الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

 (باب الغسل للجمعة والأعياد)
قال الشافعي: " وَالِاخْتِيَارُ فِي السُّنَّةِ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ صَلَاةَ الجمعة الاغتسال لها لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " الغسل واجبٌ على كل محتلمٍ " يريد وجوب الاختيار لأنه قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ تَوَضَّأَ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أفضل " وقال عمر لعثمان رضي الله عنهما حين راح والوضوء أيضاً؟ وقد عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يأمر بالغسل ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: غُسْلُ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَقَالَ دَاوُدُ بْنُ عَلِيٍّ غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَرَوَى قَوْلَهُ عَنْ مَالِكٍ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ مَالِكٍ عَنْ صَفْوَانَ بن سليم عن عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " غُسْلُ الْجُمُعَةِ واجبٌ عَلَى كُلِّ محتلمٍ " وَبِرِوَايَةِ بُكَيْرٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ عَلَى كُلِّ محتلمٍ رَاحَ إِلَى الْجُمُعَةِ، ومن رَاحَ إِلَى الْجُمُعَةِ الْغُسْلُ، وَبِرِوَايَةِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: " سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " مَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ ".
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ هَمَّامٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " من توضأ فيها ونعمت ومن اغتسل فهو فضلٌ ".
وَرَوَى يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " كَانَ النَّاسُ مُهَّانُ أَنْفُسِهِمْ فَيَرُوحُونَ إِلَى الْجُمُعَةِ بِهَيْئَتِهِمْ وَقِيلَ لَهُمْ لَوِ اغْتَسَلْتُمْ ".
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ نَاسًا مِنَ الْعِرَاقِ جَاءُوا فَقَالُوا: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ؛ أَتَرَى الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبًا فَقَالَ: لَا؛ وَلَكِنَّهُ طهرٌ وخيرٌ لِمَنِ اغْتَسَلَ، وَمَنْ لَمْ يَغْتَسِلْ فَلَيْسَ بواجبٍ، وَسَأُخْبِرُكُمْ كَيْفَ بدأ الْغُسْلِ كَانَ النَّاسُ مَجْهُودِينَ يَلْبَسُونَ الصُّوفَ وَيَحْمِلُونَ

(1/372)


عَلَى ظُهُورِهِمْ، وَكَانَ مَسْجِدُهُمْ ضَيِّقًا مُقَارِبَ السَّقْفِ إِنَمَا هُوَ عريشٌ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي يومٍ حارٍ، وَعَرِقَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ الصُّوفِ حَتَى ثَارَتْ مِنْهُمْ رِيَاحٌ آذَى بِذَلِكَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَلَمَّا وَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تِلْكَ الرِّيحَ، فَقَالَ أَيُّهَا الْنَاسُ إِذَا كَانَ هَذَا الْيَوْمُ فَاغْتَسِلُوا، وَلِيَمَسَّ أَحَدُكُمْ أَفْضَلَ مَا يَجِدُ مِنْ دُهْنِهِ وَطِيبِهِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ثم جاء الله بالخبر وَلَبِسُوا غَيْرَ الصُّوفِ وَكُفُوا الْعَمَلَ وَوَسِعَ مَسْجِدُهُمْ وَذَهَبَ بَعْضُ الَّذِي كَانَ يُؤْذِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ الْعَرَقِ ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَخْطُبُ فَقَالَ عُمَرُ: أَيُّ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ انْقَلَبْتُ مِنَ السُّوقِ فَسَمِعْتُ النِّدَاءَ فَمَا زِدْتُ عَلَى أَنْ تَوَضَّأْتُ وَأَقْبَلْتُ فَقَالَ عُمَرُ: الْوُضُوءَ أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يأمر بالغسل.

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو علمنا وُجُوبَهُ لَرَجَعَ عُثْمَانُ وَمَا تَرَكَهُ عُمَرُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلِأَنَّهُ غُسْلٌ لِسَبَبٍ مُسْتَقْبَلٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ سُنَّةً كَالْغُسْلِ لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَعَكْسُهُ غُسْلُ الْجَنَابَةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ أَخْبَارِهِمْ فَهُوَ: أَنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى وُجُوبِ الِاخْتِيَارِ وَالِاسْتِحْبَابِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَخْبَارِ.

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ مَسْنُونٌ فَهُوَ سُنَّةٌ لِمَنْ لَزِمَهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ، فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَلْزَمْهُ حُضُورُ الْجُمُعَةِ فَلَيْسَ الْغُسْلُ سُنَّةً لَهُ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ مَنْ أَهِلِهَا، وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِعُذْرٍ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ الْغُسْلُ مسنوناً له ومأموراً بِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا لَيْسَ بِسُنَّةٍ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعْذُورًا بِتَرْكِ الْجُمُعَةِ كَانَ مَعْذُورًا بِتَرْكِ الْغُسْلِ لَهَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْغُسْلَ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّ زَوَالَ عُذْرِهِ يَجُوزُ وَلُزُومَ الْجُمُعَةِ لَهُ مُمْكِنٌ.
فَأَمَّا غُسْلُ الْعِيدِ فَسُنَّةٌ لِمَنْ أَرَادَ حُضُورَ الْعِيدِ أَوْ لَمْ يُرِدْهُ وَجْهًا وَاحِدًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُسْلِ الْجُمُعَةِ أَنَّ غُسْلَ الْعِيدِ مَأْمُورٌ بِهِ لِأَخْذِ الزِّينَةِ فَاسْتَوَى فِيهِ مَنْ حَضَرَ الْعِيدَ، وَمَنْ لَمْ يَحْضُرْ كَاللِّبَاسِ، وَغُسْلُ الْجُمُعَةَ مَأْمُورٌ بِهِ لِقَطْعِ الرَّائِحَةِ، لأن لا يُؤْذِيَ بِهَا مَنْ جَاوَرَهُ، فَإِذَا لَمْ يَحْضُرُ زال معناه. والله أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُجْزِيهِ غُسْلُهُ لَهَا إِذَا كَانَ بَعْدَ الْفَجْرِ ".

(1/373)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَجُمْلَتُهُ أَنَّ لِلْمُغْتَسِلِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَغْتَسِلَ لَهَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ الصَّلَاةِ فَلَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ أَنَّ غُسْلَهُ لَهَا مُجْزِئٌ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَغْتَسِلَ لَهَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَ الْفَجْرِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وأبي حنيفة أَنْ غُسْلَهُ مُجْزِئٌ لَهَا، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُهُ؛ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ رَاحَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ " وَاسْمُ الرَّوَاحِ إِنَّمَا يَنْطَلِقُ عَلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ قَالَ: وَلِأَنَّ مَشْرُوعَاتِ الْجُمُعَةِ لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا قَبْلَ وَقْتِ الْجُمُعَةِ، كَالْأَذَانِ وَكَالْغُسْلِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.
ودليلنا رواية أبي الأشعث عن أواس بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " مَنْ غَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَدَنَا مِنَ الْإِمَامَ وَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِ خطوةٍ عَمَلُ سنةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا " فَجَعَلَ الْغُسْلَ فِي الْبُكُورِ أَفْضَلَ، وَرَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً " وَلِأَنَّ هَيْئَاتِ الْجُمُعَةِ يَجُوزُ فِعْلُهَا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ وَقْتِ الْجُمُعَةِ كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، وَلِأَنَّ فِي الْمَنْعِ مِنَ الْغُسْلِ لَهَا إِلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا مَشَقَّةً لَاحِقَةً وَذَرِيعَةً إِلَى الْفَوَاتِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ تُعَجَّلُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فَلَا تَنْفَكُّ مِنْ فَوَاتِ الْغُسْلِ أَوِ الصَّلَاةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ " مَنْ رَاحَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ " فَهُوَ أَنَّ الرَّوَاحَ الِانْصِرَافُ إِلَى الشَّيْءِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَبَعْدَهُ أَلَا تَرَى قَوْلَهُ وَمَنْ رَاحَ إِلَى الْجُمُعَةِ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
(أَمِنْ آلِ نعمٍ أَنْتَ غادٍ مُبَكِّرُ ... غَدَاةَ غدٍ أَمْ رائحٌ فَمُهَجِّرُ)

وَالتَّهْجِيرُ قَبْلَ الزَّوَالِ وَجَعَلَهُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَجَعَلَهُ بَعْدَ الرَّوَاحِ، وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِالْأَذَانِ فَفَاسِدٌ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ مِنْ مَشْرُوعَاتِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَجُزْ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَهَذَا مِنْ مَسْنُونَاتِ الْيَوْمِ فَجَازَ قبل دخول وقت الصلاة.
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَغْتَسِلَ لَهَا قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا يُجْزِئُهُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ يُجْزِئُهُ؛ لِأَنَّ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ تَبَعٌ لِيَوْمِهَا، وَقِيَاسًا عَلَى غُسْلَ الْعِيدِ لَمَّا جَازَ قَبْلَ الْفَجْرِ جَازَ بَعْدَ الْفَجْرِ.
ودليلنا قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ واجبٌ عَلَى كُلِّ محتلمٍ " فَأَضَافَهُ إِلَى الْيَوْمِ فَلَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ، ولأنه إِيقَاعَ الْغُسْلِ قَبْلَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ يَمْنَعُهُ لِإِجْزَائِهِ لِلْجُمُعَةِ كَالْغُسْلِ فِي يَوْمِ الْخَمِيسِ، فَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ تَبَعٌ لِيَوْمِهِ فَغَيْرُ مُسَلَّمٍ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى غُسْلِ يَوْمِ الْعِيدِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِهِ قَبْلَ الْفَجْرِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

(1/374)


أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ فَسَقَطَ السُّؤَالُ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ، فَعَلَى هَذَا الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ ضِيقُ وَقْتِ الْغُسْلِ فِي الْعِيدِ بَعْدَ الْفَجْرِ لِتَقْدِيمِ الصَّلَاةِ لَهَا فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ فَدَعَتِ الضَّرُورَةُ إِلَى التَّوْسِعَةِ فِي تَقْدِيمِ الْغُسْلِ وَالطِّيبِ قَبْلَ الفجر وها هنا بخلافه والله أعلم.

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَاغْتَسَلَ لَهُمَا جَمِيعًا أَجْزَأَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا فِي رَجُلٍ أَصْبَحَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ جُنُبًا فَعَلَيْهِ غُسْلَانِ: وَاجِبٌ: وَهُوَ الْجَنَابَةُ وَمَسْنُونٌ: وَهُوَ الْجُمُعَةُ، فَإِنِ اغْتَسَلَ لَهُمَا غُسْلَيْنِ كَانَ أَفْضَلَ وَيُقَدِّمُ غُسْلَ الْجَنَابَةِ، وَإِنِ اغْتَسَلَ لَهُمَا غُسْلًا وَاحِدًا يَنْوِيهِمَا مَعًا أَجْزَأَهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُجْزِئُ لِاخْتِلَافِ مُوجِبَيْهِمَا، وَسَائِرِ أَحْكَامِهِمَا وَهَذَا أَغْلَظُ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ إِذَا تَرَادَفَ تَدَاخَلَ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ وَالْحَيْضِ. وَلِأَنَّهُ لَمَّا نَابَ غُسْلُ الْجَنَابَةِ عَنِ الْغُسْلِ الْمَفْرُوضِ كَانَ أَوْلَى أَنْ يَنُوبَ عَنِ الْمَسْنُونِ وَلَيْسَ لِاخْتِلَافِ أَحْكَامِهِمَا وَجْهٌ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ تَدَاخُلِهِمَا كَالْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ وَاللَّهُ أعلم.
(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن نوى بالغسل الجمعة والعيد لَمْ يُجْزِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ حَتَّى يَنْوِيَ مِنَ الْجَنَابَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِيمَنِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ غُسْلُ الْجَنَابَةِ وَالْجُمُعَةِ، فَاغْتَسَلَ أَحَدُ الْغُسْلَيْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَنْوِيَ الْجَنَابَةَ وَحْدَهَا، دُونَ الْجُمُعَةِ، أَوْ يَنْوِيَ الْجُمُعَةَ وَحْدَهَا، دُونَ الْجَنَابَةِ، وَإِنْ نَوَى بِغُسْلِهِ الْجَنَابَةَ دُونَ الْجُمُعَةِ أَجْزَأَهُ غُسْلُ الْجُمُعَةِ، وَفِي إِجْزَائِهِ غُسْلَ الْجُمُعَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: رَوَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنِ الْجُمُعَةِ بِنِيَةِ الْجَنَابَةِ كَمَا يُجْزِئُ إذا نوى في أحد الأحداث لجمعها.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَاهُ الرَّبِيعُ فِي الْإِمْلَاءِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنِ الْجُمُعَةِ إِلَّا أَنْ يَنْوِيَهَا لِاخْتِلَافِ سَبَبَيْهِمَا فِي كَوْنِ أَحَدِهِمَا لماضٍ، وَالْآخَرِ لِمُسْتَقْبَلٍ، فَمَنَعَ مِنْ أَنْ يُجْزِئَ نِيَّةُ أَحَدِهِمَا عن الآخر.

(فصل)
: وإن نوى غسل الْجُمُعَةِ دُونَ الْجَنَابَةِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا الْجَنَابَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْوِهَا، وَأَمَّا الْجُمُعَةِ فَلِوُجُوبِ مَا هُوَ أَمْكَنُ مِنْهَا.

(1/375)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُجْزِئُهُ عَنِ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ يَجْعَلُ الطَّهَارَةَ الْمَنْدُوبَ إِلَيْهَا قَائِمَةً مَقَامَ الطَّهَارَةِ الْوَاجِبَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يُجْزِئَهُ عَنِ الْجُمُعَةِ الَّتِي نَوَاهَا دُونَ الْجَنَابَةِ الَّتِي لَمْ يَنْوِهَا، وَهَذَا مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورِ أَصْحَابِنَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " وَإِنَّمَا لِكُلِ امرئٍ مَا نَوَى ".

(فَصْلٌ)
: وَإِذَا اغْتَسَلَ الرَّجُلُ غُسْلَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ اجْتَنَبَ بَعْدَهُ عَمْدًا أَوْ غَيْرَ عَمْدٍ اغْتَسَلَ لِلْجَنَابَةِ، وَلَمْ يُعِدْ غُسْلَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ قَوْلُ الْكَافَّةِ، وَخَالَفَ الْأَوْزَاعِيُّ، وَقَالَ: يُعِيدُ غُسْلَ الْجُمُعَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ تَنْظِيفٌ فَإِذَا تَعَقَّبَهُ غُسْلُ الْجَنَابَةِ زَادَهُ تَنْظِيفًا وَلَمْ يُعِدْهُ.

(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وأحب الغسل من غسل الميت، وكذلك الغسل للأعياد سنةٌ اختياراً وإن ترك الغسل للجمعة والعيد أجزأته الصلاة وإن نوى الغسل للجمعة والعيد لم يجزه من الجنابة حتى ينوى الجنابة وَأَوْلَى الْغُسْلِ أَنْ يَجِبَ عِنْدِي بَعْدَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ الْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَالْوُضُوءُ مِنْ مَسِّهِ مُفْضِيًا إِلَيْهِ وَلَوْ ثَبَتَ الْحَدِيثُ بِذَلِكَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قلت به ثم غسل الجمعة ولا نرخص في تركه ولا نوجبه إِيجَابًا لَا يُجْزِئُ غَيْرُهُ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) إِذَا لم يثبت فَقَدْ ثَبَتَ تَأْكِيدُ غُسْلِ الْجُمُعَةِ فَهُوَ أَوْلَى وَأَجْمَعُوا أَنَّ مَسَّ خِنْزِيرًا أَوْ مَسَّ مَيْتَةً أَنَّهُ لَا غُسْلَ وَلَا وُضُوءَ عَلَيْهِ إِلَّا غُسْلَ مَا أَصَابَهُ فَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ؟ ! ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا غُسْلُ الْمَيِّتِ فَوَاجِبٌ، وَأَمَّا الْغُسْلُ مَنْ غُسْلِهِ وَالْوُضُوءُ من مسه فقد روى صالح مولى التَّوْأَمَةِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ غَسَّلَ مَيْتًا فَلْيَغْتَسِلْ، وَمَنْ مَسَّهُ مفضياً إليه فليتوضأ ".
قال الشافعي رضي الله عنه: إِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ قُلْتُ بِهِ، فَلَمْ يَصِحَّ؛ لِأَنَّ فِي إِسْنَادِهِ ضَعْفًا، فَالْغُسْلُ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ، وَالْوُضُوءُ مِنْ مَسِّهِ سُنَّةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَإِنَّمَا كَانَ سُنَّةً مَعَ ضَعْفِ الْحَدِيثِ؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَعَلَهُ، وَكَذَلِكَ صَحَابَتُهُ، رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَغْتَسِلُ مِنْ أربعٍ مِنَ الْجَنَابَةِ، وَيَوْمِ الْجُمُعَةِ وَمِنَ الْحِجَامَةِ وَمِنْ

(1/376)


غُسْلِ الْمَيِّتِ وَإِنْ صَحَّ هَذَا الْحَدِيثُ وَثَبَتَ فَإِنَّ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ مَنْ أَخْرَجَ لِصِحَّتِهِ مِائَةً وَعِشْرِينَ طَرِيقًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَكُونُ وَاجِبًا؛ لِثُبُوتِ الْأَمْرِ بِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ.
وَالثَّانِي: يَكُونُ مَعَ ثُبُوتِ الْأَمْرِ بِهِ اسْتِحْبَابًا لِاحْتِمَالِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ.

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ اسْتِحْبَابًا وَإِمَّا وَاجِبًا، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ هَلْ هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ هُوَ بِمَعْقُولِ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا فَعَلَ اسْتِسْلَامًا لِلشَّرْعِ، وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الطِّيِّبِ بْنِ سَلَمَةَ، وَأَبِي الْعَبَّاسِ أن المعنى فيه نَجَاسَةِ الْمَيِّتِ، وَالْغُسْلُ مِنَ الْأَنْجَاسِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ يَابِسًا وَوَاجِبٌ إِنْ كَانَ رَطْبًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ وَابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ حُرْمَةُ الْمَيِّتِ كما تلزم الطهارة لملامسة النساء الأحياء لحرمتين لِيُصَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ عَلَى أَكْمَلِ طَهَارَةٍ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا فَإِنْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ، فَهُوَ لَا مَحَالَةَ مُقَدَّمٌ عَلَى غُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَإِنْ قِيلَ بِاسْتِحْبَابِهِ فَفِي تَأْكِيدِهِ عَلَى غُسْلِ الْجُمُعَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ غُسْلَ الْجُمُعَةِ أَوْكَدُ سُنَّةً؛ لِثُبُوتِ الْخَبَرِ فِيهِ وَاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي وُجُوبِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ أَنَّهُ أَوْكَدُ مِنْ غُسْلِ الْجُمُعَةِ، لِوُقُوفِ الْخَبَرِ عَلَى الصِّحَّةِ وَتَرَدُّدِهِ بَيْنَ الواجب والسنة.
(فصل)
: فأما المزني فإنه أنكره وَمَنَعَ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمِهِ حَتْمًا أَوْ نَدْبًا تَعَلُّقًا بِأَنَّ مَنْ مَسَّ كَلْبًا أَوْ خِنْزِيرًا لَمْ يَتَوَضَّأْ فَكَيْفَ يَتَوَضَّأُ مِنْ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ، وَهَذَا خَطَأٌ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ جَمَعَ مَا فَرَّقَتِ السُّنَّةُ بَيْنَهُمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ يَرْفُضُ الْأُصُولَ، لِأَنَّ مَنْ مَسَّ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً تَوَضَّأَ، وَمَنْ مَسَّ مَيْتَةً أَوْ خِنْزِيرًا لَمْ يَتَوَضَّأْ، وَمَنْ مَسَّ ذَكَرَ مُؤْمِنٍ تَوَضَّأَ وَلَوْ مَسَّ بَوْلًا أَوْ عَذِرَةً لَمْ يَتَوَضَّأْ فَكَيْفَ يمنع من تسليم أَنْ يَكُونَ الشَّرْعُ وَارِدًا بِالْوُضُوءِ مِنْ مَسِّ الْمَيْتَةِ دُونَ الْخِنْزِيرِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(1/377)