الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

 (باب في كراهية اللباس والمبارزة)
قال الشافعي: رضي الله عنه: " وَأَكْرَهُ لُبْسَ الدِّيْبَاجِ وَالدِّرْعِ الْمَنْسُوجَةِ بِالذَّهَبِ وَالْقَبَاءِ بِأَزْرَارِ الذَّهَبِ فَإِنْ فَاجَأَتْهُ الْحَرْبُ فَلَا بَأْسَ ".
قال الماوردي: وهذا كما قال: ليس الْحَرِيرِ مُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ مُبَاحٌ عَلَى النِّسَاءِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خَرَجَ وَفِي إِحْدَى يَدَيْهِ حَرِيرٌ وَفِي الْأُخْرَى ذَهَبٌ فَقَالَ: " هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حَلَالٌ لِإِنَاثِهَا ".
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَأَى حُلَّةً تُبَاعُ فِي السُّوقِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اشْتَرَيْتَهَا فَلَبِسْتَهَا لِلْجُمْعَةِ وَالْوُفُودِ، فَقَالَ: " هَذَا لِبَاسُ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ " فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُهُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ لُبْسِهِ وَافْتِرَاشِهِ.
وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة جَوَازُ افْتِرَاشِهِ لِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ لُبْسِهِ.
وَهَذَا غَلَطٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " هَذَانِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حَلَالٌ لِإِنَاثِهَا " وَلِأَنَّ فِي افْتِرَاشِهِ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الْخُيَلَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا فِي لُبْسِهِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِالنَّهْيِ أَوْلَى.

(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الثَّوْبُ الْمَنْسُوجُ مِنْ إِبْرَيْسِمٍ وَقُطْنٍ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْإِبْرَيْسِمُ أَكْثَرَ وَأَغْلَبَ فَلَا يَجُوزُ لُبْسُهُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْقُطْنُ أَكْثَرَ فَيَجُوزُ لُبْسُهُ.

(2/478)


وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ سَوَاءً فَمَذْهَبُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أصحابنا جواز لبسه مغليا لِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ مِنْهُمْ تَحْرِيمُ لُبْسِهِ تعليقا لحكم الحظر وهذا الأصح لأن الإباحة والخطر إذا استويا غلب حكم الخطر فَأَمَّا الْجُبَّةُ الْمَحْشُوَّةُ بِالْخَزِّ وَالْإِبْرَيْسِمِ فَلَا بَأْسَ يَلْبَسُهَا وَلَكِنْ لَوْ كَانَ أَحَدُ جَانِبَيْهَا حَرِيرًا وَالْآخَرُ قُطْنًا لَمْ يَجُزْ لُبْسُهُ سَوَاءٌ كَانَ الحرير ظاهره أو باطنه لأن لَابِسٌ لَهُ.

(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا لُبْسُ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِمُفَاجَأَةِ الْحَرْبِ أَوْ لِعِلَّةٍ دَاعِيَةٍ إِلَى لُبْسِهِ فَلَا بَأْسَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرخص للزبير ابن الْعَوَّامِ، وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي لُبْسِ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ كَانَتْ بِهِمَا.
(فَصْلٌ)
: فَأَمَّا الذَّهَبُ فَمُحَرَّمٌ عَلَى الرِّجَالِ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ خَالِصًا مُنْفَرِدًا أَوْ مَشُوبًا مُخْتَلِطًا بِخِلَافِ الْحَرِيرِ الَّذِيِ يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ يَسِيرِهِ إِذَا كَانَ مُسْتَهْلَكًا. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ الذَّهَبَ يَظْهَرُ قَلِيلُهُ كَظُهُورِ كَثِيرِهِ يَغْلِبُ لَوْنُهُ عَلَى لَوْنِ مَا اخْتَلَطَ بِهِ وَالْإِبْرَيْسِمُ بِخِلَافِهِ فَإِنْ طُلِيَ الذَّهَبُ بِغَيْرِهِ حَتَّى لَمْ يَظْهَرْ أَوْ صَدِيَ حَتَّى خَفِيَ لَوْنُهُ جَازَ لُبْسُهُ كَالْقَزِّ إِذَا كَانَ حَشْوَ الْجُبَّةِ.
فَإِنِ اسْتُعْمِلَ الذَّهَبُ لِضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ جَازَ وَلَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهِ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن طرفة أن عرفجة بن أسعد أُصِيبَتْ أَنْفُهُ يَوْمَ الْكُلَابِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَاتَّخَذَ أَنْفًا مِنْ وَرِقٍ فَأَنْتَنَ عَلَيْهِ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَتَّخِذَ أَنْفًا مِنْ ذَهَبٍ وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَدَّ أَسْنَانَهُ بِالذَّهَبِ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا أَكْرَهُ اللُّؤْلُؤَ إِلَّا لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْأَدَبِ وَأَنَّهُ مِنْ زِيِّ النِّسَاءِ وَلَا أَكْرَهُ الْيَاقُوتَ وَالزَّبَرْجَدَ.

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أَكْرَهُ لِمَنْ كَانَ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ فِي الْحَرْبِ بَلَاءً أَنْ يُعَلَّمَ وَلَا أَنْ يَرْكَبَ الْأَبْلَقَ قَدْ أَعْلَمَ حَمْزَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ بَدْرٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَلَا بَأْسَ بِمَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ بَأْسًا وَإِقْدَامًا أَنْ يُشْهِرَ نَفْسَهُ

(2/479)


بِالْأَعْلَامِ وَرُكُوبِ الْأَبْلَقِ، لِمَا رُوِّينَا أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْلَمَ بِرِيشِ نَعَامَةٍ يَوْمَ بَدْرٍ غَرَزَهَا فِي صَدْرِهِ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا دُجَانَةَ كَانَ يُعَلَّمُ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ.
وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا مِحْجَنٍ كَانَ يَرْكَبُ الْأَبْلَقَ، وَرُوِيَ أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كان يعلم بذاؤبة مُلَوَّنَةٍ، فَأَمَّا مَنْ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ الْإِحْجَامَ عَنْ لِقَاءِ عَدُّوِهِ فَيُكْرَهُ لَهُ الْأَعْلَامُ خَوْفًا من هزيمة المسلمين.

(مسألة)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا أَكْرَهُ الْبِرَازَ قَدْ بَارَزَ عُبَيْدَةُ وَحَمْزَةُ وعلي بأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا إِذَا اسْتَدْعَى الْمُشْرِكُ الْبِرَازَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُبَارِزَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً عَلَيْهِ قَدْ بَرَزَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَالَ: لِيَبْرُزْ إِلَيَّ مُحَمَّدٌ فَإِنِّي قَدْ حَلَفْتُ أَنْ أَقْتُلَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " بَلْ أَنَا أَقْتُلُكَ " وَبَرَزَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إليه فرماه بحرية فِي صَدْرِهِ فَخَدَشَهُ بِهَا فَمَاتَ مِنْهَا، فَقِيلَ لَهُ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ أَيَقْتُلُكَ بِمِثْلِ هَذَا الْخَدْشِ فَقَالَ - وَاللَّهِ لَوْ تَفَلَ عَلَيَّ لَقَتَلَنِي.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى) {الأنفال: 17) وَرُوِيَ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ اسْتَدْعَيَا الْبِرَازَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَرَزَ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ، فَقَالُوا: الْأَنْصَارُ قَالُوا: مَا نُعْدِيكُمْ، لِيَقُمْ إِلَيْنَا أَكْفَاؤُنَا، فَبَرَزَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَتَلَهُ، وَبَرَزَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ فَقَتَلَهُ.
وبرز عبيد بْنُ الْحَارِثِ إِلَى شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَتَلَهُ، وَقَطَعَ شَيْبَةُ رِجْلَ عُبَيْدَةَ وَخَلَصَ حَيَّا فَمَاتَ بِالصَّفْرَاءِ بَيْنَ بَدْرٍ وَالْمَدِينَةِ وَرُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ بَارَزَ عَمْرَو بْنَ وُدٍّ الْعَامِرِيَّ بِيَوْمِ الْأَحْزَابِ فَقَتَلَهُ وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ قِتَالِ الْأَنْصَارِ فُرْسَانًا وَرَجَّالَةً وأما إذا بدا الرجل

(2/480)


الْمُسْلِمُ فَاسْتَدْعَى الْبِرَازَ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قال لا تبرزن محمدا ولا تَدْعُوَنَّ إِلَى الْبِرَازِ، فَإِنْ دُعِيتَ فَأَجِبْ فَإِنَّ الداعي باغ والباغي بمصروع.
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكْرَهْهُ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مُعَرِّضًا نَفْسَهُ لِلشَّهَادَةِ، وَذَلِكَ مُبَاحٌ، قَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حَثَّ عَلَى الْقِتَالِ يَوْمًا وَشَوَّقَ إِلَى الْجَنَّةِ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ أَنَا خَرَجْتُ فَقَاتَلْتُ حَتَّى أُقْتَلَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا أَيَحْجِزُنِي عَنِ الْجَنَّةِ شَيْءٌ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا إِلَّا الدَّيْنَ قَالَ: فَخَرَجَ فَانْغَمَسَ فِي الْعَدُوِّ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
وَحُكِيَ عَنْ أبي حنيفة: أَنَّهُ كَرِهَ الْبِرَازَ دَاعِيًا وَمُجِيبًا.

(مَسْأَلَةٌ)
: قال الشافعي رضي الله عنه: " ويلبس فَرَسَهُ وَأَدَاتَهُ جِلْدَ مَا سِوَى الْكَلْبِ وَالْخَنْزِيرِ من جلد قرد وقيل وأسد ونحو ذلك لأنه جنة للفرس ولا تعبد على الفرس ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْجُلُودُ الطَّاهِرَةُ الذَّكِيَّةُ وَالْمَدْبُوغَةُ فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهَا، وَالصَّلَاةِ فِيهَا وَعَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ لُبْسُ غَيْرِ الْجُلُودِ أَوْلَى، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ أَمَرَ بِنَزْعِ الْخِفَافِ وَالْفِرَاءِ عَنْ شُهَدَاءِ أُحُدٍ فَأَمَّا الْجُلُودُ النَّجِسَةُ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ الطَّاهِرَةِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْعَلَهَا جُنَّةً لِفَرَسِهِ، وَآلَةً لِسِلَاحِهِ، لِأَنَّهُ لَا تَعَبُّدَ عَلَى فَرَسٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَلْبَسَهَا، لَكِنْ لَا يُصَلِّي فِيهَا. لِأَنَّ تَوَقِّيَ النَّجَاسَةِ إِنَّمَا يَجِبُ لِلصَّلَاةِ، فَأَمَّا جِلْدُ مَا كَانَ نَجِسًا فِي حَيَاتِهِ كَالْكَلْبِ وَالْخِنْزِيرِ وَمَا تَوَلَّدَ بَيْنَهُمَا فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ بِحَالٍ لَا فِي آلَةِ السِّلَاحِ وَلَا فِي جُنَّةِ فَرَسٍ، لِأَنَّ الْكَلْبَ وَالْخِنْزِيرَ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا بِحَالٍ، إِلَّا مَا خُصَّ بِهِ الْكَلْبُ مِنْ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ حَيًّا فِي الصَّيْدِ، وَالْمَاشِيَةِ، فَكَانَ بَاقِي الِانْتِفَاعِ بِهِ عَلَى جُمْلَةِ التَّحْرِيمِ ".

(2/481)