الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب الجنائز
باب إغماض الميت
قال الشافعي رضي الله عنه " أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ أَوْلِيَاءُ الْمَيِّتِ أَنْ يَتَوَلَّى أَرْفَقُهُمْ بِهِ إِغْمَاضَ عَيْنَيْهِ بِأَسْهَلِ مَا يقدر عليه وأن يشد لَحْيَهُ الْأَسْفَلَ بِعِصَابَةٍ عَرِيضَةٍ وَيَرْبُطَهَا مِنْ فَوْقِ رأسه لئلا يسترخي لحيه الأسفل فينفتح فوه فلا ينطبق ويرد ذراعيه حتى يلصقهما ثم يمدهما بعضديه أو يردهما إلى فخذيه ويفعل ذلك بمفاصل ركبتيه ويرد فخذيه إلى بطنه ثم يمدهما ويلين أصابعه حتى يتباقى لينه على غاسله ويخلع عنه ثيابه ويجعل على بطنه سيف أو حديد ويسجى بثوب بغطي به جميع جسده ويجعل على لوح أو سرير ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْمَوْتَ حَتْمًا عَلَى عِبَادِهِ، وَمَصِيرًا لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، خَتَمَ بِهِ أَعْمَالَ الدُّنْيَا، وَافْتَتَحَ بِهِ جَزَاءَ الْآخِرَةِ، وَسَوَّى فِيهِ بَيْنَ مَنْ أَطَاعَهُ وَمَنْ عَصَاهُ {لِيَجْزِيَ الّذينَ أسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِين أحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) {النجم: 31) فَيَنْبَغِي لِمَنْ يُقِرُّ بِالْمَوْتِ أَنْ يَتَّعِظَ بِهِ، وَلِمَنِ اعْتَرَفَ بِالْآخِرَةِ أَنْ يَعْمَلَ لَهَا {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقاَلَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) {الزلزلة: 7، 8) .
وَرَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ " قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ عَزَ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ قَالَ: " مَنْ حَفِظَ الرَّأْسَ وَمَا حَوَى، وَالْبَطْنَ وَمَا وَعَى، وَتَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، وَذَكَرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، فقد استحى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ " وَيَخْتَارُ الْإِكْثَارَ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ لِأَنَّهُ أَبْعَثُ عَلَى الطَّاعَاتِ وَأَمْنَعُ مِنَ الْمَعَاصِي.

فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وثوابها
يُسْتَحَبُّ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " عائد المريض في محرف من محارف الْخَيْرِ إِلَى أَنْ يَعُودَ ".

(3/3)


وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " ما عَادَ مَرِيضًا شَيَّعَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ ملكٍ إِلَى أَنْ يَعُودَ ".
وَقَدْ عَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَعْدًا وَجَابِرًا وَعَادَ غُلَامًا يَهُودِيًّا.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعُودَ لِعِيَادَتِهِ جَمِيعَ الْمَرْضَى وَلَا يَخُصَّ بِهَا قَرِيبًا مِنْ بَعِيدٍ وَلَا صَدِيقًا مِنْ عَدُوٍّ، ليحرز بِهَا ثَوَابَ جَمِيعِهِمْ، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْعِيَادَةُ غِبًّا، وَلَا يُوَاصِلُهَا فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَغِبُّوا عِيَادَةَ الْمَرِيضِ أَوْ أَرْبِعُوا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَغْلُوبًا " وَيُكْرَهُ إِطَالَةُ الْعِيَادَةِ، لِمَا فِيهَا مِنْ إِضْجَارِ الْمَرِيضِ، فَإِنْ رَأَى في المريض إمارات الصحة وعلامات البرء دعاء لَهُ بِتَعْجِيلِ الْعَافِيَةِ، لِتَقْوَى بِذَلِكَ نَفْسُهُ، فَقَدْ عَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَعْدًا وَوَعَدَهُ بِالْعَافِيَةِ وَالْعُمْرِ وَإِنَّ اللَّهَ سَيَفْتَحُ عَلَى يَدَيْهِ، وَإِنْ رَأَى فِيهِ عَلَامَاتِ الْمَوْتِ ذَكَّرَهُ الْوَصِيَّةَ، وَأَمَرَهُ بِالتَّوْبَةِ، وَحَثَّهُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمَظَالِمِ بِالرِّفْقِ وَالْكَلَامِ اللَّطِيفِ ثُمَّ يُعَجِّلُ الِانْصِرَافَ فَإِذَا قَارَبَ أَنْ يَقْضِيَ حَضَرَهُ أَقْوَى أَهْلِهِ نَفْسًا، وَأَثْبَتُهُمْ عَقْلًا، وَلَقَّنَهُ الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَلَا إِضْجَارٍ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ".
وَرَوَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ كَانَ آخِرَ كَلَامِهِ قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ " ثُمَّ يُوَجِّهُهُ نَحْوَ الْقِبْلَةِ وَفِي كَيْفِيَّةِ تَوَجُّهِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُلْقَى عَلَى ظَهْرِهِ وَتَكُونُ رِجْلَاهُ فِي الْقِبْلَةِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُضْجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلًا بِوَجْهِهِ الْقِبْلَةَ، فَإِذَا مَاتَ تَوَلَّى مِنْهُ سَبْعَ خِصَالٍ:
أَوَّلُهَا: إِغْمَاضُ عَيْنَيْهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَغْمَضَ عَيْنَ ابْنِ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسَدِ وَقَالَ إِنَّ الْبَصَرَ يَتْبَعُ الرُّوحَ " وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَحْسَنُ فِي كَرَامَتِهِ وَأَبْلَغُ فِي جَمَالِ عِشْرَتِهِ، ولأن لا يُسْرِعَ إِلَيْهَا الْفَسَادُ، فَقَدْ قِيلَ إِنَّهَا آخِرُ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ الرُّوحُ وَأَوَّلُ مَا يُسْرِعُ إِلَيْهِ الْفَسَادُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُطَبِّقَ فَاهُ وَيَشُدَّ لَحْيَهُ الْأَسْفَلَ بِعِصَابَةٍ عَرِيضَةٍ وَيَرْبُطَهَا مِنْ فَوْقِ رأسه، لأن لا يَفْتَحَ فَاهُ فَيَقْبُحَ فِي عَيْنِ النَّاظِرِ إِلَيْهِ، ولأن لا يَلِجَ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْهَوَامِ.

(3/4)


وَالثَّالِثُ: أَنْ يُلَيِّنَ مَفَاصِلَهُ مِنْ يَدَيْهِ وَعَضُدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَفَخِذَيْهِ فَيَمُدَّهَا وَيَرُدَّهَا مَنْ لَهُ رِفْقٌ وسهولة لئلا تجسو فتقح، وَلِأَنْ تَبْقَى لَيِّنَةً عَلَى غَاسِلِهِ.
وَالرَّابِعُ: أَنْ يَخْلَعَ عَنْهُ ثِيَابَهُ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا خَرَجَتْ مِنْهُ نَجَاسَةٌ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا جَمَرَ فِيهَا فَتُغَيَّرُ.
وَالْخَامِسُ: أَنْ يَجْعَلَهُ عَلَى نَشَزٍ مِنَ الْأَرْضِ وَمَوْضِعٍ مرتفع من لوح أو سرير، لأن لا تُسْرِعَ إِلَيْهِ عُفُونَةُ الْأَرْضِ وَيَبْعُدَ عَنِ الْهَوَامِ.
وَالسَّادِسُ: أَنْ يُسَجَّى بِثَوْبٍ يُغَطَّى بِهِ جَمِيعُ بَدَنِهِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " سُجِّيَ بِثَوْبِ حِبَرَةٍ " وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ لِجَسَدِهِ، وَأَبْلَغُ فِي كَرَامَتِهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْطِفَ مَا فَضَلَ مِنْ طَرَفَيْهِ تَحْتَ رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ؛ لِكَيْ لَا يَنْكَشِفَ عَنْهُ إِنْ هَبَّتْ رِيحٌ.
وَالسَّابِعُ: أَنْ يُوضَعَ عَلَى بَطْنِهِ سَيْفٌ أَوْ حَدِيدَةٌ أو طين مبلول؛ لأن لا يَرْبُوَ فَيُنْفَخَ بَطْنُهُ فَيُقَبَّحَ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَتَوَلَّى الرِّجَالُ أَمْرَ الرِّجَالِ، وَالنِّسَاءُ أَمْرَ النِّسَاءِ، فَإِنْ تَوَلَّى خِلَافَ ذَلِكَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ مِنْ ذَوِي الْمَحَارِمِ جَازَ.

فَصْلٌ
: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُسْتَحَبُّ الْإِنْذَارُ بِالْمَيِّتِ وَإِشَاعَةُ مَوْتِهِ فِي النَّاسِ بِالنِّدَاءِ وَالْإِعْلَامِ؟ فَاسْتَحَبَّ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ؛ لِمَا فِي إِنْذَارِهِمْ مِنْ كَثْرَةِ الْمُصَلِّينَ عَلَيْهِ وَالدَّاعِينَ لَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ إِخْفَاءً لِأَمْرِهِ وَمُبَادَرَةً بِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْغَرِيبِ وَلَا يُسْتَحَبُّ لِغَيْرِهِ، وَبِهِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، لِأَنَّ الْغَرِيِبَ إِذَا لَمْ يُنْذَرِ النَّاسُ بِهِ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ.

(3/5)


بَابُ غُسْلِ الْمَيِّتِ وَغَسْلِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَالْمَرْأَةِ زوجها
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُفْضِي بِالْمَيِّتِ إِلَى مُغْتَسَلِهِ، وَيَكُونُ كَالْمُنْحَدَرِ قَلِيلًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَمَّا غُسْلُ الْمَوْتَى وَتَكْفِينُهُمْ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ وَدَفْنُهُمْ فَفَرْضٌ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْكُلُّ بِهِ مُخَاطَبُونَ، فَإِذَا قَامَ بِهِ بَعْضُهُمْ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنْ بَاقِيهِمْ، وَإِنْ لم يقم البعض خرج الْكُلُّ لِأَنَّ فُرُوضَ الْكِفَايَاتِ وَفُرُوضَ الْأَعْيَانِ قَدْ يَشْتَرِكَانِ فِي الِابْتِدَاءِ وَيَفْتَرِقَانِ فِي الْفِعْلِ، فَمَا كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ لَمْ يَلْزَمِ الْكُلَّ، وَيسقط عَنْهُمْ بِفِعْلِ الْبَعْضِ، وَمَا كَانَ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ يَلْزَمُ الْكُلَّ، فَإِذَا فَعَلَهُ الْبَعْضُ سقط من فَاعِلِهِ دُونَ غَيْرِهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى إِيجَابِ غُسْلِهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غَسْلُ مَوْتَاهَا وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا وَدَفْنُهَا ".

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غُسْلَ الْمَوْتَى فَرْضٌ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَالْفَضْلُ لِمَنْ قَامَ بِهِ دُونَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَلَوْ أَنَّ رُفْقَةً فِي طَرِيقٍ مِنْ سَفَرٍ فَمَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ فَلَمْ يُوَارُوهُ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي طَرِيقٍ آهِلٍ يَخْتَرِقُهُ النَّاسُ وَالْمَارَّةُ، أَوْ بِقُرْبِ قَرْيَةٍ أَوْ حِصْنٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ قَدْ أَسَاءُوا بِتَرْكِهِمُ الْفَضْلَ، وَتَضْيِيعِ حَقِّ أَخِيهِمْ، وَكَانَ عَلَى مَا يَقْرُبُ مِنْهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُوَارُوهُ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يُوَارُوهُ وَتَرَكُوهُ فِي صَحْرَاءَ أَوْ مَوْضِعٍ لَا يَمُرُّ بِهِ أَحَدٌ وَلَا يَجْتَازُ بِهِ أَهْلُ قَرْيَةٍ فَقَدْ أَثِمُوا وَعَصَوُا اللَّهَ تَعَالَى، وَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يُعَاقِبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِتَضْيِيعِهِمْ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتِخْفَافِهِمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ أَخِيهِمُ الْمُسْلِمِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونُوا فِي مَخَافَةٍ مِنْ عَدُوٍّ، وَيَخَافُونَ إِنِ اشْتَغَلُوا بِالْمَيِّتِ أَظَلَّهُمْ، فَالَّذِي يُخْتَارُ أَنْ يُوَارُوهُ مَا أَمْكَنَهُمْ، فَإِنْ تَرَكُوهُ لَمْ يَحْرَجُوا لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ضَرُورَةٍ.
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَلَوْ أَنَّ مُجْتَازِينَ مَرُّوا عَلَى مَيِّتٍ فِي الصَّحْرَاءِ فَقَدْ لَزِمَهُمُ الْقِيَامُ بِهِ، رَجُلًا كَانَ الْمَيِّتُ أَوِ امْرَأَةً، فَإِنْ تَرَكُوهُ حرجوا أو أثموا، ثُمَّ يُنْظَرُ فِي الْمَيِّتِ فَإِنْ كَانَ بِثِيَابِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَثَرُ غُسْلٍ وَلَا كَفَنٍ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُغَسِّلُوهُ، وَيُكَفِّنُوهُ، وَيُصَلُّوا

(3/6)


عَلَيْهِ، وَيَدْفِنُوهُ مَا أَمْكَنَ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ أثر الغسل والكفن والحنوط فإنهم يدفنوه، فَإِنِ اخْتَارُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ صَلَّوْا عَلَى قَبْرِهِ بَعْدَ دَفْنِهِ لِأَنَّ ظَاهِرَهُ أَنْ قَدْ صُلِّيَ عَلَيْهِ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا أُرِيدَ غُسْلُهُ لَمْ يُعَجَّلْ بِهِ حَتَّى يُتَحَقَّقَ مَوْتُهُ بِعَلَامَاتٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ، افْتِرَاقُ الزَّنْدَيْنِ، وَاسْتِرْخَاءُ الْعَضُدَيْنِ، وَمَيْلُ الْأَنْفِ، وَتَغْيِيرُ الرَّائِحَةِ، وَإِنْ كَانَ غَرِيقًا أَوْ حَرِيقًا أَوْ تَحْتَ هَدْمٍ، أَوْ مُتَرَدِّيًا مِنْ عُلُوٍّ فَأُحِبُّ أَنْ يُنْتَظَرَ بِهِ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكُونَ قَدْ زَالَ مِنْهُ عَقْلُهُ فَيَثُوبُ، فَإِذَا عُلِمَ مَوْتُهُ عَلَى الْيَقِينِ بُودِرَ بِغُسْلِهِ، وَأُفْضِيَ بِهِ إِلَى مُغْتَسَلِهِ، وَلَا يُنْتَظَرُ بِهِ قُدُومُ غَائِبٍ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ أَسْفَلُ الْمُغْتَسَلِ مُنْحَدِرًا وَرَأْسُهُ أَعْلَى، لِكَيْ يَنْفَصِلَ عَنْهُ الماء.

مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُعَادُ تَلْيِينُ مَفَاصِلِهِ وَيُطْرَحُ عَلَيْهِ مَا يُوَارِي مَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى سُرَّتِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا إِعَادَةُ تَلْيِينِ مَفَاصِلِهِ فَلَمْ يُوجَدْ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي شَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ إِلَّا فِيمَا حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ، وَهَذَا دُونَ جَامِعِهِ، وَتَرْكُ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ فِعْلِهِ، لِتَمَاسُكِ أَعْضَائِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ أَعَادَ تَلْيِينَ مَفَاصِلِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ، لَا وَقْتَ غُسْلِهِ، لِتَبْقَى لَيِّنَةً عَلَى غَاسِلِهِ، فَإِنْ أَعَادَ تَلْيِينَ مَفَاصِلِهِ وَقْتَ غُسْلِهِ جَازَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسَّلَ فِي قَمِيصٍ رَقِيقٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ لَهُ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي غُسْلِهِ فَقَالَ قَوْمٌ يُغَسَّلُ فِي ثِيَابِهِ، وَقَالَ قومٌ لَا يُغَسَّلُ فِيهَا فَغَشِيَنَا النُّعَاسُ، فَسَمِعْنَا هَاتِفًا يَهْتِفُ فِي الْبَيْتِ وَلَا نَرَاهُ يَقُولُ أَلَا غَسِّلُوهُ فِي قَمِيصِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَغُسِّلَ فِي الْقَمِيصِ، فَإِنْ لم يكن غُسْلُهُ فِي الْقَمِيِصِ لِصَفَاقَتِهِ سُتِرَ مِنْهُ قَدْرُ عَوْرَتِهِ، وَذَلِكَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ، لِأَنَّ حُكْمَ عَوْرَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ كَحُكْمِ عَوْرَتِهِ فِي حَيَاتِهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِعَلِيٍّ: " لَا تَنْظُرْ لِفَخِذِ حي وَلَا مَيِّتٍ ".
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " حرمة المسلم بعد موته كحرمته قَبْلَ مَوْتِهِ وَكَسْرُ عَظْمِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَكَسْرِهِ قبل موته ".

مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " ويستر موضعه الَّذِي يُغَسَّلُ فِيهِ فَلَا يَرَاهُ أَحَدٌ إِلَّا غَاسِلُهُ وَمَنْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مَعُونَتِهِ عَلَيْهِ وَيَغُضُّونَ أَبْصَارَهُمْ عَنْهُ إِلَّا فِيمَا لَا يُمْكِنُ غَيْرُهُ لِيَعْرِفَ الْغَاسِلُ مَا غُسِلَ وَمَا بقي ".

(3/7)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَنْبَغِي أَنْ يُرْتَادَ لِغُسْلِ الْمَيِّتِ مَوْضِعٌ مَسْتُورٌ لِيَخْفَى عَنْ أَبْصَارِ النَّاسِ فَلَا يُشَاهِدُوهُ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يُخْتَارُ غُسْلُهُ تَحْتَ سَقْفٍ أَوْ سَمَاءٍ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: تَحْتَ سَقْفٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْوَنُ لَهُ وَأَحْرَى، وَقَالَ آخَرُونَ: تَحْتَ السَّمَاءِ لِتَنْزِلَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْغَاسِلِ إِنْ أَمْكَنَهُ تَرْكُ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ أَنْ يَفْعَلَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ اسْتَعَانَ بِمَنْ يَثِقُ بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، وَيَقِفُ حَيْثُ لَا يَرَى الْمَيِّتَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ إِلَّا الدُّنُوُّ مِنْهُ دَنَا وَغَضَّ طَرْفَهُ وَبَصَرَهُ، فَأَمَّا الْغَاسِلُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَوْثُوقًا بِدِينِهِ وَأَمَانَتِهِ، عَارِفًا بِغُسْلِهِ وَنَظَافَتِهِ، غَاضًّا طَرْفَهُ وَبَصَرَهُ حَسَبَ طَاقَتِهِ وَإِمْكَانِهِ، لِكَيْمَا يُشَاهِدَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَيِّتِ سَاتِرًا عليه.

مسألة
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيَتَّخِذُ إِنَاءَيْنِ: إِنَاءً يَغْرِفُ بِهِ مِنَ الْمَاءِ الْمَجْمُوعِ فَيَصُبُّ فِي الْإِنَاءِ الَّذِي يَلِي الْمَيِّتَ، فَمَا تَطَايَرَ مِنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ إِلَى الْإِنَاءِ الَّذِي يَلِيهِ لَمْ يُصِبِ الْآخَرَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ يُخْتَارُ اتِّخَاذُ إِنَاءَيْنِ كَبِيرٌ بِالْبُعْدِ، وَصَغِيرٌ بِالْقُرْبِ، وَإِنَاءٌ يَغْتَرِفُ بِهِ مِنَ الْكَبِيرِ وَيَصُبُّهُ فِي الصَّغِيرِ، حَتَّى لَا يَفْسُدَ الْمَاءُ بِمَا يَتَطَايَرُ مِنْ غُسْلِهِ، وَوَجْهُ فَسَادِهِ إِمَّا بِكَثْرَةِ مَا يَتَطَايَرُ مِمَّا يَنْفَصِلُ مِنْ غُسْلِهِ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَعْمَلًا، وَإِمَّا لِنَجَاسَةٍ تَخْرُجُ مِنْهُ تُنَجِّسُ مَا انْفَصَلَ عَنْهُ وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ الْأَنْمَاطِيُّ وَأَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ بَلْ ذَلِكَ لِنَجَاسَةِ الْمَيِّتِ، فَذَهَبَا إِلَى تَنْجِيسِهِ اسْتِدْلَالًا بِذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِهِ، وَلِأَنَّ مَا انْفَصَلَ مِنْ أَعْضَائِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ نَجِسٌ لِفَقْدِ الْحَيَاةِ، فَكَذَلِكَ جُمْلَتُهُ بَعْدَ الْوَفَاةِ.
وَذَهَبَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا: إِلَى طَهَارَةِ الْمَيِّتِ كَطَهَارَةِ الْحَيِّ، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي كِتَابِ الْأُمِّ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} (الإسراء: 70) فَلَمَّا طُهِّرُوا أَحْيَاءً لِأَجْلِ الْكَرَامَةِ وَجَبَ أَنْ يُخَصُّوا بِهَا أَمْوَاتًا لِأَجْلِ الْكَرَامَةِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تُنَجِّسُوا مَوْتَاكُمْ " وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْمُؤْمِنُ لَا يَنْجُسُ " وَقَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ بَعْدَ مَوْتِهِ وَدُمُوعُهُ تَجْرِي عَلَى خَدِّهِ فَلَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا قَبَّلَهُ مَعَ رُطُوبَتِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ نَجِسًا لَمَا تَعَبَّدْنَا بِغَسْلِهِ، لَأَنَّ غَسْلَ مَا هُوَ نَجِسُ الْعَيْنِ يَزِيدُ تَنْجِيسًا وَلَا يُفِيدُهُ الْغُسْلُ تَطْهِيرًا، فَأَمَّا مَا انْفَصَلَ مِنْ أَعْضَائِهِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَقَدْ كَانَ الصَّيْرَفِيُّ يَحْكُمُ بِطَهَارَتِهِ أَيْضًا،

(3/8)


وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَجِسٌ وَلَا يَصِحُّ اعْتِبَارُ الْمَيِّتِ بِهِ لِضَعْفِهِ عَنْ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إِذَا انْفَصَلَ مِنَ الْحَيِّ، وَلَوْ وُجِدَ لِلْمَيِّتِ طَرَفٌ مُنْفَصِلٌ صُلِّيَ عليه.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَغَيْرُ الْمُسَخَّنِ مِنَ الْمَاءِ أَحَبُّ إِلَيَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بردٌ أَوْ يَكُونَ بِالْمَيِّتِ مَا لا ينقيه إلا المسخن فيغسل به ويغسل في قميص ولا يمس عورة الميت بيده ويعد خرقتين نظيفتين لذلك قبل غسله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
إِنَّمَا اخْتَرْنَا الْمُسَخَّنَ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ، وَلِأَنَّ الْمُسَخَّنَ يُرْخِي لَحْمَ الْمَيِّتِ، وَالْبَارِدَ يَشُدُّ لَحْمَهُ وَيُقَوِّيهِ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ بِهِ ضَرُورَةٌ لِتَسْخِينِهِ، لِشِدَّةِ الْبَرْدِ الْمَانِعِ مِنَ اسْتِعْمَالِهِ، أَوْ يَكُونُ بِالْمَيِّتِ مِنَ الْوَسَخِ مَا لَا يَعْمَلُ الْبَارِدُ فِي إِزَالَتِهِ، فَلَا بَأْسَ بِتَسْخِينِ الْمَاءِ وَتَغْيِيرِهِ، وَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مِلْحًا مِنْ مَوْضِعٍ وَاسِعٍ كَثِيرِ الْحَرَكَةِ وَالْجَرَيَانِ، وَيُغَسَّلَ فِي قَمِيصٍ لِمَا ذَكَرْنَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سُتِرَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ، وَلَا يَمَسُّ الْغَاسِلُ عَوْرَتَهُ بِيَدِهِ، وَيَغْسِلُهَا بِالْخِرْقَةِ الَّتِي يَلُفُّهَا عَلَى يَدِهِ، وَيُعِدُّ خِرْقَتَيْنِ نَظِيفَتَيْنِ قَبْلَ غَسْلِهِ، إِحْدَاهُمَا لِعَوْرَتِهِ وَالْأُخْرَى لِجَمِيعِ بَدَنِهِ، وَقِيلَ بَلِ الخرقتان مَعًا لِعَوْرَتِهِ، لِيَكُونَ إِذَا ألقى أحديهما وَاتَّخَذَ الْأُخْرَى غَسَلَ الْأُولَى؛ لِيَعُودَ إِلَى اسْتِعْمَالِهَا ولا ينتظر غسلها فيطول.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُلْقِي الْمَيِّتَ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ يَبْدَأُ غَاسِلُهُ فَيُجْلِسُهُ إِجْلَاسًا رَفِيقًا وَيُمِرُّ يَدَهُ عَلَى بَطْنِهِ إمراراً بليغاً والماء يصب عليه ليخفى شيء إن خرج منه وعلى يده إحدى الخرقتين حتى ينقي ما هنالك ثم يلقها لتغسل ثم يأخذ الأخرى ثم يبدأ فيدخل أصبعه في فيه بين شفتيه ولا يفغر فاه فيمرها على أسنانه بالماء ويدخل طرف إصبعيه في منخريه بشيء من ماء فينقى شيئاً إن كان هناك ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ الْغَاسِلُ بَعْدَ إِلْقَاءِ الْمَيِّتِ عَلَى ظَهْرِهِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ.
أَوَّلُهَا: أَنْ يُجْلِسَهُ إِجْلَاسًا رَفِيقًا مِنْ غَيْرِ عَجَلَةٍ وَلَا عُنْفٍ وَيَكُونُ جُلُوسًا مَائِلًا إِلَى ظَهْرِهِ، وَلَا يَكُونَ مُعْتَدِلًا فَيَحْتَبِسَ الْخَارِجُ مِنْهُ، ثُمَّ يُمِرُّ يَدَهُ عَلَى بَطْنِهِ إِمْرَارًا بَلِيغًا فِي التَّكْرَارِ لَا فِي شِدَّةِ الِاجْتِهَادِ، وَالْمَاءُ يُصَبُّ مِنْ خَلْفِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ لِيَخْفَى شَيْءٌ إِنْ خَرَجَ مِنْهُ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ مَعْنَى قَوْلِهِ " لِيَخْفَى " لِيَظْهَرَ شَيْءٌ إِنْ خَرَجَ مِنْهُ، وَهَذَا تَكَلُّفٌ وَعُدُولٌ عَنْ مَعْنَى الظَّاهِرِ، ثُمَّ يَأْخُذُ إِحْدَى الْخِرْقَتَيْنِ فَيُنْجِيهِ بِهَا مِنْ قُبُلِهِ وَدُبُرِهِ، فَإِنْ أَنْقَى ذَلِكَ أَلْقَى الْخِرْقَةَ تُغْسَلُ وَأَخَذَ الْأُخْرَى وَاسْتَعْمَلَهَا على

(3/9)


أحد الوجهين في إنقاء أسفله، وأنجا قُبُلَهُ وَدُبُرَهُ وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَلْقَى عَلَى يَدِهِ، وَيَسْتَعْمِلُهُمَا فِي فَمِهِ وَأَعْلَى جَسَدِهِ، وَيُمِرُّهَا عَلَى أَسْنَانِهِ لِيُزِيلَ أَذًى إِنْ كَانَ بِهَا، وَلَا يَفْغَرُ فَاهُ لِمَا لَا يُؤْمَنُ أَنْ يَكْسِرَ لَهُ عَظْمًا، أَوْ يُفْسِدَ لَهُ عُضْوًا.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُوَضِّئُهُ وُضُوءَ الصَّلَاةِ، وَيَغْسِلُ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ حَتَّى ينقيهما ويسرحهما تسريحاً رفيقاً ".
وَهَذَا يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءٍ أَيْضًا:
فَأَحَدُهَا: وَهُوَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ بَعْدَ مَا ذَكَرْنَا أن يوضئه وضوءه للصلاة فيمضمضه وينشفه مِنْ غَيْرِ مُبَالَغَةٍ فِيهِمَا جَمِيعًا، وَيَغْسِلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَيَمْسَحَ بِرَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ، وَيَغْسِلَ رِجْلَيْهِ اقْتِدَاءً بِالسَّلَفِ وَتَشْبِيهًا بِالْحَيِّ، ثُمَّ يَغْسِلُ شَعْرَ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ، لِأَنَّ رَأْسَهُ أَشْرَفُ جَسَدِهِ وَأَوْلَى مَا ابْتُدِئَ بِهِ ثُمَّ يُسَرِّحُ لِحْيَتَهُ تَسْرِيحًا رَفِيقًا بِمُشْطٍ وَاسِعِ الْأَسْنَانِ، وَإِنْ كَانَ شَعْرُ رَأْسِهِ مُلَبَّدًا سَرَّحَهُ أَيْضًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اصْنَعُوا بِمَيِّتِكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُغَسِّلُهُ مِنْ صَفْحَةِ عُنُقِهِ الْيُمْنَى وَشِقِّ صَدْرِهِ وَجَنْبِهِ وَفَخِذِهِ وَسَاقِهِ ثُمَّ يَعُودُ إِلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ فَيَصْنَعُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ثُمَّ يَحْرِفُهُ إِلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ فَيَغْسِلُ ظَهْرَهُ وَقَفَاهُ وفخذه وساقه اليمنى وهو يراه متمكناً ثم يحرفه إلى شقه الأيمن فيصنع به مثل ذلك ويغسل ما تحت قدميه وما بين فخذيه وإليتيه بالخرقة ويستقصي ذلك ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى جَمِيعِهِ الْمَاءَ الْقَرَاحَ وَأُحِبُّ أن يكون فيه كافور (قال) وأقل غسل الميت فيما أحب ثلاثاً فإن لم يبلغ الإنقاء فخمساً لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال لمن غسل ابنته " اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو أكثر إن رأيتن ذلك بماء وسدر واجعلن فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كافورٍ " (قال) ويجعل في كل ماءٍ قراحٍ كافوراً وإن لم يجعل إلا في الآخرة أجزأه ويتتبع ما بين أظافره بعودٍ ولا يخرج حتى يخرج ما تحتها من الوسخ وكلما صب عليه الماء القراح بعد السدر حسبه غسلاً واحداً ويتعاهد مسح بطنه في كل غسلةٍ ويقعده عند آخر غسلة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ فِي غُسْلِهِ بَعْدَ تَسْرِيحِ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِمَيَامِنِ جَسَدِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال لأم عطية حين غسلت بنته: " ابْدَئِي بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا ".

(3/10)


وَيُلْقِيهِ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ وَيَغْسِلُ الْأَيْمَنَ وَيَبْدَأُ بِصَفْحَةِ عُنُقِهِ الْيُمْنَى وَيَدِهِ وَشِقِّ صَدْرِهِ وَجَنْبِهِ وَفَخِذِهِ وَسَاقِهِ، وَيَغْسِلُ مَا تَحْتَ قَدَمِهِ، ثُمَّ يُلْقِيهِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ وَيَغْسِلُ شِقَّهُ الْأَيْسَرَ عَلَى مَا وَصَفْتُ، وَيَغْسِلُ مَا بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى جَمِيعِ جَسَدِهِ، وَمَا كَانَ يَغْسِلُهُ حَيًّا فِي جَنَابَتِهِ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِمَاءِ السِّدْرِ، وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنَ الْخِطْمِيِّ، لِأَنَّهُ أَمْسَكُ لِلْبَدَنِ وَأَقْوَى لِلْجَسَدِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ كَانَ بِهِ وَسَخٌ مُتَلَبِّدٌ رَأَيْتُ أَنْ يُغَسَّلَ بِأُشْنَانٍ، وَيَرْفُقَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، فَإِذَا غَسَّلَهُ بِالسِّدْرِ صَبَّ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ الْمَاءَ الْقَرَاحَ، وَكَانَ الِاجْتِنَابُ بِمَاءِ الْقَرَاحِ دُونَ مَاءِ السِّدْرِ، فَإِنِ احْتَاجَ إِلَى غَسْلِهِ ثَانِيًا بِالسِّدْرِ فَعَلَ، وَإِنِ اكْتَفَى بِالْأَوَّلِ لَمْ يَعُدْ إِلَيْهِ وَاقْتَصَرَ عَلَى غَسْلِهِ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ، فَإِنْ غَسَّلَهُ بِالسِّدْرِ فِي كُلِّ دُفْعَةٍ وَأَفَاضَ بَعْدَهُ مَاءَ الْقَرَاحِ جَازَ، وَكَانَ الِاجْتِنَابُ بِمَاءِ الْقَرَاحِ دُونَ مَاءِ السِّدْرِ، وَالْوَاجِبُ غَسْلُهُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَأَدْنَى كَمَالِهِ ثَلَاثًا وَأَوْسَطُهُ خَمْسًا، وَأَكْثَرُهُ سَبْعًا، وَالزِّيَادَةُ عَلَيْهَا سَرَفٌ.

فَصْلٌ
: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِي الْمَاءِ الْقَرَاحِ كَافُورًا يَسِيرًا لَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ فَيَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَيْهِ لَمْ يُحْتَسَبْ به في عداد غسلانه.
وَمَنَعَ أبو حنيفة مِنَ اسْتِعْمَالِ الْكَافُورِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَنَّهُ قَالَ لِأُمِّ عَطِيَّةَ الْخَفَّاضِيَّةِ حِينَ غَسَّلَتْ بنته اغْسِلِيهَا ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ إِنْ رَأَيْتُنَّ ذَلِكَ بِمَاءٍ وسدرٍ، وَاجْعَلِي فِي الْآخِرَةِ كَافُورًا أَوْ شَيْئًا مِنْ كَافُورٍ ".
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُتْبِعُ مَا بَيْنَ أَظْفَارِهِ بِعُودٍ لَا يَجْرَحُ، حَتَّى يُخْرِجَ مَا تَحْتَهَا مِنَ الْوَسَخِ، وَإِنَّمَا اسْتُحِبَّ هَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَنْظِيفِ الْمَيِّتِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اصْنَعُوا بِمَيِّتِكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ ".
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَتَعَاهَدُ مَسْحَ بَطْنِهِ فِي كُلِّ غَسْله، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ حَمَلَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَأَمَرَ أَنْ يَتَعَاهَدَ مَسْحَ بَطْنِهِ بِيَدِهِ وَهُوَ غَيْرُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي وَقْتِنَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أراد بالتعاهد تفقد الموضع الممسوس، لأن لا يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ فَيُفْسِدَهُ، وَلَمْ يُرِدْ مُعَاهَدَةَ مسحه بيده.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ شيءٌ أَنْقَاهُ بِالْخِرْقَةِ كَمَا وصفت وأعاد عليه غسله ثم ينشف في ثوب ثم يصير في أكفانه وإن غسل بالماء القراح مرةً أجزأه ".

(3/11)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَصُورَةُ ذَلِكَ: أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ بَعْدَ كَمَالِ غَسْلِهِ خَارِجٌ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: يُعِيدُ غُسْلَهُ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنَّ الْخَارِجَ نَاقِضٌ لِحُكْمِ غَسْلِهِ، وَلَيْسَ لِلْمَيِّتِ طَهَارَةٌ غَيْرَ غُسْلِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَغْسِلَ النَّجَاسَةَ وَيُوَضِّئَهُ كَالْحَيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: يَغْسِلُ مَوْضِعَ النَّجَاسَةِ لَا غَيْرَ، وَبِهِ قَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وأبي حنيفة لِاسْتِقْرَارِ غُسْلِهِ وَاسْتِحَالَةِ الْحَدَثِ فِيهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: ثُمَّ يُنَشِّفُهُ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ يَصِيرُ فِي أَكْفَانِهِ، وَإِنَّمَا أُمِرَ بِذَلِكَ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نُشِّفَ فِي ثَوْبٍ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَمْسَكُ لِبَدَنِهِ وأوفى لكفنه.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ رَأَى حَلْقَ الشَّعْرِ وَتَقْلِيمَ الأظفار ومنهم من لم يره (قال المزني) وتركه أعجب إليّ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى بِلًى عَنْ قَلِيلٍ وَنَسْأَلُ الله حسن ذلك المصير ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا أَخْذُ شَعْرِهِ وَتَقْلِيمُ ظُفُرِهِ فَغَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ إِذَا كَانَ يَسِيرًا، وَإِنْ طَالَ ذَلِكَ وَفَحُشَ فَأَخْذُهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، وَفِي اسْتِحْبَابِهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ: إِنَّ أَخْذَهُ مَكْرُوهٌ وَتَرْكَهُ أَوْلَى، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالْمُزَنِيِّ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْخِتَانُ الْوَاجِبُ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَا يُفْعَلُ بَعْدَ الْوَفَاةِ كَانَ هَذَا أَوْلَى، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَصَلَ عَظْمَهُ بِعَظْمٍ نَجِسٍ كَانَ مَأْخُوذًا بِقَلْعِهِ فِي الْحَيَاةِ وَلَا يُؤْمَرُ بِقَلْعِهِ بَعْدَ الْوَفَاةِ، فَهَذَا أَوْلَى، قَالَ الْمُزَنِيُّ لِأَنَّهُ يَصِيرُ إِلَى بِلًى عَنْ قَلِيلٍ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ خَيْرَ ذَلِكَ الْمَصِيرِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْجَدِيدِ إنَّ أَخْذَهُ مُسْتَحَبٌّ وَتَرْكَهُ مَكْرُوهٌ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اصْنَعُوا بِمَيِّتِكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ، وَلِأَنَّ تَنْظِيفَ سِنٍّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ مِنْ غَيْرِ أَلَمٍ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَبَّ بَعْدَ الْوَفَاةِ كَإِزَالَةِ الْأَنْجَاسِ، فَعَلَى هَذَا يُخْتَارُ أَنْ يُؤْخَذَ شَعْرُ عَانَتِهِ وَإِبِطَيْهِ بِالنَّوْرَةِ لَا بِالْمُوسَى، لِأَنَّ ذَلِكَ أَرْفَقُ بِهِ، وَيُقَصِّرُ شَعْرَ شَارِبِهِ وَلَا يَحْلِقُ، وَيَتْرُكُ لِحْيَتَهُ وَلَا يَمَسَّهَا، فَأَمَّا شَعْرُ رَأْسِهِ فَإِنْ كَانَ ذَا جُمَّةٍ فِي حَيَاتِهِ تُرِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَا جُمَّةٍ حُلِقَ وَيُقَلِّمُ أَظْفَارَ أَطْرَافِهِ، ثُمَّ حُكِيَ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ ذَلِكَ يُدْفَنُ مَعَهُ، وَالِاخْتِيَارُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِيهِ خَبَرٌ يُعْمَلُ عَلَيْهِ وَلَا أَثَرٌ يُسْتَنَدُ إليه.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُقَرِّبُ الْمُحْرِمَ الطِّيبَ فِي غُسْلِهِ وَلَا حنوطه ولا يخمر رأسه لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما ولا تخمروا رأسه "

(3/12)


ولقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا " وإن ابنا لعثمان توفي محرماً فلم يخمر رأسه ولم يقربه طيباً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ كَمَا قَالَ:
الْإِحْرَامُ لَا يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ، فَإِذَا مَاتَ الْمُحْرِمُ لَمْ يُغَطَّ رَأْسُهُ، وَلَمْ يُمَسَّ طِيبًا، وَلَمْ يُلْبَسْ مَخِيطًا، وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ: عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ: عَطَاءٌ.
وَمِنَ الْفُقَهَاءِ: سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ أبو حنيفة، وَمَالِكٌ: قَدِ انْقَطَعَ عَنْهُ إِحْرَامُهُ بِالْمَوْتِ، وَجَازَ تَطْيِيبُهُ وَتَغْطِيَةُ رَأْسِهِ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: " خمروا مَوْتَاكُمْ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ " وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صدقةٍ جاريةٍ، وعلمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، وولدٍ صالحٍ يَدْعُو لَهُ " فَدَلَّ عَلَى انْقِطَاعِ إِحْرَامِهِ.
قَالُوا وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ شَرْعِيَّةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَسْقُطَ حُكْمُهَا بِالْمَوْتِ كَالصَّلَاةِ، قَالُوا وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ يَتَعَلَّقُ بِهَا تَحْرِيمُ الطِّيبِ فَوَجَبَ أَنْ يَنْقَطِعَ حُكْمُهَا بِالْمَوْتِ كَالْعِدَّةِ، قَالُوا وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حُكْمُ إِحْرَامِهِ بَاقِيًا بَعْدَ مَوْتِهِ لَوَجَبَتِ الْفِدْيَةُ فِي تَطْيِيبِهِ وَتَغْطِيَةِ رَأْسِهِ، كَمَنْ طَيَّبَ مَجْنُونًا مُحْرِمًا، فَلَمَّا لَمْ تَجِبِ الْفِدْيَةُ عَلَى مَنْ فَعَلَ بِهِ دَلَّ عَلَى انْقِطَاعِ إِحْرَامِهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا: رِوَايَةُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: " كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَخَرَّ رَجُلٌ عَنْ بَعِيرِهِ فَوُقِصَ فَمَاتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اغْسِلُوهُ بماءٍ وسدرٍ وَكَفِّنُوهُ فِي ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ مَاتَ فِيهِمَا، وَلَا تُقَرِّبُوهُ طِيبًا فَإِنَهُ يُبْعَثُ يوم القيامة ملبياً ".
فإن قيل: فقد عَلَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذلك بأنه قَالَ: " يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا " وَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِهِ، وَلَيْسَ يُعْلَمُ هَلْ يُبْعَثُ غَيْرُهُ مُلَبِّيًا أَمْ لَا؟ قُلْنَا: إِنَّمَا عَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هذا الحكم بموته محرماً لا لِأَنَّهُ يُبْعَثُ مُلَبِّيًا، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ مَاتَ مُحْرِمًا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال " حرمةُ المسلم بعد موته كحرمته قبل

(3/13)


مَوْتِهِ، وَكَسْرُ عَظْمِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَكَسْرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ " فَسَوَّى بَيْنَ حُرْمَتِهِمَا فَاقْتَضَى تَسَاوِي حُكْمِهِمَا.
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " يُحْشَرُ الْمَرْءُ فِي ثَوْبَيْهِ اللَّذَيْنِ مَاتَ فِيهِمَا " قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يُحْشَرُ فِي عَمَلِهِ الصَّالِحِ وَالطَّالِحِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى ثُبُوتِ إِحْرَامِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِالْجُنُونِ فَجَازَ أَنْ يَبْقَى بَعْضُ أَحْكَامِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ ثَبَتَتْ حُكْمًا، يَفْعَلُهُ تَارَةً وَيَفْعَلُ غَيْرَهُ أُخْرَى فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ حُكْمُهَا بِالْمَوْتِ كَالْإِيمَانِ، وَلِأَنَّهُ مَعْنًى يُزِيلُ التَّكْلِيفَ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَبْطُلَ حُكْمُ الْإِحْرَامِ كالإغماء والجنون، ولأنه ليس محرم فِي حَيَاتِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَزُولَ تَحْرِيمُهُ بِوَفَاتِهِ كَالْحَرِيرِ وَالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خَمِّرُوا رُءُوسَ مَوْتَاكُمْ " فَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ سِوَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّهُ قَالَ وَلَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَلَيْسَ فِي الْيَهُودِ مُحْرِمٌ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وإذا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ " فَهُوَ أَنَّ هَذَا لَوْ لَزِمَنَا فِي سَائِرِ الْمُحْرِمِينَ لَلَزِمَهُمْ فِي الْمُحْرِمِ الَّذِي حَكَمَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ لَا يُغَطَّى رَأْسُهُ، فَلَمَّا لَمْ يَمْتَنِعْ لَهُمْ تَخْصِيصُ ذَلِكَ الْمُحْرِمِ لَمْ يَمْتَنِعْ لَنَا تَخْصِيصُ سَائِرِ الْمُحْرِمِينَ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ رُوِيَ فِي خَبَرٍ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ خَمْسٍ ذَكَرَ فِيهَا حَجٍّ يُؤَدَّى وَدِينٍ يُقْضَى، فَثَبَتَ بنص الخير تَخْصِيصُ الْمُحْرِمِ.
وَأَمَّا قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّلَاةِ، فَالْمَعْنَى فِي الصَّلَاةِ: أَنَّهَا تَبْطُلُ بِالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهَا نَصٌّ، وَلِأَصْحَابِنَا فِيهَا اخْتِلَافٌ، عَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّ حُكْمَ الْعِدَّةِ بَاقٍ، فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ سُؤَالُهُمْ، وَعَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا قَدِ انْقَطَعَ حُكْمُ الْعِدَّةِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْإِحْرَامِ أَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ عَلَى بَدَنٍ فَانْقَطَعَ حُكْمُهُ بِالْمَوْتِ وَالْإِسْلَامِ، وَأَمَّا سُقُوطُ الْعِدَّةِ فَلِأَجْلِ عَدَمِ الِاسْتِمْتَاعِ، وَتَحْرِيمُ الطِّيبِ بَاقٍ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ، كَالْمَيِّتِ يَحْرُمُ تَكْسِيرُ عَظْمِهِ لِبَقَاءِ حُرْمَتِهِ، وَسَقَطَ إرشه لزوال منفعته.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ بِقُرْبِ الْمَيِّتِ مِجْمَرَةٌ لَا تَنْقَطِعُ حَتَى يَفْرُغَ مِنْ غَسْلِهِ فَإِذَا رَأَى مِنَ الْمَيِّتِ شَيْئًا لَا يَتَحَدَّثُ بِهِ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ سِتْرِ أَخِيهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا اسْتِحْدَاثُ الْمِجْمَرِ مِنْ حِينِ غَسْلِهِ إِلَى وَقْتِ الْفَرَاغِ مِنْهُ: فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " اصْنَعُوا بِمَيِّتِكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ " وَلِيَقْطَعَ رَائِحَةً إن ندرت مِنْهُ، صِيَانَةً لَهُ، وَمَنْعًا مِنْ أَذَى مَنْ حَضَرَهُ، وَأَمَّا كِتْمَانُهُ لِمَا يَرَى مِنْ تَغْيِيرِ الْمَيِّتِ وَسُوءِ أَمَارَةٍ فَمَأْمُورٌ بِهِ لَا يَحِلُّ لِلْغَاسِلِ أَنْ يَتَحَدَّثَ بِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " مَنْ غَسَّلَ مَيِّتًا فَكَتَمَ عَلَيْهِ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ أَرْبَعِينَ

(3/14)


مَرَّةً " فَأَمَّا مَا يَرَى مِنْ مَحَاسِنِهِ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَأْمُرُ بِسِتْرِهَا وَيَمْنَعُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِهَا لِأَنَّهَا رُبَّمَا كَانَتْ عِنْدَهُ مَحَاسِنَ وَعِنْدَ غَيْرِهِ مَسَاوِئَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِذَاعَتِهَا وَمَنْدُوبٌ إِلَى الْإِخْبَارِ بِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَبْعَثُ عَلَى كَثْرَةِ الدُّعَاءِ لَهُ وَالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ يَذْكُرُ مِنْ أَحْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي غُسْلِهِ مَا رَآهُ مِنَ النُّورِ وَشَمَّهُ مِنْ رَوَائِحِ الْجَنَّةِ وَمَا كَانَ مِنْ مَعُونَةِ الملائكة.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَوْلَاهُمْ بِغُسْلِهِ أَوْلَاهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا إِذَا كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا فَأَوْلَى أَهْلِهِ أَنْ يُغَسِّلَهُ أَوْلَاهُمْ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ، فَيَكُونُ أَقْرَبُ عِصَابَتِهِ أَوْلَى بِغُسْلِهِ مِنْ زَوْجَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً: فَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ ذَاتِ زَوْجٍ فَأَحَقُّ عِصَابَتِهَا بِغَسْلِهَا أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ فَعَلَى وجهن:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْعَصَبَةَ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا أَوْلَى بِغَسْلِهَا مِنَ الزَّوْجِ لِأَنَّهُمْ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ وَبِهِ قَالَ: إِنَّ الزَّوْجَ أَحَقُّ بِغَسْلِهَا وَإِنْ كَانَ عَصَبَتُهَا أَحَقَّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا، لِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا ما ليس للعصبات النظر إليه.

مسألة المرأة تغسل زوجها الميت
مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ويغسل الرجل امرأته والمرأة زوجها غسلت أسماء بنت عميس زوجها أبا بكر الصديق رضي الله عنه. وعلي امرأته فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقالت عائشة لَوِ اسْتَقْبَلْنَا مِنْ أَمْرِنَا مَا اسْتَدْبَرْنَا مَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلا نساؤه (قال) وليس للعدة معنىً يحل لأحدهما فيها ما لا يحل له من صاحبه ".
قال الماوردي: وهذا صحيح: أما الزوجة فلها أَنْ تُغَسِّلَ زَوْجَهَا إِذَا مَاتَ، لَا يُعْلَمُ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ، لِمَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: " أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُغَسِّلَهُ زَوْجَتُهُ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ وَقَالَ: إِنْ كُنْتِ صَائِمَةً فَأَفْطِرِي "، وَيُعِينُكِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي

(3/15)


بِكْرٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَغَسَّلَتْهُ وَهِيَ صَائِمَةٌ ثُمَّ ذَكَرَتْ عَزْمَةَ أَبِي بَكْرٍ فَدَعَتْ بِمَاءٍ فَشَرِبَتْهُ وَقَالَتْ: كِدْتُ أُتْبِعُهُ مَعْصِيَةً.
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " لَوِ اسْتَقْبَلْنَا مِنْ أَمْرِنَا مَا اسْتَدْبَرْنَا مَا غَسَّلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا نِسَاؤُهُ " فَأَمَّا إِذَا مَاتَتِ الزَّوْجَةُ فَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ لِزَوْجِهَا أَنْ يُغَسِّلَهَا أَمْ لَا؟
فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ إِلَى جَوَازِ ذَلِكَ.
وَقَالَ أبو حنيفة، وَالثَّوْرِيُّ: لَا يَجُوزُ لَهُ غُسْلُهَا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى امرئٍ يَنْظُرُ إِلَى فَرْجِ امرأةٍ وَبِنْتِهَا " قَالُوا فَلَمَّا جَازَ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى بِنْتِ امْرَأَتِهِ إِذَا مَاتَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَاسْتَبَاحَ بِالْعَقْدِ النَّظَرَ إِلَى فَرْجِهَا دَلَّ على أن الأمر قد حرم عليه النظر إليها؛ لأن لا يَكُونَ نَاظِرًا إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَبِنْتِهَا، قَالُوا وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ الْعَقْدُ عَلَى أُخْتِ زَوْجَتِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ النَّظَرُ إِلَى زَوْجَتِهِ، كَالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ غَيْرَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَهَا، وَلَمَّا لَمْ يَحِلَّ لَهَا أَنْ تَنْكِحَ غَيْرَهُ حَلَّ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ لِارْتِفَاعِ الْعِصْمَةِ بِمَوْتِهَا وَبَقَاءِ الْعِصْمَةِ بِمَوْتِهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ: مَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: " دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ: وَارَأْسَاهُ فَقُلْتُ لَا بَلْ وَارَأْسَاهُ فَقَالَ مَا عَلَيْكِ لَوْ مِتِّ قَبْلِي لَغَسَّلْتُكِ وَكَفَّنْتُكِ " فَلَمَّا أَخْبَرَهَا أَنَّهَا لَوْ مَاتَتْ قَبْلَهُ لَغَسَّلَهَا، وَقَدْ أَخْبَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَيَمُوتُ: دَلَّ على أنه قصد بذلك بيان حكم غيرها مِنَ الْأَزْوَاجِ مَعَ غَيْرِهَا مِنَ الزَّوْجَاتِ، وَرَوَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ أَنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ أَوْصَتْ أَنْ يُغَسِّلَهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَتْ أَسْمَاءُ فَغَسَّلَهَا عَلِيٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَا مَعَهُ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مِنَ الصَّحَابَةِ مُنْكِرًا فِعْلَهُ فَدَلَّ أَنَّهُ إِجْمَاعٌ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا جَازَ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَهَا لِبَقَاءِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كُلُّ سَبَبٍ وَنَسَبٍ يَنْقَطِعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا سببي ونسبي " قلنا قد بين مَعْنَى ذَلِكَ، وَأَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،

(3/16)


وَالنِّكَاحُ فِي الدُّنْيَا مُرْتَفِعٌ بِالْمَوْتِ، أَلَا تَرَى أنه عَلَيْهِ السَّلَامُ تَزَوَّجَ أُمَامَةَ بِنْتَ أَبِي الْعَاصِي بَعْدَ فَاطِمَةَ وَهِيَ بِنْتُ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَتَزَوَّجَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِنْتَيْ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى، فَلَوْ كَانَ سَبَبُ النِّكَاحِ بَاقِيًا لَحَرُمَ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ تَزْوِيجُ أُمَامَةَ، وَعَلَى عُثْمَانَ تَزْوِيجُ أُمِّ كُلْثُومٍ بَعْدَ رُقَيَّةَ، وَلِأَنَّهَا زَوْجِيَّةٌ زَالَتْ بِالْوَفَاةِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَتَعَلَّقَ بِهَا تَحْرِيمُ النَّظَرِ قِيَاسًا عَلَى موت الزوج، ولأنه معنى تزيل التكليف فوجب أن لا يحرم كَالْجُنُونِ، وَلِأَنَّ أُصُولَ النِّكَاحِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ نَظَرِ أَحَدِهِمَا لَمْ يُوجِبْ تَحْرِيمَ نَظَرِ الْآخَرِ كَالْإِيلَاءِ وَالظِّهَارِ، فَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ نَظَرِ الزَّوْجِ اقْتَضَى أَنْ لَا يُوجِبَ تَحْرِيمَ نَظَرِ الزَّوْجَةِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى امرئٍ يَنْظُرُ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَبِنْتِهَا " فَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ: الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ، عَلَى أَنَّهُ قَدْ يُمْنَعُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى فَرْجِهَا، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الطَّلَاقِ فَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ لَهَا النَّظَرُ إِلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا، وَلَمَّا جَازَ لَهَا النَّظَرُ فِي الْمَوْتِ إِلَيْهِ جَازَ لَهُ النظر إليها.
وأما الجواب على قَوْلِهِمْ إِنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَنْكِحَ غَيْرَهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَهَا: فَدَعْوَى لَا بُرْهَانَ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ تَفَرُّدُهَا بِالْعِدَّةِ مُوجِبًا لِتَفَرُّدِهَا لِعِصْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ، لِأَنَّ الْعِدَّةَ لَا مَدْخَلَ لَهَا فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ وَحَظْرِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا وَمَاتَ فِي عِدَّتِهَا لَمْ يَحِلَّ لَهَا النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْهُ، وَلَوْ مَاتَ مِنْهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَوَضَعَتْ قَبْلَ غُسْلِهِ جَازَ لَهَا النَّظَرُ إِلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي عِدَّةٍ مِنْهُ، فَعَلِمَ أَنَّ ثُبُوتَ الْعِدَّةِ كَعَدَمِهَا فِي إِبَاحَةِ النَّظَرِ وَحَظْرِهِ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُغَسِّلَ زَوْجَتَهُ فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسِّلَهَا ذَاتُ مَحْرَمٍ مِنْ نِسَاءِ أَهْلِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَذَاتُ رَحِمٍ مِنْهُنَّ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَامْرَأَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ النِّسَاءَ أَوْلَى بِالنِّسَاءِ، وَالزَّوْجُ أَوْلَى الرِّجَالِ بِزَوْجَتِهِ، فَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا مَاتَتْ لَهُ زَوْجَةٌ ذِمِّيَّةٌ جَازَ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَهَا إِنْ رَضِيَ أَوْلِيَاؤُهَا مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهَا، وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا مَاتَ وَلَهُ زَوْجَةٌ ذِمِّيَّةٌ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ كَرِهْتُ أَنْ تُغَسِّلَهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى أَهْلِ دِينِهِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ غَسَّلَتْهُ جَازَ لِحُصُولِ الْغُسْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَإِنْ قِيلَ فَلَوْ أَنَّ مَيِّتًا غَسَّلَهُ السَّيْلُ أَوِ الْمَطَرُ لَمْ يُجْزِهِ وإن كان الغسل موجود قُلْنَا لِأَنَّ الْغُسْلَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَيِّتِ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْنَا فِي الْمَيِّتِ فَإِذَا غَسَّلَهُ السَّيْلُ وَالْمَطَرُ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنَّا لَمْ يُوجَدْ وَكَذَا الْغَرِيقُ غُسْلُهُ وَاجِبٌ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا وَجَبَتِ النِّيَّةُ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ وَاجِبَةٌ قُلْنَا فِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النِّيَّةَ وَاجِبَةٌ لِأَنَّهَا طهار وَاجِبَةٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ النِّيَّةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَهُوَ أَشْبَهُ بِنَصِّ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّهُ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى شَخْصٍ دُونَ شَخْصٍ، فَلَمَّا لَمْ تَجِبْ فِيهِ النِّيَّةُ وَإِنْ وَجَبَتْ في غيره.

(3/17)


فَصْلٌ
: يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُغَسِّلَ أُمَّ وَلَدِهِ إِذَا مَاتَتْ، وَكَذَلِكَ أَمَتَهُ وَمُدَبَّرَتَهُ، لِأَنَّ حُكْمَ الرِّقِّ فِي جَمِيعِهِمْ بَاقٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يلزمه موؤنة دَفْنِهِمْ بَعْدَ الْوَفَاةِ كَمَا كَانَ يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمْ فِي الْحَيَاةِ، فَإِن مَاتَ السَّيِّدُ لَمْ يَكُنْ لِأَمَتِهِ وَلَا لِمُدَبَّرَتِهِ وَلَا لِأُمِّ وَلَدِهِ أَنْ تُغَسِّلَهُ، أَمَّا الْأَمَةُ فَلِأَنَّهَا صَارَتْ مِلْكًا لِوَرَثَتِهِ، وَأَمَّا الْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فَلِزَوَالِ الرِّقِّ عَنْهُمَا، وَارْتِفَاعِ الْعَصَبَةِ بَيْنَ السَّيِّدِ وَبَيْنَهُمَا.
فَإِنْ قِيلَ: فَالنِّكَاحُ يَرْتَفِعُ بِالْمَوْتِ كَمَا أَنَّ الرِّقَّ يَرْتَفِعُ بِالْمَوْتِ ثُمَّ لَمْ يَكُنِ ارْتِفَاعُ النِّكَاحِ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْغُسْلِ، كَذَلِكَ أَيْضًا لَا يَكُونُ ارْتِفَاعُ الرِّقِّ مَانِعًا مِنْ جَوَازِ الْغُسْلِ؟ قُلْنَا وُجُودُ النِّكَاحِ مُوجِبٌ لِلِاسْتِبَاحَةِ، فَإِذَا اتَّصَلَتِ الِاسْتِبَاحَةُ بِالْمَوْتِ جَازَ أَنْ يَبْقَى لَهَا حُكْمٌ بعد الموت، وليس دوام الولده المدبرة مُوجِبٌ لِاسْتِبَاحَتِهَا، لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرِّقُّ فِيهَا مَوْجُودًا وَهُمَا فِي إِبَاحَةِ زَوْجٍ، فَضَعُفَ الرِّقُّ عَنْ مَعْنَى النِّكَاحِ وَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ فِي بَقَاءِ الِاسْتِبَاحَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْخُنْثَى الْمُشْكَلُ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ التَّيَمُّمُ دُونَ الْغُسْلِ، وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ، وَلِأَنَّ الْوَجْهَ وَالْيَدَيْنِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ فِي الرجال ولا في النساء فجاز لكلي الْفَرِيقَيْنِ النَّظَرُ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَجُزْ لَهَا النَّظَرُ إِلَى جَسَدِهِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ رَجُلًا فَيَحْرُمُ عَلَى النِّسَاءِ، وَقَدْ يَكُونُ امْرَأَةً فَيَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ.
وَهَذَا غَلَطٌ وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غُسْلُ مَوْتَاهَا " وَلَوْ جَازَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْ غُسْلِهِ لِإِشْكَالِ عَوْرَتِهِ لَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ بِذَلِكَ مِنْ تَيَمُّمِهِ، لِأَنَّ التَّيَمُّمَ فِي الْوَجْهِ وَالذِّرَاعَيْنِ، وَعَوْرَةُ الْمَرْأَةِ فِي ذِرَاعَيْهَا كَعَوْرَتِهَا فِي سَائِرِ جَسَدِهَا، وَإِنَّمَا الْوَجْهُ وَالْكَفَّانِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مُبَاشَرَتَهُ بِحَرَامٍ كَمُبَاشَرَةِ سَائِرِ الْجَسَدِ، فَكَانَ التَّيَمُّمُ فِي تَحْرِيمِ الْمُبَاشَرَةِ مُسَاوِيًا لِلْغُسْلِ، فَإِذَا تَسَاوَيَا فَاسْتِعْمَالُ الْغُسْلِ الْوَاجِبِ أَوْلَى، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ غُسْلَ الْخُنْثَى وَاجِبٌ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُغَسَّلَ فِي قَمِيصٍ، وَيَكُونَ مَوْضِعُ غُسْلِهِ مُظْلِمًا، وَيَتَوَلَّى غُسْلَهُ أَوْثَقُ مَنْ يُقْدَرُ عَلَيْهِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْمَرْأَةُ إِذَا مَاتَتْ فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ بِهِ إِلَّا الرِّجَالُ الْأَجَانِبُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ الْمُزَنِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْهُمْ، تُيَمَّمُ وَلَا تُغَسَّلُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُغَسَّلُ فِي قَمِيصٍ، وَيَلُفُّ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً كَيْ لَا يَمَسَّهَا، وَيَغُضُّ بَصَرَهُ وَهَذَا أَصَحُّهُمَا عِنْدِي. وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا فِي مَوْضِعٍ لَيْسَ بِهِ إِلَّا النِّسَاءُ الْأَجَانِبُ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُنَّ يُغَسِّلْنَهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُيَمَّمَ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ إِيجَابَ غسل المرأة.

(3/18)


مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُغَسِّلُ الْمُسْلِمُ قَرَابَتَهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَيَتْبَعُ جِنَازَتَهُ وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر علياً فغسل أَبَا طَالِبٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ " إِذَا مَاتَ الْمُشْرِكُ وَلَهُ قَرَابَةٌ ٌمسلمون فَلَهُمْ أَنْ يُغَسِّلُوهُ وَيُكَفِّنُوهُ وَيَتْبَعُوا جِنَازَتَهُ " وَكَرِهَ مَالِكٌ ذَلِكَ.
وَدَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً) {لقمان: 15) وَرُوِيَ عَنْ نَاجِيَةَ بْنِ كَعْبٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " لَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ مَاتَ عَمُّكَ الضَّالُّ، فَقَالَ: غَسِّلْهُ وَكَفِّنْهُ وَوَارِهِ وَلَا تُصَلِّ عَلَيْهِ "، فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ غَسْلِهِ وَدَفْنِهِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا عَلَيْهِ وَلَا يَزُورُوا قَبْرَهُ، وَلَا يَدْعُوا لَهُ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) {التوبة: 84) وَقَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا للمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أولِي قُرْبَى) {التوبة: 113) فَأَمَّا إِنْ تَرَكَ الْمُشْرِكُ قَرَابَةً مُشْرِكِينَ وَمُسْلِمِينَ، فَالْمُشْرِكُونَ أَوْلَى بِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِاسْتِوَائِهِمْ فِي الْقَرَابَةِ وَزِيَادَتِهِمْ بِالْمِلَّةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(3/19)


باب عدد الكفن وكيف الحنوط
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَحَبُّ عَدَدِ الْكَفَنِ إِلَيَّ ثَلَاثَةُ أثوابٍ بيضٍ رياطٍ ليس فيها قميص ولا عمامةٌ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كفن فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بيضٍ سُحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قميص ولا عمامة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ أَمَّا تَكْفِينُ الْمَوْتَى واجب إِجْمَاعًا، بِهِ وَرَدَتِ السُّنَّةُ وَعَلَيْهِ جَرَى الْعَمَلُ، إِذَا كَانَ وَاجِبًا انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى عَدَدِهِ وَصِفَتِهِ، فَأَمَّا عَدَدُهُ فَالْمُخْتَارُ فِيهِ وَمَا جَرَى الْعَمَلُ بِهِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ، لِرِوَايَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كُفِّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي ثَلَاثَةِ أثوابٍ بِيضٍ سُحُولِيَّةٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ كُفِّنَ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ جَازَ وَلَا يُزَادُ عَلَى الْخَمْسَةِ، لِرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُغَالُوا فِي الْكَفَنِ فَإِنَهُ يُسْلَبُ سَلْبًا سَرِيعًا فَإِنْ كُفِّنَ فِي ثَوْبٍ واحدٍ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهِ جَازَ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانَتْ له نمرةٌ واحدةٌ إذا غَطَّى بِهَا رَأْسَهُ بَدَتْ رِجْلَاهُ، وَإِنْ غَطَّى بِهَا رِجْلَاهُ بَدَا رَأْسُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " غَطُّوا رَأْسَهُ وَاطْرَحُوا عَلَى قَدَمَيْهِ شَيْئًا مِنَ الْإِذْخِرِ " فَإِنْ غَطَّى مِنَ الْمَيِّتِ قَدْرَ عَوْرَتِهِ، وَذَلِكَ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ وَرُكْبَتِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فَقَدْ أَسْقَطَ الْفَرْضَ، وَلَكِنْ أَخَلَّ بِحَقِّ الْمَيِّتِ، وَإِنَّمَا أُجِيزَ؛ لِأَنَّ نَمِرَةَ مُصْعَبٍ لَمْ تَسْتُرْ جَمِيعَ بَدَنِهِ فَلَمْ يَأْمُرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يُكَفَّنَ فِي غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ يَجِبُ مِنْ سِتْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مَا كَانَ يَجِبُ مِنْ سِتْرِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ قَدْرُ عَوْرَتِهِ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا صِفَةُ الْأَكْفَانِ فَيُخْتَارُ أَنْ تَكُونَ بِيضًا، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " خَيْرُ ثِيَابِكُمُ البياضُ فَأَلْبِسُوهَا أَحْيَاءَكُمْ وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ " وَرَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ

(3/20)


الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كُفِّنَ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بيضٍ رياطٍ سُحُولِيَّةٍ، فَالرِّيَاطُ هِيَ الْأُزُرُ الْبِيضُ الْخِفَافُ الَّتِي لَا فق فِيهَا وَلَا خِيَاطَةَ، وَالسُّحُولِيَّةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْيَمَنِ يُقَالُ لَهَا سُحُولُ، وَيُخْتَارُ أَنْ تَكُونَ الثِّيَابُ الْبَيَاضُ جُدُدًا لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ، وَاخْتَارَ مَالِكٌ الْعِمَامَةَ لِلْمَيِّتِ رجلاً كانت أَوِ امْرَأَةً، وَاخْتَارَ أبو حنيفة الْقَمِيصَ.
فَأَمَّا مَالِكٌ فَإِنَّهُ عَوَّلَ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ عُمِّمَ فِي كَفَنِهِ.
وَأَمَّا أبو حنيفة فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ عَنِ " النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ كُفِّنَ فِي قَمِيصٍ "، وَلِأَنَّهُ أَجْمَلُ زِيِّ الْأَحْيَاءِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ سُنَّةً فِي الْمَوْتَى كَالْإِزَارِ.
وَكِلَا الْمَذْهَبَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ، لِرِوَايَةِ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " كفن في ثلاثة أثواب ليس فيها قيمصٌ وَلَا عمامةٌ " وَلِأَنَّهُ مَلْبُوسٌ مُنِعَ مِنْهُ الْمُحْرِمُ فَوَجَبَ أَنْ يُمْنَعَ مِنْهُ الْمَيِّتُ كَالسَّرَاوِيلِ، فَأَمَّا تَعْمِيمُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَإِنَّمَا كَانَتْ عِصَابَةً شَدَّ بِهَا رَأْسَهُ لِأَجْلِ الضَّرْبَةِ الَّتِي كَانَتْ بِهِ وَأَمَّا مَا رُوِيَ أَنَّهُ كفن في قميص فأما الرِّوَايَةُ أَنَّهُ غُسِّلَ فِي قَمِيصٍ، لِأَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْ بِخِلَافِهِ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَيُجَمَّرُ بِالْعُودِ حَتَى يَعْبَقَ بِهَا ثُمَّ يَبْسُطُ أحسنها وأوسعها ثم الثانية عليها ثم التي تلي الميت ويذر فيها بينها الحنوط ثُمَّ يُحْمَلُ الْمَيِّتُ فَيُوضَعُ فَوْقَ الْعُلْيَا مِنْهَا مستلقياً ثم يأخذ شَيْئًا مِنْ قُطْنٍ مَنْزُوعِ الْحَبِّ فَيَجْعَلُ فِيهِ الحنوط والكافور ثم

(3/21)


يدخله بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ إِدْخَالًا بَلِيغًا وَيُكْثِرُ لِيَرُدَّ شَيْئًا إِنْ جَاءَ مِنْهُ عِنْدَ تَحْرِيكِهِ إِذَا حُمِلَ وزعزع ويشد عليه خرقةٌ مشقوقة الطرف تأخذ إليتيه وعانته ثم يشد عليه كما يشد التبان الواسع (قال المزني) لا أحب ما قال من إبلاغ الحشو لأن في ذلك قبحاً يتناول به حرمته ولكن يجعل كالموزة من القطن فيما بين إليتيه وسفرة قطن تحتها ثم يضم إلى أليتيه والشداد من فوق ذلك كالتبان يشد عليه فإن جاء منه شيءٌ يمنعه ذلك من أن يظهر منه فهذا أحسن في كرامته من انتهاك حرمته. (قال الشافعي) ويأخذ القطن فيضع عليه الحنوط الكافور فَيَضَعُهُ عَلَى فِيهِ وَمَنْخَرَيْهِ وَعَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَمَوْضِعِ سجوده وإن كانت به جراح نافذةٌ وضع عليها ويحنط رأسه ولحيته بالكافور وعلى مساجده وَيُوضَعُ الْمَيِّتُ مِنَ الْكَفَنِ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي يَبْقَى منه من عند رجليه أقل مما يبقى من عند رأسه ثم يثني عليه ضيق الثَّوْبِ الَّذِي يَلِيهِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ يثني ضيق الثوب الآخر على شقه الأيسر كما وصفت كما يشتمل الحي بالسياج ثم يصنع بالأثواب كلها كذلك ثم يجمع ما عند رأسه من الثياب جمع العمامة ثم يرده على وجهه ثم يرد ما على رجليه على ظهور رجليه إلى حيث بلغ فإن خافوا أن تنتشر الأكفان عقدوها عليه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ في كتاب الربيع ويجمر بالند، وإنما اخترنا ذلك، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " اصْنَعُوا بِمَوْتَاكُمْ مَا تَصْنَعُونَ بِعَرُوسِكُمْ " وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي كَرَامَةِ الْمَيِّتِ، وَأَجْمَلُ فِي عِشْرَةِ الْحَاضِرِينَ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَيَبْسُطُ أَحْسَنَ الْأَثْوَابِ الثَّلَاثَةِ وَأَوْسَعَهَا، ثُمَّ يَبْسُطُ فَوْقَهُ الَّذِي يَلِيهِ فِي الْحُسْنِ، ثُمَّ يَبْسُطُ فَوْقَهُ الَّذِي هُوَ دُونَهَا، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنْ يَكُونَ أَحْسَنُهَا أَظْهَرَهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي جَمَالِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَاخْتَارَ لَهُ ذَلِكَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَذُرُّ بَيْنَهَا الْحَنُوطَ، وَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَذْكُرْهُ غير الشافعي من الفقهاء، وإنما اختاره لأن لا يُسْرِعَ بِلَى الْأَكْفَانِ، وَلِيَقِيَهَا عَنْ بَلَلٍ يَمَسُّهَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ يُحْمَلُ الْمَيِّتُ فَيُوضَعُ فَوْقَ الْعُلْيَا مِنْهَا مُسْتَلْقِيًا، وَيَأْخُذُ شَيْئًا مِنْ قُطْنٍ مَنْزُوعِ الْحَبِّ فَيَجْعَلُ فِيهِ الْحَنُوطَ وَالْكَافُورَ، ثُمَّ يُدْخِلُ بَيْنَ إِلْيَتَيْهِ إِدْخَالًا بَلِيغًا، وَيُكْثِرُ لِيَرُدَّ شَيْئًا إِنْ جَاءَ مِنْهُ عِنْدَ تَحْرِيكِهِ إِذَا حمل ورغرغ ويشد عليه كما يشد التبان الْوَاسِعُ، فَإِنْ كَانَ بِهِ إِنْزَالٌ يُخْشَى عَلَى الثَّوْبِ مِنْهُ فَاحْتَاجَ أَنْ يَجْعَلَ فَوْقَ الْخِرْقَةِ مِثْلَ السُّفْرَةِ مِنْ لُبُودٍ فَعَلَ ذَاكَ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ هَذَا كُلَّهُ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ، وَإِكْرَامًا لِلْمَيِّتِ، وَحِفْظًا لِلْأَكْفَانِ.
وَلَمْ يُرِدِ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ وَيُدْخِلُهُ إِدْخَالًا بَلِيغًا فِي الْحَلْقَةِ كَمَا تَوَهَّمَ الْمُزَنِيُّ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ انْتِهَاكَ حُرْمَتِهِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ إِدْخَالًا بَلِيغًا بَيْنَ الْإِلْيَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ انْتِهَاكِ حرمته.

(3/22)


قَالَ الشَّافِعِيُّ وَيَأْخُذُ الْقُطْنَ فَيَضَعُهُ عَلَى الْحَنُوطِ وَالْكَافُورِ فَيَضَعُهُ عَلَى فِيهِ وَمَنْخَرَيْهِ وَعَيْنَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَمَوْضِعِ سُجُودِهِ وَجَمِيعِ مَنَافِذِهِ، وَإِنْ كَانَتْ بِهِ جِرَاحٌ أَوْ قُرُوحٌ وَضَعَ عَلَيْهَا، وَيَحْفَظُ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِالْكَافُورِ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِمَسَاجِدِهِ وَهِيَ أَعْضَاؤُهُ السَّبْعَةُ لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوكِلُ بِهِ مَنْ يَذُبُّ عَنْ مَوْضِعِ سُجُودِهِ النَّارَ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أثَرِ السّجُودِ) {الفتح: 29) وَاخْتَرْنَا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَنَافِذِهِ وَجِرَاحِهِ حِفَاظًا لِلْخَارِجِ مِنْهُ وَصِيَانَةً لِلْأَكْفَانِ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا الطراز: وهو طيب ومسك يخلط ويداف فَيُوضَعُ عَلَى جَبِينِهِ فَلَا يَخْتَارُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَلَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الْأَحْيَاءِ مِنْ أَهْلِ الصِّيَانَةِ مَعَ مَا فِيهِ منْ تَشْوِيهِ الْبَشَرَةِ، وَتَغْيِيرِ اللَّوْنِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَأَكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ فِي عَيْنَيْهِ الزَّاوُوقَ، وَأَنْ يَجْعَلَ عَلَى بَدَنِهِ الْمُرْدَاسَنْجَ، وَالزَّاوُوقُ هُوَ شَيْءٌ لَزِجٌ كَالصَّمْغِ يُمْسِكُهُ وَيَحْفَظُهُ، وَإِنَّمَا كَرِهْتُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْقُولٍ عَنْ أَحَدٍ يُتَّبَعُ.
وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُ الصَّبْرِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ وَلَا يُجْعَلُ الْمَيِّتُ فِي صُنْدُوقٍ وَهُوَ التَّابُوتُ، وَإِنَّمَا نهي عَنْهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يَفْعَلُوهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ أَوْصَى فَقَالَ: لَا تَجْعَلُونِي فِي الصُّنْدُوقِ.
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُوضَعُ الْمَيِّتُ مِنَ الْكَفَنِ بِالْمَوْضِعِ الذي يبقى من عند رجليه أولى مِمَّا يَبْقَى عِنْدَ رَأْسِهِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ ذَلِكَ لِأَنَّ نَمِرَةَ مُصْعَبٍ لَمَّا قَصُرَتْ عَنْهُ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُهَا مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ لِيُغَطَّى بِهَا جَمِيعُ وَجْهِهِ، وَلِأَنَّ الرَّأْسَ أَشْرَفُ مِنْ جَمِيعِ الْجَسَدِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ يُثْنى عَلَيْهِ ضَفَّة الثَّوْبِ الَّذِي يَلِيهِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يُثْنى ضَفَّة الثَّوْبِ الْآخَرِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ كَمَا يَشْتَمِلُ الْحَيُّ، وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُدْرِجَهُ فِي أَكْفَانِهِ بَدَأَ بِمَا يَلِي شِقَّهُ الْأَيْسَرَ فَأَلْقَاهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَمَا يَلِي شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَأَلْقَاهُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِالثَّانِي وَالثَّالِثِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ ذَلِكَ أَخَذَ مَا عِنْدَ رأسه فألقاه على وجهه، لأن لا يَكْشِفَهُ الرِّيحُ وَأَخَذَ مَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ فَأَلْقَاهُ عَلَى رِجْلَيْهِ، ثُمَّ يَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ بَعِيدًا يَخَافُ أَنْ يَكْشِفَهُ الرِّيحُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْرِقَ مِنْهُ ضَفَّةً دَقِيقَةً فَيَشُدَّهَا عَلَيْهِ، فَإِذَا أُدْخِلَ قَبْرَهُ حُلَّتْ، وَإِنْ كَانَ الطَّرِيقُ قَرِيبًا لَمْ يَشُدَّ، لِأَنَّ عَادَةَ السَّلَفِ بِالْحَرَمَيْنِ لَمْ تجر بمثله.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا أَدْخَلُوهُ الْقَبْرَ حَلُّوهَا وَأَضْجَعُوهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ وَوَسَّدُوا رَأْسَهُ بلبنةٍ وَأَسْنَدُوهُ لِئَلَّا يَسْتَلْقى عَلَى ظَهْرِهِ وَأَدْنَوْهُ إِلَى اللَّحْدِ مِنْ مُقَدَّمِهِ لئلا

(3/23)


ينكب على وجهه وينصب اللبن على اللحد ويسد فرج اللبن ثم يهال التراب عليه والإهالة أن يطرح من على شفير القبر التراب بيديه جميعاً ثم يهال بالمساحي ولا أحب أن يرد في القبر أكثر من ترابه لئلا يرتفع جداً ويشخص عن وجه الأرض قدر شبر ويرش عليه الماء ويوضع عليه الحصباء ويوضع عند رأسه صخرة أو علامة ما كانت ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا دَفْنُ الْمَوْتَى فَوَاجِبٌ، وَهُوَ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، وَكَانَ أَصْلُهُ أَنَّ قَابِيلَ لَمَّا قَتَلَ أَخَاهُ هَابِيلَ لَمْ يَدْرِ مَا يَصْنَعُ بِهِ {فَبَعَثَ اللهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتِي أَعَجِزْتُ أنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي} (المائدة: 31) فَتَنَبَّهَ قَابِيلُ بِفِعْلِ الْغُرَابِ عَلَى دَفْنِ أَخِيهِ فَدَفَنَهُ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتاً أحْيَاءُ وَأَمْوَاتاً) {المرسلات: 25) يَعْنِي تَجْمَعُهُمْ أَحْيَاءً وَتَضُمُّهُمْ أَمْوَاتًا، وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهاَ نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) {طه: 55) فَإِذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ وَاجِبًا فَيُخْتَارُ تَعْمِيقُ الْقُبُورِ، وَأَنْ يَكُونَ نَحْوَ الْقَامَةِ وَالْبَسْطَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال " عمقوا قبور موتاكم لأن لا تريح عليكم ".

فَصْلٌ
: اللَّحْدُ فِي الْقُبُورِ أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنَ الشق الضَّرِيحِ فِي وَسَطِهِ، بِخِلَافِ مَذْهَبِ أبي حنيفة، لِمَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: " اللحد لنا والشق لغيرها " وقد كلف عَادَةُ أَهْلِ مَكَّةَ الضَّرِيحَ، وَكَانَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ لَهُمْ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، وَكَانَتْ عَادَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ اللَّحْدَ، وَكَانَ يَتَوَلَّى ذَلِكَ لَهُمْ أَبُو طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيُّ " فَلَمَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ قَوْمٌ اجْعَلُوا لَهُ ضَرِيحًا وَقَالَ آخَرُونَ لَحْدًا، فَأَنْفَذَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُولًا إِلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَرَسُولًا إِلَى أَبِي طَلْحَةَ وَقَالَ الْعَبَّاسُ اللَّهُمَّ خِرْ لِنَبِيِّكَ فَسَبَقَ الرَّسُولُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ فَجَاءَ بِهِ فَأَلْحَدَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا أُدْخِلَ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ أَضْجَعُوهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، اتِّبَاعًا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَيُوَسَّدُ رَأْسُهُ بِلَبِنَةٍ وَيُكْرَهُ الْمِخَدَّةُ وَالْمُضْرِبَةُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَفَاخُرِ الْأَحْيَاءِ وَفِعْلِ الْمُتَنَعِّمِينَ، فَإِذَا انصب في اللحد قرب منه لأنه لا يَنْكَبَّ، وَأُسْنِدَ مِنْ وَرَائِهِ لِئَلَّا يَسْتَلْقِيَ، ثُمَّ يُنْصَبُ عَلَيْهِ اللَّبِنُ نَصْبًا قَائِمًا لَا بَسْطًا، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كذلك فعل به، ولأنه

(3/24)


أحكم في عمارة وَأَبْعَدُ فِي بِلَى أَكْفَانِهِ، فَإِنْ كَانَ فِي اللَّحْدِ فُرُجٌ سَدُّوهَا بِقِطَعِ اللَّبِنِ، ثُمَّ يُهَالُ عَلَيْهِ التُّرَابُ، وَالْإِهَالَةُ أَنْ يَطْرَحَ مِنْ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ التُّرَابَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا، لِرِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَهَالَ عَلَى قَبْرِ ميتٍ بِكَفَّيْهِ ثَلَاثًا " ثُمَّ يُهَالُ عَلَيْهِ بِالْمِسَاحِي، لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْرَعُ فِي عَمَلِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَا أُحِبُّ أَنْ يُزَادَ في القبر أكثر من ترابه، لأن لا يَعْلُوَ جِدًّا، وَيَخْتَارُ أَنْ يُرْفَعَ الْقَبْرُ عَنِ الأرض قدر شبر أو نحوه ليعلم أن قبر، فيترحم عليه، ولأن لا يَنْسَاهُ مَنْ يَجْهَلُ أَمْرَهُ.

فَصْلٌ
: الْمُخْتَارُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنْ تُسْطَحَ الْقُبُورُ وَلَا تُسْنَمَ، وَالْمُخْتَارُ عِنْدَ أبي حنيفة أَنْ تُسْنَمَ وَلَا تُسْطَحَ، وَاخْتِيَارُ الشَّافِعِيِّ أَوْلَى، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَطَحَ قَبْرَ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَرُوِيَ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَبَرَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ فَسَطَحَ قَبْرَهُ " وَرُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: " دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ لَهَا: يَا أُمَّهْ اكْشِفِي عَنْ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَشَفَتْ فَرَأَيْتُ قَبْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مُسَطَّحَةً.
فَصْلٌ
: فَإِذَا سَطَحَ الْقَبْرَ وَفَرَغَ مِنْهُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرُشَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَشَّ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَاءَ، وَلِأَنَّ فِي ذَلِكَ نَقَاءً، وَلَا يُبَرِّكُهُ الْمَاءَ، وَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يُبَرِّدُ عَلَيْهِ مَضْجَعَهُ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَحْفَظُ لِلْقَبْرِ وَأَبْقَى لِأَثَرِهِ ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى الْقَبْرِ حَصًا، وَهُوَ الْحَصَا الصِّغَارُ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَضَعَ عَلَى قَبْرِ ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ حَصْبَاءِ الْعَرْصَةِ، ثُمَّ يُوضَعُ عِنْدَ رَأْسِ الْمَيِّتِ صَخْرَةً أَوْ عَلَامَةً يُعْرَفُ بِهَا، وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ أَيْضًا مِثْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا قَبَرَ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ وَضَعَ عِنْدَ قَبْرِهِ حَجَرَيْنِ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ، فَقَالَ: أَجْعَلُ لِقَبْرِ أَخِي عَلَامَةً أَدْفِنُ عِنْدَهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِهِ ".
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الدَّفْنُ فِي الصَّحْرَاءِ لَا فِي الْبُيُوتِ وَالْمَسَاكِنِ، لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِكَثْرَةِ الدَّاعِي لَهُ إِذَا دَرَسَ قَبْرُهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ الْقُبُورِ الدَّارِسَةِ " وَيُخْتَارُ لِمَنْ مَرَّ بِالْقُبُورِ أَنْ يَدْعُوَ لِأَهْلِهَا بالرحمة، ويسلم

(3/25)


عَلَيْهِمْ وَيَقُولَ أَنْتُمْ لَنَا سَابِقُونَ وَنَحْنُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ عِنْدَ الْقَبْرِ فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَرَأَيْتُ مَنْ أَوْصَى بِالْقِرَاءَةِ عِنْدَ قَبْرِهِ وَهُوَ عِنْدَنَا حَسَنٌ.

فَصْلٌ
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَلَا أُحِبُّ إِذَا مَاتَ الْمَيِّتُ فِي بَلْدَةٍ أَنْ يُنْقَلَ إِلَى غَيْرِهَا وَبِخَاصَّةٍ إِنْ كَانَ مَاتَ بِمَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ يَكُونَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَكَّةَ أَوِ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَيَخْتَارُ أَنْ يُنْقَلَ إِلَيْهَا لِفَضْلِ الدَّفْنِ فِيهَا فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ مَاتَ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ بُعِثَ مِنَ الْآمِنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَنَسٌ، وَزَادَ الزُّهْرِيُّ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَنْ قُبِرَ بِالْمَدِينَةِ كُنْتُ عَلَيْهِ شَاهِدًا وَلَهِ شَافِعًا وَمَنْ مَاتَ بِمَكَّةَ فَكَأَنَّمَا مَاتَ بِسَمَاءِ الدُّنْيَا ".

فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُدْفَنَ الْمَيِّتُ لَيْلًا، وَقَدْ كَرِهَ الْحَسَنُ ذَلِكَ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دُفِنَتْ لَيْلًا، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُفِنَ لَيْلًا، وَرُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دُفِنَ لَيْلًا.

فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا فِي مَرْكَبٍ مَاتَ مِنْهُمْ مَيِّتٌ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُغَسِّلُوهُ وَيُكَفِّنُوهُ وَيُصَلُّوا عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْظُرُونَ فَإِنْ كَانُوا بِالْقُرْبِ مِنَ الْأَرْضِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي صُعُودِهِمْ مَخَافَةٌ مِنْ عَدُوٍّ وَلَا سَبُعٍ، كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُقَدِّمُوهُ إِلَى قَبْرِهِ فِي الْأَرْضِ، فَأَمَّا إِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَرْضِ بُعْدٌ يُخَافُ أَنْ يَفْسُدَ الْمَيِّتُ إِلَى الْبُلُوغِ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْأَرْضِ قُرْبٌ وَلَكِنَّهُمْ يَخْشَوْنَ مِنْ صُعُودِهِمْ أَنْ يَظْفَرَ بِهِمْ عَدُوٌّ أَوْ سَبُعٌ فَإِنَّهُمْ يَشُدُّونَهُ بَيْنَ لَوْحَيْنِ وَيُلْقُونَهُ فِي الْبَحْرِ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ أَلْقَوْهُ فِي الْبَحْرِ رَجَوْتُ أن يسعهم.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِذَا فَرَغَ مِنَ الْقَبْرِ فَقَدْ أَكْمَلَ وَيَنْصَرِفُ مَنْ شَاءَ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَرِفَ إِذَا ووري فذلك له واسع (قال) وَبَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه سطح قبر ابنه إبراهيم عليه السلام ووضع عليه حصباء من حصباء العرضة وأنه عليه السلام رش على قبره وروي عن القاسم قال رأيت قبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأبي بكر وعمر مسطحة ".
قال الماوردي: ووري، فذلك له واسع (وَهَذَا صَحِيحٌ) ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " مَنْ شَيَّعَ جِنَازَةً وَصَلَّى عَلَيْهَا فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنِ انْتَظَرَهَا حَتَّى تُدْفَنَ فَلَهُ قيراطان، فلا

(3/26)


يَخْتَلِفُ أَصْحَابُنَا أَنَّهُ إِذَا صَلَّى عَلَيْهِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ قِيرَاطًا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِيرَاطِ الْآخَرِ مَتَى يَسْتَحِقُّهُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِذَا وُورِيَ فِي لَحْدِهِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ إِذَا فَرَغَ مِنْ قَبْرِهِ، وَيَخْتَارُ لِمَنْ يَحْضُرُ دَفْنَهُ أَنْ يَقْرَأَ سُورَةَ يس وَيَدْعُوَ لَهُ وَيَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَرَّ بِقَوْمٍ يَدْفِنُونَ مَيِّتًا فَقَالَ تَرَحَّمُوا عَلَيْهِ فإنه الآن يسأل ".

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا تُبْنَى الْقُبُورُ وَلَا تُجَصَّصُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا تَجْصِيصُ الْقُبُورِ فَمَمْنُوعٌ مِنْهُ، فِي مِلْكِهِ وَغَيْرِ مِلْكِهِ، لِرِوَايَةِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عن تجصيص الْقُبُورِ قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ يَعْنِي تَجْصِيصَهَا، وَأَمَّا الْبِنَاءُ عَلَى الْقُبُورِ كَالْبُيُوتِ وَالْقِبَابِ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى عن بناء القبور، ولأن فيه تضييق عَلَى غَيْرِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَرَأَيْتُ الْوُلَاةَ عِنْدَنَا بِمَكَّةَ يَأْمُرُونَ بِهَدْمِ مَا يَبْنُونَ مِنْهَا، وَلَمْ أَرَ الْفُقَهَاءَ يَعِيبُونَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا.

فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَإِنْ كَانَتِ الْمَقْبَرَةُ مُسَبَّلَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَتَنَازَعَ اثْنَانِ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا لِدَفْنِ مَيِّتٍ فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا سَابِقًا فَهُوَ أَوْلَى، وَإِنْ تَسَاوَيَا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا دُفِنَ مَيِّتٌ فِي أَرْضٍ مُسَبَّلَةٍ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْبِشَهُ وَيُنْزِلَ عَلَيْهِ مَيتَه، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ بَلِيَ وَصَارَ رَمِيمًا، فَإِنِ اسْتَعْجَلَ فِي نَبْشِهِ وَكَانَ أَثَرُ الْمَيِّتِ بَاقِيًا فَعَلَيْهِ رَدُّ تُرَابِهِ وَعِظَامِهِ إِلَيْهِ، وَإِعَادَةُ الْقَبْرِ إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ.
فَصْلٌ
: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا أَعَارَهُ بُقْعَةً لِلدَّفْنِ فَدُفِنَ فِيهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي إِعَارَتِهَا، مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ أَنَّهُ قَدْ بَلِيَ وَصَارَ رَمِيمًا، فَإِذَا تَحَقَّقَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا، وَإِنْ دُفِنَ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَمَوْضِعُ الدَّفْنِ غَصْبٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَكْرَهُ أَنْ يَنْقُلَهُ، لِأَنَّهُ نَهْكُ حُرْمَتِهِ، فَإِنْ نَقَلَهُ جَازَ، فَلَوْ غَصَبَ كَفَنًا وَكَفَّنَ لَهُ مَيِّتًا ودفن قال أبو حامد لم يخرج، وكان عَلَى غَاصِبِ الْكَفَنِ قِيمَتُهُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ حُرْمَةَ الْأَرْضِ أوكد؛ لأن الانتفاع بها مؤيد، والانتفاع بالثوب مؤبداً.

(3/27)


وَالثَّانِي: أَنَّ الْكَفَنَ رُبَّمَا تَعَيَّنَ عَلَى صَاحِبِهِ بتكفين الْمَيِّتِ بِهِ إِذَا لَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ، وَالْأَرْضُ الْمَمْلُوكَةُ لَا يَتَعَيَّنُ الدَّفْنُ فِيهَا لِوُجُودِ غَيْرِهَا مِنَ الْمُبَاحِ، فَكَانَ حُكْمُ الْأَرْضِ أَغْلَظَ وَيَحْتَمِلُ غَيْرَ هَذَا الْقَوْلِ وَيُمْكِنُ قَلْبُ الْفُرُوقِ بِمَا هو أولى منها.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: " وَالْمَرْأَةُ في غسلها كالرجل وتتعهد بأكثر ما يتعهد به الرجل وأن يضفر شعر رأسها ثلاثة قرون فيلقين خلفها لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر بذلك أم عطية في ابنته وبأمره غسلتها ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي غُسْلِهِمَا حَيَّيْنِ اسْتَوَيَا فِي غُسْلِهِمَا مَيِّتَيْنِ، لَكِنْ يَنْبَغِي لِغَاسِلِ الْمَرْأَةِ أَنْ يَزِيدَ في تفقد بدنها وتعاهد جسدها لمالها مِنَ الْعُكَنِ الَّتِي يَعْدِلُ الْمَاءُ عَنْهَا ثُمَّ يَجْعَلُ شَعْرَ رَأْسِهَا ثَلَاثَ ضَفَائِرَ خَلْفَهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: يجعل ضفيرتين تلتقيان عَلَى صَدْرِهَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى: لِمَا رُوِيَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قالت: ظفرنا شَعْرَ أُمِّ كُلْثُومٍ ابنةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَةَ قُرُونٍ وَأَلْقَيْنَاهَا خَلْفَهَا، وَأُمُّ عَطِيَّةَ لَمْ تَفْعَلْ ذَلِكَ إِلَّا عَنْ أَمْرٍ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَتُكَفَّنُ بِخَمْسَةِ أَثْوَابٍ خمارٌ وإزارٌ وَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهَا دِرْعًا لِمَا رَأَيْتُ فِيهِ مِنَ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ وَقَدْ قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ مَرَّةً مَعَهَا ثُمَّ خَطَّ عَلَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْوَاجِبُ مِنْ كَفَنِ الْمَرْأَةِ فَهُوَ ثَوْبٌ يَسْتُرُ جَمِيعَ بَدَنِهَا إِلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، أَمَّا الْمَسْنُونُ مِنْهُ وَمَا جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ الصَّالِحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَخَمْسَةُ أَثْوَابٍ، لِأَنَّ حُكْمَ عَوْرَتِهَا أَغْلَظُ وَلِبَاسَهَا فِي الْحَيَاةِ أَكْمَلُ، وَقَدْ رَوَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ فِي غَسْلِهَا بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُنَاوِلُهَا بِيَدِهِ ثَوْبًا ثَوْبًا حَتَّى دَفَعَ إِلَيْهَا خَمْسَةً. فَأَمَّا صِفَةُ هَذِهِ الْأَثْوَابِ الْخَمْسَةِ فَهِيَ مِئْزَرٌ وَخِمَارٌ وَإِزَارَانِ، وَفِي الخامس قولان:
أحدهما: إزار ثان.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ، وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّهُ دِرْعٌ لِمَا رَوَتْ لَيْلَى الثَّقَفِيَّةُ أَنَّهَا قَالَتْ: " كُنْتُ فِيمَنْ غَسَّلَ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَوَّلُ مَا نَاوَلَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِزَارَ ثُمَّ الدِّرْعَ، ثُمَّ الْخِمَارَ، ثُمَّ الْمِلْحَفَةَ، ثُمَّ الثَّوْبَ الَّذِي أَدْرَجْنَاهَا فِيهِ " فَعَلَى هَذَا تُؤَزَّرُ أَوَّلًا ثُمَّ تُدْرَعُ ثُمَّ تُخَمَّرُ ثُمَّ تُلَفُّ فِي ثَوْبَيْنِ، وَقَدْ حَكَى الْمُزَنِيُّ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُشَدُّ عَلَى صَدْرِهَا بِثَوْبٍ، فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ هَذَا الثَّوْبُ مِنْ جُمْلَةِ الْخَمْسَةِ أَوْ زَائِدٍ عَلَيْهَا، فَقَالَ

(3/28)


أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ هُوَ ثَوْبٌ مِنْ جُمْلَةِ الْخَمْسَةِ يُشَدُّ عَلَى صَدْرِهَا وَيُدْفَنُ مَعَهَا، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ ثَوْبٌ سَادِسٌ غَيْرُ الْخَمْسَةِ يُشَدُّ عَلَى صَدْرِهَا، فَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا هَلْ يُحَلُّ عِنْدَ دفنها أم لا على وجهين؟ أحدهما يُحَلُّ عَنْهَا وَيُؤْخَذُ عِنْدَ دَفْنِهَا.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَمُؤْنَةُ الْمَيِّتِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ دُونَ وَرَثَتِهِ وَغُرَمَائِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا كَانَتْ مِنْ أَصْلِ تَرِكَتِهِ مُقَدَّمَةً عَلَى غُرَمَائِهِ وَوَرَثَتِهِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَوْلَى مِنْهُمْ بِنَفَقَتِهِ فِي حَيَاتِهِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى منه بمؤونته بَعْدَ وَفَاتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا لَزِمَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ نَفَقَتُهُ إِذَا مَاتَ مُعْدِمًا لَزِمَ ذَلِكَ فِي مَالِهِ إِذَا كَانَ مُوسِرًا، فَأَمَّا الزَّوْجَةُ إِذَا مَاتَتْ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي نَفَقَتِهَا: فَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ إِنَّهَا عَلَى الزَّوْجِ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا فِي الْحَيَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْوَفَاةِ، كَالْمُنَاسِبِينَ مِنَ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ.
وَقَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة: إِنَّ مَؤُونَتَهَا وَاجِبَةٌ فِي تَرِكَتِهَا دُونَ زَوْجِهَا، لِأَنَّ نَفَقَتَهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالنِّكَاحِ لِأَجْلِ التَّمَكُّنِ مِنَ الِاسْتِمْتَاعِ، وَبِمَوْتِهَا قَدِ ارْتَفَعَ النِّكَاحُ، وَزَالَ التَّمَكُّنُ، فَوَجَبَ أَنْ يَزُولَ مُوجِبُهَا مِنَ النَّفَقَةِ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُنَاسِبِينَ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُ تَكْفِينِ الْمَيِّتِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْكَفَنِ هَلْ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ أَوْ عَلَى مِلْكِ وَارِثِهِ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، لِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى وَرَثَتِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَدِ انْتَقَلَ إِلَى مِلْكِ وَارِثِهِ، لِأَنَّ الْمَوْتَ لما منع من ابتداء المالك مَنَعَ مِنَ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ.
فَصْلٌ
: أَمَّا إِذَا كُفِّنَ الْمَيِّتُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَدُفِنَ وَأَقْسَمَ الْوَرَثَةُ تَرِكَتَهُ ثُمَّ نُبِشَ وَسُرِقَتْ أَكْفَانُهُ وَتُرِكَ عريان فَالْمُسْتَحَبُّ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يُكَفِّنُوهُ ثَانِيَةً، وَلَا يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُمْ ذَلِكَ ثَانِيَةً لَلَزِمَهُمْ إِلَى مَا لَا يَتَنَاهَى فَيُؤَدِّي إِلَى اسْتِيعَابِ التركة، وإذا الْخُرُوجِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا فغير لازم.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فَإِنِ اشْتَجَرُوا فِي الْكَفَنِ فَثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ إِنْ كَانَ وَسَطًا لَا مُوسِرًا وَلَا مُقِلًّا وَمِنَ الْحَنُوطِ بِالْمَعْرُوفِ لَا سَرَفًا وَلَا تَقْصِيرًا ".

(3/29)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا مَاتَ رجل وترك ما لا يَضِيقُ عَنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ فَاخْتَلَفَ الْوَرَثَةُ وَالْغُرَمَاءُ فِي كَفَنِهِ وَمَؤُونَةِ دَفْنِهِ فَلَا يَخْلُو حَالُ اخْتِلَافِهِمْ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ.
إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي صِفَةِ الْأَكْفَانِ أَوْ فِي عَدَدِهَا، فَإِنْ كَانَ فِي صِفَةِ الْأَكْفَانِ فَدَعَا الْوَرَثَةُ إِلَى تَكْفِينِهِ بِأَرْفَعِ الثِّيَابِ وَأَعْلَاهَا كَالسَّرْبِ وَالدِّيبَقِيِّ، وَدَعَا الغرماء إلى تكفينه بأدون الثياب كالناف وَغَلِيظِ الْبَصْرِيِّ، فَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُلْزِمَ الْفَرِيقَيْنِ التَّعَارُفَ لِمِثْلِ الْمَيِّتِ فِي مِثْلِ حَالِهِ مِنْ يَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ وَسَطًا لَا مَا دَعَا إِلَيْهِ السَّرَفُ، وَلَا مَا صَنَعَ مِنْهُ الشَّحِيحُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً) {الفرقان: 67) وَقَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كَلَّ البَسْطِ) {الإسراء: 29) فَذَمَّ الْحَالَيْنِ، وَمَدَحَ التَّوَسُّطَ بَيْنَهُمَا.
وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ الْأَكْفَانِ فَقَالَ الْوَرَثَةُ نُكَفِّنُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ وَقَالَ الْغُرَمَاءُ مَا نُكَفِّنُهُ إِلَّا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُصَارُ إِلَى قَوْلِ الْغُرَمَاءِ وَيُكَفَّنُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ تَطَوُّعٌ، وَلِلْغُرَمَاءِ مَنْعُ الْوَرَثَةِ مِنْ إِخْرَاجِ الْمَالِ فِي التَّطَوُّعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ يُصَارُ إِلَى قَوْلِ الْوَرَثَةِ وَيُكَفَّنُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ لَا يُنْقَصُ مِنْهَا اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَرُجُوعًا إِلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا مُفْلِسًا لَقَدَّمَ ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ عَلَى الْغُرَمَاءِ، فَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ بِهَا مَيِّتًا، وَلَوْ قَالَ الْوَرَثَةُ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابٍ وَقَالَ الْغُرَمَاءُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغُرَمَاءِ لَا يُخْتَلَفُ، وَلَوْ قَالَ الْوَارِثُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَقَالَ الْغُرَمَاءُ فِي خِرْقَةٍ تَسْتُرُ عَوْرَتَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ لَا يُخْتَلَفُ، فَأَمَّا الْحَنُوطُ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَاجِبٌ كَالْكَفَنِ، فَعَلَى هَذَا لَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَمْنَعُوا مِنْهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، لِأَنَّ طِيبَ الْحَيِّ غَيْرُ وَاجِبٍ فَكَذَلِكَ طِيبُ الْمَيِّتِ فَعَلَى هَذَا لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَمْنَعُوا منه.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُغَسَّلُ السَّقْطُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ إِنِ اسْتَهَلَّ وَإِنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَدُفِنَ وَالْخِرْقَةُ الَّتِي تُوَارِيهِ لِفَافَةُ تَكْفِينِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَخْلُو حَالُ السَّقْطِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا أَوْ يَسْقُطَ مَيِّتًا، فَإِنِ اسْتَهَلَّ صَارِخًا غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ، وَبِهِ قَالَ كَافَّةُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لم يصل

(3/30)


عَلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ لَهُ حِينَ مَاتَ سِتَّةَ عَشَرَ وَقِيلَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، قَالَ: وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ شَفَاعَةٌ وَدُعَاءٌ لِأَهْلِ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا وَالطِّفْلُ لَا ذَنْبَ لَهُ وَهُوَ مَغْفُورٌ لَهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مع الظاهر الْعَامَّةِ مَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ إِذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ وَرِثَ وَوُرِّثَ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِ " وَرَوَى أَنَسٌ وَالْمُغِيرَةُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِذَا اسْتَهَلَّ الْمَوْلُودُ صُلِّيَ عَلَيْهِ " وَلِأَنَّهُ كَالْكَبِيرِ فِي مِيرَاثِهِ وَإِيجَابِ الْقَوَدِ عَلَى قَاتِلِهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَالْكَبِيرِ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ.
وَمَا اسْتُدِلَّ بِهِ مِنْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَمْ يُصَلِّ عَلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ " فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَى ابْنِهِ، وَكِلَا الرِّوَايَتَيْنِ صَحِيحَةٌ فَمَنْ رَوَى أَنَّهُ صَلَّى يَعْنِي أَنَّهُ أَمَرَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَمَنْ رَوَى أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ فَعَنَى بِنَفْسِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِصَلَاةِ الْخُسُوفِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الصَّلَاةَ شَفَاعَةٌ لِأَهْلِ الْخَطَايَا فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ لَكَانَ الْمَجْنُونُ وَالْأَبْلَهُ وَمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ لَا ينبغي أن يصلي، لأنه ممن لا ذنب عليه، ولكان الأنبياء عليهم السلام لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى الصَّلَاةِ، لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ غَفَرَ لَهُمْ، فَلَمَّا قَالَ الْجَمِيعُ إِنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ أَفْوَاجًا وَزُمَرًا بِغَيْرِ إِمَامٍ دَلَّ عَلَى بُطْلَانِ مَا قَالَهُ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا إِذَا سَقَطَ الْجَنِينُ مَيِّتًا مِنْ غَيْرِ حَرَكَةٍ وَلَا اسْتِهْلَالٍ فَلَهُ حَالَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْقُطَ لِدُونِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ قَبْلَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، بَلْ يُلَفُّ فِي خِرْقَةٍ وَيُدْفَنُ.
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَسْقُطَ وَقَدْ بَلَغَ الزَّمَانَ الَّذِي يَنْفُخُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ الرُّوحَ وَذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ، لِرِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " يُخْلَقُ أَحَدُكُمْ فَيَبْقَى فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَقَةً، ثُمَّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مُضْغَةً، ثُمَّ يَأْتِي ملكٌ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيَكْتُبُ أَجَلَهُ وَعَمَلَهُ وَأَنَّهُ شَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ " وَإِذَا بَلَغَ الْحَدَّ الَّذِي يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ فَفِي إِيجَابِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ قولان:

(3/31)


أَحَدُهُمَا: حَكَاهُ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَخْرِيجًا عَنِ الشَّافِعِيِّ مِنَ الْقَدِيمِ إنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْحَيَاةِ قَبْلَ وَضْعِهِ فَصَارَ كَثُبُوتِ الْحَيَاةِ لَهُ بَعْدَ وَضْعِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ إنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْحَيَاةِ فِي الصَّلَاةِ، فَعَلَى هَذَا هَلْ يَجِبُ غُسْلُهُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:

فَصْلٌ
: إِذَا وُجِدَ بَعْضُ الْمَيِّتِ أَوْ عُضْوٌ مِنْ أَعْضَائِهِ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة يُصَلِّي عَلَى أَكْثَرِهِ وَلَا يُصَلِّي عَلَى أَقَلِّهِ، وَالِاعْتِبَارُ بِالرَّأْسِ قِيَاسًا عَلَى مَا قُطِعَ مِنْ أَعْضَاءِ الْحَيِّ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّ طَائِرًا أَلْقَى يَدًا بِمَكَّةَ مِنْ وَقْعَةِ الْجَمَلِ، فَعُرِفَتْ بِالْخَاتَمِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّاسُ، وَكَانَتْ يَدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ صَلَّى عَلَى رُؤُوسِ الْقَتْلَى بِالشَّامِ، وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى عَلَى عِظَامٍ بِالشَّامِ، وَلَيْسَ لمن ذكرنا مخالف فثبت أن إِجْمَاعٌ، فَأَمَّا الْعُضْوُ الْمَقْطُوعُ مِنَ الْإِنْسَانِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي وُجُوبِ غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْعُضْوِ الْمَقْطُوعِ مِنَ الْمَيِّتِ وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَهُوَ أَصَحُّ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ عُضْوَ الْحَيِّ إِنَّمَا لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى جُمْلَتِهِ الْبَاقِيَةِ، وَلَمَّا صلّي عَلَى الْمَيِّتِ صلّي عَلَى بَعْضِهِ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُصَلى عَلَى مَا وَجَدَ مِنْ أَعْضَاءِ الْمَيِّتِ وَأَبْعَاضِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ ينوي الصلاة جُمْلَةَ الْمَيِّتِ أَوْ مَا وُجِدَ مِنْهُ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَنْوِي بِالصَّلَاةِ مَا وُجِدَ مِنْ أَعْضَائِهِ لَا غَيْرَ بَعْدِ غُسْلِ الْعُضْوِ وَتَكْفِينِهِ، فَإِنْ لَمْ يُكَفِّنْهُ جَازَ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْعُضْوُ مِنْ عَوْرَةِ الْمَيِّتِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَكْفِينِهِ وَدَفْنِهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَنْوِي بِالصَّلَاةِ جُمْلَةَ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْعُضْوِ لَزِمَتْهُ لِحُرْمَةِ جُمْلَتِهِ، إِلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ جُمْلَةَ الْمَيِّتِ قَدْ صَلَّى عَلَيْهِ، فَيَخُصُّ بِالصَّلَاةِ الْعُضْوَ الْمَوْجُودَ وَجْهًا وَاحِدًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(3/32)


باب الشهيد ومن يصلي عليه ويغسل
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالشُّهَدَاءُ الَّذِينَ عَاشُوا وَأَكَلُوا الطَّعَامَ أَوْ بَقَوْا مُدَّةً يَنْقَطِعُ فِيهَا الْحَرْبُ وَإِنْ لَمْ يَطْعَمُوا كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَوْتَى وَالَّذِينَ قَتَلَهُمُ الْمُشْرِكُونَ فِي المعترك يكفنون بثيابهم التي قتلوا بها إن شاء أولياؤهم وتنزع عنهم الخفاف والفراء والجلود وما لم يكن من عام لباس الناس ولا يغسلون ولا يصلى عليهم وروي عن جابر بن عبد الله وأنس ابن مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه لم يصل عليهم ولم يغسلهم (قال) وعمر شهيدٌ غير أنه لما لم يقتل في المعترك غسل وصلي عليه والغسل والصلاة سنة لا يخرج منها إلا من أخرجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - "
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الشُّهَدَاءُ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي مُعْتَرَكِ الْمُشْرِكِينَ لَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ أَنْ يُغَسَّلُوا، وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ، هَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْحَرَمَيْنِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمَوْتَى، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ.
وَقَالَ أبو حنيفة بِقَوْلِنَا فِي تَرْكِ غُسْلِهِمْ، ويقول سَعِيدٍ فِي إِيجَابِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ، وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى عَشَرَةٍ عَشَرَةٍ وَحَمْزَةُ مَعَهُمْ، حَتَّى كَبَّرَ عَلَى حَمْزَةَ سَبْعِينَ تَكْبِيرَةً، وَرَوَى عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صَلَّى عَلَى قَتْلَى أحدٍ بَعْدَ ثَمَانِي سِنِينَ ".
وَرَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادِ بْنِ الْهَادِ " أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَبَايَعَهُ وَآمَنَ بِهِ، وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ مَعَكَ، ثُمَّ غَزَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَغَنِمَ فَقَسَمَ لَهُ، فَقَالَ مَا هَذَا؟ فَقَالَ هَذَا حَظُّكَ مِنَ

(3/33)


الْغَنِيمَةِ فَقَالَ مَا عَلَى هَذَا بَايَعْتُكَ، إِنِّمَا بَايَعْتُكَ عَلَى أَنْ أُدْمِيَ هَذَا وَأَشَارَ إِلَى حلقةٍ، ثُمَّ نَهَضُوا فَأَصَابَهُ سهمٌ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ فَمَاتَ، فَكَفَّنَهُ وَصَلَى عَلَيْهِ " قَالَ وَلِأَنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا فَوَجَبَ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ كَمَنْ قُتِلَ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ، قَالَ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ اسْتِغْفَارٌ لَهُ وَتَرَحُّمٌ عَلَيْهِ وَالشَّهِيدُ بِذَلِكَ أَوْلَى.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يُغَسَّلُونَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ قَوْله تَعَالَى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أمْوَاتاً بَلْ أحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) {آل عمران: 169) فَأَخْبَرَ بِحَيَاتِهِمْ وَالْحَيُّ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَرَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَمَعَ قَتْلَى أحدٍ وَقَالَ: زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ، فَإِنَّهُمْ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَوْدَاجُهُمْ تَشْخُبُ دَمًا اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ " قَالَ جَابِرٌ وَأَنَسٌ ثُمَّ لَمْ يُغَسِّلْهُمْ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ وَفِي رِوَايَةِ بَعْضِهِمْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ " وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ وَلَا تُصَلُّوا عَلَيْهِمْ " وَلِأَنَّهُ مَيِّتٌ لَا يَجِبُ غُسْلُهُ فَوَجَبَ أَنْ لَا تَجِبَ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ كَالسَّقْطِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَا يَلْزَمُ فِعْلُهُ فِي السَّقْطِ لَا يَلْزَمُ فِعْلُهُ فِي الشَّهِيدِ، كَالْغُسْلِ فَلَا تَجِبُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ كَالسَّقْطِ، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ قُرِنَتْ بِطَهَارَةٍ فَوَجَبَ إِذَا سَقَطَ فَرْضُ الطَّهَارَةِ أَنْ يَسْقُطَ فَرْضُ الصَّلَاةِ كَالْحَائِضِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ لَا أَصْلَ لَهُ عِنْدَ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، لِأَنَّهُ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عقبة عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ قَالَ لِي شُعْبَةُ أَلَا تَرَى إِلَى هَذَا الْمَجْنُونِ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ جَاءَنِي يَسْأَلُنِي أَنْ لَا أَتَكَلَّمَ فِي الْحَسَنِ بْنِ عمارة وهو يروي عن الحكم بن عيينة عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَى قَتْلَى أحدٍ " هَذَا حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ حَدَّثَنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمْ يُصَلِّ عَلَى قَتْلَى أحدٍ " عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَكَانَ الْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: ترجيح.

(3/34)


وَالثَّانِي: اسْتِعْمَالٌ، فَأَمَّا التَّرْجِيحُ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ رَاوِي خَبَرِنَا شَاهَدَ الْحَالَ، وَهُوَ جَابِرٌ وَأَنَسٌ وَرَاوِي خَبَرِهِمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَلَمْ يُشَاهِدِ الْحَالَ، لِأَنَّهُ كَانَ لَهُ عَامَ أُحُدٍ سَنَتَانِ، وَمَاتَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلَهُ تِسْعُ سِنِينَ.
وَالثَّانِي: مُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِعْمَالِ بَعْضِهِ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَخَبَرُهُمْ مُخْتَلَفٌ فِي اسْتِعْمَالِ جَمِيعِهِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ خَبَرَنَا نَاقِلٌ لِمَا ثَبَتَ مِنْ حُكْمِ الصَّلَاةِ، وَخَبَرَهُمْ مُبْقٍ لِحُكْمِ الصَّلَاةِ، فَكَانَ خَبَرُنَا أَوْلَى لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّرْجِيحِ، وَأَمَّا الِاسْتِعْمَالُ فَمِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنْ نَحْمِلَ رِوَايَتَهُمْ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُمْ دُونَ الصَّلَاةِ الَّتِي يَدْخُلُهَا بِإِحْرَامٍ وَيَخْرُجُ مِنْهَا بِسَلَامٍ.
وَالثَّانِي: أَنْ نَحْمِلَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ فَمَحْمُولٌ عَلَى الدُّعَاءِ لَهُمْ بِإِجْمَاعِنَا وَإِيَّاهُمْ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَلِأَنَّهُ قُتِلَ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ فَمُنْتَقِضٌ بِالَّذِي إِذَا قَتَلَهُ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ هُوَ مَقْتُولٌ ظُلْمًا ثُمَّ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى فِيمَنْ قُتِلَ فِي غير الْمُعْتَرَكِ أَنَّهُ يُغَسَّلُ، فَلِذَلِكَ صَلَّى عَلَيْهِ وَلَمَّا كَانَ الْمَقْتُولُ فِي الْمُعْتَرَكِ لَا يُغَسَّلُ فَلِذَلِكَ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهَا اسْتِغْفَارٌ فَيَفْسُدُ بِالسَّقْطِ.

فَصْلٌ
: إِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَقْتُولَ فِي الْمُعْتَرَكِ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فَتَكْفِينُهُ وَدَفْنُهُ وَاجِبٌ عَلَى حُكْمِ الْأَصْلِ، وَثِيَابُهُ الَّتِي مَاتَ فِيهَا حَقٌّ لِوَلِيِّهِ، إِنْ شَاءَ نَزَعَهَا عَنْهُ وَإِنْ شَاءَ كَفَّنَهُ فِيهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَجُوزُ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ ثِيَابَهُ، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " زَمِّلُوهُمْ فِي كُلُومِهِمْ ".
وَدَلِيلُنَا مَا رُوِيَ " أَنَّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَحَلِيفًا لَهُ لَمَّا قُتِلَا يَوْمَ أُحُدٍ هَمَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِيَدْفِنَهُمَا بِثِيَابِهِمَا فَمَنَعَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطْلِبِ مِنْ ذَلِكَ وَجَاءَتْ بِثَوْبَيْنِ أَبْيَضَيْنِ فَكَفَّنَهُمَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيهِمَا وَدَفَنَهُمَا مَعًا " فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِوَلِيِّهِمَا الْخِيَارَ فِي تَرْكِهَا أَوْ أَنْ يَنْزِعَهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّنَهُ فِي غَيْرِهَا وَيَدْفِنَهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا كَانَ أَوْلَى إِلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَنْزِعَ عَنْهُ الْخِفَافَ وَالْفِرَاءَ وَمَا لَيْسَ مِنْ لِبَاسِ النَّاسِ غَالِبًا عَامًّا، وَيَتْرُكَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ غَالِبِ اللِّبَاسِ مَخِيطًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَخِيطٍ.
فَصْلٌ
: قَدْ ذَكَرْنَا حُكْمَ الْقَتِيلِ فِي مُعْتَرَكِ الْمُشْرِكِينَ، وَسَوَاءٌ قُتِلَ بِالْحَدِيدِ أَوْ بِحَجَرِ المنجنيق، أو رفس حيوان، أو تردي مِنْ جَبَلٍ، أَوْ سقوط فِي بِئْرٍ أَوْ عُصِرَ فِي زَحْمٍ، عَلَى أَيِّ حَالٍ كَانَ، أَوْ مَاتَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ بِسَبَبٍ مِنْ مُشْرِكٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ قَتْلُ شَهَادَةٍ لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَمُوتَ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ حَتْفَ أَنْفِهِ فَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ يُغَسَّلُ وَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، فَأَمَّا مَنْ جُرِحَ فِي حَرْبٍ ثُمَّ خَلَصَ حَيًّا فَمَاتَ مِنْ جِرَاحَتِهِ وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ، أَوْ

(3/35)


مَاتَ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبِ بِزَمَانٍ قَرِيبٍ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ كَالْقَتِيلِ فِي الْمُعْتَرَكِ، سَوَاءٌ أَكَلَ الطَّعَامَ أَمْ لَا، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ تَقَضِّي الْحَرْبِ وَانْكِشَافِهَا بِزَمَانٍ بَعِيدٍ غُسِّلَ وصلى عليه.
وقال أبو حنيفة إذا مَاتَ قَبْلَ أَكْلِ الطَّعَامِ لَمْ يُغَسَّلْ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَكْلِ الطَّعَامِ غُسِّلَ، وَالِاعْتِبَارُ بِقُرْبِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عبيدة ابن الْحَارِثِ أُصِيبَتْ رِجْلُهُ بِبَدْرٍ فَحُمِلَ وَعَاشَ حَتَّى مَاتَ بِالصَّفْرَاءِ، فَغَسَّلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَصَلَّى عَلَيْهِ، فَلَوْ أَسَرَ الْمُشْرِكُونَ رَجُلًا وَقَتَلُوهُ بِأَيْدِيهِمْ صَبْرًا فَفِي غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْجَرِيحِ إِذَا خَلَصَ حَيًّا وَمَاتَ، لِأَنَّ خُرُوجَ رُوحِهِ فِي غَيْرِ الْمُعْتَرَكِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قُتِلَ ظُلْمًا بِيَدِ مُشْرِكٍ حَرْبِيٍّ كالقتيل في المعترك، فأما من مات شهيداً بغرق أَوْ حَرْقٍ أَوْ تَحْتَ هَدْمٍ أَوْ قُتِلَ غِيلَةً أَوْ قَتَلَهُ اللُّصُوصُ وَقُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَكُلُّ هؤلاء لا يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ فَقَدْ قُتِلَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ شُهَدَاءَ فَغُسِّلُوا وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ.

فَصْلٌ
: إِذَا قُتِلَ الصَّبِيُّ أَوِ الْمَرْأَةُ فِي مُعْتَرَكِ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ كَغَيْرِهِمْ مِنَ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ، وَوَافَقَنَا أبو حنيفة فِي الْمَرْأَةِ، وَخَالَفَنَا فِي الصَّبِيِّ، فَقَالَ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، لِأَنَّ تَرْكَ الْغُسْلِ تَطْهِيرٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَالصَّبِيُّ لَا ذَنْبَ لَهُ فَلَا يَلْحَقُهُ التَّطْهِيرُ، فَوَجَبَ أَنْ يُغَسَّلَ، وَهَذَا غَلَطٌ، لِأَنَّ الْبَالِغَ مُخَاطَبٌ فِي حَيَاتِهِ بِطَهَارَتَيِ الْحَدَثِ وَإِزَالَةِ النَّجَسِ وَلَا يَلْزَمُ الصَّبِيُّ وَاحِدًا مِنْهُمَا، فَلَمَّا سَقَطَ لِلشَّهَادَةِ الْغُسْلُ فِيمَنْ تَلْزَمُهُ الطَّهَارَتَانِ فِي حَيَاتِهِ فَلَأَنْ تَسْقُطَ بِهَا عَمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ فِي حَيَاتِهِ أَوْلَى، وَلِأَنَّ حُكْمَ الصَّلَاةِ وَالْغُسْلِ يَجْرِيَانِ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ عَلَى سَوَاءٍ كَالْمَوْتَى، وَأَمَّا قَوْلُهُ تَرْكُ الْغُسْلِ تَطْهِيرٌ فَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا تُرِكَ لِأَنَّهُ اسْتَغْنَى بِكَرَامَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَنْهُ.
فَصْلٌ
: إِذَا كَانَ قَبْلَ الْمَعْرَكَةِ جُنُبًا فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ نَصٌّ فِي إِيجَابِ غُسْلِهِ، لَكِنِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمْ أَنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَجِبُ غُسْلُهُ لِلْجَنَابَةِ لَا لِلْمَوْتِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ فَمَنْ أَوْجَبَ غُسْلَهُ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ " أَنَّ حَنْظَلَةَ بْنَ الرَّاهِبِ قُتِلَ يوم

(3/36)


أحدٍ فَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُهُ فَبَعَثَ إِلَى أَهْلِهِ فَسَأَلَ عَنْ شَأْنِهِ فَقَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا بِهِ غَيْرَ أَنَّهُ كَانَ وَاقَعَ أَهْلَهُ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الْحَرْبِ جُنُبًا " فَلَمَّا غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَالْمَلَائِكَةُ لَا تُغَسِّلُهُ إِلَّا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ دَلَّ عَلَى أَنَّ غُسْلَهُ مَأْمُورٌ بِهِ، وَلِأَنَّهُ لَزِمَهُ غُسْلُ جَمِيعِ بَدَنِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِالْقَتْلِ، كَمَا إِذَا كَانَ عَلَى جَمِيعِ بَدَنِهِ نَجَاسَةٌ ثُمَّ قُتِلَ شَهِيدًا.
وَمَنْ قَالَ لَا يَجِبُ غُسْلُهُ اسْتَدَلَّ بِأَنَّهَا طَهَارَةٌ عَنْ حَدَثٍ فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْقَتْلِ كَالطَّهَارَةِ الصُّغْرَى، وَلِأَنَّ الْحَيَّ الْجُنُبَ إِنَّمَا يُغَسَّلُ لِأَنْ يُصَلِّيَ وَالْمَيِّتَ إِنَّمَا يُغَسَّلُ لِأَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْقَتِيلُ الْجُنُبُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ فَلَا مَعْنَى لِغُسْلِهِ، فَأَمَّا إِزَالَةُ النَّجَاسَةِ مِنْ بَدَنِهِ فَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الشَّهَادَةِ لَمْ يَجِبْ إِزَالَتُهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ جِهَةِ الشَّهَادَةِ كَالْبَوْلِ وَالْخَمْرِ وَجَبَ إِزَالَتُهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجَنَابَةِ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ إِزَالَةُ قَلِيلِ النَّجَاسَةِ وَجَبَ إِزَالَةُ كَثِيرِهَا، وَلَمَّا لَمْ يَجِبْ إِزَالَةُ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ لَمْ يَجِبْ إِزَالَةُ الْأَكْبَرِ.

فَصْلٌ
: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيمَنْ قُتِلَ فِي مَعْرَكَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ، فَأَمَّا مَنْ قُتِلَ فِي مَعْرَكَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَلَهُ حَالَانِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ بَاغِيًا أَوْ عَادِلًا، فَإِنْ كَانَ بَاغِيًا غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ اسْتِهَانَةً به، لأنه باين جميع الْمُسْلِمِينَ بِفِعْلِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يُغَسَّلَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْحَرْبِيِّ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِ غُسْلِهِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَخَلْفَ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تُكَفِّرُوا أَحَدًا مِنْ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ وَإِنْ عَمِلُوا الْكَبَائِرَ وَجَاهِدُوا مَعَ كُلِّ أميرٍ، وَصَلُّوا عَلَى كُلِّ ميتٍ " وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ مقتول فوجب أن يغسل ويصلى عليه ك " الزاني " الْمُحْصَنِ، وَالْقَاتِلِ الْعَامِدِ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ اسْتِغْفَارٌ وَرَحْمَةٌ وَالْبَاغِي إِلَيْهَا أَحْوَجُ فَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى أَهْلِ الحرب فغلط لوقوع الفرق بينهما.
فصل
: وإن كان المقتول عادلاً ففي غسل وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ:

(3/37)


أَحَدُهُمَا: يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ صَلَّى عَلَى قَتْلَاهُ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ فَوَجَبَ أَنْ يُغَسَّلَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْمَقْتُولِ غِيلَةً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ لَمَّا قُتِلَ بِصِفِّينَ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ بِوَصِيَّةِ عَمَّارٍ، وَأَمْرِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِأَنَّهُ مُسْلِمٌ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ ظُلْمًا فَوَجَبَ أَنْ لَا يُغَسَّلَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَالْقَتِيلِ فِي مَعْرَكَةِ الْمُشْرِكِينَ.

فَصْلٌ
: إِذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْمُشْرِكِينَ صَلَّى عَلَى جَمَاعَتِهِمْ وَاحِدًا وَاحِدًا، وَنَوَى بِالصَّلَاةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُمْ، وَسَوَاءٌ اخْتَلَطَ مُسْلِمٌ بِمِائَةِ مُشْرِكٍ، أَوْ مُشْرِكٌ بِمِائَةِ مُسْلِمٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة إِنْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكْثَرَ صَلَّى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ أَوْ كَانُوا سَوَاءً لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ، اعْتِبَارًا بِحُكْمِ الْأَغْلَبِ، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكَثُرَ رَجَاءَ أَنْ تَكُونَ صَلَاةً عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَقَلَّ، وَإِنْ كَانَ لَا يصلى عليهم إذا كان المسلون أَقَلَّ خَوْفًا مِنْ أَنْ تَكُونَ صَلَاةً عَلَى كُلِّ كَافِرٍ فَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَكَثَرَ، فَعُلِمَ فَسَادُ مَا اعْتَبَرُوهُ وَاللَّهُ أعلم.

(3/38)


باب حمل الجنازة
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ حَمَلَ فِي جِنَازَةِ سَعْدِ بْنِ معاذٍ بين العمودين وعن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ حَمَلَ سَرِيرَ ابْنِ عَوْفٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ عَلَى كَاهِلِهِ وَأَنَّ عثمان حمل بين عمودي سرير أمه فَلَمْ يُفَارِقْهُ حَتَّى وُضِعَ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ حَمَلَ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ حَمَلَ بَيْنَ عمودي سرير المسور (قال) ووجه حملها من الجوانب أن يضع ياسرة السرير المقدمة على عاتقه الأيمن ثم ياسرته المؤخرة ثم يامنة السرير المقدمة على عاتقه الأيسر ثم يامنته المؤخرة فإن كثر الناس أحببت أن يكون أكثر حمله بين العمودين ومن أين حمل فحسن ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: السُّنَّةُ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَحْمِلَهَا خَمْسَةٌ، أَرْبَعَةٌ فِي جَوَانِبِهَا وَوَاحِدٌ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ.
وَقَالَ أبو حنيفة السُّنَّةُ أَنْ يَحْمِلَهَا أَرْبَعَةٌ فِي جَوَانِبِهَا، وَلَيْسَ مِنَ السُّنَّةِ حَمْلُهَا بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ.
وَدَلِيلُنَا فِي ذَلِكَ: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ حَمَلَ جِنَازَةَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ وَرُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّهُ حَمَلَ سَرِيرَ ابْنِ عَوْفٍ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ عَلَى كَاهِلِهِ وَأَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَمَلَ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِ ابنه فَلَمْ يُفَارِقْهُ حَتَّى وُضِعَ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ حَمَلَ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ حَمَلَ بَيْنَ عمودي سرير المسور [ابن مَخْرَمَةَ] وَلِأَنَّ ذَلِكَ أَمْكَنُ وَأَحْصَرُ لِلْمَحْمُولِ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَوَجْهُ حَمْلِهَا مِنَ الْجَوَانِبِ، أَنْ يوضع بأسرة السَّرِيرِ مِنْ مُقَدَّمِهِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ وَيَتَأَخَّرَ، ويوضع بأسرة

(3/39)


السَّرِيرِ مِنْ مُؤَخَّرِهِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ وَيَضَعُ السَّرِيرَ مِنْ مُقَدَّمِهِ عَلَى عَاتِقِهِ الأيسر، ثم يتأخر ويضع ثامنة السَّرِيرِ مِنْ مُؤَخَّرِهِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرِ، ثُمَّ يَتَقَدَّمَ، ثُمَّ يَحْمِلَ الْخَامِسُ بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ عَلَى كَاهِلِهِ، فَإِنْ ثَقُلَتِ الْجِنَازَةُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَحْمِلَهَا سِتَّةٌ، وَثَمَانٍ، وَعَشْرٌ، وَأَنْ يُجْعَلَ تَحْتَهَا أَعْمِدَةٌ مُعَارَضَةٌ تَمْنَعُ الْجِنَازَةَ، كَذَا حُمِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، لِأَنَّهُ كَانَ مُبَدَّنًا ثَقِيلًا، فَأَمَّا النِّسَاءُ فَيُخْتَارُ لَهُنَّ إِصْلَاحُ النَّعْشِ كَالْقُبَّةِ عَلَى السَّرِيرِ لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّيَانَةِ، وَكَانَ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زوج النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَاتَتْ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَكَانَتْ خَلِيقَةً ذَاتَ جِسْمٍ، فَلَمَّا أَخْرَجُوهَا رَأَى النَّاسُ جُثَّتَهَا فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ: قَدْ رَأَيْتُ فِي بِلَادِ الْحَبَشَةِ نُعُوشًا لِمَوْتَاهُمْ فَعَمِلَتْ نَعْشًا لِزَيْنَبَ فَلَمَّا عُمِلَ قَالَ عمر رضي الله عنه نعم خبا الظَّعِينَةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ فِي حَمْلِ الْجِنَازَةِ دَنَاءَةٌ وَلَا إِسْقَاطُ مُرُوءَةٍ، بَلْ ذَلِكَ مَكْرُمَةٌ وَثَوَابٌ وَبِرٌّ، وَفِعَالُ أَهْلِ الْخَيْرِ، قَدْ فَعَلَهُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثُمَّ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَيَتَوَلَّى حَمْلَ الْجِنَازَةِ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ، سَوَاءٌ كَانَ الميت رجلاً أو امرأة، وكيف ما حملت الجنازة جاز.

(3/40)


باب المشي بالجنازة
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: " وَالْمَشْيُ بِالْجِنَازَةِ الْإِسْرَاعُ وهو فوق سجية المشي ".
قال الماوردي: وهو كَمَا قَالَ.
الْمُخْتَارُ لِحَامِلِ الْجِنَازَةِ أَنْ يَزِيدَ عَلَى سَجِيَّةِ مَشْيِهِ كَالْمُسْرِعِ، وَلَا يَسْعَى لِرِوَايَةِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " أَسْرِعُوا بِالْجِنَازَةِ، فَإِنْ كَانَ خَيْرًا تُقَدِّمُونَهَا إليه، وإن كان غير شَيْءٌ وَضَعْتُمُوهُ عَنْ رِقَابِكُمْ ".
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ سَأَلْنَا نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الْإِسْرَاعِ بِالْجِنَازَةِ فَقَالَ: " دُونَ الْخَبَبِ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا تُعَجَّلُ إِلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذلك فبعد الأهل النَّارِ ".
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَإِنْ كَانَ بِالْمَيِّتِ عِلَّةٌ يَخَافُ النَّجَاسَةَ يَعْنِي انْفِجَارَهُ تَرَفَّقَ به في المشي.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَبِهِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْمَشْيُ خَلْفَهَا أَفْضَلُ، وَرَوَاهُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: إِنْ كَانَ رَاكِبًا فَالْمَشْيُ أَمَامَهَا أَفْضَلُ، وَإِنْ كَانَ مَاشِيًا كَانَ بِالْخِيَارِ وَرَوَاهُ عَنْ أَنَسٍ.
وَاسْتَدَلُّوا عَلَى فَضْلِ الْمَشْيِ خَلْفَهَا بِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:

(3/41)


" الْجِنَازَةُ متبوعةٌ لَا تَتْبَعُ لَيْسَ مِنْهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا " وَبِمَا رَوَاهُ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: " فَضْلُ الْمَشْيِ خَلْفَ الْجِنَازَةِ عَلَى الْمَشْيِ أَمَامَ الْجِنَازَةِ كَفَضْلِ الْمَكْتُوبَةِ عَلَى النَّافِلَةِ، سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ".
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي خَلْفَهَا، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَمَامَهَا، فَقَالَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ يَعْلَمَانِ أَنَّ الْمَشْيَ خَلْفَهَا أَفْضَلُ، وَلَكِنَّهُمَا يُسَهِّلَانِ عَلَى النَّاسِ.
قَالُوا: وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إِنَّ الْجِنَازَةَ تَقُولُ قَدِّمُونِي قَدِّمُونِي ".
ودليلنا على فضل الشيء رِوَايَةُ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَمْشُونَ أَمَامَ الْجِنَازَةِ وَلَفْظَةُ كَانَ عِبَارَةٌ عَنْ دَوَامِ الْفِعْلِ وَالْمُقَامِ عَلَيْهِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَفْعَلُ الْجَائِزَ مَرَّةً وَلَا يَدُومُ إِلَّا عَلَى الْأَفْضَلِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ مَشَى خَلْفَ الْجِنَازَةِ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلنَّاسِ فِي جِنَازَةِ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ امْشُوا أَمَامَ أُمِّكُمْ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَنْهَى بِفِعْلِ الشَّيْءِ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا لِفَضْلِ مَا أَمَرَ بِهِ عَلَى مَا نَهَى عَنْهُ، وَلِأَنَّ أَفْضَلَ مَنْ مَشَى مَعَ الْجِنَازَةِ حَامِلُهَا لأن له أجرين، والماشي مَعَ الْجِنَازَةِ أَجْرٌ، ثُمَّ كَانَ مَنْ حَمَلَ قدام الجنازة أفضل من حَمَلَ مِنْ مُؤَخَّرِهَا، كَذَلِكَ مَنْ مَشَى أَمَامَ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ مِمَّنْ مَشَى خَلْفَهَا.
فَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ فَضَعِيفُ الْإِسْنَادِ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَيْسَ مَعَهَا مَنْ تَقَدَّمَهَا " يُحْمَلُ عَلَى مَنْ تَبَاعَدَ عَنْهَا وَانْقَطَعَ مِنْهَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ فَأَضْعَفُ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ رِوَايَةُ مُطَرِّفِ بْنِ يَزِيدَ وَكَانَ كَذَّابًا يَضَعُ الْحَدِيثَ، عَلَى أن خبرنا أولى منه، لأنه يفعل فعل دوام عليه.

(3/42)


وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَقَوْلُهُ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - يَعْلَمَانِ فَضْلَ الْمَشْيِ خَلْفَهَا وَلَكِنَّهُمَا يُسَهِّلَانِ عَلَى النَّاسِ، فَحَدِيثٌ غَيْرُ ثَابِتٍ، لِأَنَّهُ رِوَايَةُ بَحْرِ بْنِ جَابِرٍ وَكَانَ ضَعِيفًا، وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ بَحْرًا قِيلَ لَهُ مَنْ حَدَّثَكَ فَقَالَ: طَائِرٌ مَرَّ بِنَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إن الْجِنَازَة تَقُولُ قَدِّمُونِي " فَمَعْنَاهُ: أَسْرِعُوا بِي.

فَصْلٌ
: يُكْرَهُ لِمَنْ تَبِعَ الْجِنَازَةَ، أَنْ يَرْكَبَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ضَعِيفًا، أَوْ يَكُونَ الطَّرِيقُ بَعِيدًا، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا رَكِبَ فِي عِيدٍ وَلَا جِنَازَةٍ قَطُّ ".

(3/43)


وَرَوَى ذَلِكَ الزُّهْرِيُّ، فَإِذَا عَادَ مِنَ الدَّفْنِ جَازَ أَنْ يَرْكَبَ، وَلَمْ يُكْرَهْ ذَلِكَ لَهُ، وَرَوَى سَمُرَةَ بْنُ جُنْدُبٍ لَمَّا مَاتَ ثَابِتُ بْنُ الدَّحْدَاحِ تَبِعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جِنَازَتَهُ مَاشِيًا، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ دَفْنِهِ أُتِيَ بفرسٍ فَرَكِبَهُ، وَرَجَعَ عَلَيْهِ.

(3/44)


بَابُ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَالْوَلِيُّ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ مِنَ الْوَالِي لِأَنَّ هَذَا من الأمور الخاصة ".
مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ: أَنَّ الْوَلِيَّ الْمُنَاسِبَ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ وَالِي الْبَلَدِ، وَسُلْطَانِهِ وَقَالَ أبو حنيفة وَالِي الْبَلَدِ وَسُلْطَانُهُ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ سَائِرِ أَوْلِيَائِهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: اسْتِدْلَالًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا يَؤُمَّنَّ رجلٌ رَجُلًا فِي سُلْطَانِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ ".
وَرُوِيَ عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ - عليهما السلام - قَدَّمَ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ حَتَّى صَلَّى عَلَى أَخِيهِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَقَالَ: " لَوْلَا السُّنَّةُ لَمَا قَدَّمْتُكَ " وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ سُنَّ لَهَا الْجَمَاعَةُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَالِي بِإِقَامَتِهَا أَوْلَى مِنَ الْوَلِيِّ، كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ وَوَجَّهَ فِي الْجَدِيدِ عُمُومَ قوله تعالى: {وَأَولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) {الأنفال: 75) وَلِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةٌ بِالنَّسَبِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ أَحَقَّ مِنَ الْوَالِي كَالنِّكَاحِ، وَلِأَنَّ كُلَّ مَنْ تَقَدَّمَ عَلَى غَيْرِهِ فِي النِّكَاحِ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ، كَالْقَرِيبِ عَلَى الْبَعِيدِ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّرَحُّمُ وَالِاسْتِكْثَارُ مِنَ الدُّعَاءِ.
وَلِهَذَا كَانَ الْأَبُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ أَشْفَقُ وَأَحْنَى وَأَرَقُّهُمْ عَلَيْهِ، قُلْنَا فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ أَوْلَى لِاخْتِصَاصِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى.
فَأَمَّا الْخَبَرُ فمحمول على الصلوات المفروضات.
وأما تقديم الحسين عَلَيْهِ السَّلَامُ لِسَعِيدٍ، وَقَوْلُهُ: لَوْلَا السُّنَّةُ لَمَا قَدَّمْتُكَ، يَعْنِي: أنَّ مِنَ السُّنَّةِ تَقْدِيمَ الْوُلَاةِ عَلَى طَرِيقِ الْأَدَبِ لَا الْوَاجِبُ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَعِيدًا اسْتَأْذَنَ الْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ حَقًّا لَهُ لَمَا اسْتَأْذَنَ فِيهِ، وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، فَالْمَعْنَى فِيهَا ثُبُوتُ الْحَقِّ فِيهَا، بِالْوِلَايَةِ دون النسب.

(3/45)


مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأَحَقُّ قَرَابَتِهِ الْأَبُ ثُمَّ الْجَدُّ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ ثَمَّ الْوَلَدُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ ثُمَّ الْأَخُ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ ثُمَّ الْأَخُ لِلْأَبِ ثُمَّ أَقْرَبُهُمْ بِهِ عَصَبَةً ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا ثَبَتَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَيِّتِ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنَ الْوَالِي، فَأَحَقُّ الْأَوْلِيَاءِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ الْأَبُ، لأنه قد شارك الابن في البعضية، وَاخْتُصَّ بِفَضْلِ الْحُنُوِّ وَالشَّفَقَةِ، ثُمَّ الْجَدُّ أَبُو الْأَبِ، وَمَنْ عَلَا مِنْهُمْ لِمُشَارَكَتِهِمُ الْأَبَ فِي هذا المعنى، ثم الأب لاختصاصه بالبعضية وقربه بالتعصيب، ثُمَّ بَنُو الِابْنِ وَإِنْ سَفُلُوا لِمُشَارَكَتِهِمُ الِابْنَ في هذا لاختصاصهم المعنى، ثم الإخوة للأب والأم تتقدم على الإخوة للأب، بالرحم مَعَ مُشَارَكَتِهِمْ فِي التَّعْصِيبِ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْ خَرَّجَ مِنْ أَصْحَابِنَا قَوْلًا ثَانِيًا، أَنَّهُمْ سَوَاءٌ مِنْ وِلَايَةِ النِّكَاحِ، لِأَنَّ أَكْثَرَ أَصْحَابِنَا امْتَنَعُوا مِنْ تَخْرِيجِهِ فِي الصَّلَاةِ، احْتِجَاجًا بِمَا ذَكَرْتُ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ مَدْخَلًا فِي الْوِلَايَةِ عَلَى الْمَيِّتِ فِي غُسْلِهِ، فَقَوِيَ الْأَخُ بِهَا وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِي النِّكَاحِ، فَلَمْ يَزْدَدِ الْأَخُ بِهَا قُوَّةً، فَهُنَاكَ ثُمَّ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ، وَالْأُمِّ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ، ثُمَّ الْأَعْمَامُ ثُمَّ بَنُوهُمْ يَتَرَتَّبُونَ عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَصَبَةٌ، فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ من لا ولي له.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن اجتمع له أولياء فِي دَرَجَةٍ، فَأَحَبُّهُمْ إِلَيَّ أَسَنُّهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُحْمَدْ حَالُهُ فَأَفْضَلُهُمْ وَأَوْفَقُهُمُ، فَإِنِ اسْتَوَوْا، أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ وَالْوَلِيُّ الْحُرُّ أَوْلَى مِنَ الْوَلِيِّ الْمَمْلُوكِ "، وهو كَمَا قَالَ إِذَا كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَوْلِيَاءَ قَدِ اسْتَوَوْا فِي الدَّرَجِ، كَالْبَنِينَ وَالْإِخْوَةِ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُحْسِنُ الصَّلَاةَ، وَبَعْضُهُمْ لَا يُحْسِنُهَا، فَالَّذِي يُحْسِنُهَا مِنْهُمْ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنْ بَاقِيهِمْ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُمْ يُحْسِنُهَا، فَأَسَنُّهُمْ إِذَا كان محمود أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمُسِنُّ أَوْلَى مِنَ الْفَقِيهِ بِخِلَافِ إِمَامَةِ الصَّلَوَاتِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ، الِاسْتِغْفَارُ لَهُ، وَالتَّرَحُّمُ عَلَيْهِ، وَالدُّعَاءُ لَهُ، وَذَلِكَ مِنَ الْمُسِنِّ أَقْرَبُ إِلَى الْإِجَابَةِ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ (مِنْ إِجْلَالِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِكْرَامُ ذي الشيبة المسلمين) فإن استوت أحوالهم في السن، وتشاحنوا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، فَمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ، كَانَ أَوْلَى، فَأَمَّا الْعَبْدُ الْمُنَاسِبُ، فَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ، لِأَنَّ الرِّقَّ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْوِلَايَاتِ.

فَصْلٌ
: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَوْصَى قَبْلَ مَوْتِهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ رَجُلٌ بِعَيْنِهِ مِنْ غَيْرِ أَوْلِيَائِهِ، فَقَدْ حُكِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَابْنِ سِيرِينَ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَنَّهُ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ، وَهُوَ قِيَاسُ قَوْلِ مَالِكٍ.

(3/46)


وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَسَائِرِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ الْأَوْلِيَاءَ أَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ حَقٌّ لَهُمْ فَلَمْ تُنَفَّذْ فِيهِ وَصِيَّةُ الْمَيِّتِ لِانْقِطَاعِ وِلَايَتِهِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنْ دُخُولِ النَّقْصِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ، وَمِثَالُ هَذَا: وَصِيَّةُ الْمَيِّتِ لِتَزْوِيجِ بَنَاتِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(3/47)


باب وقت صلاة الجنازة
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُصَلَّى عَلَى الْجَنَائِزِ فِي كُلِّ وَقْتٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ، لَا يَخْتَصُّ بِهَا وَقْتٌ دُونَ وَقْتٍ، وَلَا تُكْرَهُ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، وَيَجُوزُ فِعْلُهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، وَكَرِهَ أبو حنيفة فِعْلَهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنِ الصَّلَاةِ فِيهَا، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الصَّلَوَاتِ الَّتِي لَهَا أَسْبَابٌ، وَاسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْ نُصَلِّيَ ثَلَاثَ سَاعَاتٍ، وَأَنْ نَقْبُرَ فِيهَا مَوْتَانَا حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ بَازِغَةً حَتَّى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ تَقُومُ الظَّهِيرَةُ حَتَّى تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَحِينَ تصفر للغروب حتى تغرب ".
قال الماوردي: وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مَعَهُ مِنَ الْكَلَامِ فِي أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى عَيْنِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: مَا رُوِيَ أَنَّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَاتَ فَصَلَّى عَلَيْهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ عِنْدَ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ، فَلَمْ يُعْلَمْ أَحَدٌ أَنْكَرَ ذَلِكَ فَكَانَ إِجْمَاعًا، وَلِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَهَا سَبَبٌ، فَجَازَ فِعْلُهَا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ كَالْمَفْرُوضَاتِ، فَأَمَّا حَدِيثُ عُقْبَةَ فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِأَنَّهُ نَهَى عَنْ قَبْرِ الْمَوْتَى فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ منه إجماعاً.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِنِ اجْتَمَعَتْ جَنَائِزُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَأَرَادُوا الْمُبَادَرَةَ جَعَلُوا النِّسَاءَ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ ثَمَّ الصِّبْيَانَ يَلُونَهُمْ ثَمَّ الرِّجَالَ مِمَا يَلِي الْإِمَامَ (قال المزني) قلت أنا والخناثى في معناه يكون النساء بينهن وبين الصبيان كما جعلهم في الصلاة بين الرجال والنساء ".

(3/48)


باب هل يسن القيام عند ورود الجنازة للصلاة وفي كيفية الصلاة والدفن
(قال) حدثنا إبراهيم قال حدثنا الربيع عن الشافعي قال: القيام في الجنائز منسوخ واحتج بحديث علي رضي الله عنه قال إبراهيم قال حدثنا يوسف بن مسلم المصيصي قال حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج قال أخبرني موسى بن عقبة عن قيس بن مسعود بن الحكم عن أبيه أنه شهد جنازة مع علي بن أبي طالب فرأى الناس قياماً ينتظرون أين توضع فأشار إليهم بدرةٍ أو سوطاً اجلسوا فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قد جلس بعد ما كان يقوم قال ابن جريج وأخبرني نافع بن جبير عن مسعود عن علي مثله.
ثُمَّ إِذَا اجْتَمَعَتْ عِدَّةُ جَنَائِزَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَخُصَّ كُلَّ جِنَازَةٍ بِصَلَاةٍ مُنْفَرِدَةٍ، وَتُقَدَّمَ الصَّلَاةُ عَلَى السَّابِقِ، فَإِذَا جَاءُوا عَلَى سَوَاءٍ وَلَمْ يتشاحنوا فَالصَّلَاةُ عَلَى أَفْضَلِهِمْ نَسَبًا وَدِينًا، إِلَّا أَنْ يُخَافَ مِنْ غَيْرِهِ الْفَسَادُ، فَيُبْدَأَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فإن تشاحنوا فِي التَّقْدِيمِ، أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، وَبَدَأَ بِمَنْ خَرَجَتْ لَهُ الْقُرْعَةُ، وَإِنْ كَانَ أَنْقَصَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ مُنْفَرِدِينَ، جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِمْ مُجْتَمِعِينَ، فَإِنْ كَانُوا جِنْسًا وَاحِدًا رجالاً غَيْرَ أَوْ نِسَاءً كَذَلِكَ، فَالْمُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلُهُمْ أَقْرَبَ إِلَى الْإِمَامِ، ثُمَّ بَعْدَهُ مَنْ يَلِيهِ فِي الْفَضْلِ، حَتَّى يَكُونَ أَقَلُّهُمْ فَضْلًا أبعدهم من الإمام وأقربهم الْقِبْلَةِ، كَمَا يَخْتَارُ أَنْ يَكُونَ أَقْرَبُ الْأَحْيَاءِ أَقْرَبَ إِلَى الْإِمَامِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِيَلِيَنِي مِنْكُمْ أُولُو الْأَحْلَامِ وَالنُّهَى، هَذَا إِذَا لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَقَتْ إِلَى الْمَوْضِعِ جِنَازَةُ غَيْرِهِ، فَأَمَّا إِنْ سَبَقَتْ جِنَازَةُ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَيْسَ بِأَفْضَلَ وَوُضِعَتْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تُؤَخَّرَ لِجِنَازَةِ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ، كَالْحَيِّ إِذَا سَبَقَ إِلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ، لَمْ يَكُنْ لِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ، فَأَمَّا إِنْ كَانُوا أَجْنَاسًا بَدَأَ فَقَدَّمَ الرِّجَالُ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، ثُمَّ بَعْدَهُمُ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ بَعْدَهُمُ الْخَنَاثَى ثُمَّ بَعْدَهُمُ النِّسَاءَ، وَهُوَ أَقْرَبُ الْجَمَاعَةِ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَأَبْعَدُهُمْ مِنَ الْإِمَامِ، وَاخْتَارَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ ضِدَّ هَذَا، فَقَالَ: يَكُونُ الرِّجَالُ أَقْرَبَ إِلَى الْقِبْلَةِ، وَالنِّسَاءُ أَقْرَبَ إِلَى الْإِمَامِ كَالدَّفْنِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى في الاختيار، لما رَوَاهُ نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ صَلَّى عَلَى تِسْعِ جَنَائِزَ، فَجَعَلَ الرِّجَالَ مِمَّا يَلِيهِ، وَالنِّسَاءَ صُفُوفًا وَرَاءَ الرِّجَالِ.

(3/49)


وَرَوَى عَمَّارٌ مَوْلَى الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ أَنَّهُ شَهِدَ جِنَازَةَ أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا امْرَأَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَابْنِهَا زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَا مَاتَا فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ، فَوُضِعَا جَمِيعًا فِي الْمُصَلَّى، وَالْإِمَامُ يَوْمَئِذٍ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ وَهُوَ الْأَمِيرُ، وَفِي النَّاسِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَأَبُو قَتَادَةَ، فَوَضَعَ الْغُلَامَ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ، قَالَ: فَأَنْكَرْتُ ذَلِكَ، فَنَظَرْتُ إِلَى هَؤُلَاءِ فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذِهِ السُّنَّةُ، وَلِأَنَّهُمْ إِذَا صَلَّوْا خَلْفَ الْإِمَامِ، كَانَ الرِّجَالُ أَقْرَبَهُمْ إِلَى الْإِمَامِ، كَذَلِكَ إِذَا صَلَّى عَلَيْهِ الْإِمَامُ، فَأَمَّا الدَّفْنُ، فَيُخْتَارُ أَنْ يَكُونَ الرِّجَالُ أَقْرَبَ إِلَى الْقِبْلَةِ، ثُمَّ الصِّبْيَانُ، ثُمَّ الْخَنَاثَى، ثُمَّ النِّسَاءُ، أَبْعَدَ الْجَمَاعَةِ مِنْهَا، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَخِّرُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَخَّرَهُنَّ اللَّهُ " وَكَانَ هَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْفَضْلَ فِي الْقُرْبِ مِنَ الْإِمَامِ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِمَامٌ؛ كَانَ الْفَضْلُ فِي الْقُرْبِ مِنَ الْقِبْلَةِ، فَإِنْ خُولِفَ مَا اخْتَرْنَاهُ أَجْزَأَ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا مَوْقِفُ الْإِمَامِ مِنَ الْمَيِّتِ؛ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نص، لكن قال أصحابنا البصريين: يَقِفُ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ، وَعِنْدَ عَجُزِ الْمَرْأَةِ، وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ.
وَقَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: يَقِفُ عِنْدَ رَأْسِ الرَّجُلِ وَعَجُزِ الْمَرْأَةِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَقِفُ عِنْدَ صَدْرِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، لِرِوَايَةِ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى امْرَأَةٍ مَاتَتْ بِالنِّفَاسِ، يُقَالُ لَهَا أُمُّ كَعْبٍ، فَوَقَفَ عِنْدَ وَسَطِهَا، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا، وَلِأَنَّ عَجُزَهَا أَعْظَمُ عَوْرَتِهَا فَاخْتَرْنَا أَنْ يَقِفَ عِنْدَهُ لِيَسْتُرَهُ.

فَصْلٌ: الْقَوْلُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ في المسجد
كَرِهَ مَالِكٌ وأبو حنيفة أَنْ يُدْخَلَ الْمَيِّتُ الْمَسْجِدَ، وَأَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِيهِ، وَذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ مَاتَ، أُدْخِلَ الْمَسْجِدَ لِيُصَلَّى عَلَيْهِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ بَعْضُ الناس، فقال عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهِ مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أبي سهيلٍ واجباً إِلَّا فِي الْمَسْجِدِ ".
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى عَلَى صُهَيْبٍ فِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.

(3/50)


فصل: القول في صلاة الغائب
يَجُوزُ لِأَهْلِ الْبَلَدِ أَنْ يُصَلُّوا عَلَى مَيِّتٍ مات ببلد آخر.
وَقَالَ أبو حنيفة لَا يَجُوزُ ذَلِكَ، وَذَلِكَ رَدٌّ لِلسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَعَى النَّجَاشِيَّ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ مَاتَ، وَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى وَكَبَّرَ أَرْبَعًا.

فَصْلٌ: الْقَوْلُ في الصلاة على المقتول في حد
المتقول فِي حَدٍّ وَقِصَاصٍ يَجِبُ غُسْلُهُ، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: الْمَقْتُولُ حَدًّا بِالرَّجْمِ، لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَالْمَقْتُولُ قَوَدًا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: كُلُّ مَقْتُولٍ بِحَدٍّ فِي قَوَدٍ، أَوْ حَدٍّ لَا يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَامُ، وَيُصَلِّي عَلَيْهِ أَوْلِيَاؤُهُ:
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا مَاتَتِ الْمَرْأَةُ فِي نِفَاسٍ مِنْ زِنًا، لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهَا، وَلَا عَلَى وَلَدِهَا، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: لَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِهِمْ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غَسْلُ مَوْتَاهَا وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا ".

(3/51)


بَابُ التَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَمَنْ أَوْلَى بِأَنْ يدخله القبر
قال الشافعي رضي الله عنه: " أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ أَرْبَعًا وَقَرَأَ بِأُمِّ الْقُرْآنِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الأولى وروي عن ابن عباس أنه قرأ بفاتحة الكتاب وجهر بها وقال إنما فعلت لتعلموا أنها سنة وعن ابن عمر أنه كان يرفع يديه كلما كبر على الجنازة وعن ابن المسيب وعروة مثله ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْمَوْتَى: فَمِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غَسْلُ مَوْتَاهَا، وَالصَّلَاةُ عَلَيْهَا " فَإِذَا ثَبَتَ وُجُوبُهَا فَهِيَ صَلَاةٌ شَرْعِيَّةٌ يَجِبُ فِيهَا طَهَارَةُ الْأَعْضَاءِ، وَسِتْرُ الْعَوْرَةِ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَافَّةِ، إِلَّا أَنَّ الشَّعْبِيَّ وَابْنَ جَرِيرٍ الطَّبَرِيَّ، فَإِنَّهُمَا قَالَا: لَيْسَتْ صَلَاةً شَرْعِيَّةً وَإِنَّمَا دُعَاءٌ وَاسْتِغْفَارٌ، يَجُوزُ فِعْلُهَا بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، هَذَا قَوْلٌ خَرَقَا فِيهِ الْإِجْمَاعَ، وَخَالَفَا فِيهِ الْكَافَّةَ، مَعَ مَا وَرَدَ بِهِ الْكِتَابُ مِنْ تَسْمِيَتِهَا صَلَاةً فِي الشَّرْعِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً ولاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) {التوبة: 84) وَإِذَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَنَّهَا صَلَاةٌ لَمْ تَجُزْ إِلَّا بِطَهَارَةٍ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طهورٍ " وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إِلَى إِحْرَامٍ وَسَلَامٍ، فَوَجَبَ أَنْ تَفْتَقِرَ إِلَى الطَّهَارَةِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَلِأَنَّهَا لَمَّا اعْتُبِرَ فِيهَا شُرُوطُ الصَّلَاةِ، كَسِتْرِ الْعَوْرَةِ، وَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، وَجَبَ اعْتِبَارُ الطَّهَارَةِ فِيهَا.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا مَا يَتَضَمَّنُهَا فَشَيْئَانِ تَكْبِيرٌ وَأَذْكَارٌ فَأَمَّا عَدَدُ تَكْبِيرِهَا: فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ الصَّحَابَةِ، وَجُمْهُورِ التَّابِعِينَ، وَمَذْهَبُ الْفُقَهَاءِ أَجْمَعِينَ، أَنَّهَا أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، يُكَبِّرُ ثَلَاثًا.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: يُكَبِّرُ خَمْسًا.
وَالْمَذْهَبُ الرَّابِعُ: وَهُوَ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يُكَبِّرُ مَا شَاءَ مِنْ غَيْرِ عَدَدٍ مَحْصُورٍ، وَلَكِنْ مَذْهَبُ مَنْ هُوَ خَبَرٌ مَرْوِيٌّ وَالْأَرْبَعُ أَصَحُّهَا وَأَوْلَاهَا؛ لِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ:

(3/52)


أَحَدُهَا: أَكْثَرُ رِوَايَةٍ فِي أَمْوَاتٍ شَتَّى، فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ عَلَى النَّجَاشِيِّ أَرْبَعًا، وَرَوَى سَهْلُ بْنُ حنيف أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كبر على قبر سكينة أَرْبَعًا.
وَرَوَى أَنَسٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ عَلَى ابْنِهِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرْبَعًا، آخر فعله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَكَانَ نَاسِخًا لِمُتَقَدِّمِهِ.
وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ أَبِي أَوْفَى أَنَّ آخِرَ مَا كَبَّرَ رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْجَنَائِزِ أَرْبَعًا، جِنَازَةَ سُهَيْلِ ابْنِ بَيْضَاءَ.

(3/53)


وَالثَّالِثُ: عَمَلُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَهُ وَانْعِقَادُ إِجْمَاعِهِمْ عَلَيْهِ، فَأَمَّا عَمَلُ الصَّحَابَةِ، فَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَبَّرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أربعاً، وكبر علي عَلَى أَبِي بَكْرٍ أَرْبَعًا، وَكَبَّرَ صُهَيْبٌ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَرْبَعًا، وَكَبَّرَ الْحَسَنُ على علي ابن أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَرْبَعًا.

(3/54)


فَأَمَّا انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ، فَهُوَ مَا رُوِيَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ قَالَ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعْدَ مَوْتِهِ فِي التَّكْبِيرِ عَلَى الْجِنَازَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: يُكَبِّرُ أَرْبَعًا، وَقَالَ قَوْمٌ ثَلَاثًا، وَقَالَ قَوْمٌ: خَمْسًا، فَجَمَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ يُكَبِّرَ فِيهَا أَرْبَعًا، فَكَانَ انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ مُزِيلًا لِحُكْمِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْخِلَافِ، وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يَجْعَلُ ذَلِكَ مِنَ الِاخْتِلَافِ الْمُبَاحِ، وَلَيْسَ بَعْضُهُ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ مَذْهَبِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ يُبْطِلُ هَذَا الْمَذْهَبَ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي أَعْدَادِ التَّكْبِيرِ، فَأَمَّا الْأَذْكَارُ فَيَأْتِي فِيمَا بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ أَرْبَعٌ لَا يُزَادُ عَلَيْهَا، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا، وَكَبَّرَ الْإِمَامُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، لَمْ يَجُزْ لِلْمَأْمُومِينَ اتِّبَاعُهُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ، وَهَلْ يُسَلِّمُونَ أَوْ يَنْتَظِرُونَ سَلَامَهُ، عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُسَلِّمُونَ، لِأَنَّ الْإِمَامَ يَفْعَلُ مَا لَيْسَ مِنْ صَلَاتِهِمْ.
وَالثَّانِي: يَنْتَظِرُونَ فَرَاغَهُ لِيُسَلِّمُوا مَعَهُ، حَتَّى يَكُونَ خروجهم بخروجه.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ويكبر المصلي على الميت ويرفع يديه حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ الْمُصَلِّي أَنْ يَفْتَتِحَ الصَّلَاةَ بِالتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، نَاوِيًا الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ، فَإِنْ لَمْ يَنْوِ لَمْ تُجْزِهِ، لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى " وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ كُلَّمَا كَبَّرَ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى لَا غَيْرَ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى، لِمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ ابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَمِنَ التَّابِعِينَ عُرْوَةُ، وَابْنُ الْمُسَيَّبِ، ثُمَّ مِنَ الدَّلِيلِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: أَنَّهَا تَكْبِيرَةٌ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يُسْتَحَبَّ فِيهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ، كَالتَّكْبِيرَةِ الْأُولَى، وَلِأَنَّ مَا سُنَّ فِي التَّكْبِيرَةِ الْأَوْلَى سُنَّ فِي الثَّانِيَةِ، كَمَا يَجْهَرُ بِالتَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدَ فِي الْقِيَامِ مِنْ سُنَنِهَا رَفْعُ الْيَدَيْنِ كَتَكْبِيرَاتِ العيدين.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ثَمَّ يَقْرَأُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَبْتَدِئُهَا بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَهِيَ وَاجِبَةٌ فِيهَا، وَبِهِ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما.

(3/55)


وَقَالَ مَالِكٌ، وأبو حنيفة، لَيْسَتْ وَاجِبَةً وَلَا مُسْتَحَبَّةً، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ، إِلْحَاقًا بِالسُّجُودِ وَالرُّكُوعِ وَإِنَّ ذَلِكَ إِنْ كَانَ وَاجِبًا لِيَكُونَ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى وُجُوبِهَا: رِوَايَةُ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَبَّرَ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعًا وَقَرَأَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأَوْلَى، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَقَالَ: إِنَّمَا جَهَرْتُ لِتَعْلَمُوا أَنَّ فِيهَا قِرَاءَةً وَلِأَنَّهَا صلاة تتضمن القيام فوجب أن تتضمن القراءة كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ.

فَصْلٌ
: فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ فِيهَا وَاجِبَةٌ فَيَبْتَدِئُ بِالتَّعَوُّذِ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ، فأما قوله: " وجهت وجهي " فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مُسْتَحَبٌّ كَالتَّعَوُّذِ.
وَالثَّانِي: لَيْسَ بِمُسْتَحَبٍّ كَالسُّورَةِ، ثُمَّ إِنْ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ نَهَارًا، أَسَرَّ بِالْقِرَاءَةِ، وَإِنْ صَلَّى عَلَيْهَا لَيْلًا، فَفِيهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجْهَرُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ.
وَالثَّانِي: يُسِرُّ بِهَا وَلَا يَجْهَرُ، كَمَا يُسِرُّ لِلدُّعَاءِ وَلَا يَجْهَرُ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " ثَمَّ يُكَبِّرُ الثَّانِيَةَ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ كَذَلِكَ، ثُمَّ يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ويدعو للمؤمنين والمؤمنات ".
ذكر المزني هاهنا، وإذا كبر الثانية ذكر الله تعالى، وصلى على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، ودعا للمؤمنين والمؤمنات، فذكر ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ فَأَمَّا التَّحْمِيدُ: فَلَمْ يَحْكِ عَنِ الشَّافِعِيِّ غَيْرُ الْمُزَنِيِّ ذَكَرَهُ فِي الْمُخْتَصَرِ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي جَامِعِهِ الْكَبِيرِ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ نَسَبَ الْمُزَنِيَّ إِلَى الْغَلَطِ فِيمَا نَقَلَهُ مِنَ التحميد، ولم يخيره، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنَ التَّحْمِيدِ مَأْخُوذٌ بِهَا، وَالْمُزَنِيُّ لَمْ يَنْقُلْهَا مِنْ كِتَابٍ، وَإِنَّمَا رَوَاهَا سَمَاعًا مِنْ لَفْظِهِ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ التَّحْمِيدَ فِي الثَّانِيَةِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ. وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِحْبَابِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ، وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - واجبة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ فِيهَا " وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ دُعَاءٌ يُرْجَى إِجَابَتُهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " كُلُّ دُعَاءٍ فَهُوَ مَحْجُوبٌ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَى يُصَلَّى عَلَى مُحَمَدٍ وَعَلَى آلِهِ " وَلَا يَخْتَلِفُونَ أَنَّ الدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ اسْتِحْبَابٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فِيهِ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوَّلًا، وَبِالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثانياً،

(3/56)


وَبِالدُّعَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثَالِثًا، فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَقُلُوبِهِمْ عَلَى الْخَيْرَاتِ، وَاجْعَلْ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَالْحِكْمَةَ، وَثَبِّتْهُمْ عَلَى مِلَّةِ نبيك محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا الدُّعَاءَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ عُقَيْبَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، لِيَكُونَ أَسْرَعَ إِلَى الْإِجَابَةِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " إِذَا سَأَلَ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ فِي حَاجَتِهِ فَلْيَبْدَأْ بِالصَّلَاةِ عَلَيَّ فَإِنَّ الْكَرِيمَ إِذَا سئل في حاجتين لم يجب في أحدها وَتَرَكَ الْأُخْرَى " فَلَوْ قَدَّمَ بَعْضَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ عَلَى بَعْضٍ جَازَ، وَلَوِ اقْتَصَرَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جاز.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ثُمَّ يُكَبِّرُ الثَّالِثَةَ وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ كَذَلِكَ وَيَدْعُو للميت فيقول " اللهم عبدك وابن عبدك خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبه وأحباؤه فيها إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه وكان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولك وأنت أعلم به اللهم نزل بك وأنت خير منزولٍ به وأصبح فقيراً إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه ولقه برحمتك رضاك وقه فتنة القبر وعذابه وافسح له في قبر وجاف الأرض عن جنبيه ولقه برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين " ثم يكبر الرابعة ثم يسلم عن يمينه وشماله ويخفي القراءة والدعاء ويجهر بالسلام ".
قال الماوردي: وإذا كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً قَالَ: اللَّهُمَّ أَمَتُكَ، وَابْنَةُ عَبْدِكَ، وَأَتَى بِجَمِيعِ الدُّعَاءِ بِلَفْظِ التَّأْنِيثِ، وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ طِفْلًا، دَعَا لِأَبَوَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ لَهُمَا فَرَطًا وَسَلَفًا، وَذُخْرًا وَعِظَةً وَاعْتِبَارًا، وثقل به موازنيهما، وَأَفْرِغِ الصَّبْرَ عَلَى قُلُوبِهِمَا، وَلَا تَفْتِنْهُمَا بَعْدَهُ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا الدُّعَاءَ، لِأَنَّهُ مَأْثُورٌ عَنِ السَّلَفِ وَبِأَيِّ شَيْءٍ دَعَا وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى أَنْ قَالَ اللَّهُمَّ ارْحَمْ جَازَ، ثُمَّ يُكَبِّرُ الرَّابِعَةَ وَيُسَلِّمُ، وَلَمْ يُحْكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي الرَّابِعَةِ ذِكْرٌ غَيْرُ السَّلَامِ، وَقَالَ الْبُوَيْطِيُّ: إِذَا كَبَّرَ الرَّابِعَةَ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا، وَشَاهِدِنَا وَغَائِبِنَا، وَحَكَى أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي الرَّابِعَةِ: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَحْكِيٍّ عَنِ الشَّافِعِيِّ فَإِنْ فَعَلَ كَانَ حَسَنًا وَيسَلّم تَسْلِيمَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا عَنْ يَمِينِهِ، وَالثَّانِيَةُ عَنْ شِمَالِهِ، وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ الْقَدِيمِ إِنْ كَانَ الْجَمْعُ يَسِيرًا سَلَّمَ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً عَنْ يَمِينِهِ وَتِلْقَاءَ وجهه.

(3/57)


فصل شروط صحة صلاة الجنازة
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ شُرُوطَ الصَّلَاةِ مُعْتَبَرَةٌ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَهِيَ طَهَارَةُ الْأَعْضَاءِ مِنْ حَدَثٍ وَنَجَسٍ، وَسِتْرُ الْعَوْرَةِ بِلِبَاسٍ طَاهِرٍ، وَالْوُقُوفُ عَلَى مَكَانٍ طَاهِرٍ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ، فَمَنْ أَخَلَّ بِشَرْطٍ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مُصَلِّيًا عَلَيْهَا، فَلَوْ أَنَّ قَوْمًا صَلَّوْا عَلَى جِنَازَةٍ، وَكُلُّهُمْ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ لَمْ تُجْزِهِمْ، وَأَعَادُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ بِطَهَارَةٍ كَامِلَةٍ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَلَّوْا قُعُودًا أَجْمَعِينَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ، فَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ عَلَى طَهَارَةٍ وَبَعْضُهُمْ عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ، أَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ قِيَامًا وَبَعْضُهُمْ قُعُودًا، فَإِنْ كَانَ الْقَائِمُ وَالْمُتَطَهِّرُ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً وَأَكْثَرَ أَجْزَأَ وَلَمْ يُحْتَجْ إِلَى إِعَادَةِ الصَّلَاةِ، لِوُقُوعِ الْكِفَايَةِ بِهِمْ، وَإِنْ كَانَ الْقَائِمُ الْمُتَطَهِّرُ وَاحِدًا أَوِ اثْنَيْنِ، لَمْ يَجْزِهِمْ وَأَعَادُوا الصَّلَاةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْكِفَايَةَ لَا تَقَعُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِذَا وُجِدُوا.

فَصْلٌ
: إِذَا مَاتَ رَجُلٌ بِمَوْضِعٍ لَيْسَ بِهِ إِلَّا النِّسَاءُ صَلَّيْنَ عَلَيْهِ فُرَادَى بِغَيْرِ إِمَامٍ، لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمْنَ عَلَى الرِّجَالِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فَإِنْ صَلَّيْنَ جَمَاعَةً جَازَ، فَلَوْ حَضَرَ الرِّجَالُ فِيمَا بَعْدُ، لَمْ تَلْزَمْهُمْ إِعَادَةُ الصَّلَاةِ، وَلَوْ كَانَتِ الْمَيِّتُ امْرَأَةً وَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يُصَلِّي عَلَيْهَا إِلَّا النِّسَاءُ صَلَّيْنَ عَلَيْهَا، لِأَنَّ النِّسَاءَ يَجُوزُ أَنْ يَتَقَدَّمْنَ عَلَى النساء.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ فَاتَهُ بَعْضُ الصَّلَاةِ افْتَتَحَ وَلَمْ يَنْتَظِرْ تَكْبِيرَ الْإِمَامِ ثُمَّ قَضَى مَكَانَهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وأبي يوسف.
وَقَالَ أبو حنيفة ومحمد: يَنْتَظِرُ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَلَا يُكَبِّرُ قَبْلَهُ، فَإِذَا كَبَّرَ الْإِمَامُ كَبَّرَ مَعَهُ فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ، قَضَى مَا فَاتَهُ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ تَكْبِيرَاتِ الْجِنَازَةِ جَارِيَةٌ مَجْرَى رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ، فَلَمَّا كَانَ الرَّجُلُ إِذَا سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَهَا ثُمَّ يَدْخُلَ مَعَهُ، كَذَلِكَ إذا فاته تكبيرة لم يجز أن يبدئها ثُمَّ يُكَبِّرَ مَعَهُ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " مَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا " وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ ما أدرك معه إلا بتقديم التَّكْبِيرِ، وَلِأَنَّهُ أَدْرَكَ جُزْءًا مَعَ الْإِمَامِ بِتَقَدُّمِ التَّكْبِيرِ، فَجَازَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ كَمَا يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ.
فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ أبو حنيفة فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى أَنْ يَلْزَمَ الْمَأْمُومُ أَنْ يَكُونَ تَكْبِيرُهُ مُقَارِنًا لِتَكْبِيرِ الْإِمَامِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أنه لو كبر بعد تكبيرة الإمام جاز، وإذا جاز جاز لمن أتى بعده.
فإذا تقرر أن يُكَبِّرَ وَلَا يَنْتَظِرَ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ قَدْ سَبَقَهُ بِتَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ، فَإِنْ أَدْرَكَ قِرَاءَةَ جَمِيعِهَا قَبْلَ التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ قَرَأَ

(3/58)


بَعْضَهَا ثُمَّ كَبَّرَ الْإِمَامُ قَطَعَ الْقِرَاءَةَ وَكَبَّرَ الثَّانِيَةَ مَعَهُ، وَقَدْ يَحْمِلُ الْإِمَامُ عَنْهُ مَا بَقِيَ مِنَ الْقِرَاءَةِ وَإِنْ كَانَ أَدْرَكَهُ فِي التَّكْبِيرَةِ الثَّانِيَةِ فَدَخَلَ مَعَهُ، كَانَتْ لَهُ أُولَةٌ يَقْرَأُ فِيهَا الْفَاتِحَةَ، وَيَبْنِي عَلَى صَلَاةِ نَفْسِهِ وَهِيَ لِلْإِمَامِ ثَانِيَةٌ يُصَلِّي فِيهَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ أَتَمَّ الصَّلَاةَ سَوَاءً كَانَتِ الجنازة موضوعة أو مرفوعة.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ. وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ صَلَّى عَلَى الْقَبْرِ وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ مِثْلُهُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ أَمَّا مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ وَغَيْرِ أَوْلِيَائِهِ، فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً قَبْلَ الدَّفْنِ عَلَى جِنَازَتِهِ، وَبَعْدَ الدَّفْنِ عَلَى قَبْرِهِ، وَهُوَ أَوْلَى بَلْ قَدْ كَرِهَ الشَّافِعِيُّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدفن لما يخاف من انفجاره، وَاسْتَحَبَّهَا بَعْدَ الدَّفْنِ.
وَبِهِ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلِيٌّ وَعُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو مُوسَى وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
وَمِنَ التَّابِعِينَ الزُّهْرِيُّ وَغَيْرُهُ، وَمِنَ الْفُقَهَاءِ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أبو حنيفة وَمَالِكٌ إِذَا صَلَّى عَلَى الْمَيِّتِ وَلِيُّهُ مَرَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً سَوَاءً دُفِنَ أَوْ لَمْ يُدْفَنْ تَعَلُّقًا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَرُوِيَ عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه منع من الصلاة على القبر وغلط الْأَمْرَ فِيهِ وَقَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ " قَالُوا وَلَوْ جَازَتِ الصَّلَاةُ عَلَى الْقَبْرِ، لَجَازَتْ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ، قَالُوا: وَلِأَنَّهُ إِذَا صُلِّيَ عَلَيْهِ مَرَّةً فَقَطْ سَقَطَ الْغَرَضُ وَصَارَتِ الثَّانِيَةُ نَفْلًا، وَالتَّنَفُّلُ عَلَى الْمَيِّتِ لَا يَجُوزُ، بِدَلَالَةِ أَنَّ مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ مَرَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ثَانِيَةً.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ، ثُبُوتُ الرِّوَايَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِذَلِكَ مِنْ سِتَّةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: رِوَايَةُ سَهْلِ بن حنيف أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَى قَبْرِ مسكينةٍ.
وَثَانِيهَا: رِوَايَةُ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَى قَبْرِ رَجُلٍ أَسْوَدَ كَانَ يُنَظِّفُ الْمَسْجِدَ فَدُفِنَ لَيْلًا.

(3/59)


وَثَالِثُهَا: رِوَايَةُ الشَّافِعِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَرَّ بقبرٍ دُفِنَ حَدِيثًا فَصَلَّى عَلَيْهِ وَكَبَّرَ أَرْبَعًا فَقِيلَ لِلشَّعْبِيِّ مِمَّنْ سَمِعْتَ هَذَا؟ فَقَالَ مِنَ الثِّقَةِ مِمَّنْ شَهِدَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ.
وَرَابِعُهَا: رِوَايَةُ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صَلَّى عَلَى قَبْرٍ مَنْبُوذٍ، وَكَبَّرَ أَرْبَعًا.
وَخَامِسُهَا: رِوَايَةُ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى على قبر حدث بعد بعد ثلاث.
وسادسها: رواية الشعبي عن الن عباس أنه صَلَّى عَلَى قَبْرٍ بَعْدَ شَهْرٍ فَكَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثابتة بِذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ، فَمَنْ أَنْكَرَهَا كَانَ مُبَاهِتًا، وَلِأَنَّهُ مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَى الْمَيِّتِ جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى الْقَبْرِ مَا لَمْ يُبْلَ، كَالْوَلِيِّ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ نَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَقْبَرَةِ، فَالْمَقْصُودُ بِهِ بَيَانُ الطَّهَارَةِ لِلْمَكَانِ.
وَأَمَّا رِوَايَتُهُمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ، فَغَيْرُ ثَابِتٍ بوجه، وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ خَوْفًا مِنَ الِافْتِتَانِ بِقَبْرِهِ، وَأَنْ يُؤَدِّيَهُمْ تَعْظِيمُهُ إِلَى عِبَادَتِهِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَالصَّحِيحُ مِنْ مَذَاهِبِ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ وَأَمَّا قَبْرُ غَيْرِهِ فَأَصَحُّ مَذَاهِبِهِمْ أَيْضًا أَنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِ مَا لَمْ يَصِرْ رَمِيمًا، وَقِيلَ بَلْ يُصَلِّي عَلَيْهِ مَنْ عَاصَرَهُ وَقِيلَ بَلْ يُصَلِّي عَلَيْهِ أَبَدًا وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ التَّنَفُّلَ عَلَى الْمَيِّتِ لَا يَجُوزُ، فَيَفْسُدُ بِصَلَاةِ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهَا نَافِلَةٌ، ثُمَّ لم تكن ممنوعة.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُدْخِلُ الْمَيِّتَ قَبْرَهُ إِلَّا الرِّجَالُ مَا كَانُوا مَوْجُودِينَ وَيُدْخِلُهُ مِنْهُمْ أَفْقَهُهُمْ وَأَقْرَبُهُمْ بِهِ رحماً ويدخل المرأة زوجها وأقربهم بها رحما ويستر عليها بثوب إذا أنزلت القبر (قال الشافعي) وأحب أن يكونوا وتراً ثلاثة أو خمسة ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّى إِدْخَالَ الْمَيِّتِ قَبْرَهُ إِلَّا الرِّجَالُ رَجُلًا كَانَ الْمَيِّتُ أَوِ امْرَأَةً، لِأَنَّ الرِّجَالَ بِذَلِكَ أَعْرَفُ وَعَلَيْهِ أَقْدَرُ، وَتَنَزُّلَهُمْ فِيهِ أَهْوَنُ وَقَرَابَاتِ الْمَيِّتِ وَأَهْلَ رَحِمِهِ أَحَقُّ بِهِ مِنَ الْأَجَانِبِ، كَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَإِنِ اسْتَوَوْا فِي النَّسَبِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: قُدِّمَ أَفْقَهُهُمْ، يُرِيدُ أَعْلَمَهُمْ بِإِدْخَالِهِ الْقَبْرَ، وَلَيْسَ يُرِيدُ أَعْلَمَهُمْ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ، فَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ امْرَأَةً.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَتَوَلَّى إِدْخَالَهَا الْقَبْرَ زَوْجُهَا، ثُمَّ أَبُوهَا وَهَذَا عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ.

(3/60)


وَالْوَجْهُ الثَّانِي: الْأَبُ أَحَقُّ مِنَ الزَّوْجِ كَالْغُسْلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَابْنُهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَأَخُوهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ الشَّافِعِيُّ فَخَادِمٌ لَهَا مَمْلُوكٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَخِصْيَانٌ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَرِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونُوا وِتْرًا ثَلَاثًا، فَإِنْ زَادُوا فَخَمْسَةً، لِأَنَّ الَّذِي تَوَلَّى إِدْخَالَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثَلَاثَةٌ، الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّالِثِ فَقَالُوا: الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ، وَقِيلَ: أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، ثُمَّ جَاءَتْ بَنُو زُهْرَةَ فَسَأَلُوا إِدْخَالَ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَقِيلَ: إِنَّهُ لَمْ يُدْخِلُوا أَحَدًا مِنْهُمْ، وَقِيلَ: بَلْ أَدْخَلُوا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَصَارُوا أَرْبَعَةً، فَدَعَوْا مَوْلًى لِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُقَالُ لَهُ شُقْرَانُ فَأَدْخَلُوهُ مَعَهُمْ حَتَّى صَارُوا خَمْسَةً، وَيُخْتَارُ أَنْ يُسْتَرَ الْمَيِّتُ بِثَوْبٍ عِنْدَ إدخاله القبر، لا سيما إذا كَانَتِ امْرَأَةً لِمَا فِيهِ مِنَ الصِّيَانَةِ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ويسل الميت سلا من قبل رأسه وروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سل من قبل رأسه (قال) حدثنا إبراهيم بن محمد قال حدثنا الفضل بن أبي الصباح قال حدثنا يحيى بن المنهال عن خليفة عن حجاج عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل قبراً ليلاً فأسرج له وأخذه قبل من القبلة (قال) حدثنا إبراهيم قال حدثنا ابن منيع عن هشيم عن خالد الحذاء عن ابن سيرين أن رجلاً من الأنصار مات فشهده أنس بن مالك فأدخله من قبل رجل القبر. ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَهُوَ: أَنْ تُوضَعَ الْجِنَازَةُ عِنْدَ رِجْلِ الْقَبْرِ، ثُمَّ يُسَلُّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ سَلًّا، وَاخْتَارَ أبو حنيفة أَنْ تُوضَعَ بَعِيدًا مِنَ الْقَبْرِ عِنْدَ نَاحِيَةِ الْقِبْلَةِ، ثُمَّ تُحَطُّ عَرْضًا.
رُوِيَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُدِّمَ إِلَى الْقَبْرِ مُعْتَرِضًا.
وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يُسَلَّ مِنْ قِبَلِ رِجْلِهِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوْلَى فِي الِاخْتِيَارِ، لِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُلَّ مِنْ قِبَلِ رَأْسِهِ سَلًّا، وَلِأَنَّ الْحَائِطَ فِي قَبْرِهِ قِبْلَةٌ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَمَنْ شَاهَدَ الْمَوْضِعَ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَقْدِيمُ الْجِنَازَةِ إِلَيْهِ عَرْضًا " وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(3/61)


فصل: حكم نبش القبر
قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنْ دُفِنَ الْمَيِّتُ وَلَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُمَاطَ عنه التراب ويغسل ويكفن يصلى عَلَيْهِ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ، فَإِنْ تَغَيَّرَ وَرَاحَ لَمْ يُنْبَشْ، وَتُرِكَ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يُنْبَشُ وَإِنْ تَغَيَّرَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنْ كَانَ قَدْ غُسِّلَ وَكُفِّنَ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَمْ يُنْبَشْ وَصَلِّي عَلَى قَبْرِهِ قَبْلَ الثَّلَاثِ وَبَعْدَهَا.
وَقَالَ أبو حنيفة: يُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ قَبْلَ الثَّلَاثِ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بَعْدَهَا، وَهَذَا خَطَأٌ لِرِوَايَةِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " صَلَّى عَلَى قبرٍ مِنْ بَعْدِ شهرٍ ".
فَأَمَّا إِذَا غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُكَفَّنَ فَهَلْ يُنْبَشُ وَيُكَفَّنُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُنْبَشُ كَمَا يُنْبَشُ لِلْغُسْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُتْرَكُ وَلَا يُنْبَشُ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَفَنِ الْمُدَارَاةُ، وَقَدْ حَصَلَتْ، فَإِنْ دُفِنَ بَعْدَ غُسْلِهِ وَتَكْفِينِهِ إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ أَنْ يُنْبَشُ وَيُوَجَّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ وَيُرِيحُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ وُجِّهَ إِلَى الْقِبْلَةِ فِي قَبْرِهِ الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ أَوْصَى بِذَلِكَ ثُمَّ صَارَ سُنَّةً.

فصل: القول في استخراج الجنين من بطن أمه وهي ميتة
إِذَا مَاتَتِ امْرَأَةٌ وَفِي جَوْفِهَا وَلَدٌ حَيٌّ فَلَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِيهِ نَصٌّ، لَكِنْ قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة وَأَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، يُخْرَجُ جَوْفُهَا وَيُخْرَجُ وَلَدُهَا، لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَيِّ أَوْكَدُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ.
وَقَالَ غَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: إِنْ كَانَ الْوَلَدُ لِمُدَّةٍ يجوز أن يعيش لستة أشهر فساعداً شُقَّ جَوْفُهَا وَأُخْرِجَ، وَإِنْ كَانَ لِمُدَّةٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ فِيهَا: تُرِكَ.

فَصْلٌ
: إِذَا ابْتَلَعَ الْمَيِّتُ جَوْهَرَةً فِي حَيَاتِهِ، فَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ أُخْرِجَتْ مِنْ جَوْفِهِ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا تُخْرَجُ وَيَكُونُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ مَا قَدْ أَتْلَفَهُ فِي حَاجَاتِهِ وَشَهَوَاتِهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُخْرَجُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِلْكٌ لِوَرَثَتِهِ لِبَقَاءِ عَيْنِهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى أَخْذِهِ.
فَصْلٌ
: فَإِنْ مَاتَتِ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ وَفِي جَوْفِهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ، فَقَدْ حَكَى الشَّافِعِيُّ أَنَّهَا تُدْفَعُ إِلَى أَهْلِ دِينِهَا لِيَتَوَلَّوْا غُسْلَهَا، وَدَفْنَهَا، وَحُكِيَ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تُدْفَنُ بَيْنَ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ

(3/62)


وَالْمُشْرِكِينَ، وَكَذَلِكَ إِذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى المشركين، لكن قد روي عن عمر ابن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نَصْرَانِيَّةً مَاتَتْ وَفِي جَوْفِهَا وَلَدٌ مُسْلِمٌ فَأَمَرَ بِدَفْنِهَا فِي مقابر المسلمين.

(3/63)


بَابُ مَا يُقَالُ إِذَا أُدْخِلَ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَإِذَا أُدْخِلَ الْمَيِّتُ قَبْرَهُ قَالَ الَّذِينَ يُدْخِلُونَهُ " بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ اللَّهُمَّ سَلَّمَهُ إِلَيْكَ الْأَشِحَّاءُ مِنْ وَلَدِهِ وَأَهْلِهِ وَقَرَابَتِهِ وَإِخْوَانِهِ وَفَارَقَ مَنْ كَانَ يُحِبُّ قُرْبَهُ وَخَرَجَ مِنْ سَعَةِ الدُّنْيَا وَالْحَيَاةِ إِلَى ظُلْمَةِ الْقَبْرِ وَضِيقِهِ وَنَزَلَ بِكَ وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ إِنْ عَاقَبْتَهُ فَبِذَنْبِهِ وَإِنْ عَفَوْتَ فَأَنْتَ أَهْلُ الْعَفْوِ أَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ وَهُوَ فَقِيرٌ إِلَى رَحْمَتِكَ اللَّهُمَّ اشْكُرْ حَسَنَاتِهِ وَاغْفِرْ سَيِّئَاتِهِ وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَاجْمَعْ لَهُ بِرَحْمَتِكَ الْأَمْنَ مِنْ عَذَابِكَ وَاكْفِهِ كُلَّ هولٍ دُونَ الْجَنَّةِ اللَّهُمَّ اخْلُفْهُ فِي تَرِكَتِهِ فِي الْغَابِرِينَ وَارْفَعْهُ فِي عِلِّيِّينَ وَعُدْ عَلَيْهِ بِفَضْلِ رَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا هَذَا الدُّعَاءَ، لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنِ السَّلَفِ وَمُوَافِقٌ لِلْحَالِ، وَلَيْسَ فِيهِ حَدٌّ لَا يَتَجَاوَزُ وَلَا نَقْصٌ عَنْهُ وَبِأَيِّ شَيْءٍ دَعَا جَازَ.

(3/64)


باب التعزية وما يهيأ لأهل الميت
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ تَعْزِيَةَ أَهْلِ الْمَيِّتِ رَجَاءَ الْأَجْرِ بِتَعْزِيَتِهِمْ وَأَنْ يُخَصَّ بِهَا خِيَارُهُمْ وَضُعَفَاؤُهُمْ عَنِ احْتِمَالِ مصيبتهم ويعزى المسلم بموت أبيه النصراني فيقول " أعظم الله أجرك وأخلف عليك " ويقول في تعزية النصراني لقرابته " أخلف الله عليك ولا نقص عددك ".
وَهَذَا صَحِيحٌ وَإِنَّمَا اسْتَحَبَّ التَّعْزِيَةَ اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ وَالْتِمَاسًا لِلْأَجْرِ، فَقَدْ رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ " مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ ".
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سَمِعْنَا هَاتِفًا فِي الْبَيْتِ يُسْمَعُ صَوْتُهُ، وَلَا يرى شخصه، ألا إن في الله عزا عَنْ كُلِّ مُصِيبَةٍ، وَخَلَفًا مَنْ كُلِّ هَالِكٍ، وَدَرْكًا مِنْ كُلِّ فَائِتٍ، فَبِاللَّهِ ثِقُوا، وَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا، فَإِنَّ الْمُصَابَ مَنْ حُرِمَ الثَّوَابَ، فَقِيلَ هَذَا الْخَضِرُ جَاءَ يُعَزِّي زَوْجَاتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فَيُسْتَحَبُّ تَعْزِيَةُ أَهْلِ الْبَيْتِ وَقَرَابَتِهِ، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَمَنْ شَيَّعَ الْجِنَازَةَ وَأَرَادَ الِانْصِرَافَ قَبْلَ الدَّفْنِ عَزَّى وَانْصَرَفَ، وَمَنْ صَبَرَ حَتَّى يُدْفَنَ عَزَّى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ دَفْنِهِ، إِلَّا أَنْ يَرَى مِنْ أَهْلِهِ جَزَعًا شَدِيدًا وَقِلَّةَ صَبْرٍ، فَتُقَدَّمُ تَعْزِيَتُهُمْ، لِيُسَلُّوا، وَيَخُصُّ التَّعْزِيَةَ أَقَلَّهُمْ صَبْرًا وَأَشَدَّهُمْ جَزَعًا، وَيَخُصُّ أَكْثَرَهُمْ فَضْلًا وَدِينًا، أَمَّا الْقَلِيلُ الصَّبْرِ فَلْيُسَلُّوا، وَأَمَّا الْكَثِيرُ الْفَضْلِ، فَإِنَّمَا يُرْجَى مِنْ إِجَابَةِ رَدِّهِ وَدُعَائِهِ.

فَصْلٌ: القول في ألفاظ التعزية
فَأَمَّا أَلْفَاظُ التَّعْزِيَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمُعَزَّى مُسْلِمًا عَلَى مُسْلِمٍ قَالَ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ، وَأَحْسَنَ عَزَاكَ، وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَزَّى كَافِرًا عَلَى كَافِرٍ قَالَ: أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَلَا نَقَصَ عَدَدَكَ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَيِّتَ بِخَيْرٍ وَلَا شَرٍّ، أَمَّا الْخَيْرُ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، وَأَمَّا الشَّرُّ فَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَدِّ عَنْ ذِي قَبْرٍ، وَلِأَنَّهُ يُؤْذِي الْحَيَّ.

(3/65)


رُوِيَ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَسُبُّونَ أَبَا جَهْلٍ بِحَضْرَةِ ابْنِهِ عِكْرِمَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا تَسُبُّوا الْمَوْتَى لِتُؤْذُوا بِهِ الْأَحْيَاءَ ".
وَإِنْ كَانَ الْمُعَزَّى مُسْلِمًا عَلَى كَافِرٍ قَالَ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَكَ، وَأَحْسَنَ عَزَاكَ، وَأَخْلَفَ عَلَيْكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَزَّى كَافِرًا عَلَى مُسْلِمٍ قَالَ: أَخْلَفَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَلَا نَقَصَ عَدَدَكَ وَغَفَرَ لِمَيِّتِكَ.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَأُحِبُّ لِقَرَابَةِ الْمَيِّتِ وَجِيرَانِهِ أَنْ يَعْمَلُوا لِأَهْلِ الْمَيِّتِ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ طَعَامًا يَسَعُهُمْ فَإِنَّهُ سُنَّةٌ وَفِعْلُ أَهْلِ الْخَيْرِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَرِهَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ذَلِكَ وَقَالَ هُوَ فِعْلُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَمَّا جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ مَوْتِهِ قَالَ لِأَهْلِهِ: اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَقَدْ جَاءَهُمْ أَمْرٌ شَغَلَهُمْ ثُمَّ اسْتَدْعَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ إِلَى مَنْزِلِهِ فَأَقَامَ عِنْدَهُ ثَلَاثَةً إِلَى انْقِضَاءِ الْمُصِيبَةِ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ، قَالَ الرَّاوِي: وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ حُلِقَ رَأْسُهُ في الإسلام.

(3/66)


باب البكاء على الميت
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأُرَخِّصُ فِي الْبُكَاءِ بِلَا نَدْبٍ وَلَا نياحةٍ لِمَا فِي النَّوْحِ مِنْ تَجْدِيدِ الْحُزْنِ وَمَنْعِ الصبر وعظيم الإثم وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه " وذكر ذلك ابن عباس لعائشة فَقَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " إن الله ليعذب الميت ببكاء أهله عليه " ولكن قال " إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه " (قال) وقالت عائشة حسبكم القرآن {لا تَزِر وَازِرَة وِزْرَ أُخْرَى} وقال ابن عباس عند ذلك الله أضحك وأبكى (قال الشافعي) ما رَوَتْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أشبه بدلالة الكتاب والسنة قال الله جل وعز {لا تزرُ وَازِرَة وِزْرَ أُخْرَى} وقال {لِتُجْزَى كُلّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} وقال عليه السلام لرجل في ابنه " إنه لا تجنى عليك ولا تنجني عليه " وما زيد في عذاب الكافر فباستيجابه له لا بذنب غيره (قال المزني) بلغني أنهم كانوا يوصون بالبكاء عليه وبالنياحة أو بهما وهي معصيةٌ ومن أمر بها فعملت بعده كانت له ذنباً فيجوز أن يزاد بذنبه عذاباً - كما قال الشافعي - لا بذنب غيره ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ.
أَمَّا النَّوْحُ، وَالتَّعْدِيدُ، وَلَطْمُ الْخُدُودِ، وَالدُّعَاءُ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، فَكُلُّ ذَلِكَ مَحْظُورٌ حَرَامٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ لَعَنَ النَّائِحَةَ وَالْمُسْتَمِعَةَ، وَنَهَى عَنِ الصِّيَاحِ وَالْمَأْتَمِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " أَنْهَاكُمْ عَنْ صَوْتَيْنِ فَاجِرَيْنِ صَوْتٍ عند المصيبة، وصوت عند نغمةٍ " قيل: المراد به النياحة عند المصيبة، والمزمار عند النغمة.
وَرَوَتِ امْرَأَةُ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَيْسَ مِنَّا مَنْ حَلَقَ أَوْ سَلَقَ " فالحلق هو

(3/67)


حَلْقُ الشَّعْرِ، وَالسَّلْقُ هُوَ أَنْ تَنُوحَ بِلِسَانِهَا، قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} (الأحزاب: 19) .
وَرَوَى قُتَيْبَةُ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَعَنَ مِنَ النِّسَاءِ السَّالِقَةَ وَالْحَالِقَةَ، وَالْخَارِقَةَ وَالْمُمْتَهِشَةَ.
فَالسَّالِقَةُ: الَّتِي تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالصُّرَاخِ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، وَالْحَالِقَةُ: الَّتِي تَحْلِقُ شَعْرَهَا، وَالْخَارِقَةُ: الَّتِي تَخْرِقُ ثَوْبَهَا، وَالْمُمْتَهِشَةُ: أن تَخْمُش وَجْهَهَا فَتَأْخُذُ لَحْمَهُ بِأَظْفَارِهَا مِنْهُ، وَقِيلَ نَهْشَةُ الْكِلَابِ، وَالْمُمَهِّشَةُ: الَّتِي تحلق وجهها بالموسى للتزين.

فصل البكاء على الميت
فَأَمَّا الْبُكَاءُ بِلَا نَدْبٍ وَلَا نِيَاحَةٍ فَمُبَاحٌ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَخْفِيفِ الْحُزْنِ وَتَعْجِيلِ السُّلُوِّ، وَقَدْ رَوَى ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَضَعَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حِجْرِهِ وَهُوَ يَجُودُ بِنَفْسِهِ فَقَالَ لَوْلَا أَنَّهُ مَوْعِدٌ صادقٌ، ووعدٌ جامعٌ، وَأَنَّ الْمَاضِيَ فَرَطٌ لِلْبَاقِي، وَأَنَّ الْآخِرَ لاحقٌ بِالْأَوَّلِ، لَحَزِنَّا عَلَيْكَ يَا إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ دَمَعَتْ عَيْنَاهُ، فَقَالَ: تَدْمَعُ الْعَيْنُ، وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَاهُ الرَّبُّ، وَإِنَّا بِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ مَحْزُونُونَ الْحَقْ بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ.
وَرَوَى أَبُو أُمَامَةَ قَالَ: جَاءَ رجلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِينَ مَاتَ ابْنُهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ تَبْكِي عَلَى هَذَا السَّخْلِ، وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ دَفَنْتُ اثْنَيْ عَشَرَ وَلَدًا كُلُّهُمْ أَشَفُّ مِنْهُ كُلُّهُمْ أَدْفِنُهُمْ فِي التُّرَابِ أَحْيَاءً فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " فَمَا ذَنْبِي إِنْ كَانَتِ الرَّحْمَةُ ذَهَبَتْ مِنْكَ " وَرَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ " لَمَّا مَاتَتْ رُقَيَّةُ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - توجه عثمان بن مظعون بالحصبة " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الحق لبلغنا الخير أيجهر عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ قَالَ: وَبَكَى النِّسَاءُ فَجَعَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَضْرِبُهُنَّ بِسَوْطِهِ، فَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِيَدِهِ، وَقَالَ دَعْهُنَّ يَا عُمَرُ وقَالَ إِيَّاكُنَّ وَنَعِيقَ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ مَهْمَا يَكُنْ مِنَ الْعَيْنِ وَالْقَلْبِ فَمِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمِنَ الرَّحْمَةِ، وَمَهْمَا يَكُنْ مِنَ اللِّسَانِ وَالْيَدِ فَمِنَ الشَّيْطَانِ، قَالَ وَبَكَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَلَى شَفِيرِ الْقَبْرِ، فَجَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَمْسَحُ الدُّمُوعَ عَنْ عَيْنِهَا بِطَرَفِ ثَوْبِهِ، وَقِيلَ إنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زَوَّجَ عُثْمَانَ ابْنَتَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ عَلَى شَفِيرِ قبر رقية.

(3/68)


فَأَمَّا رِوَايَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمَيِّتَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ " فَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بَعْدَ مَوْتِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إن الله ليعذب الميت ببكاء أهله عليه " حسبكم القرآن " {لا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) {فاطر: 18) وَكِلَا الْحَدِيثَيْنِ يَفْتَقِرُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَلَيْسَ يُمْكِنُ حَمْلُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى ظَاهِرِهِ، فَلِأَصْحَابِنَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: مَا رَوَتْهُ عَمْرَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - اجْتَازَ عَلَى قَبْرِ يَهُودِيٍّ، وَأَهْلُهُ يَبْكُونَ عَلَيْهِ، فَقَالَ إِنَّهُ لَيُبْكَى عَلَيْهِ، وَإِنَهُ لَيُعَذَّبُ فِي قَبْرِهِ فَقَالَ ذَلِكَ إِخْبَارًا عَنْ حَالِهِ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ بِذَلِكَ مَا يُبْكَى بِهِ الْجَاهِلِيُّ مِنْ حُرُوبِهِ، وَقَتْلِهِ، وَغَارَاتِهِ، فَيَظُنُّونَ أَنَّ ذِكْرَ ذَلِكَ رَحْمَةٌ لَهُ فَيَكُونُ عَذَابًا عَلَيْهِ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّالِثُ: ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ: أَنَّهُ وَارِدٌ فِيمَنْ وصل بِالْبُكَاءِ، فَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَقَالَ شَاعِرٌ مِنْهُمْ:
(فَإِنْ مِتُّ فَانْعي بِمَا أَنَا أَهْلُهُ ... وَشُقِّي عَلَيَّ الْجَيْبَ يَا أم مَعْبَدِ)

فَإِذَا عُمِلَ بِذَلِكَ بَعْدَهُ كَانَ زَائِدًا فِي عَذَابِهِ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

فَصْلٌ
: يُكْرَهُ الْوَطْءُ عَلَى الْقَبْرِ، وَالِاسْتِنَادُ إِلَيْهِ، وَالْجُلُوسُ عَلَيْهِ، وَإِيقَادُ النَّارِ عِنْدَهُ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ لَهُ مِنَ الْمَشْيِ عَلَيْهِ، خَلَعَ نَعْلَهُ مِنْ رِجْلِهِ، وَمَشَى مَا أَمْكَنَ، وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَانَ يَمْشِي بَيْنَ الْقُبُورِ، فَرَأَى رَجُلًا يَمْشِي بَيْنَ الْمَقَابِرِ بِنَعْلَيْهِ، فَقَالَ: يَا صَاحِبَ السِّبْتَيْنِ اخْلَعْ سِبْتَيْكَ قَالَ: فَنَظَرَ الرَّجُلُ فَإِذَا بِرَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فخعلهما فَرَمَى بِهِمَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَكْرَهُ الْمَبِيتَ عِنْدَ الْقُبُورِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْوَحْشَةِ وَإِزْعَاجِ القلب.

(3/69)


فَصْلٌ
: وَأَمَّا زِيَارَةُ الْقُبُورِ فَقَدْ كَرِهَهَا مَالِكٌ، وَهِيَ عِنْدَنَا مُسْتَحَبَّةٌ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ إِنِّي نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ أَلَا فَزُورُوهَا، وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: الْهُجْرُ فِي هَذَا الدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " زُورُوا قُبُورَ مَوْتَاكُمْ فَإِنَّ لَكُمْ فِيهَا اعْتِبَارًا " والله تعالى أعلم.

(3/70)