الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب فضل الجنب وغيره
قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أنسٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُتِيَ بوضوءٍ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ وَأَمَرَ الناس أن
يتوضؤوا مِنْهُ فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ حتى توضأ الناس من عند آخرهم.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرِّجَالُ والنساء يتوضؤون فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في إناءٍ واحدٍ جميعاً وروي عن عائشة أنها قَالَتْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من إناءٍ واحدٍ تعني من الجنابة وأنها كانت تغسل رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهي حائضٌ. (قال الشافعي) : ولا بأس أن يتوضأ ويغتسل بفضل الجنب والحائض لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذا اغتسل وعائشة من إناءٍ واحدٍ فقد اغتسل كل واحدٍ منهما بفضل صاحبه (قال) وليست الحيضة في اليد ولا المؤمن بنجسٍ إنما تعبدٍ أن يماس الماء في بعض حالاته وكذلك ما روى ابن عمر أن كل واحدٍ منهما توضأ بفضل صاحبه.

(فصل)
: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ فَضْلَ الطَّهُورِ ضَرْبَانِ:
ضَرْبٌ فَضُلَ عَنِ الْأَعْضَاءِ بَعْدَ اسْتِعْمَالِهِ فِيهَا فَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ.
وَضَرْبٌ فَضُلَ فِي الْإِنَاءِ بَعْدَ اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِكَ الْجَمَاعَةُ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ، وَاشْتِرَاكُ الْجَمَاعَةِ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُوا جِنْسًا وَاحِدًا كَاشْتِرَاكِ الرِّجَالِ أو كاشتراك النساء، فهذا جائز باتفاق، وَلِمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحَانَتْ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بوضوءٍ فَوَضَعَ فِي ذَلِكَ الْإِنَاءِ يَدَهُ وَأَمَرَ الناس أن يتوضؤوا فرأيت الماء نبع من تحت أصابعه فتوضأ الناس حتى توضؤوا

(1/229)


مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ ". فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِعْجَازِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِخُرُوجِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ عَلَى جَوَازِ اشْتِرَاكِ الْجَمَاعَةِ فِي الطَّهَارَةِ مِنَ الْمَاءِ الْوَاحِدِ. فَإِنْ قِيلَ: فَمِثْلُ هَذِهِ الْمُعْجِزَةِ الظَّاهِرَةِ كَيْفَ جَاءَ بِهَا خَبَرٌ وَاحِدٌ وَلَمْ تُنْقَلْ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا وَهِيَ أَبْلَغُ مِنْ مُعْجِزَةِ

(1/230)


مُوسَى فِي خُرُوجِ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ مِنَ الْحَجَرِ مُعْتَادٌ، وَمِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ غَيْرُ مُعْتَادٍ؟ قِيلَ: هَذَا الْخَبَرُ وَإِنْ لَمْ يَنْقُلْهُ غَيْرُ أَنَسٍ فَهُوَ جارٍ مَجْرَى التَّوَاتُرِ، لِأَنَّ أَنَسًا أَضَافَ ذَلِكَ إِلَى غَزَاةٍ كَانَتِ الصَّحَابَةُ فِيهَا وَرَوَاهُ وَعَصْرُ الصَّحَابَةِ باقٍ وَأَكْثَرُهُمْ حَيٌّ فَنَقَلُوهُ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ اعْتِرَافًا بِصِحَّتِهِ فَصَارَ كَالْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ عَلَى نَقْلِهِ، وَلَوْلَا ذَاكَ لَرَدُّوهُ عَلَى أَنَسٍ وَأَنْكَرُوهُ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشْتَرِكَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي الطَّهَارَةِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ إِمَّا مِنْ حَدَثٍ وَإِمَّا مِنْ جَنَابَةٍ، أَوْ مِنْ حَدَثٍ وَحَيْضٍ وَجَنَابَةٍ، فَكُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ أَيْضًا، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَمَنَعَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ مِنْ ذَلِكَ احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ حُمَيْدٍ الْحِمْيَرِيُّ قَالَ: لَقِيتُ رَجُلًا صَحِبَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَرْبَعَ سِنِينَ كَمَا صَحِبَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: " نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ تَغْتَسِلَ الْمَرْأَةُ بِفَضْلِ الرَّجُلِ، أَوْ يَغْتَسِلَ الرَّجُلُ بِفَضْلِ الْمَرْأَةِ ".
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: " كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يتوضؤون فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ أناءٍ واحدٍ جَمِيعًا " وَرَوَتْ مُعَاذَةُ الْعَدَوِيَّةُ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَتْ: فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: أَبْقِ لِي أَبْقِ لِي ".
وَرَوَى أَبُو الشَّعْثَاءِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْتَسِلُ هِيَ وَرَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ إناءٍ وَاحِدٍ.
وَرَوَى وَكِيعٌ عَنْ أُسَامَةَ بن زيد عن خربوذ عن أم حبية الْجُهَنِيَّةِ قَالَتْ: " اخْتَلَفَتْ يَدِي وَيَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْوُضُوءِ مِنْ إناءٍ واحدٍ " وَلِأَنَّ مَا فضل عن الاستعمال فقد يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الِاسْتِعْمَالِ كَالرَّجُلَيْنِ وَالْمَرْأَتَيْنِ فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِالْخَبَرِ إِنْ كَانَ صَحِيحًا فَعَنْهُ جَوَابَانِ:

(1/231)


231
- أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ محمول على الفضل المستعمل.

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " كل ذلك دلالة أنه لا توقيت فيما يتطهر به المغتسل والمتوضئ إلا على ما أمره الله بِهِ وَقَدْ يُخْرَقُ بِالْكَثِيرِ فَلَا يَكْفِي وَيُرْفَقُ بالقليل فيكفي (قال) وَأُحِبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ عَمَّا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ تَوَضَّأَ بِالْمُدِّ وَاغْتَسَلَ بِالصَّاعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا حَدَّ لِلْمَاءِ الَّذِي يَتَوَضَّأُ بِهِ الْمُحْدِثُ وَيَغْتَسِلُ بِهِ الْجُنُبُ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاكَ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَاءِ الْوَاحِدِ يَمْنَعُ مِنْ تَحْدِيدِ مَا يَسْتَعْمِلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ الْمَاءُ لِمُغْتَسِلٍ فِي غُسْلِهِ مِنَ الصاع، والمتوضي فِي وُضُوئِهِ مِنَ الْمُدِّ، لِرِوَايَةِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ وَسَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَغْتَسِلُ بَالصَّاعِ وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فيه هل هو صاع الزكاة ومدها، فقال بعضهم: هي صاع الزكاة خمسة أرطال وثلث، وقال آخرون: صاع الماء، غير الزكاة قدر ثَمَانِيَةُ أَرْطَالٍ وَالْمُدُّ مِنْهُ رِطْلَانِ رَوَاهُ أَنَسٌ، فَإِنْ نَقَصَ الْمُغْتَسِلُ مِنَ الصَّاعِ وَعَمَّ جَمِيعَ شعره وبشره، ونقص المتوضي مِنَ الْمُدِّ وَأَسْبَغَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ، كَانَ ذَلِكَ مُمْكِنًا وَأَجْزَأَهُ، وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يُمْكِنُ الْمُغْتَسِلَ أَنْ يَعُمَّ جَمِيعَ شَعَرِهِ وَبَشَرِهِ بِدُونِ الصاع، ولا المتوضي أَنْ يُسْبِغَ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ بِأَقَلَّ مِنْ مُدٍّ، وَهَذَا دَفْعُ الْعَيَانِ وَإِنْكَارُ السُّنَّةِ رَوَى عَبَّادُ بْنُ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: " تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِثُلُثَيْ مُدٍّ وَجَعَلَ يُدَلِّكُ ذِرَاعَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يُمْكِنُ عَيَانًا إِسْبَاغُ الْبَدَنِ بِدُونِ الصَّاعِ لِمَنْ رَفِقَ وَلَا يُمْكِنُ بِالصَّاعِ لِمَنْ خَرِقَ لِاخْتِلَافِ الْخَلْقِ وَالْعَادَاتِ وَظُهُورِ ذَلِكَ فِي الْمُشَاهَدَاتِ - وَاللَّهُ أعلم بالصواب -.

(1/232)