الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

 (بَابُ صِفَةِ الْأَذَانِ وَمَا يُقَامُ لَهُ مِنَ الصلوات ولا يؤذن)
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَكُونَ فِي أَذَانِهِ، وَإِقَامَتِهِ إِلَّا مُسْتَقْبِلًا الْقِبْلَةَ لَا تَزُولُ قَدَمَاهُ وَلَا وَجْهُهُ عَنْهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْأَذَانُ فِي اللُّغَةِ: فَهُوَ الْإِعْلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَذَانٌ من الله ورسوله} [الحج: 27] أَيْ: أَعْلِمْهُمْ بِهِ وَقَالَ الْحُطَيْئَةُ:
(أَلَا إِنَّ لَيْلَى أَذَّنَتْ بِقُفُولٍ ... وَمَا أَذَنَتْ ذَا حَاجَةٍ بِرَحِيلِ)

فَسُمِّيَ الْأَذَانُ لِلصَّلَاةِ أَذَانًا، لِأَنَّهُ إِعْلَامٌ بِدُخُولِ وَقْتِهَا وَحُضُورِ فَعْلِهَا.
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا} [فصلت: 33] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33] ، قِيلَ فِي أحد تأويليها: إِنَّهُمُ الْمُؤَذِّنُونَ، وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - شَاوَرَ أَصْحَابَهُ فِي عَلَامَةٍ تَكُونُ لَهُمْ عِنْدَ أَوْقَاتِ صَلَوَاتِهِمْ. فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ بِالنَّاقُوسِ فَقَالَ: ذَاكَ مِزْمَارُ النَّصَارَى، وَأَشَارَ آخَرُونَ بِالْقَرْنِ فَقَالَ: ذَاكَ مِزْمَارُ الْيَهُودِ، وَأَشَارَ آخَرُونَ بِالرَّايَةِ فَقَالَ مَا تَصْنَعُونَ بِاللَّيْلِ ثُمَّ هَمَّ أَنْ يُعْمِلَ النَّاقُوسَ.
فَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: لَمَّا أُمِرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِالنَّاقُوسِ يُعْمَلُ لِيُضْرَبَ بِهِ لِلنَّاسِ لِجَمْعِ الصَّلَاةِ طاف بي رجل وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ يَحْمِلُ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ فَقُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ النَّاقُوسَ قَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ فَقُلْتُ: نَدْعُو بِهِ إِلَى الصَّلَاةِ قَالَ أَفَلَا أَدُلُّكَ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، قَالَ: تَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ إِلَى آخِرِ الْأَذَانِ - مِنْ غَيْرِ تَرْجِيعٍ قَالَ: ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ قَالَ: ثُمَّ تَقُولُ إِذَا أَقَمْتَ الصَّلَاةَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَى آخِرِ الْإِقَامَةِ فُرَادَى فَلَمَّا أَصْبَحْتُ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا رَأَيْتُ فَقَالَ: إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٍّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَقُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْتَ فَلْيُؤَذِّنْ بِهِ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ فَقُمْتُ مَعَ بِلَالٍ فَجَعَلْتُ أُلْقِيهِ عَلَيْهِ وَيُؤَذِّنُ بِهِ قَالَ: فَسَمِعَ عُمَرُ بْنُ الخطاب وهو

(2/40)


فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ وَهُوَ يَقُولُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ مِثْلَ مَا رَأَى فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ الْأَذَانَ سُنَّةٌ.

(فَصْلٌ)
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَذَانَ لِلصَّلَاةِ سُنَّةٌ فَالصَّلَوَاتُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ قِسْمٌ مِنَ السُّنَّةِ لَهَا الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَهِيَ الصَّلَوَاتُ المفروضات لما ذكرنا، وقسم من السنة يُنَادِيَ لَهَا الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إِقَامَةٍ وَهُوَ مَا يُقَامُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ غَيْرِ الْمَفْرُوضِ، كَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ، وَالْخُسُوفَيْنِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، اقْتِدَاءً بِالسُّنَّةِ فِيهَا وَأَنَّ فِي الْأَذَانِ لَهَا إِدْخَالَ شَكٍّ عَلَى سَامِعِيهِ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْهَا وَإِلَى صَلَاةِ الْوَقْتِ، وَقِسْمٌ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ لَا أَذَانَ لَهَا وَلَا نِدَاءَ إِلَيْهَا وَهُوَ مَا سِوَى الْقِسْمَيْنِ مِنَ النُّذُورِ، وَالسُّنَنِ، وَالنَّوَافِلِ، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُومُ إِلَى سُنَنِهِ وَإِلَى نَوَافِلِهِ مِنْ غَيْرِ أَذَانٍ وَلَا نِدَاءٍ.
(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا مِنْ سُنَّةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِهِمَا اتِّبَاعًا لِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِرِوَايَةِ هِشَامِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شَرَفًا وَإِنَّ شَرَفَ الْمَجْلِسِ مَا اسْتَقْبَلَ بِهِ الْقِبْلَةَ وَإِنَّمَا تُجَالِسُونَ بِالْأَمَانَةِ " وَلِأَنَّ الْأَذَانَ دُعَاءٌ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنْ سُنَّتِهِ التَّوَجُّهُ إِلَيْهَا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخُطْبَةِ حَيْثُ اسْتَقْبَلَ بِهَا النَّاسَ وَاسْتَدْبَرَ بِهَا الْقِبْلَةَ أَنَّ الْخُطْبَةَ مَوْعِظَةٌ وتخويف للمحاضرين فَكَانَ مِنْ إِجْمَالِ عِشْرَتِهِمُ الْإِقْبَالُ عَلَيْهِمْ وَالْأَذَانُ إِعْلَامٌ لِمَنْ بَعُدَ وَدُعَاءٌ لِمَنْ غَابَ مِمَّنْ فِي سَائِرِ الْجِهَاتِ فَكَانَ مِنْ سُنَّتِهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، فَأَمَّا الْمُؤَذِّنُ فِي الْمَنَارَةِ إِذَا أَرَادَ الطَّوَافَ فِي مَجَالِهَا فَقَدْ كَانَتِ الْمَنَارَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ مِنْ بَعْدِهِ مُرَبَّعَةً لَا مَجَالَ لَهَا حَتَّى أَحْدَثَ الْمَنَارَةَ الْمُدَوَّرُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ بِالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، فَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ لَطِيفًا وَالْعَدَدُ يَسِيرًا فَلَيْسَ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَدُورَ فِي مَجَالِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ دَاعِيَةٍ، وَوَقَفَ إِلَى جِهَةَ الْقِبْلَةِ حَتَّى يَنْتَهِيَ أَذَانُهُ وَإِنْ كَانَ الْبَلَدُ وَاسِعًا، وَالْعَدَدُ كَثِيرًا كَالْبَصْرَةِ فَفِي جَوَازِ طَوَافِهِ فِي مَجَالِهَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِمَا ذَكَرْنَا.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِبْلَاغِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْجِهَاتِ وَإِنَّ عدا الأمصار أقروا

(2/41)


الْمُؤَذِّنِينَ عَلَيْهِ وَلَمْ يُنْكِرُوهُ، لَكِنْ لَا يَطُوفُ إِلَّا فِي قَوْلِهِ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ "، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَلْتَفِتُ فِيهِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَلَوْ خَالَفَ الْمُؤَذِّنَ وَاسْتَدْبَرَ الْقِبْلَةَ بِأَذَانِهِ فَقَدْ أَسَاءَ وَأَجْزَأَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ شَرَعَ فِي الْخُطْبَةِ اسْتِقْبَالَ جِهَةٍ وَلَوِ اسْتَدْبَرَهَا لَمْ يُجْزِهِ وَشَرَعَ فِي الْأَذَانِ اسْتِقْبَالَ جِهَةٍ وَلَوِ اسْتَدْبَرَهَا أَجْزَأَهُ فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا؟ قِيلَ: من أصحابنا من جمع بينهما فقال: يجزيه مِنَ الْخُطْبَةِ كَمَا يُجْزِئُهُ مِنَ الْأَذَانِ وَالَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ فِي الْخُطْبَةِ بِخِلَافِ الْأَذَانِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْخُطْبَةَ لَمَّا كَانَتْ فَرْضًا كَانَ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهَا فَرْضًا، وَالْأَذَانَ لَمَّا كَانَ سُنَّةً كَانَ اسْتِقْبَالُ الْجِهَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهِ سُنَّةً.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْجِهَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْخُطْبَةِ عُدُولًا عَنْ أَهْلِهَا الْمَقْصُودِينَ بِهَا وَلَيْسَ فِي الْعُدُولِ عَنِ الْجِهَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْأَذَانِ عُدُولٌ عَنْ أَهْلِهِ الْمَقْصُودِينَ بِهِ.

(فَصْلٌ)
: وَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا اقْتِدَاءً بِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنْ أَذَّنَ جَالِسًا أَجْزَأَهُ، وَلَوْ خَطَبَ فِي الْجُمْعَةِ جَالِسًا لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّ الْأَذَانَ لَمَّا كَانَ مَسْنُونًا كَانَ الْقِيَامُ فِيهِ مَسْنُونًا، وَالْخُطْبَةَ لَمَّا كَانَتْ وَاجِبَةً كَانَ الْقِيَامُ فِيهَا وَاجِبًا، فَأَمَّا إِنْ أَذَّنَ مَاشِيًا فَإِنْ كَانَ قَدِ انْتَهَى فِي مَشْيِهِ إِلَى حَيْثُ لَا يَسْمَعُ من كان في الموضع الذي ابتداء فِي الْأَذَانِ فِيهِ بَقِيَّةَ أَذَانِهِ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنِ انْتَهَى إِلَى حَيْثُ يَسْمَعُونَهُ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّهُ إِذَا انْتَهَى إِلَى حَيْثُ لَا يَسْمَعُهُ مَنْ كَانَ فِي الْمَوْضِعِ الْأَوَّلِ صَارَ الْمَوْضِعُ مُخْتَلِفًا في ابتداء الأذان وانتهائه فلم يصرد أعيابه والله أعلم.

(مسألة)
: قال الشافعي: " وَيَقُولُ " اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله أشهد أن محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله ثم يرجع فيمد صوته فَيَقُولَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ محمدا رسول الله أشهد أن محمدا رسول الله حي على الصلاة حي على الصلاة حي على الفلاح حي على الفلاح اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله " وَاحْتَجَّ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - علم أبا محذورة هذا الأذان ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْأَذَانِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً عَلَى مَا وَصَفَهُ بِتَرْجِيعِ الشَّهَادَتَيْنِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ: أَنَّ الْأَذَانَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً بِتَرْجِيعِ الشَّهَادَتَيْنِ لَكِنْ بِإِسْقَاطِ تَكْبِيرَتَيْنِ مِنَ التَّكْبِيرَاتِ الْأَرْبَعِ فِي أَوَّلِهِ.

(2/42)


وَالثَّالِثُ: هُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة أَنَّ الْأَذَانَ خَمْسَ عَشْرَةَ كَلِمَةً بِإِثْبَاتِ التَّكْبِيرَاتِ الْأَرْبَعِ فِي أَوَّلِهِ وَإِسْقَاطِ تَرْجِيعِ الشَّهَادَتَيْنِ، فَصَارَ مَالِكٌ مُوَافِقًا لَنَا فِي التَّرْجِيعِ مُخَالِفًا فِي التَّكْبِيرِ، وَصَارَ أبو حنيفة مُوَافِقًا لَنَا فِي التَّكْبِيرِ مُخَالِفًا فِي التَّرْجِيعِ.
وَاسْتَدَلَّ أبو حنيفة بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَأَنَّهُ أَصْلُ الْأَذَانِ، وَهُوَ خَمْسَ عَشْرَةَ كَلِمَةً فَتَرَكَ التَّرْجِيعَ وَأَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَالًا بِهِ فَكَانَ يُؤَذِّنُ كَذَلِكَ فِي الصَّلَوَاتِ كُلِّهَا بِمَشْهَدِهِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ لِلصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّرْجِيعُ غَيْرَ مَسْنُونٍ فِيهِ كَالْإِقَامَةِ قَالَ: وَلِأَنَّ كَلِمَةَ الْإِخْلَاصِ إِذَا تَعَقَّبَتِ التَّكْبِيرَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى الشَّطْرِ مِنْ عَدَدِ ذَلِكَ التَّكْبِيرِ.
أَصْلُهُ: آخِرُ الْأَذَانِ يُكَبَّرُ فِيهِ مَرَّتَيْنِ وَيَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَلِأَنَّ لَفْظَ الْأَذَانِ إِذَا كَانَ مَسْنُونَ التَّكْرَارِ أَرْبَعًا كَانَ مَسْنُونَ الْمُوَالَاةِ كَالتَّكْبِيرَاتِ الْأُولَى.
وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَيْرِيزٍ أَخْبَرَهُ وَكَانَ يَتِيمًا فِي حِجْرِ أَبِي مَحْذُورَةَ حِينَ جَهَّزَهُ إِلَى الشَّامِ قال: قلت لأبي محذورة أي عم إِنِّي خَارِجٌ إِلَى الشَّامِ وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ أُسْأَلَ عَنْ تَأْذِينِكَ فَأَخْبِرْنِي قَالَ: نَعَمْ لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى غَزَاةِ خَيْبَرَ خَرَجْنَا نَنْظُرُ إِلَيْهِ فَأَذَّنَ مؤذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَصَرَخْنَا نَحْكِيهِ وَنَسْتَهْزِئُ بِهِ فَلَمْ يُرْسِلْ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلا وقد أخذونا وهبوا بِنَا إِلَيْهِ فَقَالَ: أَيُّكُمْ سَمِعْتُ صَوْتَهُ مُرْتَفِعًا فَأَشَارَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ إِلَيَّ وَصَدَقُوا فَأَرْسَلَهُمْ وَحَبَسَنِي وَقَالَ: قُمْ فَأَذِّنْ بِالصَّلَاةِ فَقُمْتُ وَمَا شَيْءٌ أَكْرَهُ إِلَيَّ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَا مِمَّا يَأْمُرُ بِهِ فَقُمْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَلْقَى عَلَيَّ التَّأْذِينَ هُوَ بِنَفْسِهِ فَقَالَ: قُلْ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ إِلَى أَنْ قَالَ لِيَ ارْجِعْ وَامْدُدْ مِنْ صَوْتِكَ، ثُمَّ قَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِلَى آخِرِ الْأَذَانِ، ثُمَّ دَعَا لِيَ وَأَعْطَانِي صُرَّةً فِيهَا شَيْءٌ مِنْ فِضَّةٍ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى نَاصِيَتِي، وَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْنِي بِالتَّأْذِينِ بِمَكَّةَ فَقَالَ: قَدْ أَمَرْتُكَ بِهِ فَذَهَبَ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنْ كَرَاهِيَةٍ وَعَادَ ذَلِكَ مَحَبَّةً، قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأَدْرَكْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ يُؤَذِّنُ كَمَا حَكَى ابْنُ مُحَيْرِيزٍ ".
وَرَوَى [مُحَمَّدُ] بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدِ الْقَرَظِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِلَالًا بِالتَّرْجِيعِ.
وَرُوِيَ أَنَّ سَعْدَ الْقَرَظِ أَذَّنَ وَرَجَّعَ وَقَالَ: هَكَذَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ، وَلِأَنَّهُ سُنَّةُ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ يَنْقُلُهُ خَلْفُهُمْ عَنْ سَلَفِهِمْ، وَأَصَاغِرُهُمْ عَنْ أَكَابِرِهِمْ، مِنْ غَيْرِ تَنَازُعٍ بَيْنَهُمْ، وَلَا اخْتِلَافٍ فِيهِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ دَلَائِلَ الْإِجْمَاعِ وَحُجَجِ الِاتِّفَاقِ، وَلِأَنَّهُ نَوْعُ ذِكْرٍ فِي الْأَذَانِ قَبْلَ الدُّعَاءِ إِلَى الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنَ السُّنَّةِ تَكْرَارُهُ أَرْبَعًا، كَالتَّكْبِيرِ فَأَمَّا حَدِيثُ

(2/43)


عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَأَخَذَ بِلَالٌ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيعٍ فَقَدْ رُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ بِلَالًا بِالتَّرْجِيعِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَعَارَضَ الْحَدِيثَانِ لَكَانَ حَدِيثُ أَبِي مَحْذُورَةَ أَوْلَى مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَزْيَدُ، وَالْأَخْذُ بِالزِّيَادَةِ أَوْلَى.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُتَأَخِّرٌ، وَالْمُتَأَخِّرُ أَوْلَى.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ تَلْقِينِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وذلك من عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يُطَابِقُ فِعْلَ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَكَانَ أَوْلَى.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِقَامَةِ فَالْمَعْنَى فِي الْأَذَانِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لِأَجْلِ إِعْلَامِ الْغَائِبِينَ أَكْمَلَ هَيْئَةً كَانَ أَكْمَلَ ذِكْرًا، وَالْإِقَامَةُ لَمَّا كَانَتْ لِأَجْلِ إِعْلَامِ الْحَاضِرِينَ أَنْقَصَ هَيْئَةً فَكَانَتْ أَنْقَصَ ذِكْرًا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ بِأَنَّ كَلِمَةَ الْإِخْلَاصِ إِذَا تَعَقَّبَتْ كَلِمَةَ التَّكْبِيرِ كَانَتْ عَلَى الشَّطْرِ مِنْ عَدَدِهِ فِيمَنْ يَقُولُ بِمُوجَبِهِ، لِأَنَّ الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى الشَّطْرِ مِنْ عَدَدِ التَّكْبِيرِ، وَالتَّرْجِيعُ إِنَّمَا هُوَ بَعْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ نَوْعٍ إِلَى نَوْعٍ عَلَى أَنَّ هَذَا قِيَاسُ أَوَّلِ الْأَذَانِ عَلَى آخِرِهِ، وَهُوَ فَاسِدٌ، لِأَنَّ أَوَّلَ الْأَذَانِ أَكْمَلُ مِنْ آخِرِهِ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ لَوْ تَكَرَّرَ أَرْبَعًا لَكَانَ مُتَوَالِيًا.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ مُوَالَاةَ الْأَذَانِ لَيْسَتْ شَرْطًا فِي الْأَذَانِ كَالتَّكْبِيرِ الأول والآخر والله أعلم.

(مسألة)
: قال الشافعي: " وَيَلْتَوِي فِي حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ يَمِينًا وَشِمَالًا لِيُسْمِعَ النَّوَاحِيَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ إِذَا قَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ أَنْ يَلْوِيَ رَأْسَهُ وَعُنُقَهُ جَمِيعًا يَمِينًا، وَإِذَا قَالَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ أَنْ يَلْوِيَ رَأْسَهُ وَعُنُقَهُ شِمَالًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَزُولَ قَدَمَاهُ عَنِ الْقِبْلَةِ وَيَكُونَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ أَذَانِهِ عَلَى حَالِ التَّوَجُّهِ إِلَى الْقِبْلَةِ اقْتِدَاءً بِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَدْ كَانَ بِلَالٌ، وَأَبُو مَحْذُورَةَ يَفْعَلَانِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ خِطَابٌ لِلْآدَمِيِّينَ فَاقْتَضَى أَنْ يُوَاجِهَهُمْ لِيَعُمَّهُمْ بِالْخِطَابِ فَأَمَّا قَوْلُهُ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَعْنَاهُ يَا أَهْلَ الْحَيِّ هَلُمُّوا وَأَقْبِلُوا إِلَى الصَّلَاةِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ بَادِرُوا وَأَسْرِعُوا إِلَى الصَّلَاةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ " إِذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ فَحَيَّ هَلَّا بِعُمَرَ " أَيْ: فَبَادِرْ بِذِكْرِهِ فِي أَوَّلِهِمْ. وَقَالَ لَبِيدٌ:
(يَتَمَارَى فِي الَّذِي قُلْتُ لَهُ ... وَلَقَدْ يَسْمَعُ قَوْلَ حَيَّ هَلْ)

وَأَمَّا قَوْلُهُ: حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَفِي الْفَلَاحِ تَأْوِيلَانِ:

(2/44)


أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إِدْرَاكُ الطِّلْبَةِ وَالظَّفَرُ بِالْحَاجَةِ قَالَ لَبِيدٌ:
(فَاعْقِلِي إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي ... وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلْ)

وَالثَّانِي: أَنَّهُ الْبَقَاءُ - يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ قَالَ الْأَعْشَى:
(وَلَئِنْ كُنَّا كَقَوْمٍ هَلَكُوا ... مَا لِحَيٍّ يَا لَقَوْمِي مِنْ فلاح)

(مسألة)
: قال الشافعي: " وَحَسُنَ أَنْ يَضَعَ أُصْبَعَيْهِ فِي صِمَاخَيْ أُذُنَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: رَوَى عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ عَنْ عَمَّارِ بْنِ سَعْدِ الْقَرَظِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقُولُ لِبِلَالٍ إِذَا أَذَّنْتَ فَأَدْخِلْ أُصْبَعَيْكَ فِي أُذُنَيْكَ فَإِنَّهُ أَرْفَعُ لِصَوْتِكَ، وَلِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ أَعْلَمَ الْأَصَمَّ بِفِعْلِهِ وَالسَّمِيعَ بِقَوْلِهِ، فَكَانَ أَبْلَغَ فِي إِعْلَامِهِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا فَعَلَ ذَلِكَ اسْتَدَّتْ أُذُنَاهُ فَاجْتَمَعَ الصَّوْتُ فِي فَمِهِ فَكَانَ أَرْفَعَ لِصَوْتِهِ وَأَبْلَغَ فِي إِعْلَامِهِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ قَائِمًا عَلَى ارْتِفَاعٍ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَ مَنَارَةٍ أَوْ مِئْذَنَةٍ، أَوْ سَطْحٍ اقْتِدَاءً بِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِبْلَاغِ، فَإِنْ أَذَّنَ جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ فَقَدْ تَرَكَ السُّنَّةَ مِنْ هيأته وأجزأه - والله أعلم -.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَيَكُونُ عَلَى طُهْرٍ فَإِنْ أَذَّنَ جُنُبًا كَرِهْتُهُ وَأَجْزَاهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يَكُونَ فِي أَذَانِهِ عَلَى أَكْمَلِ أَحْوَالِهِ فِي الطَّهَارَةِ، وَاللِّبَاسِ، مُتَهَيِّئًا مُتَأَهِّبًا لِلصَّلَاةِ فَقَدْ رَوَى عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ وَائِلِ بْنِ حَجَرٍ عَنْ أَبِيهِ وَائِلِ بْنِ حَجَرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " حَقٌّ وَمَسْنُونٌ أَنْ لَا يُؤَذِّنَ أَحَدٌ إِلَّا طَاهِرًا "، وَلِأَنَّهُ دَاعٍ إِلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَاتِ الْمُصَلِّينَ فَإِنْ أَذَّنَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ مُحْدِثًا كَانَ أَوْ جُنُبًا فَقَدْ أَسَاءَ وَأَجْزَأَهُ أَذَانُهُ، وَيَعْصِي الْمُؤَذِّنُ بِالدُّخُولِ فِي الْمَسْجِدِ إِنْ كَانَ جُنُبًا وَيُجْزِئُهُ أَذَانُهُ، وَهَكَذَا لَوْ أَذَّنَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ كَانَ عَاصِيًا بِكَشْفِ عَوْرَتِهِ، وَالْأَذَانُ مُجْزِئٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ " وَأَنَا لِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فِي الْإِقَامَةِ أَكْرَهُ مِنِّي لِتَرْكِهَا فِي الْأَذَانِ، لِأَنَّ الْإِقَامَةَ يَعْقُبُهَا الصَّلَاةُ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ أَجْزَأَهُ كَالْأَذَانِ، لِأَنَّ الْأَذَانَ، وَالْإِقَامَةَ، لَيْسَا مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ

(2/45)


بِخِلَافِ الْخُطْبَةِ الَّتِي لَا تَصِحُّ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ إِلَّا بِالطَّهَارَةِ، لِأَنَّهَا مِنْ شُرُوطِ الصَّلَاةِ والله أعلم.

(مسألة)
: قال الشافعي: " وَأُحِبُّ رَفْعَ الصَّوْتِ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ لَهُ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِرِوَايَةِ [أَبِي] يَحْيَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمُؤَذِّنُ يُغْفَرُ لَهُ مَدَى صَوْتِهِ ".
وَرَوَى ابْنُ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنِ [أَبِيهِ] عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِذَا كُنْتَ فِي بِادِيَتِكَ فَأَذِّنْ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِكَ حَجَرٌ، وَلَا إِنْسٌ، وَلَا حَيٌّ، وَلَا شَجَرٌ، إِلَّا وَشَهِدَ لَكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلِأَنَّهُ إِعْلَامٌ لِمَنْ غَابَ أَوْ بَعُدَ فَمَا كَانَ أَبْلَغَ كَانَ أَوْلَى فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ لَهُ أَوْلَى فَمِنَ السُّنَّةِ أَنْ يَكُونَ فِي الشَّهَادَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ أَخْفَضَ صَوْتًا، وَفِي تَرْجِيعِ الشَّهَادَتَيْنِ ثَانِيَةً أَرْفَعَ صَوْتًا، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَ أَبَا مَحْذُورَةَ أَنْ يَخْفِضَ صَوْتَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَيَرْفَعَهُ بِالتَّرْجِيعِ وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الشَّهَادَتَيْنِ شَيْئَانِ:
أَحَدُهُمَا: الْإِخْلَاصُ بِالْقَلْبِ.
وَالثَّانِي: الْإِعْلَامُ لِمَنْ غَابَ فَأَمَرَهُ بِخَفْضِ الْأَوَّلِ لِيُعْلَمَ لَهُ الْإِخْلَاصُ بِالْقَلْبِ فَإِنَّ شَدَّةَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِهِ يَصُدُّ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِخْلَاصِ بِالْقَلْبِ وَأَمَرَهُ بِرَفْعِ الصَّوْتِ الثَّانِي لِيَحْصُلَ لَهُ إِعْلَامُ مَنْ غَابَ ثُمَّ يَكُونُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَذَانِ عَلَى حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ صَوْتُهُ بِالْأَذَانِ أَرْفَعَ مِنْ صَوْتِهِ بِالْإِقَامَةِ، لِأَنَّ الْأَذَانَ إِعْلَامٌ لِمَنْ غَابَ، وَالْإِقَامَةَ إِعْلَامٌ لِلْحَاضِرِينَ، فَلَوْ خَافَتَ بِالْأَذَانِ مُخَافَتَةً أَسْمَعْ بِهَا وَاحِدًا أَجْزَأَهُ فِي الْفُرَادَى، وَالْجَمَاعَةُ تَتِمُّ بواحد ولواسر بِهِ لَمْ يُجْزِهِ إِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِجَمَاعَةٍ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَلِّغْ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ جَمَاعَةٌ وَإِنْ كَانَ يُؤَذِّنُ لِنَفْسِهِ أَجْزَأَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
(مسألة)
: قال الشافعي: " وَأَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِي أَذَانِهِ فَإِنْ تَكَلَّمَ لَمْ يُعِدْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا لَهُ ذَلِكَ اتِّبَاعًا لِمُؤَذِّنِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فإن نَظْمَ الْأَذَانِ يَزُولُ بِالْكَلَامِ، فَإِنْ تَكَلَّمَ فِي أَذَانٍ لَمْ يُبْطِلْهُ فَإِنْ كَانَ الْكَلَامُ يَسِيرًا بني على آذان وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ فَإِنْ بَنَى عَلَيْهِ أَجْزَأَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْخُطْبَةَ الَّتِي هِيَ فَرْضٌ لَا تُبْطَلُ بِالْكَلَامِ فَالْأَذَانُ الَّذِي هُوَ مَسْنُونٌ أَوْلَى. أَنْ لَا يَبْطُلَ بِالْكَلَامِ، وَمِنَ السُّنَّةِ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يُوَالِيَ

(2/46)


أَذَانَهُ، وَلَا يَفْصِلَهُ بِالسُّكُوتِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِلْبَاسِ وَفَسَادِ الْإِعْلَامِ فَإِنْ سَكَتَ فِي أَثْنَاءِ أَذَانِهِ بَنَى، وَيُسْتَحَبُّ لَوْ أَطَالَ السُّكُوتَ أَنْ يَسْتَأْنِفَ، لِأَنَّ أَذَانَ الْوَقْتِ يَرْتَفِعُ حُكْمُهُ بِقِرَاءَتِهِ على الصحيح من المذهب.

(فَصْلٌ)
: فَلَوْ نَامَ فِي أَذَانِهِ أَوْ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ بِجُنُونٍ أَوْ مَرَضٍ، فَالْمُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ فِي طَوِيلِ الزَّمَانِ وَقَصِيرِهِ لِخُرُوجِهِ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْأَذَانِ، فَإِنْ بَنَى عَلَيْهِ أَجْزَأَ لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُوَالَاةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ، فَلَوْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ فِي خِلَالِ أَذَانِهِ فَبَنَى أَجْزَأَهُ، فَلَوْ أَحْدَثَ فَتَيَمَّمَ فِي أَذَانِهِ أَجْزَأَهُ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ، فَأَمَّا إِذَا ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ فِي تَضَاعِيفِ أَذَانِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ فِي حَالِ رِدَّتِهِ لِخُرُوجِهِ عَنْ أَهْلِ الْأَذَانِ، فَإِنْ عَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ أَذَانِهِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِبُطْلَانِهِ بِالرِّدَّةِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ ظَاهِرُ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ لِإِسْلَامِهِ فِي الْحَالِ وَتَفْرِيقِهِ لَا يُمْنَعُ الْبِنَاءُ، فَلَوْ مَاتَ فِي أَذَانِهِ لَمْ يَجُزْ لِغَيْرِهِ الْبَنَاءُ عَلَيْهِ، وَهَكَذَا لَوْ كَانَ حَيًّا لَمْ يَجُزْ لَهُ اسْتِخْلَافُ غَيْرِهِ فِي تَمَامِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ الَّتِي يَجُوزُ الِاسْتِخْلَافُ فِيهَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ، لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ فِي الصَّلَاةِ يَأْتِي بِهَا كَامِلَةً وَإِنْ بَنَى عَلَى صَلَاةِ غَيْرِهِ، وَالْمُسْتَخْلَفُ فِي الْأَذَانِ إِذَا بَنَى لَمْ يَأْتِ بِهِ كَامِلًا فَلَمْ يُجْزِهِ فَأَمَّا الِاسْتِخْلَافُ فِي الْخُطْبَةِ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ كَالْأَذَانِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ كَالصَّلَاةِ والله أعلم.

(مسألة)
: قال الشافعي: " وما فات وقته أقام ولم يؤذن وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُبِسَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ حَتَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ بِهُوِيٍّ من الليل فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلَمْ يُؤَذِّنْ وجمع بعرفة بأذان وإقامتين وبمزدلفة بإقامتين ولم يؤذن فدل أن من جمع في وقت الأولى منهما فبأذان وفي الآخرة فبإقامة وغير أذان ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَتُهَا: فِيمَنْ فَاتَهُ صَلَوَاتٌ بِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِ عُذْرٍ فَأَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِقَامَةِ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَمَنْهِيٌّ عَنِ الْأَذَانِ لِمَا سوى الصلاة الأولة، وهل من السنة أن يؤذن للصلاة الأولة أَمْ لَا؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ:
أَحَدُهَا: وَبِهِ قال في القديم أنه يؤذن للصلاة الأولة، وَيُقِيمُ لِمَا سِوَاهَا لِرِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَفَلَ مِنْ خَيْبَرَ فَعَرَّسَ بِالْوَادِي فَلَمْ يَسْتَيْقِظُوا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ لِلصُّبْحِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَمَرَ فَأَقَامَ لِلصُّبْحِ وَصَلَّى بِهِمْ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ مِنْ سُنَنِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فَاسْتَوَى حَالُهُ فِي الْوَقْتِ وَغَيْرِهِ كَالْإِقَامَةِ.

(2/47)


وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَبِهِ قَالَ فِي الْجَدِيدِ، إِنَّهُ يُقِيمُ لِلْأُولَى وَجَمِيعِ الْفَوَائِتِ، وَلَا يُؤَذِّنُ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُبِسَ عَامَ الْخَنْدَقِ حَتَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ لِهَوِيٍّ مِنَ اللَيْلِ فَأَخَّرَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلَمْ يُؤَذِّنْ.
وَرَوَى ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ الْآخِرَةِ بِمُزْدَلِفَةَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَقَامَ لَهُمَا وَصَلَّاهُمَا، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ عَلَمٌ عَلَى فَرْضِ الْوَقْتٍ وَلَيْسَ، بِعَلَمٍ عَلَى نَفْسِ الْفَرْضِ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَقَدُّمَ الْعَصْرِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ لِلْجَمْعِ لَا يُؤَذَّنُ لَهَا وَهِيَ فَرْضٌ وَلِأَنَّ فِي الْأَذَانِ لِلْفَوَائِتِ إِلْبَاسًا عَلَى السَّامِعِينَ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَبِهِ قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: إِنَّ أَمَّلَ اجْتِمَاعَ النَّاسِ أَذَّنَ، وَإِنْ لَمْ يُؤَمِّلِ اجْتِمَاعَ النَّاسِ لَمْ يُؤَذِّنْ، لِأَنَّ مَقْصُودَ الْأَذَانِ اجْتِمَاعُ النَّاسِ بِهِ.

(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقْتِ إِحْدَيْهِمَا، فَإِنْ كَانَ مُقَدِّمًا لِلْعَصْرِ إِلَى وَقْتِ الظُّهْرِ وَالْعَشَاءِ إِلَى وَقْتِ الْمَغْرِبِ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِلْأُولَى ثُمَّ أَقَامَ لِلثَّانِيَةِ وَلَمْ يُؤَذِّنْ، وَإِنْ كَانَ مُؤَخِّرًا لِلظُّهْرِ إِلَى وَقْتِ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ إِلَى وَقْتِ الْعَشَاءِ كَانَ حُكْمُ الْأُولَى مِنْهُمَا فِي الْأَذَانِ لَهَا كَالْفَائِتَةِ فَيَكُونُ عَلَى ثَلَاثَةِ أقاويل فِي الثَّانِيَةِ فَيُقِيمُ لَهَا، وَلَا يُؤَذِّنُ، فَلَوْ أَخَّرَ الْأُولَى إِلَى وَقْتِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ قَدَّمَ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ حِينَ دَخَلَ وَقْتُهَا أَذَّنَ لِلثَّانِيَةِ وَأَقَامَ، لِأَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ الْجَمْعَ بِتَقْدِيمِهَا، وَفِي أَذَانِهِ لِلْأُولَى ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ لِأَنَّهَا فَائِتَةٌ - وَاللَّهُ أعلم -.

(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَا أُحِبُّ لِأَحَدٍ أَنْ يُصَلِّيَ فِي جَمَاعَةٍ وَلَا وَحْدَهُ إِلَّا بِأَذَانٍ، وَإِقَامَةٍ، فإن لم يفعله أَجْزَأَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَذَانَ، وَالْإِقَامَةَ، لِلصَّلَوَاتِ الْمَفُرَوضَاتِ سُنَّةٌ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفُرَادَى فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فِي حَالٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَاجِبَانِ مَعًا، لَا يَنُوبُ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، فَإِنْ تَرَكَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا فَسَدَتْ صَلَاتُهُ، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ وَاجِبَانِ، إِلَّا أَنَّ أَحَدَهُمَا يَنُوبُ عَنِ الْآخَرِ فَإِنْ أَتَى بِأَحَدِهِمَا أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا وَإِنْ تَرَكَهُمَا لَمْ يُجْزِهِ وَأَعَادَ إِنْ كَانَ وَقْتُ الصَّلَاةِ بَاقِيًا وَلَمْ يُعِدْ إِنْ كَانَ فَائِتًا، وَقَالَ عَطَاءٌ: الْإِقَامَةُ وَاجِبَةٌ دُونَ الْأَذَانِ فَإِنْ تَرَكَهُمَا بِعُذْرٍ أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ عُذْرٍ قَضَى.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] ، فَلَمَّا كَانَ النِّدَاءُ سَبَبًا لِلسَّعْيِ، وَكَانَ السَّعْيُ وَاجِبًا كَانَ النِّدَاءُ

(2/48)


وَاجِبًا، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَبْعَثُ أَصْحَابَهُ فِي السَّرَايَا، وَيَأْمُرُهُمْ إِنْ لَمْ يَسْمَعُوا الْأَذَانَ يَشُنُّوا عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ، وَإِنْ سَمِعُوا الْأَذَانَ كَفُّوا، وَلَمْ يَشُنُّوا الْغَارَةَ فَصَارَتْ مَنْزِلَةُ الْأَذَانِ فِي مَنْعِ التَّحْرِيمِ مَنْزِلَةَ الْإِيمَانِ، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُذْ شَرَعَ الْأَذَانَ دَاوَمَ عَلَيْهِ لِصَلَوَاتِهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ فِي تَرْكِهِ فِي حَضَرٍ وَلَا سَفَرٍ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ وَاجِبٍ لَأَبَانَ حُكْمَهُ بِالتَّرْكِ لَهُ، وَلَوْ دَفَعَهُ.
وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْأَذَانَ إِنَّمَا ثَبَتَ عَنْ مَشُورَةٍ أَوْقَعَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَيْنَ أَصْحَابِهِ حَتَّى تَقَدَّرَ بِرُؤْيَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ عَلَى الْأَذَانِ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ صِفَاتِ الْوَاجِبَاتِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمَنْدُوبَاتِ الْمَسْنُونَاتِ، لِأَنَّهُ مَا شَرَّعَ بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا أَقَرَّهُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ مُعَاذًا جَاءَ فَدَخَلَ فِي صَلَاةِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ قَامَ فَقَضَى مَا عَلَيْهِ مِنْهَا فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إِنَّ مَعَاذًا قَدْ سَنَّ لَكُمْ فَاتَّبِعُوهُ ".
قُلْنَا: هَذَا دَلِيلُنَا لِأَنَّهُ أَمَرَ بِهِ فَصَارَ شَرْعًا بِأَمْرِهِ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ قَدْ عُلِمَ بِالشَّرْعِ قَبْلَ فِعْلِ مُعَاذٍ وَإِنَّمَا مُعَاذٌ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ، وَلِأَنَّ الْأَذَانَ لَوْ وَجَبَ لِلصَّلَاةِ وَكَانَ شَرْطًا فِي صِحَّتِهَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ زَمَانُهُ مُسْتَثْنًى مِنْ وَقْتِهَا فَلَمَّا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ " إِشَارَةً إِلَى أَوَّلِ الْوَقْتِ وَآخِرِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَثْنِيَ مِنْهُ زَمَانَ الْأَذَانِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّتِهَا، وَإِنَّمَا هُوَ سُنَّةٌ لَهَا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ، لِأَنَّهُ حَالُ ضَرُورَةٍ؛ وَلَا يَعُمُّ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْآيَةِ فَهُوَ: أَنَّ السَّعْيَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالنِّدَاءِ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ يَلْزَمُهُمُ السَّعْيُ وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوهُ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْخَارِجِينَ عَلَى أَنَّ هَذَا يَفْسُدُ بِرَدِّ السَّلَامِ هُوَ وَاجِبٌ، وَلَيْسَ أَصْلُ السَّلَامِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الرَّدِّ وَاجِبًا فَلَمْ يُسَلِّمِ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى أَنَّ الْجُمْعَةَ قَدْ تُفَارِقُ غَيْرَهَا على ما يذكره.
وَأَمَّا أَمْرُهُ بِشَنِّ الْغَارَةِ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْ أَذَانَهُ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ وَدَارُ الشِّرْكِ مُخَالِطَةٌ لِدَارِ الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يَكُنْ يَمْتَازُ الْفَرِيقَانِ إِلَّا بِهِ فَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ تَمَيَّزُوا فِي الدَّارِ وَاشْتَهَرُوا بِالْإِسْلَامِ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ هَذَا الْحُكْمُ بِهِ أَلَا تَرَاهُ قال أيضا: إذا رأيتم مسجد فَلَا تُغِيرُوا وَكُفُّوا، وَلَمْ يَدُلَّ هَذَا عَلَى وُجُوبِ بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ، وَأَمَّا مُلَازَمَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى تَأْكِيدِهِ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ كَمَا لَازَمَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ لِتَأَكُّدِهِمَا لَا لِوُجُوبِهِمَا عَلَى أَنَّهُ قَدْ تَرَكَ الْأَذَانَ فِي السَّفَرِ بِعَرَفَةَ وَفِي الْحَضَرِ عَامَ الْخَنْدَقِ، وَلَمْ يَقْضِهِ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَقَضَاهُ كَالصِّيَامِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ لَيْسَا بِفَرْضٍ عَلَى الْأَعْيَانِ فَقَدْ ذَهَبَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ إِلَى أَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كَصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَغُسْلِ الْمَوْتَى وَرَدِّ السَّلَامِ فَإِذَا قام به

(2/49)


مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنِ الْبَاقِينَ، كَذَلِكَ الْأَذَانُ إِذَا انْتَشَرَ فِعْلُهُ فِي الْبَلَدِ وَالْقَبِيلَةِ انْتِشَارًا ظَاهِرًا سَقَطَ فَرْضُهُ عَنِ الْبَاقِينَ وَإِنْ لَمْ يُؤَذَّنْ، أَوْ أُذِّنَ وَلَمْ يَنْتَشِرْ فِي الْبَلَدِ انْتِشَارًا ظَاهِرًا خَرَجَ النَّاسُ أَجْمَعُونَ، وَأَمَّا أَذَانُ الْجُمْعَةِ فَزَعَمَ أَبُو سَعِيدٍ: أَنَّهُ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ الْأَذَانَ لِلْجُمْعَةِ وَغَيْرِهَا سُنَّةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، لِأَنَّ مَا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِهِ عَلَى أَعْيَانِ الْجَمَاعَاتِ وَآحَادِ الْمُصَلِّينَ مَنَعَ مِنْ إِيجَابِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ فَعَلَى هَذَا إِذَا قِيلَ بِوُجُوبِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ فَأَطْبَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ قُوتِلُوا عَلَيْهِ وَحُورِبُوا لِأَجْلِهِ وَإِذَا قِيلَ: إِنَّهُ سُنَّةٌ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ مِنْ أَصْحَابِنَا فَلَوْ أَطْبَقَ أَهْلُ بَلَدٍ عَلَى تَرْكِهِ فَهَلْ يُقَاتَلُونَ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُقَاتَلُونَ عَلَى تَرْكِهِ، لِأَنَّ فِي إِهْمَالِهِمْ وَتَرْكِهِ ذَرِيعَةً إِلَى إِهْمَالِ السُّنَنِ وَحَابِطًا لَهَا حَتَّى إِذَا انْقَرَضَ الْعَصْرُ عَلَيْهِ وَنَشَأَ بَعْدَهُمْ قَوْمٌ لَمْ يَرَوْهُ سُنَّةً وَلَا اعْتَقَدُوهُ شَرْعًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: إِنَّهُمْ لَا يُقَاتَلُونَ عَلَى تَرْكِهِ وَلَكِنْ يُعَنَّفُونَ بِالْقَوْلِ وَيُزْجَرُونَ بِالْإِنْكَارِ، وَلَوْ قُوتِلُوا عَلَيْهِ لَخَرَجَ مِنْ حُكْمِ الْمَسْنُونِ إِلَى حَدِّ الِوَاجِبِ.

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي الْمَفْرُوضَاتِ كُلِّهَا فَهُوَ سُنَّةٌ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْفُرَادَى فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر أبا سعيد الخدري به فِي تَأْذِينِهِ إِلَّا أَنَّ الْأَذَانَ فِي الْجَمَاعَةِ أَوْكَدُ وَتَرْكَهُ فِي الْفُرَادَى أَيْسَرُ، وَهُوَ فِي الْحَضَرِ أَوْكَدُ، وَتَرْكُهُ فِي السَّفَرِ أَقْرَبُ، وَإِنَّ كَانَ سُنَّةً فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ كُلِّهَا.
رَوَى أَبُو قِلَابَةَ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ قَالَ: " أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَا وَرَجُلٌ فَوَدَّعَنَا وَقَالَ: إِذَا سَافَرْتُمَا وَحَضَرَتِ الصلاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما ".
(فَصْلٌ)
: فَلَوْ أَرَادَ رَجُلٌ صَلَاةَ وَقْتِهِ فَسَمِعَ أَذَانًا مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْأَذَانُ لِلْجَمَاعَةِ الَّتِي يَحْضُرُهَا وَيُصَلِّي مَعَهَا سَقَطَ عَنْهُ سُنَّةُ الْأَذَانِ بِسَمَاعِ ذَلِكَ الْأَذَانِ، وَإِنْ كَانَ يصلي في منفردا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى فَهَلْ يَسْقُطُ عَنْهُ سُنَّةُ الْأَذَانِ بِسَمَاعِ ذَلِكَ الْأَذَانِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ بِسَمَاعِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ مَسْمُوعًا مِنْ جَمَاعَةٍ.
وَالثَّانِي: قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ سُنَّةَ الْأَذَانِ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ، لِأَنَّ لِكُلِّ جَمَاعَةٍ أذانا مسنونا.
(فَصْلٌ)
: وَإِذَا حَضَرَ رَجُلٌ مَسْجِدًا قَدْ أُقِيمَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ جَمَاعَةً بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ مُنْفَرِدًا، أَسَرَّ الْأَذَانَ لِنَفْسِهِ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ جَمَاعَةً تَخَيَّرَ بِالْأَذَانِ لَهَا، فإن كان

(2/50)


هَذَا مَسْجِدًا عَظِيمًا لَهُ إِمَامٌ رَاتِبٌ بِوِلَايَةٍ سُلْطَانِيَّةٍ لَمْ يَجُزْ لِمَنْ دَخَلَهُ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ جَمَاعَةً بَعْدَ جَمَاعَتِهِ، وَلَا أَنْ يَجْهَرَ بِالْأَذَانِ بَعْدَ أَذَانِهِ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ شَقِّ الْعَصَا وَخَوْفِ التَّقَاطُعِ، وَإِنْ كَانَ الْمَسْجِدُ صَغِيرًا مِنْ مَسَاجِدِ الْمَحَالِّ وَالْأَسْوَاقِ الَّتِي يَؤُمُّ فِيهَا جِيرَانُهَا جَازَ إِقَامَةُ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ جَمَاعَتِهِ، وَالْجَهْرُ بِالْأَذَانِ بَعْدَ أَذَانِهِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأُحِبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُقِيمَ وَلَا تُؤَذِّنَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ أَجْزَأَهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا كَرِهَ الْأَذَانَ لَهَا، وَاسْتَحَبَّ الْإِقَامَةَ لِرِوَايَةِ الْحَكَمِ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ أَذَانٌ، وَلَا إِقَامَةٌ، وَلَا جُمُعَةٌ، وَلَا اغْتِسَالٌ لِلْجُمُعَةِ، وَلَا تَقَدَّمَهُنَّ امْرَأَةٌ، لَكِنْ تَقُومُ وَسْطَهُنَّ " وَعُنِيَ بِالْإِقَامَةِ مَا يفعله مؤذنوا الجماعة من الجهر بها، ولأن الأذان دعاه مَنْ غَابَ وَبَعُدَ، وَالْمَرْأَةُ مَنْهِيَّةٌ عَنِ الِاخْتِلَاطِ بِالرِّجَالِ مَأْمُورَةٌ بِلُزُومِ الْمَنْزِلِ وَصَلَاتُهَا فِيهِ أَفْضَلُ، وَأَمَّا الْإِقَامَةُ فَهِيَ اسْتِفْتَاحُ صَلَاةٍ قَبْلَ الْإِحْرَامِ فَاسْتَوَى فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ كَاسْتِفْتَاحِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الإحرام.

(فَصْلٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَالْعَبْدُ فِي الْأَذَانِ كَالْحُرِّ ".
فَاحْتَمَلَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤَذِّنًا كَالْحُرِّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مِنَ السُّنَّةِ لَهُ الْأَذَانَ، وَالْإِقَامَةَ لِصَلَاتِهِ كَالْحُرِّ وَكِلَاهُمَا صَحِيحٌ لِأَنَّ مَسْنُونَاتِ الصَّلَاةِ وَمَفْرُوضَاتِهَا يَسْتَوِي فِيهَا الْحُرُّ وَالْعَبْدُ، إِلَّا أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُؤَذِّنَ [لِنَفْسِهِ] لَمْ يَلْزَمْهُ اسْتِئْذَانُ سَيِّدِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِخِدْمَتِهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُؤَذِّنًا لِلْجَمَاعَةِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، لأن في ذلك إضرار بِخِدْمَتِهِ لِمَا يَحْتَاجُ إِلَى مُرَاعَاةِ الْأَوْقَاتِ.
(مَسْأَلَةٌ)
: [القول مثلما يقول المؤذن] قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَحْبَبْتُ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ مَا يَقُولُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ في صلاة فإذا فرغ قاله وترك الأذان في السفر أخف منه في الحضر ".
قال الماوردي: هذا كما قال يُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ قَوْلِهِ لِرِوَايَةِ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا سَمِعْتُمُ النِّدَاءَ فَقُولُوا مِثْلَ مَا يقول المؤذن ".

(2/51)


وروى أبو عبد الرحمن - يعني الحبلي - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَجُلًا قَالَ: " يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ الْمُؤَذِّنِينَ يَفْضُلُونَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُلْ كَمَا يَقُولُونَ فَإِذَا انْتَهَيْتَ فَسَلْ تُعْطَ ".
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَنْ يَقُولَ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي الْأَذَانِ كُلِّهِ إِلَّا فِي الْمَوْضِعَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ فَيَقُولُ الْمُسْتَمِعُ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ فَيَقُولُ الْمُسْتَمِعُ بَدَلًا مِنْ ذَلِكَ أَقَامَهَا اللَّهُ وَأَدَامَهَا رَوَاهُ أَبُو أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلِأَنَّ مَا سِوَى هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ ذِكْرُ اللَّهِ فَاسْتَوَى فِيهِ الْمُؤَذِّنُ وَالْمُسْتَمِعُ، وَهَذَانِ الْمَوْضِعَانِ خِطَابٌ لِلْآدَمِيِّينَ فَعَدَلَ الْمُسْتَمِعُ عَنْهُ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ في الاستغاثة به والرغبة إليه في إمامة الصَّلَاةِ.

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا وَضَحَ مَا ذَكَرْنَا فَمِنَ السُّنَّةِ لِكُلِّ مُسْتَمِعٍ أَنْ يَقُولَهُ مِنْ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَلَيْسَ هَذَا كَالْأَذَانِ الَّذِي يُكْرَهُ لِلْمَرْأَةِ لِأَنَّ هَذَا [دُعَاءٌ] وَذَلِكَ نِدَاءٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَمِعُ مِمَّنْ يَحْضُرُ تِلْكَ الْجَمَاعَةَ أَوْ لَا يَحْضُرُهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَمِعُ عَلَى غَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، فَإِذَا قَضَى حَاجَتَهُ قَالَهُ، وَلَوْ كَانَ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ قَطَعَ قِرَاءَتَهُ، وَقَالَ كَقَوْلِهِ: فَإِذَا فَرَغَ عَادَ فِي قِرَاءَتِهِ، وَلَوْ كَانَ فِي طَوَافٍ قَالَهُ وَهُوَ عَلَى طَوَافِهِ، لِأَنَّ الطَّوَافَ لَا يَمْنَعُ مِنَ الْكَلَامِ فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ فِي صَلَاةٍ أَمْسَكَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ قَالَهُ فَإِنْ خَالَفَ وَقَالَهُ فِي صَلَاتِهِ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَقُولَهُ عَلَى شِبْهِ الْمُسْتَمِعِ، أَوْ عَلَى شِبْهِ الْمُؤَذِّنِ، فَإِنْ قَالَهُ عَلَى شِبْهِ لِسَانِ الْمُسْتَمِعِ وَأُبْدِلَ مِنْ قَوْلِهِ " حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ " " لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ " كَانَتْ صَلَاتُهُ جَائِزَةً سَوَاءٌ أَتَى بِذَلِكَ سَاهِيًا أَوْ عَامِدًا، لِأَنَّهُ ذِكْرُ اللَّهِ فَإِذَا أَتَى بِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ مِنَ الصَّلَاةِ لَمْ تَفْسَدْ صَلَاتُهُ، كَالْقَارِئِ فِي رُكُوعِهِ، وَالْمُسَبِّحِ فِي قِيَامِهِ وَإِنْ قَالَهُ عَلَى شِبْهِ الْمُؤَذِّنِ فَقَالَ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، وَقَالَ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، فَإِنْ قَالَهُ نَاسِيًا لِصَلَاةٍ أَوْ جَاهِلًا، بِأَنَّ مَا قَالَهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ، وَكَانَ عَلَيْهِ سُجُودُ السَّهْوِ كَالْمُتَكَلِّمْ نَاسِيًا، وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِصَلَاتِهِ عَالِمًا بِأَنَّ مَا قَالَهُ خِطَابُ آدَمِيٍّ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ كالمتكلم عامدا.

(2/52)


(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَالْإِقَامَةِ فُرَادَى إِلَّا أَنَّهُ يَقُولُ قد قامت الصلاة مرتين وكذلك كان يفعل أبو محذورة مؤذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فإن قال قائل قد أمر بلال بأن يوتر الإقامة قيل له فأنت تثني الله أكبر الله أكبر فتجعلها مَرَّتَيْنِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ فُرَادَى إِلَّا قَوْلَهُ " قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ " فإنه يقول: مرتين فتكون إحدى عشر كَلِمَةً، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَنَسٌ، وَمِنَ التَّابِعِينَ الْحَسَنُ، وَابْنُ سِيرِينَ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ أَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ فُرَادَى مَعَ قَوْلِهِ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ فَيَكُونُ عَشْرَ كَلِمَاتٍ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة: أَنَّهُ مَثْنَى مَثْنَى كَالْأَذَانِ وَزِيَادَةُ قَوْلِهِ " قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ " مَرَّتَيْنِ فَيَكُونُ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً.
اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَامِرٍ الْأَحْوَلِ أَنَّ مَكْحُولًا حَدَّثَهُ أَنَّ ابْنَ مُحَيْرِيزٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ حَدَّثَهُ قَالَ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْأَذَانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَالْإِقَامَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ كَلِمَةً " وَبِرِوَايَةِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بِلَالًا كَانَ يُؤَذِّنُ مَثْنَى مَثْنَى، وَيُقِيمُ [مثنى] مثنى.
وروي أن أبا طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعَ رَجُلًا يُفْرِدُ الْإِقَامَةَ فَقَالَ: ثَنِّ لَا أُمَّ لَكَ قَالَ: وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ إِلَى الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَثْنَى كَالْأَذَانِ قَالَ: وَلِأَنَّهُ أَحْوَطُ فِي الْإِقَامَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَهُوَ فِي الْأَذَانِ كَالطَّرَفِ الْأَخِيرِ قَالَ: وَلِأَنَّ فِي الْإِقَامَةِ مَا لَيْسَ فِي الْأَذَانِ فَلَا يَكُونُ مَا فِيهَا مَا فِي الْأَذَانِ أَوْلَى.
وَدَلِيلُنَا: رِوَايَةُ سِمَاكٍ عَنْ أيوب عن أبي قلابة عن أنس: أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يُشَفِّعَ الْأَذَانَ وَيُوَتِّرَ الْإِقَامَةَ.
وروى يعمر عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يُشَفِّعَ الْأَذَانَ وَيُوَتِّرَ الإقامة إلى قَوْلَهُ " قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ "، قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ.
وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي الْمُثَنَّى عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ الأذان على

(2/53)


عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّتَيْنِ مَرْتَيْنِ، وَالْإِقَامَةُ مَرَّةً مَرَّةً غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ.
وَرَوَى عَمَّارُ بْنُ سَعْدٍ الْقَرَظُ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ أَذَّنَ مَثْنَى مَثْنَى، وَأَقَامَ فُرَادَى، وَقَالَ هَذَا الَّذِي أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِلَالًا أَنْ يُؤَذِّنَ بِهِ لِأَبِي سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ فَإِنَّهُ كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَثْنَى مَثْنَى، وَالْإِقَامَةُ فُرَادَى.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أنه قال: نزل جبريل بالإقامة فرادى، وَلِأَنَّهُ ثَانٍ لِأَوَّلَ يُسْتَفْتَحُ بِتَكْبِيرَاتٍ مُتَوَالِيَةٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي أَقْصَرَ مِنَ الْأَوَّلِ، كَصَلَاةِ العيدين في عدد التكبير، ولأن الأذان أو في صِفَةً مِنَ الْإِقَامَةِ، لِأَنَّهُ يَأْتِي بِهِ مُرَتَّلًا، وَبِالْإِقَامَةِ إِدْرَاجًا، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَوْفَى قَدْرًا، كالركعتين الأوليتين لَمَّا كَانَتْ أَوْفَى صِفَةً بِالْجَهْرِ كَانَتْ أَوْفَى قَدْرًا بِالسُّورَةِ، وَلِأَنَّ أَسْبَابَ الصَّلَاةِ إِذَا تَجَانَسَتْ، وَبُنِيَ أَحَدُهُمَا عَلَى التَّخْفِيفِ بُنِيَ عَلَى التَّبْعِيضِ، كَالتَّيَمُّمِ لَمَّا جَانَسَ الْوُضُوءَ ثُمَّ يُبْنَى عَلَى التخفيف في تجويزه بِالتُّرَابِ، وَالْمَسْحِ بُنِيَ عَلَى التَّخْفِيفِ فِي الِاقْتِصَارِ مِنَ الْأَعْضَاءِ عَلَى الْبَعْضِ وَالرَّأْسِ، لَمَّا قُصِرَ عَنِ الْأَعْضَاءِ بِالتَّخْفِيفِ قَسْمًا قُصِرَ عَنْهَا بِالتَّخْفِيفِ تَبْعِيضًا، فَلَمَّا كَانَتِ الْإِقَامَةُ مَبْنِيَّةً عَلَى التَّخْفِيفِ إِدْرَاجًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عَلَى التَّخْفِيفِ تَبْعِيضًا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ أَبِي مَحْذُورَةَ وَبِلَالٍ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا كَانَتْ مُتَقَدِّمَةً تَعْقُبُهَا أَخْبَارُنَا، لِأَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِالْإِفْرَادِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَلَى خِلَافِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا وَإِنْ عَارَضَتْ أَخْبَارَنَا فَأَخْبَارُنَا أَوْلَى لِمُطَابَقَةِ فِعْلِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ لَهَا.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْأَذَانِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا وُضِعَ لِلْإِعْلَامِ كَانَ أَكْمَلَ قَدْرًا كَمَا كَانَ أَكْمَلَ صِفَةً، وَالْإِقَامَةُ لَمَّا وُضِعَتْ لِلِاسْتِفْتَاحِ كَانَتْ أَقَلَّ قَدْرًا، كَمَا كَانَتْ أَقَلَّ صِفَةً.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّرَفِ الْآخَرِ فَلَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الْأَذَانَ لَمَّا كَانَ مَوْضُوعًا لِلْإِعْلَامِ وَكَانَ الْإِعْلَامُ بِأَوَّلِهِ كَانَ أَوَّلُهُ زَائِدًا عَلَى آخِرِهِ زائد الحصول الْإِعْلَامِ بِأَوَّلِهِ وَالْإِقَامَةُ لَمَّا كَانَتْ مَوْضُوعَةً لِلِاسْتِفْتَاحِ جَازَ أَنْ يَسْتَوِيَ أَوَّلُهَا وَآخِرُهَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: إِنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي الْإِقَامَةِ مَا لَيْسَ فِي الْأَذَانِ فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ فِيهَا مَا في الأذان، ففاسد بالتثويب ثم بالترتيل فإن صَحَّ مَا ذَكَرْنَا فَالسُّنَّةُ فِي الْأَذَانِ التَّثْنِيَةُ بالترجيع والسنة

(2/54)


فِي الْإِقَامَةِ الْإِفْرَادُ إِلَّا فِي قَوْلِهِ: " قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ " وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: كُلُّ هَذَا مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ وَلَيْسَ بَعْضُهُ بِأَوْلَى [مِنْ] بَعْضٍ، وَهَذَا قَوْلٌ مُطْرَحٌ بِإِجْمَاعِ المتقدمين على الاختلاف في أفضله وأوله.

(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الْمُزَنِيُّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فِي الْقَدِيمِ يزيد في أذان الصبح التثويب وهو " الصلاة خير من النوم " مرتين ورواه عن بلال مؤذن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وعن علي رضي الله عنه وكرهه في الجديد لأن أبا محذورة لم يحكه عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - (قال المزني) وقياس قوليه أن الزيادة أولى به في الأخبار كما أخذ في التشهد بالزيادة وفي دخول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - البيت بزيادة أنه صلى فيه وترك من قال لم يفعل ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا التَّثْوِيبُ فَهُوَ [قَوْلُ الْمُؤَذِّنِ] بَعْدَ قَوْلِهِ " حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ " سُمِّيَ تَثْوِيبًا مِنْ قَوْلِهِمْ ثَابَ فُلَانٌ إِلَى كَذَا أَيْ: رَجَعَ إِلَيْهِ لِأَنَّ الْمُؤَذِّنَ قَدْ رَجَعَ إِلَى دُعَاءِ النَّاسِ بَعْدَ قَوْلِهِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا} [البقرة: 125] أَيْ: رَجْعًا لَهُمْ فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، إِلَى أَنَّ التَّثْوِيبَ سُنَّةٌ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ: لَيْسَ بِسُنَّةٍ، لِأَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ لَمْ يَحْكِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ دَخَلَ مَسْجِدًا فَسَمِعَ تَثْوِيبَ الْمُؤَذِّنِ، فَقَالَ: لِمَنْ مَعَهُ أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْبِدْعَةِ، وَاعْتِبَارًا بِهَذِهِ الصَّلَوَاتِ، وَمَذْهَبُهُ فِي الْقَدِيمِ أَصَحُّ، لِأَنَّ مِنْ قَوْلِهِ إِنَّ مَا ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَهُوَ أَوَّلُ رَاجِعٍ إِلَيْهِ وَآخِذٌ بِهِ، وَقَدْ ثَبَتَتِ الرِّوَايَةُ بِالتَّثْوِيبِ مِنْ جِهَاتٍ.
مِنْهَا رِوَايَةُ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ بِلَالٌ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُؤْذِنُهُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَقِيلَ هُوَ نَائِمٌ فَقَالَ الصلاة خير من النوم، وعاد يؤذن وزاد في أذانه الصلاة خير من النوم، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا الَّذِي زِدْتَ فِي أَذَانِكَ قَالَ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ ظَنَنْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ ثَقُلْتَ عَنِ الصَّلَاةِ قَالَ: " زِدْهَا فِي أَذَانِكَ ".
وَمِنْهَا رِوَايَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي مَحْذُورَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَلْقَى عَلَيْهِ الْأَذَانَ قَالَ: " تَقُولُ فِي الْفَجْرِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنَ النَّوْمِ ".

(2/55)


وَمِنْهَا رِوَايَةُ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: " أُمِرَ بِلَالٌ أَنْ يُثَوِّبَ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ وَلَا يُثَوِّبَ فِي غَيْرِهِ ".
وَمِنْهَا رِوَايَةُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ: " أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ أُثَوِّبَ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ وَنَهَانِي أَنْ أُثَوِّبَ فِي غَيْرِهِ " فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ سُنَّةُ التَّثْوِيبِ فِي أَذَانِ الصُّبْحِ، فَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَإِنَّمَا أَنْكَرَ التَّثْوِيبَ فِي أَذَانِ الظُّهْرِ وَذَاكَ بِدْعَةٌ، وَأَمَّا سَائِرُ الصَّلَوَاتِ فَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ التَّثْوِيبَ فِيهَا سُنَّةٌ كَالصُّبْحِ، وَهَذَا خَطَأٌ بِنَصِّ السُّنَّةِ الَّتِي رُوِّينَاهَا عَنْ سُوَيْدٍ، وَابْنِ أَبِي لَيْلَى، ثُمَّ طَرِيقُ الْمَعْنَى: أَنَّ الصُّبْحَ إِنَّمَا يُثَوَّبُ فِيهَا لِكَوْنِ النَّاسِ نِيَامًا عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا، وَالْأَذَانِ لَهَا وَسَائِرُ الصَّلَوَاتِ تَدْخُلُ أَوْقَاتُهَا وَالنَّاسُ مُسْتَيْقِظُونَ فَلَمْ يثوب لها.

(مسألة)
: قال الشَّافِعِيِّ: " وَأُحِبُّ أَنْ لَا يُجْعَلَ مُؤَذِّنُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا عَدْلًا ثِقَةً لِإِشْرَافِهِ عَلَى النَّاسِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا أَخْبَرَنَا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَدْلًا أَمِينًا لِرِوَايَةِ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، قَالَ: " الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ، وَالْمُؤَذِّنُونَ أُمَنَاءُ فَأَرْشِدِ اللَّهُ الأئمة واغفر للمؤذنين ".
وروى الحكم بن أبان عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يؤذن لكم خياركم، ويؤمكم أقرأكم ".
وَرَوَى صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يَا بَنِي خَطْمَةَ اجْعَلُوا مُؤَذِّنَكُمْ أَفْضَلَكُمْ "، وَلِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ فِي أَوْقَاتِ صَلَوَاتِهِمْ، وَرُبَّمَا أَشْرَفَ فِي صُعُودِ الْمَنَارَةِ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ فَإِذَا كَانَ أَمِينًا كَفَّ بَصَرَهُ وَصَدَقَ خَبَرُهُ.

(فَصْلٌ)
: وَيَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ بَصِيرًا عَارِفًا بِالْأَوْقَاتِ لِيَعْلَمَ دُخُولَ الْوَقْتِ فَيُؤَذِّنُ فِي أَوَّلِهِ فَيُدْرِكُ النَّاسُ فَضِيلَةَ التَّعْجِيلِ، فَإِذَا كَانَ ضَرِيرًا، أَوْ بَصِيرًا جَاهِلًا بِالْأَوْقَاتِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَتَفَرَّدَ بِالْأَذَانِ خَوْفًا مِنَ الْخَطَأِ فِي التَّقْدِيمِ، أَوِ الْفَوَاتِ بِالتَّأْخِيرِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ تَبَعًا لِبَصِيرٍ عَارِفٍ فَيُؤَذِّنُ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ فَيَجُوزُ، قَدْ كَانَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ضَرِيرًا يُؤَذِّنُ مَعَ بلال، فأما غير البالغ فمكروه الارتسام

(2/56)


بالأذان مُرَاهِقًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُرَاهِقٍ، فَإِنْ أَذَّنَ جَازَ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُؤَذِّنًا لِلرِّجَالِ، فَإِنْ أَذَّنَتْ لَمْ يُعْتَدَّ بِأَذَانِهَا وَقَالَ أبو حنيفة: يُعْتَدُّ بِأَذَانِ الْمَرْأَةِ، وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الرِّجَالِ بِهِ لَمْ يَصِحَّ الِاقْتِصَارُ عَلَى أَذَانِهِ كَالْكَافِرِ وَالْمَجْنُونِ.

(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَأُحِبُّ أَنْ لَا يُجْعَلَ مُؤَذِّنُ الْجَمَاعَةِ إِلَّا عَدْلًا ثِقَةً " فَفِيهِ ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ تَأْكِيدٌ لِأَنَّ الْعَدْلَ لَا يَكُونُ إِلَّا ثِقَةً، وَلَيْسَ التَّأْكِيدُ مُتَكَرِّرًا، كَمَا تَقُولُ صِدْقٌ وَبِرٌّ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَعْنَاهُ إِلَّا عَدْلًا إِنْ كَانَ حُرًّا ثِقَةً إِنْ كَانَ عَبْدًا، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يُوصَفُ بِالْعَدَالَةِ، وَإِنَّمَا يُوصَفُ بِالثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ أَرَادَ إِلَّا عَدْلًا - يَعْنِي - فِي دِينِهِ ثِقَةٌ - يَعْنِي - فِي عِلْمِهِ بِمَوَاقِيتِ الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ لِإِشْرَافِهِ عَلَى النَّاسِ فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: لِإِشْرَافِهِ عَلَى عَوْرَاتِ النَّاسِ عِنْدَ صُعُودِ الْمَنَارَةِ.
وَالثَّانِي: لِإِشْرَافِهِ عَلَى مَوَاقِيتِ الصَّلَوَاتِ، وَرُجُوعِ النَّاسِ إِلَى قَوْلِهِ فِيهَا وَقَدْ أَشَارَ إِلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ فِي الْقَدِيمِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَهُمَا جميعا.

(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ صَيِّتًا وَأَنْ يَكُونَ حَسَنَ الصَّوْتِ أَرَقَّ لِسَامِعِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُ صِيِّتًا لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " يُغْفَرُ لِلْمُؤَذِّنِ مَدَى صَوْتِهِ " وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ حَسَنَ الصَّوْتِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: " أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ "؛ وَلِأَنَّ حُسْنَ الصَّوْتِ أَوْقَعُ فِي النَّفْسِ وَأَدْعَى لِسَامِعِهِ إِلَى الْحُضُورِ.
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأُحِبُّ أَنْ يُؤَذِّنَ مُتَرَسِّلًا بَغَيْرِ تَمْطِيطٍ وَلَا يُغَنَّى فِيهِ وَأُحِبُّ الْإِقَامَةَ إِدْرَاجًا مُبِينًا وَكَيْفَ مَا جَاءَ بِهِمَا أَجْزَأَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ أَنْ يُؤَذِّنَ مُتَرسِّلًا وَيُقِيمَ إِدْرَاجًا مُبَيِّنًا لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبِلَالٍ إِذَا أَذَّنْتَ فَتَرَسَّلْ وَإِذَا أَقَمْتَ فَاحْذَرْ "، وَلِأَنَّ التَّرَسُّلَ فِي الْأَذَانِ أَبْلَغُ فِي إِعْلَامِ الْأَبَاعِدِ، وَالْإِدْرَاجَ أَعْجَلُ فِي اسْتِفْتَاحِ الْحَاضِرِ فَأَمَّا التَّرَسُّلُ فَهُوَ تَرْكُ الْعَجَلَةِ مَعَ

(2/57)


الْإِبَانَةِ، وَأَمَّا الْإِدْرَاجُ فَهُوَ طَيُّ الْكَلَامِ بِسُرْعَةٍ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ مِنْ غَيْرِ تَمْطِيطٍ وَلَا تغني فِيهِ فَفِي التَّمْطِيطِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْإِعْرَابُ الْفَاحِشُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَفْخِيمُ الْكَلَامِ وَالتَّشَادُقُ فِيهِ، وَيُكْرَهُ تَلْحِينُ الْأَذَانِ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِالتَّلْحِينِ عَنْ حَدِّ الْإِفْهَامِ، وَلِأَنَّ السَّلَفَ تَجَافُوهُ وَإِنَّمَا أَحْدَثَهُ الْعَجَمُ فِي بِلَادِهِمْ، وَلَوْ خَالَفَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ هَيْئَتِهِ أَجْزَأَهُ، لِأَنَّ مُخَالَفَةَ الْهَيْئَاتِ لَا تَقْتَضِي الْفَسَادَ كَمَنْ جَهَرَ فِي مَوْضِعِ الْإِسْرَارِ، أَوْ أَسَرَّ فِي مَوْضِعِ الْجَهْرِ.

(فَصْلٌ: الْأَذَانُ بالفارسية)
فَأَمَّا إِنْ أَذَّنَ بِالْفَارِسِيَّةِ فَإِنْ كَانَ أَذَانُهُ لِصَلَاةِ جَمَاعَةٍ لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ قَدْ يُحْسِنُ، وَإِنْ كَانَ أَذَانُهُ لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ لَمْ يُجْزِهِ، كَأَذْكَارِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ أَجْزَأَهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ.

(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلِّي بِهِمْ فَاضِلًا قَارِئًا عَالِمًا وَأَيُّ النَّاسِ أَذَّنَ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقَامَةَ تُوجِبُ الِاقْتِدَاءَ بِصَاحِبِهَا وَالِاتِّبَاعَ لِمَنِ انْتَدَبَ لَهَا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فَاضِلًا فِي دِينِهِ، وَأَمَانَتِهِ، عَالِمًا بِالصَّلَاةِ وَمَوَاقِيتِهَا وَأَحْكَامِهَا قَارِئًا لِمَا يَحْتَاجُ إِلَى قِرَاءَتِهِ [فِيهَا] فَإِنْ كَانَ حَافِظًا كَانَ أَوْلَى فَإِنْ جَمَعَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ كَانَ أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ وَالتَّقَدُّمِ لَهَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأَيُّ النَّاسِ أَذَّنَ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ " - يَعْنِي؛ إِذَا كَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ يُحْسِنُ الصَّلَاةَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَخَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله ".
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الْمُؤَذِّنُونَ اثْنَيْنِ لِأَنَّهُ الَذِي حَفِظْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بلال وابن أم مكتوم فإن كان المؤذنون أكثر أذنوا واحدا بعد واحد ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ مَنْ نَدَبَهُمُ الْإِمَامُ لِلْأَذَانِ وَرَتَّبَهُمْ فِيهِ عَلَى الدَّوَامِ، وَإِلَّا، فَلَوْ أَذَّنَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ كَافَّةً لَمْ يُمْنَعُوا وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنْ يَكُونَا اثْنَيْنِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ لَهُ مُؤَذِّنَانِ بِلَالٌ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ ثُمَّ لِأَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مُؤَذِّنَانِ سَعْدٌ الْقَرَظُ، وَآخَرُ وَإِنْ لَمْ يَكْتَفِ بِاثْنَيْنِ لِكَثْرَةِ النَّاسِ جَعَلَهُمْ أَرْبَعَةً، فَإِنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - جَعَلَهُمْ حِينَ اتَّسَعَتِ الْمَدِينَةُ أَرْبَعَةً، فَإِنْ لَمْ يَكْفِ جَعَلَهُمْ سِتَّةً فَإِنْ زَادَ فَثَمَانِيَةً لِيَكُونُوا شَفْعًا، وَلَا يَكُونُوا وِتْرًا، ثُمَّ يُؤَذِّنُونَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، رَوَتْ عَائِشَةُ قَالَتْ مَا كَانَ بَيْنَ أَذَانِ بِلَالٍ، وَابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ إِلَّا أَنْ يَنْزِلَ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا، وَلِأَنَّ الصَّوْتَ يَخْتَلِطُ بِاجْتِمَاعِهِمْ فَلَا يُفْهَمُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ كَبِيرًا

(2/58)


وَالْمَسْجِدُ وَاسِعًا. فَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي الْأَذَانِ دُفْعَةً وَاحِدَةً " كَالْبَصْرَةِ "، وَلِأَنَّ اجْتِمَاعَ أَصْوَاتِهِمْ أَبْلَغُ فِي الْإِعْلَامِ وَيَتَّفِقُوا فِي الْأَذَانِ إِذَا اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ كَلِمَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ اشْتِرَاكَهُمْ فِي كَلِمَةٍ مِنْهُ أَبْيَنُ وَإِذَا اخْتَلَفُوا فِيهِ اخْتَلَطَ، وَإِذَا أَذَّنُوا وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ أَذَّنُوا عَلَى الْوَلَاءِ، وَلَا يَتَأَخَّرُ أَحَدُهُمْ عَنِ الْآخَرِ بِكَثِيرٍ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ إِنْ كَانَ يَنْزِلُ هَذَا وَيَرْقَى هَذَا.

(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا مَا بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ فَإِنْ كَانَتِ الصَّلَاةُ مَغْرِبًا وَإِلَّا بَيْنَهُمَا، لأنه يَتَنَفَّلُ قَبْلَهَا، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ مَغْرِبٍ أَمْهَلَ قَدْرَ مَا يَتَأَهَّبُ النَّاسُ وَيَحْضُرُ الْإِمَامُ، وَيَتَنَفَّلُ بِالْقَدْرِ الْمَسْنُونِ ثُمَّ يَرْفَعُ بِالْإِقَامَةِ. رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلُّوا عِنْدَ كُلِّ أَذَانٍ رِكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمَغْرِبَ ".
وَيَخْتَارُ أَنْ يُقِيمَ لِلصَّلَاةِ مَنْ أَذَّنَ لَهَا لِرِوَايَةِ زِيَادِ بْنِ الْحَارِثِ الصُّدَائِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: إِنَّ أَخَا صُدَاءٍ أَذَّنَ وَإِنَمَا يُقِيمُ مَنْ أَذَّنَ، فَإِنْ أَقَامَ غَيْرُ مَنْ أَذَّنَ فَلَا بَأْسَ قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَلْقِهِ عَلَى بِلَالٍ فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ فَأَذَّنَ بِلَالٌ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ أَنَا رأيته؛ وأنا كنت أريده فقال أقم أَنْتَ ".
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا قِيَامُ النَّاسِ إِلَى الصَّلَاةِ عِنْدَ إِقَامَةِ الْمُؤَذِّنِ فَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ مِنْهُمْ شَيْخًا بَطِيءَ النَّهْضَةِ أَنْ يَقُومَ عِنْدَ قَوْلِهِ: قَدْ قَامَتِ الصَّلَاةُ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ شَابًّا سَرِيعَ النَّهْضَةِ أَنْ يَقُومَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْإِقَامَةِ، فَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْقَائِمِينَ لِيَسْتَوُوا فِي صُفُوفِهِمْ قِيَامًا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، فَلَوْ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ وَحَضَرَ قَوْمٌ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَذَّنَ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُصَلُّوا جَمَاعَةً بِأَذَانِهِ، رَوَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَذَانًا فَقَالَ: كَمَا قَالَ وَانْتَهَى إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ فَنَزَلَ وَقَالَ: انْزِلُوا وَصَلُّوا بِأَذَانِ هَذَا الْعَبْدِ الْأَسْوَدِ ".
وَهَذَا يَجُوزُ عَلَى جَوَازِ أَذَانِ الْعَبْدِ، وَهَكَذَا الْمُدْبِرُ، وَالْمُكَاتِبُ، وَمَنْ فِيهِ جُزْءٌ مِنَ الرِّقِّ.

(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَا يَرْزُقُهُمُ الْإِمَامُ وَهُوَ يَجِدُ مُتَطَوِّعًا فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُتَطَوِّعًا فَلَا بَأْسَ أَنْ يَرْزُقَ مُؤَذِّنًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا وَجَدَ الْإِمَامُ ثِقَةً يَتَطَوَّعُ بِالْأَذَانِ بَصِيرًا بِالْأَوْقَاتِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَهُ، وَلَا لِغَيْرِهِ أُجْرَةً لِرِوَايَةِ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنَّهُ قَالَ: يَا

(2/59)


رَسُولَ اللَّهِ اجْعَلْنِي إِمَامَ قَوْمِي فَقَالَ: " أَنْتَ إِمَامُهُمْ فَاقْتَدِ بِأَضْعَفِهِمْ وَاتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا ". وَلِأَنَّ مَا بِيَدِ الْإِمَامِ مُرْصَدٌ لِوُجُوهِ الْمَصَالِحِ الْمَاسَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مُتَطَوِّعًا بِالْأَذَانِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُعْطِيَ عَلَيْهِ رِزْقًا، وَمَنَعَ أبو حنيفة مِنْهُ، وَمِنْ سَائِرِ الْقُرَبِ أَنْ يُؤْخَذَ رِزْقٌ عَلَيْهَا، وَالْكَلَامُ مَعَهُ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ " الْحَجِّ " غَيْرَ أَنَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى حَسْبِ مَا يَقْتَضِيهِ ها هنا مَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رزق مؤذنه، وَلِأَنَّ مَا بِيَدِ الْإِمَامِ مَصْرُوفٌ فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ، وَهَذَا مِنْهَا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ الْمُؤَذِّنَ أُجْرَةً، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهُ رِزْقًا، لِأَنَّ أَعْمَالَ الْقُرَبِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ، قَسْمٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنِ الْغَيْرِ وَلَا يَعُودُ عَلَيْهِ نَفْعُهُ؛ كَالصَّلَاةِ، وَالصِّيَامِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَيْهَا أُجْرَةٌ، وَقِسْمٌ يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنِ الْغَيْرِ، كَالْحَجِّ فَيَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ، وَقِسْمٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُفْعَلَ عَنِ الْغَيْرِ لَكِنْ قَدْ يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الْغَيْرِ، كَالْأَذَانِ، [وَالْإِقَامَةِ] ، وَالْقَضَاءِ، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الرِّزْقِ عَلَيْهِ، كَالْجِهَادِ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -.

(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَا يَرْزُقُهُ إِلَّا مِنْ خُمْسِ الْخُمْسِ سَهْمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا يجوز أن يرزقه من الفيء ولا من الصدقات لأن لكل مالكا موصوفا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ رِزْقُ الْمُؤَذِّنِ وَالْإِمَامِ، وَالْقَاضِي يَكُونُ مِنْ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ، وَالْمَالُ الْمُعَدُّ لِلْمَصَالِحِ هُوَ خُمْسُ الْخُمْسِ مِنَ الْفَيْءِ وَالْمَغَانِمِ سَهْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّهُ مُرْصَدٌ لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ فَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْغَنِيمَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَوْا مِنْهَا، لِأَنَّهَا مَالُ الْغَانِمِينَ، وَأَمَّا أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ، فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لِلْجَيْشِ خَاصَّةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ فِي غَيْرِهِمْ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَجُوزُ أَنْ تُصْرَفَ فِي أَرْزَاقِ الْمُؤَذِّنِينَ، وَالْأَئِمَّةِ، وَالْقُضَاةِ، وَأَمَّا أَمْوَالُ الزَّكَاةِ، وَالْكَفَّارَاتِ فَذَلِكَ لِمُسْتَحِقِّيهَا مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَأَهْلِ السَّهْمِ الْمَذْكُورِينَ لَهَا لَا يَجُوزُ أن تصرف في غيرهم.
(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَأُحِبُّ الْأَذَانَ لِمَا جَاءَ فِيهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْأَئِمَّةُ ضُمَنَاءُ وَالْمُؤَذِّنُونَ أُمَنَاءُ فَأَرْشِدِ اللَّهُ الْأَئِمَّةَ وغفر للمؤذنين ".

(2/60)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْأَذَانُ فَالْقِيَامُ بِهِ فَضِيلَةٌ، وَفِي الِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ وَالتَّشَاغُلِ بِهِ قُرْبَةٌ عَظِيمَةٌ.
رَوَى سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي التَأْذِينِ لَتَنَافَسُوا فِيهِ}
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمُؤَذِّنُونَ أَطْوَلُ النَّاسِ أَعْنَاقًا يَوْمَ القيامة "
وفي ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ رَجَاءً وَأَمَلًا، وَمِنْ قَوْلِهِمْ عُنُقِي إِلَيْكَ مَمْدُودٌ
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ جَمْعًا، وَأَظْهَرُهُمْ حِزْبًا، مِنْ قَوْلِهِمْ رَأَيْتُ عُنُقًا مِنَ النَّاسِ أَيْ: جَمْعًا
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ أَكْثَرُ النَّاسِ إِسْرَاعًا إِلَى الْخَيْرِ، مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ يَسِيرُ الْعُنُقَ أَيْ: يُسْرِعُ فِي السَّيْرِ
وَرَوَى زِيَادٌ أَبُو مَعْشَرٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: " لَوْ كُنْتُ مُؤَذِّنًا مَا بَالَيْتُ أَلَّا أُجَاهِدَ، وَلَا أَحُجَّ، وَلَا أَعْتَمِرَ بَعْدَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ "
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه: " ما أتسامح على شئ إِلَّا أَنَّنِي كُنْتُ سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الأذان للحسن والحسين - والله أعلم - "

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ فَضْلُ الْأَذَانِ بِمَا ذَكَرْنَا، فَالْإِقَامَةُ فَضِيلَةٌ أَيْضًا وَالْقِيَامُ بِهَا سُنَّةٌ، رَوَى الْأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ اللَّهُمَّ فأرشد الأئمة وأغفر للمؤذنين "
فإذا قِيلَ: فَأَيُّمَا أَفْضَلُ الْأَذَانُ أَوِ الْإِقَامَةُ قُلْنَا للإنسان فِيهَا أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُمْكِنَهُ الْقِيَامُ بهما والفراغ لهما والجمع بينهما أولى لحوز شَرَفِ الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَثَوَابِ الْفَضِيلَتَيْنِ
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنِ الْإِمَامَةِ لِقِلَّةِ عِلْمِهِ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَضَعْفِ قِرَاءَتِهِ، وَيَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْأَذَانِ، لِعُلُوِّ صَوْتِهِ، وَمَعْرِفَتِهِ بِالْأَوْقَاتِ فَأَوْلَى بِمِثْلِ هَذَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْأَذَانِ، فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلْإِمَامَةِ
وَالْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ عَاجِزًا عَنِ الْأَذَانِ لِضَعْفِ قُوَّتِهِ وَقِلَّةِ إِبْلَاغِهِ وَيَكُونَ قَيِّمًا بِالْإِمَامَةِ، لِعِلْمِهِ بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَصِحَّةِ قِرَاءَتِهِ، فَالْأَفْضَلُ لِهَذَا أَنْ يَكُونَ إِمَامًا وَلَا يُنْتَدَبُ للأذان

(2/61)


وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَصْلُحَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا يَعْجِزَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَلَيْسَ يُمْكِنُهُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا أَيُّهُمَا أَفْضَلُ لَهُ أن ينقطع إليه وينفر بِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِمَامَةَ أَفْضَلُ مِنَ الْأَذَانِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَفَرَّدَ بِالْإِمَامَةِ دُونَ الْأَذَانِ، وَكَذَلِكَ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ وَهُوَ لَا يَنْفَرِدُ إِلَّا بِأَفْضَلِ الْأَمْرَيْنِ وَأَعْلَى الْمَنْزِلَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَظْهَرُ مَشَقَّةً، وَبِهِ قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَذَانَ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْإِمَامُ ضَامِنٌ، وَالْمُؤَذِّنُ مُؤْتَمَنٌ اللَّهُمَّ فَأَرْشِدِ الْأَئِمَّةَ وَاغْفِرْ لِلْمُؤَذِّنِينَ " فَدَلَّ هَذَا الْخَبَرُ عَلَى فَضْلِ الْأَذَانِ عَلَى الْإِمَامَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنْزِلَةَ الْأَمَانَةِ أَعْلَى مِنْ مَنْزِلَةِ الضَّمَانِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ دُعَاءٌ لِلْإِمَامِ بِالرُّشْدِ، وَذَلِكَ لِخَوْفِهِ مِنْ زيغه، وَدَعَا لِلْمُؤَذِّنِ بِالْمَغْفِرَةِ وَذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِسَلَامَةِ حَالِهِ، وَأَمَّا تَرْكُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْأَذَانَ بِالْإِمَامَةِ فَفِيهَا أَجْوِبَةٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّ فِي الأذان الشهادة برسالته واعترف غَيْرِهِ بِذَلِكَ أَوْلَى
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ أَذَّنَ لَكَانَ لَا يَحْتَاجُ أَنْ يَقُولَ وَأَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَتْبَعَهُ الْمُؤَذِّنُونَ فِيهِ
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ مُتَشَاغِلًا بِالرِّسَالَةِ، وَالْقِيَامِ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْفَرَاغِ لِلْأَذَانِ وَالِانْقِطَاعِ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " لَوْلَا الخلافة لأذنت "

(مسألة)
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: (وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا إِلَّا أَنْ يَشْتَدَّ الْحَرُّ فَيُبْرِدَ بِهَا في مساجد الجماعات لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة " وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله " وأقل ما للمصلي في أول وقتها أن يكون عليها محافظاً ومن المخاطرة بالنسيان والشغل والآفات خارجاً
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعْجِيلُ الصَّلَاةِ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ تَأْخِيرِهَا عَلَى مَا سَنُفَصِّلُهُ
وَقَالَ أبو حنيفة: تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ إِلَّا الْمَغْرِبَ اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَصْبِحُوا بِالصُّبْحِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِأُجُورِكُمْ "

(2/62)


وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لِبِلَالٍ أَنْوِرْ بِالْفَجْرِ حَتَّى تَرَى مَوَاقِعَ النَّبْلِ "
وَلِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ "
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] ، وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا: هِيَ الْمُبَادَرَةُ بِفِعْلِهَا لِأَوَّلِ وَقْتِهَا لِيَأْمَنَ ضَيَاعَهَا، أَوْ عَارِضًا يَقْطَعُ عَنْ أَدَائِهَا، وَرَوَتْ أُمُّ فَرْوَةَ قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ قَالَ: " الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا ". وَرَوَى جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَآخِرُ الْوَقْتِ عفو الله "

(مسألة)
: قال الشافعي: " ورضوان الله إنما يَكُونُ لِلْمُحْسِنِينَ وَالْعَفْوُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُقَصِّرِينَ والله أعلم "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَرَوَى أَبُو مَحْذُورَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَأَوْسَطُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ وَآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ "
وَرَوَى سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ وَقْتِ صَلَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: كَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ بِالْهَاجِرَةِ، وَالْعَصْرَ وَالشَّمْسُ حَيَّةٌ، وَالْمَغْرِبَ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَالْعِشَاءَ إِذَا كَثُرَ النَّاسُ عَجَّلَ وَإِذَا قَلُّوا أَخَّرَ والصُبْحَ بِغَلَسٍ
وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ مُدَاوَمَةِ فِعْلِهِ وَهَذِهِ أَوَّلُ الْأَوْقَاتِ، وَلِأَنَّهُ إِذَا عَجَّلَهَا فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِهَا أَمِنَ مِنْ فَوَاتِهَا وَنِسْيَانِهَا
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَسْتَنْسِئُوا الشَّيْطَانَ " يُرِيدُ أَنَّكَ إِذَا قَدَرْتَ عَلَى عَمَلِ الْخَيْرِ فَلَا تُؤَخِّرْهُ، مأخوذ من نشأت الشَّيْءَ إِذَا أَخَّرْتُهُ
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: " أَصْبِحُوا بِالصُّبْحِ " فَمِنْ وَجْهَيْنِ:

(2/63)


أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصُّبْحَ صُبْحَانِ صُبْحُ الْفَجْرِ وَالثَّانِي صبح النهار. فأراد به الصبح الأول، لأن لا تُقَدَّمَ الصَّلَاةُ مَعَ الشَّكِّ فِيهِ أَلَا تَرَى إِلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى شَاكًّا فِي الْفَجْرِ ثُمَّ أَعَادَهُ
وَالثَّانِي: أَنَّ الْإِصْبَاحَ بِهَا إِنَّمَا هُوَ اسْتِدَامَتُهَا بَعْدَ تَقَدُّمِ الدُّخُولِ فِيهَا لِيُطَوِّلَ الْقِرَاءَةَ فِيهَا فَيُدْرِكَهَا الْمُتَأَخِّرُ عَنْهَا
وَأَمَّا قَوْلُهُ لِبِلَالٍ: " نَوِّرْ بِالْفَجْرِ حَتَّى تَرَى مَوَاقِعَ النَّبْلِ " فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ الْفَجْرَ الثَّانِيَ، لِأَنَّ لَهُ نُورًا فَرُبَّمَا رَأَى النَّاسُ مَعَهُ مَوَاقِعَ النَّبْلِ، أَوْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ دُفْعَةً حِينَ أَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَ لِلسَّائِلِ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ أَوَّلَ الْوَقْتِ، وَآخِرَهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ " لَا يَزَالُ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ " فَإِنَّمَا عَنَى مَنْ أَدَّى صَلَاةَ وَقْتِهِ وَجَلَسَ لِانْتِظَارِ الْأُخْرَى

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَفْضَلَ تَعْجِيلُ الصَّلَوَاتِ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى حَالِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ فَنَقُولُ أَمَّا الصُّبْحُ فَيُعَجِّلُهَا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، وَهُوَ أَفْضَلُ لِرِوَايَةِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " إِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَيُصَلِّي الصُّبْحَ فَيَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مَتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنَ الْغَلَسِ "
(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الظُّهْرُ فَقَدْ رَوَى [الشَّافِعِيُّ عَنْ] سُفْيَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيحِ جَهَنَّمَ قَالَ: وَاشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَتْ رَبِّي أَكَلَ بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين نفساً في الشتاء، ونفساً فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ الْحَرَّ فَمِنْ حَرِّهَا، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ الْبَرْدَ فَمِنْ زَمْهَرِيرِهَا "، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْلِهِ إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَارِدٌ في بلاد (تهامة) و (الحجاز) و (كمكة) وَ (الْمَدِينَةِ) وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْبِلَادِ فَلَا؛ لِاخْتِصَاصِ تِهَامَةَ بِشِدَّةِ الْحَرِّ
وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ وَارِدٌ فِي كُلِّ الْبِلَادِ إِذَا كَانَ الحر بها شديداً ن وَإِذَا كَانَ هَذَا ثَابِتًا فَتَأْخِيرُهَا أَفْضَلُ بِشَرْطَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْحَرُّ شَدِيدًا.
وَالثَّانِي: أَنْ تُقَامَ فِي جَمَاعَةٍ يَحْضُرُهَا الْأَبَاعِدُ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ الْحَرُّ يَسِيرًا، وَالْبَلَدُ بَارِدًا، أَوْ كَانَ يُصَلِّيهَا مُنْفَرِدًا، أَوْ فِي جَمَاعَةٍ حَاضِرَةٍ لَا يَأْتِيهَا الْأَبَاعِدُ كَانَ تَعْجِيلُهَا أَفْضَلَ، فَأَمَّا صَلَاةُ الْجُمْعَةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ الْأَفْضَلُ تَأْخِيرُهَا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:

(2/64)


أَحَدُهُمَا: أَنَّ تَأْخِيرَهَا أَفْضَلُ كَالظُّهْرِ
وَالثَّانِي: أَنَّ تَقْدِيمَهَا أَفْضَلُ فِي الْحَرِّ وَغَيْرِهِ، لِأَنَّ النَّاسَ مَنْدُوبُونَ إِلَى تَقْدِيمِ الْبُكُورِ إِلَيْهَا فَكَانَ تَعْجِيلُهَا أَرْفَقَ بِالْمُنْتَظِرِينَ لَهَا لِيَعُودُوا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا إِلَى مَنَازِلِهِمْ لِيُقِيلُوا أَوْ يَسْتَرِيحُوا، ثُمَّ إِذَا قُلْنَا: بِتَأْخِيرِ الظُّهْرِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَخِّرَهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَلَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَوْفَى بِهَا آخِرَ وَقْتِهَا، بَلْ يَتَأَخَّى بِهَا أَنْ تُقَامَ وَفِي الْوَقْتِ بَقِيَّةٌ بَعْدَ فراغه منها

(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا الْعَصْرُ فَتَعْجِيلُهَا أَفْضَلُ فِي الْحَرِّ وَغَيْرِهِ
رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ فَضَالَةَ الزَّهْرَانِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " حَافِظْ عَلَى الْعَصْرَيْنِ، وَمَا كَانَتْ مِنْ لُغَتِنَا فَقُلْتُ: وَمَا الْعَصْرَانِ؟ قَالَ: صَلَاةٌ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٌ قَبْلَ غُرُوبِهَا ". وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدَةَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: " حَبَسُونَا عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى صَلَاةِ الْعَصْرِ مَلَأَ اللَّهُ بُيُوتَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَارًا "
وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَتَعْجِيلُهَا أَوْلَى
رَوَى الْحَارِثُ بْنُ شِبْلٍ عَنْ أُمِّ النُّعْمَانِ الْكِنْدِيَّةِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تَزَالُ أُمَّتِي عَلَى سُنَّتِي مَا بَكَّرُوا بِصَلَاةِ الْمَغْرِبِ "
وَأَمَّا عِشَاءُ الْآخِرَةِ فَفِيهَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَالَ فِي الْإِمْلَاءِ: " إِنَّ تَعْجِيلَهَا لِأَوَّلِ وَقْتِهَا أَفْضَلُ لَهُ لِرِوَايَةِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي عِشَاءَ الْآخِرَةِ لِسُقُوطِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ ثَلَاثٍ "، وَاعْتِبَارًا بِسَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ: إِنَّ تَأْخِيرَهَا أَفْضَلُ لِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَاتَ لَيْلَةٍ الْعِشَاءَ فَخَرَجَ عُمَرُ فَنَادَى الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ رَقَدَ النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَهُوَ يَمْسَحُ الْمَاءَ عَنْ شِقِّهِ وَهُوَ يَقُولُ إِنَّهُ لَلْوَقْتُ لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي "
وَرَوَى أَبُو نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: " أَخَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْعِشَاءَ ذَاتَ لَيْلَةٍ حَتَّى إِلَى نَحْوٍ مِنْ شَطْرِ اللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى، فَلَمَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ: خُذُوا مَقَاعِدَكُمْ فَأَخَذْنَا مَقَاعِدَنَا فَقَالَ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ صَلَّوْا، وَأَخَذُوا مَضَاجِعَهُمْ وَإِنَّكُمْ لَا تَزَالُونَ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتُمُ الصَّلَاةَ، وَلَوْلَا ضَعْفُ الضَّعِيفِ، وَسُقْمُ السَّقِيمِ، وَحَاجَةُ ذِي الْحَاجَةِ لَأَخَّرْتُ هَذِهِ الصَّلَاةَ إِلَى هَذِهِ الساعة "

(2/65)


وروى [عاصم بن] حميد السكوني عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَعْتِمُوا بِهَذِهِ الصَّلَاةِ فَإِنَّكُمْ قَدْ فُضِّلْتُمْ بِهَا عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ وَلَمْ تُصَلِّهَا أُمَّةٌ قَبْلَكُمْ "
وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَمْتَنِعُ مِنْ تَخْرِيجِ الْفَضِيلَةِ فِيهَا عَلَى قَوْلَيْنِ وَيَحْمِلُ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ اعْتِبَارًا بِأَحْوَالِ النَّاسِ، فَمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الصَّبْرَ عَلَى تَأْخِيرِهَا، وَإِنَّ النَّوْمَ لَا يَغْلِبُهُ حَتَّى يَنَامَ عَنْهَا كَانَ تَأْخِيرُهَا أَفْضَلَ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَثِقْ بِنَفْسِهِ عَلَى الصَّبْرِ لَهَا وَلَمْ يَأْمَنْ سِنَةَ النَّوْمِ عَلَيْهِ حَتَّى يَنَامَ عَنْهَا كَانَ تَعْجِيلُهَا أَفْضَلَ لَهُ، وَيَجْعَلُ الْأَخْبَارَ الْمُتَعَارِضَةَ مَحْمُولَةً عَلَى هَذَا التَّحْرِيمِ لِيَصِحَّ اسْتِعْمَالُ جَمِيعِهَا

(فَصْلٌ)
: وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: (فَالْعَفْوُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُقَصِّرِينَ) فَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مُؤَخِّرَ الصَّلَاةِ إِلَى آخِرِ وَقْتِهَا مُقَصِّرٌ، وَلَيْسَ هَذَا مَحْمُولًا عَلَى ظَاهِرِهِ، وَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُقَصِّرٌ عَنْ ثَوَابِ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُقَصِّرًا فِي الْفِعْلِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُقَصِّرٌ لَوْلَا عَفْوُ اللَّهِ فِي إِبَاحَةِ التَّأْخِيرِ، - وَاللَّهُ أعلم -

(2/66)