هناك قافة، أو كانت هناك قافة وأشكل عليها الولد منهما.. أقرع بين الولدين للحرية؛ لأن للقرعة مدخلا في تمييز الحر من الرقيق. فإذا خرجت القرعة لأحدهما.. عتق، ويحتمل أن يكون في ثبوت الولاء عليه الوجهان، ولا يثبت نسبه من المقر؛ لأن النسب لا يثبت بالقرعة، ولا يحكم لأحدهما بالميراث؛ لأنه لم يثبت نسب أحدهما. وهل يوقف من ماله ميراث ابن؟ فيه وجهان:
[أحدهما] : قال المزني: يوقف؛ لأنا نتيقن أن أحدهما ابن وارث.
و [الثاني] : من أصحابنا من قال: لا يوقف؛ لأن الشيء إنما يوقف إذا رجي انكشافه، وهذا لا يرجى انكشافه، ويحتمل أن يكون الحكم في أم ذلك الولد حكم أم من ألحقت به القافة منهما.
هذا مذهبنا، وقال أبو حنيفة: (يعتق من كل واحد منهما نصفه، ويستسعى في قيمة باقيه، ولا يرثان) . وقد مضى الدليل عليه في (العتق) .

(13/490)


[مسألة أقر بإلحاق أحد أولاد أمته الثلاثة من دون تعيين]
وإن كان لرجل أمه لها ثلاثة أولاد، فقال سيدها: أحد هؤلاء ولدي.. فهو إقرار صحيح، ويرجع إليه في بيان الولد منهم، وإنما يتصور هذا بشرطين:
أحدهما: أن لا يكون للأمة زوج، فإن كان لها زوج وأتت بولد يمكن أن يكون منه.. لحق به، ولا يقبل إقرار السيد به.
والثاني: إذا لم يقر السيد بوطئها في وقت، فأما إذا أقر بوطئها في وقت.. فما أتت به من ولد لأقل مدة الحمل من ذلك الوقت لحق به من غير إقرار. فإذا ثبت أنه يرجع إليه في بيان الولد منهم.. نظرت: فإن أقر أن الأصغر منهم ولده.. حكم بحريته ويثبت نسبه منه، ويطالب بكيفية الاستيلاد. فإن قال: استولدتها في ملكي.. لم يثبت على الولد الولاء، وكانت الجارية أم ولد له والولدان الآخران مملوكين.
وإن قال: استولدتها في نكاح.. فالولد حر، وعليه له الولاء، والأمة مملوكة.
وإن قال: استولدتها بشبهة.. فالولد حر، وعليه له الولاء، وهل يثبت للأمة حرمة الاستيلاد؟ على قولين. وإن لم يعين جهة الاستيلاد.. فهل يثبت للأمة حرمة الاستيلاد؟
على وجهين، مضى ذكرهما في التي قبلها، ويحتمل أن يكون في ثبوت الولاء على الولد هذان الوجهان. وأما إذا قال: الولد الأوسط ولدي.. حكم بحريته وثبوت نسبه منه فإن قال: استولدتها في ملكي.. فلا ولاء على الولد، وتثبت للأم حرمة الاستيلاد فيه، وهل يثبت للولد الأصغر ما يثبت للأمة من حرمة الاستيلاد؟ فيه وجهان:
أحدهما: يثبت له ذلك؛ لأنه ولد أم ولد.
والثاني: لا يثبت له؛ لأنه يجوز أن يكون استولدها وهي مرهونة، فلم يثبت لها حرمة الاستيلاد في الحال، ثم بيعت في الرهن، ثم أتت بالولد الأصغر في غير ملكه، ثم ملكها بعد ذلك، فثبت لها حرمة الاستيلاد دون الولد الأصغر.

(13/491)


وإن قال: استولدتها في نكاح.. ثبت على الأوسط الولاء، ولا يثبت للأم حرمة الاستيلاد، والأصغر مملوك. وإن قال: استولدتها بشبهة.. فعلى الوسط الولاء، وهل تثبت للأم حرمة الاستيلاد؟ على القولين. فإن قلنا: لا تثبت لها.. فالأصغر مملوك. وإن قلنا: تثبت لها.. فهل تثبت للأصغر حرمة الاستيلاد؟ على وجهين. وأما الولد الأكبر: فمملوك بكل حال. وإن قال: الولد الأكبر ابني.. حكم بحريته وثبوت نسبه منه، والحكم في الأوسط والأصغر حكم الأصغر إذا عين الأوسط على ما مضى. فإن مات السيد قبل أن يبين.. قام وارثه مقامه في البيان، فإن بين الوارث الولد وكيفية الاستيلاد.. فهو كما لو بينة السيد، وإن بين الولد ولم يبين جهة الاستيلاد.. حكم بحرية الولد الذي بينه الوارث وثبوت نسبه من السيد، وهل يثبت للأمة حكم الاستيلاد؟ على الوجهين في التي قبلها. فإن بين الولد الأصغر.. فالولد الأكبر والأوسط مملوكان. وإن بين الأكبر.. فهل يثبت للأوسط والأصغر حرمة الاستيلاد؟ إن قلنا: لا يثبت للأمة حرمة الاستيلاد.. لم يثبت لهما. وإن قلنا: يثبت للأمة حرمة الاستيلاد.. فهل يثبت لهما حرمة الاستيلاد؟ على الوجهين اللذين مضى بيانهما. وإن لم يبين الوارث الولد منهم، أو لا وارث له.. عرض الأولاد الثلاثة على القافة، فإذا ألحقت به أحدهم.. لحقه نسبه وحكم بحريته. فإن كان قد تقدم من السيد إقرار أنه استولدها في ملك أو نكاح أو شبهة.. كان الحكم فيه كما لو عين السيد الولد منهم وبين جهة الاستيلاد على ما مضى. وإن لم يتقدم من السيد إقرار بجهة الاستيلاد.. فهل يثبت للأمة حرمة الاستيلاد؟ على وجهين، قد مضى بيانهما. فإن ألحقت القافة به الأصغر.. فالولد الأكبر والأوسط مملوكان، وإن ألحقت به الأكبر: فإن قلنا: لا يثبت للأمة حرمة الاستيلاد.. فالولد الأوسط والأصغر مملوكان. وإن قلنا: يثبت للأمة حرمة الاستيلاد.. فهل تثبت حرمة الاستيلاد للأوسط والأصغر؟ على وجهين. وإن لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها الولد منهم.. أقرع بين الأولاد الثلاثة؛ لأن للقرعة مدخلا في تمييز الحر من الرقيق، فإذا خرجت القرعة لأحدهما.. حكم بحريته، ولا يثبت نسبه من السيد؛ لأنه لا مدخل للقرعة في إثبات النسب، وهل يوقف من ماله ميراث ابن؟ على وجهين، مضى بيانهما في التي قبلها.

(13/492)


[مسألة اختلفا في كون الجارية بيعت أم زوجت]
] : إذا كان في يد رجل جارية فانتقلت منه إلى رجل فوطئها ولم يحبلها، فاختلفا في جهة انتقالها إليه، فقال من انتقلت منه: بعتكها بألف لم أقبضها منك، وقال من هي في يده: بل زوجتنيها بألف.. فإن كل واحد منهما يحلف على نفي ما ادعى عليه؛ لأن الأصل عدمه. فيحلف الذي انتقلت منه أني ما زوجتكها، ويحلف من هي بيده أني ما اشتريتها.
فإن حلفا معا.. حكمنا بزوال العقدين، ولا يستحق من انتقلت منه على من هي بيده مهرا؛ لأن من هي بيده مقر به لمن لا يدعيه، وترد الأمة إلى الذي انتقلت منه. واختلف أصحابنا لأي معنى رجعت إليه: فمنهم من قال: رجعت إليه بمعنى: من اشترى جارية بثمن، فأفلس المشتري ورجع البائع إلى جاريته فعلى هذا: يفسخ البيع وتعود إليه الجارية ويملك وطأها. ومنهم من قال: رجعت إليه بمعنى: من كان له على غيره حق ولم يقدر عليه، ووجد له شيئا من ماله من غير جنس حقه.
فعلى هذا: تباع الجارية ويستوفي البائع من ثمنها الثمن الذي حلف عليه، وهل يملك بيعها بنفسه، أو لا يصح منه بيعها إلا من الحاكم؟ فيه وجهان، مضى بيانهما.
فإن فضل فضلة من ثمنها على ما يدعيه البائع من الثمن.. ردت إلى من انتقلت إليه، وإن نقص ثمنها عما يدعيه البائع من الثمن.. كان له أن يأخذ من مال المبتاع.
فأما إن حلف من انتقلت منه الجارية: أنه ما زوجها، ونكل من انتقلت إليه عن اليمين: أنه ما اشتراها.. ردت اليمين على البائع، فيحلف: أنه لقد باعها منه بألف، ولزم المبتاع الألف. وإن حلف من هي بيده: أنه ما اشتراها، ولم يحلف من انتقلت منه: أنه ما زوجها.. حلف من هي بيده: لقد تزوجها وهذا زوجها، وحكم

(13/493)


له بزوجيتها، وأقرت في يده، وعاد حكم الرق عليها للبائع. فإذا زال النكاح بطلاق أو وفاة.. رجعت إلى من انتقلت منه. فإذا كان من انتقلت منه صادقا: أنه باعها وهي ملك للمشتري.. لا يحل للبائع وطؤها وقد عادت إليه، وكيف يكون الحكم بعودتها إليه؟ على الوجهين اللذين مضيا. وإن كان من انتقلت منه كاذبا في دعواه: أنه باعها.. عادت إلى ملكه وتصرفه بالوطء وغيره. وأما إن كان الذي انتقلت إليه قد استولدها.. فإن من انتقلت منه يقر بحقين عليه ويدعي حقا له.
فأما الحقان اللذان يقر بهما على نفسه: فإنه يقر أنها صارت أم ولد لمن انتقلت إليه، وأن ولدها حر، وهذان يضران به فيقبل إقراره بهما على نفسه.
وأما الحق الذي يدعيه: فإنه يدعي أنه باعها بألف في ذمة من هي بيده، وهذا ينفعه فلم يقبل قوله فيه. فيحلف من هي في يده: أنه ما اشترى الجارية؛ ليسقط عنه الثمن الذي يدعي به عليه من انتقلت منه، فإذا حلف.. حكمنا بزوال البيع وسقوط الثمن عنه، وكانت الجارية أم ولد له وولدها حرا، ومن بيده الجارية يقر بالمهر لمن انتقلت منه وهو لا يدعيه ولكن يدعي عليه الثمن، وهل يرجع عليه من انتقلت منه بالأقل: من المهر الذي أقر به من انتقلت إليه الجارية، أو الثمن الذي يدعيه من انتقلت منه؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرجع عليه بأقلهما؛ لأنهما متفقان على استحقاقه.
والثاني: لا يرجع عليه بشيء؛ لأن من بيده الجارية لما خلف.. زال عنه حكم الثمن، وقول من انتقلت منه: ما زوجتكها.. يسقط استحقاقه المهر، فلم يرجع عليه بشيء. على الوجهين معا لا ترد الجارية إلى من انتقلت منه، بل تقر في يد من انتقلت إليه؛ لأن من انتقلت منه أقر بزوال ملكه عنها، وأنها قد تلفت في يد من انتقلت إليه

(13/494)


بالإحبال فلم ترد إليه، كما لو قال: بعت عبدي من ويد، وأعتقه.
إذا تقرر هذا: فإنه يقال لمن انتقلت إليه: إن علمت بأنها زوجتك.. حل لك وطؤها فيما بينك وبين الله تعالى، وهل يحل له وطؤها في ظاهر الحكم؟ فيه وجهان:
أحدهما: يحل له؛ لأنهما اتفقا على إباحة وطئها له وإن اختلفا في سببه.
والثاني: لا يحل له وطؤها؛ لأن من هي في يده قد حلف: أنه لا يملكها، فبطل أن تحل له بالملك ويدعي أنها زوجته، ومن انتقلت منه غير مسلم أنها تحل له بالزوجية، فما اتفقا عل إباحتها له.. فمنع من وطئها.
وإن نكل من انتقلت إليه عن اليمن.. حلف من انتقلت منه: أنه باعها، ووجب على من انتقلت إليه الثمن لمن انتقلت منه.. وهذا الكلام في جنبة من انتقلت منه، وأما من انتقلت إليه.. فإنه يدعي على من انتقلت منه أنه زوجة إياها، ويجب بهذا أنها مملوكة لمن انتقلت منه، وولدها مملوك لمن انتقلت منه، وعلى من انتقلت إليه المهر، فيسقط قوله: إن الجارية والولد مملوكان لمن انتقلت منه؛ لأنه يقر أن الجارية أم ولد لمن هي بيده وأن ولدها حر، ويكون القول قول من انتقلت منه: إنه ما زوجها، وهل يحلف على ذلك؟ فيه وجهان:
أحدهما: لا يحلف؛ لأنه لو رجع وأقر أنه قد زوجها.. لم يقبل، فلا معنى لاستحلافه.
والثاني: يحلف؛ لأنه ربما ينكل، فيحلف من هي بيده: أنه زوجها منه ويحكم له بالزوجية.
فإن حلف كل واحد منهما لصاحبه.. حكمنا بزوال العقدين، وأنها غير مبيعة ولا مزوجة، والكلام على النفقة والميراث، فأما نفقة الولد.. فعلى الواطئ؛ لأنه ابنه وقد حكمنا بحريته، وأما نفقة الجارية.. ففيها قولان حكاهما أبو إسحاق في " الشرح ":
أحدهما: أنها على البائع؛ لأنه أقر بأمرين، أحدهما عليه وهو كونها أم ولد

(13/495)


للغير، والآخر حق له وهو سقوط نفقتها عنه، فقبل قوله فيما عليه ولا يقبل فيما له.
والثاني - وهو الأصح - أن نفقتها في كسبها؛ لأنه لا يمكن إيجابها على البائع؛ لأنا قد حكمنا أنها أم ولد للغير، ولا على المشتري؛ لأنه لا يدعي أنها أم ولد له، فلم يبق إلا إيجابها في كسبها، فإن بقي من كسبها شيء.. كان موقوفا.
وأما الميراث: فإن ماتت الجارية قبل الوطء.. فللبائع أن يأخذ من مالها قدر الثمن الذي يدعي أنه باعها به؛ لأن من انتقلت إليه يقر له بجميع مالها، وهو يقر به لمن انتقلت إليه ويدعي عليه الثمن، وما بقي من مالها حتى يصطلحا عليه.
فإن ماتت بعد موت من هي بيده.. كان إرثها لولدها، فإن كان ولدها قد مات قبلها.. كان مالها لمناسبها، فإن لم يكن لها مناسب.. فميراثها موقوف؛ لأن ولاءها موقوف لا يدعيه أحدهما، وليس للبائع أن يأخذ منه شيئا؛ لأنه يدعي الثمن على الواطئ وقد مات قبلها. وإن رجع أحدهما عن إقراره، فإن رجع البائع.. لم يقبل قوله في إسقاط حقها ولا حق ولدها من الحرية، ويقبل قوله في سقوط الثمن عن المشتري ورجوع الولاء إليه فيأخذ مالها. وإن رجع الواطئ.. وجب عليه الثمن، وكانت الجارية على ما ثبت لها من حرمة الاستيلاد، والولد على ما ثبت له من الحرية.
والله أعلم، وبالله التوفيق، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ونعم الولي ونعم النصير، وصلى الله على رسوله سيدنا محمد النبي الأمي وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن الصحاب أجمعين.