الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب سنة الوضوء
مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ " ".
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا قَامَ الرَّجُلُ إِلَى الصَّلَاةِ مِنْ نَوْمٍ أَوْ كَانَ غَيْرَ مُتَوَضِّئٍ فَأُحِبُّ أَنْ يُسَمِّيَ اللَّهَ تَعَالَى.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ الْمُتَوَضِّئُ مِنْ أَعْمَالِ وُضُوئِهِ التَّسْمِيَةُ فَيَقُولُ: " بِسْمِ اللَّهِ " وَهِيَ سنة. وقال أبو حامد الإسفرايني: هِيَ هَيْئَةٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْهَيْئَةِ وَالسُّنَّةِ بِأَنْ قَالَ: الْهَيْئَةُ مَا تَهَيَّأَ بِهِ لِفِعْلِ الْعِبَادَةِ، وَالسُّنَّةُ مَا كَانَتْ فِي أَفْعَالِهَا الرَّاتِبَةِ فِيهَا وهكذا نقول في غسل الكفين: وهذا يعد في العبارة مَعَ تَسْلِيمِ الْمَعْنَى.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: التسمية واجبة فإن تركها عامدا بطل وضوءه وَإِنْ تَرَكَهَا نَاسِيًا أَجْزَأَهُ.
وَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ هِيَ وَاجِبَةٌ وَإِنْ تَرَكَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا لَمْ يُجْزِهِ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَا وُضُوءَ لَهُ وَلَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَهِ عليه ".

(1/100)


قالوا: وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَبْطُلُ بِالْحَدَثِ فَوَجَبَ أَنْ يَفْتَقِرَ ابْتِدَاؤُهَا إِلَى نُطْقٍ كَالصَّلَاةِ وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] فَلَمَّا كَانَتْ وَاجِبَاتُ الْوُضُوءِ مَأْخُوذَةً مِنْهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَعْرَابِيِّ: " تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ "، وَلَمْ يَكُنْ لِلتَّسْمِيَةِ فِيهَا ذِكْرٌ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ، وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ تَوَضَّأَ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ طَهُورًا لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَمَنْ تَوَضَّأَ وَلَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ كَانَ طَهُورًا لِأَعْضَائِهِ "، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ لَيْسَ فِي آخِرِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ فِي ابْتِدَائِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ كَالصِّيَامِ وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ شَرْطِهَا التَّسْمِيَةُ كَإِزَالَةِ النَّجَاسَةِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْحَدِيثِ فَضَعِيفُ الْإِسْنَادِ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ مِنْ طَرِيقَيْنِ وَاهِيَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَبُو فَضَّالٍ عَنْ جَدَّتِهِ عَنْ أَبِيهَا أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَالثَّانِي: يَعْقُوبُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَيْسَ فِي التَّسْمِيَةِ حَدِيثٌ ثَبْتٌ وَلَوْ سَلِمَ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَحَمُّلَ التَّسْمِيَةِ عَلَى النِّيَّةِ وَهُوَ تَأْوِيلُ الْأَوْزَاعِيِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْكَمَالِ دُونَ الْإِجْزَاءِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَمُنْتَقَضٌ بِالطَّوَافِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي آخِرِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ كَانَ فِي أَوَّلِهَا نُطْقٌ وَاجِبٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ سُنَّةٌ فَهِيَ سُنَّةٌ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالتَّيَمُّمِ مُبْتَدِئًا بِهَا عَلَى طَهَارَتِهِ فَإِنْ نَسِيَهَا فِي الِابْتِدَاءِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَدِيمِ يُسَمِّي إِذَا ذَكَرَهَا فِي ابْتِدَاءِ الطَّهَارَةِ أَوْ آخرها.

مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُفْرِغُ الْمَاءَ مِنْ إِنَائِهِ عَلَى يَدَيْهِ فيغسلهما ثلاثا ".
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ غَسْلُ الْكَفَّيْنِ ثَلَاثًا قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ سُنَّةٌ عَلَى كُلِّ مُتَوَضِّئٍ أَوْ مُغْتَسِلٍ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ: غَسْلُ الْكَفَّيْنِ قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا الْإِنَاءَ وَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَامَ مِنَ النَّوْمِ فَإِنْ غَمَسَهُمَا فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهِمَا نَجَّسَ الْمَاءَ سَوَاءٌ تَيَقَّنَ نَجَاسَةَ كَفَّيْهِ أَمْ لَا، وَقَالَ دَاوُدُ: غَسْلُهُمَا وَاجِبٌ لَكِنْ لَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ بِتَرْكِ الْغَسْلِ إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ نَجَاسَةَ كَفَّيْهِ.

(1/101)


وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: غَسْلُهُمَا وَاجِبٌ عَلَى مَنْ قَامَ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ وَلَا يُنَجِّسُ الْمَاءَ بِتَرْكِ الْغَسْلِ مَا لَمْ يَتَيَقَّنِ النَّجَاسَةَ.
وَاسْتَدَلُّوا جَمِيعًا بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ "، فَحَمْلَهُ الْحَسَنُ وَدَاوُدُ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ مِنَ النَّوْمِ لِعُمُومِ اللَّفْظِ، وَحَمَلَهُ أَحْمَدُ عَلَى نَوْمِ اللَّيْلِ لِقَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ وَالْبَيَاتُ يَكُونُ فِي اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - للأعرابي: " تَوَضَأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ اغْسِلْ وَجْهَكَ وَذِرَاعَيْكَ "، فَلَمْ يُقَدَّمْ فِي الْآيَةِ، وَالْخَبَرِ عَلَى الْوَجْهِ فَرْضًا وَلِأَنَّ مَا لَمْ يَلْزَمْ غَسْلُهُ فِي وُضُوئِهِ مِنْ غَيْرِ النَّوْمِ لَا يَلْزَمُ غَسْلُهُ فِي وُضُوئِهِ مِنَ النَّوْمِ أَصْلُهُ سَائِرُ الْجَسَدِ.
وَلِأَنَّهَا طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ أَلَّا تَلْزَمَ تَكْرَارَ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ فِيهَا كَالتَّيَمُّمِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ فَهُوَ أَنَّ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنَ التَّعْلِيلِ دَلِيلُنَا عَلَى حَمْلِهِ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ دُونَ الْإِيجَابِ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِغَسْلِ الْيَدِ خَوْفَ النَّجَاسَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْأَحْجَارَ وينامون فيعرقون وربما حصلت أيديهم موضع النجاسة فنجست وهذا متوهم وتنجسيها شَكٌّ وَمَا وَقَعَ الشَّكُّ فِي تَنْجِيسِهِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ قَيْسًا الْأَشْجَعِيَّ قَالَ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: فَكَيْفَ بِنَا إِذَا أَتَيْنَا مِهْرَاسَكُمْ هَذَا، فَقَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شَرِّكَ يَا قَيْسُ.
وَلَوْ كَانَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ وَاجِبًا عَلَى مَنْ أَرَادَ إِدْخَالَهُمَا فِي الْإِنَاءِ لَوَجَبَ عَلَى مَنْ لَمْ يُدْخِلْهُمَا فِي الْإِنَاءِ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غَسْلَ كَفَّيْهِ ثَلَاثًا سُنَّةٌ فَهُوَ سُنَّةٌ عَلَى كُلِّ مُتَوَضِّئٍ سَوَاءٌ قَامَ مَنْ نَوْمٍ أَوْ لَمْ يَقُمْ لَكِنَّهُ إِذَا قَامَ مِنْ نَوْمٍ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَغْسِلَهُمَا ثَلَاثًا قَبْلَ إِدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ فَإِنْ لَمْ يَقُمْ مِنْ نَوْمٍ فَقَدْ قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُمَا فِي الْإِنَاءِ (قَبْلَ غَسْلِهِمَا وَإِنْ شَاءَ غَسَلَهُمَا قبل إدخالهما) .
قال لِأَنَّ الْقَائِمَ مِنَ النَّوْمِ شَاكٌّ فِي نَجَاسَتِهِمَا وَغَيْرَ الْقَائِمِ مِنْ نَوْمٍ مُتَيَقِّنٌ لِطَهَارَتِهِمَا وَالصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِيمَنْ قَامَ مِنَ النَّوْمِ أَوْ لَمْ يَقُمْ فَلَا يَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى (يغسلهما لِأَنَّهُ) لَمَّا اسْتَوَيَا فِي سُنَّةِ الْغَسْلِ وَإِنْ وَرْدَ النَّصُّ فِي

(1/102)


الْقَائِمِ مِنَ النَّوْمِ فَاسْتَوَيَا فِي تَقْدِيمِ الْغَسْلِ عَلَى الْغَمْسِ. فَعَلَى هَذَا لَوْ غَمَسَ الْمُتَوَضِّئُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهِمَا فَإِنْ تَيَقَّنَ طَهَارَتَهُمَا أَوْ شَكَّ فِيهِ فَالْمَاءُ طَاهِرٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الطَّهَارَةُ وَإِنْ تَيَقَّنَ نَجَاسَةَ يَدِهِ فَهِيَ نَجَاسَةٌ وَرَدَتْ عَلَى مَاءٍ قَلِيلٍ فَيَكُونُ نجسا.

مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " ثَمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى فِي الِإنَاءِ فَيَغْرِفُ غَرْفَةً لِفِيهِ وَأَنْفِهِ وَيَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ ثَلَاثًا وَيُبْلِغُ خَيَاشِيمَهُ الْمَاءَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فَيَرْفَقُ ".
قال الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فِيِ فَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي أَصْلِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ هَلْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ.
وَالثَّانِي: فِي صِفَتِهِ وَكَيْفِيَّتِهِ.
فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِي أَصْلِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ: فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ عَلَى أربعة مذاهب.
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَالِكٌ أَنَّهُمَا سُنَّتَانِ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى الَّتِي هِيَ الْوُضُوءُ، وَفِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى الَّتِي هِيَ الْغُسْلُ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقَ أَنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى والصغرى معا.
والمذهب الثالث: وهو قول أحمد وداود وأبو ثَوْرٍ أَنَّ الِاسْتِنْشَاقَ وَاجِبٌ فِي الطَّهَارَتَيْنِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى وَالْمَضْمَضَةُ سُنَّةٌ فِيهِمَا.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَصَاحِبَيْهِ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى مَسْنُونَتَانِ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَهُمَا فِي الطَّهَارَتَيْنِ بِغُسْلِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُمَا وَفِعْلُهُ بَيَانٌ وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَوْجَبَ الِاسْتِنْشَاقَ فِيهِمَا دُونَ الْمَضْمَضَةِ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَنْثُرْهُ " وَبِحَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أخبرني عن الوضوء قال: أسبغ الوضوء وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ وَبَالِغْ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ صَائِمًا ".

(1/103)


وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة عَلَى إِيجَابِهَا فَيَ الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى بِرِوَايَةِ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ فَبِلُّوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ " قَالَ: وَفِي الْأَنْفِ شَعْرٌ وَفِي الْفَمِ بَشَرَةٌ.
وَبِمَا رَوَاهُ يُوسُفُ بْنُ أسباط عن سفيان عن سَعِيدٍ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ لِلْجُنُبِ ثَلَاثًا فَرِيضَةً، قَالَ وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ سُنَّ غَسْلُهُ فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى فَاقْتَضَى أَنْ يَجِبَ غَسْلُهُ فِي الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى كَالْأُذُنَيْنِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ مِنَ الْبَدَنِ وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ كَالْبَشَرَةِ الَّتِي تَحْتَ شَعْرِ الْوَجْهِ، قَالَ وَلِأَنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ فِي مَعْنَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَيْهِمَا لَا يَشُقُّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ حُصُولَ الطَّعَامِ فِيهِمَا لَا يُفْطِرُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَا فِي إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهِمَا وَاجِبًا كَظَاهِرِ الْبَدَنِ.
قَالَ وَلِأَنَّ اللِّسَانَ يَلْحَقُهُ حُكْمُ الْجَنَابَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْحَقَهُ حُكْمُ الْجَنَابَةِ فِي التَّطْهِيرِ بِالْمَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ وهو دليل الْجَنَابَةِ قَوْله تَعَالَى: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] . فَكَانَ الْغُسْلُ وَحْدَهُ غاية الحكم.

(1/104)


وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي امْرَأَةٌ أَشُدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِلْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَقَالَ: لَا إِنَّمَا يَكْفِيكِ أَنْ تَحْثِيَ عَلَى رَأْسِكِ ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ مَاءٍ ثُمَّ تُفِيضِي عَلَيْكِ الْمَاءَ فَإِذَا أَنْتِ قَدْ طَهُرْتِ ". فَكَانَ مِنْهُ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْإِفَاضَةِ.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا أَنْتِ قَدْ طَهُرْتِ.
وَرَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ قَالَ تَذَاكَرْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - غُسْلَ الْجَنَابَةِ فَقَالَ: " أَمَّا أَنَا فَأَحْثِي عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ مِنْ مَاءٍ فَإِذَا أَنَا قَدْ طَهُرْتُ ".
وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهَا طَهَارَةٌ عن حدث فوجب ألا يستحق فيها المضمضة والاستنشاق كغسل الميت ولأن مالا يَجِبُ غَسْلُهُ مِنَ الْمَيِّتِ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهُ مِنَ الْجُنُبِ كَالْعَيْنَيْنِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِقَوْلِهِ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ فَهُوَ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ رَاوِيَهُ الْحَارِثُ بْنُ وَجِيهٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَكَانَ الْحَارِثُ ضَعِيفًا وَلَوْ صَحَّ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى مَا ظَهَرَ مِنَ الشَّعْرِ وَالْبَشَرِ بِدَلِيلِ أَنَّ شَعْرَ الْعَيْنِ لَا يَجِبُ غَسْلُهُ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ راويه أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ لِلْجُنُبِ ثَلَاثًا فَرِيضَةً، أَنَّهُ رَوَاهُ بَرَكَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْحَلَبِيُّ عَنْ يُوسُفَ بْنِ أَسْبَاطٍ وَكَانَ بَرَكَةُ مَشْهُورًا بِوَضْعِ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّهُ يَحْمِلُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ فَرِيضَةً يَعْنِي تَقْدِيرًا أَلَا تَرَاهُ جَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَالثَّلَاثُ اسْتِحْبَابٌ وَلَيْسَ بِفَرْضٍ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عن قولهم إن كَانَ مَسْنُونًا فِي الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى كَانَ مَفْرُوضًا في الطهارة الكبرى منتقض بِالْمُبَالَغَةِ فِي الِاسْتِنْشَاقِ وَالتَّكْرَارِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ كُلَّ مَحَلٍّ وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَجَبَ تَطْهِيرُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقَضٌ بِدَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ لِأَنَّ غَسْلَهُ مِنَ النَّجَاسَةِ وَاجِبٌ وَمِنَ الْجَنَابَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ.
فَإِنْ قَالُوا داخل العينين لا يجب غسله من وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ صَقِيلٌ لَا يَقْبَلُ النَّجَاسَةَ فَهَذِهِ دَعْوَى غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ عَلَى أَنَّ بُطُونَ الْجُفُونِ غَيْرُ صَقِيلَةٍ تَقْبَلُ النَّجَاسَةَ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ أَقَلُّ مِنَ الدِّرْهَمِ فَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّ الْجُفُونَ الْأَرْبَعَةَ أَكْثَرُ مِنَ الدِّرْهَمِ.

(1/105)


وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْفَمَ وَالْأَنْفَ فِي مَعْنَى ظَاهِرِ الْبَدَنِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَيْهِمَا لَا يَشُقُّ فَهَذَا يُفْسَدُ بِالْحُلْقُومِ لِأَنَّ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَيْهِ بِالشُّرْبِ لَا يَشُقُّ. وَالثَّانِي: أَنَّ حُصُولَ الطَّعَامِ فِيهِ لَا يُفْطِرُ وَهَذَا يُفْسَدُ بِدَاخِلِ الْعَيْنَيْنِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِاللِّسَانِ حُكْمُ الْجَنَابَةِ لِمَنْعِهِ مِنَ الْقِرَاءَةِ فَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَتَعَلَّقَ حُكْمُ الْحَدَثِ بِعُضْوٍ ثُمَّ يَرْتَفِعُ بِغَسْلِ غَيْرِهِ كَالْمُحْدِثِ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ حَمْلِ الْمُصْحَفِ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ وَإِذَا غَسَلَ أَعْضَاءَهُ الْأَرْبَعَةَ لَمْ يُمْنَعْ فَهَذَا جَوَابُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَنْ أَوْجَبَهُمَا فِي الطَّهَارَتَيْنِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لهما فالجواب عنه أنه ليس له فعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَحْمُولًا عَلَى الْإِيجَابِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بَيَانًا المجمل فِي الْكِتَابِ وَالطَّهَارَةُ مَعْقُولَةٌ غَيْرُ مُجْمَلَةٍ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ أَوْجَبَ الِاسْتِنْشَاقَ وَحْدَهُ بِقَوْلِهِ مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً ثُمَّ لِيَنْثُرَ، فَهُوَ أَنَّ ظَاهِرَهُ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ فَمَعْدُولٌ عَنْهُ بِمَا ذَكَرْنَا إِلَى الِاسْتِحْبَابِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ فَهُوَ أَنَّهُ أَمْرٌ بِالْمُبَالَغَةِ وَتِلْكَ غير واجبة فلم يكن منه دليل.

فصل
وأما الفصل الثاني: في صِفَةِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَكَيْفِيَّتِهِمَا: أَمَّا الْمَضْمَضَةُ فَهِيَ إِدْخَالُ الْمَاءِ إِلَى مُقَدَّمِ الْفَمِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِيهَا إِدَارَتُهُ فِي جَمِيعِ الْفَمِ، وَالِاسْتِنْشَاقُ فَهُوَ إِدْخَالُ الْمَاءِ مُقَدَّمَ الْأَنْفِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِيهِ إِيصَالُهُ إِلَى خَيْشُومِ الْأَنْفِ، وَالْمُبَالَغَةُ فِيهِمَا سُنَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَيْهِمَا إلا أن يكون صائما فيبالغ في المضمضمة وَلَا يُبَالِغُ فِي الِاسْتِنْشَاقِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ: " أَسْبِغِ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صَائِمًا ". وَالْفَرْقُ فِي الصَّائِمِ بَيْنَ أَنْ يُبَالِغَ فِي الْمَضْمَضَةِ وَلَا يُبَالِغَ فِي الِاسْتِنْشَاقِ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ بِإِطْبَاقِ حَلْقِهِ رَدُّ الْمَاءِ عَنْ وُصُولِهِ إِلَى جَوْفِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ رَدُّ الْمَاءِ بِخَيْشُومِهِ عن الوصول إلى رأسه. فإذا ما تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ فَالسُّنَّةُ فِيهِمَا ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَفِي كَيْفِيَّتِهِمَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ وَالرَّبِيعُ أَنَّهُ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ ثَلَاثًا بِغَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَغْرِفُ الْمَاءَ بِكَفِّهِ الْيُمْنَى فَيَأْخُذُ مِنْهُ بِفَمِهِ فَيَتَمَضْمَضُ ثُمَّ يَأْخُذُ مِنْهُ بِأَنْفِهِ فَيَسْتَنْشِقُ ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَانِيَةً ثُمَّ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَالِثَةً كُلُّ ذَلِكَ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا يُقَدِّمُ الْمَضْمَضَةَ ثَلَاثًا عَلَى الِاسْتِنْشَاقِ وَدَلِيلُ ذَلِكَ رِوَايَةُ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفٍّ وَاحِدَةٍ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثلاثا.

(1/106)


والقول الثاني: راويه الْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ يَتَمَضْمَضُ وَيَسْتَنْشِقُ بِغَرْفَتَيْنِ فَيَغْرِفُ غَرْفَةً فَيَتَمَضْمَضُ بِهَا ثَلَاثًا وَيُقَدِّمُهَا عَلَى الِاسْتِنْشَاقِ ثُمَّ يَغْرِفُ غَرْفَةً ثَانِيَةً وَيَسْتَنْشِقُ بِهَا ثَلَاثًا.
وَدَلِيلُهُ رِوَايَةُ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: رَأَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ سُئِلَ عَنِ الْوُضُوءِ فَأَتَى بِالْمِيضَأَةِ إِلَى أَنْ قَالَ فَتَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ ثَلَاثًا الْحَدِيثَ. وَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتوضأ.

مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يَغْرِفُ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ ثَلَاثًا مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ رَأْسِهِ إِلَى أُصُولِ أُذُنَيْهِ وَمُنْتَهَى اللِّحْيَةِ إِلَى مَا أَقْبَلَ مِنْ وَجْهِهِ وذقنه ".
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ غَسْلُ الْوَجْهِ أَوَّلُ الْأَعْضَاءِ الْوَاجِبَةِ فِي الْوُضُوءِ وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] .
وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَعْرَابِيِّ تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ تَعَالَى اغْسِلْ وَجْهَكَ وَذِرَاعَيْكَ وَامْسَحْ بِرَأْسِكَ وَاغْسِلْ رِجْلَيْكَ، وَتَوَضَّأَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ، وقال: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إِلَّا بِهِ ".
وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وُجُوبِ غَسْلِهِ فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَحَدُّ الْوَجْهِ مُخْتَلِفٌ فِي الْعِبَارَةِ عَنْهُ فَحَدَّهُ الْمُزَنِيُّ هَكَذَا فَقَالَ مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ رَأْسِهِ إِلَى أُصُولِ أُذُنَيْهِ وَمُنْتَهَى اللِّحْيَةِ إِلَى مَا أَقْبَلَ مِنْ وَجْهِهِ وَذَقْنِهِ.
وَحَكَى الرَّبِيعُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّ حَدَّ الْوَجْهِ أَوْجَزُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ وَأَوْضَحُ مِنْ هَذَا الْحَدِّ فَقَالَ: (حَدُّ الْوَجْهِ مِنْ قِصَاصِ الشَّعْرِ وَأُصُولِ الْأُذُنَيْنِ إِلَى مَا أَقْبَلَ مِنَ الذَّقَنِ وَاللَّحْيَيْنِ، وَقَدْ حَدَّهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا بِغَيْرِ هَذَيْنِ فَقَالَ حَدُّهُ طُولًا مِنْ قِصَاصِ الشَّعْرِ إِلَى الذَّقْنِ وَعَرْضًا مِنَ الْأُذُنِ إلى الأذن.

(1/107)


فَأَمَّا حَدُّ الْمُزَنِيِّ فَفَاسِدٌ لِأَنَّهُ حَدَّ الْوَجْهَ بِالْوَجْهِ وَإِذَا كَانَ الْوَجْهُ مَحْدُودًا بِمَا وَصَفْنَا فَالِاعْتِبَارُ بِالْغَالِبِ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ. فَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اسْتَعْلَى شَعْرُ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ مِنْ مُقَدَّمِهِ كَالْأَجْلَحِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِهِ، وَلَوِ انْحَدَرَ شَعْرُ رَأْسِهِ حَتَّى دَخَلَ فِي جَبْهَتِهِ كَالْأَغَمِّ كَانَ مِنْ وَجْهِهِ وَأَنْشَدَ الشَّافِعِيُّ قَوْلَ هدبة بن خشرم:
(فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا والوجه ليس بأنزعا)
فسما مَوْضِعَ الْغَمَمِ وَجْهًا وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ شَعْرٌ.

فَصْلٌ
فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرْنَا فَالْجَبْهَةُ كُلُّهَا مِنَ الْوَجْهِ وَكَذَلِكَ الْجَبِينَانِ مِنَ الْوَجْهِ أَيْضًا وَالنَّزْعَتَانِ مِنَ الرَّأْسِ، فَأَمَّا التَّحَاذِيفُ وَهُوَ الشَّعْرُ النَّابِتُ فِي أَعَالِي الْجَبْهَةِ مَا بَيْنَ بَسِيطِ الرَّأْسِ وَمُنْحَدَرِ الْوَجْهِ تُوجَدُ الْحِفَافُ وَالتَّحْذِيفُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هُوَ مِنَ الرَّأْسِ أَوْ مِنَ الْجَبْهَةِ؟
فَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ إِلَى أَنَّهُ مِنَ الْوَجْهِ لِحُصُولِ الْمُوَاجَهَةِ بِهِ مِنْ مُنْحَدَرِ الْوَجْهِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ النَّزْعَتَانِ مِنَ الرَّأْسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَعْرٌ لِأَنَّهُمَا لَيْسَتَا فِي مُنْحَدَرِ الْوَجْهِ وَتَسْطِيحِهِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا حَدَّ الْوَجْهَ مِنْ قَصَاصِ الشَّعْرِ لِيَدْخُلَ فِيهِ مَوْضِعُ التَّحَاذِيفِ وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ: هُوَ مِنَ الرَّأْسِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ بِنَبَاتِ الشَّعْرِ فِي الرَّأْسِ وَعَدَمِ نَبَاتِهِ فِي الْوَجْهِ، فَلَمَّا كَانَ شَعْرُ التَّحَاذِيفِ يَتَّصِلُ نَبَاتُهُ بِشَعْرِ الرَّأْسِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّأْسِ دُونَ الْوَجْهِ.
وَلِأَنَّ التَّحَاذِيفَ وَالْحِفَافَ مِنْ فِعْلِ الْآدَمِيِّينَ وَقَدْ يَخْتَلِفُونَ فِيهِ عَلَى عَادَاتِهِمُ الْمُخْتَلِفَةِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ حَدًّا لِأَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ الْمَوْضِعُ تَارَةً مِنَ الْوَجْهِ إِنْ حُفَّ وَتَارَةً مِنَ الرَّأْسِ إِنْ لَمْ يُحَفَّ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا حَدَّ الْوَجْهَ مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ لِيَخْرُجَ مِنْهُ مَوْضِعُ التَّحَاذِيفِ. وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ عِنْدِي لِأَنَّ اسْمَ الْوَجْهِ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا حَصَلَتْ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ.
فَصْلٌ
فَأَمَّا الصُّدْغَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِمَا هَلْ هُمَا مِنَ الرَّأْسِ أَوْ مِنَ الْوَجْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ هُمَا مِنَ الْوَجْهِ لِحُصُولِ الْمُوَاجَهَةِ بِهِمَا كَالْجَبِينِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ هُمَا مِنَ الرَّأْسِ لِاتِّصَالِ شَعْرِهِمَا بِشَعْرِ الرَّأْسِ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَجُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّ مَا اسْتَعْلَى مِنَ الصُّدْغَيْنِ عَنِ الْأُذُنَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ وَمَا انْحَدَرَ عَنِ الْأُذُنَيْنِ مِنَ الْوَجْهِ لِأَنَّ الْوَجْهَ مَحْدُودٌ بِالْأُذُنَيْنِ فَمَا عَلَا مِنْهُمَا لَا يَدْخُلُ فِي حَدِّهِ.

(1/108)


مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا كَانَ أَمْرَدَ غَسَلَ بَشَرَةَ وَجْهِهِ كُلَّهَا وَإِنْ نَبَتَتْ لِحْيَتُهُ وَعَارِضَاهُ أَفَاضَ الْمَاءَ عَلَى لِحْيَتِهِ وَعَارِضَيْهِ وَإِنْ لَمَ يَصِلِ الْمَاءُ إِلَى بَشَرَةِ وَجْهِهِ الَّتِي تَحْتَ الشَّعْرِ أَجْزَأَهُ إِذَا كان شعره كثيفا ".
قال الماوردي: وهذا صحيح، وجملته أن وجه الْمُتَوَضِّئِ لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ أَمْرَدًا لَا شَعْرَ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُوصِلَ الْمَاءَ إِلَى جَمِيعِ الْبَشَرَةِ فَإِنْ أَخَلَّ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَإِنْ قَلَّ لَمْ يُجْزِهِ حتى يستوعب جميعه.
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ ذَا لِحْيَةٍ كَثِيفَةٍ قَدْ سَتَرَتِ الْبَشَرَةَ فَيَلْزَمُهُ غَسْلُ مَا ظَهَرَ مِنَ الْبَشَرَةِ وَإِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَى الشَّعْرِ السَّاتِرِ لِلْبَشَرَةِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ الَّتِي تَحْتَ الشَّعْرِ. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ وَأَشَارَ إِلَيْهِ الْمُزَنِيُّ فِي مَسَائِلِهِ الْمَنْثُورَةِ إِنَّ عَلَيْهِ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ الَّتِي تَحْتَ الشَّعْرِ كَالْجَنَابَةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ غَسْلَ الْوَجْهِ مُسْتَحَقٌّ فِي الْوُضُوءِ كَاسْتِحْقَاقِهِ فِي الْجَنَابَةِ،، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ فِي الْوُضُوءِ كَمَا يَلْزَمُهُ فِي الْجَنَابَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَ الْحَاجِبَيْنِ وَالشَّارِبِ لَزِمَهُ إِيصَالُهُ إِلَى مَا تَحْتَ اللِّحْيَةِ لِأَنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنْ بَشَرَةِ الْوَجْهِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . وَاسْمُ الْوَجْهِ يَتَنَاوَلُ مَا يَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَمَا تَحْتَ الشَّعْرِ الْكَثِيفِ لَا تَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ فَلَمْ يَتَنَاوَلْهُ الِاسْمُ وَإِذَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ الْحُكْمُ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ كَثِيفَ اللِّحْيَةِ وَغَسَلَ وَجْهَهُ مَرَّةً، وَالْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ لَا يَصِلُ فِيهَا الْمَاءُ إِلَى مَا تَحْتَ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ يَسْتُرُ مَا تَحْتَهُ فِي الْعَادَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْتَقِلَ الْفَرْضُ إِلَيْهِ قِيَاسًا عَلَى شَعْرِ الرَّأْسِ، وَبِالْعَادَةِ فَرَّقْنَا بَيْنَ شَعْرِ اللِّحْيَةِ وَبَيْنَ شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ وَالذِّرَاعَيْنِ لِأَنَّ شَعْرَ اللِّحْيَةِ يَسْتُرُ مَا تَحْتَهُ فِي الْعَادَةِ فَلَمْ يَلْزَمْ غَسْلُ مَا تَحْتَهُ وَشَعْرُ الذِّرَاعَيْنِ وَالْحَاجِبَيْنِ لَا يَسْتُرُ مَا تَحْتَهُ فِي الْعَادَةِ فَلَزِمَ إِذَا صَارَ كَثِيفًا فِي النَّادِرِ أَنْ يُغْسَلَ مَا تَحْتَهُ، وَأَمَّا الْغَسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ أَنَّ إِيصَالَ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ مُسْتَحَقٌّ فِي الجنابة لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً "، وَفِي الْوُضُوءِ إنما يلزمه غسل ما ظهر لقوله: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا تَحْتَ الْبَشَرَةِ لَا يَلْزَمُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُمِرَّ الْمَاءَ عَلَى جَمِيعِ الشَّعْرِ الظَّاهِرِ، وَإِنْ تَرَكَ مِنْهُ شَيْئًا وَإِنْ قَلَّ لَمْ يُجِزْهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَلْزَمُهُ أَنْ يَغْسِلَ الرُّبْعَ مِنْ شَعْرِ اللِّحْيَةِ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَالْخُفَّيْنِ وَلَا يَلْزَمُهُ فِي الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَغْسِلَ شَيْئًا مِنْهُمَا وَهَذَا خَطَأٌ

(1/109)


لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] . وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ نَابِتٌ عَلَى بَشَرَةِ الْوَجْهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ غَسْلُهُ كَالْحَاجِبَيْنِ فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ اسْتِيعَابَ غَسْلِهِ وَاجِبٌ فَفَرْضُ الْغَسْلِ يَنْتَقِلُ عَنِ الْبَشَرَةِ إِلَى الشَّعْرِ عَلَى سَبِيلِ الْأَصْلِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ، فَعَلَى هَذَا لَوْ غَسَلَ الشَّعْرَ ثُمَّ ذَهَبَ شَعْرُهُ، فَظَهَرَتِ الْبَشَرَةُ لَمْ يَجِبْ غَسْلُهَا. وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: فَرْضُ الْغَسْلِ يَنْتَقِلُ إِلَى الشَّعْرِ عَلَى سَبِيلِ البدل، فإن ظهرت الْبَشَرَةُ بَعْدَ زَوَالِ الشَّعْرِ لَزِمَهُ غَسْلُهَا كَظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ بَعْدَ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ فَرْضَ الْغَسْلِ يَتَعَلَّقُ بِالشَّعْرِ دُونَ الْبَشَرَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ غَسَلَ الْبَشَرَةَ دُونَ الشَّعْرِ لَمْ يُجِزْهُ، وَخَالَفَ مَسْحَ الْخُفَّيْنِ لِأَنَّهُ لَوْ غَسَلَ الرِّجْلَيْنِ وَلَمْ يَمْسَحْ عَلَى الْخُفَّيْنِ أَجْزَأَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَرْضَ يَنْتَقِلُ إِلَى الْخُفَّيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِ وَإِلَى شَعْرِ اللِّحْيَةِ عَلَى سَبِيلِ الْأَصْلِ.
فَأَمَّا الْبَيَاضُ الَّذِي بَيْنَ الْوَجْهِ وَالْعِذَارِ فَهُوَ مِنَ الْوَجْهِ يَجِبُ غَسْلُهُ مِنَ الْمُلْتَحِي وَغَيْرِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَلْزَمُهُ غَسْلُهُ مِنَ الْمُلْتَحِي لِأَنَّ شَعْرَ الْعِذَارِ حَائِلٌ بَيْنَهُ وبين الوجه وهذا خطأ، لأن عليا بْنَ أَبِي طَالِبٍ حِينَ وَصَفَ وُضُوءَ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَضَعَ إِبْهَامَيْهِ فِي أُصُولِ أُذُنَيْهِ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ مِنَ الْوَجْهِ لَمْ يَسْتُرْهُ شَعْرُ اللِّحْيَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَبْقَى فَرْضُ غَسْلِهِ كَالْوَجْنَةِ وَالْجَبْهَةِ.

فَصْلٌ: وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ
مِنْ أَحْوَالِ الْمُتَوَضِّئِ أَنْ يَكُونَ خَفِيفَ اللِّحْيَةِ لَا يَسْتُرُهُ شَعْرُ الْبَشَرَةِ فَهَذَا يَلْزَمُهُ غَسْلُ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى غَسْلِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّهُ مُوَاجِهٌ بِهِمَا جَمِيعًا فَلَوْ غَسَلَ الشَّعْرَ دُونَ الْبَشَرَةِ، أَوِ الْبَشَرَةِ دُونَ الشَّعْرِ لَمْ يُجِزْهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى غَسْلِ بَعْضِ الْوَجْهِ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَيْسَ عَلَيْهِ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْبَشَرَةِ وَإِنْ كَانَ الشَّعْرُ خَفِيفًا لِأَنَّ الْبَشَرَةَ بَاطِنَةٌ كَمَا لَوْ كَانَ الشَّعْرُ كَثِيفًا وَهَذَا خَطَأٌ لِرِوَايَةِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ فَخَلَّلَ بِهِ لِحْيَتَهُ وَقَالَ: " هَكَذَا أَمَرَنِي رَبِّي " وَلِأَنَّهَا بَشَرَةٌ ظَاهِرَةٌ مِنْ وَجْهِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهَا كَالَّتِي لَا شَعْرَ عَلَيْهَا وَلِأَنَّهُ حَائِلٌ لَهُ يَسْتُرُ جَمِيعَ الْمَحَلِّ، فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ بِهِ فَرْضُ الْمَحَلِّ قِيَاسًا على لبس خف مخرق.

(1/110)


فصل: والحالة الرَّابِعَةُ
أَنْ يَكُونَ بَعْضُ شَعْرِهِ خَفِيفًا لَا يَسْتُرُ الْبَشَرَةَ وَبَعْضُهُ كَثِيفًا يَسْتُرُ الْبَشَرَةَ وَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْكَثِيفُ مُتَفَرِّقًا بَيْنَ أَثْنَاءِ الْخَفِيفِ لَا يَمْتَازُ مِنْهُ وَلَا يَنْفَرِدُ عَنْهُ فَهَذَا يَلْزَمُهُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى جَمِيعِ الشَّعْرِ وَالْبَشَرَةِ مَعًا لِأَنَّ إِفْرَادَ الْكَثِيفِ بالغسل يشق وإمراره على الخفيف لا يجزي.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْخَفِيفُ مُتَمَيِّزًا مُنْفَرِدًا عَنِ الْكَثِيفِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ مَا تَحْتَ الْخَفِيفِ دُونَ الْكَثِيفِ اعْتِبَارًا بِمَا تَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ وَلَوْ غَسَلَ بَشَرَةَ جَمِيعِهِ كَانَ أَوْلَى.
فَأَمَّا شَعْرُ الْحَاجِبَيْنِ وَأَهْدَابُ الْعَيْنَيْنِ وَالشَّارِبِ وَالْعَنْفَقَةِ فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ الْأَرْبَعَةُ يَلْزَمُهُ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى مَا تَحْتَهَا مِنَ الْبَشَرَةِ سَوَاءٌ كَانَ شَعْرُهَا خَفِيفًا أَوْ كَثِيفًا.
لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا وَبَعْضُهُمْ يصله بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَنْسُوا الْمَغْفَلَةَ وَالْمَنْشَلَةَ "، فَالْمَغْفَلَةُ: الْعَنْفَقَةُ وَالْمَنْشَلَةُ مَا تَحْتَ الْخَاتَمِ، وَلِأَنَّ هَذِهِ مَوَاضِعُ يَخِفُّ شَعْرُهَا فِي الْغَالِبِ فَإِنْ كَثُفَتْ كَانَ نَادِرًا فَلَمْ يَسْقُطْ فَرْضُ الْغَسْلِ عَنِ الْبَشَرَةِ كَشَعْرِ الذِّرَاعَيْنِ وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ بَيْنَ مَغْسُولَيْنِ فاعتبر حكمه بما بينهما.

فَصْلٌ: فَأَمَّا صِفَةُ الْغَسْلِ
: فَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَاءَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا بِخِلَافِ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَكَذَا فَعَلَ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ لَهُ، وَلِأَنَّهُ أَسْبَغُ لِغَسْلِ وَجْهِهِ فَيَبْدَأُ بِأَعْلَى وَجْهِهِ ثُمَّ يَنْحَدِرُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُ، وَلِأَنَّهُ أَمْكَنُ لَهُ فَيَجْرِي الْمَاءُ بِطَبْعِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ مَسَّ الْمَاءَ عَلَى وَجْهِهِ وَلَا يَسِنُهُ وَالسَّنُّ بِغَيْرِ إِعْجَامٍ صَبُّ الْمَاءِ وَبِالشِّينِ تَفْرِيقُ الْمَاءِ ثُمَّ يَمُرُّ بِيَدَيْهِ بِالْمَاءِ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ الْمَاءُ جَمِيعَ مَا يَجِبُ إِيصَالُهُ إِلَيْهِ. فَإِنْ خَالَفَ مَا وَصَفْنَا فِي الِاخْتِيَارِ وَأَوْصَلَ الْمَاءَ إِلَى جَمِيعِ وَجْهِهِ أَجْزَأَهُ فَأَمَّا إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَى الْعَيْنَيْنِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَا سُنَّةٍ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا فَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ وَحَكَاهُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ لِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كان يفضله.

(1/111)


وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِيهِ وَيَنَالُهُ فَقَدْ رَوَى أَبُو أُمَامَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان إذا تؤضأ مَسَحَ بِأُصْبُعَيْهِ آمَاقَ عَيْنَيْهِ.
فَلَوْ كَانَ غَسْلُ الْعَيْنَيْنِ مَسْنُونًا أَوْ مُسْتَحَبًّا لَفَعَلَهُ احْتِيَاطًا لِنَفْسِهِ أَوْ بَيَانًا لِغَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: ثُمَّ يَغْسِلُ ذِرَاعَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثُمَّ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ وَيُدْخِلُ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْوُضُوءِ فِي الْغَسْلِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ الْيَدَيْنِ غَسَلَ مَا بَقِيَ مِنْهُمَا إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ وإن كَانَ أَقْطَعَهُمَا مِنَ الْمِرْفَقَيْنِ فَلَا فَرْضَ عَلَيْهِ فيهما. وأحب أن لو أمس موضهما الماء ".
قال الْمَاوَرْدِيُّ: غَسْلُ الذِّرَاعَيْنِ وَاجِبٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِذَا غَسَلَهُمَا لَزِمَهُ غَسْلُ الْمِرْفَقَيْنِ مَعَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الْكَافَّةِ إِلَّا زفر بن الهذيل، فَإِنَّهُ قَالَ: غَسْلُ الْمِرْفَقَيْنِ غَيْرُ وَاجِبٍ لِأَنَّ اللَّهَ تعالى جعلهما ما حَدًّا فَقَالَ: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . وَالْحَدُّ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَحْدُودِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] . فَجَعَلَ اللَّيْلَ حَدًّا فَلَمْ يَكُنْ دَاخِلًا فِيمَا لَزِمَ إِتْمَامُهُ مِنَ الصِّيَامِ وَكَمَا قَالَ بِعْتُكَ الدَّارَ وَحْدَهَا إِلَى الدُّكَّانِ لَمْ يَكُنِ الدُّكَّانُ دَاخِلًا فِي الْبَيْعِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . فَكَانَ الدَّلِيلُ فِي الْآيَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ إِلَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَعْنَى مَعَ وَلَيْسَتْ غَايَةً لِلْمَحْدُودِ فَتَصِيرُ حَدًّا وَتَقْدِيرُهُ مَعَ الْمَرَافِقِ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] . أَيْ مَعَ شَيَاطِينِهِمْ، وَكَقَوْلِهِ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف؛ 14] . أَيْ مَعَ اللَّهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ إِلَى وَإِنْ كَانَتْ حَدًّا وَغَايَةً فَقَدْ قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ الْحَدَّ إِذَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْمَحْدُودِ دَخَلَ فِي جُمْلَتِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ لَمْ يَدْخُلْ، أَلَا تَرَاهُمْ يَقُولُونَ بِعْتُكَ الثَّوْبَ

(1/112)


مِنَ الطَّرَفِ إِلَى الطَّرَفِ فَيَدْخُلُ الطَّرَفَانِ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُمَا مِنْ جِنْسِهِ وَكَذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ إِمْسَاكُ اللَّيْلِ فِي جُمْلَةِ الصِّيَامِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ النَّهَارِ ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ إِذَا غَسَلَ ذِرَاعَيْهِ أَدَارَ يَدَيْهِ عَلَى مِرْفَقَيْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِيجَابَ غَسْلِهِمَا مَا لَا يُعْرَفُ فِيهِ خِلَافٌ قَبْلَ زفر فَكَانَ زفر محجوبا بإجماع من تقدمه.

فَصْلٌ
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غَسْلَ الذِّرَاعَيْنِ مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ وَاجِبٌ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُتَوَضِّئِ مِنْ أحد أمرين:
الأول: إما أن تكون يده سليمة أو قطعا، فَإِنْ كَانَ سَلِيمَ الْيَدِ بَدَأَ بِغَسْلِ ذِرَاعِهِ الْيُمْنَى فَأَجْرَى الْمَاءَ عَلَيْهِ وَأَدَارَ كَفَّهُ الْيُسْرَى عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى نَفْسِهِ بَدَأَ مِنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ إِلَى مِرْفَقِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ بَدَأَ مِنْ مِرْفَقِهِ إِلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ وَوَقَفَ مَنْ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى يَسَارِهِ يَفْعَلُ كَذَلِكَ ثَلَاثًا ثُمَّ يَغْسِلُ ذِرَاعَهُ الْيُسْرَى كَذَلِكَ ثَلَاثًا فَإِنْ كَانَ أَقْطَعَ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
إِحْدَاهَا: أَنْ يَكُونَ أَقْطَعَ الْكَفِّ بَاقِيَ الذِّرَاعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ الذِّرَاعَ مَعَ الْمِرْفَقِ وَفَرْضُ الْكَفِّ قد سقط بزواله إلى غير بدل.
والحالة الثانية: أن يكون أقطع الذراع يأتي الْمِرْفَقِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَ الْمَرْفِقَ لِبَقَائِهِ مِنْ جملة المفروض في الغسل.
والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ أَقْطَعَ الذِّرَاعِ وَالْمِرْفَقِ فَلَا فَرْضَ عَلَيْهِ فِيهِ لِزَوَالٍ مَا فُرِضَ غَسْلُهُ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَمَسَّ مَوْضِعَهُ الْمَاءَ اخْتِيَارًا لَا وَاجِبًا.
وَأَنْكَرَ ابْنُ دَاوُدَ ذَلِكَ عَلَى الشَّافِعِيِّ إِنْكَارَ عِنَادٍ وَعَنَتٍ وَالْوَجْهُ فِي اسْتِحْبَابِهِ ذَلِكَ أُمُورٌ مِنْهَا الْأَثَرُ الْمَرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ اسْتَحَبَّ غَسْلَهُ.
وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ خَلَفًا فِيمَا فَاتَ، وَمِنْهَا أَنَّهُ مَوْضِعٌ قَدْ يَصِلُ إِلَيْهِ الْمَاءُ فِي إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ فَلَمْ يقدم ذلك لزوال الْعُضْوِ.
وَأَمَّا الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَوْ كَانَ أَقْطَعَهُمَا مِنَ الْمِرْفَقَيْنِ فَلَا فَرْضَ عَلَيْهِ فِيهِمَا، فَنَقَلَ جَوَابَ الْقِسْمِ الثَّالِثِ إِلَى الْقِسْمِ الثَّانِي، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ هَذَا غَلَطٌ مِنَ الْمُزَنِيِّ أَوْ سَهْوٌ فِي النَّقْلِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ أَقْطَعَ الذِّرَاعَيْنِ مِنَ الْمِرْفَقَيْنِ لَزِمَهُ غَسْلُ الْمِرْفَقَيْنِ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْفَرْضُ فِيهِمَا. وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ جَوَابُ الْمُزَنِيِّ صَوَابٌ وَنَقْلُهُ صَحِيحٌ وَإِنَّمَا غَلِطَ عَلَيْهِ فِي التَّأْوِيلِ وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ مِنَ الْمِرْفَقَيْنِ أَيْ مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقَيْنِ فَحُذِفَ ذَلِكَ اخْتِصَارًا وَاكْتَفَى بِفَهْمِ السَّامِعِ. ,

(1/113)


فَصْلٌ
إِذَا خُلِقَتْ لِرَجُلٍ يَدٌ زَائِدَةٌ فَلَا يَخْلُو مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلُهَا خَارِجًا مِنْ دُونِ الْمِرْفَقِ أَوْ مِنْ فَوْقِهِ. فَإِنْ كَانَتْ مِنْ دُونِ الْمِرْفَقِ فَغَسْلُهُمَا وَاجِبٌ عَلَيْهِ مَعَ ذِرَاعَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي كَفِّهِ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ فَوْقِ الْمِرْفَقِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا فَوْقَ الْمِرْفَقِ مِنَ الْيَدِ الزَّائِدَةِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا قَبْلَ الْمِرْفَقِ مِنَ الْيَدِ الزَّائِدَةِ إِلَى مَا انْحَدَرَ مِنْهَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِخُرُوجِ أَصْلِهِ عَنْ مَحَلِّ الْفَرْضِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُهُ لِمُشَارَكَتِهِ فِي اسْمِ الْيَدِ وَمُقَابَلَتِهِ مَحَلَّ الْفَرْضِ، فَلَوِ اسْتَرْسَلَتْ جِلْدَةٌ مِنْ عَضُدِهِ، فَإِنْ لم تلتصق بالذراع لم يلزمه غسلها، لأنها غير متصلة بمحل الفرض ولا ينطلق عليها اسم اليد.
وإن التصقت بالذراع إلى المرفق وَجَبَ غَسْلُهَا لِأَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِمَحَلِّ الْفَرْضِ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِالِالْتِصَاقِ فِي حُكْمِ الذِّرَاعِ.
فَأَمَّا إِنِ اسْتَرْسَلَتْ جِلْدَةٌ مِنَ الذِّرَاعِ وَجَبَ غَسْلُ جَمِيعِهَا سَوَاءٌ الْتَصَقَتْ بِالْعَضُدِ أَمْ لَا لِأَنَّهَا مِنَ الذراع. والله أعلم.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ ثَلَاثًا وَأُحِبُّ أَنْ يَتَحَرَّى جَمِيعَ رَأْسِهِ وَصُدْغَيْهِ يَبْدَأُ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ يَذْهَبُ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ يَرُدُّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ مَسْحُ الرَّأْسِ وَاجِبٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا يَجِبُ مَسْحُهُ منه على ثلاث مَذَاهِبَ شَتَّى.
فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْهُ ما ينطلق اسم المسح عليه ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا.
وَقَالَ مَالَكٌ الْوَاجِبُ مَسْحُ جَمِيعِ الرَّأْسِ فَإِنْ تَرَكَ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ عَامِدًا لَمْ يُجِزْهُ وَإِنْ تَرَكَ أَقَلَّ مِنَ الثَّلَاثِ نَاسِيًا أَجْزَأَهُ. . وَذَهَبَ الْمُزَنِيُّ إِلَى مَسْحِ جَمِيعِهِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. وَعَنْ أبي حنيفة روايتان:
أحدهما: أَنَّ الْوَاجِبَ مَسْحُ النَّاصِيَةِ وَهُوَ مَا بَيْنَ النَّزْعَتَيْنِ.
وَالثَّانِيَةُ: وَهِيَ الْمَشْهُورَةُ عَنْهُ وَبِهَا قَالَ أبو يوسف: إن الواجب مسح ربعه بثلاثة أَصَابِعَ فَإِنْ مَسَحَ الرُّبُعَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ أَصَابِعَ أَوْ مَسَحَ بِثَلَاثِ أَصَابِعَ أَقَلَّ مِنَ الرُّبُعِ لَمْ يُجِزْهُ، فَحَدُّ الْمَمْسُوحِ وَالْمَمْسُوحِ بِهِ.

(1/114)


فأما مالك فاستدل بقوله تعالى: ِ {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ، فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ أَنْ يَمْسَحَ جميع ما انطلق عليه اسم الرأس، وَبِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى ما قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا حَتَّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الذي بدأ منه، وبحديث الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ فَلَمَّا بَلَغَ مَسْحَ رَأْسِهِ وَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى مُقَدَّمِ رَأْسِهِ فَأَمَرَّهُمَا حَتَّى بَلَغَ الْقَفَا ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه.
ولأنه أحد الأعضاء الظاهرة فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اسْتِيعَابُهُ بِالتَّطْهِيرِ وَاجِبًا كَالْوَجْهِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ كَانَ مَحَلًّا لِفَرْضِ الْمَسْحِ تَعَلَّقَ بِهِ فَرْضُ الْمَسْحِ أَصْلُهُ الْبَعْضُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ، وَمِنْهُ دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَرَبَ لَا تُدْخِلُ فِي الْكَلَامِ حَرْفًا زَائِدًا إِلَّا بِفَائِدَةٍ، وَالْبَاءُ الزَّائِدَةُ، قَدْ تَدْخُلُ فِي كَلَامِهِمْ لِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا لِلْإِلْصَاقِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَصِحُّ الكلام بحذفها، ولا يتعدى الفعل إلى مفعوله إِلَّا بِهَا كَقَوْلِهِمْ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] . لِمَا لَمْ يَصِحَّ أَنْ يَقُولُوا مَرَرْتُ زَيْدًا، وَلْيَطَّوَّفُوا الْبَيْتَ كَانَ دُخُولُ الْبَاءِ لِلْإِلْصَاقِ، وَلِتَعَدِّي الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَإِمَّا لِلتَّبْعِيضِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَصِحُّ الْكَلَامُ بِحَذْفِهَا، وَبِتَعَدِّي الْفِعْلِ إِلَى مَفْعُولِهِ بَعْدَهَا لِيَكُونَ لِزِيَادَتِهَا فَائِدَةٌ.
فَلَمَّا حَسُنَ حَذْفُهَا مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ، لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ: {وامسحوا رءوسكم} [المائدة: 6] ، صَلَحَ دَلَّ عَلَى دُخُولِهَا لِلتَّبْعِيضِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ إِذَا أَرَادُوا ذِكْرَ كَلِمَةٍ اقْتَصَرُوا عَلَى أَوَّلِ حَرْفٍ مِنْهَا اكْتِفَاءً بِهِ، عَنْ جَمِيعِ الْكَلِمَةِ كَمَا قيل في قوله تعالى: {كهيعص} أَنَّ الْكَافَ مِنْ كَافِي، وَالْهَاءَ مِنْ هَادِي، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: قُلْتُ لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافِ. أَيْ وَقَفْتُ، وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ: نَادَوْهُمْ أَنْ أَلْجِمُوا أَلَا تَا فَقَالُوا جَمِيعًا كُلُّهُمْ أَلَا فَا، وَمَعْنَاهُ نَادَوْهُمْ أَنْ أَلْجِمُوا أَلَا تركبون قالوا جميعا ألا فاركبوا.

(1/115)


وَإِذَا كَانَ هَذَا مِنْ كَلَامِهِمْ كَانَتِ الْبَاءُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} (المائدة: 6) ، مُرَادًا بها بعض رؤوسكم لِأَنَّهَا أَوَّلُ حَرْفٍ مِنْ بَعْضٍ.
وَالدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ رِوَايَةُ ابْنِ سِيرِينَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بن شعبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ أَوْ قَالَ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَرَوَى أَبُو مَعْقِلٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يتوضأ عليه عمامةٌ فطرية، فأدخل يده من تحت العمامة فمسح مقدم رَأْسِهِ وَلَمْ يَنْقُضِ الْعِمَامَةَ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَوْ تَرَكَهُ نَاسِيًا فِي الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ صِحَّةِ الطَّهَارَةِ لَمْ يَكُنْ مِنْ فُرُوضِ الطَّهَارَةِ كَمَسْحِ الْأُذُنَيْنِ. فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَيْ دَلِيلِنَا مِنْهَا، فَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بن زيد والمقدام بن معد يكرب فَمَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ وَأَنَسٍ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ فَمُنْتَقَضٌ بِمَسْحِ الْخُفَّيْنِ لِأَنَّ كُلَّ مَوْضِعٍ مِنْهُ مَحَلٌّ لِفَرْضِ المسح وليس مسح جميعه واجب

(فصل: استدلال أبي حنيفة)
وَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ مَسْحِ رُبُعِهِ بِحَدِيثِ الْمُغِيرَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، قَالَ وَالنَّاصِيَةُ رُبُعُ الرَّأْسِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَجُزْ فِيهِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ. وَدَلِيلُنَا مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآيَةِ الْمُوجِبَةِ لِمَسْحِ الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِرُبُعٍ وَلَا ثُلُثٍ ثُمَّ حَدِيثُ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسح مقدم رأسه وذلك أَقَلُّ الرُّبُعِ، لِأَنَّهُ مَسَحَ بِالْمَاءِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَ مِنْهُ مَا انْطَلَقَ اسْمُ الْمَسْحِ عَلَيْهِ قياساُ عَلَى الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلِأَنَّهُ مَسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ فَوَجَبَ أَنْ يُجْزِئَهُ قِيَاسًا عَلَى الرُّبُعِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ، فَلَمْ

(1/116)


يَتَقَدَّرْ فَرْضُهُ بِالرُّبُعِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، ولأن التقدير لا يثبت قياساً ولا سيما أبي حنيفة، وَلِأَنَّ تَقْدِيرَهُ بِالرُّبُعِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ لَيْسَ بِأَوْلَى مِنْ قَدْرِهِ بِأَقَلَّ مِنْهُ أَوْ بِأَكْثَرَ فَكَانَ مُطَّرِحًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ: استحباب مسح جميع الرأس)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفَرْضَ فِي الرَّأْسِ مَسْحُ بَعْضِهِ وَإِنْ قَلَّ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْسَحَ جَمِيعَهُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ والمقدام بن معد يكرب أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ بَجَمِيعِ رَأْسِهِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَصِيرَ بِاسْتِيعَابِ مَسْحِ رَأْسِهِ مُؤَدِّيًا بِالْإِجْمَاعِ فَرْضَ مَا مَسَحَهُ، فَإِذَا أَرَادَ مَسْحَ رَأْسِهِ كُلِّهِ مَسَحَ بِيَدَيْهِ عَلَى مَا وَصَفَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ فَيَغْمِسُ يَدَهُ فِي الْمَاءِ وَيَبْدَأُ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ وَيُمِرُّهُمَا إِلَى قَفَاهُ ثُمَّ يَرُدُّهُمَا إِلَى مُقَدَّمِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَيَمْسَحُ جَمِيعَ رَأْسِهِ وَصُدْغَيْهِ. فَمَنْ جَعَلَ مِنْ أَصْحَابِنَا الصُّدْغَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ قَالَ إِنَّمَا أَمَرَ بِذَلِكَ لِاسْتِيعَابِ مَسْحِ الرَّأْسِ.
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهُمَا مِنَ الرَّأْسِ قَالَ إِنَّمَا أَمَرَ بِمَسْحِهِمَا وَإِنْ لَمْ يَكُونَا مِنْهُ لِيَصِيرَ بِالْمُجَاوَرَةِ إِلَيْهِمَا مُسْتَوْفِيًا لِجَمِيعِ الرَّأْسِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَوْعَبَ مَسْحَ رَأْسِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا. وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ: السُّنَّةُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمَا زَادَ عَنِ الْمَرَّةِ مَكْرُوهٌ استدلالاُ بِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسح رأسه مَرَّةً وَاحِدَةً وَلِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ فِي الطَّهَارَةِ فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ التَّكْرَارُ فِيهِ مَسْنُونًا كَالتَّيَمُّمِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَلِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْحِ مَقْصُورٌ عَلَى بَعْضِ الرَّأْسِ وَاسْتِيعَابَهُ سُنَّةٌ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ تَكْرَارُ مَسْحِهِ سُنَّةً ثَانِيَةً لِأَنَّ الْعُضْوَ الْوَاحِدَ لَا يَجْتَمِعُ فِيهِ سُنَّتَانِ.
وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ عُضْوٌ فِي الطَّهَارَةِ فَلَمْ يَجْتَمِعْ فِيهِ سُنَّتَانِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَلِأَنَّ الْمَسْنُونَ فِي الرَّأْسِ الْمَسْحُ وَفِي تَكْرَارِهِ خُرُوجٌ عَنْ حَدِّ المسح إلى الغسل والغسل غير مسنون فكذلك مَا أَدَّى إِلَيْهِ مِنْ تَكْرَارِ الْمَسْحِ غَيْرُ مَسْنُونٍ وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ حُمْرَانَ وَشَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا) . وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى وَأَبُو

(1/117)


رَافِعٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا. وَرَوَتِ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذِ بْنِ عَفْرَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ بِرَأْسِهِ مَرَّتَيْنِ، وَلِأَنَّهُ أَحَدُ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّكْرَارُ فِي إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهِ مَسْنُونًا قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَلِأَنَّ الْمَسْحَ أَحَدُ نَوْعَيِ الْوُضُوءِ فَكَانَ التَّكْرَارُ مَسْنُونًا فِيهِ كَالْغَسْلِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ بِأَنَّهُ مَسَحَ مَرَّةً فَهُوَ أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى الْجَوَازِ، وأحاديثنا عَلَى الِاسْتِحْبَابِ. وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّيَمُّمِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَالْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّهَا طَهَارَةٌ أُسْقِطَ فِيهَا الْمَسْنُونُ وَاقْتُصِرَ عَلَى بَعْضِ الْفَرْضِ، فَكَأَنَّ التَّكْرَارَ أُسْقِطَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَسْحُ الرَّأْسِ لِأَنَّ الْمَسْنُونَ مُعْتَبَرٌ فِيهِ كَسَائِرِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ الْعُضْوَ الْوَاحِدَ لَا يَدْخُلُهُ الْمَسْنُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ فَغَلَطٌ، وَلَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فِي الْوُضُوءِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَجْهَ فِيهِ سُنَّتَانِ: الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَالتَّكْرَارُ ثَلَاثًا فَكَذَا الرَّأْسُ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ يَصِيرُ بِتَكْرَارِ الْمَسْحِ مَغْسُولًا فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَكْرُوهَ هُوَ أَنْ يَبْتَدِئَ بِغَسْلِهِ وَهَذَا لَمْ يُبْتَدَأْ بِهِ، وَإِنَّمَا أَفْضَى إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: لَا يَصِيرُ مَغْسُولًا لِأَنَّ حَدَّ الْغَسْلِ أَنْ يَجْرِيَ الْمَاءُ بِطَبْعِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ بِتَكْرَارِ مَسْحِهِ.

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَفِي مَسْحِ الرَّأْسِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ فَرْضٌ وَسُنَّتَانِ وَهَيْئَةٌ، فَأَمَّا الْفَرْضُ فَمَسْحُ بعضه وإن قيل، وَأَمَّا السُّنَّتَانِ فَإِحْدَاهُمَا، اسْتِيعَابُ جَمِيعِهِ.
وَالثَّانِيَةُ: تَكْرَارُهُ ثَلَاثًا، وَأَمَّا الْهَيْئَةُ فَالْبِدَايَةُ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ إِذْهَابُ يَدَيْهِ إِلَى مُؤَخَّرِهِ ثُمَّ رَدُّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، فَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى الْفَرْضِ فَمَسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ إِذَا مَسَحَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فَصَاعِدًا، وَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا وَبِهِ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ مَسَحَ جُزْءًا مِنْ رَأْسِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ فِي الْإِمْكَانِ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الْمُتَعَلِّقَ بِالرَّأْسِ لَا يَكْمُلُ إِلَّا بِثَلَاثِ شَعَرَاتٍ كَالْفِدْيَةِ عَلَى الْمُحَرَّمِ.
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَالَّذِي أَرَاهُ أَوْلَى بِالْحَقِّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّرُ أَقَلُّهُ بِهَذَا الْعَدَدِ مِنْ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ وَمَا دُونَهَا بَلْ يَكُونُ مَسْحُ أَقَلِّهِ مُعْتَبَرًا بِأَنْ يَمْسَحَ بِأَقَلِّ شَيْءٍ مِنْ إِصْبَعِهِ عَلَى أَقَلِّ شَيْءٍ مِنْ رَأْسِهِ، فَيَكُونُ هُوَ الْأَقَلُّ الَّذِي لَا يُجْزِئُ دُونَهُ لِأَنَّهُ أَقَلُّ مَا يُقْتَصَرُ عَلَيْهِ فِي العرف وما

(1/118)


دُونَهُ خَارِجٌ عَنِ الْعُرْفِ، فَامْتَنَعَ مَا خَرَجَ عَنِ الْعُرْفِ أَنْ يَكُونَ حَدًّا، وَكَانَ مَا وَافَقَ الْعُرْفَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ حَدًّا.

(فَصْلٌ: القول في المسح على العمائم)
وإذا مسح بعض رأسه فيحتار أَنْ يُكْمِلَ ذَاكَ بِمَسْحِ الْعِمَامَةِ. نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ لِرِوَايَةِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شعبة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى عِمَامَتِهِ.
فَأَمَّا إِنِ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ الْعِمَامَةِ وَحْدَهَا دُونَ الرَّأْسِ لم يجزيه فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حنبل وسفيان الثوري يجزيه اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَرِيَّةً فَأَصَابَهُمُ الْبَرْدُ فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمرهم أن يمسحوا على العصائب والنساخين، يعني بالعصائب العمائم، والنساخين يَعْنِي بِهِ الْخِفَافَ، قَالَ: وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ يَسْقُطُ فِي التَّيَمُّمِ فَجَازَ الِاقْتِصَارُ بِالْمَسْحِ عَلَى حَائِلٍ دُونَهُ كَالرِّجْلَيْنِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} ، فَأَوْجَبَ الظَّاهِرُ تَعَلُّقَ الْفَرْضِ بِالرَّأْسِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ مَسَحَ بِرَأْسِهِ قَالَ: " هَذَا وضوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ " وَلِأَنَّهُ عُضْوٌ لَا يَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ فِي إِيصَالِ الْمَاءِ إِلَيْهِ فَلَمْ يَجُزِ الِاقْتِصَارُ عَلَى حَائِلٍ دُونَهُ كَالْوَجْهِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْخَبَرِ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ أَنْ يمسحوا على العمائم والنساخين، فَقَدْ كَانَتْ عَمَائِمُ الْعَرَبِ إِذْ ذَاكَ صِغَارًا وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ عَصَائِبَ لِصِغَرِهَا وَلَمْ تَكُنْ تَعُمُّ جَمِيعَ الرَّأْسِ وَلَا تَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْمَسْحِ إِلَيْهِ، إِمَّا مُبَاشَرَةً أَوْ بَلَلًا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ على الخفين، فالمعنى فيه لحوق المشقة بنزعهما وَأَنَّ فَرْضَ الرِّجْلَيْنِ اسْتِيعَابُ غَسْلِهِمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي الرَّأْسِ لِأَنَّ الْفَرْضَ مَسْحُ بَعْضِهِ وَلَا يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَعَ سَتْرِ رَأْسِهِ.

(فَصْلٌ)
: فإذا ثبت أن الفرض مباشرة الرأسة بِهِ فَسَوَاءٌ كَانَ مَحْلُوقَ الشَّعْرِ فَمَسَحَ بَشَرَةَ الرَّأْسِ أَوْ كَانَ نَابِتَ الشَّعْرِ فَمَسَحَ عَلَى الشَّعْرِ دُونَ الْبَشَرَةِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ اسْمَ الرَّأْسِ يَنْطَلِقُ عَلَيْهِمَا فَلَوْ كَانَ بَعْضُ رَأْسِهِ مَحْلُوقًا وَبَعْضُهُ شَعْرًا نَابِتًا كَانَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ مَسَحَ عَلَى الْمَوْضِعِ الْمَحْلُوقِ مِنْهُ أَوْ مَسَحَ عَلَى الشَّعْرِ النَّابِتِ فَلَوْ مَسَحَ عَلَى شَعْرِ رَأْسِهِ ثُمَّ حَلَقَهُ أَجْزَأَهُ الْمَسْحُ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْحِ قَدْ كَانَ وَاقِعًا فِي مَحَلِّهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَسَلَ وَجْهَهُ ثُمَّ كَشَطَ جِلْدَةً مِنْهُ أَجْزَأَهُ غَسْلُهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُعِيدَ غَسْلَ مَا ظَهَرَ مِنَ الْبَشَرَةِ تَحْتَ الْجِلْدِ الْمَكْشُوطِ.
فَأَمَّا إِذَا كَانَ ذَا جُمَّةٍ عَلَى رأسه فَلَهُ فِي مَسْحِهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:

(1/119)


أَحَدُهَا: أَنْ يَمْسَحَ أَصْلَ الْجُمَّةِ النَّابِتَةِ عَلَى الرأس فيجزيه سَوَاءٌ وَصَلَ بَلَلُ الْمَسْحِ إِلَى الْبَشَرَةِ أَمْ لَا كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ ذَا جُمَّةٍ فمسح طرف شعره النابت أجزأه.
والحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمْسَحَ عَلَى أَطْرَافِ الْجُمَّةِ وَأَهْدَابِ الشعر الخارج عن حد الرأس فلا يجزيه لِأَنَّ الرَّأْسَ اسْمٌ لِمَا عَلَا فَكَانَ الْمُسْتَرْسِلُ مِنْهُ لَا يُسَمَّى رَأْسًا فَلَمْ يُجْزِئْهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِ وَهَكَذَا لَوْ عَقَصَ أَطْرَافَ شَعْرِهِ الْمُسْتَرْسِلِ وَشَدَّهُ فِي وَسَطِ رَأْسِهِ وَمَسَحَ عَلَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حَائِلًا دُونَ الرَّأْسِ كَالْمَسْحِ على العمامة.
والحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَمْسَحَ مِنْ شَعْرِ جُمَّتِهِ مَوْضِعًا لَا يَخْرُجُ عَنْ مَنَابِتِ رَأْسِهِ وَلَا يَتَجَاوَزُ حده ففي إجزائه وجهان:
أحدها: لَا يَجُوزُ لِاسْتِرْسَالِهِ كَمَا لَوْ مَسَحَ الْمُسْتَرْسِلَ الْخَارِجَ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أصح أن يجزيه لِأَنَّهُ مَسَحَ شَعْرًا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حَدِّ الرَّأْسِ فَصَارَ كَمَسْحِهِ أُصُولَ شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللَّهُ أعلم.

(مسألة: القول في مسح الأذنين)
قال الشافعي رضي الله عنه: وَيَمْسَحُ أُذُنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا بماءٍ جديدٍ وَيُدْخِلُ أُصْبَعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ: مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ وَاجِبٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَسَحَ أُذُنَيْهِ حِينَ تَوَضَّأَ، وَعِنْدَهُ أَنَّ أَفْعَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْوُجُوبِ مَا لَمْ يَصِرْ فِيهَا دَلِيلٌ.
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امْرِئٍ حَتَّى يَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ، فَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ، وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ " فَلَمَّا اقْتَصَرَ بِمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ عَلَى الْأَعْضَاءِ الْأَرْبَعَةِ انْتَفَى وُجُوبُ مَا عَدَاهَا وَهَذَا مُخَصَّصٌ لِفِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ، لَوْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ دَلِيلًا عَلَى الْإِيجَابِ فَكَيْفَ وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهَا.
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَسْحَ الْأُذُنَيْنِ سُنَّةٌ قَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِمَا هَلْ هُمَا مِنَ الرَّأْسِ أَوْ مِنَ الْوَجْهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:

(1/120)


أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمَا لَيْسَا مِنَ الرَّأْسِ وَلَا مِنَ الْوَجْهِ، بَلْ هَمَّا سُنَّةٌ على حيالهما فيمسحان بِمَاءٍ جَدِيدٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة ومالك أنهما من الرأس لكن قال أبو حنيفة يُمْسَحَانِ مَعَ الرَّأْسِ، وَقَالَ مَالِكٌ يَمْسَحُهُمَا بِمَاءٍ جَدِيدٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيِّ أَنَّهُمَا مِنَ الْوَجْهِ يُغْسَلَانِ مَعَهُ وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ أَنَّ مَا أَقْبَلَ مِنْهُمَا مِنَ الْوَجْهِ يُغْسَلُ مَعَهُ، وَمَا أَدْبَرَ مِنْهُمَا مِنَ الرَّأْسِ يُمْسَحُ مَعَهُ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ إِنَّهُمَا مِنَ الرَّأْسِ بِرِوَايَةِ أَبِي أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ ".
وَقَدْ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ) {الأعراف: 150) . أَيْ بِأُذُنِهِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْأُذُنُ رَأْسًا، قَالَ وَلِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ مُتَّصِلٌ بِالرَّأْسِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ حُكْمًا قِيَاسِيًّا عَلَى جَوَانِبِ الرَّأْسِ.
وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُمَا مِنَ الْوَجْهِ فَاسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: " سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ "، فَأَضَافَ السَّمْعَ إِلَى الْوَجْهِ وَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ مَا أَقْبَلَ مِنَ الْوَجْهِ وَمَا أَدْبَرَ مِنَ الرَّأْسِ اسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْوَجْهَ مَا حَصَلَتْ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَالْمُوَاجَهَةُ حَاصِلَةٌ بِمَا أَقْبَلَ مِنْهُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْوَجْهِ.
وَدَلِيلُنَا مَا ذَكَرَهُ أَبُو إِسْحَاقَ فِي شَرْحِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَخَذَ لَهُمَا مَاءً جَدِيدًا " وَهَذَا نَصٌّ، وَلِأَنَّ كُلَّ عُضْوٍ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِفَرْضِ مَسْحِ الرَّأْسِ لَمْ يَكُنْ مِنَ الرَّأْسِ، أَصْلُهُ الْيَدَانِ طَرْدًا
وَآخِرُ الرَّأْسِ عَكْسًا.
وَلِأَنَّ الْمَسْحَ أَحَدُ نوعي الوضوء فوجب أن يتنوع أعضائه نَوْعَيْنِ فَرْضًا وَسُنَّةً كَغَسْلِ بَعْضِ أَعْضَائِهِ سُنَّةً مُفْرَدَةً وَهُوَ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ، وَبَعْضُهُ فَرْضٌ وَهُوَ بَاقِي الْأَعْضَاءِ.
وَلِأَنَّ كُلَّ مَحَلٍّ لَا يُجْزِئُ حَلْقُ شَعْرِهِ عَنْ نُسُكِ الْمُحْرِمِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مِنَ الرَّأْسِ كَالْوَجْهِ وَلِأَنَّ لِلرَّأْسِ أَحْكَامًا ثَلَاثَةً مِنْهَا فَرْضُ الْمَسْحِ، وَمِنْهَا إِحْلَالُ الْمُحْرِمِ بِحَلْقِهِ أَوْ تَقْصِيرِهِ

(1/121)


وَمِنْهَا وُجُوبُ الْفِدْيَةِ عَلَيْهِ بِتَغْطِيَتِهِ، فَلَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْأُذُنَيْنِ مِنْ أَحْكَامِ الرَّأْسِ مَا سِوَى الْمَسْحِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهَا حُكْمُ الْمَسْحِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنِ الْبَيَاضُ الْمُحِيطُ بِالْأُذُنِ مِنَ الرَّأْسِ مَعَ قُرْبِهِ فَلِأَنْ لَا تَكُونَ الْأُذُنُ مِنَ الرَّأْسِ مَعَ بُعْدِهَا أَوْلَى.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِحَدِيثِ أُمَامَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْأُذُنَانِ مِنَ الرَّأْسِ ". فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَاوِيَهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، وَشَهْرٌ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ لِأَنَّهُ خَرَفَ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ فَخَلَطَ فِي حَدِيثِهِ، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ فِي حَالِ الْخَرِيطَةِ مَا أُنْشِدَ فِيهِ مِنَ الشِّعْرِ مَا أَرْغَبُ بِنَفْسِي عَنْ ذِكْرِهِ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثِ قَالَ: لَا أَدْرِي هُوَ مِنْ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْ أَبِي أُمَامَةَ، وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ أَنَّهُ إِنْ صَحَّ فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ يُمْسَحَانِ كَمَسْحِ الرَّأْسِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِتَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) {الأعراف: 150) . أَيْ بِأُذُنِهِ فَهُوَ تَأْوِيلٌ يَدْفَعُونَ عَنْهُ بِالظَّاهِرِ مِنَ اسْمِ الرَّأْسِ.
وَأَمَّا قياسهم على إجزاء الرأس فالمعنى فيه أنه محل لفرض الْمَسْحُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأُذُنَانِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَنْ ذَهَبَ بِأَنَّهُمَا مِنَ الْوَجْهِ بِقَوْلِهِ سَجَدَ وَجْهِي لِلَّذِي خَلَقَهُ وَشَقَّ سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ، فَالْوَجْهُ إِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنِ الْجُمْلَةِ وَالذَّاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} (الرحمن: 27) . وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ الْأُذُنَيْنِ لَيْسَتَا مِنَ الْوَجْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الْكَيِّ فِي الْوَجْهِ وَأَبَاحَ الْكَيَّ فِي الْأُذُنِ.

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأُذُنَيْنِ سُنَّةٌ عَلَى حِيَالِهِمَا مُفْرَدَةٌ بِمَاءٍ جَدِيدٍ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَمْسَحَهُمَا مَعًا بِيَدَيْهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُقَدِّمُ يُمْنَى عَلَى يُسْرَى وَلَيْسَ فِي أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ عُضْوَانِ لَا تُقَدَّمُ الْيُمْنَى مِنْهُمَا عَلَى الْيُسْرَى غَيْرَ الْأُذُنَيْنِ ثُمَّ يُدْخِلُ أُصْبُعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ لِرِوَايَةِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ وَمَسَحَ بِأُذُنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا وَأَدْخَلَ أُصْبُعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ بماءٍ جَدِيدٍ ".
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُدْخِلُ أُصْبُعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:

(1/122)


أَحَدُهُمَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ وَحَكَاهُ الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ يُدْخِلُ أُصْبُعَيْهِ فِي صِمَاخَيْهِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ غَيْرِ مَاءِ أُذُنَيْهِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إِدْخَالُ الْأُصْبُعَيْنِ فِي الصِّمَاخَيْنِ سُنَّةً زَائِدَةً عَلَى مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ أنه يدخل إصبعيه في صماخيه بماء أذنيه فَعَلَى هَذَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ وَلَا يَكُونُ سُنَّةً زَائِدَةً عَلَى مَسْحِ الأذنين، وقد حكى عن أبي العباس ابن سُرَيْجٍ فِي مَسْحِ أُذُنَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُهُمَا ثَلَاثًا مِعِ وَجْهِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ، وَيَمْسَحُهُمَا مَعَ رَأْسِهِ كَمَا قَالَ أبو حنيفة وَيَمْسَحُهُمَا ثَلَاثًا مُفْرَدَةً كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَلَمْ يَكُنْ أَبُو الْعَبَّاسِ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَاجِبًا وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُهُ احْتِيَاطًا وَاسْتِحْبَابًا لِيَكُونَ مِنَ الخلاف خارجاً.

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: ثم يغسل رجليه ثلاثاً ثلاثاً إلى الكعبين.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَفَرْضُهُمَا عِنْدَ كَافَّةِ الْفُقَهَاءِ الْغَسْلُ دُونَ الْمَسْحِ، وَذَهَبَتِ الشِّيعَةُ إِلَى أَنَّ الْفَرْضَ فِيهِمَا الْمَسْحُ دُونَ الْغَسْلِ، وَجَمَعَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ فَأَوْجَبَ غَسْلَهُمَا وَمَسْحَهُمَا. وَاسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِجَوَازِ الْمَسْحِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الكَعْبَيْنِ} (المائدة: 6) . بِخَفْضِ الْأَرْجُلِ وَكَسْرِ اللَّامِ عَطْفًا عَلَى الرَّأْسِ. قَرَأَ بِذَلِكَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كثير وحمزة وأحد الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَاصِمٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الرِّجْلَيْنِ الْمَسْحَ لِعَطْفِهِمَا عَلَى الرَّأْسِ الْمَمْسُوحِ.
قَالَ: ويؤيد ذلك أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ سَمِعَ الْحَجَّاجَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: أَمَرَ اللَّهُ بِغَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ وَغَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَكَذَبَ الْحَجَّاجُ، إِنَّمَا أَمَرَ اللَّهُ

(1/123)


بِمَسْحِ الرِّجْلَيْنِ، فَقَالَ وَأَرْجُلِكُمْ بِالْخَفْضِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ الْمَسْحُ، وَيَأْبَى النَّاسُ إِلَّا الْغَسْلَ، وَقَالَ: غَسْلَتَانِ وَمَسْحَتَانِ.
فَدَلَّ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْآيَةَ تُوجِبُ الْمَسْحَ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَخَذَ حَفْنَةً مِنْ ماءٍ فَضَرَبَ بِهَا عَلَى رِجْلِهِ وَفِيهَا النَّعْلُ فَغَسَلَهَا بِهَا ثُمَّ فَعَلَ بِالْأُخْرَى مِثْلَ ذَلِكَ قَالَ: قُلْتُ وَفِي النَّعْلَيْنِ، قَالَ: وَفِي النَّعْلَيْنِ.
وَرَوَى حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَتَى كَظَامَةَ قومٍ. وَرُوِيَ سُبَاطَةَ قومٍ فَبَالَ قَائِمًا وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ، قَالُوا وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّهُ عُضْوٌ يَسْقُطُ فِي التَّيَمُّمِ مِثْلُهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَرْضُهُ الْمَسْحَ كَالرَّأْسِ، قَالُوا وَلِأَنَّ الْخُفَّ بَدَلٌ عَنِ الرِّجْلِ فَلَمَّا كَانَ الْبَدَلُ مَمْسُوحًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُبْدَلُ مَمْسُوحًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) {المائدة: 6) . إِلَى قَوْلِهِ: وَأَرْجُلَكُمْ بِنَصْبِ الْأَرْجُلِ وَفَتْحِ اللَّامِ مِنْهَا عَطْفًا عَلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ، قَرَأَ بِذَلِكَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ.
وَمِنَ الْقُرَّاءِ ابْنُ عَامِرٍ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عَاصِمٍ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فَرْضُ الرِّجْلَيْنِ الْغَسْلَ لِعَطْفِهِمَا بِالنَّصْبِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَغْسُولِ، فَإِنْ قِيلَ إِنْ كَانَتْ

(1/124)


هَذِهِ الْقِرَاءَاتُ الْمَنْصُوبَةُ تَدُلُّ عَلَى الْغَسْلِ فَالْقِرَاءَةُ الْمَخْفُوضَةُ تَدُلُّ عَلَى الْمَسْحِ، قِيلَ الْقِرَاءَةُ الْمَنْصُوبَةُ لَا تَدُلُّ إِلَّا عَلَى الْغَسْلِ وَالْقِرَاءَةُ الْمَخْفُوضَةُ يُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: عَلَى مَسْحِ الْخُفَّيْنِ فَيَكُونُ اخْتِلَافُ الْقِرَاءَتَيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعْنَيَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى عَطْفِ الْمُجَاوَرَةِ دُونَ الْحُكْمِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الرَّأْسِ، وَكَانَ الرَّأْسُ مَخْفُوضًا عَلَى إِعْرَابِ مَا جَاوَرَهُ، وَهَذَا لِسَانُ الْعَرَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ) {إبراهيم: 14) .
فَخُصَّ الْعَاصِفُ وَإِنْ كَانَ مَرْفُوعًا لِأَنَّهُ مِنْ صِفَةِ الرِّيحِ لَا مِنْ صِفَةِ الْيَوْمِ، وَالرِّيحُ مَرْفُوعَةٌ، وَالْيَوْمُ مَخْفُوضٌ لَكِنْ لَمَّا كَانَ مُجَاوِرًا لِلْيَوْمِ أَعْطَاهُ إِعْرَابَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صِفَةً لَهُ، وَكَقَوْلِهِمْ: جُحْرُ ضبٍّ خربٍ، وَإِنَّمَا هُوَ خربٌ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِلْجُحْرِ الْمَرْفُوعِ لَا لِلضَّبِّ الْمَخْفُوضِ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّبِّ أُعْطِيَ إِعْرَابَهُ، وَكَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
(لَقَدْ كَانَ فِي حولٍ ثواءٍ ثَوَيْتِهِ ... تَقَضِّي لباناتٌ ويسأم سائم)

فخض الثَّوَاءَ لِمُجَاوَرَتِهِ الْحَوْلَ وَإِنْ كَانَ مَرْفُوعًا.
ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ طَرِيقِ السُّنَّةِ أَنَّ النَّاقِلِينَ لِوُضُوءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُمْ عُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَالْمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ وَالرُّبَيِّعُ بِنْتُ مُعَوِّذٍ فَنَقَلُوا جَمِيعًا حِينَ وَصَفُوا وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ غَسَلَ رِجْلَيْهِ، وَكَانَ مَا نَقَلُوهُ مِنْ فِعْلِهِ بَيَانًا لِمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ فِي الْوُضُوءِ من فرضه.

(1/125)


وَرَوَى عُمَارَةُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَأَى رَجُلًا يَتَوَضَّأُ وَهُوَ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ فَقَالَ: " بِهَذَا أُمِرْتُ ".
وَرَوَى مُجَاهِدٌ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: اطَّلَعَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ بَيْتِهِ وَنَحْنُ نَتَوَضَّأُ فَقَالَ: " ويلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنَ النَّارِ " فَجَعَلْنَا نُدَلِّكُ أَقْدَامَنَا وَنَغْسِلُهَا غَسْلًا.
وَرَوَى الْقَاسِمُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ويلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، ويلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ، ويلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ "، فَمَا بَقِيَ أحدٌ فِي الْمَسْجِدِ شريفٌ وَلَا وضيعٌ إِلَّا نَظَرْتُ إِلَيْهِ يُقَلِّبُ عُرْقُوبَيْهِ يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا ".
وَرَوَى أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا تَوَضَّأَ يُدَلِّكُ أَصَابِعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِهِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَخْبَارِ دَالَّةٌ عَلَى الْغَسْلِ دُونَ الْمَسْحِ لِأَنَّ الْمَسْحَ لَا يَحْتَاجُ إِلَى كُلِّ هَذَا.
وَرَوَى الْعَلَاءُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قِيلَ يَا رَسُولَ الله كيف

(1/126)


يُعْرَفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لرجلٍ خيلٌ غرٌ محجلةٌ في خيلٍ بهمٍ أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ، قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ.
فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْغَسْلِ لِأَنَّ آثَارَ التَّحْجِيلِ يَكُونُ مِنَ الْغَسْلِ لَا مِنَ الْمَسْحِ فَأَمَّا الْمَعْنَى فَإِنَّهُ عُضْوٌ مَفْرُوضٌ فِي أَحَدِ طَرَفَيِ الطَّهَارَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَغْسُولًا كَالْوَجْهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَهُوَ مَا قَدَّمْنَاهُ دَلِيلًا، وَاسْتِعْمَالًا.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ كِتَابُ اللَّهِ الْمَسْحُ وَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ الْغَسْلُ فَكَانَ إِنْكَارُهُ عَلَى الْحَجَّاجِ أَنَّ الْكِتَابَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى الْغَسْلِ وَإِنَّمَا السُّنَّةُ دَالَّةٌ عَلَيْهِ فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَدْ رُوِّينَاهُ عَنْهُ بِخِلَافِهِ وَأَنَّهُ قَرَأَ بِالنَّصْبِ، وَيُحْتَمَلُ قَوْلُهُ غَسْلَتَانِ وَمَسْحَتَانِ يَعْنِي الْوَجْهَ وَالذِّرَاعَيْنِ يُغْسَلَانِ فِي الْوُضُوءِ وَيُمْسَحَانِ فِي التَّيَمُّمِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ غَسَلَهُمَا فِي نَعْلَيْهِ، أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ أَنَّهُ أَقْرَأَ الْحَسْنَ وَالْحُسَيْنَ بِالْخَفْضِ قَالَ فَنَادَانِي عَلِيٌّ مِنَ الْحُجْرَةِ بِالْفَتْحَةِ بِالْفَتْحَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ حُذَيْفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أتى كطامة قومٍ وَرُوِيَ سُبَاطَةَ قومٍ فَالْكِظَامَةُ الْمَطْهَرَةُ وَالسُّبَاطَةُ الْفِنَاءُ فَبَالَ قَائِمًا وَمَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ فَقَدْ أَنْكَرَتْ عَائِشَةُ هَذَا الْحَدِيثَ وَمَنَعَتْ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَالَ قَائِمًا.
وَقِيلَ بَلْ فَعَلَ ذَلِكَ لِجُرْحٍ كان في مابضه، وَالْمَأْبِضُ: هُوَ عِرْقٌ فِي بَاطِنِ السَّاقِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَسَحَ عَلَى نَعْلَيْهِ مِنْ نَجَاسَةٍ وَقَعَتْ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ مَسْحَ النَّعْلَيْنِ لَا يُجْزِئُ عن مسح

(1/127)


الرِّجْلَيْنِ بِالْإِجْمَاعِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى التَّيَمُّمِ فَبَاطِلٌ بِالْجُنُبِ لِأَنَّ الْفَرْضَ فِي بَدَلِهِ الْغَسْلُ وَإِنْ كَانَ سَاقِطًا فِي التَّيَمُّمِ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ مَا كَانَ بَدَلُهُ مَمْسُوحًا كَانَ مُبْدَلُهُ مَمْسُوحًا فباطل بالوجه وهو التَّيَمُّمِ مَمْسُوحٌ وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ وَفِي الْوُضُوءِ مَغْسُولٌ والوضوء مبدل والله أعلم.

مسألة
: قال الشافعي رضي الله عنه: والكعبان هما العظمتان النَّاتِئَانِ وَهُمَا مُجْتَمَعُ مَفْصِلِ السَّاقِ وَالْقَدَمِ وَعَلَيْهِمَا الغسل كالمرفقين.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، الْكَعْبَانِ هُمَا النَّاتِئَانِ بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ.
وَحُكِيَ عَنْ محمد بن الحسن أَنَّ الْكَعْبَ مَوْضِعُ الشِّرَاكِ عَلَى ظَهْرِ الْقَدَمِ وَهُوَ النَّاتِئُ مِنْهُ. اسْتِشْهَادًا بِأَنَّ ذَاكَ لُغَةُ أَهْلِ الْيَمَنِ وَيُحْكَى عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْكَعْبَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ مَا قَالَهُ محمد وَإِنَّمَا عَدَلَ عَنْهُ الشافعي بالشرع وأنكر أصحابنا ذلك فقالوا: بَلِ الْكَعْبُ مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ لُغَةً وَشَرْعًا أما اللغة فمن وجهين: نقل واشتقاق. فأما النَّقْلُ فَهُوَ مَحْكِيٌّ عَنْ قُرَيْشٍ، وَنِزَارٍ، كُلِّهَا مُضَرَ وَرَبِيعَةَ، لَا يَخْتَلِفُ لِسَانُ جَمِيعِهِمْ أَنَّ الْكَعْبَ اسْمٌ لِلنَّاتِئِ بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ وَهُمْ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لِسَانُهُمْ مُعْتَبَرًا فِي الْأَحْكَامِ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَلِأَنَّ الْقُرْآنَ بِلِسَانِهِمْ نَزَلَ.
وَأَمَّا الِاشْتِقَاقُ فَهُوَ أَنَّ الْكَعْبَ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ كُلِّهَا اسْمٌ لِمَا اسْتَدَارَ وَعَلَا وَلِذَلِكَ قَالُوا قَدْ كَعَّبَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ إِذَا عَلَا وَاسْتَدَارَ وَجَارِيَةٌ كُعُوبٌ.
وَسُمِّيَتِ الْكَعْبَةُ كَعْبَةً لِاسْتِدَارَاتِهَا وَعُلُوِّهَا وَلَيْسَ يَتَّصِلُ بِالْقَدَمِ مَا يَسْتَحِقُّ هَذَا الِاسْمَ إِلَّا مَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ لِعُلُوِّهِ وَاسْتِدَارَتِهِ، فَهَذَا مَا تَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ نَقْلًا وَاشْتِقَاقًا، وَأَمَّا الشَّرْعُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ نَصٌّ وَاسْتِدْلَالٌ:
أَمَّا النَّصُّ فَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ النَبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِزْرَةُ الْمُسْلِمِ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ وَلَا حَرَجَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَعْبَيْنِ وَمَا كَانَ أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ فَهُوَ فِي النَّارِ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِجَابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ: " ارْفَعْ إِزَارَكَ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِلَى الْكَعْبَيْنِ ". فَدَلَّ

(1/128)


نَصُّ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ عَلَى أَنَّ الْكَعْبَيْنِ أَسْفَلُ السَّاقِ لَا مَا قَالُوهُ مِنْ ظَاهِرِ الْقَدَمِ، وأما الاستدلال بقوله تعالى: {أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) {المائدة: 6) . فَلَمَّا ذَكَرَ الْأَرْجُلَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَذَكَرَ الْكَعْبَيْنِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ كَمَا ذَكَرَ فِي الْمَرَافِقِ اقْتَضَى أَنْ تَكُونَ التَّثْنِيَةُ رَاجِعَةً إِلَى كُلِّ رِجْلٍ فَيَكُونُ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبَانِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِيمَا وَصَفَهُ الشَّافِعِيُّ مِنَ الْمُسْتَدِيرِ بَيْنَ السَّاقِ وَالْقَدَمِ وَعَلَى مَا قَالُوهُ يَكُونُ فِي كُلِّ رِجْلٍ كَعْبٌ وَاحِدٌ.

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْكَعْبَ مَا وَصَفْنَا وَجَبَ غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ، وَخَالَفَ زفر كَخِلَافِهِ فِي الْمِرْفَقَيْنِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مَعَهُ فَإِذَا أَرَادَ غَسْلَ رِجْلَيْهِ بَدَأَ بِالْيُمْنَى مِنْهُمَا فَغَسَلَهَا مِنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ إِلَى كَعْبَيْهِ إِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ غيره يصب الماء عليه غسلها مِنْ كَعْبَيْهِ إِلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثًا ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى كَذَلِكَ ثَلَاثًا.

(مسألة: القول في تخليل الأصابع)
قال الشافعي رضي الله عنه: وَيُخَلِّلُ بَيْنَ أَصَابِعِهِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَقِيطَ بْنَ صَبِرَةَ بِذَلِكَ، وَذَلِكَ أَكْمَلُ الْوُضُوءِ إن شاء الله.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا تَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ فَمَأْمُورٌ بِهِ لِرِوَايَةِ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبِرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أخبرني عن الْوُضُوءِ قَالَ: أَسْبِغِ الْوُضُوءَ وَخَلِّلْ بَيْنَ الْأَصَابِعِ، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ أَصَابِعُهُ مُتَضَايِقَةً أَوْ مُتَرَاكِبَةً لَا يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى مَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالتَّخْلِيلِ فَالتَّخْلِيلُ وَاجِبٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَفَرِّقَةً يَصِلُ الْمَاءُ إِلَى مَا بَيْنَهَا بِغَيْرِ تَخْلِيلٍ فَالتَّخْلِيلُ سُنَّةٌ فَيَبْدَأُ فِي تَخْلِيلِ أَصَابِعِهِ الْيُمْنَى مِنْ خِنْصَرِهِ إِلَى إِبْهَامِهِ ثُمَّ بِالْيُسْرَى مِنْ إِبْهَامِهِ إِلَى خِنْصَرِهِ لِيَكُونَ تَخْلِيلُهَا نَسَقًا عَلَى الْوَلَاءِ وَكَيْفَمَا خَلَّلَهُمَا وَأَوْصَلَ الْمَاءَ إِلَيْهِمَا أَجْزَأَهُ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَذَلِكَ أَكْمَلُ الْوُضُوءِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّ فِي النَّاسِ مَنْ خَالَفَهُ فِي الْأَكْمَلِ فَأَضَافَ بَعْضُهُمْ إِلَى كَمَالِ الْوُضُوءِ إِدْخَالَ الْمَاءِ فِي الْعَيْنَيْنِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ، وَزَادَ عَطَاءٌ فِيهِ تَخْلِيلَ اللِّحْيَةِ، وَزَادَ فِيهِ غَيْرُهُ مَسْحَ الْحَلْقِ بِالْمَاءِ فَلِأَجْلِ هَذَا الْخِلَافِ لَمْ يَقْطَعْ بِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ أَكْمَلُ الْوُضُوءِ فَقَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَيْسَ يَعُودُ إِلَى الْكَمَالِ وَلَكِنْ يَعُودُ إِلَى مَا نَدَبَ إِلَى فِعْلِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَتَقْدِيرُهُ، " فيوض كَذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ".
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا أَذْكَارُ الْوُضُوءِ فَالْمَسْنُونُ مِنْهَا هُوَ التَّسْمِيَةُ أَمَّا الْوُضُوءُ وَقَدْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَّا مَا سِوَى التَّسْمِيَةِ مِنَ الْأَذْكَارِ عِنْدَ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ فَقَدْ جَاءَتْ بِهَا آثَارٌ

(1/129)


مَنْقُولَةٌ يَخْتَارُ الْعَمَلَ بِهَا وَإِنْ كَانَتِ التَّسْمِيَةُ أَوْكَدَ مِنْهَا، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ: اللَّهُمَّ اسْقِنِي مِنْ حَوْضِ نَبِيِّكَ كَأْسًا لَا ظمأ بَعْدَهُ، وَيَقُولُ عِنْدَ الِاسْتِنْشَاقِ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنِي رَائِحَةَ جِنَانِكَ وَنَعِيمَكَ، وَيَقُولُ عِنْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ اللَّهُمَّ بَيِّضْ وَجْهِي يَوْمَ تَبْيَضُّ فِيهِ وُجُوهٌ وتسود فيه وُجُوهٌ، وَيَقُولُ عِنْدَ غَسْلِ ذِرَاعَيْهِ اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كِتَابِي بِيَمِينِي وَحَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا، وَلَا تُعْطِنِي كِتَابِي بِشِمَالِي فَأَهْلِكَ، وَيَقُولُ عِنْدَ مَسْحِ رَأْسِهِ اللهم اظللني تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِكَ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّكَ، وَيَقُولُ عِنْدَ مَسْحِ أُذُنَيْهِ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وَيَقُولُ عِنْدَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ اللَّهُمَّ أَجِزْنِي عَلَى الصِّرَاطِ وَلَا تَجْعَلْنِي مِمَّنْ يَتَرَدَّى فِي النَّارِ فَهَذَا كُلُّهُ مَأْثُورٌ عَنِ الْفُضَلَاءِ الصَّالِحِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ والتابعين.

(فَصْلٌ)
: وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ عَلَى الْمَأْقَيْنِ " وَهِيَ تَثْنِيَةُ مَأْقٍ وَهُوَ طَرَفُ الْعَيْنِ الَّذِي يَلِي الْأَنْفَ وَهُوَ مَخْرَجُ الدَّمْعِ، فَأَمَّا الطَّرَفُ الْآخَرُ فَهُوَ اللِّحَاظُ وَمَسْحُ الْمَأْقَيْنِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِهِمَا فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا رَمْصٌ ظَاهِرٌ يَمْنَعُ مِنْ وُصُولِ الْمَاءِ إِلَى مَحَلِّهِ كَانَ مَسْحُهُمَا وَاجِبًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا رَمْصٌ كَانَ مَسْحُهُمَا مُسْتَحَبًّا كَالتَّخْلِيلِ.

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: وَأُحِبُّ أَنْ يُمِرَّ الْمَاءَ عَلَى مَا سَقَطَ مِنَ اللِّحْيَةِ عَنِ الْوَجْهِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَفِيهَا قَوْلَانِ قَالَ يُجْزِيهِ فِي أَحَدِهِمَا وَلَا يُجْزِيهِ فِي الْآخَرِ، قَالَ الْمُزَنِيُّ: يُجْزِيهِ أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ مَا سَقَطَ مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ مِنَ الرَّأْسِ فَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَلَّا يَجْعَلَ مَا سَقَطَ مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الْوَجْهِ مِنَ الْوَجْهِ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذِهِ أَوَّلُ مَسْأَلَةٍ نَقَلَهَا الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ هَذَا عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَجُمْلَةُ شَعْرِ اللِّحْيَةِ أَنَّهُ مَتَى لَمْ يَتَجَاوَزِ الْأُذُنَ عَرْضًا، وَلَمْ يَسْتَرْسِلْ عَنِ الذَّقَنِ طُولًا فَإِمْرَارُ الْمَاءِ عَلَيْهِ وَاجِبٌ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ، وَإِنْ تَجَاوَزَ الْأُذُنَيْنِ عَرْضًا وَاسْتَرْسَلَ عَنِ الذَّقْنِ طُولًا لَزِمَهُ غَسْلُ مَا قَابَلَ الْبَشَرَةَ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِغَسْلِ مَا انْتَشَرَ عَنْهَا عَرْضًا وَمَا اسْتَرْسَلَ مِنْهَا طُولًا، وَفِي وُجُوبِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمُزَنِيِّ وَمَذْهَبُ أبي حنيفة أَنَّ إِمْرَارَ الْمَاءِ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاجِبٍ وَتَرْكَهُ مُجْزِئٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَحَدُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ فَلَمْ يكن ما استرسل من شعره داخل فَيَ حُكْمِهِ كَالرَّأْسِ. وَلِأَنَّ انْتِقَالَ الْفَرْضِ فِي الْبَشَرَةِ إِلَى مَا يُوَازِيهَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلَى مَا يُحَاذِيهَا كَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ إِمْرَارَ الْمَاءِ واجب عليه وتركه غير مجزى، وَوَجْهُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ وَاللِّحْيَةُ يَتَنَاوَلُهَا اسْمُ الْوَجْهِ لُغَةً وَشَرْعًا:
أَمَّا اللُّغَةُ فَلِأَنَّ الْوَجْهَ سُمِّيَ وَجْهًا لِحُصُولِ الْمُوَاجَهَةِ لَهُ وَاللِّحْيَةُ مِمَّا يَحْصُلُ بِهَا

(1/130)


الْمُوَاجَهَةُ فَكَانَتْ دَاخِلَةً فِي اسْمِ الْوَجْهِ وَكَذَلِكَ قَالُوا قَدْ بَقَلَ وَجْهُهُ وَنَبَتَ وَجْهُهُ إِذَا خَرَجَتْ لِحْيَتُهُ.
وَأَمَّا الشَّرْعُ فَمَا رَوَاهُ عَطَاءُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُغَطُّوا اللِّحْيَةَ فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا مِنَ الْوَجْهِ " فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اللِّحْيَةَ مِنَ الْوَجْهِ لُغَةً وَشَرْعًا وَجَبَ غَسْلُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) {المائدة: 6) .
وَلِأَنَّهُ شَعْرٌ ظَاهِرٌ نَبَتَ عَلَى مَحَلٍّ مَغْسُولٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ وَاجِبًا قِيَاسًا عَلَى مَا لَمْ يَسْتَرْسِلْ مِنْ شَعْرِ الْوَجْهِ وَلِأَنَّ كُلَّ شَعْرٍ وَاجِبٌ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَطُولَ وَجَبَ إِيصَالُ الْمَاءِ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ طَالَ قِيَاسًا عَلَى الشَّارِبِ وَالْحَاجِبِ وَشَعْرِ الذِّرَاعِ. فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَعْرِ الرَّأْسِ فَمُمْتَنِعٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الرَّأْسَ اسْمٌ لِمَا تَرَأَّسَ وَعَلَا وَلِذَلِكَ قِيلَ فُلَانٌ رَئِيسُ قَوْمِهِ إِذَا عَلَاهُمْ بِأَمْرِهِ فَلَمْ يَدْخُلْ مَا اسْتَرْسَلَ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ فِي اسْمِهِ، وَالْوَجْهُ: اسْمٌ لِمَا وَقَعَتْ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ فَدَخَلَ مَا اسْتَرْسَلَ مِنَ اللِّحْيَةِ فِي اسْمِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الِاحْتِيَاطَ أَنْ يَغْسِلَ شَعْرَ الْوَجْهِ مَعَ الْوَجْهِ فَأَوْجَبْنَاهُ، وَالِاحْتِيَاطُ ألا يسمح عَلَى الْمُسْتَرْسِلِ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ فَأَسْقَطْنَاهُ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِيهِمَا فَرْقًا مَانِعًا مِنَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَمُنْتَقَضٌ بِالشَّارِبِ وَالْحَاجِبِ وَالْعَنْفَقَةِ. ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْخُفَّيْنِ أَنَّ الْفَرْضَ انْتَقَلَ إِلَيْهِمَا عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ وَلِذَلِكَ بَطَلَ الْمَسْحُ بِظُهُورِ الْقَدَمَيْنِ فَلِذَلِكَ كَانَ الْفَرْضُ مَقْصُورًا عَلَى مَحَلِّ الْقَدَمَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ شَعْرُ الْوَجْهِ لِأَنَّ الْفَرْضَ لَمْ يَنْتَقِلْ إِلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْبَدَلِ وَكَذَلِكَ لَمْ يَبْطُلْ غَسْلُ الْوَجْهِ بِظُهُورِ الْبَشَرَةِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ الْفَرْضُ مَقْصُورًا عَلَى مَسْحِ الْبَشَرَةِ وَكَانَ مُسْتَوْعِبًا لِجَمِيعِ مَا انْتَقَلَ الفرض إليه.

(مسألة)
: قال الشافعي وَلَوْ غَسَلَ وَجْهَهُ مَرَّةً وَلَمْ يَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي الْإِنَاءِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمَا قذرٌ وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ مَرَّةً مَرَّةً وَمَسَحَ بعض رأسه بيده أو ببعضهما مَا لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مَنَابِتِ شَعْرِ رَأْسِهِ أجزأه. وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مسح بناصيته وعلى

(1/131)


عمامته. (قال الشافعي) والنزعتان من الرأس وغسل رجليه مرةً مرةً وعم بكل مرةٍ ما غسل أجزأه وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وضوءٌ لا يقبل الله تبارك وتعالى صلاة إِلَّا بِهِ " ثمَ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: " مَنْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ آتَاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ " ثَمَّ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي وَوُضُوءُ خليلي إبراهيم صلى الله عليه وسلم " (قال) وفي تركه أن يتمضمض ويستنشق ويمسح أذنيه ترك للسنة وليست الأذنان من الوجه فيغسلا ولا من الرأس فيجزي مسحه عليهما فهما سنةٌ على حيالهما واحتج بأنه لما لم يكن على ما فوق الأذنين مما يليهما من الرأس ولا على ما وراءهما مما يلي منابت شعر الرأس إليهما ولا على ما يليهما إلى العنق مسحٌ وهو إلى الرأس أقرب كانت الأذنان من الرأس أبعد. (قال المزني) لو كانتا من الرأس أجزأ من حج حلقهما عن تقصير الرأس فصح أنهما سنةٌ على حيالهما.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: الْوُضُوءُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ فَقِسْمٌ فَرِيضَةٌ، وَقِسْمٌ سُنَّةٌ، وَقِسْمٌ هَيْئَةٌ، وَقِسْمٌ فَضِيلَةٌ: فَأَمَّا الْفَرِيضَةُ فَسِتٌّ لَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ فِيهَا وَسَابِعٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ:
أَحَدُّهَا: النِّيَّةُ.
وَالثَّانِي: غَسْلُ جَمِيعِ الْوَجْهِ.
وَالثَّالِثُ: غَسْلُ الذِّرَاعَيْنِ مَعَ الْمِرْفَقَيْنِ.
وَالرَّابِعُ: مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ وَإِنْ قَلَّ.
وَالْخَامِسُ: غَسْلُ الرِّجْلَيْنِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ.
وَالسَّادِسُ: التَّرْتِيبُ.
وَالسَّابِعُ: الْمُخْتَلَفُ فِيهِ الْمُوَالَاةُ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ، هُوَ فَرْضٌ فَإِنْ فَرَّقَ وُضُوءَهُ لَمْ يُجْزِهِ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَإِنْ فَرَّقَ وُضُوءَهُ أَجْزَأَهُ، فَأَمَّا الْمَاءُ الطَّاهِرُ فَلَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي عَدَدِ فُرُوضِهِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ كَانَ يَعُدُّهُ فَرْضًا ثَامِنًا.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَعَشْرٌ: خَمْسٌ قَبْلَ الْوَجْهِ وَخَمْسٌ بَعْدَهُ، فَأَمَّا الْخَمْسُ الَّتِي قَبْلَ الْوَجْهِ:
أَحَدُهَا: التَّسْمِيَةُ.
وَالثَّانِي: غَسْلُ الْكَفَّيْنِ ثَلَاثًا.
وَالثَّالِثُ: الْمَضْمَضَةُ.
وَالرَّابِعُ: الِاسْتِنْشَاقُ.
وَالْخَامِسُ: الْمُبَالَغَةُ فِي الِاسْتِنْشَاقِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فَيَرْفُقَ. وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَضُمُّ إِلَيْهَا سَادِسًا وَهُوَ السِّوَاكُ.
وَأَمَّا الْخَمْسُ الَّتِي بَعْدَ الْوَجْهِ:
أَحَدُهَا: التَّبْدِئَةُ بِالْمَيَامِنِ.

(1/132)


وَالثَّانِي: اسْتِيعَابُ جَمِيعِ الرَّأْسِ.
وَالثَّالِثُ: مَسْحُ الْأُذُنَيْنِ ظَاهِرِهِمَا وَبَاطِنِهِمَا بِمَاءٍ جَدِيدٍ.
وَالرَّابِعُ: إِدْخَالُ السَّبَّابَتَيْنِ فِي صِمَاخَيِ الْأُذُنَيْنِ.
وَالْخَامِسُ: تَخْلِيلُ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ.
وكان ابن العاص يَضُمُّ إِلَيْهِمَا سَادِسًا وَهُوَ مَسْحُ الْعُنُقِ بِالْمَاءِ.
وَأَمَّا الْهَيْئَةُ فَهِيَ التَّبْدِيَةُ فِي الْوَجْهِ بِأَعْلَاهُ وَفِي الْيَدَيْنِ بِالْكَفَّيْنِ وَفِي الرَّأْسِ بِمُقَدَّمِهِ وَفِي الرِّجْلَيْنِ بِأَطْرَافِ أَصَابِعِهِ عَلَى مَا مَضَى مِنْ صِفَةِ ذَلِكَ وَهَيْئَتِهِ.
وَأَمَّا الْفَضِيلَةُ فَهُوَ التَّكْرَارُ ثَلَاثًا فَإِنِ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ أَجْزَأَهُ وَهُوَ الْغَرَضُ وَإِنْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْهُمَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: الْفَضِيلَةُ فِي الثَّلَاثِ وَالْمَرَّةُ أَفْضَلُ مِنَ الْمَرَّتَيْنِ وَهَذَا مَدْفُوعٌ بِالسُّنَّةِ وَالْعِبْرَةِ. وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وضوءٌ لا يقبل الله تبارك وتعالى صلاةً إِلَّا بِهِ " ثمَ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: " مَنْ تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ آتَاهُ اللَّهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ " ثَمَّ تَوَضَّأَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وُضُوئِي وَوُضُوءُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي وَوُضُوءُ خَلِيلِي إِبْرَاهِيمَ " وَلِأَنَّ الْمَرَّتَيْنِ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقْرَبُ إِلَى الثَّلَاثِ مِنَ الْمَرَّةِ فَكَانَ أَكْثَرَ فَضْلًا.
فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الثَّلَاثِ فَغَيْرُ مَسْنُونَةٍ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي كَرَاهَتِهَا فَذَهَبَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ إِلَى أَنَّهَا غَيْرُ مَكْرُوهَةٍ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ عَمَلٍ وَبِرٍّ.
وَقَالَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ مَكْرُوهَةٌ وَهَذَا أَصَحُّ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " حِينَ تَتَوَضَّأُ ثَلَاثًا فَمَنْ زَادَ فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ " وَلِأَنَّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ إِسْرَافًا فِي اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَقَدْ رُوِيَ عن عبد الله بن عمران أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مر بسعيد وَهُوَ يَتَوَضَّأُ فَقَالَ: " مَا هَذَا السَّرَفُ " فَقَالَ: فِي الْوُضُوءِ سَرَفٌ قَالَ: " نَعَمْ وَإِنْ كُنْتَ عَلَى نهرٍ جارٍ.

(1/133)


وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " يَكُونُ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ قومٌ يَتَعَبَّدُونَ فِي الطَّهُورِ وَالدُّعَاءِ ".

(فَصْلٌ: جَوَازُ الِاسْتِعَانَةِ بِمَنْ يصب الماء على المتوضئ)
فَأَمَّا الِاسْتِعَانَةُ فِي الْوُضُوءِ بِمَنْ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ فَلَا نَسْتَحِبُّهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَمَّ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا أُحِبُّ أَنْ يُشَارِكَنِي فِي وُضُوئِي أحدٌ " فَإِنِ اسْتَعَانَ بِغَيْرِهِ جَازَ فَقَدْ صَبَّ الْمُغِيرَةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وُضُوءَهُ فِي غَزْوَةِ تبوكٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأُحِبُّ أَنْ يَقِفَ الصَّابُّ لِلْمَاءِ عَلَى يَسَارِهِ فَإِنَّهُ أمكن وأحسن في الأدب:
القول في التنشيف بعد الوضوء: فأما مسح بلل من وضوءه وَتَنْشِيفُهُ بِثَوْبٍ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ نَاوَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَوْبًا لِيُنَشِّفَ بِهِ وُضُوءَهُ فَأَبَى وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنِّي أُحِبُّ أَنْ يَبْقَى عَلَيَّ مِنْ وُضُوئِي " فَإِنْ نَشَّفَ بِثَوْبٍ جَازَ فَقَدْ رَوَى مُعَاذُ بن جبل قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا تَوَضَّأَ مَسَحَ بِطَرَفِ ثَوْبِهِ وَيَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ وُقُوفُ صَاحِبِ الثَّوْبِ عَنْ يَمِينِهِ وَيَكْرَهُ إِذَا تَوَضَّأَ أَنْ يَنْثُرَ يَدَهُ وَأَطْرَافَهُ مِنَ الْمَاءِ. فَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: " إِنَّهَا مَرَاوِحُ الشَّيَاطِينِ ".

(1/134)


(مسألة: النزعتان من الرأس)
قال الشافعي رضي الله عنه: والنزعتان من الرأس. أَمَّا النَّزْعَتَانِ فَهُمَا الْبَيَاضُ الَّذِي يَسْتَعْلِي فِي مُقَدَّمِ الرَّأْسِ مِنْ جَانِبَيْهِ وَهُمَا مِنَ الرَّأْسِ وقد ذهب قوم إلى أنهما من وجه لِذَهَابِ الشَّعْرِ عَنْهُمَا وَاتِّصَالِ بَشَرَةِ الْوَجْهِ بِهِمَا وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِ الشَّاعِرِ وَهُوَ هُدْبَةُ بْنُ خَشْرَمٍ:
(ولا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا وَالْوَجْهِ لَيْسَ بِأَنْزَعَا)

فَأَضَافَ النَّزْعَةَ إِلَى الْوَجْهِ فَعَلِمَ أَنَّهَا مِنْهُ وَهَذَا خَطَأٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّزْعَتَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ دُخُولُهُمَا فِي حَدِّ الرَّأْسِ وَلَيْسَ ذَهَابُ الشَّعْرِ عَنْهُمَا بِمُخْرِجٍ لَهُمَا مِنْ حُكْمِ الرَّأْسِ.
كَمَا أَنَّ الْأَجْلَحَ وَالْأَجْلَهَ الَّذِي قَدْ ذَهَبَ الشَّعْرُ مِنْ مُقَدَّمِ رَأْسِهِ كُلِّهِ، وَالْأَجْلَحُ الَّذِي قَدْ ذَهَبَ شَعْرُ نَاصِيَتِهِ كُلِّهِ لَا يَخْرُجُ ذَلِكَ عَنْ حُكْمِ الرَّأْسِ وَإِنْ ذَهَبَ شَعْرُهُ كَذَلِكَ الْأَنْزَعُ فَلِهَذَا دَلِيلٌ وَلِأَنَّ الْأَغَمَّ هُوَ الَّذِي قَدِ انْحَدَرَ شَعْرُ رَأْسِهِ فِي جَبْهَتِهِ وَكَذَلِكَ الْأَنْزَعُ ثُمَّ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا انْحَدَرَ فِي الْجَبْهَةِ مِنْ شَعْرِ الْأَغَمِّ وَالْأَنْزَعِ مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ كَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا اسْتَعْلَى فِي الرَّأْسِ مِنْ بَيَاضِ الْأَنْزَعِ مِنَ الْوَجْهِ فَهَذَا دَلِيلٌ، وَلِأَنَّ الْعَرَبَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّ النزعة من الرأس وذلك ظَاهِرٌ فِي شِعْرِهِمْ قَالَ الشَّاعِرُ:
(لَيَالِيَ لَوْنِي واضحٌ وَذُؤَابَتِي ... غَرَابِيبُ فِي رَأْسِ امْرِئٍ غَيْرِ أَنْزَعَا)

وَشِعْرُ هُدْبَةَ بْنِ خَشْرَمٍ دَالٌّ عَلَيْهِ أيضاً لأنه قال:
(ولا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ... أغم القفا وَالْوَجْهِ لَيْسَ بِأَنْزَعَا)

وَالْوَجْهُ بِالْخَفْضِ عَطْفٌ عَلَى الْقَفَا فَكَأَنَّهُ قَالَ أَغَمَّ الْقَفَا وَأَغَمَّ الْوَجْهِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْغَمَمَ مِنَ الْوَجْهِ ثُمَّ قَالَ لَيْسَ بِأَنْزَعَا عَلَى مَعْنَى الِابْتِدَاءِ، فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّزْعَتَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا أَجْزَأَهُ وَاللَّهُ أعلم بالصواب.

(مسألة)
قال الشافعي رضي الله عنه: وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا يُجْزِئُ مِنْ مَسْحِ بَعْضِ الرأس ولا يجزئ إلا مسح الْوَجْهِ فِي التَّيَمُّمِ إِنَّ مَسْحَ الْوَجْهِ بدلٌ مِنَ الْغَسْلِ يَقُومُ مَقَامَهُ وَمَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ بدلٌ مِنْ غَيْرِهِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ مِنَ الرَّأْسِ مَسْحُ بَعْضِهِ، فَأَمَّا الْوَجْهُ فِي التَّيَمُّمِ فَالْوَاجِبُ مَسْحُ جَمِيعِهِ فَإِنْ قِيلَ وَهُوَ سُؤَالٌ لِمَنْ أَوْجَبَ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ مِنْ مَالِكٍ وَمَنْ تَابَعَهُ لِمَ أَجَزْتُمْ مَسْحَ بَعْضِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ وَمَنَعْتُمْ مِنْ مَسْحِ بَعْضِ الْوَجْهِ

(1/135)


فِي التَّيَمُّمِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِمَسْحِ الْوَجْهِ فِي التَّيَمُّمِ بِحَرْفِ الْبَاءِ فَقَالَ: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ مِنْهُ) {المائدة: 6) . كَمَا أَمَرَ بِمَسْحِ الرأس في الوضوء بحرف الباء، فقال: فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، فَإِنْ كَانَتِ الْبَاءُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ تُوجِبُ التَّبْعِيضَ فَهَلَّا كَانَتْ فِي مَسْحِ الْوَجْهِ وَجَبَ التَّبْعِيضُ، فَإِنْ لَمْ تُوجِبِ التَّبْعِيضَ فِي مَسْحِ الْوَجْهِ فَهَلَّا كَانَتْ غَيْرَ مُوجِبَةٍ لِلتَّبْعِيضِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ وَهَذَا سُؤَالُ إِلْزَامٍ وَكَسْرٍ وَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الْبَاءَ تُوجِبُ التَّبْعِيضَ فِي اللُّغَةِ مَا لَمْ يَصْرِفْهَا عَنْهُ دَلِيلٌ وَقَدْ صَرَفَهَا عَنِ التَّبْعِيضِ فِي التَّيَمُّمِ دَلِيلٌ وَعَاضَدَهَا عَلَى التَّبْعِيضِ فِي الْوُضُوءِ دَلِيلٌ فَافْتَرَقَا، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ هُوَ أَنَّ مَسْحَ الرَّأْسِ أَصْلٌ فِي نَفْسِهِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ حُكْمُ لَفْظِهِ وَالتَّيَمُّمُ بَدَلٌ عَنْ غَيْرِهِ فَاعْتُبِرَ فِيهِ حُكْمُ مُبْدَلِهِ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا الْفَرْقُ فَاسِدٌ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَهَذَا بَدَلٌ مِنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُ اسْتِيعَابُ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ كَمَا يَلْزَمُ اسْتِيعَابُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ قُلْ قَدْ كَانَ هَذَا التَّعْلِيلُ يَقْتَضِي اسْتِيعَابَ مَسْحِ الْخُفَّيْنِ لَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ الرِّفْقَ وَالتَّخْفِيفَ لِجَوَازِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ لَمْ يَجِبِ اسْتِيعَابُهُمَا بِالْمَسْحِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْمُبَايِنَةِ لِلتَّخْفِيفِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ التَّيَمُّمُ لِأَنَّهُ مُغْلِظٌ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ فَغَلِطَ بِالِاسْتِيعَابِ وَفَرْقٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَمَّا تَخَفَّفَ بِسُقُوطِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ لَمْ يَتَخَفَّفْ بِالتَّبْعِيضِ وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ لَا يَخْتَصُّ إِلَّا بِالتَّبْعِيضِ فَافْتَرَقَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ: الْقَوْلُ فِي تَفْرِيقِ الْوُضُوءِ)
قال الشافعي رضي الله عنه: وَإِنْ فَرَّقَ وُضُوءَهُ، وَغُسْلَهُ أَجْزَأَهُ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِابْنِ عُمَرَ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمُوَالَاةَ فِي الْوُضُوءِ أَفْضَلُ وَمُتَابَعَةُ الْأَعْضَاءِ أَكْمَلُ انْقِيَادًا لِمَا يَقْتَضِيهِ الْأَمْرُ مِنَ التَّعْجِيلِ وَاتِّبَاعًا لقول الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَإِنْ فَرَّقَ فَالتَّفْرِيقُ ضَرْبَانِ قَرِيبٌ وَبَعِيدٌ:
فَالْقَرِيبُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْوُضُوءِ وَحْدَهُ مَا لَمْ تَجِفَّ الْأَعْضَاءُ مَعَ اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ فِي غَيْرِ بَرْدٍ وَلَا حَرٍّ مُشْتَدٍّ وَلَيْسَ الْجَفَافُ مُعْتَبَرًا، وَإِنَّمَا زَمَانُهُ هُوَ التَّعْبِيرُ.
وَأَمَّا الْبَعِيدُ فَهُوَ أَنْ يَمْضِيَ زَمَانُ الْجَفَافِ فِي اعْتِدَالِ الْهَوَاءِ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَبِهِ قَالَ فِي الْقَدِيمِ إِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَالْوُضُوءُ مَعَهُ غَيْرُ صَحِيحٍ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ إِنَّهُ جَائِزٌ وَالْوُضُوءُ مَعَهُ صَحِيحٌ، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَمِنَ التَّابِعِينَ الحسن وسعد بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الثَّوْرِيُّ وأبو

(1/136)


حنيفة. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: إِنْ فَرَّقَهُ لِعُذْرٍ جَازَ، وَإِنْ فَرَّقَهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَجُزْ. وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنَّ مُطْلَقَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْوُضُوءِ لِقَوْلِهِ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ) {المائدة: 6) . يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَالتَّعْجِيلَ وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ التَّأْجِيلِ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ عَلَى الْوَلَاءِ ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وضوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ " يَعْنِي إِلَّا بِمِثْلِهِ فِي الْمُوَالَاةِ، وَرَوَى قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَدْ تَوَضَّأَ وَتَرَكَ عَلَى قَدَمَيْهِ مِثْلَ مَوْضِعِ الظُّفُرِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَرْجِعُ فِي حَالِ الْعُذْرِ إِلَى شَطْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْمُوَالَاةُ مِنْ شَرْطِهَا كَالصَّلَاةِ.
وَوَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ بِأَنَّهُ يَجُوزُ هُوَ أَنَّ التَّفْرِيقَ لَا يَمْنَعُ مِنَ امْتِثَالِ الْأَمْرِ فِي قَوْله تَعَالَى {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} . فَوَجَبَ أَلَّا يَمْنَعَ مِنَ الْإِجْزَاءِ، فَإِنْ قِيلَ فَالْأَوَامِرُ تَقْتَضِي الْفَوْرَ قِيلَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا خِلَافٌ، وَرَوَى نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فِي مَنْزِلِهِ وَفِي رِجْلَيْهِ خُفَّانِ فَلَمْ يَمْسَحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَحَضَرَتْ جنازة فدعى بِمَاءٍ فَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ وَذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَلِأَنَّهُ تَفْرِيقٌ فِي تَطْهِيرٍ فَجَازَ كَالتَّفْرِيقِ الْيَسِيرِ وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ جَازَ فِيهَا التَّفْرِيقُ الْيَسِيرُ جَازَ فِيهَا التَّفْرِيقُ الْكَثِيرُ كَالْحَجِّ طَرْدًا، وَالصَّلَاةِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ عِبَادَةٍ جَازِ تَفْرِيقُ النِّيَّةِ عَلَى أَبْعَاضِهَا جَازَ تَفْرِيقُ أَبْعَاضِهَا كَالزَّكَاةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا جَازَ تَفْرِيقُ نِيَّةِ الزَّكَاةِ عَلَى مَا يُؤَدِّيهِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، جَازَ تَفْرِيقُ مَا يُؤَدِّيهِ فِي زَمَانٍ بَعْدَ زَمَانٍ كَذَا الْوُضُوءُ لَمَّا جَازَ تَفْرِيقُ النِّيَّةِ عَلَى أَعْضَائِهِ جَازَ تَفْرِيقُ النية على أَعْضَائِهِ.

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ فَالْحُكْمُ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ سَوَاءٌ وَتَفْرِيقُهُمَا عَلَى قَوْلَيْنِ:
فَأَمَّا تَفْرِيقُ التَّيَمُّمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ فَكَانَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْقَطَّانِ وَطَائِفَةٌ يُخَرِّجُونَهُ عَلَى قَوْلَيْنِ كَتَفْرِيقِ الْوُضُوءِ سَوَاءٌ، وَكَانَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُونَ مِنْ تَخْرِيجِ الْقَوْلَيْنِ فِيهِ وَيُبْطِلُونَهُ بِالتَّفْرِيقِ قَوْلًا وَاحِدًا وَيُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ تَعْجِيلَ التَّيَمُّمِ لِلصَّلَاةِ مُسْتَحَقٌّ وَتَعْجِيلَ الْوُضُوءِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(1/137)


(مسألة: القول في ترتيب أعضاء الوضوء)
قال الشافعي رضي الله عنه: وَإِنْ بَدَأَ بِذِرَاعَيْهِ قَبْلَ وَجْهِهِ رَجَعَ إِلَى ذِرَاعَيْهِ فَغَسَلَهُمَا حَتَى يَكُونَا بَعْدَ وَجْهِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْوُضُوءِ وَلَاءً كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ) {المائدة: 6) . (هكذا قرأه المزني إلى الكعبين) فإن صلى بالوضوء على غير ولاءٍ رجع فبنى على الولاء من وضوئه وأعاد الصلاة واحتج بقول الله عز وجل وعز {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} (البقرة: 158) . فبدأ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالصفا وقال: " نبدأ بما بدأ الله به ".
قال الماوردي: الفصل، وَهُوَ كَمَا قَالَ التَّرْتِيبُ فِي الْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ وَاجِبٌ وَبِهِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ وَأَحْمَدُ، وَأَبُو إِسْحَاقَ، وَأَبُو ثَوْرٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة ومالك: التَّرْتِيبُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) {المائدة: 6) . وَلَهُمْ فِيهَا دَلِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ قَدَّمَ فِيهَا بَعْضَ الْأَعْضَاءِ كَمَا قَدَّمَ مَحَلَّ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ بَدَأَ مِنَ الْمِرْفَقِ إِلَى الْبَنَانِ أَجْزَأَهُ فَكَذَا لَوْ بَدَأَ بِالْيَدَيْنِ قَبْلَ الْوَجْهِ أجزأه.
والثاني: أنه لو عَطَفَ الْيَدَيْنِ عَلَى الْوَجْهِ بِحَرْفِ الْوَاوِ الْمُوجِبَةِ لِلِاشْتِرَاكِ وَالْجَمْعِ دُونَ التَّرْتِيبِ لُغَةً، وَشَرْعًا.
أَمَّا اللُّغَةُ فَهُوَ مَا حَكَاهُ سِيبَوَيْهِ أَنَّهَا فِي لِسَانِهِمْ أَنَّهَا مُوجِبَةٌ لِلِاشْتِرَاكِ دُونَ التَّرْتِيبِ اسْتِشْهَادًا بِأَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ الْقَ زَيْدًا وَعَمْرًا لَمْ يَلْزَمْ تَقْدِيمُ لِقَاءِ زَيْدٍ عَلَى عَمْرٍو بَلْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي الْبِدَايَةِ بِلِقَاءِ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، وَأَمَّا الشَّرْعُ فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكَ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي) {آل عمران: 43) . فَقَدَّمَ ذِكْرَ السُّجُودِ وَهُوَ مُؤَخَّرٌ فِي الْحُكْمِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتُ فَقَالَ: " سَيَّانِ أَنْتُمَا قُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثم شئت ".
فلو كان الْوَاوُ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ وَبَيْنَ مَا نَقَلَهُ إِلَيْهِ فَرْقٌ وَلَا فَائِدَةٌ، وَبِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ وَنَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَكَرَهُ بَعْدَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ فَأَخَذَ مِنْ

(1/138)


بَلَلِ لِحْيَتِهِ فَمَسَحَ بِهِ رَأْسَهُ ". فَدَلَّ عَلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، قَالُوا وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " مَا أُبَالِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْتُ ".
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَبْدَأَ بِرِجْلِكَ قَبْلَ يَدَيْكَ، وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، قالوا ولأنها طهارة لا يستحق فيهما التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْعُضْوَيْنِ الْمُتَجَانِسَيْنِ فَلَمْ يَسْتَحِقَّ التَّرْتِيبُ فِيهَا بَيْنَ الْعُضْوَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ كَالْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَلِأَنَّهُ تَرْتِيبٌ شُرِعَ فِي طَهَارَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَسْنُونًا كَتَقْدِيمِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَلِأَنَّ الْمُحْدِثَ لَوِ اغْتَسَلَ بَدَلًا مِنَ الْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ وَإِنْ لَمْ يُرَتِّبْ، وَلَوْ كَانَ التَّرْتِيبُ مُسْتَحَقًّا لَمْ يُجْزِهِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (المائدة: 6) . والدلالة فيها من أربعة أوجه:
أحدهما: أَنَّهُ أَمَرَ بِغَسْلِ الْوَجْهِ بِحَرْفِ الْفَاءِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْقِيبِ وَالتَّرْتِيبِ إِجْمَاعًا، فَإِذَا ثَبَتَ تَقْدِيمُ الْوَجْهِ ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُ التَّرْتِيبِ، فَإِنْ قِيلَ الْفَاءُ الْمُوجِبَةُ لِلتَّعْقِيبِ أَنْ تَكُونَ فِي الْأَمْرِ وَالْخَبَرِ فَأَمَّا فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ فَلَا.
قِيلَ هِيَ مُوجِبَةٌ لِلتَّعْقِيبِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَلَيْسَ إِذَا أَفَادَتِ الْجَزَاءَ بَعْدَ الشَّرْطِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُهَا فِي التَّعْقِيبِ عَلَى أَنَّ الْجَزَاءَ لَا يُسْتَحَقُّ إِلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ الشَّرْطِ فَكَذَلِكَ مَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ لَفْظُ التَّعْقِيبِ دُونَ الْجَمْعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا أَنَّهُ عَطْفٌ بِالْأَعْضَاءِ بِحَرْفِ الْوَاوِ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلتَّعْقِيبِ وَالتَّرْتِيبِ لُغَةً وَشَرْعًا، أَمَّا اللُّغَةُ فَهُوَ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَثَعْلَبٍ وَهُمَا إِمَامَانِ فِي اللُّغَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَكْثَرِ مِنْ أصحاب الشافعي وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ عَبْدَ بَنِي الْحِسْحَاسِ يُنْشِدُ قَوْلَهُ:
(عُمَيْرَةَ وَدِّعْ إِنْ تَجَهَّزْتَ غَادِيًا ... كَفَى الشَيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ نَاهِيًا)

(1/139)


فَقَالَ عُمْرُ: وَلَوْ قَدَّمْتَ الْإِسْلَامَ عَلَى الشَّيْبِ لَأَجَزْتُكَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ فِي اللُّغَةِ، وَأَمَّا الشَّرْعُ فَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إنَّ الصَفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ) {البقرة: 158) . فَبَدَأَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالصَّفَا وَقَالَ: " ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَهُ بِهِ ". وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ رَشَدَ وَمَنْ يَعْصِهِمَا فَقَدْ غَوَى فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بِئْسَ الْخَطِيبُ أَنْتَ قُلْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ غَوَى ". فَلَوْلَا أَنَّ الْوَاوَ تُوجِبُ التَّعْقِيبَ وَالتَّرْتِيبَ لَمْ يَكُنْ لَهَا فَائِدَةٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ مَمْسُوحًا بَيْنَ مَغْسُولَيْنِ، وَمِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَجَانِسَيْنِ إِلَّا لِفَائِدَةٍ فِي إِدْخَالِ غَيْرِ جِنْسِهِ فِيمَا بَيْنَ جِنْسِهِ فَلَوْلَا أَنَّ التَّرْتِيبَ مُسْتَحَقٌّ فِي ذِكْرِ الْمَمْسُوحِ بَيْنَ الْمَغْسُولَيْنِ لَجَمَعَ بَيْنَ الْأَعْضَاءِ الْمَغْسُولَةِ الْمُتَجَانِسَةِ وَأَفْرَدَ الْمَمْسُوحَ عَنْهَا.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ فِي مَذْهَبِ الْعَرَبِ الْبِدَايَةَ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ إِلَّا لِغَرَضٍ وَالرَّأْسُ أَقْرَبُ إِلَى الْوَجْهِ مِنَ الْيَدَيْنِ فَلَوْلَا أَنَّ التَّرْتِيبَ مُسْتَحَقٌّ لَقَدَّمَ الرَّأْسَ عَلَى الْيَدَيْنِ، وَمِنَ السُّنَّةِ مَا رَوَى خَلَّادُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ امرئٍ حَتَّى يَضَعَ الْوُضُوءَ مَوَاضِعَهُ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ ثُمَّ ذِرَاعَيْهِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِرَأْسِهِ ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ ". وَهَذَا إِنْ ثَبَتَ نَصٌّ لَا يُسَوِّغُ خِلَافَهُ، وَرَوَى عمرو بن عنبسة قال قلت يا رسول الله أخبرني عن الْوُضُوءِ فَقَالَ: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أحدٍ يَقْرَبُ وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق إِلَّا جَرَتْ خَطَايَا فِيهِ وَأَنْفِهِ مَعَ الْمَاءِ ثُمَّ يَغْسِلُ وَجْهَهُ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ إِلَّا جَرَّتْ خَطَايَا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الْمَاءِ ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إِلَى مِرْفَقَيْهِ إِلَّا جَرَتْ خَطَايَا يَدَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ أَنَامِلِهِ مَعَ الْمَاءِ ثَمَّ يُمْسَحُ بِرَأْسِهِ إِلَّا جَرَتْ خَطَايَا رَأْسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعَ الْمَاءِ ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ مَعَ الْكَعْبَيْنِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ إِلَّا جَرَتْ خَطَايَا رِجْلَيْهِ مِنْ أَطْرَافِ أَصَابِعِهِ مَعَ الْمَاءِ ".
وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ ذَكَرَهُ مُسْلِمُ ابن حجاج ...

(1/140)


.... وَدَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ التَّرْتِيبِ.
وَرَوَى أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً ثُمَّ قَالَ: " هَذَا وضوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إِلَّا بِهِ ". وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَوَضَّأَ مُنَكِّسًا لِأَنَّهُ يُقْبِلُ مُرَتِّبًا، ثَبَتَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مُرَتَّبًا، وَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُنَكِّسًا، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّهَا عِبَادَةٌ تَرْجِعُ فِي حَالِ الْعُذْرِ إِلَى شَطْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ مِنْ شَرْطِهَا كَالصَّلَاةِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَبْطُلُ بِالْحَدَثِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ فَرْضُهَا بِالتَّنْكِيسِ كَالطَّوَافِ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى ذَلِكَ الْغُسْلُ مِنَ الْجَنَابَةِ لِأَنَّ التَّنْكِيسَ فِيهِ لَا يُتَصَوَّرُ، وَهَذَا الْقِيَاسُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ دُونَ أبي حنيفة لِأَنَّ أبا حنيفة يُجِيزُ الطَّوَافَ مُنَكَّسًا، وَلَا يُجِيزُهُ مَالِكٌ.
وَلِأَنَّ كُلَّ مَعْنًى شُرِعَ فِي الطَّهَارَةِ وَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ فَرْضًا وَسُنَّةً كَالْغُسْلِ وَالْمَسْحِ فَفَرْضُ الْغَسْلِ الْأَعْضَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَسُنَّتُهُ الْكَفَّانِ وَالْمَضْمَضَةُ، وَفَرْضُ الْمَسْحِ الرَّأْسُ وَسُنَّتُهُ الْأُذُنَانِ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّرْتِيبُ فَرْضًا وَسُنَّةً فَفَرْضُهُ الْأَعْضَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَسُنَّتُهُ الْيُمْنَى قَبْلَ اليسرى فأما الجواب عن استشهادهم بقوله تعالى: {اسْجُدِي وَارْكَعِي} ، فَهُوَ أَنَّ الْوَاوَ وَإِنْ لَمْ تُوجِبِ التَّرْتِيبَ فَهِيَ لَا تُوجِبُ التَّنْكِيسَ وَإِنَّمَا تُحْمَلُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا عَلَى تَقْدِيمِ اللَّفْظِ أَوْ تَأْخِيرِهِ، وَإِمَّا عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي شَرِيعَتِهِمْ مُقَدَّمًا عَلَى الرُّكُوعِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِشْهَادِهِمْ بِقَوْلِهِ: قُلْ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ شِئْتُ فَهُوَ أَنَّهُ نَهَاهُ عَنِ الْوَاوِ وَإِنْ كَانَتْ مُوجِبَةً لِلتَّعْقِيبِ لِأَنَّهَا لَا مُهْلَةَ فِيهَا وَلَا تَرَاخِيَ وَلَفْظَةُ ثُمَّ تُوجِبُ التَّعْقِيبَ وَالتَّرَاخِيَ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ رِوَايَتِهِمْ أَنَّهُ مَسَحَ رَأْسَهُ بِبَلَلِ لِحْيَتِهِ بَعْدَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ مَعَ ضَعْفِهِ وَأَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أبي حنيفة تَجُوزُ الطَّهَارَةُ بِهِ فَهُوَ نَقْلُ وَاقِعَةِ حَالٍ لَا يَجُوزُ التَّعْوِيلُ عَلَى عُمُومِهَا وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِظَاهِرِهَا لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَسَلَ رِجْلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَسِيَ اسْتِيعَابَ رَأْسِهِ بَعْدَ مَسْحِ بَعْضِهِ أَوْ نَسِيَ المرة الثانية والثالثة بعد الأولة فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ نقل.

(1/141)


وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْإِجْمَاعِ فَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عَلِيٍّ رضوان الله عليه أنه سئل عن تقديم الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى فَقَالَ: مَا أُبَالِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْتُ، وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، عَلَى أَنَّ عُثْمَانَ مُخَالِفٌ وَمَعَ الْخِلَافِ يَسْقُطُ الْإِجْمَاعُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْغُسْلِ مِنَ الْجَنَابَةِ فَهُوَ أَنَّ جَمِيعَ الْبَدَنِ فِي الْجَنَابَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعُضْوِ الْوَاحِدِ فِي الْوُضُوءِ وَلَيْسَ فِي الْعُضْوِ الْوَاحِدِ تَرْتِيبٌ فَكَذَلِكَ فِي بَدَنِ الْجُنُبِ وَإِنَّمَا التَّرْتِيبُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُتَغَايِرَةِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى فَهُوَ أَنَّ الْمَعْنَى فِي الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى أَنَّهُمَا كَالْعُضْوِ الْوَاحِدِ لِانْطِلَاقِ اسْمِ الْيَدِ عَلَيْهِمَا، وَأَنَّ تَخْرِيقَ أحد الخفين جاز في المنع من المسح مجزى تَخْرِيقِهِمَا فَلَمَّا سَقَطَ التَّرْتِيبُ فِي الْعُضْوِ الْوَاحِدِ سَقَطَ فِي الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَعْضَاءُ الْمُتَغَايِرَةُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْمُحْدِثِ إِذَا اغْتَسَلَ فَهُوَ أَنَّ أَصْحَابَنَا قَدِ اخْتَلَفُوا فِي سُقُوطِ التَّرْتِيبِ عَنْهُ إِذَا اغْتَسَلَ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي أَعْضَاءِ طَهَارَتِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فِي غُسْلِهِ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ السُّؤَالُ، وَقَالَ جُمْهُورُهُمْ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّ التَّرْتِيبَ يَسْقُطُ إِذَا اغْتَسَلَ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ طَهَارَتَانِ مِنْ جِنْسٍ. فَإِحْدَاهُمَا كُبْرَى وَهِيَ الْغُسْلُ وَالتَّرْتِيبُ فِيهَا غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ وَالْأُخْرَى صُغْرَى وَهِيَ الْوُضُوءُ وَالتَّرْتِيبُ فِيهَا مُسْتَحَقٌّ، ثُمَّ جَعَلَ لَهُ رَفْعَ حَدَثِهِ بِأَيِّهِمَا شَاءَ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى سُقُوطِ التَّرْتِيبِ فِيهِمَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّرْتِيبَ مُسْتَحَقٌّ فَخَالَفَ وَنَكَّسَ وُضُوءَهُ أَجْزَأَهُ مِنْهُ غَسْلُ وَجْهِهِ وَحْدَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ غَسْلَ مَا بَعْدَهُ، فَلَوْ نَكَّسَ وُضُوءَهُ أَرْبَعَ مِرَارٍ صَحَّ لَهُ مِنْهَا وُضُوءٌ كَامِلٌ، لِأَنَّهُ يُعِيدُ بِالْمَرَّةِ الْأَوْلَى بِالْوَجْهِ.
وَفِي الثَّانِيَةِ: بِالذِّرَاعَيْنِ.
وَفِي الثَّالِثَةِ: بِالرَّأْسِ.
وَفِي الرَّابِعَةِ: بِالرِّجْلَيْنِ، فَلَوْ رَتَّبَ الْوَجْهَ وَالذِّرَاعَيْنِ وَقَدَّمَ الرِّجْلَيْنِ عَلَى الرَّأْسِ أَعَادَ غَسْلَ الرِّجْلَيْنِ لِيَكُونَ غَسْلُهُمَا بَعْدَ الرَّأْسِ، وَلَوْ نَسِيَ أَحَدَ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ فَلَمْ يَعْرِفْهُ اسْتَأْنَفَ وُضُوءَهُ كُلَّهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَتْرُوكُ غَسْلَ وَجْهِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ كَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي عَدَدِ مَا صَلَّى إِذَا شَكَّ، فَلَوْ تَرَكَ الْمُتَوَضِّئُ مَوْضِعًا مِنْ وَجْهِهِ غَسَلَهُ مِنْ وَجْهِهِ وَأَعَادَ غَسْلَ

(1/142)


مَا بَعْدَ الْوَجْهِ لِيَكُونَ بَعْدَ كَمَالِ غَسْلِ الْوَجْهِ مُتَوَضِّئًا عَلَى التَّرْتِيبِ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَنْ وَجْهِهِ اسْتَأْنَفَ جَمِيعَ وُضُوئِهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ: جَوَازُ تَقْدِيمِ الْيُسْرَى عَلَى اليمنى في الوضوء) .
قال الشافعي رضي الله عنه: وإن قدم يسرى على يمنى أجزأه.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا تَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَسُنَّةٌ فِي الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدَّمَ ذَلِكَ فِي وُضُوئِهِ، وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " إذا توضأتم وإذا لبستم فابدأوا بِمَيَامِنِكُمْ، وَبِأَيْمَانِكُمْ "، فَإِنْ خَالَفَ السُّنَّةَ فِيهِمَا وَقَدَّمَ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى أَجْزَأَهُ لِلْأَثَرِ الْمَرْوِيِّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَدَّمَ الْيُسْرَى عَلَى الْيُمْنَى وَقَالَ: لَا أُبَالِي بِأَيِّ أَعْضَائِي بَدَأْتُ وَلِأَنَّ الِاسْمَ يَتَنَاوَلُهُمَا عَلَى سَوَاءٍ فَكَانَ التَّرْتِيبُ فِيهِمَا مُسْتَحَبًّا لَا وَاجِبًا، فَأَمَّا التَّرْتِيبُ فِي الْأَعْضَاءِ الْمَسْنُونَةِ فِي الْوُضُوءِ وَهِيَ غَسْلُ الْكَفَّيْنِ " وَ " الْمَضْمَضَةُ ثُمَّ الِاسْتِنْشَاقُ فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَسْنُونٌ وَأَنَّ مُخَالَفَتَهُ فِي تَقْدِيمِ الِاسْتِنْشَاقِ عَلَى الْمَضْمَضَةِ وَتَقْدِيمِ الْمَضْمَضَةِ عَلَى الْكَفَّيْنِ لَا يَمْنَعُ مِنْ حُصُولِهِ وَأَجْزَائِهِ بِخِلَافِ الْأَعْضَاءِ، لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ وَاجِبَةً كَانَ التَّرْتِيبُ فِيهَا وَاجِبًا، وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ سُنَّةً كَانَ التَّرْتِيبُ فِيهَا مَسْنُونًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَرْتِيبَهَا وَاجِبٌ وَإِنْ كَانَتْ مَسْنُونَةً وَإِنْ نَكَّسَ وَخَالَفَ التَّرْتِيبَ لَمْ يُعْتَدَّ بِمَا لَمْ يُقَدِّمْهُ لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ التَّرْتِيبَ فِي فَرْضِهِ اسْتَحَقَّ التَّرْتِيبَ فِي مَسْنُونِهِ قِيَاسًا عَلَى أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَأَنَّهُ لَوْ جَدَّدَ وُضُوءَهُ لَكَانَ التَّرْتِيبُ فِيهِ وَاجِبًا، وَإِنْ كَانَ التَّجْدِيدُ فِيهِ مَسْنُونًا.
فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ يَكُونُ التَّرْتِيبُ فِيهِ وَاجِبًا، وَهُوَ الْأَعْضَاءُ الْأَرْبَعَةُ.
وَقِسْمٌ يَكُونُ التَّرْتِيبُ فِيهِ مَسْنُونًا، وَهُوَ تَقْدِيمُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى.
وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ الْأَعْضَاءُ الْمَسْنُونَةُ فِي وُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِيهَا وَجْهَانِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مَسْأَلَةٌ: وُجُوبُ الطَّهَارَةِ لِحَمْلِ المصحف ومسه)
قال الشافعي رضي الله عنه: ولا يحمل المصحف ولا يسمه إلا طاهراً.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الطَّهَارَةُ وَاجِبَةٌ لِحَمْلِ الْمُصْحَفِ وَمَسِّهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَهُ مَنْ لَيْسَ بِطَاهِرٍ وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ: يَجُوزُ حَمْلُهُ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، وَبِهِ قَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي

(1/143)


سُلَيْمَانَ وَالْحَكَمُ بْنُ عُيَيْنَةَ اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) {آل عمران: 64) . وَقَدْ عَلِمَ مِنْ حَالِهِمْ أَنَّهُمْ يَمَسُّونَهُ وَيَتَدَاوَلُونَهُ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، قَالُوا: وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَمَّا لَمْ تَجِبْ لِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَأَوْلَى أَلَّا تَجِبَ بِحَمْلِ مَا كُتِبَ فِيهِ الْقُرْآنُ، قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّمَا لَمْ يَكُنْ سَتْرُ الْعَوْرَةِ مُسْتَحَقًّا فِيهِ لَمْ تَكُنِ الطَّهَارَةُ مُسْتَحَقَّةً فِيهِ كَأَحَادِيثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكُتُبِ الْفِقْهِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} (الواقعة: 79) . وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقُرْآنَ لَا يَصِحُّ مَسُّهُ فَعَلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكِتَابُ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ الْمَذْكُورِينَ إِلَيْهِ وَلَا يَتَوَجَّهُ النَّهْيُ إِلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَزَّلٍ وَمَسُّهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ، وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَتَبَ إِلَى عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى نَجْرَانَ: " أَلَّا تَمَسَّ الْمُصْحَفَ إِلَّا وَأَنْتَ طاهرٌ "، وَرَوَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَمَسَّ الْمُصْحَفَ إِلَّا طَاهِرًا "، فَإِنْ قِيلَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ إِلَّا طَاهِرًا يَعْنِي: إِلَّا مُسْلِمًا.
قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لَهُ: " لَا تَمَسَّ الْمُصْحَفَ إِلَّا وَأَنْتَ طاهرٌ "، فَبَطَلَ هَذَا التَّأْوِيلُ، وَلِأَنَّهُ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَوَى ذَلِكَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ التَّطْهِيرُ مِنَ النَّجَاسَةِ مُسْتَحَقًّا كَانَ التَّطْهِيرُ مِنَ الْحَدَثِ مُسْتَحَقًّا فِيهِ كَالصَّلَاةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ كِتَابِهِ إِلَى قَيْصَرَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَيْصَرَ كَانَ مُشْرِكًا وَالْمُشْرِكُ مَمْنُوعٌ مِنْ مَسِّهِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ دَلِيلٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ كِتَابًا قَدْ تَضَمَّنَ مَعَ الْقُرْآنِ دُعَاءً إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ بنفسه مَقْصُودًا فَجَازَ تَغْلِيبًا لِلْمَقْصُودِ فِيهِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ تِلَاوَةَ الْقُرْآنِ أَغْلَظُ حُكْمًا فهو

(1/144)


أَنَّهُ غَيْرُ مُسَلَّمٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَمْنَعُ مِنْ تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَيَمْنَعُ مِنْ مَسِّ الْمُصْحَفِ فَكَذَلِكَ الْمُحْدِثُ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فَلِأَنَّ الْعُضْوَ الَّذِي يَمَسُّهُ بِهِ مِنْ جَسَدِهِ لَا يَتَعَدَّى كَشْفَ الْعَوْرَةِ إِلَيْهِ وَيَتَعَدَّى حُكْمَ الْحَدَثِ إِلَيْهِ فَافْتَرَقَا.

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الطَّهَارَةَ مُسْتَحَقَّةٌ فِي حَمْلِ الْمُصْحَفِ فَلَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَالْمُحْدِثِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ حَمْلُهُ، فَأَمَّا الَّذِي عَلَى بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْمِلَهُ أَوْ يَمَسَّهُ بِالْعُضْوِ النَّجِسِ مِنْ بَدَنِهِ فَأَمَّا بِأَعْضَائِهِ الَّتِي لَا نَجَاسَةَ عَلَيْهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّلَاةِ كَالْمُحْدِثِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إسحاق يجوز والفرق بين المحدث وَالنَّجَاسَةِ أَنَّ الْحَدَثَ يَتَعَدَّى إِلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَالنَّجَاسَةُ لَا تَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِ مَا هَيَ عَلَيْهِ مِنَ الْأَعْضَاءِ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَكُلُّ هَؤُلَاءِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ حَمْلُ المصحف ولا سبع منه، ولا جزؤ وَإِنْ قَلَّ، وَسَوَاءٌ حَمَلُوهُ مُبَاشِرِينَ لَهُ بِأَيْدِيهِمْ أَوْ وَضَعُوهُ فِي أَكْمَامِهِمْ أَوْ أَخَذُوهُ بِعِلَاقَةٍ كُلُّ ذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ، وَقَالَ أبو حنيفة التَّحْرِيمُ مَقْصُورٌ عَلَى مَسِّهِ دُونَ حَمْلِهِ كَمَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ مَسُّ الطِّيبِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ حَمْلُهُ وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ حَمْلَ الْمُصْحَفِ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ مِنْ مَسِّهِ فَلَمَّا حَرُمَ الْأَدْنَى مِنَ الْمَسِّ كَانَ تَحْرِيمُ الْأَغْلَظِ مِنَ الْحَمْلِ أَوْلَى فَأَمَّا الطِّيبُ فِي الْمُحْرِمِ فَالتَّحْرِيمُ فِيهِ مَقْصُورٌ عَلَى الِاسْتِمْتَاعِ بِهِ وَلَيْسَ فِي حَمْلِهِ اسْتِمْتَاعٌ بِهِ وَفِي حَمْلِهِ إِنْ كَانَ رَطْبًا اسْتِمْتَاعٌ بِهِ يَمْنَعُ مِنْهُ وَلَيْسَ فِيهِ إِنْ كَانَ يَابِسًا اسْتِمْتَاعٌ بِهِ فَلَمْ يَحْرُمْ وَتَحْرِيمٌ الْمُصْحَفِ لِحُرْمَتِهِ فَاسْتَوَى فِيهِ مَسُّهُ وَحَمْلُهُ.
(فَصْلٌ)
: وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُمْ مَسُّهُ وَلَا مَسُّ مَا لَا كِتَابَةَ فِيهِ مِنْ جِلْدِهِ وَوَرَقِهِ، وَأَجَازَ أبو حنيفة لِلْمُحْدِثِ دُونَ الْجُنُبِ أَنْ يَمَسَّ مِنَ الْمُصْحَفِ مَا لا كتابة فيه من جلد وورق، ولم يَحْمِلَهُ بِعَلَاقَتِهِ اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الْحُرْمَةَ إِنَّمَا تَخْتَصُّ بِالْكِتَابَةِ الْمَتْلُوَّةِ دُونَ الْجِلْدِ وَالْوَرَقِ وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّ الْجِلْدَ وَالْوَرَقَ الَّذِي لَا كِتَابَةَ فِيهِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُصْحَفِ بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ الْمُصْحَفَ حَنِثَ بِمَسِّ جِلْدِهِ وَبَيَاضِهِ كَمَا يَحْنَثُ بِمَسِّ كِتَابَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ عَلَيْهِ مَسُّ جِلْدِهِ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَسُّ كِتَابَتِهِ كَالْجُنُبِ وَقَدْ تَحَرَّرَ مِنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ قِيَاسَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَا حَرُمَ أَنْ يَمَسَّهُ الْجُنُبُ حَرُمَ أَنْ يَمَسَّهُ الْمُحْدِثُ كَالْكِتَابَةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُصْحَفِ مَسُّ مَا فِيهِ مِنَ الْكِتَابَةِ حَرُمَ عَلَيْهِ أَنْ يَمَسَّ مَا لَيْسَ فِيهِ كِتَابَةٌ كَالْجُنُبِ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا حَمْلُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي عَلَيْهَا الْقُرْآنُ فَهِيَ ضَرْبَانِ؛
أَحَدُهُمَا: مَا لَا يَتَدَاوَلُهُ النَّاسُ كَثِيرًا وَلَا يَتَعَامَلُونَ بِهِ غَالِبًا كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ الَّتِي عَلَيْهَا سُورَةُ الْإِخْلَاصِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ حَمْلُهَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِلْمَكْتُوبِ مِنَ الْقُرْآنِ لَا لِلْمَكْتُوبِ فِيهِ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مَكْتُوبًا عَلَى وَرَقٍ أَوْ عَلَى فِضَّةٍ وذهب.

(1/145)


وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا يَتَدَاوَلُهُ النَّاسُ كَثِيرًا وَيَتَعَامَلُونَ بِهِ غَالِبًا فَفِي جَوَازِ حَمْلِهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِمَا يَلْحَقُ بِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ الْغَالِبَةِ مِنَ التَّحَرُّزِ مِنْهَا.

(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا أَحَادِيثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكُتُبُ الْفِقْهِ الَّتِي لَا قُرْآنَ فِيهَا فَيَجُوزُ لَهُمْ حَمْلُهَا وَكَذَلِكَ الْأَدْعِيَةُ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مُخْتَصَّةٌ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُنَزَّلِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ كُتُبِ الْفِقْهِ فِيهِ آيٌ مِنَ الْقُرْآنِ مِثْلُ كِتَابِ الْمُزَنِيِّ وَغَيْرِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لَهُمْ حَمْلُهَا تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ وَالثَّانِي: يَجُوزُ لَهُمْ حَمْلُهَا اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ فِيهَا. فَأَمَّا تَفْسِيرُ الْقُرْآنِ فَإِنْ كَانَ مَا فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَتْلُوِّ أَكْثَرَ مِنْ تَفْسِيرِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ حَمْلُهُ لِأَنَّنَا إِنْ غَلَّبْنَا حُرْمَةَ الْقُرْآنِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنِ اعْتَبَرْنَا الْأَغْلَبَ فَالْقُرْآنُ هُوَ الْأَغْلَبُ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ التَّفْسِيرُ فِيهِ أَكْثَرَ فَعَلَى وَجْهَيْنِ إِنْ غَلَّبْنَا حُرْمَةَ الْقُرْآنِ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ غَلَّبْنَا الْأَغْلَبَ مِنَ الْمَكْتُوبِ جَازَ، فَأَمَّا الثِّيَابُ الَّتِي قَدْ كُتِبَ عَلَى طَرَزِهَا آيٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ لُبْسُهَا وَجْهًا وَاحِدًا لِأَنَّ الْكِتَابَةَ كُلَّهَا قُرْآنٌ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِلُبْسِهَا التَّبَرُّكُ بِمَا عَلَيْهَا مِنَ الْقُرْآنِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمُحْدِثَ مَمْنُوعٌ مَنْ حَمْلِهَا لِأَنَّهَا كُتُبُ اللَّهِ تَعَالَى مُنَزَّلَةٌ كَالْقُرْآنِ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مَنْ حَمَلَهَا لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فقصرت حرمتها عَنْ حُرْمَةِ الْقُرْآنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا مُبْدَلَةٌ لِمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ يُبْدُونَهَا وَيُخْفُونَ كَثِيرًا وَالْمُبْدَلُ لَا حُرْمَةَ لَهُ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا حَمْلُ الْمُصْحَفِ مَعَ قُمَاشٍ هُوَ فِي جُمْلَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْقُرْآنَ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ حَمْلُهُ وَإِنْ كَانَ جُمْلَةُ الْقُمَاشِ مَقْصُودًا فَفِي جَوَازِ حَمْلِهِمْ لَهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لَهُ تَغْلِيبًا لِحُرْمَةِ الْقُرْآنِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ اعْتِبَارًا بِالْأَغْلَبِ، وَقَدْ حَكَاهُ حَرْمَلَةُ عَنِ الشَّافِعِيِّ.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الصِّبْيَانُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُمْنَعُونَ مِنْ حَمْلِ الْمُصْحَفِ وَالْأَلْوَاحِ الَّتِي فِيهَا الْقُرْآنُ إِذَا كَانُوا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ على وجهين:

(1/146)


أَحَدُهُمَا: يُمْنَعُونَ مِنْهُ كَالْبَالِغِينَ لِأَنَّ مَا لَزِمَتِ الطَّهَارَةُ لَهُ فِي حَقِّ الْبَالِغِينَ لَزِمَتْهُ الطَّهَارَةُ لَهُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْبَالِغِ كَالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ أَصْحَابِنَا إِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ وَيَجُوزُ لَهُمْ حَمْلُهُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ طَهَارَتَهُمْ غَيْرُ كَامِلَةٍ بِخِلَافِ الْبَالِغِ فَلَمْ يَلْزَمْهُمْ فِي حَمْلِهِ مَا لَيْسَ بِكَامِلٍ مِنَ التَّطْهِيرِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي مَنْعِهِمْ مِنْهُ مَعَ مَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْمَشَقَّةِ لِتَجْدِيدِ الْوُضُوءِ فِي حَمْلِهِ مَعَ مُدَاوَمَةِ الْحَدَثِ مِنْهُمْ ذَرِيعَةٌ إِلَى تَرْكِ تَعْلِيمِهِ فَيُرَخَّصُ لَهُمْ حَمْلُهُ لِأَجْلِ ذَلِكَ.

(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْمُحْدِثُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَصَفَّحَ أَوْرَاقَ الْمُصْحَفِ بِيَدِهِ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ تَصَفَّحَهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ جاز، ولو تصحفها بِكُمِّهِ الْمَلْفُوفِ عَلَى يَدِهِ لَمْ يَجُزْ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ كُمِّهِ وَالْعُودِ أَنَّهُ لَابِسٌ لِكُمِّهِ وَاضِعٌ ليده عليه فجرى مجرى المباشرة، والعود باين منه وهو غير منسوب إلى مباشرته.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا إِنْ كَتَبَ مُصْحَفًا فَإِنْ كَانَ حَامِلًا لِمَا يُكْتَبُ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ مُحْدِثًا كَانَ أَوْ جُنُبًا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ حَامِلٍ لَهُ فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا جَازَ لِأَنَّهُ لَيْسَ كِتَابَتُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ تِلَاوَتِهِ وَلِلْمُحْدِثِ أَنْ يَتْلُوَ الْقُرْآنَ، وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ بِمَثَابَةِ التَّالِي لَهُ، وَلَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ أَنْ يَتْلُوَ الْقُرْآنَ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ أَغْلَظُ حَالًا مِنَ الْكِتَابَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ لَوْ كَتَبَ الْفَاتِحَةَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ تِلَاوَتِهَا، فَجَازَ لِلْجُنُبِ أَنْ يَكْتُبَ الْقُرْآنَ، وَإِنْ لَمْ يَتْلُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(مسألة: حكم قراءة الجنب وغيره القرآن)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُمْنَعُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إِلَّا جُنُبٌ، قال أبو إبراهيم: إن قدم الوضوء وأخر يعيد الوضوء والصلاة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ أَنْ يَقْرَءُوا الْقُرْآنَ وَلَا شَيْئًا مِنْهُ، وَجَوَّزَ لَهُمْ دَاوُدُ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِلْحَائِضِ أَنْ تَقْرَأَ دُونَ الْجُنُبِ، وَاسْتَدَلَّ دَاوُدُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ) {المزمل: 20) . فَكَانَ عَلَى عُمُومِهِ، وَرِوَايَةُ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يذكر الله على كل أحيائه، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا حَسَدَ إِلَا فِي اثْنَتَيْنِ، رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ورجلٍ آتَاهُ اللَهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ " وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ

(1/147)


سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَكُنْ يَحْجُبُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ جُنُبًا. وَرَوَى مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَقْرَأُ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ شَيْئًا مِنَ الْقُرْآنِ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ وَأَنْتَ جنبٌ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنِّي آكُلُ وَأَشْرَبُ وَأَنَا جُنُبٌ وَلَا أَقْرَأُ وَأَنَا جُنُبٌ " وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ الْقِرَاءَةِ عَلَى الْجُنُبِ قَدْ كَانَ مَشْهُورًا فِي الصَّحَابَةِ مُنْتَشِرًا عِنْدَ الْكَافَّةِ حَتَّى لَا يَخْفَى عَلَى رِجَالِهِمْ وَنِسَائِهِمْ، حَتَّى حُكِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ: وَطِئَ أَمَتَهُ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ وَطِئْتَ الْمَمْلُوكَةَ فَأَنْكَرَ فَقَالَتْ لَهُ إِنْ كُنْتَ لَمْ تَطَأْ فَاقْرَأْ فَقَالَ:
(شَهدت بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حقٌّ ... وَأَنَّ الْنَارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا)

(وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الماء طافٍ ... وفوق العرش رب العالمين)

(وتحمله ملائكةٌ شدادٌ ... ملائكة الإله مسومين)

فَتَشَبَّهَ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَظَنَّتْهُ قُرْآنًا فَقَالَتْ صَدَّقْتُ رَبِّي وَكَذَّبْتُ بَصَرِي، ثُمَّ إِنَّ عبد الله أخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ فَتَبَسَّمَ وَقَالَ: " امْرَأَتُكَ أَفْقَهُ مِنْكَ "، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ إِجْمَاعٌ.
فَأَمَّا مالك فَإِنَّهُ قَالَ إِنَّ الْحَائِضَ إِنْ لَمْ تَقْرَأْ نَسِيَتْ لِتَطَاوُلِ الْحَيْضِ بِهَا وَأَنَّهُ قَدْ رُبَّمَا اسْتَوْعَبَ شَطْرَ زَمَانِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْجُنُبُ وَهَذَا خَطَأٌ لِوُرُودِ النَّصِّ بِنَهْيِ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ،

(1/148)


وَلِأَنَّ حَدَثَ الْحَيْضِ أَغْلَظُ مِنْ حَدَثِ الْجَنَابَةِ، لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنَ الصِّيَامِ وَالْوَطْءِ وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُمَا الْجَنَابَةُ، فَلَمَّا كَانَ الْجُنُبُ مَمْنُوعًا فَأَوْلَى أَنْ تَكُونَ الْحَائِضُ مَمْنُوعَةً ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَيْهِمَا أَنَّ حُرْمَةَ الْقُرْآنِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَسْجِدِ فَلَمَّا كَانَ الْمَسْجِدُ مَمْنُوعًا مِنَ الْحَائِضِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَا مَمْنُوعَيْنِ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا فَصَلُّوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الصَّلَاةِ فَعَبَّرَ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْقُرْآنِ لِمَا يَتَضَمَّنُهَا مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ عَامٌّ خَصَّ مِنْهُ الْجُنُبَ وَالْحَائِضَ بِدَلِيلٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ أَنَّهُ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْأَذْكَارِ الَّتِي لَيْسَتْ قُرْآنًا، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ مَخْصُوصٌ.

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْجُنُبَ وَالْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ مَمْنُوعُونَ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فَلَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَقْرَءُوا مِنْهُ آيَةً وَلَا حَرْفًا، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَالْأَوْزَاعِيُّ يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَقْرَءُوا الْآيَةَ وَالْآيَتَيْنِ تَعَوُّذًا وَتَبَرُّكًا.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ أَنْ يَقْرَءُوا صَدْرَ الْآيَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْرَءُوا بَاقِيَهَا وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ خَطَأٌ لِأَنَّ حُرْمَةً يَسِيرَةً كَحُرْمَةٍ كَثِيرَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْحَظْرِ، وَلِأَنَّ مَا مَنَعَتِ الْجَنَابَةُ مِنْ كَثِيرِهِ مَنَعَتْ مِنْ يَسِيرِهِ كَالصَّلَاةِ.
(فَصْلٌ)
: وَيَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ أَنْ يَقْرَأَ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يَكُنْ يَحْجُبُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ جُنُبًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يَمْنَعْهُ وَكَذَلِكَ الْمُسْتَحَاضَةُ يَجُوزُ أَنْ تَقْرَأَ لِأَنَّهَا كَالْمُحْدِثِ، فَلَوْ أَرَادَ الْجُنُبُ وَالْحَائِضُ أَنْ يَقْرَءَا بِقُلُوبِهِمَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَا بِهِ بِلِسَانِهِمَا جَازَ وَهَكَذَا لَوْ نَظَرَا فِي الْمُصْحَفِ أَوْ قُرِئَ عَلَيْهِمَا الْقُرْآنُ كَانَ جَائِزًا لَهُمَا لِأَنَّهُمَا يُنْسَبَانِ إِلَى الْقِرَاءَةِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ، فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ سِرًّا بِاللِّسَانِ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْإِسْرَارَ بِالْقُرْآنِ كَالْجَهْرِ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَاللَّهُ أعلم.

(1/149)