الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب قدر الصدقة فيما أخرجت الأرض
قال الشافعي رضي الله عنه: " بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ قَوْلًا مَعْنَاهُ، مَا سُقِيَ بنضحٍ أَوْ غربٍ فَفِيهِ نَصْفُ الْعُشْرِ وَمَا سُقِيَ بِغَيْرِهِ مِنْ عينٍ أَوْ سماءٍ فَفِيهِ الْعُشْرُ وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَعْنَى ذَلِكَ، وَلَا أَعْلَمُ فِي ذَلِكَ مُخَالِفًا وَبِهَذَا أَقُولُ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ الزَّرْعُ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا يَصِلُ إِلَيْهِ الْمَاءُ بِطَبْعِهِ وَجَرَيَانِهِ.
وَالثَّانِي: مَا يَصِلُ إِلَيْهِ بِآلَةٍ وَعَمَلٍ.
فَأَمَّا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ بِطَبْعِهِ وَجَرَيَانِهِ، فَهُوَ مَا سُقِيَ بِمَاءِ سَمَاءٍ أَوْ سَيْحٍ مِنْ نَهْرٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ كان بعلا أَوْ عَثَرِيًّا فَفِيهِ الْعُشْرُ وَأَمَّا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ الْمَاءُ بِآلَةٍ وَعَمَلٍ فَهُوَ مَا سُقِيَ بغرب أَوْ نَضْحٍ أَوْ دُولَاب أَوْ زُرْنُوقٍ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ.
وَأَصْلُ ذَلِكَ السُّنَّةُ وَالْعِبْرَةُ، فَالسُّنَّةُ مَا رَوَاهُ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال ما سقته الأنهار والعين ففيه العشر، وما سقته السواقي فَنِصْفُ الْعُشْرِ.
وَرَوَى الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَالْأَنْهَارُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ بَعْلًا فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالسَّوَانِي وَالنَّضْحِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَالْبَعْلُ مِنَ النَّخْلِ مَا شَرِبَ بِعُرُوقِهِ، وَقَدْ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بن رواحة هنالك لا أبالي على سقي ولا بعل وإن عظم الإباء.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كتب لقطن بن الحارث كِتَابًا ذَكَرَ فِيهِ " وَفِيمَا سُقِيَ بِالْجَدْوَلِ مِنَ العين المعين العشر من تمرها وَمِمَّا أَخْرَجَ أَرْضُهَا وَفِي الْعِذْيِ شَطْرُهُ بِقِيمَةِ الْأَمِينِ لَا يُزَادُ عَلَيْهِمْ وَظِيفَةٌ وَلَا يُفَرَّقُ " قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْعِذْيُ مَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَهَذَا تَفْسِيرٌ يُخَالِفُ مَا يَقْتَضِيهِ الْخَبَرُ، وَقَالَ أَبُو عمر والعذي، والعدي واحد، والسيل ما جرى من الأنهار والعلل الْمَاءُ بَيْنَ الشَّجَرِ.

(3/249)


وَأَمَّا الْعِبْرَةُ فَمَا تَقَرَّرَ مِنْ أُصُولِ الزَّكَوَاتِ أَنَّ مَا كَثُرَتْ مُؤْنَتُهُ قَلَّتْ زَكَاتُهُ، وَمَا قَلَّتْ مُؤْنَتُهُ كَثُرَتْ زَكَاتُهُ، أَلا تَرَى الرِّكَازَ لما قلت مؤنتها وجب فيها الخمس، وأموال التجارات لما كثرت مؤنتها وجبت فِيهَا رُبُعُ الْعُشْرِ، فَكَذَا الزُّرُوعُ الْمَسْقِيَّةُ بِغَيْرِ آلَةٍ لَمَّا قَلَّتْ مُؤْنَتُهَا وَجَبَ فِيهَا الْعُشْرُ، وَالْمَسْقِيَّةُ بِآلَةٍ لَمَّا كَثُرَتْ مُؤْنَتُهَا وَجَبَ فِيهَا نصف العشر.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وما سقي مِنْ هَذَا بنهرٍ أَوْ سيلٍ أَوْ مَا يَكُونُ فِيهِ الْعُشْرُ فَلَمْ يَكْتَفِ بِهِ حَتَّى يسقي بالغرب فالقياس أن ينظر إلى ما عاش في السقيين فَإِنْ عَاشَ بِهِمَا نِصْفَيْنِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ وَإِنْ عَاشَ بِالسَّيْلِ أَكْثَرَ زِيدَ فِيهِ بقدر ذلك قد قيل ينظر أيهما عاش به أكثر فيكون صَدَقَتُهُ بِهِ وَالْقِيَاسُ مَا وَصَفْتُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ رب الزرع يَمِينِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ.
لَا يَخْلُو حال الزرع من ثلاثة أقسام:
أحدهما: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ سَقْيِهِ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالسَّيْحِ فَهَذَا فِيهِ الْعُشْرُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ سَقْيِهِ بِمَاءِ الرِّشَا وَالنَّضْحِ، فَهَذَا فِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ سَقْيُهُ بِهِمَا جَمِيعًا فذلك ضربان:
أحدهما: أَنْ يَكُونَ فِي زَرْعَيْنِ مُتَمَيِّزَيْنِ سُقِيَ أَحَدُهُمَا بالسحي وَالْآخَرُ بِالنَّضْحِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُعْتَبَرُ حُكْمُهُ بنفسه، فإذا ضُمَّا فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ أُخِذَ عُشْرُ أَحَدِهِمَا وَنِصْفُ عُشْرِ الْآخَرِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ زَرْعًا وَاحِدًا سُقِيَ بِالنَّضْحِ تَارَةً وَبِالسَّيْحِ أخرى فهذا على ضربي.
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ السَّقْيَيْنِ مَعْلُومًا.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا: فَإِنْ كَانَ مَعْلُومًا قَدْ ضُبِطَ قَدْرُ سَقْيِهِ بِمَاءِ السَّيْحِ وَقَدْرُ سَقْيِهِ بِمَاءِ النَّضْحِ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَسَاوَيَا مَعًا فَيَكُونُ نِصْفُ سَقْيِهِ بِمَاءِ السَّيْحِ وَنِصْفُ سَقْيِهِ بِمَاءِ النَّضْحِ فَالْوَاجِبُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ، لِأَنَّهُ إِذَا ضُمَّ الْعُشْرُ إِلَى نِصْفِهِ وَأُخِذَ نِصْفُ مَجْمُوعِهِمَا كَانَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَفَاضَلَا فَيَكُونُ أَحَدُ السَّقْيَيْنِ أَكْثَرَ فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُغَلَّبُ حُكْمُ الْأَكْثَرِ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ سَقْيِهِ بِمَاءِ السَّيْحِ فَفِيهِ الْعُشْرُ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ سَقْيِهِ بِمَاءِ النَّضْحِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ اسْتِشْهَادًا بِأُصُولِ الشَّرْعِ فِي حُكْمِ الْأَغْلَبِ فِي

(3/250)


الْعَدَالَةِ وَالْجَرْحِ، وَفِي الْمَاءِ إِذَا اخْتَلَطَ بِمَائِعٍ، وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِهِمَا مَشَقَّةً فَرُوعِيَ حُكْمُ أَغْلَبِهِمَا تَخْفِيفًا.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ يُعْتَبَرَانِ مَعًا وَيُؤْخَذُ مِنَ الزَّرْعِ بِحِسَابِهِمَا؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْجَبَ الْعُشْرَ فِيمَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ وَنِصْفَ الْعُشْرِ فِيمَا سَقَتْهُ النَّوَاضِحُ، فَوَجَبَ أَنْ يُعَلَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحُكْمَيْنِ عَلَى مَا عَلَّقَهُ عَلَيْهِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وَفِي اعْتِبَارِ حُكْمِ الْأَغْلَبِ تَغْلِيبٌ لِحُكْمِ الْأَقَلِّ عليه، وذلك غير جائز، ولأنه لما اعتبر فِي الزَّرْعَيْنِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَغْلَبَ وَجَبَ أَنْ يُعْتَبَرَا فِي الزَّرْعِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَغْلَبَ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِنْ كَانَ ثُلُثُ سَقْيِهِ بِالسَّيْحِ وَثُلُثَا سَقْيِهِ بِالنَّضْحِ فَفِيهِ ثُلُثَا الْعُشْرِ، وَإِنْ كَانَ ثُلُثُ سَقْيِهِ بِالنَّضْحِ وَثُلُثَا سَقْيِهِ بِالسَّيْحِ فَفِيهِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْعُشْرِ، ثُمَّ عَلَى هَذِهِ الْعِبْرَةِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ واعتبار ذلك بأعداد السقيات التي يحيي الزَّرْعُ بِهَا، فَإِذَا سُقِيَ بِالسَّيْحِ خَمْسُ سَقْيَاتٍ وَبِالنَّضْحِ عَشْرُ سَقْيَاتٍ كَانَ ثُلُثُهُ بِالسَّيْحِ وَثُلُثَاهُ بالنضح.

فصل
: وإن جهل قدر السقيتين وَشَكَّ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَكْثَرُ وَيَشُكّ فِي أَيِّهِمَا هُوَ الأكثر وإن قِيلَ بِمُرَاعَاةِ الْأَغْلَبِ وَاعْتِبَارِ الْأَكْثَرِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ، لِأَنَّهُ الْيَقِينُ، وَإِنْ قِيلَ بِمُرَاعَاتِهِمَا وَاعْتِبَارِ حسابهما، قلنا عَلَى يَقِينٍ مِنْ قَدْر وَاجِبِهِ، غَيْرَ أَنَّنَا نعلم أنه ينقص عن العشر ويزيد عن نصف العشر، فيأخذ قدر اليقين ويتوقف على الْبَاقِي حَتَّى يَسْتَبِينَ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَشُكَّ هَلْ هما سَوَاءٌ أَوْ أَحَدُهُمَا أَكَثُرُ، فَإِنْ قِيلَ بِاعْتِبَارِ الْأَكْثَرِ فَفِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ، لِأَنَّهُ الْيَقِينُ وَإِنْ قِيلَ: بِاعْتِبَارِهِمَا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ. فِيهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعُشْرِ، لِأَنَّهُ أَعْدَلُ الْحَالَيْنِ وَأَثْبَتُ لِحُكْمِ السَّقْيَيْنِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: تُؤْخَذُ زِيَادَةٌ عَلَى نِصْفِ الْعُشْرِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ قَلَّ وَهُوَ قَدْرُ الْيَقِينِ وَيُتَوَقَّفُ عَنِ الْبَاقِي حَتَّى يَسْتَبِينَ اعْتِبَارًا بِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، وَإِسْقَاطًا لِحُكْمِ الشَّكِّ، فَأَمَّا زَرْعُ النَّوَاضِحِ إِذَا سَقَتْهُ السَّمَاءُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، فَلَوِ اخْتَلَفَ رب المال والوالي وادعى الْوَالِي مَا يُوجِبُ كَمَالَ الْعُشْرِ، وَادَّعَى رَبُّ الْمَالِ مَا يُوجِبُ الِاقْتِصَارَ عَلَى نِصْفِ الْعُشْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ، وَهَذِهِ اليمين استظهار، لأنها لا تُطَابِقُ ظَاهِرَ الدَّعْوَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَأَخْذُ الْعُشْرِ أَنْ يُكَالَ لِرَبِّ الْمَالِ تِسْعَةٌ وَيَأْخُذَ الْمُصَدِّقُ الْعَاشِرَ وَهَكَذَا نِصْفُ الْعُشْرِ ".

(3/251)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا أَرَادَ السَّاعِي مقاسمة رب المال بدأ أولاً نصيبه لكثرة حقه، فإن نَصِيبَ الْمَسَاكِينِ لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِهِ، فَإِنْ وَجَبَ فِي مَالِهِ الْعُشْرُ كَانَ لَهُ تِسْعَةُ أَقْفِزَةٍ وَأَخَذَ الْعَاشِرَ وَإِنْ وَجَبَ فِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ كَانَ لَهُ تِسْعَةَ عَشَرَ قَفِيزًا وَأَخَذَ قَفِيزًا، وَإِن وَجَبَ ثُلُثَا الْعُشْرِ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَفِيزًا، وَأَخَذَ قَفِيزًا ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ، وَلَا يَجُوزُ إذا وجب العشر أن يكتال لَهُ عَشْرَةً وَيَأْخُذَ هُوَ وَاحِدًا، لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ عُشْرًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ جُزْءًا مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا، فَأَمَّا صِفَةُ الْكَيْلِ، فَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ بِلَا دَقٍّ وَلَا زَلْزَلَةٍ وَلَا تَحْرِيكٍ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَيْلِ وَأَخْذِ الْفَضْلِ، وَلَا يَضَعُ يَدَهُ فَوْقَ الْمِكْيَالِ، وَيَضَعُ عَلَى رَأْسِ الْمِكْيَالِ مَا أَمْسَكَ رَأْسَهُ مِنْ غَيْرِ دَفْعِ زِيَادَةٍ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَصَحُّ الْكَيْلِ وَأَوْلَاهُ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَيُؤْخَذُ الْعُشْرُ مَعَ خَرَاجِ الْأَرْضِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ:
أَرْضُ الْخَرَاجِ مِنْ سَوَادِ كِسْرَى يَجِبُ أَدَاءُ خَرَاجِهَا وَيَكُونُ أُجْرَةً وَيُؤْخَذُ عُشْرُ زَرْعِهَا وَيَكُونُ صَدَقَةً، لَا يَسْقُطُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْخَرَاجُ جِزْيَةٌ يُؤَدَّى وَلَا يُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ زَرْعِهَا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْتَمِعَا اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَتِهِ عَنْ حَمَّادِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ " وَبِرِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " مَنَعَتِ الْعِرَاقُ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا " فَالدِّرْهَمُ الْخَرَاجُ، والقفيز العشر، وقد أخبر أن العراق هي أرض الخراج يمنع منها، وبما روي أن دهقان نهر الملك وهو: فيروز بن يزدجرد لما أسلم قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَلِّمُوا إِلَيْهِ أَرْضَهُ، وَخُذُوا مِنْهُ الْخَرَاجَ، فَأَمَرَ بِأَخْذِ الْخَرَاجِ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِأَخْذِ الْعُشْرِ، وَلَوْ وَجَبَ لَأَمَرَ بِهِ، قَالُوا وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْعُشْرُ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ لِأَجْلِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ وَالْعُشْرُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَجَبَ، يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ لَوْ كَانَتْ سَبَخَةً لَمْ يَجِبْ فِيهَا خَرَاجٌ وَلَا عُشْرٌ، لِأَنَّهَا لَا مَنْفَعَةَ لَهَا، فَإِذَا كان كل واحد منهما يجب بما يَجِبُ بِهِ الْآخَرُ لَمْ يَجُزِ اجْتِمَاعُهُمَا، أَلَا ترى

(3/252)


أَنَّهُ لَوْ مَلَكَ لِلتِّجَارَةِ خَمْسًا مِنَ الْإِبِلِ سَائِمَةً لَمْ تَجِبْ فِيهَا الزَّكَاتَانِ مَعًا، وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ بِحُكْمِ الشِّرْكِ وَالْعُشْرَ يَجِبُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْتَمِعَا.
والدليل على ما قلناه مِنْ جَوَازِ اجْتِمَاعِهِمَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرُ فَعَمَّ وَلَمْ يَخُصَّ ولأنه حكم يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَفَادِ مِنْ غَيْرِ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَجَازَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِالْمُسْتَفَادِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ كَالْمَعَادِنِ، وَلِأَنَّ الْعُشْرَ [وَجَبَ بِالنَّصِّ وَالْخَرَاجَ وَجَبَ بِالِاجْتِهَادِ، وَمَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ أَثْبَتُ حُكْمًا فَلَمْ يَجُزْ إِبْطَالُهُ بِمَا هُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ حُكْمًا، وَلِأَنَّ الْخَرَاجَ] أُجْرَةٌ لَا جِزْيَةٌ، لِجَوَازِ أَخْذِهِ من المسلم، وإذا كان أُجْرَةً لَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الْعُشْرِ كَالْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ وَلِأَنَّهُمَا حَقَّانِ مُخْتَلِفَانِ وَجَبَا بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَجَازَ اجْتِمَاعُهُمَا كَالْمُحْرِمِ إِذَا قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا، وَاخْتِلَافُ حقهما أن العشر يَجِبُ لِأَهْلِ السُّهْمَانِ وَالْخَرَاجَ دَارَهِمُ تَجِبُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَاخْتِلَافُ مُوجِبِهِمَا أَنَّ الْخَرَاجَ وَاجِبٌ فِي رَقَبَةِ الْأَرْضِ وُجِدَتِ الْمَنْفَعَةُ أَوْ فُقِدَتْ، وَالْعُشْرُ وَاجِبُ الْمَنْفَعَةِ، وَيَسْقُطُ بِفَقْدِ الْمَنْفَعَةِ فَلَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُ أَحَدِ الْحَقَّيْنِ بِالْآخَرِ تَشْبِيهًا بِمَا ذَكَرْنَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي أَرْضِ مُسْلِمٍ فَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رواية إسحاق بْنِ عَنْبَسَةَ، وَقِيلَ إِنَّهُ يَضَعُ الْحَدِيثَ، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ مَنْعُ اجْتِمَاعِهِمَا دَالًّا عَلَى إِسْقَاطِ الْعُشْرِ بِأَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ دَالًّا عَلَى إِسْقَاطِ الْخَرَاجِ، وَلَوْ سَلِمَ مِنْ هَذَا الْقَلْبِ لَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْخَرَاجِ الَّذِي هُوَ جزية تجب على الذمي ويسقط عن المسلمين وَبِمِثْلِهِ يُجَابُ عَنْ قَوْلِهِ مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا إِنْ صَحَّ، وَلَا أَرَاهُ صَحِيحًا عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَكَرَ الْفِتَنَ ثُمَّ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَهَا مَنَعَتِ الْعِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْمَنْعِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ الْفِتَنِ، وَلَوْلَاهَا لَمْ يَكُنْ مَانِعًا مِنْهَا فَكَانَ دَالًّا عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِنَا مُبْطِلًا لِمَذْهَبِهِمْ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ فِي دِهْقَانِ نَهْرِ الْمَلِكِ، فَلَا يَدُلُّ عَلَى إِسْقَاطِ الْعُشْرِ، وَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى إِيجَابِ الْخَرَاجِ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ وَجَبَ الْعُشْرُ لَأَمَرَ بِهِ، قِيلَ الْعُشْرُ إِنَّمَا يَجِبُ فِي الزَّرْعِ وَلَعَلَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ زَرْعٌ، أَوْ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ حَصَادِ الزَّرْعِ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مَنْ أَمَرَهُ بِأَخْذِ الْخَرَاجِ، وَالِيًا عَلَى جِبَايَةِ الْعُشْرِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ بِالْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْعُشْرُ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ يَجِبُ فِي رَقَبَةِ الْأَرْضِ وَالْعُشْرَ يَجِبُ فِي الزَّرْعِ.

(3/253)


وَأَمَّا قَوْلُهُ إِنَّ الْخَرَاجَ مِنْ أَحْكَامِ الشِّرْكِ، وَالْعُشْرَ مِنْ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى مَذْهَبِهِ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعُشْرَ عَلَى الذِّمِّيِّ ثُمَّ غَيْرُ صَحِيحٍ عَلَى مَذْهَبِنَا، لِأَنَّ الْخَرَاجَ لَيْسَ من أحكام الشرك لجواز أخذه من المسلمين.

فَصْلٌ
: فَأَمَّا الْأَرْضُ الْمُسْتَأْجَرَةُ فَعُشْرُ زَرْعِهَا وَاجِبٌ، وَهُوَ عِنْدَنَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مَالِكِ الزَّرْعِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: على المؤجر مالك الأرض بسببين.
أحدهما: أن العشر مُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَ مَالِكَ الْأَرْضِ كَالْخَرَاجِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعُشْرَ مِنْ مُؤَنِ الْأَرْضِ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِمَالِكِ الْأَرْضِ كَحَفْرِ الْآبَارِ وكرى الْأَنْهَارِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى فَسَادِ مَا تَفَرَّدَ بِهِ أبو حنيفة مِنْ هَذَا الْمَذْهَبِ قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ) {البقرة: 267) وَالزَّرْعُ مُخْرَجٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَوَجَبَ أَنْ يَتَوَجَّهَ حق الإنفاق عليه على أنه أمر بالاتفاق مَنْ مَنَّ عَلَيْهِ بِالْإِخْرَاجِ وَقَالَ تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) {الأنعام: 141) فَأَمَرَ بِإِيتَاءِ الْحَقِّ مَنْ أَبَاحَ لَهُ الْأَكْلَ، وَالْأَكْلُ مُبَاحٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَوَجَبَ أَنْ يكون الحق واجباً على المستأجر دون المؤاجر، ولأنه زرع لو كان لمالك الأرض يوجب عليه الْعُشْرُ فَوَجَبَ إذا كان مِلْكًا لِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ الْعُشْرُ عَلَى مَالِكِهِ كَالْمُسْتَعِيرِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ في مال يجب أَدَاؤُهُ عَنْ مَالٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَلَى مَالِكِ الْمَالِ كَالْخَرَاجِ، فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَنْ رَقَبَةِ الْأَرْضِ فَوَجَبَ عَلَى مَالِكِهَا، وَالْعُشْرُ عَنِ الزَّرْعِ فَوَجَبَ عَلَى مَالِكِهِ، وَالْجَوَابُ عَنْ جَمْعِهِ بَيْنَ الْعُشْرِ وَالْمُؤْنَةِ فَمِثْلُهُ سَوَاءٌ.
فَصْلٌ
: فَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَلَا يَجِبُ فِي زُرُوعِهِ وَلَا ثِمَارِهِ الْعُشْرُ.
وَقَالَ أبو حنيفة بِوُجُوبِ الْعُشْرِ فِي زُرُوعِهِ وَثِمَارِهِ تَعَلُّقًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرَ " وَلِأَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ لأجل منفعة الأرض فوجب أن يستوي فيه المسلم والكفار كَالْخَرَاجِ، وَهَذَا غَلَطٌ وَلَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ:
أحدهما: أن يدل عَلَى أَنَّ الْعُشْرَ زَكَاةٌ بِقَوْلِهِ فِي الْكَرْمِ يَخْرُصُ كَمَا يَخْرُصُ النَّخْلُ ثُمَّ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْلِ تَمْرًا، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ زَكَاةٌ دَلَلْنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي مَالِ الذِّمِّيِّ بِأَنَّهُ حَقٌّ مَأْخُوذٌ بِاسْمِ الزَّكَاةِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الذِّمِّيِّ كَسَائِرِ الزَّكَوَاتِ، وَالطَّرِيقَةُ الْأُخْرَى أَنَّهُ حَقٌّ يصرف في أَهْلِ الصَّدَقَاتِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الذِّمِّيِّ كَالزَّكَوَاتِ، فَأَمَّا عُمُومُ الْخَبَرِ فَمَخْصُوصٌ بِمَا ذكرنا.

(3/254)


وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى الْخَرَاجِ فَمَا ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنِ اخْتِلَافِ مُوجِبِهِمَا مَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الْجَمْعِ بينهما.

فَصْلٌ
: فَلَوِ ابْتَاعَ ذِمِّيٌّ مِنْ مُسْلِمٍ ثَمَرَةً قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فَبَدَا صَلَاحُهَا فِي مِلْكِهِ لَمْ يَجِبْ فِيهَا زَكَاةٌ، لِأَنَّهَا مِلْكُ ذِمِّيٍّ، فَلَوِ ابْتَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ بَعْدَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ زَكَاةٌ، لِأَنَّ بُدُوَّ صَلَاحِهَا سابق لملكه.

مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وما زاد مما قل أو كثر فبحسابه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنْ لَا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَفِيهِ بِحِسَابِهِ وَقِسْطِهِ، قَلِيلًا كَانَ الزَّائِدُ أَوْ كَثِيرًا، وَهُوَ إِجْمَاعٌ لَا خِلَافَ فِيهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرَ " فَاقْتَضَى عُمُومُ هَذَا الْخَبَرِ وُجُوبَ الْعُشْرِ فِيمَا قَلَّ وَكَثُرَ فَلَمَّا اسْتَثْنَى مِنْهُ مَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ بَقِيَ مَا زَادَ عَلَيْهَا عَلَى عُمُومِ الْخَبَرِ، وَلِأَنَّ عَفْوَ الزَّكَاةِ عَفْوَانِ أَحَدُهُمَا فِي ابْتِدَاءِ الْمَالِ لِيَبْلُغَ حَدًّا يَحْتَمِلُ الْمُوَاسَاةَ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الزَّرْعِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ فِيهِ، فَثَبَتَ أَحَدُ الْعَفْوَيْنِ لِوُجُودِ مَعْنَاهُ، وَسَقَطَ الْعَفْوُ الثَّانِي لِفَقْدِ مَعْنَاهُ.
فَصْلٌ
: إِذَا وَجَبَ الْعُشْرُ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ لَمْ يَجِبْ فِيهَا بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ، وَإِنْ بَقِيَتْ فِي يَدِ مَالِكِهَا أَحْوَالًا، وَبِهِ قَالَ جَمِيعُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: عَلَى مَالِكِهَا الْعُشْرُ فِي كُلِّ عَامٍ كَالْمَوَاشِي وَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَهَذَا خِلَافُ الْإِجْمَاعِ مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرَ " فَاقْتَضَى الظَّاهِرُ نَفْيَ ما سوى العشر؛ لأن اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ إِيجَابَ عُشْرِهِ بِحَصَادِهِ وَالْحَصَادُ لَا يَتَكَرَّرُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعُشْرُ أَيْضًا لَا يَتَكَرَّرُ، وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الْأَمْوَالِ النَّامِيَةِ، وَمَا ادُّخِرَ فِي الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ مُنْقَطِعُ النماء معرض للنفاد وَالْفَنَاءِ فَلَمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالْأَثَاثِ وَالْقُمَاشِ وفارق المواشي والورس التي هي مرصدة للنماء والله أعلم.

(3/255)