الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

 (باب صلاة التطوع وقيام شهر رمضان)
قال الشافعي رضي الله عنه: " الْفَرْضُ خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَعْرَابِيِّ حِينَ قَالَ هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَتَضَمَّنُ هَذَا الْفَصْلُ الْخِلَافَ فِي صَلَاةِ الْوِتْرِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا سُنَّةٌ، وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ كَافَّةً
وَقَالَ أبو حنيفة: الْوِتْرُ وَاجِبٌ
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَلَمْ يَذْهَبْ إِلَى هَذَا غَيْرُ أبي حنيفة
وَاسْتَدَلَّ مَنْ نَصَرَ قَوْلَهُ بِرِوَايَةِ خَارِجَةَ بْنِ حُذَافَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَكُمْ بِصَلَاةٍ هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ وَهِيَ الْوِتْرُ جَعَلَهَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ "
وَبِرِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ زَادَكُمْ صَلَاةً هِيَ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ أَلَا وَهِيَ الْوِتْرُ حَافِظُوا عَلَيْهَا "
قَالُوا: وَفِيهِ دَلِيلَانِ:
أحدهما: إخباره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالْوَارِدُ مِنْ جِهَتِهِ وَاجِبٌ
وَالثَّانِي: أَنَّ الزِّيَادَةَ تُضَافُ إِلَى شَيْءٍ مَحْصُورٍ، وَالنَّوَافِلَ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ فَدَلَّ أَنَّهَا مُضَافَةٌ إِلَى الْفَرَائِضِ الْمَحْصُورَةِ

(2/278)


وَبِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوِتْرُ حَقٌّ فَمَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا، مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا "
قَالُوا: فَنَفَى تَارِكَ الْوِتْرِ عَنِ الْمِلَّةِ فَدَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ لِيَسْتَحِقَّ هَذِهِ الصِّفَةَ بِتَرْكِهِ
وَبِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ "
وَهَذَا أَمْرٌ
وَبِرِوَايَةِ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " وَلَفْظُهُ على لفضه وجوب
وبرواية فِي بَعْضِ الْأَخْبَارِ: " الْوِتْرُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " وَلِأَنَّهَا صَلَاةُ وِتْرٍ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً كَالْمَغْرِبِ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ قَوْله تَعَالَى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] ، فَلَوْ كَانَتِ الْوِتْرُ وَاجِبَةً لَكَانَتْ سِتًّا، وَالسِّتُّ لَا تَصِحُّ أَنْ يَكُونَ لَهَا وُسْطَى فَعُلِمَ أَنَّهَا خَمْسٌ وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ: " مَا الْإِسْلَامُ قَالَ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، قَالَ: فَهَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ " فَكَانَ فِي هَذَا الْخَبَرِ ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنِ الْفَرْضِ الَّذِي عَلَيْهِ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ "، وَلَمْ يَقُلْ سِتٌّ
وَالثَّانِي: قَوْلُهُ: " هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا " فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا " فَنَفَى عَنْهُ وُجُوبَ غَيْرِهَا، ثُمَّ أَكَّدَ النفي بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ "
وَالثَّالِثُ: قَوْلُ الْأَعْرَابِيِّ " وَاللَّهِ لَا أَزِيدُ عَلَيْهَا، وَلَا أَنْقُصُ مِنْهَا " فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ "، فَلَوْ كَانَ الْوِتْرُ وَاجِبًا لَمْ يَكُنْ بِتَرْكِهِ مُفْلِحًا

(2/279)


وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ فَأَوْتِرُوا يَا أَهْلَ الْقُرْآنِ، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ هَلْ تَجِبُ عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ وَلَا لِقَوْمِكَ "، فَلَوْ كَانَ الْوِتْرُ وَاجِبًا لَعَمَّ وُجُوبُهُ جَمِيعَ النَّاسِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَيْرِيزٍ أَنَّ الْمُخْدِجِيَّ سَمِعَ رَجُلًا بِالشَّامِ يُدْعَى بِأَبِي مُحَمَّدٍ يَقُولُ إِنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ قَالَ الْمُخْدِجِيُّ: فَوَجَدْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ فَقُلْتُ: إِنَّ أَبَا مُحَمَّدٍ الْأَنْصَارِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ فَقَالَ: كَذَبَ أَبُوِ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: " خَمْسٌ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ عَلَى عِبَادِهِ فَمَنْ أَتَى بِهِنَّ، وَلَمْ يُضَيِّعْ مِنْهُنَّ شَيْئًا اسْتِخْفَافًا بِهِنَّ كَانَتْ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدٌ أَنْ يُدْخِلَهُ الْجَنَّةَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدٌ فَإِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ " وَرَوَى الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ حَدِيثَ الْمِعْرَاجِ قَالَ لَمَّا عَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فُرِضَ عَلَى أُمَّتِهِ خَمْسُونَ صَلَاةً فَقَالَ لَهُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سَلْ رَبَّكَ التَّخْفِيفَ لِأُمَّتِكَ قَالَ: فَتَرَدَّدْتُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى رَدَّهَا إِلَى خَمْسٍ وَسَمِعْتُ مُنَادِيًا يُنَادِي إِلَّا أَنِّي قَدْ مَضَيْتُ فَرِيضَتِي وَخَفَّفْتُ عَنْ عِبَادِي وَجَعَلْتُ لَهُمْ بِكُلِّ حَسَنَةٍ أَمْثَالَهَا: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29]
ورَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " كُتِبَ عَلَيَّ الْوِتْرُ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، وَكُتِبَتْ عَلَيَّ الْأُضْحِيَةُ، وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ " وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَمْ يُسَنَّ لَهَا الْأَذَانُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ وَاجِبَةً عَلَى الْكَافَّةِ ابْتِدَاءً بِأَصْلِ الشرع قياساً عَلَى سَائِرِ النَّوَافِلِ، وَلِأَنَّ الصَّلَوَاتِ ضَرْبَانِ فَرْضٌ، وَنَفْلٌ، فَلَمَّا كَانَ فِي جِنْسِ الْفَرْضِ وِتْرٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي جِنْسِ النَّفْلِ وِتْرٌ كَالْفَرَائِضِ
وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الصَّلَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي جِنْسِهِ وِتْرٌ كَالْفَرَائِضِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مِنْ سُنَنِهَا أَنْ تَكُونَ تَبَعًا لِغَيْرِهَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ نَفْلًا قِيَاسًا عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَا يَكْفُرُ جَاحِدُهَا وَلَا يَفْسُقُ تَارِكُهَا، وَلَا يُقْتَلُ مَنْ تَوَانَى عَنْهَا فَكَانَتْ بِالنَّوَافِلِ أَشْبَهَ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِيمَا ذَكَرْنَا
فَأَمَّا الِاحْتِجَاجُ عَنْ جَوَابِهِمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَكُمْ " فَهُوَ أَنْ يُقَالَ لَا حُجَّةَ لَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَنَا بِصَلَاةِ النَّفْلِ كَمَا أَمَرَنَا بِالْوَاجِبِ

(2/280)


وأما قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " زَادَكُمْ " فَهُوَ دَلِيلُنَا، لِأَنَّهُ زَادَ لَنَا لَا عَلَيْنَا، وَقَوْلُهُمُ الزِّيَادَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى مَحْصُورٍ فَيُقَالُ لَهُمُ النَّوَافِلُ ضَرْبَانِ: مُؤَكَّدَةٌ، وَغَيْرُ مُؤَكَّدَةٍ، فَالْمُؤَكَّدَةُ مَحْصُورَةُ الْقَدْرِ، كَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، وَالنَّوَافِلِ الْمُوَظَّفَاتِ قَبْلَ الصَّلَوَاتِ وَبَعْدَهَا عَلَى أَنَّ مِنْ أَصِلِهِمْ أَنَّهَا غَيْرُ مَزِيدَةٍ عَلَى شَيْءٍ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ عِنْدَهُمْ فَرْضًا تُزَادُ عَلَى الْوَظَائِفِ، وَلَا نَفْلًا تُزَادُ عَلَى النَّوَافِلِ فَسَقَطَ مِنْ حَيْثُ أَوْرَدُوهُ
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ بُرَيْدَةَ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ لَمْ يُوتِرْ فَلَيْسَ مِنَّا " فَمَتْرُوكُ الظَّاهِرِ بِإِجْمَاعٍ؛ لِأَنَّ تَارِكَ الْوِتْرِ لَا يَكُونُ كَافِرًا خَارِجًا عَنِ الْمِلَّةِ فَاحْتَجْنَا وَإِيَّاهُمْ إِلَى تَأْوِيلٍ يُحْمَلُ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَنَحْنُ أَقْدَرُ عَلَى تَأْوِيلِهِ مِنْهُمْ، فَنَقُولُ: مَعْنَاهُ مَنْ لَمْ يُوتِرْ مُعْتَقِدًا أَنَّهَا غَيْرُ سُنَّةٍ، فَلَيْسَ مِنَّا عَلَى أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ قَدْ تُسْتَعْمَلُ فِي تَرْكِ الْمَنْدُوبِ إِلَيْهِ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيُوَقِّرْ كَبِيرَنَا فَلَيْسَ مِنَّا " وَتَوْقِيرُ الْكَبِيرِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ " فَلَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى فعله واستحبابه
والثاني: أن في تخصيص أَهْلِ الْقُرْآنِ بِهِ
وَقَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلْأَعْرَابِيِّ: " إِنَّهَا لَيْسَتْ لَكَ، وَلَا لِقَوْمِكَ " دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ سُنَّةً وَنَدْبًا
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ فَقَدْ رُوِّينَا عَنْهُ فِي الْخَبَرِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوِتْرُ حَقٌّ مَسْنُونٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ " فَسَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَغْرِبِ، فَالْمَعْنَى فِيهِ: أَنَّهَا صَلَاةٌ سُنَّ لَهَا أَذَانٌ وإقامة، ثم يقال لأبي حنيفة: ما تعم الْبَلْوَى بِهِ لَا يَثْبُتُ عَلَى أَصْلِكَ بِالْقِيَاسِ، وَلَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَيْسَ مَعَكَ فِيهِ تَوَاتُرٌ فَلِمَ أَثْبَتَّ وُجُوبَهُ، وَفِيهِ مُخَالَفَةُ أَصْلِكَ فَإِنْ ذَكَرَ جَوَابًا كَانَ تَوْقِيفًا وَاعْتِذَارًا تَفْصَحُهُ السِّيَرُ - والله أعلم -

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَصَلَاةُ التَّطَوُّعِ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: صَلَاةُ جَمَاعَةٍ مُؤَكَّدَةٍ، لَا أُجِيزُ تَرْكَهَا لِمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا، وَهِيَ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ، وَكُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَصَلَاةُ مُنْفَرِدَةٍ وَبَعْضُهَا أَوْكَدُ مِنْ بَعْضٍ، فَأَوْكَدُ ذَلِكَ الْوِتْرُ وَيُشَبِهُ أَنْ يَكُونَ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ، ثُمَّ ركعنا الْفَجْرِ، وَلَا أُرَخِّصُ لِمُسْلِمٍ فِي تَرْكِ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ لَمْ أُوجِبْهُمَا، وَمَنْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا أَسْوَأُ حَالًا مِنْ تَرْكِ جَمِيعِ النَّوَافِلِ "

(2/281)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالصَّلَاةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
فَرْضٌ
وَتَطَوُّعٌ
فَالْفَرْضُ: خَمْسٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ مَنْ جَحَدَهُنَّ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ تَرَكَهُنَّ غَيْرَ جَاحِدٍ فَقَدْ فَسَقَ فَأَمَّا التَّطَوُّعُ فَضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا سُنَّ فِعْلُهُ فِي جَمَاعَةٍ، وَهُوَ خَمْسُ صلوات العيدان، والخسوفان، الاستسقاء
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا سُنَّ فِعْلُهُ مُفْرَدًا، وَهُوَ الْوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَصَلَاةُ الضُّحَى، وَالسُّنَنُ الْمُوَظَّفَاتُ مَعَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ
فَأَمَّا مَا سُنَّ فِي جَمَاعَةٍ فَهُوَ آكَدُ، وَأَفْضَلُ مِمَّا سُنَّ مُنْفَرِدًا لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا أَشْبَهُ بِالْفَرَائِضِ، لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجَمَاعَةِ
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الْفَرَائِضُ ضَرْبَيْنِ، ضَرْبٌ فُرِضَ فِي جَمَاعَةٍ، وَهُوَ الْجُمُعَةُ، وَضَرْبٌ لَمْ يُفْرَضْ فِي جَمَاعَةٍ
وَالسُّنَّةُ ضَرْبَانِ
ضَرْبٌ فِي جَمَاعَةٍ
وَضَرْبٌ لَمْ يُسَنَّ فِي جَمَاعَةٍ، ثُمَّ وَجَدْنَا مَا سُنَّ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَفْرُوضِ أَوْكَدَ وَأَفْضَلَ، وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا سُنَّ فِي الْجَمَاعَةِ مِنَ الْمَسْنُونِ أَوْكَدَ وَأَفْضَلَ
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ الَّتِي سُنَّ لَهَا الْجُمُعَةُ أَدَاؤُهَا جَمَاعَةً أَفْضَلَ مِنْ أَدَائِهَا فُرَادَى وَجَبَ أَنْ تَكُونَ النَّوَافِلُ الَّتِي سُنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ أَفْضَلَ مِنَ النَّوَافِلِ الَّتِي لَمْ تُسَنَّ فِي جَمَاعَةٍ
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَسْنُونَ فِي جَمَاعَةٍ أَفْضَلُ وَآكَدُ فَفِيهَا لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لِقُوَّةِ سَبَبِهَا، وَظُهُورِ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ بِهَا، فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَسْتَوِي حُكْمُ جَمِيعِهَا فِي الْفَضْلِ وَلَيْسَ بَعْضُهَا أَوْكَدَ مِنْ بَعْضٍ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ " فَجَعَلَ مَا سِوَى الْخَمْسِ تَطَوُّعًا، فَعَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ وَهُوَ الصَّحِيحُ فِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ جَمِيعَهَا فِي الْفَضْلِ سَوَاءٌ، وَلَيْسَ بَعْضُهَا أَوَكْدَ مِنْ بَعْضٍ لِاسْتِوَاءِ أمره - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِعْلِهِ لَهَا وَحَمْلِهِ عَلَيْهَا
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَظْهَرُ أَنَّ بَعْضَهَا أَوْكَدُ مِنْ بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَا سُنَّ فِعْلُهُ مُفْرَدًا بَعْضُهُ أَوْكَدُ مِنْ بَعْضٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا سُنَّ فِي الْجَمَاعَةِ بَعْضُهُ أَوْكَدُ مِنْ بَعْضٍ، فعلى هذا

(2/282)


أَوْكَدُ ذَلِكَ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّ لَهَا وَقْتًا رَاتِبًا فِي السَّنَةِ مُعَيَّنًا فِي الْيَوْمِ فَشَابَهَتِ الْفَرَائِضَ، ثُمَّ يَلِيهَا فِي التَّأْكِيدِ صَلَاةُ كُسُوفِ الشَّمْسِ، ثُمَّ خُسُوفِ الْقَمَرِ لِوُرُودِ الْقُرْآنِ بِهِمَا، ثُمَّ يَلِي ذَلِكَ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ

(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا النَّوَافِلُ الَّتِي سُنَّ فِعْلُهَا مُنْفَرِدًا، فَأَوْكَدُهَا صَلَاتَانِ الْوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَفِي أَوْكَدِهِمَا قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ رَكْعَتَا الْفَجْرِ أَوْكَدُ مِنَ الْوِتْرِ
وَالثَّانِي: هُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ الْوِتْرُ أَوْكَدُ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ
وَوَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَوْكَدُ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا " فَكَانَ ظَاهِرًا يَقْتَضِي تَفْضِيلَهَا عَلَى جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ، لَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْفَرَائِضَ أَفْضَلُ
وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ حَثَّ عَلَيْهَا وَأَمَرَ بِفِعْلِهَا
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَتْرُكُوهَا وَلَوْ دَهَمْتُمُ الْخَيْلَ "
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ حِينَ نَامَ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ بِالْوَادِي خَرَجَ مِنْهُ فَابْتَدَأَ بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ وَقَدَّمَهَا عَلَى صَلَاةِ الْفَرْضِ. فَدَلَّ عَلَى تَأْكِيدِهَا، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ أَوْتَرَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَلَمْ يُصَلِّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ إِلَّا عَلَى الْأَرْضِ، وَجَعَلَهَا فِي حَيِّزِ الْفَرْضِ فَدَلَّ عَلَى تَفْضِيلِهَا؛ وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ مَحْصُورَةٌ بالعدد لا يزاد عليها ولا ينقض مِنْهَا فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَوْكَدَ مِنَ الْوِتْرِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا عَدَدٌ مَحْصُورٌ، وَكَانَتْ أَوْكَدَ مِنَ النَّوَافِلِ الَّتِي لَهَا عَدَدٌ مَحْصُورٌ، وَلِأَنَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ تَتْبَعُ الصُّبْحَ، وَالْوِتْرَ يَتْبَعُ الْعِشَاءَ، وَالصُّبْحُ أَوْكَدُ مِنَ الْعِشَاءِ لِأَنَّهَا صَلَاةُ الْوُسْطَى عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَتْبُوعُهَا أَوْكَدَ مِنْ مَتْبُوعِ الْعِشَاءِ
وَوَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّ الْوِتْرَ أَوْكَدُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ أبو حنيفة عَلَى وُجُوبِهَا مِنَ الْأَخْبَارِ الْمُقَدَّمَةِ فِي صَدْرِ الْبَابِ، وَلِأَنَّ الْوِتْرَ مَشْرُوعَةٌ بِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْكَدُ مِنْ فِعْلِهِ، وَلِأَنَّ الْوِتْرَ مُخْتَلَفٌ فِي وُجُوبِهَا وَرَكْعَتِي الْفَجْرِ مُجْمَعٌ

(2/283)


عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا اخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهِ أَوْكَدَ فَمَنْ قَالَ بالقول الأول

(2/284)


انْفَصَلَ عَنِ الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ الْوِتْرَ مَشْرُوعَةٌ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ فِعْلِهِ، فَإِنْ قَالَ:

(2/285)


فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَاسْتَوَيَا عَلَى أَنَّا قَدْ رَوَيْنَا فِيهِ قَوْلًا فلم يَكُنْ لِهَذَا الِاسْتِدْلَالِ وَجْهٌ، وَانْفَصَلَ عَنِ التَّرْجِيحِ بِالِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِهَا، فَإِنْ قَالَ: قَدْ قَامَتِ الدَّلَالَةُ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ فَلَمْ يَصِحَّ التَّرْجِيحُ عَلَيْنَا بِمَذْهَبِ غَيْرِنَا

(فَصْلٌ)
: فَإِذَا أَوْضَحَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَوَجُّهِ الْقَوْلَيْنِ، فَصَلَاةُ الْوِتْرِ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ أَوْكَدُ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ " وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ " فَلِأَصْحَابِنَا فِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَلَاةَ التَّهَجُّدِ هِيَ الْوِتْرُ نَفْسُهَا، وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ الشَّافِعِيُّ فِي " الْأُمِّ " وَقَالَ الْمُزَنِيُّ فِي " جَامِعِهِ الْكَبِيرِ " وَأَوْكَدُ ذَلِكَ الْوِتْرُ، وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ هِيَ صَلَاةَ التَّهَجُّدِ
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّ صَلَاةَ التَّهَجُّدِ غَيْرُ الْوِتْرِ وَهِيَ صَلَاةٌ يُصَلِّيهَا الْإِنْسَانُ فِي اللَّيْلِ وِرْدًا لَهُ
وَأَصْلُ التَّهَجُّدِ فِي اللِّسَانِ مِنَ الْأَضْدَادِ يُقَالُ: تَهَجَّدْتُ إِذَا نِمْتَ قَالَ لَبِيدٌ:
(قَدْ هَجَدْنَا فَقَدْ طَالَ السُّرَى ... وَقَدَرْنَا إِنْ خَنَا الدَّهْرُ غَفَلْ)

وَيُقَالُ: تَهَجَّدْتُ إِذَا سَهِرْتَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] فَالتَّهَجُّدُ عَلَى هَذَا أَنْ يُصَلِّيَ وَقْتَ يَكُونُ النَّاسُ فِيهِ نِيَامًا، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ هَلْ تَكُونُ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ أَوْكَدَ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ صَلَاةَ التَّهَجُّدِ أَوْكَدُ، لِأَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قَدْ كَانَ نَائِبًا عَنِ الْفَرَائِضِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْكَدَ مِنْ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ الَّتِي لَمْ تَنُبْ عَنْ فَرْضٍ قَطُّ، وَقَوْلُ الشَّافِعِيِّ " وَيُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ " مَعْنَاهُ: وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي يَتْبَعُ الْوِتْرَ فِي التَّأْكِيدِ صَلَاةُ التَّهَجُّدِ
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَعَلَيْهِ أَصْحَابُنَا: أَنَّ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ أَوْكَدُ مِنْ صَلَاةِ التَّهَجُّدِ لِمَا تَقَدَّمَ
وَالدَّلِيلُ فِي تَأْكِيدِهَا عَلَى الْوِتْرِ، فَأَمَّا مَا عَدَا الْوِتْرَ، وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ مِنَ النَّوَافِلِ الْمُوَظَّفَاتِ مِنَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ، فَقَدْ حَكَى الْبُوَيْطِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَرَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَرَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ، وَرَكْعَتَيْنِ قبل العشاء، وركعتين بعدها

(فصل: القول في صلاة الضحى)
وَأَمَّا صَلَاةُ الضُّحَى فَسُنَّةٌ مُخْتَارَةٌ قَدْ فَعَلَهَا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَدَاوَمَ عَلَيْهَا وَاقْتَدَى بِهِ السَّلَفُ فِيهَا وَرُوِيَ أَنَّ أَقَلَّ مَا كَانَ يُصَلِّيهَا أَرْبَعُ رَكَعَاتٍ وَأَكْثَرَ مَا كَانَ يُصَلِّيهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَمَانِي رَكَعَاتٍ وَرُوِيَ

(2/286)


أَنَّ آخِرَ مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي بَيْتِ أُمِّ هَانِئٍ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ بِمَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ ثَمَانِي رَكَعَاتٍ وَدَاوَمَ عَلَيْهَا إِلَى أَنْ مَاتَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
ويختار أن يصليها ثمان رَكَعَاتٍ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَوَقْتُهَا فِي الِاخْتِيَارِ إِذَا مَضَى مِنَ النَّهَارِ رُبُعُهُ
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَعِشَاءِ الْآخِرَةِ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَيَقُولُ: " هَذِهِ صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ فَمَنْ صَلَّاهَا غُفِرَ لَهُ " وَكَانَ الصَّالِحُونَ مِنَ السَّلَفِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يُصَلُّونَهَا وَيُسَمُّونَهَا صَلَاةَ الْغَفْلَةِ أَيِّ النَّاسُ غَفَلُوا عَنْهَا وَتَشَاغَلُوا بِالْعَشَاءِ وَالنَّوْمِ، وَهَذَا كُلُّهُ مُخْتَارٌ، وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا أَفْضَلُ، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ " فَيُخْتَارُ فَضْلُ الدَّوَامِ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ مُعِينٌ
(الْقَوْلُ فِي قَضَاءِ الْوِتْرِ وَرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ)

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنْ فَاتَهُ الْوِتْرُ حَتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ لَمْ يَقْضِ "
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: الْوِتْرُ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ وَإِنْ فَاتَهُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ حَتَّى تُقَامَ الظُّهْرُ لَمْ يَقْضِ، لِأَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ "
قال الماوردي: وهذا صحيح. أما إذا نَسِيَ الْوِتْرَ وَذَكَرَهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَيُصَلِّيهَا وَتَكُونُ أَدَاءً لَا قَضَاءً، فَأَمَّا إِذَا نَسِيَ الْوِتْرَ وَذَكَرَهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، أَوْ نَسِيَ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ ثُمَّ ذَكَرَهَا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَقَدْ ذَكَرَ الْمُزَنِيُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يَقْضِي وَنَقَلَهُ فِي الْقَدِيمِ وَذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا مَا يَدُلُّ عُمُومُهُ عَلَى الْقَضَاءِ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ يَقْضِي ذَلِكَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَأَجَابَ عَمَّا نَقَلَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ قَوْلِهِ " لَا يُقْضِي بِجَوَابَيْنِ ":
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَصَدَ بِذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى أبي حنيفة حَيْثُ أَوْجَبَ قَضَاءَ الْوِتْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَإِعَادَةَ الصُّبْحِ وَبَنَى ذَلِكَ عَلَى أَصْلَيْنِ لَهُ قَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِيهِمَا وَهُمَا:
الْأَوَّلُ: إِيجَابُ الْوِتْرِ
والثاني: إيجاب تَرْتِيبِ الْفَوَائِتِ
فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: " لَا يَقْضِي " يَعْنِي: وَاجِبًا، فَأَمَّا مِنْ طَرِيقِ الِاخْتِيَارِ وَالِاسْتِحْبَابِ فَيَقْضِي وَلَوْ بَعْدَ نَوْمٍ، وَيَكُونُ ذَلِكَ صَلَاةَ وِتْرٍ، وَرَكْعَتَيْ فَجْرٍ فَهَذَا جَوَابٌ

(2/287)


وَالْجَوَابُ الثَّانِي: وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ مَعْنَى الْأَوَّلِ: أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِقَضَاءِ ذَلِكَ أَمْرًا لَازِمًا مِنْ أَجْلِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: " الْوِتْرُ فِيمَا بَيْنَ الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ "
وَمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ " فَصَرَفَ وُجُوبَ الْقَضَاءِ مِنْ أَجْلِ هَذَا، وَأَنْ يَكُونَ اشْتِغَالُهُ بِالْفَرْضِ أَوْلَى مِنْ قَضَاءِ مَا فَاتَهُ مِنَ النَّفْلِ فَيَكُونُ النَّهْيُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ مُتَوَجِّهًا إِلَى مَنْ ذَكَرَ ذَلِكَ عِنْدَ إِقَامَةِ الْفَرْضِ، فَهَذَا قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَصْحَابِنَا، وَهُوَ الصَّحِيحُ
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: فِي قَضَاءِ الْوِتْرِ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَرَكْعَتَيِ الصُّبْحِ بَعْدَ الزَّوَالِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَا تُقْضَى
وَوَجْهُهُ: أَنَّهَا صَلَاةُ نَافِلَةٍ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا كَالْكُسُوفِ، وَالْخُسُوفِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ إِنَّمَا تُفْعَلُ لِتَعَلُّقِهَا بِالْوَقْتِ، أَوْ لِتَعَلُّقِهَا بِالذِّمَّةِ أَوْ تَبَعًا لِفِعْلِ فَرِيضَةٍ، وَالْوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ لَمْ يَتَعَلَّقَا بِالْوَقْتِ، وَلِأَنَّ وَقْتَيْهِمَا قَدْ فَاتَا وَهِيَ غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالذِّمَّةِ، لِأَنَّ النَّافِلَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالذِّمَّةِ وَلَيْسَ يُفْعَلَانِ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ، لِأَنَّ مَتْبُوعَهَا قَدْ سَقَطَ فَعُلِمَ أَنَّهُمَا لَا يُفْعَلَانِ
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تُقْضَى وَهُوَ الصَّحِيحُ
وَوَجْهُهُ عُمُومُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إِذَا ذَكَرَهَا فَذَلِكَ وَقْتُهَا " وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَهَا وَقْتٌ رَاتِبٌ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَسْقُطَ بِفَوَاتِ وَقْتِهَا كَالْفَرَائِضِ فَعَلَى هَذَا لَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَقَدْ أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ وَلَمْ يَكُنْ قَدْ صَلَّى رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِرَكْعَتَيِ الْفَجْرِ، فَإِذَا أَكْمَلَ فَرْضَهُ رَكَعَهُمَا
وَقَالَ أبو حنيفة: يَرْكَعْهُمَا قَبْلَ فَرْضِهِ، وَهَذَا غَلَطٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ " فَأَمَّا إِذَا قِيلَ لَا يَقْضِي فَهَلْ يَسْقُطُ فِعْلُهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى أَوْ بِدُخُولِ وَقْتِهَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِدُخُولِ الْوَقْتِ فَعَلَى هَذَا تَسْقُطُ صَلَاةُ الْوِتْرِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ
وَالثَّانِي: بِفِعْلِ الصَّلَاةِ فَعَلَى هَذَا يُصَلِّي الْوِتْرَ بَعْدَ الْفَجْرِ وَقَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَإِذَا صَلَّاهَا سَقَطَ فِعْلُ الْوِتْرِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَإِذَا صَلَّاهَا سَقَطَ فِعْلُ رَكْعَتَيِ الْفَجْرِ

(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى " وَفِي ذَلِكَ دلالتان: أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّوَافِلَ مَثْنَى مَثْنَى بِسَلَامٍ مَقْطُوعَةٍ والمكتوبة موصولة والأخرى أن الوتر واحدة فيصلي النافلة مثنى مثنى قائماً وقاعداً إذا كان

(2/288)


مقيماً وإن كان مسافراً فحيث توجهت به دابته كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يصلي الوتر على راحلته أينما توجهت به "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
(الْقَوْلُ فِي كَيْفِيَّةِ قِيَامِ اللَّيْلِ)

الْأَفْضَلُ فِي نَوَافِلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى، يَقْطَعُ كُلَّ رَكْعَتَيْنِ، بِسَلَامٍ، ثُمَّ يَسْتَأْنِفُ مَا بَعْدَهُمَا بِإِحْرَامٍ وَأَيَّ عَدَدٍ صَلَّى بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَجْزَأَهُ وَلَا يُكْرَهُ
وَقَالَ أبو حنيفة: الْأَفْضَلُ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أربعاً بسلام وأكده أَنْ يَزِيدَ فِي النَّهَارِ عَلَى أَرْبَعٍ، وَفِي الليل على ثماني تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَرْبَعٌ قَبْلَ الظُّهْرِ لَا يُسَلِّمُ فِيهِنَّ إِلَّا بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ يُفْتَحُ لَهُنَّ أَبْوَابُ السَّمَاءِ "، وَبِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ثَمَانِيَ رَكَعَاتٍ لَا يُسَلِّمُ إِلَّا فِي آخِرِهِنَّ
وَدَلِيلُنَا مَا رَوَى مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِنْ خَشِيَ أحدكم الصبح فليوتر بواحدة قَبْلَهَا "
وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ عَنْ عَلِيٍّ الْأَزْدِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى " فَإِنْ قِيلَ: الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَثْنَى: أَنْ يَتَشَهَّدَ فِي كُلِّ مَثْنَى، قِيلَ: لَا يَكُونُ مَثْنَى إِلَّا بِسَلَامٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا جَمْعُ الصَّلَاةِ وَالصَّلَاةُ مَا اشْتَمَلَ عَلَى سَلَامٍ وَإِحْرَامٍ
وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ تِسْعَ رَكَعَاتٍ يُسَلِّمُ بَيْنَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ
وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتِ النَّوَافِلُ الْمَسْنُونَةُ فِي الْجَمَاعَةِ أَوْكَدَ، وَكَانَتْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ اقْتَضَى وَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يُسَنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّوَافِلِ أَفْضَلَهَا رَكْعَتَيْنِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ مِنْ جِنْسِهَا، وَلِيَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ غَالِبِ الْفَرَائِضِ وبينها

(2/289)


فَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أَيُّوبَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ لِأَنَّنَا نَقُولُ إِنَّهَا تُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ
وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَنَقْلُ فِعْلٍ قَدْ رَوَيْنَا مَا يُعَارِضُهُ، مَعَ قَوْلٍ يعاضده فكان ما ذهبنا إليه أولى

(فصل: القول في فعل النافلة قاعداً)
فَأَمَّا صَلَاةُ النَّافِلَةِ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى القيام فجائز، ولو صلاها قائماً فكان أَوْلَى، وَلَوْ صَلَّاهَا قَائِمًا مُضْطَجِعًا مِنْ غَيْرِ مَرَضٍ وَلَا سَفَرٍ جَازَ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " صَلَاةُ الْقَاعِدِ فِي الْأَجْرِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْقَائِمِ "، وَهَذَا وَارِدٌ فِي النَّفْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ دُونَ الْفَرْضِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَاجِزَ عَنِ الْقِيَامِ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ إِذَا صَلَّى قَاعِدًا حَسْبَ طَاقَتِهِ كَانَ كَالْمُصَلِّي قَاعِدًا فِي التَّمَامِ والأجر، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا مِنْ أَحَدٍ يَعْمَلُ فِي صِحَّتِهِ عَمَلًا فَعَجَزَ عَنْهُ عِنْدَ مَرَضِهِ إِلَّا وَكَّلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهِ مَلَكًا يَكْتُبُ لَهُ ثَوَابَ مَا تَرَكَ مِمَّا عَجَزَ عَنْهُ "، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخَبَرِ الْمُتَقَدِّمِ النَّوَافِلُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى القيام

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَمَّا قِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ وَرَأَيْتُهُمْ بِالْمَدِينَةِ يَقُومُونَ لِتِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَأَحَبُّ إِلَيَّ عِشْرُونَ، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَذَلِكَ يَقُومُونَ بِمَكَّةَ وَيُوتِرُونَ بِثَلَاثَةٍ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: " أَمَّا الْأَصْلُ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَهِيَ صَلَاةُ التَّرَاوِيحِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ إِلَى النَّاسِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَجَمَعَهُمْ وَصَلَّى بِهِمْ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ فَجَمَعَهُمْ وَصَلَّى بِهِمْ فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلَةُ الثَّالِثَةُ انْتَظَرُوهُ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فَصَلَّوْا مُتَفَرِّقِينَ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " قَدْ عَلِمْتُ بِاجْتِمَاعِكُمْ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرْتُ لِأَنِّي خِفْتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ " وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ بَعْدَ ذَلِكَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبِي بَكْرٍ وَأَوَّلِ خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَجْمَعُ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيُصَلِّي بِهِمُ الْعَشْرَ الْأُوَلَ، وَالْعَشْرَ الثَّانِيَ وَيَتَخَلَّى لِنَفْسِهِ فِي الْعَشْرِ الثَّالِثِ، إِلَى أَنْ قَرَّرَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَمَعَ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَكَانَ السَّبَبُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يُصَلُّونَ فِي الْمَسْجِدِ، فَإِذَا

(2/290)


سَمِعُوا قِرَاءَةً طَيِّبَةً تَبِعُوا، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلْتُمُ الْقُرْآنَ أَغَانِيَ فَجَمَعَهُمْ إِلَى أبي فصارت ستة قَائِمَةً، ثُمَّ عَمِلَ بِهَا عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالْأَئِمَّةُ فِي سَائِرِ الْأَعْصَارِ وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ سُنَّةٍ سَنَّهَا إِمَامٌ
فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا وَثَبَتَ فَالَّذِي أَخْتَارُ عِشْرُونَ رَكْعَةً خَمْسُ ترويحات كل ترويحة شفعين كل شفع ركعتين بِسَلَامٍ ثُمَّ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ؛ لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ فَكَانَ يُصَلِّي بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً جَرَى بِهِ الْعَمَلُ وَعَلَيْهِ النَّاسُ بِمَكَّةَ
قال الشَّافِعِيُّ: " وَرَأَيْتُهُمْ بِالْمَدِينَةِ يَقُومُونَ بِسِتٍّ وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً بسبع ترويحات، ويوثرون بِثَلَاثٍ " وَإِنَّمَا خَالَفُوا أَهْلَ مَكَّةَ فِي ذَلِكَ وَزَادُوا فِي عَدَدِ رَكَعَاتِهِمْ؛ لِأَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ كَانُوا إِذَا صَلَّوْا تَرْوِيحَةً طَافُوا سَبْعًا إِلَّا التَّرْوِيحَةَ الْخَامِسَةَ فَإِنَّهُمْ يُوتِرُونَ بَعْدَهَا، وَلَا يَطُوفُونَ فَيَحْصُلُ لَهُمْ خَمْسُ تَرْوِيحَاتٍ وَأَرْبَعُ طَوَافَاتٍ، فَلَمَّا لم يكن أَهْلَ الْمَدِينَةِ مُسَاوَاتُهُمْ فِي الطَّوَافِ الْأَرْبَعِ، وَقَدْ سَاوَوْهُمْ فِي التَّرْوِيحَاتِ الْخَمْسِ جَعَلُوا مَكَانَ أَرْبَعِ طَوَافَاتٍ أَرْبَعَ تَرْوِيحَاتٍ زَوَائِدَ فَصَارَ لَهُمْ تِسْعُ تَرْوِيحَاتٍ تَكُونُ سِتًّا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً لِتَكُونَ صَلَاتُهُمْ مُسَاوِيَةً لِصَلَاةِ أَهْلِ مَكَّةَ وَطَوَافِهِمْ، وَقِيلَ: بَلْ كَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَانَ لَهُ تِسْعُ أَوْلَادٍ فَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ جَمِيعَهُمْ بِالْمَدِينَةِ فَقَدَّمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَصَلَّى تَرْوِيحَةً فَصَارَتْ سُنَّةً وَقِيلَ: بَلْ كَانَ السَّبَبُ فِيهِ أَنَّ تِسْعَ قَبَائِلَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ سَارَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَاقْتَتَلُوا فَقَدَّمَ كُلُّ قَبِيلَةٍ رَجُلًا فَصَلَّى بِهِمْ تَرْوِيحَةً ثُمَّ صَارَتْ سُنَّةً، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ
فَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: " وَقِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَصَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ " فَفِيهِ تَأْوِيلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ أَنَّ قِيَامَ شَهْرِ رَمَضَانَ وَإِنْ كَانَ فِي جَمَاعَةٍ فَفِي النَّوَافِلِ الَّتِي تُفْعَلُ فُرَادَى مَا هُوَ أَوْكَدُ مِنْهُ، وَذَلِكَ الْوِتْرُ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَهَذَا قَوْلُ أبي العباس بن سريج
ووالتأويل الثَّانِي: أَنَّ صَلَاةَ الْمُنْفَرِدِ فِي قِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ أَفْضَلُ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي انْفِرَادِهِ تَعْطِيلُ الْجَمَاعَةِ، فَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِنَا، وَإِنَّمَا كان ذلك كَذَلِكَ، لِرِوَايَةِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ فَإِنَّ صَلَاةَ الْمَرْءِ فِي بَيْتِهِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهِ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا الْمَكْتُوبَةَ "
فَأَمَّا إِنْ تَعَطَّلَتِ الْجَمَاعَةُ بِانْفِرَادِهِ فَصَلَاتُهُ جَمَاعَةً أَفْضَلُ لِمَا فِي تَعْطِيلِهَا مِنْ إطفاء نور المساجد وترك السنة المأثورة

(مسألة: الْقَوْلُ فِي قُنُوتِ النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ)
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَقْنُتُ إِلَّا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْهُ وَكَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ ابْنُ عُمَرَ، وَمُعَاذٌ الْقَارِي "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صحيح

(2/291)


وَأَمَّا الْقُنُوتُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي جَمِيعِ الدَّهْرِ وَدَلَّلْنَا عَلَيْهِ
فَأَمَّا الْقُنُوتُ فِي الْوِتْرِ فَغَيْرُ سُنَّةٍ فِي شيء من السنة إلى فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ
وَقَالَ أبو حنيفة: الْقُنُوتُ سُنَّةٌ فِي الْوِتْرِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ تَعَلُّقًا بِرِوَايَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ
وَدَلِيلُنَا رِوَايَةُ يُونُسَ بْنِ عُبَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَمَعَ النَّاسَ عَلَى أُبَيٍّ وَقَالَ: صَلِّ بِهِمْ عِشْرِينَ رَكْعَةً، وَلَا تَقْنُتْ بِهِمْ إِلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ، فَصَلَّى بِهِمْ فِي الْعَشْرِ الْأَوَّلِ وَالْعَشْرِ الثَّانِي؛ وَتَخَلَّفَ فِي مَنْزِلِهِ فِي الْعَشْرِ الثَّالِثِ فَقَالُوا أَبَقَ أُبَيُّ وَقَدَّمُوا مُعَاذًا فَصَلَّى بِهِمْ بَقِيَّةَ الشَّهْرِ وَقَنَتَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ. فَدَلَّ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ عَلَى أَنَّ الْقُنُوتَ سُنَّةٌ فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ لَا غَيْرَ
فَأَمَّا رِوَايَتُهُمْ عَنْ أُبَيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَنَتَ فِي الْوِتْرِ فَلَيْسَ بثابتٍ لِأَنَّ أُبَيًّا لَمْ يَكُنْ يَقْنُتُ إِلَّا فِي النِّصْفِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ
قَالَ الْمُزَنِيُّ: سَأَلْنَا الشَّافِعِيَّ أَكَانَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقْنُتُ فِي الْوِتْرِ فَقَالَ: لَا يُحْفَظُ عَنْهُ قَطُّ، وَحَسْبُكَ بِالشَّافِعِيِّ يَقُولُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ رُوِيَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مُدَّةِ الشَّهْرِ حِينَ كَانَ يَقْنُتُ فِي سَائِرِ الصلوات ثم ترك

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَآخِرُ اللَّيْلِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَوَّلِهِ وَإِنْ جَزَّأَ اللَّيْلَ أَثْلَاثًا فَالْأَوْسَطُ أَحَبُّ إِلَيَّ أَنْ يَقُومَهُ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَحَبَّ الْمُصَلِّي أَنْ يُجَزِّئَ لَيْلَهُ جُزْأَيْنِ أَحَدُهُمَا: لِنَوْمِهِ أَوْ لِشُغْلِهِ وَالْآخَرُ لِصَلَاتِهِ، فَالْجُزْءُ الْأَخِيرُ أَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ يَجْعَلَهُ لِصَلَاتِهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران: 17] ؛ وَلِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَجَاءَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَنَامَ بَعْدَ الْعِشَاءِ إِلَى أَنِ انْتَصَفَ اللَّيْلُ وَقَامَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ إِلَى أَنْ جَاءَ بِلَالٌ " وَلِأَنَّهُ إِذَا قَدَّمَ نَوْمَهُ كَانَ ذَلِكَ أَسْكَنَ لِجَسَدِهِ، وَأَخْلَى لِقَلْبِهِ، وَأَنْقَى لِرُوعِهِ، وَأَمْكَنَ لَهُ فِي عَادَتِهِ وَأَمَّا إِنِ اخْتَارَ أَنْ يُجَزِّئَ لَيْلَهُ أَثْلَاثًا فَيَجْعَلُ ثُلُثًا لِنَوْمِهِ وَثُلُثًا لِصَلَاتِهِ وَثُلُثًا لِنَظَرِهِ فِي أَمْرِهِ فَالثُّلُثُ الْأَوْسَطُ أَحَبُّ إِلَيْنَا أَنْ يَجْعَلَهُ لِصَلَاتِهِ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: {إن ناشئة الليل هي أشد وطأ وَأَقْوَمُ قِيلا} [المزمل: 6] يَعْنِي: نَاشِئَةَ مَا تَنْشَأُ فِي أَثْنَاءِ اللَّيْلِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ الصَّلَاةُ فِي اللَّيْلِ الْبَهِيمِ يَعْنِي: الْأَسْوَدَ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَفْضَلُ الصَّوْمِ صَوْمُ أَخِي دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا، وَيُفْطِرُ

(2/292)


يَوْمًا، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاةُ أَخِي دَاوُدَ كَانَ يَنَامُ الثُّلُثَ وَيَقُومُ النِّصْفَ، وَيَنَامُ السُّدُسَ وَلِأَنَّ أَوْسَطَ اللَّيْلِ أَهْدَأَهُ وَأَخْلَاهُ فَلِذَلِكَ مَا اخْتَرْنَاهُ

(مسألة: الْقَوْلُ فِي عَدَدِ الرَّكَعَاتِ)
(مَسْأَلَةٌ)
: قَالَ الْمُزَنِيُّ: " قلت أنا في كِتَابِ اخْتِلَافِهِ ومالكٍ قُلْتُ لِلشَّافِعِيِّ أَيَجُوزُ أَنْ يُوتِرَ بواحدةٍ لَيْسَ قَبْلَهَا شَيْءٌ؟ قَالَ نَعَمْ والذي اختاره ما فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يصلي إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدةٍ والحجة في الوتر بواحدةٍ السنة والآثار. رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى فَإِذَا خَشِيَ أحدكم الصبح صلى ركعة الوتر له ما قد صلى " وعن عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يصلي إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدةٍ وأن ابن عمر كان يسلم بين الركعة والركعتين من الوتر حتى يأمر ببعض حاجته وأن عثمان كان يحيي الليل بركعةٍ هي وتره وعن سعد بن أبي وقاصٍ أنه كان يوتر بواحدةٍ وأن معاوية أوتر بواحدةٍ فقال ابن عباس أصاب (قال المزني) قلت أنا فهذا به أولى من قوله يوتر بثلاثٍ وقد أنكر على مالكٍ قوله لا يحب أن يوتر بأقل من ثلاثٍ ويسلم بين الركعة والركعتين من الوتر واحتج بأن من سلم من اثنتين فقد فصلهما مما بعدهما وأنكر على الكوفي أن يوتر بثلاث كالمغرب فالوتر بواحدة أولى به (قال المزني) ولا أعلم الشافعي ذكر موضع القنوت من الوتر ويشبه قوله بعد الركوع كما قال في قنوت الصبح ولما كان من رفع رأسه بعد الركوع يقول: " سمع الله لمن حمده " وهو دعاء كان هذا الموضع بالقنوت الذي هو دعاء أشبه ولأن من قال يقنت قبل الركوع يأمره أن يكبر قائماً ثم يدعو وإنما حكم من كبر بعد القيام إنما هو للركوع فهذه تكبيرة زائدة في الصلاة لم تثبت بأصلٍ ولا قياسٍ "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ
أَقَلُّ الْوِتْرِ عِنْدَنَا رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ وَأَكْثَرُهُ أَحَدَ عَشَرَ رَكْعَةً، فَإِنْ أَوْتَرَ بِرَكْعَةٍ، أَوْ ثَلَاثٍ، أَوْ خَمْسٍ، أَوْ سَبْعٍ، أَوْ تِسْعٍ، أَوْ إِحْدَى عَشْرَةَ مَوْصُولَةٍ بِتَسْلِيمَةٍ أَجَزَأَهُ، أَوْ مَفْصُولَةٍ بِتَسْلِيمَتَيْنِ جَازَ، وَأَفْضَلُ ذَلِكَ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً مَفْصُولَةً بِتَسْلِيمَتَيْنِ، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ اثْنَتَيْنِ وَيُوتِرُ بِالْأَخِيرَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ، وَعُثْمَانَ، وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَابْنِ عُمَرَ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَكَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ
وَقَالَ مَالِكٌ: أَقَلُّ الْوِتْرِ ثَلَاثَةٌ لَكِنْ بِتَسْلِيمَتَيْنِ

(2/293)


وَقَالَ أبو حنيفة: الْوِتْرُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَلَا النُّقْصَانُ مِنْهَا، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمَغْرِبُ وِتْرُ النَّهَارِ فَصَلُّوا وِتْرَ اللَّيْلِ " فَأَمَرَ أَنْ يَكُونَ الْوِتْرَ عَلَى صِفَةِ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَبِمَا رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ الْبَتْرَاءِ ركعةٍ واحدةٍ، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَرُبَّمَا وَصَلُوهُ بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَا أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ " قَالُوا: وَلِأَنَّ كُلَّ قَدْرٍ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ وِتْرًا قِيَاسًا عَلَى بَعْضِ رَكْعَةٍ
وِالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ فَلْيُوتِرْ بركعةٍ "
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ واحدةٍ وَيَقُولُ هَذَا وِتْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبِي بَكْرٍ، وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا
وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الْوِتْرُ حَقٌّ عَلَى كُلِّ مسلمٍ، وَلَيْسَ بواجبٍ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بثلاثٍ فَلْيُوتِرْ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوتِرَ بواحدةٍ فَلْيُوتِرْ " فَكَانَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ عَلَى أَنَّ الْوِتْرَ سُنَّةٌ، وَعَلَى أَنَّ الرَّكْعَةَ تُجْزِئُ وَأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ سَائِغٌ
وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي فِي اللَّيْلِ إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ اثْنَتَيْنِ، وَيُوتِرُ بواحدةٍ
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ " فَدَلَّ مَا رَوَيْنَاهُ قَوْلًا، وَفِعْلًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَعَنْ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَلِأَنَّ كُلَّ عَدَدٍ كَانَ صَلَاةً جَازَ أَنْ يَكُونَ شَطْرُهُ صَلَاةً كَالْأَرْبَعِ، وَلِأَنَّ أَقَلَّ نَوْعَيِ الْعَدَدِ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ صَلَاةً، كَالشَّفْعِ الَّذِي أَقَلُّهُ رَكْعَتَانِ، وَلِأَنَّ مَا جَازَ أَنْ يُفْعَلَ بَيْنَ التَّشَهُّدَيْنِ جَازَ أَنْ يَكُونَ صَلَاةً كَالرَّكْعَتَيْنِ
فَمَا تَعَلُّقُهُمْ بِمَا رَوَوْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمَغْرِبُ وِتْرُ النَّهَارِ فَصَلُّوا وِتْرَ اللَّيْلِ " فَحَدِيثُ مَجْهُولٍ لَا يَعْرِفُهُ أَحَدٌ مِنَ الرُّوَاةِ وَأَصْحَابِ الْحَدِيثِ، فَإِنْ سَلِمَ لَهُمْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ اشْتِرَاكَهُمَا فِي الْأَفْرَادِ دُونَ الْأَزْوَاجِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ تَسَاوِيَهُمَا فِي الْعَدَدِ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ افْتِرَاقُهُمَا فِي غَيْرِ الْعَدَدِ إِذَا صَحَّ التَّشْرِيكُ بَيْنَهُمَا، وَالْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا يُعَارِضُهُ أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُوتِرُوا بِثَلَاثَةٍ، وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْمَغْرِبِ وَأَوْتِرُوا بِخَمْسٍ، أَوْ تِسْعٍ " وأما نهيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الصَّلَاةِ الْبَتْرَاءِ وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَا أَجْزَأَتْ رَكْعَةٌ قَطُّ " فَمَحْمُولٌ عَلَى الْفَرْضِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ فِعْلِهِ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(2/294)


فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى بَعْضِ الرَّكْعَةِ، فَالْوَصْفُ بِهِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُمْ، لِأَنَّ الرَّكْعَةَ قَدْ تَكُونُ فَرْضًا إِذَا نَذَرَهَا عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِي بَعْضِ الرَّكْعَةِ أَنَّ اسْمَ الصَّلَاةِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً بِانْفِرَادِهِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ
فَأَمَّا قَوْلُ مَالِكٍ إِنَّ أَقَلَّهُ ثَلَاثٌ بِسَلَامَيْنِ فَلَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّا لَا نَجِدُ فِي الشَّرْعِ صَلَاةً لَا يَكُونُ السَّلَامُ فِيهَا قَطْعًا فَإِنْ كَانَ مَالِكٌ يَعْنِي بِقَوْلِهِ إِنَّهَا ثَلَاثٌ لَا يُجَزِئُ أَقَلُّ مِنْهَا فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً كَقَوْلِ أبي حنيفة، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّ الْوِتْرَ هِيَ الْمُفْرَدَةُ فَهُوَ كَقَوْلِنَا، ثُمَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ اتفاق الجميع على أن الثلاث ركعات يجهز فِيهَا كُلِّهَا بِالْقِرَاءَةِ، فَلَوْ كَانَ حُكْمُهَا حُكْمَ الصَّلَاةِ الْوَاحِدَةِ لَكَانَ مِنْ حُكْمِهَا أَنْ لَيْسَ فِي الثَّلَاثَةِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ فِيمَا بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ وَكَالْمَغْرِبِ، فَبَانَ بِهَذَا أَنَّ الرَّكْعَةَ الْمُفْرَدَةَ لَهَا حُكْمُ نَفْسِهَا لَا تَفْتَقِرُ إِلَى مَا تَقَدَّمَهَا، وَإِنْ وَصَلَ ذَلِكَ بِهَا لَمْ يَقْدَحْ فِي صِحَّتِهَا، فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْوِتْرُ عِنْدَكُمْ رَكْعَةً فَلِمَ لَا كَانَتِ الزِّيَادَةُ تُبْطِلُهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، قِيلَ: لِظُهُورِ الْخِلَافِ فِيهَا، وَوُرُودِ السُّنَّةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَيْهَا
وَرُوِيَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يُصَلِّي ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً يُوتِرُ مِنْهُنَّ بخمس لا يجلس إلا في الخامسة
أما الْمُزَنِيُّ فَإِنَّهُ لَمَّا نَظَرَ إِلَى الشَّافِعِيِّ قَدْ قَالَ فِي مَوَاضِعَ يُوتِرُ بِثَلَاثٍ، وَحُكِيَ عَنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّهُمْ يُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ ظَنَّ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ لَهُ ثَانٍ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَّهُ بَلْ لَا يَخْتَلِفُ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّ الوتر واحدة

(فصل القول في استحباب تأخير الوتر)
إِذَا أَرَادَ صَلَاةَ اللَّيْلِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْوِتْرَ لِيَخْتِمَ بِهِ صَلَاتَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صَلَاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ فَلْيُوتِرْ بِرَكْعَةٍ "، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقُومَ إِلَى صَلَاةِ اللَّيْلِ بَعْدَ نَوْمِهِ، وَعِنْدَ اسْتِيقَاظِهِ فَالِاخْتِيَارُ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُؤَخِّرَ الْوِتْرَ حَتَّى إِذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ وَصَلَّى أَوْتَرَ حِينَئِذٍ، فَإِنْ أَوْتَرَ ثُمَّ نَامَ، وَقَامَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى صَلَاتِهِ جَازَ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُوتِرُ وَيَنَامُ ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَهَجَّدُ
وَمِثْلُهُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَنَامُ ثُمَّ يَقُومُ فَيَتَهَجَّدُ وَيُوتِرُ بَعْدَهُ
وَمِثْلُهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ أَمَّا أَنْتَ فَتَأْخُذُ بِالْحَزْمِ، وَقَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَمَّا أَنْتَ فتعمل

(2/295)


عَمَلَ الْأَجْلَادِ، فَلَوْ أَوْتَرَ وَنَامَ ثُمَّ قَامَ وَصَلَّى لَمْ يَلْزَمْهُ إِعَادَةُ الْوِتْرِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، وأبي حنيفة، وَحُكِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ أَنَّ رَكْعَةَ وِتْرِهِ قَدِ انْتَقَضَتْ فَيَشْفَعُهَا بِرَكْعَةٍ ثُمَّ يَتَهَجَّدُ، بما أراد أن يوتر ثُمَّ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ وِتْرِهِ وَأَنَّ الْإِعَادَةَ لَا تَلْزَمُهُ مَا رَوَيْنَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا وِتران فِي لَيْلَةٍ " فَلَوْ أَوْتَرَ قَبْلَ عِشَاءِ الْآخِرَةِ لَمْ يُجْزِهِ لِتَقْدِيمِهَا قَبْلَ وَقْتِهَا، فَلَزِمَهُ إِعَادَتُهَا بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَأَمَّا مَوْضِعُ الْقُنُوتِ وَصِفَتُهُ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِيهِ فَلَمْ نَحْتَجْ إِلَى إِعَادَتِهِ
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فِي الْوِتْرِ، فأبو حنيفة. وَمَالِكٌ يَخْتَارَانِ أَنْ يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بِ " سَبِّحْ "، وَفِي الثَّانِيَةِ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَفِي الثَّالِثَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ اخْتَارَ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى بِ " سَبِّحْ " وَفِي الثانية: {قل يا أيها الكافرون} وَفِي الثَّالِثَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} " وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ "، وَقَدْ رَوَتْهُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَوْلَى لِزِيَادَتِهَا - وَاللَّهُ أَعْلَمُ -

(2/296)