الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

بَابُ الرِّبَا وَمَا لَا يَجُوزُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ متفاضلا ولا مؤجلا والصرف
سَمِعْتُ الْمُزَنِيَّ يَقُولُ (قَالَ الشَّافِعِيُّ) أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ وَرَجُلٍ آخَرَ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ وَلَا الْبُرَّ بِالْبُرِّ وَلَا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ وَلَا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ وَلَا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ يَدًا بِيَدٍ وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْتُمْ " (قَالَ) وَنَقَضَ أَحَدُهُمَا التَّمْرَ وَالْمِلْحَ وَزَادَ الْآخَرُ فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلْأَحَادِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الصَّرْفِ وَبِهِ قُلْنَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: الْأَصْلُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ثُمَّ الْإِجْمَاعُ.
فَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] .
مَعْنَى قَوْلِهِ: " أَضْعَافًا " مُضَاعَفا، أَيْ: أَضْعَافَ الْحَقِّ الَّذِي دَفَعْتُمْ، لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ إِذَا حَلَّ دَيْنُهُ قَالَ لِغَرِيمِهِ إِمَّا أَنْ تُعْطِيَ أَوْ تُرْبِيَ، فَإِنْ أَعْطَاهُ وَإِلَّا أَضْعَفَ عَلَيْهِ الْحَقَّ وَأَضْعَفُ لَهُ الْأَجَلَ ثُمَّ يَفْعَلُ كَذَلِكَ إِذَا حَلَّ حَتَّى يَصِيرَ الْحَقُّ أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، فَحَظَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْفَسَادِ، ثُمَّ أَكَّدَ الزَّجْرَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] ؛ فَأَخْبَرَ أَنَّ نَارَ آكِلِ الرِّبَا كَنَارِ الْكَافِرِ.
وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة: 275] . يَعْنِي لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُبُورِهِمْ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَسِّ. يَعْنِي: الْجُنُونَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ الله البيع وحرم الربا} وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي ثَقِيفَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ الْعَرَبِ رِبًا فَلَمَّا نَزَلَ تَحْرِيمُ الرِّبَا قَالُوا كَيْفَ يُحَرَّمُ الرِّبَا وَإِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا، فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ وَأَبْطَلَ جَمْعَهُمْ. ثُمَّ قَالَ:

(5/73)


{فمن جاءه موعظة من ربه} يعني القرآن {فانتهى} {فله ما سلف} يَعْنِي مَا أَكَلَ مِنَ الرِّبَا. وَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] يَعْنِي مَا لَمْ يُقْبَضْ مِنَ الرِّبَا إِذَا أَسْلَمُوا عَلَيْهِ تَرَكُوهُ، وَمَا قَبَضُوهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ أَنْ يَرُدُّوهُ. ثُمَّ تَوَعَّدَ عَلَى ذَلِكَ لِتَوْكِيدِ الزَّجْرِ فَقَالَ: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم} يَعْنِي مَا دَفَعْتُمُوهُ {لا تَظلمون وَلا تُظلمون} [البقرة: 279] ، بأن تمنعوا {رؤوس أَمْوَالِكُمْ} ثُمَّ قَالَ تَيْسِيرًا عَلَى خَلْقِهِ: {وَإِنْ كان} - من قد أربيتموه - (ذو عسرة} بِرَأْسِ الْمَالِ {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] يَعْنِي إِلَى وَقْتِ الْيَسَارِ. وَهَذِهِ آخرُ آيَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ عَلَى مَا رَوَى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: آخِرُ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ آيَةُ الرِّبَا فَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُبِضَ قَبْلَ أَنْ يُفَسِّرَهَا فَدَعُوا الرِّبَا وَالرِّيبَةَ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - آكِلَ الرِّبَا وَمُؤكلَهُ وَشَاهِدَهُ وَكَاتِبَهُ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: أَلَا وَإِنَّ كُلَّ رِبًا مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ لَكُمْ رؤوس أَمْوَالِكُمْ لَا تَظلمون وَلَا تُظلمون. فَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَا عَمِّي الْعَبَّاسِ، أَلَا وَإِنَّ كُلَّ دَمٍ مِنْ دَمِ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ دَمٍ أَضَعُهُ دَمُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
ثُمَّ قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ الرِّبَا وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي فُرُوعِهِ وَكَيْفِيَّةِ تَحْرِيمِهِ حَتَّى قِيلَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَا أَحَلَّ الزِّنَا وَلَا الرِّبَا فِي شَرِيعَةٍ قَطُّ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء: 161] يَعْنِي: فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ تَحْرِيمُ الرِّبَا بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيمَا جَاءَ بِهِ الْكِتَابُ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مجمل فسرته السنة. وإن ما جاءت بِهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَإِنَّمَا هُوَ تَفْسِيرٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ مُجْمَلُ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الرِّبَا نَقْدًا أَوْ نَسَاءً.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَعْهُودَ الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الرِّبَا فِي النَّسَاءِ وَطَلَبِ الْفَضْلِ بِزِيَادَةِ الْأَجَلِ ثُمَّ وَرَدَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِزِيَادَةِ الرِّبَا فِي النَّقْدِ فَاقْتَرَنَتْ بِمَا تَضَمَّنَهُ التَّنْزِيلُ، وَإِلَى هَذَا كَانَ يَذْهَبُ أَبُو حَامِدٍ المروزي.

(5/74)


فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ الرِّبَا حَرَامٌ فَلَا فَرْقَ فِي تَحْرِيمِهِ بَيْنَ دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ. فَكُلُّ عَقْدٍ كَانَ رِبًا حَرَامًا بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، كَانَ رِبًا حَرَامًا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ دَخَلَ الْمُسْلِمُ إِلَيْهَا بِأَمَانٍ أَوْ بِغَيْرِ أَمَانٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَحْرُمُ الرِّبَا عَلَى الْمُسْلِمِ مِنَ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ دَخَلَ بِأَمَانٍ أَوْ بِغَيْرِ أَمَانٍ. احْتِجَاجًا بِحَدِيثِ مَكْحُولٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا رِبَا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَحَرْبِيٍّ فِي دَارِ الْحَرْبِ، وَلِأَنَّ أَمْوَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ مُبَاحَةٌ لِلْمُسْلِمِ بِغَيْرِ عَقْدٍ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَسْتَبِيحَهَا بِعَقْدٍ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ حَرَامٌ كَتَحْرِيمِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، عُمُومُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
ثُمَّ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى وَالْعِبْرَةِ: أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ حَرَامًا فِي دَارِ الشِّرْكِ كَسَائِرِ الْفَوَاحِشِ وَالْمَعَاصِي وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ حُرِّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ، حُرِّمَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ كَدَارِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ فَاسِدٌ فَوَجَبَ أَلَّا يُسْتَبَاحَ بِهِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ كَالنِّكَاحِ.
فَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِحَدِيثِ مَكْحُولٍ فَهُوَ مُرْسَلٌ وَالْمَرَاسِيلُ عِنْدَنَا لَيْسَتْ حُجَّةً. فَلَوْ سَلِمَ لَهُمْ لَكَانَ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " لَا رِبًا " يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِتَحْرِيمِ الرِّبَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ نَفْيًا لِجَوَازِ الرِّبَا فلم يكن لهم جملة عَلَى نَفْيِ التَّحْرِيمِ إِلَّا وَلَنَا حَمْلُهُ عَلَى نَفْيِ الْجَوَازِ ثُمَّ حَمْلُنَا أَوْلَى لِمُعَاضَدَةِ الْعُمُومِ لَهُ، وَأَمَّا احْتِجَاجُهُ بِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهَا بِغَيْرِ عَقْدٍ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ تُسْتَبَاحَ بِعَقْدٍ فَلَا نُسَلِّمُ إِذَا كَانَتِ الْمَسْأَلَةُ مَفْرُوضَةً فِي دُخُولِهِ إِلَيْهِمْ بِأَمَانٍ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ لَا تُسْتَبَاحُ بِغَيْرِ عَقْدٍ فَكَذَا لَا يَسْتَبِيحُهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ. وَلَوْ فُرِضَتِ الْمَسْأَلَةُ مَعَ ارْتِفَاعِ الْأَمَانِ لَمَا صَحَّ الِاسْتِدْلَالُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ جَازَ اسْتِبَاحَةُ مَالِهِ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ.
ثُمَّ نَقُولُ: لَيْسَ كُلُّ مَا اسْتُبِيحَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ عَقْدٍ جَازَ أَنْ يُسْتَبَاحَ مِنْهُمْ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُرُوجَ يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهَا مِنْهُمْ بِالْفَيْءِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلَا يَجُوزُ اسْتِبَاحَتُهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ، فَكَذَا الْأَمْوَالُ وَإِنْ جَازَ أَنْ تُسْتَبَاحَ مِنْهُمْ بِغَيْرِ عَقْدٍ لَمْ يَجُزْ أَنْ تُسْتَبَاحَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَبِهَا تَرَكْنَا قَوْلَ مَنْ رَوَى عَنْ أُسَامَةَ أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ " لِأَنَّهُ مُجْمَلٌ وكل ذلك مفسر فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ

(5/75)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سئل عن الربا أفي صنفين مختلفين ذهب بورق أم تمر بحنطة؟ فقال: " الربا في النسيئة " فحفظه فأدى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولم يؤد الْمَسْأَلَةَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَالرِّبَا ضَرْبَانِ: نَقْدٌ، وَنَسَاءٌ.
وَأَمَّا النَّسَاءُ: فَهُوَ بَيْعُ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ إِلَى أَجَلٍ وَهُوَ الْمَعْهُودُ مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ وَالَّذِي قَدْ أَجْمَعَ عَلَى تَحْرِيمِهِ جَمِيعُ الْأُمَّةِ.
وَأَمَّا النَّقْدُ: فَهُوَ بَيْعُ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَكَافَّةِ الْفُقَهَاءِ تَحْرِيمُ ذَلِكَ كَالنَّسَاءِ، وَذَهَبَ خَمْسَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى إِحْلَالِهِ وَإِبَاحَتِهِ وَهُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ تَعَلُّقًا بِخَبَرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: مَا اسْتَدَلَّ بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " إنَمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ ". فَلَمَّا أَثْبَتَ الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ دَلَّ عَلَى انْتِفَاءِ الرِّبَا فِي النَّقْدِ.
وَالثَّانِي: مَا رَوَاهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ قَالَ: بَاعَ شَرِيكٌ لِي دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ بِالْكُوفَةِ وَبَيْنَهُمَا فَضْلٌ. فَقُلْتُ: مَا أَرَاهُ يَصْلُحُ هَذَا فَقَالَ: لَقَدْ بِعْتُهَا فِي السُّوقِ فَمَا عَابَ عَلَيَّ ذَلِكَ أَحَدٌ، فَأَتَيْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْمَدِينَةَ وَتِجَارَتُنَا كَذَا فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَمَا كَانَ نَسِيئَةً فَلَا خَيْرَ فِيهِ. وَأَتَيْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ فَإِنَّهُ كَانَ أَعْظَمَ تِجَارَةً مِنَّا، فَأَتَيْتُهُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ. وَهَذَا نَصٌّ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى تَحْرِيمِ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ:
أَحَدُهَا: حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ الْمُقَدَّمُ ذِكْرُهُ فِي صَدْرِ الْبَابِ.
وَقَوْلُهُ: " إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ يَدًا بِيَدٍ ".
وَالثَّانِي: حَدِيثُ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ فَمَنْ زاد واستزاد فَقَدْ أَرْبَى. الْآخِذُ وَالْمُعْطِي سَوَاءٌ ".
وَالثَّالِثُ: حَدِيثُ مَالِكِ بْنِ عَامِرٍ عَنْ عُثْمَانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَبِيعُوا الدِّينَارَ بِالدِّينَارَيْنِ وَلَا الدِّرْهَمَ بالدرهمين ".

(5/76)


وَالرَّابِعُ: حَدِيثُ سَعِيدِ بْنُ يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " الدَّينَارُ بِالدَّينَارِ وَالدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ لَا فَضْلَ بَيْنِهِمَا ".
وَأَمَّا حَدِيثُ أُسَامَةَ وَقَوْلُهُ: " إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ " فَفِيهِ جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ جَوَابُ الشَّافِعِيِّ: أَنَّهُ جَوَابٌ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِسَائِلٍ سَأَلَهُ عَنِ التَّفَاضُلِ فِي جِنْسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فَقَالَ: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ فَنَقَلَ أُسَامَةُ جواب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَغْفَلَ سُؤَالَ السَّائِلِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْجِنْسِ الْوَاحِدِ يَجُوزُ التَّمَاثُلُ فِيهِ نَقْدًا وَلَا يَجُوزُ نَسِيئَةً.
عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ الْمُسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ رَجَعَ عَنْ مَذْهَبِهِ حِينَ لَقِيَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ إِلَى مَتَى تَأْكُلُ الرِّبَا وَتُطْعِمُهُ النَّاسَ وَرَوَى لَهُ حَدِيثَهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ هَذَا رِبًا كَانَ مِنِّي وَإِنِّي أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الْمِنْهَالِ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَزَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ فَمَنْسُوخٌ؛ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ أَوَّلِ الْهِجْرَةِ وَتَحْرِيمُ الرِّبَا متأخر.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَيَحْتَمِلُ قَوْلُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءً وَهَاءً " يُعْطِي بيد ويأخذ بأخرى فيكون الأخذ مع الإعطاء وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَتَفَرَّقَ الْمُتَبَايِعَانِ مِنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى يَتَقَابَضَا فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ عُمَرُ لِمَالِكِ بْنِ أَوْسٍ لَا تُفَارِقْهُ حَتَى تُعْطِيَهُ وَرِقَهُ أَوْ تَرُدَّ إِلَيْهِ ذَهَبَهُ وَهُوَ رَاوِي الْحَدِيثَ دَلَّ عَلَى أنَّ مخْرَجَ " هَاءً وَهَاءً " تَقَابُضُهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. كُلُّ شَيْئَيْنِ ثَبَتَ فِيهِمَا الرِّبَا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَصِحَّ دُخُولُ الْأَجَلِ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا وَلَا الِافْتِرَاقُ قَبْلَ تَقَابُضِهِمَا. سَوَاءً كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْبُرِّ بِالْبُرِّ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ كَالشَّعِيرِ بِالْبُرِّ حَتَّى يَتَقَابَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فِي الصَّرْفِ وَغَيْرِهِ. وَقَالَ أبو حنيفة فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ كَقَوْلِنَا لَا يَصِحُّ فِيهِمَا الْعَقْدُ إِلَّا بِالْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِمَا الْأَجَلُ وَلَا خِيَارُ الشَّرْطِ.
وَأَجَازَ فِيمَا سِوَى الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ تَأْخِيرَ الْقَبْضِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ الْأَجَلُ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّهُ عَقْدٌ لَمْ يَتَضَمَّنْ صَرْفًا فَلَمْ يَكُنِ التَّقَابُضُ فِيهِ قبل الافتراق شرطا كالثياب بالثياب.

(5/77)


قَالَ: وَلِأَنَّ الْقَبْضَ يُرَادُ لِتَعْيِينِ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ فَلَمَّا كَانَ الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ لَا يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ لَزِمَ فِيهِ تَعْجِيلُ الْقَبْضِ لِيَصِيرَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مُعَيَّنًا، وَلَمَّا كَانَ مَا سِوَى الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ مِنَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَغَيْرِهِمَا يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ تَعْجِيلُ الْقَبْضِ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَدْ صَارَ مُعَيَّنًا.
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ: حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ، وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ، وَلَا الْبُرَّ بِالْبُرِّ، وَلَا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ، وَلَا التَّمْرَ بِالتَّمْرِ، وَلَا الْمِلْحَ بِالْمِلْحِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ، وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ، وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ، وَالشَّعِيرَ بِالْبُرِّ، وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ، وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْتُمْ ". فَشَرَطَ فِي بَيْعِ ذَلِكَ كُلِّهِ تَعْجِيلَ الْقَبْضِ بِقَوْلِهِ إِلَّا يَدًا بِيَدٍ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَوْلُهُ يَدًا بِيَدٍ نَفْيًا لِدُخُولِ الْأَجَلِ فِيهِ وَأَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ بِالنَّقْدِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي تَعْجِيلِ الْقَبْضِ. قِيلَ يَبْطُلُ هَذَا التَّأْوِيلُ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُ جَمَعَ فِي الْخَبَرِ بَيْنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَبَيْنَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: " إِلَّا يَدًا بِيَدٍ " مَحْمُولًا فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ عَلَى تَعْجِيلِ الْقَبْضِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ مِثْلُهُ لِأَنَّهَا جُمْلَةٌ مَعْطُوفٌ عَلَيْهَا حُكْمٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ نَفْيَ الْأَجَلِ مُسْتَفَادٌ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ إِلَّا عَيْنًا بِعَيْنٍ، لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَكُونُ عَيْنًا إِذِ الْعَيْنُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا الْأَجَلُ وَإِنَّمَا يَكُونُ عَيْنًا بِدَيْنٍ. فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ إِلَّا يَدًا بِيَدٍ مَحْمُولًا عَلَى غَيْرِ نَفْيِ الْأَجَلِ وَهُوَ تَعْجِيلُ الْقَبْضِ لِيَكُونَ الْخَبَرُ مُقَيِّدًا لِحُكْمَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ، وَاخْتِلَافُ اللَّفْظَيْنِ مَحْمُولًا عَلَى اخْتِلَافِ مَعْنَيَيْنِ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ إِلَّا يَدًا بِيَدٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي اللُّغَةِ عَلَى تَعْجِيلِ الْقَبْضِ لِأَجْلِ أَنَّ الْقَبْضَ يَكُونُ بِالْيَدِ وَلَيْسَ بِمُسْتَعْمَلٍ فِي نَفْيِ الْأَجَلِ إِلَّا عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ فَكَانَ حَمْلُ الْكَلِمَةِ عَلَى حَقِيقَتِهَا فِي اللُّغَةِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى الْمَجَازِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَصْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَنَفْيِ هَذَا التَّأْوِيلِ أَيْضًا: مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَوَاهُ مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ عَنْ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ رِبًا إِلَّا هَاءً وَهَاءً، وَالْوَرِقُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءً وَهَاءً، وَالْبُرُّ بِالْبُرِّ رِبًا إِلَا هَاءً وَهَاءً، وَالشَّعِيرُ بَالشَّعِيرِ رِبًا إِلَّا هَاءً وَهَاءً، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ رِبًا إِلَّا هَاءً وَهَاءً ".
قَالَ الشَّافِعِيُّ فَاحْتَمَلَ قَوْلُهُ: " إِلَّا هَاءً وَهَاءً " مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعْطِيَ بِيَدٍ وَيَأْخُذَ بِأُخْرًى فَيَكُونُ الْأَخْذُ مَعَ الْإِعْطَاءِ، وَاحْتَمَلَ أَلَّا يَتَفَرَّقَ الْمُتَبَايِعَانِ عَنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى يَتَقَابَضَا، فَلَمَّا رُوِيَ أَنَّ مَالِكَ بْنَ أَوْسِ بْنِ الْحَدْثَانِ صَارَفَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ بمَائَةِ دِينَارٍ بَاعَهَا عَلَيْهِ بِدَرَاهِمَ فَقَالَ طَلْحَةُ لِمَالِكٍ: حَتَّى يَأْتِيَ خَازِنِي مِنَ الْغَابَةِ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْمَعُ فَقَالَ عُمَرُ لِمَالِكٍ لَا وَاللَّهِ لَا تُفَارِقْهُ حَتَّى تَأْخُذَ مِنْهُ وَرِقَكَ أَوْ يَرُدَّ عَلَيْكَ ذَهَبَكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الذَّهَبُ بِالْوَرِقِ رِبًا إِلَّا هَاءً وَهَاءً.

(5/78)


دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُحْتَمَلَيْنِ التَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ إِذَا فَسَّرَهُ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ كَانَ مَحْمُولًا عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ فِي تَكْلِيفِ النَّاسِ الْإِعْطَاءَ بِيَدٍ وَالْأَخْذَ بِأُخْرَى مَشَقَّةً غَالِبَةً وَالشَّرِيعَةُ مَوْضُوعَةٌ عَلَى التَّوْسِعَةِ وَالسَّمَاحَةِ فَامْتَنَعَ أَنْ يَكُونَ هَذَا مُرَادًا.
ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ الْأَجَلِ فَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنَ التَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالصَّرْفِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا كَانَ شَرْطًا مُعْتَبَرًا فِي عَقْدِ الصَّرْفِ كَانَ شَرْطًا مُعْتَبَرًا فِيمَا دَخَلَهُ الرِّبَا مِنْ غَيْرِ الصَّرْفِ كَالْأَجَلِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى بَيْعِ الثِّيَابِ بِالثِّيَابِ فَمُنْتَقِضٌ بِالسَّلَمِ حَيْثُ لَزِمَ فِيهِ الْقَبْضُ ثُمَّ الْمَعْنَى فِي بَيْعِ الثِّيَابِ بِالثِّيَابِ عَدَمُ الرِّبَا فِيهَا فَجَازَ تَأْخِيرُ قَبْضِهِمَا وَمَا ثَبَتَ الرِّبَا فِيهِ لَمْ يَجُزْ تَأْخِيرُ قَبْضِهِ كَالصَّرْفِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْقَبْضَ إِنَّمَا يُرَادُ لِتَعْيِينِ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ وَالْبُرُّ وَالشَّعِيرُ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ فَلَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الْقَبْضِ فَهُوَ أَنَّ هَذَا يَفْسَدُ بِبَيْعِ الْحُلِيِّ بِالْحُلِيِّ يَلْزَمُ فِيهِ تَعْجِيلُ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَيَّنًا بِالْعَقْدِ. ثُمَّ لَوْ سَلِمَ مِنْ هَذَا الْكَسْرِ لَكَانَ عَكْسُ هَذَا الِاعْتِبَارِ أَشْبَهَ بِالْأُصُولِ لِأَنَّ السَّلَمَ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الثَّمَنُ وَلَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْمُثَمَّنُ، ثُمَّ يَلْزَمُ فِيهِ تَعْجِيلُ قَبْضِ الثَّمَنِ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا وَلَا يلزم فيه تعجيل قبض الثمن وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا فَكَانَ اعْتِبَارُ هَذَا يُوجِبُ تَعْجِيلَ الْقَبْضِ فِيمَا كَانَ مُعَيَّنًا، وَلَا يُوجِبُهُ فِيمَا لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ، وَلَمَّا انْعَكَسَ هَذَا الِاعْتِبَارُ عَلَيْهِ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ لَهُ دَلِيلٌ فِيهِ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَبْضَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعُقُودِ الَّتِي لَا تَدْخُلُهَا الْآجَالُ وَيَلْحَقُهَا الرِّبَا مِنْ صَرْفٍ وَغَيْرِهِ وَأَنَّ حُكْمَ مَا فِيهِ الرِّبَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَرْفًا كَحُكْمِ مَا فِيهِ الرِّبَا إِذَا كان صرفا فتصارف الرَّجُلَانِ مِائَةَ دِينَارٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَتَقَابَضَا الدَّرَاهِمَ ولم يتقايضا الدَّنَانِيرَ أَوْ تَقَابَضَا الدَّنَانِيرَ وَلَمْ يَتَقَابَضَا الدَّرَاهِمَ حَتَّى تَفَارَقَا فَلَا صَرْفَ بَيْنَهُمَا وَلَزِمَ رَدُّ الْمَقْبُوضِ مِنْهُمَا سَوَاءً عَلِمَا فَسَادَ الْعَقْدِ بِتَأْخِيرِ الْقَبْضِ أَوْ جَهِلَا.
فَلَوْ لَمْ يَتَفَرَّقَا وَلَكِنْ خَيَّرَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَاخْتَارَ الْإِمْضَاءَ الْقَائِمَ مَقَامَ الِافْتِرَاقِ قَبْلَ أَنْ يَتَقَابَضَا كَانَ هَذَا التَّخَيُّرُ بَاطِلًا وَلَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْإِمْضَاءِ إِنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ تَقَضِّي عُلْقِ الْعَقْدِ، وَبَقَاءُ الْقَبْضِ يَمْنَعُ مِنْ نَقْضِ عُلْقِهِ فَمَنَعَ مِنِ اخْتِيَارِ إِمْضَائِهِ، فَإِنْ تَقَابَضَا بَعْدَ ذَلِكَ وَقَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّ الْعَقْدُ وَاسْتَقَرَّ وَكَانَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا أَوْ يَتَخَايَرَا. فَلَوْ وُكِّلَ أَحَدُهُمَا فِي الْقَبْضِ لَهُ وَالْإِقْبَاضِ عَنْهُ، فَإِنْ قَبَضَ الْوَكِيلُ وَأَقْبَضَ قَبْلَ افْتِرَاقِ مُوَكِّلِهِ وَالْعَاقِدِ الْآخَرِ صَحَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ أَقْبَضَ بَعْدَ افْتِرَاقِهِمَا لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا لِافْتِرَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ قَبْلَ القبض،

(5/79)


فَلَوْ تَقَابَضَ الْمُتَصَارِفَانِ مَا تَصَارَفَا عَلَيْهِ فِي مِدَادٍ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ جَازَ وَلَمْ يَلْزَمْ دَفْعُ جَمِيعِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا يَلْزَمُ قَبْضُ جَمِيعِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَسَوَاءٌ طَالَتْ مُدَّةُ اجْتِمَاعِهِمَا أَوْ قَصَرَتْ.
فَلَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا تَفَارَقْنَا عَنْ قَبْضٍ وَقَالَ الْآخَرُ بِخِلَافِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ أَنْكَرَ الْقَبْضَ وَيَكُونُ الصَّرْفُ بَاطِلًا.
فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ لَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فِي الْإِمْضَاءِ وَالْفَسْخِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا افْتَرَقْنَا عَنْ فَسْخٍ وَقَالَ الْآخَرُ عَنْ إِمْضَاءٍ كَانَ الْقَوْلُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ قَوْلَ مَنِ ادَّعَى الْإِمْضَاءَ وَالْبَيْعُ لَازِمٌ فَهَلَّا كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي الْقَبْضِ مِثْلَهُ. قِيلَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مُدَّعِيَ الْفَسْخِ يُنَافِي بِدَعْوَاهُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ لِأَنَّ مُقْتَضَاهُ اللُّزُومُ وَالصِّحَّةُ إِلَّا أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى الْفَسْخِ فَكَانَ الظَّاهِرُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ مَنِ ادَّعَى الْإِمْضَاءَ دُونَ الْفَسْخِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَنِ ادَّعَى الْقَبْضَ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْقَبْضِ عَلَى أَنَّ أَصَحَّ الْوَجْهَيْنِ هُنَاكَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مُدَّعِي الْفَسْخِ إِذَا تَصَارَفَا مِائَةَ دِينَارٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَتَقَابَضَا مِنَ الْمِائَةِ خَمْسِينَ دِينَارًا ثُمَّ افْتَرَقَا وَقَدْ بَقِيَ خَمْسُونَ دِينَارًا كَانَ الصَّرْفُ فِي الْخَمْسِينِ الْبَاقِيَةِ بَاطِلًا.
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ جَوَازُهُ فِي الْخَمْسِينِ الْمَقْبُوضَةِ قَوْلًا وَاحِدًا لِسَلَامَةِ الْعَقْدِ وَحُدُوثِ الْفَسَادِ فِيمَا بَعْدُ: وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُخْرِجُ الصَّرْفَ فِي الْخَمْسِينَ الْمَقْبُوضَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَلَيْسَ هَذَا التَّخْرِيجُ صَحِيحًا لِأَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْعَقْدِ الْوَاحِدِ إِذَا جَمَعَ جَائِزًا وَغَيْرَ جَائِزٍ فِي حَالِ الْعَقْدِ.
وَإِذَا صَحَّ الصَّرْفُ فِي الْخَمْسِينِ الْمَقْبُوضَةِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا لَازِمَةٌ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ وَلَا لِلْمُشْتَرِي خِيَارٌ فِي الْفَسْخِ لِأَجْلِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ لِأَنَّ افْتِرَاقَهُمَا عَنْ قَبْضِ الْبَعْضِ رِضًا مِنْهُمَا بِإِمْضَاءِ الصَّرْفِ فِيهِ وَفَسْخِهِ فِي بَاقِيهِ. وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يُخْرِجُ قَوْلًا ثَانِيًا إِنَّهَا مَقْبُوضَةٌ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ. وَكِلَا التَّخْرِيجَيْنِ فَاسِدٌ وَالتَّعْلِيلُ في فسادهما واحد.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَالرِّبَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا فِي النَّقْدِ بِالزِّيَادَةِ وَفِي الْوَزْنِ وَالْكَيْلِ وَالْآخَرُ يَكُونُ فِي الدَّيْنِ بِزِيَادَةِ الْأَجَلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لِأَصْحَابِنَا فِي هَذَا الْكَلَامِ تَأْوِيلَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَرَادَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ الرِّبَا فِي النَّسَاءِ وَأَبَاهُ فِي النَّقْدِ وَقَالَ: وَالرِّبَا مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: النَّسَاءُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ. وَهُوَ بَيْعُ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ إِلَى أَجَلٍ.
وَالثَّانِي: مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَهُوَ بَيْعُ الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ نَقْدًا فَجُعِلَ كِلَا الْوَجْهَيْنِ رَبًّا وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ مَنِ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أُسَامَةَ فَهَذَا أَحَدُ التَّأْوِيلَيْنِ.
وَالتَّأْوِيلُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ قَدْ يَدْخُلُهُ الرِّبَا مِنْ وَجْهَيْنِ:

(5/80)


أَحَدُهُمَا: التَّفَاضُلُ سَوَاءٌ كَانَ نَقْدًا أَوْ نَسَاءً فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ دِرْهَمٍ بِدِرْهَمَيْنِ عَاجِلًا وَلَا آجِلًا.
وَالثَّانِي: الْآجِلُ سَوَاءٌ كَانَ مُتَفَاضِلًا أَوْ مُتَمَاثِلًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ نَسَاءً مُتَفَاضِلًا وَلَا مُتَمَاثِلًا. فَأَمَّا الْجِنْسَانِ الْمُخْتَلِفَانِ فَلَا يَدْخُلُهُمَا الرِّبَا إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْأَجَلُ. فَأَمَّا التَّفَاضُلُ أَوِ التَّمَاثُلُ فَيَجُوزُ فِيهِمَا: فإذا باع الفضة بالذهب أبو الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ نَقْدًا جَازَ سَوَاءٌ كَانَ مُتَفَاضِلًا أَوْ مُتَمَاثِلًا وَإِنْ بَاعَهُ إِلَى أَجَلٍ لَمْ يجز. سواء كان متماثلا أو متفاضلا.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنَّمَا حَرَّمْنَا غَيْرَ مَا سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْمَأْكُولِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا سَمَّى ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الرِّبَا فَسِتَّةُ أَشْيَاءَ وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِهَا وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا وَهِيَ: الذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ، وَالْبُرُّ، وَالشَّعِيرُ، وَالتَّمْرُ، وَالْمِلْحُ. وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِيمَا عَدَاهَا. فَحُكِيَ عَنْ طَاوُسٍ، وَقَتَادَةَ، وَمَسْرُوقٍ، وَالشَّعْبِيِّ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيِّ، وَدَاوُدَ بْنِ عَلِيٍّ الظَّاهِرِيِّ.
وَنُفَاةِ الْقِيَاسِ بِأَسْرِهِمْ أَنَّهُ لَا رِبَا فِيمَا عَدَا السِّتَّةَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهَا فَلَا يَجُوزُ التَّخَطِّي عَنْهَا إِلَى مَا سِوَاهَا تَمَسُّكًا بِالنَّصِّ، وَنَفْيًا لِلْقِيَاسِ، وَاطِّرَاحًا لِلْمَعَانِي.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ ومثبتوا الْقِيَاسِ إِلَى أَنَّ الرِّبَا يَتَجَاوَزُ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ إِلَى مَا كَانَ فِي مَعْنَاهُ. وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فَرْعٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ وَالْكَلَامُ فِيهَا يَلْزَمُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مِنْ جِهَةِ إِثْبَاتِ الْقِيَاسِ، فَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ حُجَّةً ثَبَتَ أَنَّ الرِّبَا يَتَجَاوَزُ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ النَّصُّ مِنَ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ وَهَذَا يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالثَّانِي: مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ الظَّاهِرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ هذا الطريق ثلاثة أشياء:
أحدهما: قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] . وَالرِّبَا اسْمٌ لِلزِّيَادَةِ وَالْفَضْلِ مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ.
أَمَّا اللُّغَةُ فَكَقَوْلِهِمْ قَدْ رَبَا السَّوِيقُ إِذَا زَادَ، وَقَدْ أَرْبَى عَلَيَّ فِي الْكَلَامِ إِذَا زَادَ فِي السَّبِّ، وَهَذِهِ رَبْوَةٌ مِنَ الْأَرْضِ إِذَا زَادَتْ عَلَى مَا جَاوَرَهَا.
وَأَمَّا الشَّرْعُ: فَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276] . أَيْ يُضَاعِفُهَا وَيَزِيدُ فِيهَا وَقَوْلُهُ: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج: 5] . أَيْ زَادَتْ وَنَمَتْ.
وَإِذَا كَانَ الرِّبَا مَا ذَكَرْنَا اسْمًا لِلزِّيَادَةِ لُغَةً وَشَرْعًا دَلَّ عُمُومُ الْآيَةِ عَلَى تَحْرِيمِ الْفَضْلِ وَالزِّيَادَةِ إِلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ.

(5/81)


وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَالطَّعَامُ اسْمٌ لِكُلِّ مَطْعُومٍ مِنْ بُر وَغَيْرِهِ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ. أَمَّا اللُّغَةُ فكقولهم طَعِمْتُ الشَّيْءَ أَطْعَمُهُ وَأَطْعَمْتُ فُلَانًا كَذَا إِذَا كَانَ الشَّيْءُ مَطْعُومًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بُرًّا.
وَأَمَّا الشَّرْعُ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران: 93] يَعْنِي كُلَّ مَطْعُومٍ فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ اسْمَ الطَّعَامِ. وَقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] فَسَمَّى الْمَاءَ مَطْعُومًا لِأَنَّهُ مِمَّا يُطْعَمُ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: عِشْنَا دَهْرًا وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا الْأَسْوَدَانِ التَّمْرُ وَالْمَاءُ. وَإِذَا كَانَ اسْمُ الطَّعَامِ بِمَا وَصَفْنَا مِنْ شَوَاهِدِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَطْعُومٍ مِنْ بُرٍّ وَغَيْرِهِ. كَانَ نَهْيُهُ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مَحْمُولًا عَلَى عُمُومِهِ فِي كُلِّ مَطْعُومٍ إِلَّا مَا خُصَّ بِدَلِيلٍ.
فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَمَخْصُوصٌ بِبَيَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الرِّبَا فِي الْأَجْنَاسِ السِّتَّةِ.
قِيلَ: بَيَانُ بَعْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعُمُومُ لَا يَكُونُ تَخْصِيصًا لِأَنَّهُ لَا يُنَافِيهِ. وَإِنْ شَذَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فَجَعَلَهُ تَخْصِيصًا.
وَالدَّلَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَصَّ عَلَى الْبُرِّ وَهُوَ أَعْلَى الْمَطْعُومَاتِ، وَعَلَى الْمِلْحِ وَهُوَ أَدْنَى الْمَطْعُومَاتِ فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ مَا بَيْنَهُمَا لَاحِقٌ بِأَحَدِهِمَا. لِأَنَّهُ يَنُصُّ تَارَةً عَلَى الْأَعْلَى لِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَى الْأَدْنَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} فَنَبَّهَ بِهِ عَلَى الْأَدْنَى. وَيَنُصُّ تَارَةً عَلَى الْأَدْنَى لِيُنَبِّهَ عَلَى الْأَعْلَى كَمَا قَالَ: {وَمِنْهُمْ من إن تأمنه بدينار ولا يؤده إليك} فَنَبَّهَ بِهِ عَلَى الْأَعْلَى فَإِذَا وَرَدَ النَّصُّ عَلَى الْأَعْلَى وَالْأَدْنَى كَانَ أَوْكَدَ تَنْبِيهًا عَلَى مَا بَيْنَهُمَا وَأَقْوَى شَاهِدًا فِي لُحُوقِهِ بِأَحَدِهِمَا. والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَمْ يَجُزْ أَنْ نَقِيسَ الْوَزْنَ عَلَى الْوَزْنِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مأكُولَيْنِ وَمُبَايِنَانِ لِمَا سِوَاهُمَا وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ لَا رِبَا إِلَّا فِي ذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ أَوْ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مِمَّا يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ (قال) وهذا صحيح ولو قسنا عليهما الوزن لزمنا أن لا نسلم دينارا في موزون من طعام كما لا يجوز أن نسلم دينارا في موزون من ورق ولا أعلم بين المسلمين اختلافا أن الدينار والدرهم يسلمان في كل شيء ولا يسلم أحدهما في الآخر غير أن من الناس من كره أن يسلم دينار أو درهم في فلوس وهو عندنا جائز لأنه زكاة فيها ولا في تبرها وإنها ليست بثمن للأشياء المتلفة وإنما أنظر في التبر إلى أصله والنحاس مما لا ربا فيه وقد أجاز عدد منهم إبراهيم النخعي السلف في الفلوس

(5/82)


وكيف يكون مضروب الذهب دنانير ومضروب الورق دراهم في معنى الذهب والورق غير مضروبين ولا يكون مضروب النحاس فلوسا في معنى النحاس غير مضروب ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرِّبَا يَتَجَاوَزُ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ لِمَعْنًى فِيهِ، وَعِلَّتُهُ مُسْتَنْبَطَةٌ مِنْهُ. فَالْعِلَّةُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ غَيْرُ الْعِلَّةِ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ. فَأَمَّا الْعِلَّةُ فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ الْمَعَانِي فِيهَا عَلَى مَذَاهِبَ شَتَّى.
أَحَدُهُمَا: مَذْهَبُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الْجِنْسُ فَأَجْرَى الرِّبَا فِي جَمِيعِ الْأَجْنَاسِ وَمَنَعَ التَّفَاضُلَ فِيهِ حَتَّى التُّرَابِ بِالتُّرَابِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ البصري أن علة الربا المنفعة في الجنس فَيَجُوزُ بَيْعُ ثَوْبٍ قِيمَتُهُ دِينَارٌ بِثَوْبَيْنِ قِيمَتُهُمَا دِينَارٌ وَمَنَعَ مِنْ بَيْعِ ثَوْبٍ قِيمَتُهُ دِينَارٌ بِثَوْبٍ قِيمَتُهُ دِينَارَانِ.
وَالثَّالِثُ وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بن جبير أن علة الربا تقارب المنافع فِي الْأَجْنَاسِ فَمَنَعَ مِنَ التَّفَاضُلِ فِي الْحِنْطَةِ بالشعير لتقارب منافعهما، وَمِنَ التَّفَاضُلِ فِي الْبَاقِلَاءِ بِالْحُمُّصِ وَفِي الدّخْنِ بِالذُّرَةِ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِيهِمَا مُتَقَارِبَةٌ.
وَالرَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ رَبِيعَةَ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا جِنْسٌ يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَأَثْبَتَ الرِّبَا فِي كُلِّ جِنْسٍ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنَ الْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ وَنَفَاهُ عَمّا لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ.
وَالْخَامِسُ: وَهُوَ مذهب مالك أنه مقتات مدخر جنس فأثيبت الرِّبَا فِيمَا كَانَ قُوتًا مُدَّخَرًا وَنَفَاهُ عَمَّا لم يكون مُقْتَاتًا كَالْفَوَاكِهِ وَعَمَّا كَانَ مُقْتَاتًا وَلَمْ يَكُنْ مُدَّخَرًا كَاللَّحْمِ.
وَالسَّادِسُ: وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الْبُرِّ أَنَّهُ مَكِيلُ جِنْسٍ فَأَثْبَتَ الرِّبَا فِي كُلِّ مَا كَانَ مَكِيلًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا كَالْجَصِّ، وَالنَّوْرَةِ، وَنَفَاهُ عَمَّا كَانَ غَيْرَ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ وَإِنْ كَانَ مَأْكُولًا كَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ.
وَالسَّابِعُ: وَهُوَ مَذْهَبُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ أَنَّهُ مَأْكُولٌ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونُ جِنْسٍ. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ عَبَّرَ عَنْ هَذِهِ الْعِلَّةِ بِأَحْصَرَ مِنْ هَذِهِ الْعِبَارَةِ فَقَالَ: مَطْعُومٌ مُقَدَّرُ جِنْسٍ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ثَبَتَ الرِّبَا فِيمَا كَانَ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا وَيَنْتَفِي عَمَّا كَانَ غَيْرَ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ وَإِنْ كَانَ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا وَعَمَّا كَانَ غَيْرَ مَأْكُولٍ وَلَا مَشْرُوبٍ وَإِنْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا.
وَالثَّامِنُ: وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا أَنَّهُ مَأْكُولُ جِنْسٍ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ مَطْعُومُ جِنْسٍ وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ أَعَمُّ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ أَثْبَتَ فِي الْمَاءِ الرِّبَا فَهَذَا جُمْلَةُ الْمَذَاهِبِ الْمَشْهُورَةِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا. وَسَنَذْكُرُ حُجَّةَ كُلِّ مَذْهَبٍ مِنْهَا وَنَدُلُّ عَلَى فَسَادِهِ.

فَصْلٌ:
أَمَّا الْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ إِنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الْجِنْسُ فَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ

(5/83)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ذَكَرَ أَجْنَاسًا مَنَعَ مِنَ التَّفَاضُلِ فِيهَا ثُمَّ قَالَ: " فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ يدا بيدا ".
فَشَرَطَ فِي جَوَازِ التَّفَاضُلِ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ فَثَبَتَ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الْجِنْسُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ شَيْءٌ بِجِنْسِهِ مُتَفَاضِلًا أَبَدًا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَهَّزَ جَيْشًا فَنَفِدَتْ إِبِلُهُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَشْتَرِيَ بعيرا ببعيرين إلى إبل الصَّدَقَةِ " فَلَمَّا ابْتَاعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْجِنْسُ عِلَّةً لِوُجُودِ التَّفَاضُلِ فِيهِ وَأَذِنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِهِ. وَقَدْ فَعَلَتِ الصَّحَابَةُ مِثْلَ فِعْلِهِ وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَاعَ جَمَلًا لَهُ بِعِشْرِينَ جَمَلًا إِلَى أَجَلٍ.
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ بَاعَ رَاحِلَةً لَهُ بِأَرْبَعَةِ رَوَاحِلَ إِلَى أَجَلٍ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمَا مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا. فَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ. فَعَطَفَ عَلَى مَا قَدَّمَ ذِكْرَهُ مِنَ الْأَجْنَاسِ السِّتَّةِ الَّتِي أَثْبَتَ فِيهَا الرِّبَا بِالنَّصِّ فَجَوَّزَ فِيهَا التَّفَاضُلَ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ مَعَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ فِي غَيْرِ مَا وَرَدَ فِيهِ النَّصُّ.

فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْمَذْهَبُ الثَّانِي وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إِنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الْمَنْفَعَةُ فِي الْجِنْسِ فَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ ثُبُوتَ الرِّبَا مَقْصُودٌ بِهِ تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ، وَفَضْلُ الْقِيمَةِ يَقَعُ ظَاهِرًا كَفَضْلِ الْقَدْرِ فَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ الرِّبَا يَمْنَعُ مِنَ التَّفَاضُلِ فِي الْقَدْرِ وَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ التَّفَاضُلَ فِي الْقِيمَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ مَعَ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنِ ابْتِيَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ وَفَضْلُ الْقِيمَةِ بَيْنَهُمَا كَفَضْلِ الْقَدْرِ، وَأَنَّ مَقْصُودَ الْبِيَاعَاتِ طَلَبُ النَّفْعِ وَالْتِمَاسُ الْفَضْلِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ مَقْصُودُ الْبِيَاعَاتِ عِلَّةً فِي تَحْرِيمِ الْبِيَاعَاتِ. وَلِأَنَّ تَحْرِيمَ تُفَاضِلِ الْقِيمَةِ فِي الْجِنْسِ مَعَ تَسَاوِي الْقَدْرِ يَقْتَضِي تَحْلِيلَ تَسَاوِي الْقِيمَةِ فِي الْجِنْسِ مَعَ تَفَاضُلِ الْقَدْرِ وَهَذَا مَحْظُورٌ بِالنَّصِّ وَفِي هَذَا انْفِصَالٌ عَمَّا تَعَلَّقَ بِهِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جبير أن علة الربا تقارب المنافع في الْأَجْنَاسِ، فَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّ الْجِنْسَيْنِ إِذَا تَقَارَبَا فِي الْمَنْفَعَةِ تَقَارَبَا فِي الْحُكْمِ وَالْمُتَقَارِبَانِ فِي الْحُكْمِ مُشْتَرِكَانِ فِيهِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ وُرُودُ النَّصِّ بِجَوَازِ التَّفَاضُلِ فِي الْبُرِّ بِالشَّعِيرِ مَعَ تَقَارُبِ مَنَافِعِهِمَا وَمَا دَفَعَهُ النَّصُّ كان مطرحا.

(5/84)


فَصْلٌ:
فَأَمَّا الْمَذْهَبُ الرَّابِعُ وَهُوَ قَوْلُ رَبِيعَةَ إِنَّ عِلَّةَ الرِّبَا جِنْسٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَاحْتَجَّ بِأَنَّ الرِّبَا تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ حَثًّا عَلَى الْمُوَاسَاةِ بِالتَّمَاثُلِ، وَأَمْوَالُ الْمُوَاسَاةِ مَا ثَبَتَ فِيهَا الزَّكَاةُ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ هِيَ الْأَمْوَالَ الَّتِي ثَبَتَ فِيهَا الرِّبَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ: ابْتِيَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ، وَالْإِبِلُ جِنْسٌ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَأُثْبِتَ الرِّبَا فِي الْمِلْحِ وَهُوَ جِنْسٌ لَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ فَسَادُ مَذْهَبِهِ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا الْمَذْهَبُ الْخَامِسُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ إِنَّ عِلَّةَ الرِّبَا أَنَّهُ مُقْتَاتٌ مُدَّخَرُ جِنْسٍ، فَاحْتَجَّ لَهُ بِأَنَّهُ اعْتِلَالٌ يُشَابِهُ الْأَصْلَ بِأَوْصَافٍ وَمَا كَانَ أَكْثَرَ شَبَهًا بِالْأَصْلِ كَانَ أَوْلَى. وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذَا الْقَوْلِ عَدَمُ هَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي الْأَصْلِ لِأَنَّ الْمِلْحَ لَيْسَ بِقُوتٍ وَقَدْ جَاءَ النَّصُّ بِثُبُوتِ الرِّبَا فِيهِ فَبَطَلَ اعْتِبَارُ الْقُوتِ، وَالرُّطَبُ فِيهِ الرِّبَا وَلَيْسَ بِمُدَّخَرٍ وَقَدْ وَافَقَ أَنَّ فِيهِ الرِّبَا. فَإِنْ قَالَ إِنَّ الرُّطَبَ يَؤُولُ إِلَى حَالِ الِادِّخَارِ فِي ثَانِي حَالٍ قِيلَ. فَالرُّطَبُ الَّذِي لَا يَصِيرُ تَمْرًا لَيْسَ يَؤُولُ إِلَى حَالِ الِادِّخَارِ وَفِيهِ الرِّبَا عَلَى أَنَّ هَذَا لَا يُخْرِجُ الرُّطَبَ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُدَّخَرٍ فِي الْحَالِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُفْضِيَ إِلَى حَالَةِ الِادِّخَارِ كَاللَّحْمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُدَّخَرٍ فِي الْحَالِ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يُدَّخَرَ فِي ثَانِي حَالٍ فَبَطَلَ اعْتِبَارُ الِادِّخَارِ فَصَارَ كِلَا الْوَصْفَيْنِ بَاطِلًا. فَإِنْ عَدَلَ عَنْ هَذَا التَّعْلِيلِ وَعَلَّلَ بِمَا كَانَ يُعَلِّلُ بِهِ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِهِ أَنَّهُ قُوتٌ أَوْ مَا يَصْلُحُ بِهِ الْقُوتُ قِيلَ هَذَا الْقَوْلُ أَفْسَدُ مِنَ الْأَوَّلِ. لِأَنَّهُ إِنْ أَرَادَ اجْتِمَاعَ ذَلِكَ فِي الْأَرْبَعَةِ لَمْ يَصحَّ لِأَنَّ الْمِلْحَ لَيْسَ بِقُوتٍ وَلَيْسَ التَّمْرُ مِمَّا يَصْلُحُ بِهِ الْقُوتُ.
وَإِنْ أَرَادَ أَنَّ الْقُوتَ فِي الثَّلَاثَةِ عِلَّةٌ وَمَا يَصْلُحُ الْقُوتُ فِي الْمِلْحِ عِلَّةٌ قِيلَ: قَدْ فَرَّقْتَ الْأَصْلَ وَعِلَّتَهُ بِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ وَقَدِ اتَّفَقُوا أَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ جَازَ تَعْلِيلُ الْأَصْلِ بِعِلَّتَيْنِ لَجَازَ إِسْلَافُ الْمِلْحِ فِي الثَّلَاثَةِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْعِلَّةِ كَمَا يَجُوزُ إِسْلَافُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْأَرْبَعَةِ لِاخْتِلَافِ الْعِلَّةِ وَقَدْ جَاءَتِ السَّنَةُ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ هَذَا. ثُمَّ يُقَالَ لَهُ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِقَوْلِكَ وَمَا يَصْلُحُ الْقُوتُ جَمِيعَ الْأَقْوَاتِ فَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ قُوتَانِ وَلَا يَصْلُحَانِ بِالْمِلْحِ، وَإِنْ أَرَدْتَ بِهِ بَعْضَ الْأَقْوَاتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ الرِّبَا فِي النَّارِ وَالْحَطَبِ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ بِهِ بَعْضُ الْأَقْوَاتِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ مَا ذَكَرَهُ مِنَ التَّعْلِيلِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا الْمَذْهَبُ السَّادِسُ وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة إِنَّهُ مَكِيلُ جِنْسٍ. فَالِاحْتِجَاجُ لَهُ مِنْ طَرِيقَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ الْكَيْلِ عِلَّةٌ.
وَالثَّانِي: إِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ الطعم علة.

(5/85)


فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ فَمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ وَلَا الشَّعِيرَ بِالشَّعِيرِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ وَكَذَلِكَ مَا يكال ويوزن " فنهى عَنِ الْكَيْلِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ الْحُكْمِ.
وَلِأَنَّ التَّسَاوِيَ فِي بَيْعِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ مُبَاحٌ وَالتَّفَاضُلُ فِيهِ مَحْظُورٌ وَلَيْسَ يُعْلَمُ التَّسَاوِي الْمُبَاحُ مِنَ التَّفَاضُلِ الْمَحْظُورِ إِلَّا بِالْكَيْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ عِلَّتَهُ لِلْحُكْمِ لِأَنَّهُ بِهِ يَمْتَازُ الْمُبَاحُ مِنَ الْمَحْظُورِ، وَلِأَنَّ الْجِنْسَ صِفَةٌ وَالْكَيْلَ مِقْدَارٌ وَالتَّعْلِيلُ بِكَوْنِهِ مَكِيلًا جِنْسًا يَجْمَعُ حَالَتَيِ الْبُرِّ صِفَةً وَقَدْرًا وَهُمَا الْمَقْصُودُ فِي الرِّبَا فَثَبَتَ أَنَّهَا عِلَّةُ الرِّبَا. فَهَذِهِ ثَلَاثُ دَلَائِلَ احْتَجَّ بِهَا أبو حنيفة وَأَصْحَابُهُ فِي إِثْبَاتِ أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ.
فَأَمَّا مَا احْتَجَّ بِهِ فِي إِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَطْعُومُ عِلَّةً فَأُمُورٌ مِنْهَا:
أَنَّ الطَّعْمَ فِي الْمَطْعُومَاتِ مُخْتَلِفٌ، وَالْكَيْلُ فِي الْمَكِيلَاتِ مُؤْتَلِفٌ؛ لِأَنَّ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَا يُؤْكَلُ قُوتًا وَمِنْهُ مَا يُؤْكَلُ إِدَمًا، وَمِنْهُ مَا يُؤْكَلُ تَفَكُّهًا، وَالْكَيْلُ لَا يَخْتَلِفُ فَكَانَ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ عِلَّةً مِنَ الْمَطْعُومِ الَّذِي يَخْتَلِفُ، وَلِأَنَّ الْمَطْعُومَ صِفَةٌ آجِلَةٌ لِأَنَّ الْبُرَّ لَا يُطْعَمُ إِلَّا بَعْدَ عِلَاجٍ وَصَنْعَةٍ، وَالْكَيْلُ صِفَةٌ عَاجِلَةٌ لِأَنَّهُ يُكَالُ مِنْ غَيْرِ عِلَاجٍ وَلَا صَنْعَةٍ، وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ مِنْهُ مُتَعَلِّقًا بِإِحْدَى الصِّفَتَيْنِ كَانَ تَعْلِيقُهُ بِالصِّفَةِ الْعَاجِلَةِ أَوْلَى مِنْ تَعْلِيقِهِ بِالصِّفَةِ الْآجِلَةِ.
وَلِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي الْبُرِّ هِيَ مَا مَنَعَتْ مِنَ التَّفَاضُلِ وَأَوْجَبَتِ التَّسَاوِيَ وَقَدْ يُوجَدُ زِيَادَةُ الطَّعْمِ وَلَا رِبَا وَلَا يُوجَدُ زِيَادَةُ الْكَيْلِ إِلَّا مَعَ حُصُولِ الرِّبَا وَبَيَانُهُ:
لَوْ بَاعَ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ ثَقِيلٍ لَهُ رُبْعٌ بِصَاعٍ مِنْ طَعَامٍ خفيف ليس له ريع جَازَ وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي الْكَيْلِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الطَّعْمُ عِلَّةً لِوُجُودِ التَّفَاضُلِ فِيهِ مَعَ عَدَمِ الرِّبَا وَوُجُودِ التَّسَاوِي فِيهِ مَعَ حُصُولِ الرِّبَا، وَثَبَتَ أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ لِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِيهِ مُثْبِتٌ لِلرِّبَا وَالتَّسَاوِي فِيهِ كَافٌّ لِلرِّبَا، فَهَذَا أَقْوَى تَرْجِيحَاتِهِمُ الثَّلَاثَةِ.

فَصْلٌ:
وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ طَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا: إِثْبَاتُ أَنَّ الْمَطْعُومَ عِلَّةٌ. وَالثَّانِي: إِبْطَالُ أَنَّ الْكَيْلَ عِلَّةٌ.
فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَطْعُومَ علة: فما رَوَى بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مَعْمَرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَاسْمُ الطَّعَامِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ مَطْعُومٍ فِي اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ بِمَا بَيَّناهُ مِنْ قَبْلُ فَكَانَ عُمُومُ هَذَا الْخَبَرِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا الطَّعْمُ لِأَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عُلِّقَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنْ مَعْنًى كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى عِلَّةً لِذَلِكَ الْحُكْمِ كَحَدِّ الزَّانِي لِأَنَّ اسْمَهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الزِّنَا وَقَطْعُ يَدِ السَّارِقِ لِأَنَّ اسْمَهُ مُشْتَقٌّ مِنَ السَّرِقَةِ.

(5/86)


وَلِأَنَّ عِلَّةَ الشَّيْءِ فِي ثُبُوتِ حُكْمِهِ مَا كَانَ مَقْصُودًا مِنْ أَوْصَافِهِ، وَمَقْصُودُ الْبُرِّ هُوَ الْأَكْلُ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ الْحُكْمِ.
وَلِأَنَّ الْأَكْلَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لِذَاتِ الْمَعْلُولِ وَالْكَيْلُ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَنِ الْمَعْلُولِ وَالصِّفَةُ اللَّازِمَةُ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ عِلَّةً مِنَ الصِّفَةِ الزَّائِدَةِ.
وَلِأَنَّ الْأَكْلَ عِلَّةٌ يُوجَدُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا وَيُعْدَمُ بِعَدَمِهَا، وَالْكَيْلُ عِلَّةٌ يُوجَدُ الْحُكْمُ مَعَ عَدَمِهَا وَيُعْدَمُ الْحُكْمُ مَعَ وُجُودِهَا، وَهُوَ أَنَّ الزَّرْعَ إِذَا كَانَ حَشِيشًا أَوْ قَصِيلًا لَا رِبَا فِيهِ لِعَدَمِ الْأَكْلِ عِنْدَنَا وَعَدَمِ الْكَيْلِ عِنْدَهُمْ فَإِذَا صَارَ سُنْبُلًا ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا عِنْدَنَا لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ وَثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا عِنْدَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ مَكِيلٍ. فَإِنْ قِيلَ يَصِيرُ مَكِيلًا. قِيلَ: وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ حَشِيشًا، فَإِذَا صَارَ السُّنْبُلُ خُبْزًا ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا عِنْدَنَا؛ لِأَنَّهُ مَأْكُولٌ وَثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا عِنْدَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ مَكِيلٍ. فَإِنْ قِيلَ يَحْصُلُ فِيهِ الرُّبْعُ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ قِيلَ: مَا ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا لَا تَخْتَلِفُ عِلَّتُهُ بِاخْتِلَافِ أَوْصَافِهِ، فَإِذَا صَارَ الْخُبْزُ رَمَادًا فَلَا رِبَا فِيهِ عِنْدَنَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ وَلَا رِبَا فِيهِ عِنْدَهُمْ وَهُوَ مَكِيلٌ، فَثَبَتَ أَنَّ عِلَّتَنَا يُوجَدُ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا وَيُعْدَمُ بِعَدَمِهَا، وَعِلَّتُهُمْ يُوجَدُ الْحُكْمُ مَعَ عَدَمِهَا فِي السُّنْبُلِ وَيُعْدَمُ الْحُكْمُ مَعَ وُجُودِهَا فِي الرَّمَادِ فَثَبَتَ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْأَكْلِ أَصَحُّ لِهَذِهِ الدَّلَائِلِ الْأَرْبَعَةِ.
وَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى إِبْطَالِ الْكَيْلِ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً فَمِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَصَّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَجْنَاسٍ كُلُّهَا مَكِيلَةٌ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى الْكَيْلِ لَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهَا.
فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْكُمْ فِي الْأَكْلِ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ كُلَّهَا مَأْكُولَةٌ وَلَوْ أَرَادَ الْأَكْلَ لَاكْتَفَى بِذِكْرِ أَحَدِهَا قِيلَ: لَيْسَ يَلْزَمُنَا هَذَا؛ لِأَنَّ الْكَيْلَ فِي الْأَرْبَعَةِ لَا يَخْتَلِفُ وَالْأَكْلَ فِيهَا مُخْتَلِفٌ فَالْبُرُّ يُؤْكَلُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ وَالشَّعِيرُ يُؤْكَلُ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ، وَالتَّمْرُ يُؤْكَلُ حُلْوًا وَالْمِلْحُ اسْتِطَابَةً فَلَمْ يَقْتَنِعْ بِذِكْرِ إِحْدَى الْمَأْكُولَاتِ لِتَفَرُّدِهِ بِإِحْدَى الصِّفَاتِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أن الكيل قد يختلف في المكيلان عَلَى اخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَتَقَلُّبِ الْأَزْمَانِ فَالتَّمْرُ يُكَالُ بِالْحِجَازِ وَيُوزَنُ بِالْبَصْرَةِ وَالْعِرَاقِ، وَالْبُرُّ يُكَالُ تَارَةً فِي زَمَانٍ وَيُوزَنُ أُخْرَى، وَالْفَوَاكِهُ قَدْ تُعَدُّ فِي زَمَانٍ وَتُوزَنُ فِي زَمَانٍ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ عِلَّةً لِأَنَّهَا تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ فِيهِ الرِّبَا فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ وَلَا رِبَا فِيهِ فِي بَعْضِهَا، وَفِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ وَلَا رِبَا فِي غَيْرِهَا، وَعِلَّةُ الْحُكْمِ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ لَازِمَةً فِي الْبُلْدَانِ وَسَائِرِ الْأَزْمَانِ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْأَكْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ الْكَيْلَ عَلَمًا عَلَى الِإبَاحَةِ لِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ الْكَيْلُ عَلَمًا عَلَى الْحَظْرِ. أَلَا تَرَاهُ لَمَّا جَعَلَ الْقَبْضَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَلَمًا عَلَى الْإِبَاحَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُجْعَلَ عِلَّةً فِي الْحَظْرِ.

(5/87)


وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا سُلِّمَ بِهِ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً الربا كَالْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ.
فَإِنْ قِيلَ: عِلَّةُ الْحَظْرِ هِيَ زِيَادَةُ الْكَيْلِ قِيلَ: هَذَا قَوْلُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِ أبي حنيفة عَلَى أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ عِلَّةً فِي الْحَظْرِ لِأَنَّهُ عَلَمٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ صِفَةً فِي الْحَظْرِ، لِأَنَّهُ عَلَمٌ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَيْضًا.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ الْكَيْلَ مَوْضُوعٌ لِمَعْرِفَةِ مَقَادِيرِ الْأَشْيَاءِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ الرِّبَا كَالزَّرْعِ وَالْعَدَدِ.
وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: أَنَّ مَنْ جَعَلَ الْكَيْلَ عِلَّةً أَخْرَجَ مِنَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مَا لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ لِقِلَّتِهِ، فَجَوَّزَ بَيْعَ تَمْرَةٍ بِتَمْرَتَيْنِ وَكَفِّ طَعَامٍ بِكَفَّيْنِ. وَكُلُّ عِلَّةٍ أَوْجَبَتِ النُّقْصَانَ مِنْ حُكْمِ النَّصِّ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُهَا فِيمَا عَدَاهُ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَعْنَى مَعْقُولُ الِاسْمِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ مَا عُقِلَ عَنِ الِاسْمِ رَافِعًا لِمُوجَبِ الِاسْمِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اسْتِعْمَالَهَا فِيمَا عَدَا الْمَذْكُورِ يُوجِبُ زِيَادَةَ حُكْمٍ، وَمُحَالٌ أَنْ تَكُونَ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ تُوجِبُ نُقْصَانَ الْحُكْمِ مِنَ الْمَذْكُورِ وَالزِّيَادَةِ عَلَيْهِ لِتَضَادِّ الْمُوجَبَيْنِ. لِأَنَّ أَحَدَهُمَا إِسْقَاطُ حُكْمٍ وَنَفْيُهُ، وَالْآخَرُ إِيجَابُ حُكْمٍ وَإِثْبَاتُهُ.
فَإِنْ قِيلَ مَا لَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِالنَّصِّ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ. فَلَمَّا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ مَكِيلًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَكِيلًا لِأَنَّ حُكْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَحُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ فَصَارَ تَقْدِيرُ ذَلِكَ، لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ الْمَكِيلَ بِالْبُرِّ الْمَكِيلِ إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ، فَعُلِمَ أَنَّ مَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا يُمْكِنُ كَيْلُهُ غَيْرُ مُرَادٍ بِالنَّصِّ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَلَا يَكُونُ كُلَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ: جَاءَنِي النَّاسُ إِلَّا بَنِي تَمِيمٍ لَمْ يَقْتَضِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ النَّاسِ بَنِي تَمِيمٍ فَكَذَا إِذَا كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ كَيْلًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ كُلُّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ مَكِيلًا.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: إِنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ عَامٌّ فِي الْحَظْرِ، وَقَوْلُهُ إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ خَاصٌّ فِي الْإِبَاحَةِ، وَعِلَّةُ الرِّبَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْحَظْرِ لَا مِنَ الْإِبَاحَةِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا أَوْجَبَتْهُ مِنْ حُكْمِ الْحَظْرِ عَامًّا فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ.
وَالْجَوَابُ الثَّالِثُ: أَنَّ قَلِيلَ التَّمْرِ وَالْبُرِّ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ مَكِيلٌ؛ لِأَنَّ لَهُ حَظًّا فِي الْمِكْيَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ احْتَاجَ وَفَاءُ الْمِكْيَالِ إِلَى تَمْرَةٍ فَتَمَّ بِهَا تَمَّ الْكَيْلُ وَحَلَّ الْبَيْعُ. فَلَوْلَا أَنَّ التَّمْرَةَ مَكِيلَةٌ

(5/88)


مَا تَمَّ الْمِكْيَالُ بِهَا وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِهَذَا الْقَوْلِ. لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ الْقَدَحَ الْعَاشِرَ بِانْفِرَادِهِ هُوَ الْمُسْكِرُ. فَكَذَلِكَ التَّمْرَةُ الْوَاحِدَةُ بِانْفِرَادِهَا هِيَ الَّتِي تَمَّ الْمِكْيَالُ بِهَا.
فَإِنْ قِيلَ فَيَخْتَصُّ عُمُومُ الظَّاهِرِ بِالْقِيَاسِ فَنَقُولُ: لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَوَجَبَ أَلَّا يَثْبُتَ فِيهِ الرِّبَا كَالثِّيَابِ. قُلْنَا:
نَحْنُ نُعَارِضُكُمْ بِقِيَاسٍ مِثْلِهِ فَنَقُولُ. مَا ثَبَتَ الرِّبَا فِي كَثِيرِهِ ثَبَتَ فِي قَلِيلِهِ كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ. ثُمَّ نَقُولُ: قِيَاسُكُمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهِ الظَّاهِرُ لِأَنَّ أَصْلَهُ مُسْتَنْبَطٌ مِنْهُ وَالظَّاهِرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَخْصُوصًا بِعِلَّةٍ مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْهُ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ وَكَذَلِكَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ فَهُوَ أَنَّهَا زِيَادَةٌ مَجْهُولَةٌ لَمْ تَرِدْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ، وَعَلَى أَنَّهَا زِيَادَةٌ مُتَأَوَّلَةٌ إِذَا كَانَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ مَأْكُولًا أَوْ مَشْرُوبًا بِدَلِيلِ نَهْيِهِ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ مَا أُبِيحَ مِنَ التَّسَاوِي لَا يُعْلَمُ إِلَّا بِالْكَيْلِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ عِلَّةَ الْحُكْمِ. فَهُوَ أَنَّ الْكَيْلَ عَلَمُ الْإِبَاحَةِ وَعِلَّةُ الرِّبَا مُسْتَنْبَطَةٌ مِنَ الْحَظْرِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْكَيْلُ عِلَّةَ الْحُكْمِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ تَعْلِيلَهُمْ بِكَوْنِهِ مَكِيلًا جِنْسًا يَجْمَعُ حَالَتَيِ الْبُرِّ صِفَةً وَقَدْرًا فَهُوَ إِنْ جَازَ أَنْ يَكُونَ هَذَا دَلِيلًا لِأَنَّهُ يَجْمَعُ حَالَتَيِ الْبُرِّ صِفَةً وَقَدْرًا قَابَلْنَاكُمْ بِمِثْلِهِ فَقُلْنَا: تَعْلِيلُنَا بِكَوْنِهِ مَطْعُومًا جِنْسًا يَجْمَعُ حَالَتَيِ الْبُرِّ صِفَةً وَجِنْسًا. ثُمَّ يَكُونُ هَذَا الِاسْتِدْلَالُ أَوْلَى لِأَنَّ الطَّعْمَ أَلْزَمُ صِفَةً مِنَ الْكَيْلِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ بِالْحُكْمِ أَخَصَّ. وَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُمْ بِأَنَّ الْجِنْسَ صِفَةٌ لِأَنَّ الصِّفَةَ مَا اخْتَصَّتْ بِالْمَوْصُوفِ، وَالْجِنْسُ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذِي جِنْسٍ فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الْكَيْلَ مُتَّفِقٌ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْأَكْلُ مُخْتَلِفٌ فِي الْمَأْكُولَاتِ فَكَانَ التَّعْلِيلُ بِالْمُتَّفِقِ أَوْلَى مِنَ التَّعْلِيلِ بِالْمُخْتَلِفِ.
فَهُوَ أَنَّ الْأَكْلَ مُتَّفِقٌ وَإِنَّمَا صِفَةُ الْأَكْلِ تَخْتَلِفُ، كَمَا أَنَّ الْكَيْلَ وَإِنْ كَانَ مُتَّفِقًا وَصِفَتُهُ قَدْ تَخْتَلِفُ فَبَعْضُهُ قَدْ يُكَالُ بِالصَّاعِ، وبعضه بالمد، وبعضه بالقفير، وَبَعْضُهُ بِالْمَكُّوكِ ثُمَّ يُقَالُ: الْكَيْلُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَالْأَكْلُ لَا يَخْتَلِفُ فَكَانَ الْأَكْلُ لِاتِّفَاقِ الْبُلْدَانِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ عِلَّةً مِنَ الْكَيْلِ الْمُخْتَلِفِ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ الطَّعْمَ صِفَةٌ آجِلَةٌ وَالْكَيْلُ صِفَةٌ عَاجِلَةٌ فَهُوَ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْبُرَّ مَوْصُوفٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَإِنْ كَانَ يُوجَدُ بَعْدَ عِلَاجٍ وَصَنْعَةٍ كَمَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُشْبِعٌ وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ إِلَّا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ بِالْأَكْلِ، كَمَا يُوصَفُ الْمَاءُ بِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ وَإِنْ كَانَتْ

(5/89)


صِفَتُهُ تُوجَدُ بَعْدَ الشُّرْبِ، ثُمَّ لَوْ قِيلَ إِنَّ الْأَكْلَ أَعْجَلُ صِفَةً مِنَ الْكَيْلِ لَكَانَ أَوْلَى، لِأَنَّ الْأَكْلَ مُمْكِنٌ مَعَ فَقْدِ الْآلَةِ وَالْكَيْلُ مُتَعَذَّرٌ إِلَّا بِوُجُودِ الْآلَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ زِيَادَةَ الطَّعْمِ قَدْ تُوجَدُ مَعَ تَسَاوِي الْكَيْلِ وَلَا تَحْرِيمَ وَلَا تُوجَدُ زِيَادَةُ الْكَيْلِ مَعَ تَسَاوِي الطَّعْمِ إِلَّا مَعَ وُجُودِ التَّحْرِيمِ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا يَلْزَمُ هَذَا إِذَا وَقَعَ التَّسْلِيمُ بِأَنَّ التَّسَاوِيَ يُعْتَبَرُ بِالْوَزْنِ تَامًّا، وَنَحْنُ نَقُولُ إِنَّ التَّسَاوِيَ يُعْتَبَرُ بِالْكَيْلِ.
فَلَا يَلْزَمُ أَنَّ الطَّعْمَ مُتَسَاوٍ فِيهِمَا وَإِنْ تَفَاضَلَا فِي الْوَزْنِ. كَمَا لَوْ تَسَاوَيَا فِي الْوَزْنِ وَتَفَاضَلَا فِي الْكَيْلِ كَانَا مُتَفَاضِلَيْنِ وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الْوَزْنِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَمِرُّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ أَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا زِيَادَةُ الْكَيْلِ، لِأَنَّهُمَا لَوْ تَبَايَعَا صُبْرَةَ طَعَامٍ بِصُبْرَةِ طَعَامٍ كَانَ بَاطِلًا لِلْجَهْلِ بِالتَّسَاوِي وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ زِيَادَةُ الْكَيْلِ فَلَمَّا كَانَ الْجَهْلُ بِالتَّسَاوِي كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ بَطَلَ أَنْ يَكُونَ زِيَادَةُ الْكَيْلِ عِلَّةً.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا الْمَذْهَبُ السَّابِعُ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَالشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ إِنَّ عِلَّةَ الرِّبَا مَأْكُولُ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونُ جِنْسٍ احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ يَخْتَصُّ بِصِفَتَيْنِ: الْأَكْلِ وَالْكَيْلِ، وَلَيْسَتْ إِحْدَى الصِّفَتَيْنِ أَوْلَى فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَا مَعًا عِلَّةَ الْحُكْمِ، وَلِأَنَّ الرِّبَا إِنَّمَا جُعِلَ فِي الْأَشْيَاءِ الَّتِي يُمْكِنُ اسْتِبَاحَةُ بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ بِكَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ فَكَانَ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ عِلَّةَ الْحُكْمِ.
وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّنَا قَدْ أَبْطَلْنَا فِيمَا مَضَى أَنْ يَكْوِنَ الْكَيْلُ عِلَّةً وَسَنُبْطِلُ أَنْ يَكُونَ الْوَزْنُ عِلَّةً، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَا عِلَّةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَا وَصْفًا فِي الْعِلَّةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْأَكْلَ وَحْدَهُ عِلَّةٌ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَمَا عَدَا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ فِيهِ الرِّبَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا، وَهُوَ مَا أُكِلَ أَوْ شُرِبَ مِمَّا كِيلَ أَوْ وُزِنَ.
وَقِسْمٌ لَا رِبَا فِيهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا وَهُوَ مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ وَلَا مَشْرُوبٍ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ.
وَقِسْمٌ اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهِ وَهُوَ مَا أُكِلَ أَوْ شُرِبَ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ كَالرُّمَّانِ، وَالسَّفَرْجَلِ، وَالْبُقُولِ وَالْخُضَرِ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ لَا رِبَا فِيهِ، لِأَنَّهُ عَلَّلَ مَا فِيهِ الرِّبَا بِأَنَّهُ مَأْكُولٌ أَوْ مَشْرُوبٌ مَكِيلٌ أَوْ مَوْزُونٌ. وَعَلَّ قَوْلَهُ فِي الْجَدِيدِ فِيهِ الرِّبَا لِأَنَّهُ مَطْعُومُ جِنْسٍ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَثْبُتُ فِيهِ الرِّبَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ أَوْ بِعِلَّةِ الْأَشْبَاهِ.
فَمِنْ مُتَقَدِّمِي أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ إِنَّمَا جَعَلَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ الرِّبَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ بعلة الأشباه لِأَنَّهُ قَالَ: وَإِنَّمَا حَرَّمْنَا غَيْرَ مَا سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مِنَ الْمَأْكُولِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَا سَمَّى. فَجَعَلَ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ الرِّبَا بِعِلَّةِ الْأَصْلِ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ هَذَا: وَمَا

(5/90)


خَرَجَ مِنَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ فَقِيَاسُهُ عَلَى مَا يُؤْكَلُ وَيُكَالُ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِهِ عَلَى مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُؤْكَلُ، فَجُعِلَ مُلْحَقًا بِالْأَصْلِ مِنْ حَيْثُ الشَّبَهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: بَلْ فِيهِ الرِّبَا عَلَى الْجَدِيدِ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ لَا مِنْ حَيْثُ الشَّبَهِ وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ مَا احْتَجَّ بِهِ الْأَوَّلُونَ تَرْجِيحًا لِلْعِلَّةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا عِلَّةُ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَنَّهَا جِنْسُ الْأَثْمَانِ غَالِبًا وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا قِيَمُ الْمُتْلَفَاتِ غَالِبًا. وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ جَمَعَهُمَا وَكُلُّ ذَلِكَ قَرِيبٌ. وَقَالَ أبو حنيفة: الْعِلَّةُ فِيهِمَا أَنَّهُ مَوْزُونُ جِنْسٍ فَجَعَلَ عِلَّةَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْوَزْنَ كَمَا جَعَلَ عِلَّةَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ الْكَيْلَ، وَدَلَائِلُهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ مُشْتَرَكَةٌ ثُمَّ خَصَّ الِاحْتِجَاجَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِتَرْجِيحِ عِلَّتِهِ وَإِفْسَادِ عِلَّتِنَا. وَاحْتَجَّ لِذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ ثُبُوتَ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مُسْتَفَادٌ بِالنَّصِّ وَلَا فَائِدَةَ فِي اسْتِنْبَاطِ عِلَّةٍ يُسْتَفَادُ مِنْهَا حُكْمُ أَصْلِهَا حَتَّى لَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهَا. وَالتَّعْلِيلُ بِالْوَزْنِ مُتَّعَدٍ وَبِالْأَثْمَانِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ جَازَ تَعْلِيلُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِكَوْنِهِمَا ثَمَنًا وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ. لَجَازَ تَعْلِيلُهُمَا بِكَوْنِهِمَا فِضَّةً وَذَهَبًا، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَلَّلَ الذهب بكونه ذهبا ولا فضة بكونهما فِضَّةً لِعَدَمِ التَّعَدِّي لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَلَّلَا بِكَوْنِهِمَا ثَمَنًا لِعَدَمِ التَّعَدِّي. .
وَالثَّالِثُ: أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْأَثْمَانِ مُنْتَقَضٌ فِي الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ فَنَقْضُ طَرْدِهِ بِالْفُلُوسِ، هِيَ أَثْمَانٌ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ وَلَا رِبَا فِيهَا عِنْدَكُمْ. وَنَقْضُهُ عَكْسًا بِأَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَيْسَتْ أَثْمَانًا وَفِيهَا الرِّبَا، وَالتَّعْلِيلُ بِالْوَزْنِ مُسْتَمِرٌّ لَا يُعَارِضُهُ نَقْضٌ فِي طَرْدٍ وَلَا عَكْسٍ. .
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ عِلَّتِنَا وَفَسَادِ عِلَّتِهِ مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الدَّلِيلِ مِنْ قَبْلِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ:
أَحَدُهَا: أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْوَزْنِ يُثْبِتُ الرِّبَا فِي الْمَوْزُونِ مِنَ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالْقُطْنِ وَالْكِتَّانِ، وَلَوْ ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا بِعِلَّةِ الْوَزْنِ كَمَا ثَبَتَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ لَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حُكْمُ مَعْمُولِهِ وَمَكْسُورِهِ فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ كَمَا اسْتَوَى حُكْمُ مَعْمُولِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَمَكْسُوره فِي تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ فِيهِ. فَلَمَّا جَوَّزُوا التَّفَاضُلَ فِي مَعْمُولِ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ دُونَ مَكْسُورِهِ وَتِبْرِهِ حَتَّى أَبَاحُوا بَيْعَ طَشْتٍ بِطَشْتَيْنِ وَسَيْفٍ بِسَيْفَيْنِ وَلَمْ يُجَوِّزُوا التَّفَاضُلَ فِي مَعْمُولِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ، وَمَنَعُوا مِنْ بَيْعِ خَاتَمٍ بِخَاتَمَيْنِ وَسُوَارٍ بِسُوَارَيْنِ دَلَّ عَلَى افْتِرَاقِهِمَا فِي الْعِلَّةِ وَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحُكْمِ وَلَوِ اتَّفَقَا فِي الْعِلَّةِ لَاسْتَوَيَا فِي الْحُكْمِ فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْوَزْنُ عِلَّةَ الْحُكْمِ. .
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْوَزْنُ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ عِلَّةً يَثْبُتُ بِهَا الرِّبَا فِي مَوْزُونِ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ لَوَجَبَ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ إِسْلَامِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي عِلَّةِ الرِّبَا كَمَا مَنَعَ مِنْ إِسْلَامِ الْفِضَّةِ فِي الذَّهَبِ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي علة الربا. .

(5/91)


فَلَمَّا جَازَ إِسْلَامُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ مِنَ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَلَمْ يَجُزْ إِسْلَامُ الْفِضَّةِ فِي الذَّهَبِ دَلَّ عَلَى افْتِرَاقٍ لِلْحُكْمِ بَيْنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ وَبَيْنَ الصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ فِي عِلَّةِ الرِّبَا فَبَطَلَ أَنْ يَكُونَ الْوَزْنُ عِلَّةَ الرِّبَا.
وَهَذَانِ الدَّلِيلَانِ احْتَجَّ بِهِمَا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إِبْطَالِ الْوَزْنِ أَنْ يَكُونَ عِلَّةَ الرِّبَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْأُصُولَ مُقَرَّرَةٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ إِذَا عُلِّقَ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ اخْتَصَّ بِهِمَا وَلَمْ يُقَسْ غَيْرُهُمَا عَلَيْهِمَا. أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّكَاةَ لَمَّا تَعَلَّقَتْ بِهِمَا لَمْ يَتَعَدَّ إِلَى غَيْرِهِمَا مِنْ صُفْرٍ أَوْ نُحَاسٍ أَوْ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْزُونَاتِ وَلَمَّا حُرِّمَ الشُّرْبُ فِي أَوَانِي الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ اخْتُصَّ النَّهْيُ بِهِمَا دُونَ سَائِرِ الْأَوَانِي مِنْ غَيْرِهِمَا. كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الرِّبَا الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِمَا مُخْتَصًّا بِهِمَا وَأَنَّ الْعِلَّةَ فِيهِمَا غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ إِلَى غَيْرِهِمَا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي اسْتِنْبَاطِ عِلَّةٍ ثَبَتَ حُكْمُهَا بِالنَّصِّ مِنْ غَيْرِ تَعَدٍّ فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ يَخْلُو هَذَا الْقَوْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ إِبْطَالًا لِغَيْرِ الْمُتَعَدِّيَةِ، أَوْ يَكُونَ عِلَّةً لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ، أَوْ يَكُونَ إِثْبَاتًا لَهَا عِلَّةً وَجَعْلَ غَيْرِهَا إِذَا تَعَدَّتْ أَوْلَى مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ هَذَا إِبْطَالًا لِغَيْرِ الْمُتَعَدِّيَةِ أَنْ تَكُونَ علة خالفناكم لِأَنَّ غَيْرَ الْمُتَعَدِّيَةِ قَدْ تَكُونُ عِنْدَنَا عِلَّةً فَإِنْ دَعَوْا إِلَى الْكَلَامِ فِيهَا انْتَقَلْنَا عَنِ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ نَقُولُ: الْعِلَلُ أَعْلَامٌ نَصَبَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَحْكَامِ فَرُبَّمَا أَرَادَ بِبَعْضِهَا التَّعَدِّيَ فَجَعَلَهَا عَلَمًا عَلَيْهِ وَرُبَّمَا أَرَادَ بِبَعْضِهَا الْوُقُوفَ عَلَى حُكْمِ النَّصِّ فَجَعَلَهَا عَلَمًا عَلَيْهِ. كَمَا أَنَّهُ جَعَلَ الْمُتَعَدِّيَةَ تَارَةً عَامَّةً وَتَارَةً خَاصَّةً. كَذَلِكَ جَعَلَهَا تَارَةً وَاقِفَةً وَتَارَةً مُتَعَدِّيَةً. فَإِنْ قِيلَ: فَالْوَاقِفَةُ غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ فَيُجْعَلُ الْحُكْمُ مُعَلَّقًا بِالنَّصِّ دُونَ الْمَعْنَى كَأَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ لَمَّا لَمْ تَكُنْ مُتَعَدِّيَةَ الْمَعْنَى لَمْ يُسْتَنْبَطْ لَهَا مَعْنًى لِعَدَمِ الْفَائِدَةِ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ الْوَاقِفَةَ مُفِيدَةٌ وَالَّذِي يُسْتَفَادُ بِهَا أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ بِأَنَّ حُكْمَهَا مَقْصُورٌ عَلَيْهَا وَأَنَّهَا لَا تَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهَا وَهَذِهِ فَائِدَةٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ رُبَّمَا حَدَثَ مَا يُشَارِكُهُ فِي الْمَعْنَى فَيَتَعَدَّى حُكْمُهُ إِلَيْهِ. فَأَمَّا أَعْدَادُ الرَّكَعَاتِ فَغَيْرُ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَلِذَلِكَ لَمْ يُمْكِنِ اسْتِنْبَاطُ عِلَّةٍ مِنْهَا. فَهَذَا الْكَلَامُ عَلَيْهِمْ إِنْ أَبْطَلُوا الْعِلَّةَ الْوَاقِفَةَ.
وَإِنْ أَثْبَتُوهَا وَجَعَلُوا الْمُتَعَدِّيَةَ أَوْلَى مِنْهَا كَانَ هَذَا مُسَلَّمًا مَا لَمْ تَبْطُلِ الْمُتَعَدِّيَةُ بِنَقْضٍ أَوْ مُعَارَضَةٍ وَقَدْ أَبْطَلْنَا تَعْلِيلَهُمْ بِالْوَزْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الشَّافِعِيُّ وَلَوْلَاهُمَا لَكَانَ التَّعْلِيلُ بِالْوَزْنِ أَوْلَى.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ بِأَنَّ الِاسْمَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عِلَّةً لِعَدَمِ تَعَدِّيهِ. فَهُوَ أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ إِلَى الْكَلَامِ فِي إِبْطَالِ الْعِلَّةِ الْوَاقِفَةِ وَقَدْ مَضَى عَلَى أَنَّ الِاسْمَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً لِأَنَّهُ مُسْتَفَادٌ قَبْلَ الِاسْتِنْبَاطِ لَا لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدَمِ التَّعَدِّي.

(5/92)


وَالْعِلَّةُ الْوَاقِفَةُ مُسْتَفَادَةٌ بَعْدَ الِاسْتِنْبَاطِ فَجَازَ أَنْ يكون علة مَعَ عَدَمِ التَّعَدِّي.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرُوهُ مَنْ نَقْضِ عِلَّتِنَا فِي الطَّرْدِ بِالْفُلُوسِ وَفِي الْعَكْسِ بِالْأَوَانِي فَهُوَ أَنَّ عِلَّتَنَا سَلِيمَةٌ مِنَ النَّقْضِ فِي الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ لِأَنَّهَا جِنْسُ الْأَثْمَانِ غَالِبًا، وَالْفُلُوسُ وَإِنْ كَانَتْ ثَمَنًا فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فَنَادِرٌ فَسَلِمَ الطَّرْدُ، وَأَمَّا الْعَكْسُ فَلَا ينتقض أيضا بالأواني لأننا قلنا جنس الأثمان والأواني مِنْ جِنْسِ الْأَثْمَانِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَثْمَانًا فَسَلِمَتِ الْعِلَّةُ مِنَ النَّقْصِ فِي الطَّرْدِ وَالْعَكْسِ. وإذ قَدِ انْتَهَى الْكَلَامُ بِنَا إِلَى هَذَا فَسَنَذْكُرُ فَصْلًا مِنَ الْعِلَلِ وَمَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهَا وَيَصِحُّ بِهَا الْقِيَاسُ الَّذِي يَتَضَمَّنُهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
اعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ قِيَاسَانِ، قِيَاسُ طَرْدٍ وَقِيَاسُ عَكْسٍ. فَأَمَّا قِيَاسُ الطَّرْدِ: فَهُوَ إِثْبَاتُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ لِاجْتِمَاعِهِمَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ. وَهَذَا أَقْوَى الْقِيَاسَيْنِ حُكْمًا، وَلَيْسَ يَخْتَلِفُ أَهْلُ الْقِيَاسِ فِي الْقَوْلِ بِهِ.
وَأَمَّا قِيَاسُ الْعَكْسِ: فَهُوَ إِثْبَاتُ حُكْمٍ نَقِيضِ حُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ بِاعْتِبَارِ عِلَّتِهِ.
وَهَذَا قَدْ أَثْبَتَهُ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ قِيَاسًا وَإِنْ خَالَفَهُمْ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ.
وَقِيَاسُ الطَّرْدِ، لَا يَخْلُو مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: مَنْ أَصْلٍ، وَفَرْعٍ، وَعِلَّةٍ، وَحُكْمٍ.
فَأَمَّا الْأَصْلُ فَهُوَ الَّذِي يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْفَرْعُ فهو الذي يتعدى إليه الحكم غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْعِلَّةُ فَهِيَ الَّتِي لِأَجْلِهَا ثَبَتَ الْحُكْمُ. وَقِيلَ الصِّفَةُ الْحَالِيَّةُ لِلْحُكْمِ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَهُوَ الْمُنْقَسِمُ إِلَى:
الْإِبَاحَةِ، وَالْحَظْرِ، وَالْوُجُوبِ، وَالنَّدْبِ، وَالْكَرَاهَةِ، وَالِاسْتِحْبَابِ فَالْبُرُّ فِي الرِّبَا أَصْلٌ، وَالْأُرْزُ فَرْعٌ، وَالْأَكْلُ عِلَّةٌ، وَالرِّبَا حُكْمٌ.
ثُمَّ الْعِلَّةُ وَالْحُكْمُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهِمَا فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ مَعًا غَيْرَ أَنَّ الْعِلْمَ بِوُجُودِهِمَا فِي الْأَصْلِ أَسْبَقُ مِنَ الْعِلْمِ بِوُجُودِهِمَا فِي الْفَرْعِ، وَالْعِلْمُ بِالْحُكْمِ الْمُعَلَّقِ بِالْأَصْلِ أَسْبَقُ مِنَ الْعِلْمِ بِعِلَّةِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ تُعْلَمُ بَعْدَ الِاسْتِنْبَاطِ لَهَا وَالْحُكْمُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الِاسْتِنْبَاطِ. وَالْعِلْمُ بِالْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ أَسْبَقُ مِنَ الْعِلْمِ بحكم الفرع بخلاف الأصل. لأن بِوُجُودِ الْعِلَّةِ فِي الْفَرْعِ يُعْلَمُ حُكْمُ الْفَرْعِ، وَبِوُجُودِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ يُعْرَفُ عِلَّةُ الْأَصْلِ. ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَفَادًا مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ. فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مُسْتَفَادًا مِنْ نَصٍّ أَوْ إِجْمَاعٍ، كَانَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ أَصْلًا بِذَاتِهِ فَيَجِبُ حِينَئِذٍ اسْتِنْبَاطُ عِلَّتِهِ وَتَعْلِيقُ حُكْمِهِ عَلَى فُرُوعِهِ.
وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ مُسْتَفَادًا مِنْ قِيَاسٍ عَلَى أَصْلٍ آخَرَ فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ قَدْ ثَبَتَ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ بِمِثْلِ الْعِلَّةِ الَّتِي يَثْبُتُ بِهَا الْحُكْمُ فِي هَذَا

(5/93)


الْفَرْعِ أَوْ يَكُونُ الْحُكْمُ قَدْ ثَبَتَ فِيهَا بِعِلَّةٍ أُخْرَى. فَإِنْ كَانَ قَدْ ثَبَتَ الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ بِمِثْلِ الْعِلَّةِ الْمُسْتَنْبَطَةِ مِنْهُ لَمْ يَثْبُتِ الْحُكْمُ فِي هَذَا الْفَرْعِ.
مِثَالُهُ: أَنْ تَقِيسَ الذُّرَةَ عَلَى الْأُرْزِ بِعِلَّةِ الْأَكْلِ، وَالْأُرْزُ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا فَهَذِهِ الْعِلَّةُ قِيَاسًا عَلَى الْبُرِّ: فَإِنَّ كَانَ هَكَذَا لَمْ يَجُزْ جَعْلُ هَذَا أَصْلًا وَكَانَ هَذَا الْأَصْلُ مَعَ مَا أُلْحِقَ بِهِ فَرْعَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ الْأَوَّلِ.
فَجَعَلَ الذُّرَةَ وَالْأُرْزَ فَرْعَيْنِ عَلَى الْبُرِّ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ لِوُجُودِ عِلَّةِ الْبُرِّ فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ، وَلَيْسَ جَعْلُ الْأُرْزِ الْمَقِيسِ عَلَى الْبُرِّ أَصْلًا لِلذُّرَةِ بِأَوْلَى مِنْ جَعْلِ الذُّرَةِ أَصْلًا لِلْأُرْزِ لاستوائهما فَرْعًا لِلْآخَرِ. وَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ قَدْ ثَبَتَ فِي ذَلِكَ الْأَصْلِ بِعِلَّةٍ وَرُدَّ الْفَرْعُ إِلَيْهِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى مُسْتَنْبَطَةٍ مِنْهُ غَيْرِ تِلْكَ الْعِلَّةِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ ذَلِكَ.
فَقَالَتْ طَائِفَةٌ لَا يَجُوزُ وَمَنَعُوا مِنْهُ، لِأَنَّ الْفَرْعَ إِنَّمَا يُرَدُّ إِلَى الْأَصْلِ إِذَا شَارَكَهُ فِي عِلَّةِ حُكْمِهِ، وَعِلَّةُ هَذَا الْأَصْلِ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا حُكْمُهُ هِيَ عِلَّةٌ أُخْرَى لَا تُوجَدُ فِي الْفَرْعِ الثَّانِي وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ مَنَعَ مِنَ الْقَوْلِ بِالْعِلَّتَيْنِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى بِجَوَازِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الَّتِي ثَبَتَ بِهَا الْحُكْمُ فِي الْأَصْلِ هِيَ كَالنَّصِّ فِي أَنَّهَا طَرِيقُ الْحُكْمِ وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْلَمَ بِالدَّلِيلِ أَنَّ لِعِلَّةٍ أُخْرَى تَأْثِيرًا فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ فَيَرُدُّ بِهَا بَعْضُ الْفُرُوعِ إِلَيْهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَنْ أَجَازَ الْقَوْلَ بِالْعِلَّتَيْنِ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمُ الْأَصْلِ مِنْ أَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ الثَّلَاثَةِ وَجَبَ عَلَى الْقِيَاسِ اعْتِبَارُ عِلَّةِ الْحُكْمِ فِي الْأَصْلِ لِتَحَرِّيَهَا فِي الْفَرْعِ. وَقَدْ يُعْلَمُ عِلَّةُ الْأَصْلِ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَيْضًا.
أَحَدُهَا: النَّصُّ الصَّرِيحُ.
وَالثَّانِي: التَّنْبِيهُ.
وَالثَّالِثُ: الِاسْتِنْبَاطُ.
وَأَمَّا النَّصُّ الصَّرِيحُ فَنَحْوُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] . وَنَحْوُ قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِأَجَلِ الدَّافةِ ". فَنَصَّ عَلَى الْعِلَّةِ كَمَا نَصَّ عَلَى الْحُكْمِ. وَأَمَّا التَّنْبِيهُ فَمِثْلُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ امْتَنَعَ مِنَ الدُّخُولِ عَلَى قَوْمٍ عِنْدَهُمْ كَلْبٌ وَدَخَلَ عَلَى آخَرِينَ وَعِنْدَهُمْ هِرَّةٌ، وَقَالَ: إِنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجَسٍ إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ.
فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى نَجَاسَةِ الْكَلْبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الطَّوَّافِينَ وَالطَّوَّافَاتِ. وَفِي مَعْنَى التَّنْبِيهِ الِجَوَاب بِالْفَاءِ نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فَنَبَّهَ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ الْقَطْعِ السَّرِقَةُ.

(5/94)


وَأَمَّا الِاسْتِنْبَاطُ فَهُوَ مَا وَرَدَ النَّصُّ بِإِطْلَاقِ حُكْمِهِ مِنْ غَيْرِ إِشَارَةٍ إِلَى عِلَّتِهِ وَوَكَّلَ الْعُلَمَاءَ إِلَى اجْتِهَادِهِمْ فِي اسْتِنْبَاطِ عِلَّتِهِ كَالسِّتَّةِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نَصَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى ثُبُوتِ الرِّبَا فِيهَا. فَاجْتَهَدَ الْفُقَهَاءُ فِي اسْتِنْبَاطِ مَعْنَاهَا.
وَهَذَا النَّوْعُ إِنَّمَا يُمْكِنُ اسْتِنْبَاطُ عِلَّتِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ لِيُعْلَمَ بِهِ الْعِلَّةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهَا مِنَ الْعِلَّةِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهَا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الشُّرُوطِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْعِلَّةِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ أَرْبَعٌ: وُجُودُ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا، وَارْتِفَاعُهُ بِارْتِفَاعِهَا، وَسَلَامَتُهَا عَلَى الْأُصُولِ، وَعَدَمُ مَا يُعَارِضُهَا مِمَّا هُوَ أَوْلَى مِنْهَا فَجَعَلَ الطَّرْدَ وَالْعَكْسَ شَرْطَيْنِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهَا. وَقَالَ آخَرُونَ هِيَ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: وُجُودُ الْحُكْمِ بِوُجُودِهَا، وَسَلَامَتُهَا عَلَى الْأُصُولِ وَعَدَمُ مَا يُعَارِضُهَا مِمَّا هُوَ أَوْلَى مِنْهَا. فَجَعَلَ هَذَا الْقَائِلُ الطَّرْدَ شَرْطًا وَلَمْ يَجْعَلِ الْعَكْسَ شَرْطًا. وَقَدِ اخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَزَعَمَ أَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ لَا يَسْتَمِرُّ فِي جَمِيعِهَا الطَّرْدُ وَالْعَكْسُ، وَإِنَّمَا يَسْتَمِرُّ فِي الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّاتِ.
وَقَالَ الْأَوَّلُونَ: بَلْ هَذَا الشَّرْطُ مُسْتَمِرٌّ فِي الشَّرْعِيَّاتِ أَيْضًا مَا لَمْ يُخْلِفْ تِلْكَ الْعِلَّةَ عِلَّةً أُخْرَى تُوجِبُ مِثْلَ حُكْمِهَا. وَهَذَا أَصَحُّ الْمَذْهَبَيْنِ عِنْدِي لِأَنَّ الْعِلَّةَ إِذَا كَانَتْ مُوجِبَةً بِحُكْمٍ وَاقْتَضَتْ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ بِوُجُودِهَا مَوْجُودًا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ الحكم بعدمها وما لَيَقَعِ الْفَرْقُ بَيْنَ وُجُودِهَا وَعَدَمِهَا. واللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا فَسَادُ الْعِلَّةِ فَقَدْ يَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ. بَعْضُهَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَبَعْضُهَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
فَأَحَدُهَا: التَّعْلِيلُ بِالِاسْمِ وَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اسْمًا مُشْتَقًّا مِنْ فِعْلٍ كَعَاقِدٍ وَقَاتِلٍ وَوَارِثٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ اسْمَ لَقَبٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُعَلَّلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ سَمَّتْهُ خَمْرًا. فَهَذَا تَعْلِيلٌ فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ لِتَسْمِيَةِ الْعَرَبِ مَعَ تقدمه على الشرع تأثيرا فِي تَحْرِيمِ الْخَمْرِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُعَلَّلَ تَحْرِيمُهُ بِجِنْسِهِ وَيُعَبَّرَ عَنِ الْجِنْسِ بِاسْمِهِ فَيُعَلَّلُ تَحْرِيمُهُ بِكَوْنِهِ خَمْرًا فَهَذَا جَائِزٌ. لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ التَّعْلِيلُ بِالصِّفَةِ جَازَ التَّعْلِيلُ بِالْجِنْسِ فَيَجُوزُ أَنْ تَقُولَ فِي نَجَاسَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، لِأَنَّهُ بَوْلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ نَجِسًا قِيَاسًا عَلَى بَوْلِ الْآدَمِيِّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: اخْتِلَافُ الْمَوْضُوعِ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ مَبْنِيًّا عَلَى التَّخْفِيفِ، وَالْحُكْمُ الْآخَرُ مَبْنِيًّا عَلَى التَّغْلِيظِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِعِلَّةٍ تُوجِبُ حُكْمًا آخَرَ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ يَكُونُ اخْتِلَافُ مَوْضُوعِهِمَا مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكُونُ هَذَا

(5/95)


مُفْسِدًا لِلْعِلَّةِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْجَمْعِ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا يُوجِبُ تَسَاوِيَ حُكْمِهِمَا، وَاخْتِلَافُ مَوْضُوعِهِمَا يُوجِبُ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ صِحَّةِ الْجَمْعِ وَلَا يُوجِبُ فَسَادَ الْعِلَّةِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ مُسَاوِيًا لِأَصْلِهِ فِي حُكْمٍ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي غَيْرِهِ لِأَنَّ أَحْكَامَهُمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مُتَعَذَّرٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ مِنْ وُجُوهِ الْفَسَادِ عَدَمُ التَّأْثِيرِ. وَهُوَ أَنْ يَضُمَّ الْمُعَلِّلُ إِلَى أَوْصَافِ عِلَّتِهِ وَصْفًا لَوْ عُدِمَتْهُ الْعِلَّةُ فِي الْأَصْلِ لَمْ يُعْدَمِ الْحُكْمُ. فَفَسَدَ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَجْمُوعُ تِلْكَ الْأَوْصَافِ عِلَّةً وَوَجَبَ إِسْقَاطُ الْوَصْفِ الَّذِي لَا يؤثر عِلَّتُهُ فِي الْأَصْلِ.
لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ مَا لَا يَضُرُّ فقده في الحكم إثبات مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ مِنَ الْأَوْصَافِ.
وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: الْكَسْرُ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْوَصْفُ الْمَزِيدُ فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ احْتِرَازًا مِنِ انْتِقَاضِهَا بِفَرْعٍ مِنَ الْفُرُوعِ فَلَا يَجُوزُ ضَمُّ هَذَا الْوَصْفِ إِلَيْهَا وَتَصِيرُ الْعِلَّةُ مُنْتَقَضَةً عَلَى قَوْلِ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا، لِأَنَّ عِلَّةَ الْأَصْلِ يَجِبُ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْعِلْمُ بِصِحَّتِهَا ثُمَّ يَجْرِي فِي فُرُوعِهَا. فإن لم يؤثر وصف منها في فَسَاد الْعِلَّةِ وَهَذَا الْوَجْهُ مُؤَلَّفٌ مِنْ عَدَمِ التَّأْثِيرِ وَالنَّقْضِ.
وَالْوَجْهُ الْخَامِسُ: الْقَلْبُ. وَهُوَ أَنْ يُعَلَّقَ بِعِلَّةِ الْأَصْلِ نَقِيضُ حُكْمِهَا مِثَالُهُ: أَنْ يُعَلِّلَ الْحَنَفِيُّ وُجُوبَ الصِّيَامِ فِي الِاعْتِكَافِ بِأَنَّهُ لُبْثٌ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ اقْتِرَانُ مَعْنًى آخَرَ إِلَيْهِ.
أَصْلُهُ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ: فَنَقْلِبُ هَذَا الْقِيَاسَ عَلَيْهِ وَنَقُولُ لِأَنَّهُ لُبْثٌ فِي مَكَانٍ مَخْصُوصٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ الصَّوْمُ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَيَكُونُ فهنا فَسَادًا لِلْعِلَّةِ. وَلَكَ فِي هَذَا الْمِثَالِ أَنْ تَمْنَعَ الْعِلَّةَ بِوَجْهٍ سَادِسٍ وَهُوَ الْقَوْلُ بِمُوجَبِ الْعِلَّةِ وَهُوَ أَنْ تَقُولَ أَنَا أُضُمُّ إِلَيْهِ مَعْنًى آخَرَ وَهُوَ النِّيَّةُ فَيَكُونُ هَذَا قَوْلًا بِمُوجَبِ الْعِلَّةِ. وَهَذَا إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِالْحُكْمِ إِذَا كَانَ مُجْمَلًا وَيَصِيرُ النِّزَاعُ فِي الْحُكْمِ مَانِعًا من العلة أن تكون موجهة لِمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْحُكْمِ.
وَالْوَجْهُ السَّابِعُ: النَّقْضُ وَيَكُونُ بِحَسْبَ الْعِلَّةِ.
وَالْعِلَلُ ضَرْبَانِ. عِلَّةُ نَوْعٍ، وَعِلَّةُ جِنْسٍ. فَأَمَّا عِلَّةُ النَّوْعِ فَمِثْلُ تَعْلِيلِ الْبُرِّ لِثُبُوتِ الرِّبَا فِيهِ بِأَنَّهُ مَطْعُومٌ. وَأَمَّا عِلَّةُ الْجِنْسِ فَمِثْلُ تَعْلِيلِ جِنْسِ الرِّبَا بِأَنَّهُ مَطْعُومٌ.
فَإِنْ كَانَ التَّعْلِيلُ لِنَوْعٍ. كَانَ نَقْضُ الْعِلَّةِ فِيهِ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ فَإِذَا وُجِدَ مَطْعُومٌ لَيْسَ فِيهِ رِبًا كَانَ نَقْضًا.
وَلَا يَنْتَقِضُ بِوُجُودِ الرِّبَا فِيمَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ. وَإِنْ كَانَ التَّعْلِيلُ لِلْجِنْسِ كَتَعْلِيلِ جِنْسِ الرِّبَا بِأَنَّهُ مَطْعُومٌ انْتَقَضَتْ هَذِهِ الْعِلَّةُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وُجُودُ الْعِلَّةِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْحُكْمِ حَتَّى إِنْ كَانَ مَطْعُومًا لَا رِبَا فِيهِ كَانَ نَقْضًا.

(5/96)


وَالثَّانِي: وُجُودُ الْحُكْمِ مَعَ ارْتِفَاعِ الْعِلَّةِ حَتَّى إِذَا ثَبَتَ الرِّبَا فِيمَا لَيْسَ بِمَطْعُومٍ مِنَ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ كَانَ نَقْضًا، وَمَتَى كَانَ الْحُكْمُ جُمْلَةً لَمْ يَنْتَقِضْ بِالتَّفْصِيلِ وَمَتَى كَانَ مُفَصَّلًا انْتَقَضَ بِالْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ. وَقَدْ يُحْتَرَزُ مِنَ النَّقْضِ إِذَا كَانَ بِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَارْتِفَاعِ الْحُكْمِ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ:
إِمَّا احْتِرَازٌ بِحُكْمٍ ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ، وَإِمَّا احْتِرَازٌ بِشَرْطٍ مُقَيَّدٍ بِالْحُكْمِ فَإِنْ كَانَ الِاحْتِرَازُ بِحُكْمٍ ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ مِثَالُهُ: تَعْلِيلُ الحنفي قتل المسلم بالذمي بأنهما حران مكلفان مَحْقُونَا الدَّمِ كَالْمُسْلِمَيْنِ. فَإِذَا نُوقِضَ بِقَتْلِ الْخَطَأِ وَعَدَمِ الْقَوْدِ فِيهِ قَالَ:
قَدِ احْتَرَزْتُ مِنْ هَذَا النَّقْضِ بِالرَّدِّ إِلَى الْمُسْلِمَيْنِ، فَإِنَّ الْقَوْدَ بَيْنَهُمَا يَجْرِي فِي الْعَمْدِ دُونَ الْخَطَأِ فَكَذَا فِي الْفَرْعِ.
وَهَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ وَالنَّقْضُ لَازِمٌ لِأَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الْمَنْطُوقُ بِهَا وَالْحُكْمُ مَا صَرَّحَ بِهِ، وَالنَّقْضُ يَتَوَجَّهُ إِلَى الْمُظْهَرِ دُونَ الْمُضْمَرِ.
وَإِنْ كَانَ الِاحْتِرَازُ بِشَرْطٍ فَقَيْدٌ بِالْحُكْمِ.
فَمِثَالُهُ: إِذَا عَلَّلَ الْحَنَفِيُّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِأَنَّهُمَا حُرَّانِ مُكَلَّفَانِ مَحْقُونَا الدَّمِ، أَنْ يَقُولَ: فَوَجَبَ أَنْ يَثْبُتَ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ.
فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا. هَلْ يَكُونُ هَذَا الِاحْتِرَازُ مَانِعًا مِنَ النَّقْضِ؟
فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَمْنَعُ هَذَا الِاحْتِرَازُ مِنَ النَّقْضِ وَيَكُونُ هَذَا اعْتِرَافًا يَنْقُضُ الْعِلَّةَ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ مَا اسْتَقَلَّتْ بِالذِّكْرِ وَكَانَتْ هِيَ الْمُؤَثِّرَةَ فِي الْحُكْمِ وَهَذِهِ الْعِلَّةُ لَا تُؤَثِّرُ إِلَّا بِشَرْطٍ يَقْتَرِنُ بِالْحُكْمِ.
وَقَالَ آخَرُونَ بَلْ هَذَا الِاحْتِرَازُ مَانِعٌ مِنَ النَّقْضِ وَالْعِلَّةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمَذْكُورَ فِي الْحُكْمِ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فِي اللَّفْظِ فَهُوَ مُتَقَدِّمٌ فِي الْمَعْنَى.
وَالْوَجْهُ الثَّامِنُ: الْمُعَارَضَةُ. وَقَدْ تَكُونُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِالنَّصِّ.
وَالثَّانِي: بِعِلَّةٍ فَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْعِلَّةِ بِالنَّصِّ فَيُنْظَرُ حَالُ النَّصِّ، فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُجْمَلٍ كَانَتِ الْعِلَّةُ الَّتِي عَارَضَتْهُ فَاسِدَةٌ. لِأَنَّ النَّصَّ أَصْلٌ مُقَدَّمٌ وَالْقِيَاسَ فَرْعٌ مُؤَخّرٌ.
وَإِنْ كَانَ النَّصُّ مُجْمَلًا جَازَ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ إِنْ كَانَ جَلِيًّا، وَفِي جَوَازِ تَخْصِيصِهِ بِالْقِيَاسِ إِنْ كَانَ خَفِيًّا وَجْهَانِ.
وَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْعِلَّةِ بِعِلَّةٍ فَضَرْبَانِ:

(5/97)


أَحَدُهُمَا: الْمُعَارَضَةُ فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ.
وَالثَّانِي: الْمُعَارَضَةُ بِقِيَاسٍ آخَرَ مَعَ تَسْلِيمِ عِلَّةِ الْأَصْلِ، فَإِنْ كَانَتِ الْمُعَارَضَةُ فِي عِلَّةِ الْأَصْلِ نُظِرَ فِي الْمُعَلِّلِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَقُولُ بِالْعِلَّتَيْنِ لَمْ تَسْلَمْ لَهُ الْعِلَّةُ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ على صحتها أو على فسادها مَا عَارَضَهَا مِثْلُ تَعْلِيل الْحَنَفِيِّ الْبُرَّ بِأَنَّهُ مَكِيلٌ فَيُعَارِضُ الشَّافِعِيّ فِي عِلَّةِ الْبُرِّ بِأَنَّهُ مَطْعُومٌ فَلَا نُسَلِّمُ التَّعْلِيلَ بِالْكَيْلِ إِلَّا أَنْ يَدُلَّ عَلَى صِحَّتِهِ وَفَسَادِ مَا عَارَضَهُ.
وَإِنْ كَانَ الْمُعَلِّلُ مِمَّنْ يَقُولُ بِالْعِلَّتَيْنِ نُظِرَ فِي الْحُكْمَيْنِ فَإِنْ كَانَا مُتَنَافِيَيْنِ لَمْ تَسْلَمِ الْعِلَّةُ بِالْمُعَارَضَةِ إِلَّا بِالدَّلِيلِ عَلَى صِحَّتِهَا أَوْ فَسَادِ مَا عَارَضَهَا. وَإِنْ لَمْ يَتَنَافَ الْحُكْمَانِ فَقَدْ قِيلَ لَا تَمْنَعُ الْمُعَارَضَةُ مِنْ صِحَّةِ الْعِلَّةِ وَلِلْمُعَلِّلِ أَنْ يَقُولَ: أَقُولُ بِالْعِلَّتَيْنِ مَعًا.
وَقِيلَ: بَلْ هَذِهِ الْمُعَارَضَةُ مَانِعَةٌ مِنْ صِحَّةِ الْعِلَّةِ حَتَّى يَدُلَّ عَلَى أَنَّ عِلَّتَهُ هِيَ الَّتِي أوجبت الحكم الذي أدعاه ثم يصح حينئذ قوله بالعلتين.
وَأَمَّا مُعَارَضَةُ الْقِيَاسِ بِقِيَاسٍ آخَرَ فَمَانِعٌ مِنْ صِحَّةِ الْقِيَاسِ أَيْضًا سَوَاءٌ قَالَ الْمُعَلِّلُ بِالْعِلَّتَيْنِ أَوْ لَمْ يَقُلْ. لِأَنَّهُ لَيْسَ رَدُّ الْفَرْعِ إِلَى أَحَدِ الْأَصْلَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ رَدِّهِ إِلَى الْأَصْلِ الْآخَرِ إِلَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُ الْقِيَاسَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
إِمَّا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى أَصْلِهِ وَإِمَّا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى حُكْمِهِ وَإِمَّا بِمَا يَرْجِعُ إِلَى عِلَّتِهِ فَيَكُونُ الْقِيَاسُ الْمُتَرَجِّحُ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ أَوْلَى.

فَصْلٌ:
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ صِحَّةَ الْعِلَّةِ وَفَسَادَهَا يعْتَبرُ بِمَا وَصَفْنَا فَيَنْبَغِي لِلْمُعَلِّلِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنْبِطَ عِلَّةَ الْأَصْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَى حُكْمِهِ أَنْ يَعْتَبِرَ أَوْصَافَ الْأَصْلِ وَصْفًا بَعْدَ وَصْفٍ فَإِنْ كَانَ الْوَصْفُ الَّذِي بَدَأَ بِاعْتِبَارِهِ مُطَّرِدًا عَلَى الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ عَلِمَ أَنَّهُ الْعَلَمُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِلَّةَ الْحُكْمِ.
وَإِنْ لَمْ يَطَّرِدْ وَاعْتَرَضَهُ أَحَدُ وُجُوهِ الْفَسَادِ انْتَقَلَ إِلَى وَصْفٍ ثَانٍ فَإِنْ وَجَدَهُ مُطَّرِدًا عَلِمَ أَنَّهُ عِلَّةُ الْأَصْلِ، وَإِنْ لَمْ يَطَّرِدِ انْتَقَلَ إِلَى وَصْفٍ ثَالِثٍ فَاعْتَبَرَهُ كَذَلِكَ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى جَمِيعِ الْأَوْصَافِ فَإِذَا سَلِمَ لَهُ أَحَدُهَا جَعَلَهُ عِلَّةَ الْحُكْمِ.
فَلَوْ سَلِمَ لَهُ وَصْفَانِ وَصَحَّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِاطِّرَادِهِ عَلَى الْأُصُولِ، لَمْ يَجُزْ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِهِمَا لَكِنْ يَقَعُ التَّرْجِيحُ بَيْنَهُمَا فَإِذَا تَرَجَّحَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ بِعُمُومِهِ وَكَثْرَةِ فُرُوعِهِ أَوْ بِأَحَدِ الْوُجُوهِ الَّتِي يَكُونُ بِهَا تَرْجِيحُ الْعِلَلِ عُلِمَ أَنَّ الْوَصْفَ الَّذِي تَرَجَّحَ هُوَ عِلَّةُ الْحُكْمِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَتْ أَوْصَافُ الْأَصْلِ حِينَ اعْتُبِرَ بِهَا لَا يَطَّرِدُ وَاحِدٌ مِنْهَا عَلَى الْأُصُولِ ضَمَمْتَ أَحَدَ الْأَوْصَافِ إِلَى الْآخَرِ فَإِذَا صَلُحَ لَكَ اجْتِمَاعُ وَصْفَيْنِ مُطَّرِدَيْنِ جَعَلْتَهُمَا مَعًا عِلَّةَ الْحُكْمِ.
وَإِنْ لَمْ يَطَّرِدِ الْوَصْفَانِ بِاجْتِمَاعِهِمَا ضَمَمْتَ إِلَيْهِمَا وَصْفًا ثَالِثًا، فَإِذَا وَجَدْتَهَا مُطَّرِدَةً

(5/98)


جَعَلْتَهَا مَجْمُوعَهَا عِلَّةَ الْأَصْلِ، وَإِنْ لَمْ تَطَّرِدْ بِاجْتِمَاعِهَا ضَمَمْتَ إِلَيْهَا رَابِعًا، ثُمَّ خَامِسًا ثُمَّ سَادِسًا وَلَا يَنْحَصِرُ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إِلَى أَنْ يَجْمَعَ أَوْصَافَ الْأَصْلِ كُلِّهِ وَيَقْتَصِرَ بِالْعِلَّةِ عَلَى نَفْسِ الْأَصْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَى حُكْمِهِ كَمَا قُلْنَا فِي عِلَّةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ عَلَى أَحَدِ أَوْصَافِهَا انْتَهَى بِنَا التَّعْلِيلُ إِلَى الِاقْتِصَارِ عَلَى نَفْسِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَقُلْنَا: إِنَّ عِلَّتَهُمَا كَوْنُهُمَا أَثْمَانًا وَقِيَمًا.
وَمَنَعَ أبو حنيفة مِنْ هَذَا بِمَنْعِهِ مِنَ الْعِلَّةِ الْوَاقِعَةِ. وَمَنَعَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْصَافٍ وَهَذَا فَاسِدٌ، لِأَنَّهُ لَا نَجِدُ فَرْقًا بَيْنَ الْخَمْسَةِ وَبَيْنَ مَا زَادَ عَلَيْهَا أَوْ نَقَصَ منها. والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسلفَ شَيْئًا بِمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ وَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ جَازَا مُتَفَاضِلَيْنِ يَدًا بِيَدٍ قِيَاسًا عَلَى الذَّهَبِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُسلفَ فِي الْفِضَّةِ وَالْفِضَّةِ الَتِي لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْلَفَ فِي الذَّهَبِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. وَجُمْلَتُهُ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ إِذَا تَبَايَعَا لَمْ يَخْلُ مَا يَضْمَنُهُ عَقْدُ بَيْعِهِمَا عِوَضًا وَمُعَوَّضًا مِنْ أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ الْعِوَضَانِ مِمَّا لَا رِبَا فِيهِ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ نَقْدًا وَنَسَاءً مُتَفَاضِلًا وَمُتَمَاثِلًا سَوَاءٌ كَانَا مِنْ جِنْسَيْنِ كَبَيْعِ ثَوْبٍ بِعَبْدٍ، أَوْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَبَيْعِ ثَوْبٍ بِثَوْبَيْنِ، وَعَبْدٍ بِعَبْدَيْنِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ الرِّبَا دُونَ الْآخَرِ كَبَيْعِ عَبْدٍ بِدَرَاهِمَ أَوْ ثَوْبٍ بِطَعَامٍ فَهَذَا كَالْقِسْمِ الَّذِي قَبْلَهُ يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَيْهِمَا نَقْدًا وَنَسَاءً، وَيَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْعِوَضَانِ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا بِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ كَالْبُرِّ بِالذَّهَبِ أَوِ الشَّعِيرِ بِالْفِضَّةِ فَهَذَا كَالْقِسْمَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ فِي جَوَازِ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا نَقْدًا وَنَسَاءً وَإِسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الْعِوَضَانِ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا بِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ كَالْبُرِّ بِالشَّعِيرِ أَوْ بِالْبُرِّ، وَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ أَوْ بِالذَّهَبِ، فَلَا يَجُوزُ إِسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْعِلَّةِ. ثُمَّ يُنْظَرُ فِي حَالِ الْعِوَضَيْنِ فَإِنْ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ كَالْبُرِّ بِالْبُرِّ أَوِ الشَّعِيرِ بِالشَّعِيرِ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُمَا إِلَّا بِشَرْطَيْنِ: التَّسَاوِي، وَالتَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ.
وَقَالَ أبو حنيفة يَصِحُّ وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ.

(5/99)


وَإِنْ كَانَ الْعِوَضَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ كَالْبُرِّ بِالشَّعِيرِ، أَوِ التَّمْرِ بِالزَّبِيبِ فَبَيْعُهُ مُعْتَبَرٌ بِشَرْطٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، وَالتَّفَاضُلُ فِيهِ يَجُوزُ وَقَدْ مَضَى فِي هَذَا الْمَعْنَى مَا يُغْنِي. والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ مَا خَرَجَ مِنَ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا إِلَى أَجَلٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ صِنْفٍ وَاحِدٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ تَقَرَّرَ بِمَا تَمَهَّدَ مِنْ عِلَّتَيِ الرِّبَا أَنَّ مَا عَدَا الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا رِبَا فِيهِ كَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ وَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يُبَاعَ الْجِنْسُ مِنْهُ بِغَيْرِهِ أَوْ بِمِثْلِهِ عَاجِلًا وَآجِلًا، وَمُتَفَاضِلًا، فَيَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ ثَوْبًا بِثَوْبَيْنِ وَعَبْدًا بِعَبْدَيْنِ وَبَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ نَقْدًا وَنَسَاءً.
وَقَالَ أبو حنيفة: الْجِنْسُ يَمْنَعُ مِنَ النَّسَاءِ مُتَفَاضِلًا وَمُتَمَاثِلًا، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الثِّيَابِ بِالثِّيَابِ نَسَاءً، وَلَا بَيْعُ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسَاءً. اسْتِدْلَالًا بِرِوَايَةِ قَتَادَةَ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً.
وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: الْحَيَوَانُ وَاحِدٌ بِاثْنَيْنِ لَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فِيهِ إِنْسَاءً.
وَلِأَنَّهُ بَيْعُ جِنْسٍ فَلَمْ يَجُزْ دُخُولُ النَّسَاءِ فِيهِ كَالْبُرِّ. وَلِأَنَّ الْجِنْسَ أَحَدُ صِفَتَيْ عِلَّةِ الرِّبَا لِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا عَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مَطْعُومُ جِنْسٍ وَعَلَى قَوْلِ أبي حنيفة مَكِيلُ جِنْسٍ، وَإِذَا كَانَ الْجِنْسُ أَحَدَ صِفَتَيْ عِلَّةِ الرِّبَا لَمْ يَجُزْ دُخُولُ النَّسَاءِ فِيهِ كَالطَّعْمِ أَوِ الْكَيْلِ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا كَانَ وَصْفًا فِي عِلَّةِ الرِّبَا كَانَ مَانِعًا مِنْ دُخُولِ النَّسَاءِ كَالْكَيْلِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى خَطَأِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَمَرَهُ أَنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا فَفَرَّتِ الِإبْلُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ قِلَاصِ الصَّدَقَةِ. فَكَانَ يَأْخُذُ الْبَعِيرَ بِالْبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ.
وَرَوَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَ عَبْدٌ فَبَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْهِجْرَةِ وَلَا يَشْعُرُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنَهُ عَبْدٌ فَجَاءَ سَيِّدُهُ يُرِيدُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعْنِيهِ فَاشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ

(5/100)


أَسْوَدَيْنِ ثُمَّ لَمْ يُبَايِعْ أَحَدًا بَعْدُ حَتَّى يَسْأَلَهُ أَعَبْدٌ هُوَ. رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ. وَقَدْ رُوِيَ جَوَازُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَاعَ جَمَلًا لَهُ يقال له العصيفير بِعِشْرِينَ جَمَلًا إِلَى أَجَلٍ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ بَاعَ بَعِيرًا بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ مَضْمُونَةٍ بِالرَّبَذَةِ. وَلَيْسَ لَهُمَا فِي الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ فَكَانَ إِجْمَاعًا.
وَلِأَنَّ كُلَّ عَقْدٍ صَحَّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ، صَحَّ دُخُولُ الْأَجَلِ فِيهِ، كَالْجِنْسَيْنِ مِنْ حيوان وثياب.
وَلِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ جَازَ دُخُولُ التَّفَاضُلِ فِيهِ جَازَ دُخُولُ الْأَجَلِ فِيهِ كَالثِّيَابِ الْمَرْوِيَّةِ بِالْهَرَوِيَّةِ.
فَإِنْ قِيلَ: " الْهَرَوِيُّ وَالْمَرْوِيُّ " جِنْسَانِ فَلِذَلِكَ جَازَ دُخُولُ الْأَجَلِ فِيهِمَا، قِيلَ: جِنْسُهُمَا وَاحِدٌ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ هَرَوِيٌّ فَبَانَ أَنَّهُ مَرْوِيٌّ، كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا وَلَهُ الْخِيَارُ، وَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ لَبَطَلَ الْبَيْعُ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ قُطْنٌ فَبَانَ أَنَّهُ كِتَّانٌ، كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ.
وَلِأَنَّ الرِّبَا قَدْ يَثْبُتُ فِي الْجِنْسِ مِنْ وَجْهَيْنِ: التَّفَاضُلُ، وَالْأَجلُ.
فَلَمَّا كَانَ التَّفَاضُلُ فِي جِنْسِ مَا لَا رِبَا فِيهِ جَائِزًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ فِي جِنْسِ مَا لَا رِبَا فِيهِ جَائِزًا.
وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الرِّبَا فَوَجَبَ أَلَّا يُحَرَّمَ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ رِبًا كَالتَّفَاضُلِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرَيْ سَمُرَةَ، وَجَابِرٍ، فَهُوَ أَنْ يُحْمَلَ النَّهْيُ عَلَى دُخُولِ الْأَجَلِ فِي كِلَا الْعِوَضَيْنَ، وَذَلِكَ عِنْدَنَا غَيْرُ جَائِزٍ.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْبُرِّ بِالْبُرِّ فَالْمَعْنَى تَحْرِيمُ التَّفَاضُلِ فِيهِ، فَذَلِكَ حرمَ الْأَجَل، وَلَيْسَ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّهُ أَحَدُ صِفَتَيِ الرِّبَا كَالْكَيْلِ، فَالْمَعْنَى فِي الْكَيْلِ أَنَّهُ إِذَا عُلِّقَ بِهِ تَحْرِيمُ الْأَجَلِ، اخْتَصَّ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ الرِّبَا، وَإِذَا عُلِّقَ بِالْجِنْسِ عَمَّ مَا فِيهِ الرِّبَا وَمَا لَا رِبَا فِيهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَ مَا فِيهِ الرِّبَا، وَبَيْنَ مَا لَا رِبَا فِيهِ فِي أَحَدِ نَوْعَيِ الربا. والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: فَلَا بَأْسَ أَنْ يُسَلِّفَ بَعِيرًا فِي بَعِيرَيْنِ أريد

(5/101)


بِهِمَا الذَّبْحُ أَوْ لَمْ يُرَدْ وَرِطْلَ نُحَاسٍ بِرِطْلَيْنِ وَعَرْضٌ بِعَرْضَيْنِ إِذَا دَفَعَ الْعَاجِلَ وَوَصَفَ الْآجِلَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي جَوَازِ بِيعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسَاءً فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّمَ بَعِيرًا فِي بَعِيرَيْنِ وَأَكْثَرَ. وَقَوْلُهُ أُرِيدَ بِهِمَا الذَّبْحُ أَوْ لَمْ يُرَدْ إِنَّمَا عَنَى بِهِ مَالِكًا حَيْثُ مَنَعَ مِنْ بَيْعِ بِعِيرٍ بِبَعِيرَيْنِ أَوْ بِعِيرٍ إِذَا أُرِيدَ بِهِمَا الذَّبْحُ أَوْ بِأَحَدِهِمَا، وَالْمُرَادُ لِلذَّبْحِ أَنْ يَكُونَ كَسِيرًا أَوْ حَطِيمًا. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ مَا لَا يَصْلُحُ إِلَّا لِلذَّبْحِ يَجْرِي فِي الْحُكْمِ مَجْرَى اللَّحْمِ، وَبَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى خَطَأِ هَذَا الْقَوْلِ وَجَوَازِ هَذَا الْبَيْعِ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عُمُومِ الظَّوَاهِرِ الدَّالَّةِ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ جَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ ببعض صحيحا، جاز بعضه كَسْرًا كَالْعَبْدِ الصَّحِيحِ بِالْعَبْدِ الزَّمِنِ. وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ فَجَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَالصَّحِيحِ. وَلِأَنَّ كَسِيرَ الْحَيَوَانِ فِي حُكْمِ الصَّحِيحِ فِي تَحْرِيمِ أَكْلِهِ حَتَّى يُسْتَبَاحَ بِالزَّكَاةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ كَالصَّحِيحِ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ. وَبِهَذَا يَنْكَسِرُ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ: وَرِطْل نُحَاسٍ بِرِطْلَيْنِ وَعَرْض بِعَرْضَيْنِ. فَلِأَنَّ مَا لَا رِبَا فِيهِ يَجُوزُ فِيهِ التَّفَاضُلُ وَالنَّسَاءُ مَعًا.
وَقَوْلُهُ: إِذَا دَفَعَ الْعَاجِلَ وَوَصَفَ الْآجِلَ فَلِأَنَّ السَّلَمَ لَا يصح إلا بهذين الشرطين.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَا أُكِلَ أَوْ شُرِبَ ممَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَلَا يُبَاعُ مِنْهُ يَابِسٌ بِرَطْبٍ قِيَاسًا عِنْدِي عَلَى مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ مِمَّا يُؤْكَلُ أَوْ يُشْرَبُ وَمَا يَبْقَى وَيُدَّخَرُ أَوْ لَا يَبْقَى وَلَا يُدَّخَرُ وَكَانَ أَوْلَى بِنَا مِنْ أَنْ نَقِيسَهُ بِمَا يُبَاعُ عَددا مِنْ غير المأكول من الثياب والخشب وغيرها ولا يصلح على قياس هذا القول رمانة برمانتين عدا ولا وزنا ولا سفرجلة بسفرجلتين ولا بطيخة ببطيختين ونحو ذلك ويباع جنس منه بجنس من غيره متفاضلا وجزافا يدا بيد ولا بأس برمانة بسفرجلتين كما لا بأس بمد حنطة بمدين من تمر ونحو ذلك ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَأْكُولَاتِ كُلَّهَا ضَرْبَانِ. ضَرْبٌ اسْتَقَرَّ فِي الْعُرْفِ كَيْلُهُ أَوْ وَزْنُهُ فَهَذَا فِيهِ الرِّبَا عَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ والجديد معا.
وضرب استقر في الْعُرْفِ أَنَّهُ غَيْرُ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ كَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ، وَالْبَطِّيخِ، وَالْقِثَّاءِ وَالْبُقُولِ، فَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْقَدِيمِ: لَا رِبَا فِيهِ وَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَفَاضِلًا وَمُتَمَاثِلًا، رَطْبًا وَيَابِسًا، عَاجِلًا وَآجِلًا وَعَلَى قَوْلِهِ فِي الْجَدِيدِ فِيهِ الرِّبَا. فَعَلَى هَذَا يَمْنَعُ مِنَ التَّفَاضُلِ وَالنَّسَاءِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهُ.
ثُمَّ لَا يَخْلُو حَالُ مَا كَانَ رَطْبًا مِنَ الْمَأْكُولَاتِ مِنَ الْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:

(5/102)


إِمَّا أَنْ يَكُونَ أَغْلَبُ مَنَافِعِهَا فِي حَالِ يَبْسِهَا وَادِّخَارِهَا كَالرُّطَبِ الَّذِي يَصِيرُ تَمْرًا، وَالْعِنَبِ الَّذِي يَصِيرُ زَبِيبًا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ مِنْهُ رَطْبُهُ بِيَابِسِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ حَتَّى إِذَا صَارَ يَابِسًا مُدَّخَرًا بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ يَدًا بِيَدٍ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَغْلَبُ مَنَافِعِهِ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ كَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالْبِطِّيخِ وَالْبُقُولِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِ بِيعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ رَطْبًا.
فَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ إِلَى جَوَازِ بِيعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ رَطْبًا إِذَا اعْتُبِرَ فِيهِ التَّمَاثُلُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ إِلْحَاقًا بِاللَّبَنِ الَّذِي يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ قَبْلَ الِادِّخَارِ وَالْيُبْسِ لِأَنَّ أَغْلَبَ مَنَافِعِهِ فِي حَالِ رُطُوبَتِهِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَنْصُوصِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ رَطْبًا بِرَطْبٍ وَلَا يَابِسًا بِرَطْبٍ حَتَّى يَصِيرَ يَابِسًا مُدَّخَرًا. لِأَنَّ بَعْضَهُ إِذَا يَبِسَ مُخْتَلِفٌ، وَالِاعْتِبَارُ فِيهِ بِالْمَنْفَعَةِ وَخَالَفَ الْأَلْبَانَ وَالْمَائِعَاتِ مِنَ الْأَدْهَانِ لِأَنَّهَا لَا تَيْبَسُ بِأَنْفُسِهَا.
وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجْعَلُ مَذْهَبَ أَبِي الْعَبَّاسِ قَوْلًا لِلشَّافِعِيِّ وَيُخْرِجُ الْمَسْأَلَةَ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: جَوَازُ ذَلِكَ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ تَعَلُّقًا بِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِ الْبُيُوعِ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْبَقْلِ الْمَأْكُولِ مِنْ صِنْفِهِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ: فإن كان ما يَتَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ كَالْبَطِّيخِ وَالرُّمَّانِ اعْتُبِرَتْ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ بِالْوَزْنِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَتَجَافَى فِي الْمِكْيَالِ كَالنَّبْقِ وَالْعُنَّابِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ بِالْوَزْنِ، لِأَنَّهُ أَحْصَرُ مِنَ الْكَيْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ بالكيل؛ لأنه المنصوص عليه في كتاب الْأَصْلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنَ الْمَذْهَبِ وَالْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ: إِنَّ بَيْعَ ذَلِكَ رَطْبًا لَا يَجُوزُ بِجِنْسِهِ فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ تُبَاعَ رُمَّانَةٌ بِرُمَّانَتَيْنِ لِظُهُورِ التَّفَاضُلِ، وَلَا رُمَّانَةٌ بِرُمَّانَةٍ لِعَدَمِ التَّمَاثُلِ لَكِنْ يَجُوزُ بَيْعُ رُمَّانَةٍ بِسَفَرْجَلَتَيْنِ يَدًا بِيَدٍ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ.

فصْلٌ:
فَأَمَّا مَا يَكُونُ مَأْكُولُهُ فِي جَوْفِهِ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ عَدَدًا، وَلَا كَيْلًا، وَلَا وَزْنًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ اللُّبُّ، وَالْقِشْرُ يَخْتَلِفُ.
فَإِذَا خَرَجَ عَنْ قِشْرِهِ حَتَّى صَارَ لُبًّا فَرْدًا جَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَيْلًا إِنْ كَانَ مَكِيلًا وَوَزْنًا إِنْ كَانَ مَوْزُونًا، فَأَمَّا مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ كَانَ فِي قِشْرِهِ. وهذا نص الشافعي.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَمَا كَانَ مِنَ الأدْوَيةِ هُليْلجها وبُليْلجها وَإِنْ كَانَتْ لَا تُقْتَاتُ فَقَدْ تُعَدُّ مَأْكُولَةً وَمَشْرُوبَةً فهي بأن تقاس على المأكول والمشروب للقوت

(5/103)


لأن جميعها في معنى المأكول والمشروب لمنفعة البدن أولى من أن تقاس على ما خرج من المأكول والمشروب من الحيوان والثياب والخشب وغيرها ".
قال الماوردي: واعلم أَنَّ الْمَأْكُولَاتِ قَدْ تَخْتَلِفُ جِهَاتُ أَكْلِهَا عَلَى أَنْوَاعٍ سِتَّةٍ:
أَحَدُهَا: مَا يُؤْكَلُ قُوتًا كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ، وَيَتْبَعُ هَذَا النَّوْعَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ.
وَالثَّانِي: مَا يُؤْكَلُ أُدْمًا كَالزَّيْتُونِ وَالْبَصَلِ وَقَدْ يَلْحَقُ بِهَذَا النَّوْعِ الْأَلْبَانُ وَالْأَدْهَانُ.
وَالثَّالِثُ: مَا يُؤْكَلُ إِبْزَارًا كَالْكَمُّونِ وَالْفِلْفِلِ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي هَذَا النَّوْعِ الْمِلْحُ.
وَالرَّابِعُ: مَا يُؤْكَلُ تَفَكُّهًا كَالرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ. وَقَدْ يُضَافُ إِلَى هَذَا النَّوْعِ الْخُضَرُ.
وَالْخَامِسُ: مَا يُؤْكَلُ حُلْوًا كَالسُّكَّرِ وَالْعَسَلِ.
وَالسَّادِسُ: مَا يُؤْكَلُ دَوَاءً كَالْإِهْلِيلَجِ وَالْبِلِيلَجِ فَيَجْرِي الرِّبَا فِي جَمِيعِهَا حَتَّى يُجْمَعَ بَيْنَ السَّقَمُونْيَا وَالْبُرِّ فِي حُصُولِ الرِّبَا فِيهِمَا.
وَإِنْ كَانَ الْبُرُّ يُؤْكَلُ قُوتًا عَامًّا وَالسَّقَمُونِيَا تُؤْكَلُ دَوَاءً نَادِرًا لِوُجُودِ عِلَّةِ الرِّبَا فِيهِمَا عَلَى سَوَاءٍ. فَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْمَأْكُولَاتِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا عَلَى الْعِلَّتَيْنِ مَعًا وَمَا كَانَ مِنْهُ غَيْرُ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا عَلَى عِلَّتِهِ فِي الْجَدِيدِ دُونَ الْقَدِيمِ وَعَلَيْهِ يَقَعُ التَّفْرِيعُ، وَأَمَّا مَا كَانَ مَأْكُولَ الْبَهَائِمِ كَالْحَشِيشِ وَالْعَلَفِ فَلَا رِبَا فِيهِ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْأَكْلِ مُتَوَجِّهٌ إِلَى أَكْلِ الْآدَمِيِّينَ دُونَ الْبَهَائِمِ.
فَأَمَّا مَا يَشْتَرِكُ فِي أَكْلِهِ الْآدَمِيُّونَ وَالْبَهَائِمُ فَالْوَاجِبُ أَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ أَغْلَبُ حَالَتَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْهُمَا أَكْلَ الْآدَمِيِّينَ فَفِيهِ الرِّبَا اعْتِبَارًا بِأَغْلَبِ حَالَتَيْهِ كَالشَّعِيرِ الَّذِي قَدْ يَشْتَرِكُ فِي أَكْلِهِ الْآدَمِيُّونَ وَالْبَهَائِمُ وَأَكْلُ الْآدَمِيِّينَ لَهُ أَغْلَبُ فَثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا وَإِنْ كَانَ الْأَغْلَبُ مِنْ حَالَتَيْهِ أَكْلَ الْبَهَائِمِ فَلَا رِبَا فِيهِ كَالْعَلَفِ الرَّطْبِ الَّذِي قَدْ رُبَّمَا أَكَلَهُ الْآدَمِيُّونَ عِنْدَ تَقْدِيمِهِ.
وَإِنِ اسْتَوَتْ حَالَتَاهُ فَكَانَ أَكْلُ الْبَهَائِمِ لَهُ كَأَكْلِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ إِحْدَى الْحَالَتَيْنِ أَغْلَبَ. فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا رِبَا فِيهِ لِأَنَّ الصِّفَةَ لَمْ تَخْلُصْ.
وَالثَّانِي: فِيهِ الرِّبَا وَهُوَ الصَّحِيحُ لِوُجُودِ الصِّفَةِ وَحُصُولِ الزِّيَادَةِ.

فَصْلٌ:
وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْأَصْلُ فَسَنُوَضِّحُهُ بِالتَّفْرِيعِ عَلَيْهِ وَذِكْرِ مَا اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ.
اعْلَمْ أَنَّ الرَّيْحَانَ، وَالنَّيْلُوفَرَ، وَالنَّرْجِسَ، وَالْوَرْدَ، وَالْبَنَفْسِجَ، لا ربا فيها. لأنها قد تتخذ مشمومة إلا أن يريب شَيْءٌ مِنْهَا بِالسُّكَّرِ أَوْ بِالْعَسَلِ كَالْوَرْدِ الْمَعْمُولِ جلجبين فَيَصِيرُ فِيهِ الرِّبَا لِأَنَّهُ صَارَ مَأْكُولًا. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مَاءِ الْوَرْدِ. هَلْ فِيهِ الرِّبَا أَمْ لَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا رِبَا فِيهِ اعْتِبَارًا بِأَصْلِهِ.

(5/104)


وَالثَّانِي: فِيهِ الرِّبَا لِأَنَّهُ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الطَّعَامِ مَأْكُولًا.
فَأَمَّا الْعُودُ، وَالصَّنْدَلُ، وَالْكَافُورُ، وَالْمِسْكُ، وَالْعَنْبَرُ. فَلَا رِبَا فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِأَنَّهَا طِيبٌ غَيْرُ مَأْكُولٍ.
وَأَمَّا الزَّعْفَرَانُ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا رِبَا فِيهِ لِأَنَّ الْمُبْتَغَى مِنْهُ لونه كالعصفر.
والثاني: فيه الربا لأنه مأكولا وَطَعْمُهُ مَقْصُودٌ.
فَأَمَّا الْأُتْرُجُّ وَاللَّيْمُونُ وَالنَّارِنْجُ فَفِيهِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ طِيبًا ذَكِيًّا فَهُوَ مَأْكُولٌ وَالْأَكْلُ أَغْلَبُ حَالَتَيْهِ.
فَأَمَّا الْعِشَارُ وَالْأَشَجُّ فلا ربا فيهما وكذلك الشيح لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ بُخُورًا. وَأَمَّا اللُّبَانُ وَالْعِلْكُ فَفِيهِمَا الرِّبَا، لِأَنَّ الْأَكْلَ أَغْلَبُ حَالَتَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ الْمِصْطِكي.
وَأَمَّا اللَّوْزُ الْمُرُّ وَالْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ وَالْبَلُّوطُ فَفِيهَا الرِّبَا، لِأَنَّهَا مَأْكُولَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مُبَاحَةَ النَّبْتِ، وَكَذَلِكَ الْقِثَّاءُ وَحَبُّ الْحَنْظَلِ.
فَأَمَّا الْقرْطمُ وَحَبُّ الْكِتَّانِ فَفِيهِمَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ فِيهِمَا الرِّبَا لِأَنَّهُمَا قَدْ يُؤْكَلَانِ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ لَا رِبَا فِيهِمَا لِأَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ أَحْوَالِهِمَا عَدَمُ الْأَكْلِ وَإِنْ أُكِلَا نَادِرًا.
وَأَمَّا الطِّينُ فَإِنْ كَانَ أَرْمَنِيًّا فَفِيهِ الرِّبَا؛ لِأَنَّهُ يُؤْكَلُ دَوَاءً وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مَخْتُومًا.
وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْأَدْوِيَةِ كَالطِّينِ الَّذِي قَدْ رُبَّمَا أَكَلَهُ بَعْضُ النَّاسِ شَهْوَةً فَلَا رِبَا فِيهِ لِأَنَّ أَكْلَهُ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فَصَارَ أَكْلُهُ كَأَكْلِ التُّرَابِ.
فَأَمَّا الْأَدْوِيَةُ الَّتِي لَا تُؤْكَلُ وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ مِنْ خَارِجِ الْبَدَنِ طِلَاءً أَوْ ضِمَادًا، فَلَا رِبَا فِيهَا لِفَقْدِ الصِّفَةِ.
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الصَّمْغِ فَأَثْبَتَ بَعْضُهُمْ فِيهِ الرِّبَا وَنَفَى عَنْهُ بَعْضُهُمُ الرِّبَا لِأَنَّهُ طِلَاءٌ.
وَأَمَّا الْبُذُورُ الَّتِي لَا تُؤْكَلُ إِلَّا بَعْدَ نَبْتِهَا كَبِذْرِ الْجَزَرِ وَالْبَصَلِ وَالْفُجْلِ وَالسَّلْجَمِ فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِيهَا الرِّبَا لِأَنَّهَا فَرْعٌ لِمَأْكُولٍ وَأَصْلٌ لِمَأْكُولٍ.
وَالثَّانِي: لَا رِبَا فِيهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مَأْكُولَةٍ فِي أَنْفُسِهَا فَجَرَتْ مَجْرَى الْعَجَمِ وَالنَّوَى الَّذِي لَا رِبَا فِيهِ.
وَإِنْ كَانَ فَرْعًا لِمَأْكُولٍ وأصلا لمأكول.

(5/105)


وَالْوَجْهُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ، بِخِلَافِ النَّوَى، لِأَنَّ النَّوَى لَا يُؤْكَلُ بِحَالٍ، وَهَذِهِ الْبُذُورُ تُؤْكَلُ، وَإِنَّمَا يُؤَخَّرُ أَكْلُهَا طَلَبًا لِإِكْمَالِ أَحْوَالِهَا كَالطَّلْعِ وَالْبَلَحِ.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَأَصْلُ الْحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ الْكَيْلُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ بِمِثْلِهِ وَزْنًا بِوَزْنٍ وَلَا وَزْنًا بِكَيْلٍ لِأَنَّ الصَّاعَ يَكُونُ وَزْنُهُ أَرْطَالًا وَصَاعٌ دُونَهُ أَوْ أَكْثَر مِنْهُ فَلَوْ كِيلَا كَانَ صَاعٌ بِأَكْثَرَ مِنْ صَاعٍ كَيْلًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ الرِّبَا إِذَا بِيعَ بِجِنْسِهِ فَالِاعْتِبَارُ فِي تَمَاثُلِهِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ عَادَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فَإِنْ كَانَ بِالْحِجَازِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مكيلا، كَانَ أَصْلُهُ الْكَيْلَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ إِلَّا كَيْلًا.
وَمَا كَانَ مَوْزُونًا كَانَ أَصْلُهُ الْوَزْنَ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ إِلَّا وَزْنًا، وَلَا اعْتِبَارَ بِعَادَةِ غَيْرِ أَهْلِ الْحِجَازِ وَلَا بِمَا أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْحِجَازِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مَا كَانَ مَكِيلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَزْنًا بِوَزْنٍ، كَالتَّمْرِ الَّذِي قَدْ جَرَتْ عَادَةُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِبَيْعِهِ وَزْنًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مَا كَانَ مَوْزُونًا كَيْلًا بِكَيْلٍ.
وَقَالَ أبو حنيفة: أَمَّا الْأَرْبَعَةُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهَا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ.
وَلَا اعْتِبَارَ بِمَا أَحْدثَهُ النَّاسُ مِنْ بَعْدُ، وَأَمَّا مَا سِوَى الْأَرْبَعَةِ فَالِاعْتِبَارُ فِيهَا بِعَادَةِ النَّاسِ فِي بُلْدَانِهِمْ وَأَزْمَانِهِمْ وَلَا اعْتِبَارَ بِالْحِجَازِ وَلَا بِمَا كَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
فَأَمَّا مَالِكٌ فَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ " نَهَى عَنْ بَيْعِ الْبُرِّ بِالْبُرِّ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ". وَالتَّمَاثُلُ مَعْلُومٌ بِالْوَزْنِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْكَيْلِ.
قَالَ: وَلِأَنَّ الْوَزْنَ أَخَصُّ مِنَ الْكَيْلِ، فَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُ الْمَكِيلِ وَزْنًا وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ الْمَوْزُونِ كَيْلًا.
وَأَمَّا أبو حنيفة فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ مَنْصُوصٌ عَلَى الْكَيْلِ فِيهَا فَلَمْ يُجِزْ مُخَالَفَةَ النَّصِّ وَمَا سِوَى الْأَرْبَعَةِ فَالِاعْتِبَارُ فِيهِ بِالْعَادَةِ.
وَعَادَةُ أَهْلِ الْوَقْتِ أَوْلَى أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً مِنْ أَوْقَاتٍ سَالِفَةٍ وَبِلَا مُخَالَفَةٍ. لِأَنَّ التَّفَاضُلَ مَوْجُودٌ بِمَقَادِيرِ الْوَقْتِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إِلَّا كَيْلًا بِكَيْلٍ يَدًا بِيَدٍ ". فَنَصَّ عَلَى التَّسَاوِي بِالْكَيْلِ فَاقْتَضَى أَلَّا يُعْتَبَرَ فِيهِ التَّسَاوِي بِالْوَزْنِ لِأَنَّهُ قَدْ يُخَالِفُ مَا أَمَرَ بِهِ مِنَ الْكَيْلِ.
وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَسَاوَى الْبُرُّ بِالْبُرِّ كَيْلًا وَيَتَفَاضَلَانِ وَزْنًا، كَمَا أَنَّهُمَا قَدْ يَتَسَاوَيَانِ وَزْنًا

(5/106)


وَيَتَفَاضَلَانِ كَيْلًا، وَالتَّفَاضُلُ فِيهِ مُحَرَّمٌ، فَلَوِ اعْتُبِرَ التَّسَاوِي بِالْوَزْنِ لِأَنَّهُ أَخَصُّ لَاقْتَضَى أَلَّا يُعْتَبَرَ التَّسَاوِي بِالْكَيْلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَخَصَّ.
وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا أَدَّى إِلَى التَّفَاضُلِ فِي الْوَزْنِ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ فَلَمَّا جَازَ اعْتِبَارُ التَّسَاوِي فِيهِ بِالْكَيْلِ وَإِنْ جَازَ التَّفَاضُلُ فِي الْوَزْنِ، وَجَبَ أَلَّا يَجُوزَ اعْتِبَارُ التَّسَاوِي بِالْوَزْنِ لِجَوَازِ التَّفَاضُلِ فِي الْكَيْلِ، وَلَوْ كَانَ مُخَيَّرًا فِي اعْتِبَارِ التَّسَاوِي فِيهِ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لَكَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِ حُكْمُ التَّمَاثُلِ فَيَحِلُّ أَوْ يَجْرِي عَلَيْهِ حُكْمُ التَّفَاضُلِ فَيَحْرُمُ. وَهَذَا مُتَنَاقِضٌ.
وَأَمَّا أبو حنيفة فَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا رَوَى طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " الْمِكْيَالُ مِكْيَالُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْوَزْنُ وَزْنُ أَهْلِ مَكَّةَ ".
وَلَيْسَ هَذَا الْقَوْلُ إِخْبَارًا مِنْهُ بِانْفِرَادِ الْمَدِينَةِ بِالْمِكْيَالِ وَمَكَّةَ بِالْمِيزَانِ. لِأَنَّ مِكْيَالَ غَيْرِ الْمَدِينَةِ وَمِيزَانَ غَيْرِ مَكَّةَ يَجُوزُ التَّبَايُعُ بِهِ وَاعْتِبَارُ التَّمَاثُلِ فِيهِ، فَعُلِمَ أَنَّ مُرَادَهُ عَادَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ فِيمَا يَكِيلُونَهُ وَعَادَةُ أَهْلِ مَكَّةَ فِيمَا يَزِنُونَهُ.
وَلِأَنَّهُ لَوْ أَحْدَثَ النَّاسُ عَادَةً فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَنْ يَتَبَايَعُوهَا عَدَدًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْعَدَدُ مُعْتَبَرًا فِي بَعْضِهَا بِبَعْضٍ اعْتِبَارًا بِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْحِجَازِ مِنْ قَبْلُ.
وَكَذَا الْأَرْبَعَةُ الَّتِي قَدْ وَرَدَ فِيهَا النَّصُّ، لَوْ خَالَفَ النَّاسُ فِيهَا الْعَادَةَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْحَادِثُ رَافِعًا لِسَالِفِ الْعَادَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي تَمَاثُلِهِ بِسَالِفِ الْعَادَةِ.
وَتَحْرِيرُ ذَلِكَ عِلَّةُ أَنَّهُ جِنْسٌ يَحْرُمُ فِيهِ التَّفَاضُلُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ اعْتِبَارُ التَّمَاثُلِ فِيهِ بِالْمِقْدَارِ الْمَعْهُودِ عَلَى زَمَنِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ.
وَهَذِهِ عِلَّةٌ تَعُمُّ مَالِكًا وأبا حنيفة وَفِيهَا انْفِصَالٌ عَمَّا اسْتَدَلَّا بِهِ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ اعْتِبَارَ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِمَا كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْجِنْسِ الَّذِي فِيهِ الرِّبَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفَ الْحَالِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَوْ مَجْهُولَ الْحَالِ.
فَإِنْ كَانَ مَعْرُوفَ الْحَالِ رَاعَيْت فِيهِ مَا عُرِفَ مِنْ حَالِهِ. فَإِنْ كَانَ مَكِيلًا جَعَلْتَ الْكَيْلَ فِيهِ أَصْلًا وَمَنَعْتَ مِنْ بَيْعِهِ وَزْنًا. وَإِنْ كَانَ مَوْزُونًا جَعَلْتَ الْوَزْنَ فِيهِ أَصْلًا وَمَنَعْتَ مِنْ بَيْعِهِ كَيْلًا.
فَعَلَى هَذَا قَدْ كَانَتِ الْحُبُوبُ عَلَى عَهْدِهِ مَكِيلَةً، وَالْأَدْهَانُ مَكِيلَةً، وَالْأَلْبَانُ مَكِيلَةً، وَكَذَلِكَ التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَإِنْ كَانَ مَجْهُولَ الْحَالِ أَوْ كَانَ مِنْ مَأْكَلٍ غَيْرِ الْحِجَازِ رَاعَيْتَ فِيهِ عُرْفَ أَهْلِ الْوَقْتِ فِي أَغْلَبِ الْبِلَادِ فَجَعَلْتَهُ أَصْلًا.
فَإِنْ كَانَ الْعُرْفُ وَزْنًا جَعَلْتَ أَصْلَهُ الْوَزْنَ، وإن كان العرف كيلا جعلت أصله كيلا.

(5/107)


وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ فِيهِ عُرْفٌ غَالِبٌ فَكَانَتْ عَادَتُهُمْ تَسْتَوِي فِي كَيْلِهِ وَوَزْنِهِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى أَرْبَعَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: تُبَاعُ وَزْنًا لِأَنَّ الْوَزْنَ أَخَصُّ.
وَالثَّانِي: تُبَاعُ كَيْلًا لِأَنَّ الْكَيْلَ فِي الْمَأْكُولَاتِ نَصٌّ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِأَشْبَهِ الْأَشْيَاءِ بِهِ مِمَّا عُرِفَ حَالُهُ عَلَى عَهْدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَيُلْحَقُ بِهِ. لِأَنَّ الْأَشْبَاهَ مُتَقَارِبَةٌ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ بَيْنَ الْوَزْنِ وَالْكَيْلِ لِاسْتِوَاءِ الْعُرْفِ فيه.

فصل:
إذا كَانَتْ ضَيْعَةٌ أَوْ قَرْيَةٌ يَتَسَاوَى طَعَامُهَا فِي الكيل والوزن، لا يَفْضُلُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ بِمَا قَدْ عُرِفَ مِنْ حَالِهِ أَنَّ التَّمَاثُلَ فِيهِ بِالْكَيْلِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا.
هَلْ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَزْنًا. عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُخَالَفَةِ النَّصِّ وَتَغْيِيرِ الْعُرْفِ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ وَيَكُونُ الْوَزْنُ فِيهِ نَائِبًا عَنِ الْكَيْلِ لِلْعِلْمِ بِمُوَافَقَتِهِ كَمَا كَانَ مِكْيَالُ الْعِرَاقِ نَائِبًا عَنْ مِكْيَالِ الْحِجَازِ لِمُوَافَقَتِهِ فِي الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمَكِيلَيْنِ.
فَصْلٌ:
إِذَا تَبَايَعَا صُبْرَةَ طَعَامٍ بِصُبْرَةِ طَعَامٍ جُزَافًا ثُمَّ كِيلَا مِنْ بَعْدُ فَوُجِدَتَا سَوَاء كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّمَاثُلِ كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ، وَلَوْ تَبَايَعَا عَلَى الْمُكَايَلَةِ وَالْمُمَاثَلَةِ صَحَّ الْبَيْعُ.
فَإِنْ كَانَتَا سَوَاءً لَزِمَ الْعَقْدُ وَلَا خِيَارَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَلَوْ فَضَلَتْ إِحْدَى الصُّبْرَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: بُطْلَانُ الْعَقْدِ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الصُّبْرَتَيْنِ مَعَ ظُهُورِ التَّفَاضُلِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: جَوَازُ الْعَقْدِ لِاشْتِرَاطِ التَّمَاثُلِ. فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ صَاحِبُ الْفَضْلِ زِيَادَتَهُ وَيَكُونُ لِصَاحِبِ الصُّبْرَةِ النَّاقِصَةِ الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ أَوْ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ بِمِثْلِ صبرته.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بَالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ يَكُونُ مُتَفَاضِلًا فِي نَحْوِ ذَلِكَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالْمَشْهُورُ عَنِ الشَّافِعِيِّ فِي سَائِرِ كُتُبِهِ الَّذِي حَكَاهُ عَنْهُ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ أَنَّ بَيْعَ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة، وَحَكَى الْحُسَيْنُ الْكَرَابِيسِيُّ عَنِ الشَّافِعِيِّ جَوَازَ بَيْعِ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ مُتَفَاضِلًا وَجَعَلَهُمَا كَالْجِنْسَيْنِ وَبِهِ قَالَ أَبُو ثور.

(5/108)


وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ مُتَمَاثِلًا، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ تَمَاثُلِهِ. فَقَالَ مَالِكٌ. يَصِحُّ تَمَاثُلُهُ بِالْكَيْلِ.
وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَا يَصِحُّ تَمَاثُلُهُ إِلَّا بِالْوَزْنِ.
فَأَمَّا من ذهب إلى جِنْسَانِ وَجَوَّزَ التَّفَاضُلَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَبُو ثَوْرٍ والكرابيسي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. فَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِشَيْئَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدَّقِيقَ لَا يَصِيرُ حِنْطَةً أَبَدًا، وَلَا شَيْءَ أَبْلَغُ فِي تَنَافِي التَّجَانُسِ مِنْ هَذَا.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حِنْطَةً فَأَكَلَ دَقِيقًا أَوْ لَا يَأْكُلُ دَقِيقًا فَأَكَلَ حِنْطَةً لَمْ يَحْنَثْ، وَلَوْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا لَحَنِثَ بِأَكْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
فَأَمَّا مَنْ ذَهَبَ إِلَى جِنْسٌ وَاحِدٌ وَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَهُمَا حَاصِلَةٌ إِمَّا بِالْكَيْلِ أَوْ بِالْوَزْنِ عَلَى حَسْبِ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ، فَاسْتَدَلَّ بِأَنَّ الدَّقِيقَ حِنْطَةٌ مُتَفَرِّقَةُ الْأَجْزَاءِ وَتَفْرِيقُ أَجْزَائِهَا يُحْدِثُ فِيهَا خِفَّةً فِي الْمِكْيَالِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّسَاوِي كَمَا لَوْ بَاعَ الْحِنْطَةَ خَفِيفَةَ الْوَزْنِ بِكَيْلِهَا حِنْطَةً ثَقِيلَةَ الْوَزْنِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَوَازِ الْبَيْعِ، وَإِنْ عَلِمَ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْوَزْنِ إِذَا تَسَاوَيَا فِي الْكَيْلِ، كَذَلِكَ الدَّقِيقُ بِالْحِنْطَةِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الدَّقِيقَ وَالْحِنْطَةَ جِنْسٌ وَاحِدٌ هُوَ أَنَّ الدَّقِيقَ نَفْسُ الْحِنْطَةِ وَإِنَّمَا تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهَا، وَلَيْسَ تَفَرُّقُ أَجْزَائِهَا بِمُخْرِجٍ لَهَا مِنْ جِنْسِهَا كَصِحَاحِ الدَّرَاهِمِ وَمَكْسُورِهَا فَإِنْ قِيلَ مَكْسُورُ الدَّرَاهِمِ يَصِيرُ صِحَاحًا بِالسَّبْكِ، وَالدَّقِيقُ لَا يَصِيرُ حِنْطَةً أَبَدًا. قُلْنَا: لَيْسَ اخْتِلَافُ الشَّيْءِ بِتَنَقُّلِ أَحْوَالِهِ الَّتِي لَا يَعُودُ إِلَيْهَا يُوجِبُ اخْتِلَافَ جِنْسِهِ فَإِنَّ التَّيْسَ لَا يَعُودُ جَدْيًا، وَالتَّمْرَ لَا يَعُودُ رُطَبًا، وَالرُّطَبَ لَا يَعُودُ بُسْرًا ثُمَّ لَا يَدُلُّ انْتِقَالُهُ إِلَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ وَتَعَذُّرُ عَوْدِهِ إِلَى الْحَالِ الْأَوَّلِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَجْنَاسِ، بَلِ التَّمْرُ مِنْ جِنْسِ الرُّطَبِ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ رُطَبًا، كَذَلِكَ الدَّقِيقُ مِنْ جِنْسِ الْحِنْطَةِ وَإِنْ لَمْ يَصِرْ حِنْطَةً.
فَأَمَّا الْأَثْمَانُ فَمَجْهُولَةٌ عَلَى عُرْفِ الْأَسَامِي، وَالرِّبَا مَحْمُولٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعَانِي، فَلَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. أَلَا تَرَاهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا فَأَكَلَ تَمْرًا لَمْ يَحْنَثْ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ التَّمْرَ وَالرُّطَبَ جِنْسَانِ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الدَّقِيقَ وَالْحِنْطَةَ جِنْسٌ وَاحِدٌ حَرُمَ التَّفَاضُلُ فِيهِ وَلَمْ يَصِحَّ اعْتِبَارُ التماثل فيه.
أَمَّا بِالْوَزْنِ فَلِأَنَّ أَصْلَهُ الْكَيْلُ وَمَا كَانَ أَصْلُهُ الْكَيْلُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ تَمَاثُلُهُ بِالْوَزْنِ، وَأَمَّا الْكَيْلُ فَلِأَنَّ تَفْرِيقَ أَجْزَاءِ الدَّقِيقِ بِالطَّحْنِ وَاجْتِمَاعُ أَجْزَاءِ الْحِنْطَةِ يُحْدِثُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِكْيَالِ اخْتِلَافًا يُحِيطُ الْعِلْمُ بِالْفَضْلِ بَيْنَهُمَا، وَالتَّفَاضُلُ مَحْظُورٌ بِالنَّصِّ.
وَلَيْسَ هَذَا كَالطَّعَامِ الْخَفِيفِ بِالطَّعَامِ الثَّقِيلِ، لِأَنَّ أَجْزَاءَ الْجَمِيعِ مُجْتَمِعَةً، وَإِنَّمَا خَفَّتْ

(5/109)


أَجْزَاءُ أَحَدِهِمَا وَثَقُلَتْ أَجْزَاءُ الْآخَرِ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَخَالَفَ الدَّقِيقُ الَّذِي قَدْ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ فَانْبَسَطَتْ بِالْحِنْطَةِ الَّتِي قَدِ انْضَمَّتْ أَجْزَاؤُهَا وَاجْتَمَعَتْ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ لَا يَجُوزُ فَكَذَا مَا حَدَثَ عَنِ الدَّقِيقِ مِنَ الْعَجِينِ وَالْخُبْزِ وَالسَّوِيقِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالْحِنْطَةِ، أَمَّا الْعَجِينُ فَلِعِلَّتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: مَا ذَكَرْنَا مِنْ عِلَّةِ الدَّقِيقِ.
وَالثَّانِيَةُ: دُخُولُ الْمَاءِ فِيهِ.
وأما الخبز فلثلاث علل منها هاتات الْعِلَّتَانِ.
وَالثَّالِثَةُ: دُخُولُ النَّارِ فِيهِ. فَأَمَّا السَّوِيقُ بِالْحِنْطَةِ فَلَا يَجُوزُ لِعِلَّةٍ وَاحِدَةٍ كَالدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ.
فَصْلٌ:
فَإِذَا بِيعَ الدَّقِيقُ بِالدَّقِيقِ فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَقَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْبُوَيْطِيُّ، وَحَكَاهُ الْمُزَنِيُّ فِي مَسَائِلِهِ الْمَنْثُورَةِ عَنِ الشَّافِعِيِّ لِتَسَاوِيهِمَا فِي تَفَرُّقِ أَجْزَائِهِمَا كَمَا جَازَ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ لِتَسَاوِيهِمَا فِي اجْتِمَاعِ أَجْزَائِهِمَا، وَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ لِاجْتِمَاعِ أَجْزَاءِ أَحَدِهِمَا وَتَفَرُّقِ أَجْزَاءِ الْآخَرِ. وَهَذَا خَطَأٌ. لِأَنَّ الدَّقِيقَ وَإِنْ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاءُ جَمِيعِهِ بِالطَّحْنِ فَقَدْ يَكُونُ طَحْنُ أَحَدِهِمَا أَنْعَمَ، فَيَكُونُ تَفْرِيقُ أَجْزَائِهِ أَكْثَرَ وَهُوَ فِي الْمِكْيَالِ أَجْمَعُ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى التَّفَاضُلِ فِيهِ، لِأَنَّ النَّاعِمَ الْمُنْبَسِطَ أَكْثَرُ فِي الْمِكْيَالِ مِنَ الْخَشِنِ الْمُجْتَمِعِ، أَوْ يَكُونُ مَجْهُولَ التَّمَاثُلِ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَبَيْعُهُ بَاطِلٌ، لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّمَاثُلِ كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ. وَإِذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ فَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ السَّوِيقِ بِالدَّقِيقِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ التَّعْلِيلِ.
فَأَمَّا الْخُبْزُ إِذَا يَبِسَ وَدُقَّ فَتُوتًا نَاعِمًا، وَبِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ كَيْلًا فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْيُبْسِ وَالدَّقِّ قَدْ عاد أَصْلِهِ مِنْ قَبْلُ وَقَدْ حَصَلَ فِيهِ التَّمَاثُلُ بِالْكَيْلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَصَحُّ: لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ الدَّقِيقَ أَقْرَبُ إِلَى التَّمَاثُلِ مِنَ الْخَبْزِ الْمَدْقُوقِ الَّذِي قَدْ دَخَلَتْهُ النَّارُ وَأَحَالَتْهُ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالدَّقِيقِ فَأَوْلَى أَلَّا يَجُوزَ بَيْعُ الْخُبْزِ الْمَدْقُوقِ بِالْخُبْزِ الْمَدْقُوقِ، وَلَوْلَا أَنَّ الْوَجْهَ الْأَوَّلَ مَشْهُورٌ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا لَكَانَ إِغْفَالُهُ أَوْلَى لِمُخَالَفَتِهِ النَّصَّ وَمُنَافَاتِهِ الْمَذْهَبَ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فِي بَيْعِ الدقيق بالدقيق أو الخبز بالدقيق جازه لِجَوَازِ التَّفَاضُلِ فِيهِ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّقِيقِ الْبُرِّ بِدَقِيقِ الشَّعِيرِ، وَخُبْزِ الْبُرِّ بِخُبْزِ الشَّعِيرِ مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ، لِاخْتِلَافِ الْجِنْسَيْنِ، لِأَنَّ الشَّعِيرَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْبُرِّ.

(5/110)


وَقَالَ مَالِكٌ: الْبُرُّ وَالشَّعِيرُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا. وَبِهِ قَالَ حَمَّادٌ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ.
اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ وَجَّهَ بِغُلَامٍ لَهُ وَمَعَهُ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ فَقَالَ: اشترِ بِهِ شَعِيرًا فَاشْتَرَى بِهِ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ وَازْدَادَ صَاعًا آخَرَ فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لَهُ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا. رُدَّهُ فَإِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَقُولُ: الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ. قَالَ: وَطَعَامُنَا يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرُ.
فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى تَحْرِيمِ التَّفَاضُلِ بَيْنَ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَأَنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ.
قَالَ: وَلِأَنَّ الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَيَمْتَزِجَانِ فِي الْمُشَاهَدَةِ فَجَرَيَا مَجْرَى شَامِيٍّ وَحَبَشَانِيٍّ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسَانِ حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: وَلَكِنْ بِيعُوا الْبُرَّ بِالشَّعِيرِ والشَّعِيرَ بِالْبُرِّ وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ وَالْمِلْحَ بِالتَّمْرِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ.
فَجَوَّزَ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا نَصًّا مَعَ قَوْلِهِ: فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسَانِ.
وَلِأَنَّ الشَّعِيرَ مُخَالِفٌ لِلْبُرِّ فِي صِفَتِهِ وَخِلْقَتِهِ وَمَنْفَعَتِهِ، وَإِنْ قَارَبَهُ مِنْ وَجْهٍ فَحَلَّ مِنَ الْبُرِّ مَحَلَّ الزَّبِيبِ مِنَ التَّمْرِ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَا جِنْسَيْنِ كَمَا أَنَّ الزَّبِيبَ مِنَ التَّمْرِ جِنْسَانِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَنَّ الدَّلِيلَ مِنَ الْخَبَرِ قَوْلُ مَعْمَرٍ دُونَ رِوَايَتِهِ وَلَيْسَ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ حُجَّةً مَعَ مُخَالَفَةِ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ تَقَارُبِهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ وَامْتِزَاجِ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ فَلَيْسَ تَقَارُبُهُمَا فِي الْمَنْفَعَةِ بِمُوجِبٍ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي الْجِنْسِ كَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ. وَلَيْسَ امْتِزَاجُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُمَا جِنْسٌ كَالتُّرَابِ الْمُمْتَزِجِ بِالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَاللَّهُ أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا بَأْسَ بِخَلِّ الْعِنَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ فَأَمَّا خَلُّ الزَّبِيبِ فَلَا خَيْرَ فِي بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مِثْلًا بِمَثَلٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْمَاءَ يَقِلُّ فِيهِ وَيَكْثُرُ فَإِذَا اخْتَلَفَتِ الْأَجْنَاسُ فَلَا بَأْسَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَمُقَدِّمَاتُ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ التَّمْرَ وَالرُّطَبَ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَالزَّبِيبُ وَالْعِنَبُ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَأَنَّ الْمَاءَ هَلْ فِيهِ الرِّبَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: لِأَصْحَابِنَا:
أَحَدُهُمَا: فِيهِ الرِّبَا لِأَنَّهُ مَطْعُومٌ.
وَالثَّانِي: لَا رِبَا فِيهِ لِأَنَّهُ مُبَاحُ الْأَصْلِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ لَا يَتَحَوَّلُ. وَلِذَلِكَ قُلْنَا إِنَّ مَنْ غَصَبَ مَاءً فَتَوَضَّأَ بِهِ جَازَ. وَلَوْ غَصَبَ رَقَبَةً فَأَعْتَقَهَا لَمْ يَجُزْ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَبَيْعُ خَلِّ العنب

(5/111)


بِخَلِّ الْعِنَبِ جَائِزٌ لِحُصُولِ التَّمَاثُلِ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ. وَلَيْسَ لَهُ غَايَةٌ يَخَافُ عَلَيْهِ التَّفَاوُتَ فِيهَا فَصَارَ كَالْأَدْهَانِ، وَأَمَّا خَلُّ الزَّبِيبِ بِخَلِّ الزَّبِيبِ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِيهِمَا مَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ فِي أحدهما أكثر منه في الآخر فيقضي إِلَى التَّفَاضُلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ خَلِّ التَّمْرِ بِخَلِّ التَّمْرِ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَاءِ الْمَانِعِ مِنَ التَّمَاثُلِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ خَلِّ الرُّطَبِ بِخَلِّ الرُّطَبِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ خَلِّ الْعِنَبِ لِأَنَّ خَلَّ الْعِنَبِ عَصِيرٌ لَا يُخَالِطُهُ الْمَاءُ، وَخَلُّ الرُّطَبِ لَا يَصِحُّ إِلَّا بِمُخَالَطَةِ الْمَاءِ.
فَأَمَّا بَيْعُ خَلِّ الْعِنَبِ بِخَلِّ الزَّبِيبِ فَلَا يَجُوزُ أَيْضًا، لِأَنَّ الزَّبِيبَ وَالْعِنَبَ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَفِي أَحَدِهِمَا مَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ خَلِّ الرُّطَبِ بِخَلِّ التَّمْرِ لَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِيهِمَا مَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ وَلَكِنْ بَيْعُ خَلِّ الْعِنَبِ بِخَلِّ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ جَائِزٌ، لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ لَا يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا.
فَأَمَّا بَيْعُ خَلِّ الزَّبِيبِ بِخَلِّ الرطب والتمر فعلى وجهين مبنيان عَلَى ثُبُوتِ الرِّبَا فِي الْمَاءِ.
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقُولُ إِنَّ الْمَاءَ لَا رِبَا فِيهِ لِأَنَّ الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ جِنْسَانِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ فِي الْمَاءِ الرِّبَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ الَّذِي فِي أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْهُ فِي الْآخَرِ.
وَكَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخَرِّجُ قَوْلًا ثَانِيًا فِي الْخَلِّ إِنَّ جَمِيعَهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ كَاللَّبَنِ، فَيَمْنَعُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مِنْ بَيْعِ خَلِّ التَّمْرِ بِخَلِّ الزَّبِيبِ بِكُلِّ حَالٍ.
وامتنع سائر أصحابنا من تخريج هذا القول وَقَالُوا إِنَّ الْخَلَّ أَجْنَاسٌ كَأُصُولِهِ.

مَسْأَلَةٌ:
قَاَل الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا خَيْرَ فِي التَّحَرِّي فِيمَا فِي بَعْضِهِ بِبَعْضٍ رِبًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي مُرَادِ الشَّافِعِيِّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ مَالِكًا حَيْثُ جَوَّزَ بَيْعَ خَلِّ التَّمْرِ بِخَلِّ التَّمْرِ إِذَا تَحَرَّى فِيهِ خَلَّالٌ بَصِيرٌ بِصَنْعَتِهِ فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا فِي أَحَدِهِمَا مِنَ الْمَاءِ مِثْلَ مَا فِي الْآخَرِ.
فَرَدَّ عَلَيْهِ جَوَازَ التَّحَرِّي فِيهِ وَمَنَعَ مِنْ بَيْعِهِ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ تَخْمِينٌ وَالْيَقِينَ مَعْدُومٌ، وَتَجْوِيزُ التَّفَاضُلِ مَحْظُورٌ.
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمُ ابْنُ أبيِ هُرَيْرَةَ إِنَّهُ أَرَادَ بِهِ ردًّا عَلَى مَالِكٍ فِي تَجْوِيزِهِ لِأَهْلِ الْبَادِيَةِ أَنْ يُتَابِعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ تَحَرِّيًا وَاجْتِهَادًا فِي التَّمَاثُلِ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَكِيلٍ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ التَّحَرِّي فِي الْمَوْزُونِ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ تَعُوزُهُمُ الْمَكَايِيلُ فَاضْطَرُّوا إِلَى التَّحَرِّي وَالِاجْتِهَادِ فِيهِ كَمَا جَازَ التَّحَرِّي فِي بَيْعِ الْعَرَايَا مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ لِلضَّرُورَةِ فِيهِ.

(5/112)


وَهَذَا خَطَأٌ لِمُخَالَفَةِ النَّصِّ وَمُفَارَقَةِ الْقِيَاسِ.
رَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الصُّبْرَةِ مِنَ الطَّعَامِ بِالصُّبْرَةِ مَا لَمْ يدْرِ كَيْلُ هَذِهِ وَكَيْلُ هَذِهِ. وَهَذَا نَصٌّ.
وَلِأَنَّ كُلَّ مَا حُرِّمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَهُ التَّحَرِّي فِي التَّمَاثُلِ كَأَهْلِ الْحَضَرِ، وَلِأَنَّ كُلَّ تَحَرٍّ فِي تَمَاثُلِ جِنْسٍ يُمْنَعُ مِنْهُ أَهْلُ الْحَضَرِ، يُمْنَعُ مِنْهُ أَهْلُ الْبَادِيَةِ كَالْمَوْزُونِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالضَّرُورَةِ عِنْدَ فَقْدِ الْمِكْيَالِ فَفَاسِدٌ بِفَقْدِ الْمِيزَانِ الَّذِي لَا يَسْتَبِيحُونَ مَعَهُ التَّحَرِّي فِي الْمَوْزُونِ وَخَالَفَ الْعَرَايَا لِأَنَّ كَيْلَ مَا عَلَى رؤوس النخل غير ممكن.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا خَيْرَ فِي مُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدِّ عَجْوَةٍ حَتَى يَكُونَ التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ ".
قال الماوردي: وَجُمْلَتُهُ أَنَّ كُلَّ جِنْسٍ ثَبَتَ فِيهِ الرِّبَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ بِشَيْءٍ مِنْ جِنْسِهِ إِذَا ضُمَّ إِلَيْهِ عِوَضٌ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ. فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ مُدُّ تَمْرٍ وَدِرْهَمٌ بِمُدَّيْ تَمْرٍ وَلَا بِدِرْهَمَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ دِينَارٌ وَثَوْبٌ بِدِينَارَيْنِ وَلَا دِرْهَمٌ وَسَيْفٌ بِدِرْهَمَيْنِ.
وَقَالَ أبو حنيفة بِجَوَازِهِ فَأَبَاحَ بَيْعَ مُدِّ تَمْرٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْنِ وَجَعَلَ مُدًّا بِمُدٍّ وَدِرْهَمًا بِمُدٍّ، وَأَجَازَ بَيْعَ سَيْفٍ مُحَلَّى بِذَهَبٍ بِالذَّهَبِ إِذَا كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ ذَهَبًا مِنَ الْحِلْيَةِ، لِيَكُونَ الْفَاضِلُ مِنْهُ ثَمَنًا للسيف ويجعل الذهب بالذهب مثلا بمثل.
فاستدل عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ كَانَ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْفَسَادِ. وَقَدْ رَوَى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا وَجَدْتُمْ لِمُسْلِمٍ مَخْرَجًا فَأَخْرِجُوهُ. فَلَمَّا كَانَ مُتَبَايِعَا الْمُدِّ وَالدِّرْهَمِ بِالْمُدَّيْنِ لَوْ شَرَطَا فِي الْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ مُدٌّ بِمُدٍّ، وَدِرْهَمٌ بِمُدٍّ صَحَّ الْعَقْدُ، وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَيْهِ أَيْضًا مَعَ عَدَمِ الشَّرْطِ لِيَكُونَ الْعَقْدُ مَحْمُولًا عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ دُونَ الْفَسَادِ.
قَالَ: وَلِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِيمَا يَدْخُلُهُ الرِّبَا مُعْتَبَرَةٌ بِالْكَيْلِ إِنْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ بِالْوَزْنِ إِنْ كَانَ مَوْزُونًا.
فَأَمَّا الْقِيمَةُ فَلَا اعْتِبَارَ بِهَا فِي الْمُمَاثَلَةِ لَا فِي الْمَكِيلِ وَلَا فِي الْمَوْزُونِ أَلَا تَرَاهُ لَوْ بَاعَ كَرًّا مِنْ حِنْطَةٍ يُسَاوِي عَشَرَةَ دَنَانِيرَ بِكَرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ يُسَاوِي عِشْرِينَ دِينَارًا صَحَّ الْعَقْدُ لِوُجُودِ التَّمَاثُلِ فِي الْكَيْلِ وَإِنْ حَصَلَ التَّفَاضُلُ فِي الْقِيمَةِ وَإِذَا بَطَلَ اعْتِبَارُ الْقِيمَةِ فِي الْمُمَاثَلَةِ صَارَ الْعَقْدُ مُقْسَّطًا عَلَى الْأَجْزَاءِ دُونَ الْقِيَمِ فَيَصِيرُ مُدٌّ بِإِزَاءِ مُدٍّ وَدِرْهَمٌ بِإِزَاءِ مُدٍّ.

(5/113)


وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ حَدِيثُ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ:
آتِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَامَ خَيْبَرَ بِقَلادَةٍ فِيهَا خَرَزٌ وَذَهَبٌ ابْتَاعَهَا رَجُلٌ بِتِسْعَةِ دَنَانِيرَ أَوْ بِسَبْعَةِ دَنَانِيرَ فَقَالَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: لَا حَتَّى تُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّمَا أَرَدْتُ الْحِجَارَةَ. فَقَالَ لَا حَتَى تُمَيِّزَ بَيْنَهُمَا. فَإِنْ قِيلَ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - رَدَّهُ لِأَنَّ ذَهَبَ الْقَلَادَةِ أَكْثَرُ مِنْ ذَهَبِ الثَّمَنِ قُلْنَا: لَا يَصْحُّ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَطْلَقَ الْجَوَابَ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ فَدَلَّ عَلَى اسْتِوَاءِ الْحَالَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ الْمُشْتَرِي إِنَّمَا أَرَدْتُ الْخَرَزَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الذَّهَبَ يَسِيرٌ دَخَلَ عَلَى وَجْهِ التَّبَعِ.
وَرُوِيَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ ابْتَاعَ سَيْفًا مُحَلًّى بِالذَّهَبِ بِذَهَبٍ فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ لَا يَصْلُحُ هَذَا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْهُ فَقَالَ: الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا أَرَى بِذَلِكَ بَأْسًا. فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَتُحَدِّثُنِي عَنْ رَأْيِكَ وَاللَّهِ لَا أُسَاكِنُكَ أَبَدًا.
فَدَلَّ هَذَانِ الْحَدِيثَانِ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا.
ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى هُوَ أَنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ إِذَا جَمَعَ شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيِ الْقِيمَةِ كَانَ الثَّمَنُ مُقُسَّطًا عَلَى قِيمَتِهِمَا لَا عَلَى أَعْدَادِهِمَا، يُوَضِّحُ ذَلِكَ أَصْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنِ اشْتَرَى شِقْصًا مِنْ دَارٍ وَعَبْدًا بِأَلْفٍ فَاسْتَحَقَّ الشِّقْصَ بِالشُّفْعَةِ كَانَ مَأْخُوذًا بِحِصَّتِهِ مِنَ الثَّمَنِ اعْتِبَارًا بِقِيمَتِهِ وَقِيمَةِ الْعَبْدِ وَلَا يَكُونُ مَأْخُوذًا بِنِصْفِ الثَّمَنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مَنِ اشْتَرَى عَبْدًا وَثَوْبًا بِأَلْفٍ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الثَّوْبَ أَوْ تَلِفَ كَانَ الْعَبْدُ مَأْخُوذًا بِحِصَّتِهِ مِنَ الْأَلْفِ وَلَا يَكُونُ مَأْخُوذًا بِنِصْفِ الْأَلْفِ.
وَإِذَا كَانَتِ الْأُصُولُ تُوجِبُ تَقْسِيطَ الثَّمَنِ عَلَى الْقِيمَةِ اقْتَضَى أن يكون العقد ها هنا فَاسِدًا لِأَنَّهُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ بِالتَّفَاضُلِ.
وَالثَّانِي: الْجَهْلُ بِالتَّمَاثُلِ. لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْمُدِّ الَّذِي مَعَ الدِّرْهَمِ أَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ، أَوْ يَكُونُ دِرْهَمًا لَا أَقَلَّ وَلَا أَكْثَرَ.
فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ كَانَ التَّفَاضُلُ مَعْلُومًا وَإِنْ كَانَ دِرْهَمًا كَانَ التَّمَاثُلُ مَجْهُولًا، وَالْجَهْلُ بِالتَّمَاثُلِ كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ. فَلَمْ يَخْلُ الْعَقْدُ فِي كِلَا الْأَمْرَيْنِ مِنَ الْفَسَادِ.

(5/114)


فَإِنْ قِيلَ: الثَّمَنُ لَا يَتَقَسَّطُ عَلَى الْقِيمَةِ فِي حَالِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَتَقَسَّطُ عَلَى الْقِيمَةِ بِالِاسْتِحْقَاقِ فِيمَا بَعْدُ، لِأَنَّ الثَّمَنَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا حَالَ الْعَقْدِ وَتَقْسِيطُهُ عَلَى الْقِيمَةِ بِهِ يُفْضِي إِلَى الْجَهَالَةِ.
قُلْنَا: هَذَا الْقَوْلُ فَاسِدٌ. لِأَنَّ الثَّمَنَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُقَسَّطًا إِمَّا عَلَى الْقِيمَةِ وَإِمَّا عَلَى الْعَدَدِ، فَلَمَّا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ مُقَسَّطًا عَلَى الْعَدَدِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ، ثَبَتَ أَنَّهُ مُقَسَّطٌ عَلَى الْقِيمَةِ، وَلَيْسَ الْجَهْلُ بِالتَّفْصِيلِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْجُمْلَةِ مَانِعًا مِنَ الصِّحَّةِ.
فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْعَقْدَ إِذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ لَمْ يَجُزْ حَمْلُهُ عَلَى الْفَسَادِ. فَيَنْتَقِضُ بِمَنْ بَاعَ سِلْعَةً إِلَى أَجَلٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا نَقْدًا بِأَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُمْ مَعَ إِمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى الصِّحَّةِ وَهُمَا عَقْدَانِ يَجُوزُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ، وجعلوا العقد الواحد ها هنا عَقْدَيْنِ لِيَحْمِلُوهُ عَلَى الصِّحَّةِ فَكَانَ هَذَا إِفْسَادًا لِقَوْلِهِمْ. وَلَوْ كَانَ هَذَا أَصْلًا مُعْتَبَرًا لَكَانَ بَيْعُ مُدِّ تَمْرٍ بِمُدَّيْنِ جَائِزًا. لِيَكُونَ تَمْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَوَى الْآخَرِ، حَمْلًا لِلْعَقْدِ عَلَى وَجْهٍ يَصِحُّ فِيهِ وَلَا يَفْسُدُ.
أَوْ يَكُونُ مُدٌّ بِمُدٍّ وَالْآخَرُ مَحْمُولًا عَلَى الْهِبَةِ دُونَ الْبَيْعِ، فَلَمَّا لَمْ يَجُزِ اعْتِبَارُ هَذَا فِي الْعَقْدِ وَجَبَ اعْتِبَارُ إِطْلَاقِهِ فِي الْعُرْفِ الْمَقْصُودِ مِنْهُ كَذَلِكَ فِي مَسْأَلَتِنَا.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ مُعْتَبَرَةٌ بِالْقَدْرِ دُونَ الْقِيمَةِ فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنَّ الْقِيمَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ وَإِنَّمَا تَمَاثُلُ الْقَدْرِ مُعْتَبَرٌ، غَيْرَ أَنَّ بِالْقِيمَةِ فِي الْأَجْنَاسِ الْمُخْتَلِفَةِ يُعْلَمُ تَمَاثُلُ الْقَدْرِ أَوْ تَفَاضُلُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا وَبَاعَ الرَّجُلُ مُدًّا مِنْ تَمْرٍ وَدِرْهَمًا بِمُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ كَانَ بَاطِلًا إِلَّا أَنْ يَفْصِلَ فَيَقُولُ: قَدْ بِعْتُكَ مُدًّا بِمُدٍّ وَدِرْهَمًا بِمُدٍّ فَيَصِحُّ لِأَنَّ التَّفْصِيلَ يَجْعَلُهُمَا عَقْدَيْنِ وَيَمْنَعُ مِنْ تَقْسِيطِ الثَّمَنِ عَلَى الْقِيمَتَيْنِ، وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ مُدًّا وَدِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ كَانَ بَاطِلًا إِلَّا مَعَ التَّفْصِيلِ.
وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ مُدًّا مَنْ بُرٍّ وَمُدًّا مِنْ شَعِيرٍ بِمُدَّيْنِ مِنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ كَانَ بَاطِلًا إِلَّا مَعَ التَّفْصِيلِ وَلَكِنْ لَوْ باعه مدا من بر ومدا من شعير بِمُدَّيْنِ مِنْ تَمْرٍ كَانَ جَائِزًا إِذَا تَقَابَضَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ لِأَنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهَا، وَإِنَّمَا يُمْنَعُ مِنَ التَّفَرُّقِ قَبْلَ تَقَابُضِهِمَا لِأَنَّ عِلَّةَ الرِّبَا فِي جَمِيعِهَا وَاحِدَةٌ.
وَلَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا وَدِينَارًا بِثَوْبَيْنِ كَانَ جَائِزًا وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّ مَا لَا رِبَا فِيهِ لَا يَمْنَعُ مِنَ التَّفَرُّقِ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ.
وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا وَدِينَارًا بِكَرٍّ مِنْ بُرٍّ صَحَّ وَجَازَ التَّفَرُّقُ فِيهِ قَبْلَ قَبْضِهِ لِأَنَّ الدَّنَانِيرَ وَالْبُرَّ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا الرِّبَا فَلِعِلَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ.

(5/115)


فَأَمَّا إِذَا بَاعَهُ دِينَارًا وَثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ كَانَ فِي الْعَقْدِ قَوْلَانِ لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَمَعَ بَيْعًا وَصَرْفًا. لِأَنَّ مَا قَبْلَ الدِّينَارِ مِنَ الدَّرَاهِمِ صَرْفٌ. وَمَا قَابَلَ الثَّوْبَ بَيْعٌ.
وَكَذَا لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا وَقَفِيزًا مِنْ شَعِيرٍ بِقَفِيزَيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ كَانَ أَيْضًا عَلَى قَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ بَيْعٌ وَصَرْفٌ لِأَنَّ مَا قَابَلَ الثَّوْبَ مِنَ الْحِنْطَةِ بَيْعٌ وَمَا قَابَلَ الشَّعِيرَ كَالصَّرْفِ لِاسْتِحْقَاقِ القبض قبل التفرق.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ زَيْتٍ وَدُهْنِ لُوزٍ وَجُوزٍ وَبُزُورٍ لَا يَجُوزُ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْأَدْهَانَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا كَانَتْ مِنْ أُصُولٍ مَأْكُولَةٍ وَتَكُونُ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِهَا دُهْنًا مَأْكُولَةً كَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ، وَدُهْنِ الْجُوزِ وَاللُّوزِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَدُهْنُ الْبُطْمِ وَالصَّنُوبَرِ وَالْخَرْدَلِ وَالْحَبِّ الْأَخْضَرِ فَهَذِهِ كُلُّهَا وَمَا شَاكَلَهَا مَأْكُولَةٌ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِهَا وَمَأْكُولَةُ الْأَصْلِ قَبْلَ اسْتِخْرَاجِهَا، فَفِيهَا الرِّبَا لِأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةٌ بِأَصْلِهَا، فَأَصْلُهَا مَأْكُولَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً بِأَنْفُسِهَا فَهِيَ مَأْكُولَةٌ فَلَمْ تَخْلُ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ مِنْ ثُبُوتِ الرِّبَا فِيهَا.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا كَانَتْ مِنْ أُصُولٍ غَيْرِ مَأْكُولَةٍ وَتَكُونُ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِهَا دُهْنًا غَيْرَ مَأْكُولَةٍ كَدُهْنِ الْمَحْلَبِ وَالْأَلْبَانِ وَالْكَافُورِ فَهَذِهِ وَمَا شَاكَلَهَا غَيْرُ مَأْكُولَةِ الْأُصُولِ وَالْأَدْهَانِ جَمِيعًا فَلَا رِبَا فِيهَا اعْتِبَارًا بِالْحَالَتَيْنِ مَعًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا كَانَتْ مِنْ أُصُولٍ مَأْكُولَةٍ لَكِنَّهَا لَا تَكُونُ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِهَا دُهْنًا مَأْكُولَةً كَدُهْنِ الْوَرْدِ وَالْبَنَفْسَجِ وَالْخَيْرِيِّ وَالْيَاسَمِينِ فَهَذِهِ فِي أَنْفُسِهَا غَيْرُ مَأْكُولَةٍ فِي الْعُرْفِ وَإِنَّمَا تُسْتَعْمَلُ طِلَاءً لَكِنَّهَا مُسْتَخْرَجَةٌ مِنْ أَصْلٍ مَأْكُولٍ وَهُوَ السِّمْسِمُ فَفِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا رِبَا فِيهَا اعْتِبَارًا بِأَنْفُسِهَا.
وَالثَّانِي: فِيهَا الرِّبَا اعْتِبَارًا بِأُصُولِهَا. وَكَذَلِكَ دُهْنُ السَّمَكِ مِنْ أَصْلٍ مَأْكُولٍ لَكِنَّهُ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مَأْكُولٍ.
وَأَمَّا دُهْنُ الْبَزْرِ وَالْقُرْطُمِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي أُصُولِهَا هَلْ هِيَ مَأْكُولَةٌ يَثْبُتُ فِيهَا الرِّبَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا رِبَا فِيهَا فَعَلَى هَذَا لَا رِبَا فِي أَدْهَانِهَا.
وَالثَّانِي: فِيهَا الرِّبَا لِأَنَّهَا قَدْ تُؤْكَلُ.
فَعَلَى هَذَا فِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِي أَدْهَانِهَا وَجْهَانِ. لِأَنَّهَا مِنْ أَصْلٍ مَأْكُولٍ وَفَرْعٍ غير مأكول.

(5/116)


وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا كَانَتْ مِنْ أُصُولٍ غَيْرِ مَأْكُولَةٍ لَكِنْ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِهَا دُهْنًا مَأْكُولَةً. كَدُهْنِ الْخِرْوَعِ وَحَبِّ الْقَرْعِ وَمَا شَاكَلَهَا. فَفِي ثُبُوتِ الرِّبَا فِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: فِيهَا الرِّبَا اعْتِبَارًا بِأَنْفُسِهَا.
وَالثَّانِي: لَا رِبَا فِيهَا اعْتِبَارًا بِأُصُولِهَا.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَدْهَانَ الْمَأْكُولَةَ فِيهَا الرِّبَا عَلَى مَا وَصَفْنَا فَلَا فَصْلَ بَيْنَ الْمَأْكُولِ إِدْمًا أَوْ دَوَاءً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَكْلِ، كَمَا لَا فَصْلَ فِي غَيْرِ الْأَدْهَانِ مِنَ الْمَأْكُولِ قُوتًا أَوْ دَوَاءً. ثم الْأَدْهَانَ أَجْنَاسٌ كَأُصُولِهَا وَإِنْ كَانَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يُخْرِجُهَا عَلَى قَوْلَيْنِ كَاللُّحْمَانِ، وَالْأَلْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا جِنْسٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا أَجْنَاسٌ.
وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى فَسَادِ هَذَا التَّخْرِيجِ وَأَنَّ الْأَدْهَانَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ كَمَا أَنَّ أُصُولَهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ بِخِلَافِ اللُّحِمَانِ وَالْأَلْبَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ لِأُصُولِ اللُّحِمَانِ وَالْأَلْبَانِ اسْمًا جَامِعًا وَهُوَ الْحَيَوَانُ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ جِنْسًا وَاحِدًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْأَدْهَانُ إِذْ لَيْسَ لِأُصُولِهَا اسْمٌ جَامِعٌ فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ أَجْنَاسًا.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَدْهَانَ أَجْنَاسٌ، فَالزَّيْتُ جِنْسٌ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَزَيْتُ الْفُجْلِ جِنْسٌ آخَرُ. لِأَنَّ الزَّيْتَ الْمُطْلَقَ مُسْتَخْرَجٌ مِنَ الزَّيْتُونِ، وَالزَّيْتُونُ جِنْسٌ غَيْرُ الْفُجْلِ، ثُمَّ الشَّيْرَجُ جِنْسٌ آخَرُ.
فَأَمَّا دُهْنُ الْوَرْدِ وَدُهْنُ الْبَنَفْسَجِ إِذَا قِيلَ فِيهِمَا الرِّبَا فَهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ. وَكَذَلِكَ دُهْنُ الْيَاسَمِينِ وَالْخَيْرِيِّ، فَهَذَا كُلُّهُ مَعَ الشَّيْرَجِ جِنْسٌ وَاحِدٌ لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَذْهَبُ، لِأَنَّ جَمِيعَهَا مِنَ السِّمْسِمِ وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ لِاخْتِلَافِ الترتيب.
فإذا كان الجنس واحد حَرُمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ فَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ جَازَ فِيهِمَا التَّفَاضُلُ.
فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ بِالشَّيْرَجِ مُتَفَاضِلًا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْرَجِ بِالشَّيْرَجِ إِلَّا مُتَمَاثِلًا. وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِ الشَّيْرَجِ بِالشَّيْرَجِ بِكُلِّ حَالٍ لِأَنَّ فِيهِ مَاءً وَمِلْحًا لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُهُ إِلَّا بِهِمَا وَهَذَا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ.
وَهَذَا خَطَأٌ. لِأَنَّ الْمَاءَ وَالْمِلْحَ وَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَخْرَجُ الشَّيْرَجُ إِلَّا بِهِمَا، فَيَخْتَلِفَانِ فِي ثِقَلِ السِّمْسِمِ وَهُوَ الْكُسْبُ. إِذْ لَا يَصِحَّ اخْتِلَاطُ الْمَاءِ بِالدُّهْنِ ولا بقاء الماء بين أجزائه. والله أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يجوز من الجنس الواحد مطبوخ بنيئ مِنْهُ بِحَالٍ إِذَا كَانَ إِنَّمَا يُدَّخَرُ مَطْبُوخًا وَلَا مَطْبُوخٌ مِنْهُ بِمَطْبُوخٍ لِأَنَّ النَّارَ تَنْقُصُ مِنْ بَعْضٍ أَكْثَرَ

(5/117)


مما تنقص من بعض وليس له غاية ينتهى إليها كما يكون للتمر في اليبس غاية ينتهى إليها (قال المزني) ما أرى لاشتراطه - يعني الشافعي - إذا كان إنما يدخر مطبوخا معنى لأن القياس أن ما ادخر وما لم يدخر واحد والنار تنقصه ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَجُمْلَتُهُ: أَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَتْهُ النَّارُ لِانْعِقَادِهِ وَاجْتِمَاعِ أَجْزَائِهِ وَلَمْ تَدْخُلْهُ لِإِصْلَاحِهِ وَتَصْفِيَتِهِ، لَمْ يَجُزِ الْمَطْبُوخُ مِنْهُ بالنيئ، لِأَنَّ النَّارَ نَقَصَتْ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ تَنْقُصْ مِنَ الْآخَرِ.
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُبَاعَ الْمَطْبُوخُ مِنْهُ بِالْمَطْبُوخِ لِأَنَّ النَّارَ رُبَّمَا نَقَصَتْ مِنْ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ نُقْصَانِ الْآخَرِ.
وَيَجُوزُ مِنَ الْجِنْسَيْنِ بِكُلِّ حَالٍ. فَعَلَى هَذَا لَا يجوز بيع الزيت المطبوخ بالنيئ ولا بالمطبوخ، ويجوز بيعه بالشيرج النيئ والمطبوخ.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يُبَاعُ عَسَلُ نَحْلٍ بِعَسَلِ نَحْلٍ إِلَّا مُصَفَّيَيْنِ مِنَ الشَمْعِ لِأَنَّهُمَا لَوْ بِيعَا وَزْنًا وَفِي أَحَدِهِمَا شَمْعٌ وَهُوَ غَيْرُ الْعَسَلِ بِالْعَسَلِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَكَذَلِكَ لَوْ بِيعَا كَيْلًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَسَلِ بِالْعَسَلِ إِلَّا مُصَفَّيَيْنِ مِنَ الشَّمْعِ، فَإِنْ كَانَ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا شَمْعٌ لَمْ يَجُزْ. لِأَنَّ الشَّمْعَ إِنْ كَانَ فِي أَحَدِهِمَا كَانَ التَّفَاضُلُ فِي الْعَسَلِ مَعْلُومًا، وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا كَانَ التَّمَاثُلُ فِيهِ مَجْهُولًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا جَازَ بَيْعُ الْعَسَلِ بِالْعَسَلِ وَفِيهِمَا شَمْعٌ كَمَا جَازَ بَيْعُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ وَفِيهِمَا نَوًى.
قِيلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ الشَّمْعِ فِي الْعَسَلِ وَبَيْنَ النَّوَى فِي التَّمْرِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّوَى فِي التَّمْرِ بَعْضٌ مِنْهُ لَا يَتِمُّ صَلَاحُ التَّمْرِ إِلَّا بِهِ وَلِذَلِكَ مَنَعَ مِنْ بَيْعِ التَّمْرِ الْمُنَقَّى مِنَ النَّوَى بِمِثْلِهِ، وَلَيْسَ الشَّمْعُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مُبَايِنٌ لِلْعَسَلِ وَإِنْ جَاوَرَهُ، وَتَرْكُهُ فِيهِ مُؤَدٍّ إِلَى فَسَادِهِ، وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا أَبْقَى لَهُمَا، وَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُ الْعَسَلِ الْمُصَفَّى بِمِثْلِهِ.
وَالْفَرْقُ الثَّانِي: أَنَّ النَّوَى فِي التَّمْرِ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَلَمْ يَكُنْ لِكَوْنِهِ فِيهِ تَأْثِيرٌ وَالشَّمْعُ في العسل مقصود فكان اجتماعهما ها هنا يُؤَدِّي إِلَى الْجَهَالَةِ فِي الْمَقْصُودِ مِنْهُمَا.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَظْمَ فِي اللَّحْمِ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مَقْصُودٍ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ وَفِيهِمَا عَظْمٌ.
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ الْعَسَلِ بِالْعَسَلِ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ تَصْفِيَتِهِمَا مِنَ الشَّمْعِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ التَّصْفِيَةِ مِنْ أحد أمرين:

(5/118)


إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالشَّمْسِ أَوْ بِالنَّارِ. فَإِذَا كَانَتْ بِالشَّمْسِ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ. وَإِنْ كَانَتْ بِالنَّارِ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَجْعَلُ دُخُولَ النَّارِ فِي تَصْفِيَتِهِ مَانِعًا مِنْ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَدُخُولِ النَّارِ فِي الزَّيْتِ، لِأَنَّهَا تَأْخُذُ بَعْضَ أَجْزَاءِ الْعَسَلِ كَمَا تَأْخُذُ بَعْضَ أَجْزَاءِ الزَّيْتِ.
وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ دُخُولَ النَّارِ فِي تَصْفِيَتِهِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ بِيعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَكَذَلِكَ فِي السَّمْنِ بِخِلَافِ الزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ، لِأَنَّ النَّارَ دَخَلَتْ فِيهِ لِإِصْلَاحِهِ وَتَمْيِيزِهِ مِنْ شَمْعِهِ فَلَمْ تَأْخُذْ مِنْ أَجْزَائِهِ شَيْئًا، وَكَذَلِكَ السَّمْنُ وَإِنَّمَا تَأْخُذُ النَّارُ فِيمَا تَدْخُلُ فِيهِ لِانْعِقَادِهِ وَاجْتِمَاعِ أَجْزَائِهِ، حَتَّى لَوْ أَنَّ الْعَسَلَ الْمُصَفَّى أُغْلِيَ بِالنَّارِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، لِأَنَّ النَّارَ إِذَا لَمْ تَمَيِّزْهُ مِنْ غَيْرِهِ أَذْهَبَتْ بَعْضَ أَجْزَائِهِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا السُّكَّرُ وَالْفَانِيذُ فَإِنْ أُلْقِيَ فِيهِمَا مَاءٌ أَوْ لَبَنٌ أَوْ جُعِلَ فِيهِمَا دقيقا أَوْ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ نُظِرَ فِي دُخُولِ النَّارِ فِيهِمَا.
فَإِنْ كَانَتْ قَدْ دَخَلَتْ لِتَصْفِيَتِهِمَا وَتَمْيِيزِهِمَا مِنْ غَيْرِهِمَا جَازَ بَعْضُهُمَا بِبَعْضٍ. وَإِنْ دَخَلَتْ لِانْعِقَادِهِمَا وَاجْتِمَاعِ أَجْزَائِهِمَا لَمْ يَجُزْ، وَكَذَلِكَ دِبْسُ التَّمْرِ وَرَبُّ الْفَوَاكِهِ.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا خَيْرَ فِي مُدِّ حِنْطَةٍ فِيهَا قَصَلٌ أَوْ زُوَانٌ بِمُدِّ حِنْطَةٍ لَا شَيْءَ فِيهَا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهَا حِنْطَةٌ بِحِنْطَةٍ مُتَفَاضِلَةٍ وَمَجْهُولَةٍ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا اخْتَلَطَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَا يَزِيدُ فِي كَيْلِهِ مِنْ قَلِيلِ التُّرَابِ وَمَا دَقَّ مِنْ تِبْنِهِ فَأَمَّا الْوَزْنُ فَلَا خَيْرَ فِي مِثْلِ هَذَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ أَمَّا الْقَصَلُ فَهُوَ عُقُدُ التِّبْنِ الَّتِي تَبْقَى فِي الطَّعَامِ بَعْدَ تَصْفِيَتِهِ، وَأَمَّا الشَّيْلَمُ وَالزُّوَانُ فَهُمَا حَبَّتَانِ تَنْبُتَانِ مَعَ الطَّعَامِ.
فَإِذَا بَاعَ طَعَامًا فِيهِ قَصَلٌ أَوْ زُوَانٌ أَوْ يُسَلِّمُ بِطَعَامٍ لَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِحُصُولِ التَّفَاضُلِ فِي الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ طَعَامًا فِيهِ قَصَلٌ أَوْ زُوَانٌ بِمِثْلِهِ مِمَّا هُوَ فِيهِ قَصَلٌ أَوْ زُوَانٌ لَمْ يَجُزْ، لِعَدَمِ التَّمَاثُلِ فِي الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ.
فَأَمَّا يَسِيرُ التُّرَابِ وَمَا دَقَّ مِنَ التِّبْنِ إِذَا حَصَلَ فِي الطَّعَامِ فَبِيعَ بِمِثْلِهِ كَيْلًا جَازَ، لِأَنَّ هَذَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمِكْيَالِ. إِذِ الطَّعَامُ إِذَا كِيلَ حَصَلَ بَيْنَ الْحَبِّ خَلَلٌ لَا يَمْتَلِئُ بِشَيْءٍ مِنَ الطَّعَامِ لِضِيقِهِ. فَإِذَا حَصَلَ فِي الطَّعَامِ يَسِيرُ التُّرَابِ صَارَ فِي ذَلِكَ الْخَلَلِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْكَيْلِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَأَمَّا الْوَزْنُ فَلَا خَيْرَ فِي مِثْلِ هَذَا. وَلَيْسَ يُرِيدُ الطَّعَامَ، لِأَنَّ بَيْعَ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ وَزْنًا لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ مَا يُوزَنُ مِنَ الْوَرِقِ وَالذَّهَبِ إِذَا بِيعَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَفِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا يَسِيرٌ مِنَ التُّرَابِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ لِقَلِيلِ التُّرَابِ تَأْثِيرًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْمِكْيَالِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا بَيْعُ الْعَلَسِ بِالْعَلَسِ فَلَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنْ قِشْرَتِهِ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ

(5/119)


قِشْرَةُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنْ قِشْرَةِ الْأُخْرَى فَيُؤَدِّيَ إِلَى التَّفَاضُلِ فِيهِ. وَكَذَلِكَ بَيْعُهُ بِالْحِنْطَةِ قَبْلَ تَقْشِيرِهِ لِأَنَّهُ صِنْفٌ مِنْهَا، وَلَكِنْ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالشَّعِيرِ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ يَجُوزُ فِيهِمَا التَّفَاضُلِ.
فَأَمَّا بيع بِالْأُرْزِ قَبْلَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْقِشْرَةِ الْعُلْيَا لَا يَجُوزُ كَالْعَلَسِ فَأَمَّا بَعْدَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْقِشْرَةِ الْعُلْيَا وَقَبْلَ إِخْرَاجِهِ مِنَ الْقِشْرَةِ الثَّانِيَةِ الْحَمْرَاءِ.
فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِهِ فِيهَا بِمِثْلِهِ وَيَجْعَلُ النِّصَابَ فِيهِ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ كَالْعَلَسِ. وَذَهَبَ سَائِرُ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْقِشْرَةَ الْحَمْرَاءَ اللَّاصِقَةَ بِهِ تَجْرِي مَجْرَى أَجْزَاءِ الْأُرْزِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُطْحَنُ مَعَهَا وَيُؤْكَلُ أَيْضًا مَعَهَا، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْهَا مُتَنَاهِيًا فِي اسْتِطَابَتِهِ كَمَا يَخْرُجُ مَا لَصِقَ بِالْحِنْطَةِ مِنَ النُّخَالَةِ ثُمَّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ.
وَكَذَلِكَ الْأُرْزُ فِي بَيْعِهِ بِالْأُرْزِ مَعَ قِشْرَتِهِ الْحَمْرَاءِ وَنِصَابُهُ فِي الزَّكَاةِ خَمْسَةُ أوسق معها كالحنطة مع قشرتها الحمراء.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَبَنُ الْغَنَمِ مَاعِزِهِ وَضَأْنِهِ صِنْفٌ وَلَبَنُ الْبَقَرِ عِرَابِهَا وَجَوَامِيسِهَا صِنْفٌ وَلَبَنُ الْإِبِلِ مَهْرِيِّهَا وَعِرَابِهَا صنف فَأَمَّا إِذَا اخْتَلَفَ الصِّنْفَانِ فَلَا بَأْسَ مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ ". قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْأَلْبَانِ هَلْ هِيَ صِنْفٌ وَاحِدٌ أَوْ أَصْنَافٌ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُهُ فِي الْقَدِيمِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ إِنَّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ. لِأَنَّ الِاسْمَ الْخَاصَّ يَجْمَعُهَا عِنْدَ حُدُوثِ الرِّبَا فِيهَا، وَلَا يَكُونُ اخْتِلَافُ أَنْوَاعِهَا دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِهَا وَأَجْنَاسِهَا، كَمَا أَنَّ التَّمْرَ كُلَّهُ جِنْسٌ، وَلَيْسَ اخْتِلَافُ أَنْوَاعِهِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ أَجْنَاسِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي الْجَدِيدِ وَأَكْثَرِ كُتُبِهِ وَبِهِ قَالَ أبو حنيفة، إِنَّ الْأَلْبَانَ أَصْنَافٌ وَأَجْنَاسٌ. لِأَنَّهَا فُرُوعٌ لِأُصُولٍ هِيَ أَجْنَاسٌ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ أَجْنَاسًا كَالْأَدِقَّةِ وَالْأَجْبَانِ لَمَّا كَانَتْ فُرُوعًا لِأَجْنَاسٍ كَانَتْ هِيَ أَجْنَاسًا.
فَإِذَا قِيلَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِنَّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ لَبَنِ الْإِبِلِ بِلَبَنِ الْبَقَرِ أَوِ الْغَنَمِ سَوَاءً بِسَوَاءٍ.
وَإِذَا قِيلَ بِالثَّانِي إِنَّهَا أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ كَانَ لَبَنُ الْإِبِلِ جِنْسًا لَكِنْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَخَاتِيِّ وَالْعِرَابِ. وَلَبَنُ الْبَقَرِ جِنْسٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعِرَابِيَّةِ وَالْجَوَامِيسِ، وَلَبَنُ الْغَنَمِ جِنْسٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الضأن والماعز.
فإن كان الجنس واحد حَرُمَ فِيهِ التَّفَاضُلُ، وَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ مُخْتَلِفًا جَازَ فِيهِ التَّفَاضُلُ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلَّا مُنِعَ مِنْ بَيْعِ اللَّبَنِ بِاللَّبَنِ إِذَا كَانَ فِيهِمَا زُبْدٌ كَمَا مُنِعَ مِنْ بَيْعِ الْعَسَلِ بِالْعَسَلِ إذا

(5/120)


كَانَ فِيهِمَا شَمْعٌ. قِيلَ: بَقَاءُ الزُّبْدِ فِي اللَّبَنِ مِنْ كَمَالِ مَنَافِعِهِ، وَهُوَ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ مَأْكُولٌ مَعَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الشَّمْعُ فِي العسل لأنه ليس من جملته ولا مأكول معه وَاحِدًا. فَيَسْتَوِي سَمْنُ الْغَنَمِ وَسَمْنُ الْبَقَرِ.
وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْأَلْبَانَ أَجْنَاسٌ كَانَتْ هَذِهِ كُلُّهَا أَجْنَاسًا.
فَيَكُونُ سَمْنُ الْغَنَمِ جِنْسًا، وَسَمْنُ الْبَقْرِ جنسا والتفاضل بينهما يجوز.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا خَيْرَ فِي زُبْدِ غَنَمٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِأَنَّ الزُّبْدَ شَيْءٌ مِنَ اللَّبَنِ وَلَا خَيْرَ فِي سَمْنِ غَنَمٍ بِزُبْدِ غَنَمٍ وَإِذَا أُخْرِجَ مِنْهُ الزُّبْدُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُبَاعَ بِزُبْدٍ وَسَمْنٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
وَأَصْلُ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ مُتَّخَذًا مِنَ اللَّبَنِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنَ اللَّبَنِ.
فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ الْحَلِيبِ بِالزُّبْدِ، وَلَا بِالسَّمْنِ، وَلَا بِالْجُبْنِ، وَلَا بِالْمَصْلِ، وَلَا بِالْأَقِطِ، وَلَا بِالْمَخِيضِ لِأَنَّ فِي اللَّبَنِ الْحَلِيبَ زُبْدًا وَسَمْنًا وَجُبْنًا وَمَصْلًا وَأَقِطًا وَمَخِيضًا. وَالتَّمَاثُلُ فِيهِمَا مَعْدُومٌ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي تَعْلِيلِ الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ الزُّبْدِ بِاللَّبَنِ: لِأَنَّ الزُّبْدَ شَيْءٌ مِنَ اللَّبَنِ. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي بَيَانِ هَذَا التَّعْلِيلِ.
فَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يَقُولُ: مَعْنَاهُ أَنَّ فِي الزُّبْدِ شَيْئًا مِنَ اللَّبَنِ يَبْقَى فَلَا يُخْرِجُهُ إِلَّا النَّارُ. فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى بَيْعِ اللَّبَنِ بِاللَّبَنِ مُتَفَاضِلًا.
وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ فِي اللَّبَنِ زُبْدًا، فَيُؤَدِّي إِلَى بَيْعِ الزُّبْدِ بِالزُّبْدِ مُتَفَاضِلًا. وَهَذَا أَصَحُّ الْمَعْنَيَيْنِ.
لِأَنَّ مَا فِي الزُّبْدِ مِنَ اللَّبَنِ يسير غير مَقْصُودٌ.
وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ تُؤَثِّرُ فِي بَيْعِ الزُّبْدِ بِاللَّبَنِ الْمَخِيضِ.
فَعَلَى قَوْلِ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الزُّبْدِ بِاللَّبَنِ الْمَخِيضِ لِأَنَّ فِي الزُّبْدِ لَبَنًا.
وَعَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ يَجُوزُ وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَخِيضِ زُبْدٌ. فَأَمَّا بَيْعُ الْمَخِيضِ بِالسَّمْنِ فَيَجُوزُ عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي السَّمْنِ لَبَنٌ وَلَا فِي اللَّبَنِ سَمْنٌ.
وَأَمَّا بَيْعُ الْمَخِيضِ بِالْجُبْنِ أَوِ الْمَصْلِ أَوِ الْأَقِطِ، فَلَا يَجُوزُ عَلَى كِلَا الْمَذْهَبَيْنِ. لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَبَنًا.
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجُبْنِ بِالْمَصْلِ، وَلَا بَيْعُ الْأَقِطِ بِالْجُبْنِ، لِأَنَّ جَمِيعَهُ مِنْ لَبَنٍ يُعْدَمُ فِيهِ التَّمَاثُلُ.

(5/121)


وَهَكَذَا، لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَخِيضِ بِاللَّبَنِ الْحَلِيبِ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ الْحَلِيبَ فِيهِ زُبْدٌ. وَالْمَخِيضَ لَبَنٌ فِيهِ مَاءٌ فَعُدِمَ التَّمَاثُلُ بَيْنَهُمَا. لَكِنْ يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ الْحَلِيبِ بِاللَّبَنِ الرَّائِبِ وَالْحَامِضِ إِذَا لَمْ يَكُنْ زُبْدُهُمَا مَمْخُوضًا، لِأَنَّهُ بَيْعُ لَبَنٍ فِيهِ زُبْدٌ بِلَبَنٍ فِيهِ زُبْدٌ فَصَارَ كَبَيْعِ الْحَلِيبِ بِالْحَلِيبِ.
وَأَمَّا بَيْعُ الزُّبْدِ بِالسَّمْنِ فَلَا يَجُوزُ، لِمَا فِي الزُّبْدِ مِنْ بَقِيَّةِ اللَّبَنِ الَّتِي تَمْنَعُ مِنْ تَمَاثُلِهِ بِالسَّمْنِ. فَهَذَا الْكَلَامُ فِي بَيْعِ كُلِّ نَوْعٍ مِنَ اللَّبَنِ بِنَوْعِ غَيْرِهِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا بَيْعُ النَّوْعِ الْوَاحِدِ بِمِثْلِهِ:
أما بيع اللبن الحليب باللبن الحليب فيجوز وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ.
وَأَمَّا بَيْعُ اللَّبَنِ الْمَخِيضِ بِاللَّبَنِ الْمَخِيضِ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّ فِي الْمَخِيضِ مَاءً قَدْ مُخِضَ بِهِ لِإِخْرَاجِ الزُّبْدِ مِنْهُ يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِي اللَّبَنِ بِغَيْرِ مَاءٍ فَيَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِهِ بِمِثْلِهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ إِخْرَاجِ الزُّبْدِ بِغَيْرِ مَاءٍ فَيَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِهِ بِمِثْلِهِ.
فَصْلٌ:
وَأَمَّا بَيْعُ الزُّبْدِ بِالزُّبْدِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي جَوَازِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِي الزُّبْدِ لَبَنًا بَاقِيًا يَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ عِنْدِي وَبِهِ قَالَ ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ يَجُوزُ، لِأَنَّ مَا فِي الزُّبْدِ مِنْ بَقَايَا اللَّبَنِ يَسِيرٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، كَالنَّوَى فِي التَّمْرِ، وَكَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحَلِيبِ بِالْحَلِيبِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا زُبْدٌ، لِأَنَّ غَيْرَ الزُّبْدِ هُوَ الْمَقْصُودُ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا بَيْعُ السَّمْنِ بِالسَّمْنِ فَيَجُوزُ وَإِنْ صُفِّيَ بِالنَّارِ، لِأَنَّ دُخُولَ النَّارِ فِيهِ لِتَمْيِيزِهِ وَتَصْفِيَتِهِ.
فَإِنْ كَانَ ذَائِبًا لَمْ يُبَعْ إِلَّا كَيْلًا، وَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَعَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، لِأَنَّ أَصْلَهُ الْكَيْلُ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ وَزْنًا لِأَنَّ الْوَزْنَ أَحْصَرُ وَالْكَيْلُ فِيهِ مُتَعَذَّرٌ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا بَيْعُ الْجُبْنِ بِالْجُبْنِ فَلَا يَجُوزُ إِنْ كَانَ رَطْبًا أَوْ نَدِيًّا، فَإِنْ كَانَ يَابِسًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: رَوَاهُ حَرْمَلَةُ. يَجُوزُ بَيْعُهُ إِذَا تَنَاهَى بِنَفْسِهِ وَزْنًا لِقِيمَةِ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ وَأَنَّهُ غَايَةُ اللَّبَنِ الَّتِي يَنْتَهِي إِلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: رَوَاهُ الرَّبِيعُ وَهُوَ الصَّحِيحُ، أَنَّ بَيْعَ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ لَا يَجُوزُ وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْعِلَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ جَوَازِهِ.
فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ: لِأَنَّ أَصْلَهُ الْكَيْلُ وَهُوَ فِيهِ مُتَعَذَّرٌ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: لِأَنَّ فِيهِ إِنْفَحَةً تَعْمَلُ بِهَا تَمْنَعُ مِنَ التَّمَاثُلِ فِيهِ فَعَلَى هَذَا الْوَدْقِ الْجُبْنُ حتى

(5/122)


عُمِلَ فُتُوتًا، وَصَارَ نَاعِمًا جَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي الْعَبَّاسِ لِإِمْكَانِ كَيْلِهِ، وَلَمْ يَجُزْ عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ لِبَقَاءِ الْإِنْفَحَةِ فِيهِ.

فَصْلٌ:
وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا، لَا يَجُوزُ بيع الزيت بالزيتون لأن فيه ما به وَالتَّمَاثُلَ مَعْدُومٌ. وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الشَّيْرَجِ بِالسِّمْسِمِ، وَلَا بَيْعُ دُهْنِ الْجَوْزِ بِالْجَوْزِ، وَلَا دُهْنِ اللَّوْزِ بِاللَّوْزِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ بِالزَّيْتُونِ إِذَا كَانَ الزَّيْتُ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الزَّيْتُونِ مِنَ الزَّيْتِ، وَإِنْ كَانَ مِثْلَهُ أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَجُزْ.
لِيَكُونَ فَاضِلُ الزَّيْتِ فِي مُقَابَلَةِ عَصِيرِ الزَّيْتُونِ.
وَكَذَا يَقُولُ فِي بَيْعِ جَمِيعِ الْأَدْهَانِ بِأُصُولِهَا. وَفِيمَا ذَكَرْنَا دَلِيلٌ عَلَيْهِ. وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِذَا بَاعَ مُدَّ تَمْرٍ وَدِرْهَمًا بِمُدَّيْ تَمْرٍ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِيهِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ جَوَّزْتُمْ بَيْعَ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ وَرُبَّمَا كَانَ دُهْنُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ.
قُلْنَا: دُهْنُ السِّمْسِمِ قَبْلَ اسْتِخْرَاجِهِ تَبَعٌ لِأَصْلِهِ فَلَا اعْتِبَارَ بِزِيَادَتِهِ وَنَقْصِهِ، كَمَا أَنَّ زُبْدَ اللَّبَنِ قَبْلَ اسْتِخْرَاجِهِ تَبَعٌ لِأَصْلِهِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مَعَ جَوَازِ أَنْ يَكُونَ زُبْدُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ، فَأَمَّا إِذَا اسْتُخْرِجَ دُهْنُ السِّمْسِمِ وَبَقِيَ كُسْبًا وَحْدَهُ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ جَوَازُ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ. فَجَوَّزَ بَيْعَ الْكُسْبِ بِالْكُسْبِ وَزْنًا، وَهَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ. بَلْ بَيْعُ الْكُسْبِ بِالْكُسْبِ لَا يَجُوزُ لِأُمُورٍ:
مِنْهَا: أَنَّ أَصْلَهُ الْكَيْلُ، وَالْكَيْلُ فِيهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَالْوَزْنُ فِيهِ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَمِنْهَا: أَنَّ الْكُسْبَ يَخْتَلِفُ عَصْرُهُ، فَرُبَّمَا كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ دُهْنِ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ، فَيُؤَدِّي إِلَى التَّفَاضُلِ فِيهِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ فِي الْكُسْبِ مَاءً وَمِلْحًا لَا يُمْكِنُ اسْتِخْرَاجُ الدُّهْنِ إِلَّا بِهِمَا وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ.
فَأَمَّا بَيْعُ طَحِينِ السِّمْسِمِ بِطَحِينِ السِّمْسِمِ قَبْلَ اسْتِخْرَاجِ الدُّهْنِ مِنْهُمَا فَلَا يَجُوزُ بِاتِّفَاقِ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لِأَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ طَحْنُ أَحَدِهِمَا أَنْعَمَ مِنَ الْآخَرِ كَمَا قِيلَ فِي الدَّقِيقِ. وَهَذَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي بَيْعِ الْكُسْبِ بِالْكُسْبِ إِذْ أصله الكيل وطحنه مختلف.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا خَيْرَ فِي شَاةٍ فِيهَا لَبَنٌ يُقْدَرُ عَلَى حَلْبِهِ بِلَبَنٍ مِنْ قِبَلِ أَنَّ فِي الشَّاةِ لَبَنًا لَا أَدْرِي كَمْ حِصَّتُهُ مِنَ اللَّبَنِ الَّذِي اشْتُرِيَتْ بِهِ نَقْدًا وَإِنْ كَانَتْ نَسِيئَةً فَهُوَ أَفْسَدُ لِلْبَيْعِ وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لِلَّبَنِ التَّصْرِيَةَ بَدَلًا وَإِنَّمَا اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ الْمَبِيعِ فِي قِشْرِهِ يَسْتَخْرِجُهُ صَاحِبُهُ أَنَّى شَاءَ وَلَيْسَ كَالْوَلَدِ لَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِلَبَنٍ.

(5/123)


وَقَالَ أبو حنيفة بِجَوَازِهِ، لِأَنَّ اللَّبَنَ فِي الشَّاةِ تَبَعٌ لِلشَّاةِ وَغَيْرُ مَقْصُودٍ فِي نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ جَازَتِ الْجَهَالَةُ فِيهِ فَلَمَّا جَازَ بَيْعُ ذَلِكَ بِالدَّرَاهِمِ لِكَوْنِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ تَبَعًا وَغَيْرَ مَقْصُودٍ، جَازَ بَيْعُهُ بِاللَّبَنِ.
وَلِأَنَّ اللَّبَنَ لَوْ كَانَ مَقْصُودًا وَكَانَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ مُقَسَّطًا لَجَازَ إِفْرَادُهُ بِالْعَقْدِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ بِالْعَقْدِ مُفْرَدًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ تَبَعًا.
وَلِأَنَّ اللَّبَنَ نَمَاءٌ كَالْحَمْلِ، فَلَمَّا كَانَ الْحَمْلُ تَبَعًا، فَاللَّبَنُ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ تَبَعًا، لِأَنَّ الْحَمْلَ كَأَصْلِهِ، وَاللَّبَنُ فَرْعٌ مِنْ فُرُوعِ أَصْلِهِ.
وَهَذَا خَطَأٌ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ مَقْصُودٌ وَيَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَعَلَ لِلَّبَنِ التَّصْرِيَةَ بَدَلًا فَقَالَ: إِنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ.
فَلَوْلَا أَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ الشَّاةَ وَلَبَنَهَا الَّذِي فِي الضَّرْعِ كَمَا يَتَنَاوَلُهُ إِذَا كَانَ مَحْلُوبًا فِي إِنَاءٍ لَأَسْقَطَ عَلَيْهِ السَّلَامُ غُرْمَهُ فِي اسْتِهْلَاكِهِ مَعَ قَضَائِهِ أَنَّ الْخَرَاجَ بِالضَّمَانِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا يَحْلِبَنَّ أَحَدُكُمْ شَاةَ أَخِيهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، ضُرُوعُ مَوَاشِيكُمْ خَزَائِنُ طَعَامِكُمْ، أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْتِيَ خَزَانَةَ أَخِيهِ فَيَأْخُذَ مَا فِيهَا.
فَجَعَلَ مَا فِي الضَّرْعِ مِنَ اللَّبَنِ مِثْلَ مَا فِي الْخِزَانَةِ مِنَ الْمَتَاعِ، فَلَمَّا كَانَ مَتَاعُ الْخِزَانَةِ مَقْصُودًا يَتَقَسَّطُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَبَنُ الضَّرْعِ مَقْصُودًا يَتَقَسَّطُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ.
وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ أَنَّ لَبَنَ الضَّرْعِ مَقْصُودٌ يَتَقَسَّطُ عَلَيْهِ الثَّمَنُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ شَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِلَبَنٍ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ وَلَبَنٍ مَحْلُوبٍ بِلَبَنٍ، لِأَجْلِ التَّفَاضُلِ، كَمَا قُلْنَا فِي مُدِّ تَمْرٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْ تَمْرٍ. فَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ عَلَى كَوْنِهِ تَبَعًا لِجَهَالَةِ قَدْرِهِ وَجَوَازِ بَيْعِهِ بِالدَّرَاهِمِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِهِ غَرَرٌ، وَالْغَرَرُ الْيَسِيرُ فِي الْبَيْعِ مُجَوَّزٌ لِلضَّرُورَةِ. وَبِيعُهُ بِاللَّبَنِ رِبًا، وَالرِّبَا الْيَسِيرُ فِي الْبَيْعِ غَيْرُ مُجَوَّزٍ مَعَ الضَّرُورَةِ. وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُ بِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجُزْ إِفْرَادُ لَبَنِ الضَّرْعِ بِالْعَقْدِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي الثَّمَنِ قِسْطٌ.
فَالْجَوَابُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ كُلُّ مَا جَازَ بَيْعُهُ مُفْرَدًا اقْتَضَى أَلَّا يَأْخُذَ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا.

(5/124)


أَلَا تَرَى أَنَّ الثَّمَرَةَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا يَجُوزُ بَيْعُهَا تَبَعًا لِنَخْلِهَا، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا مُفْرَدًا وَقَدْ أَجْمَعُوا أَنَّهَا تَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا.
وَكَذَلِكَ أَسَاسُ الدَّارِ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلدَّارِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مُفْرَدًا، وَقَدِ اتَّفَقُوا أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنَ الثَّمَنِ قِسْطًا كَذَلِكَ اللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ.
فَأَمَّا إِلْحَاقُهُ بِالْحَمْلِ فَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْحَمْلِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ فَعَلَى هَذَا يَسْقُطُ السُّؤَالُ.
وَالثَّانِي: يَكُونُ تَبَعًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ: أَنَّ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ كَالْجَوْزِ وَاللَّوْزِ الْمَبِيعِ فِي قُشُورِهِ يَسْتَخْرِجُهُ صَاحِبُهُ إِذَا شَاءَ، وَلَيْسَ كَالدَّرِّ لَا يُقْدَرُ عَلَى اسْتِخْرَاجِهِ. يَعْنِي: أَنَّ اللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ، وَالْحَمْلَ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا بَيْعُ شَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِشَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ فَبَاطِلٌ أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَا.
وَقَالَ أَبُو الطَّيِّبِ بْنُ سَلَمَةَ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُ السِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا دُهْنٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ، كذا يجوز بَيْعُ شَاةٍ بِشَاةٍ وَإِنْ كَانَ فِيهِمَا لَبَنٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ. وَهَذَا خَطَأٌ؛ لِأَنَّ الشَّاةَ وَاللَّبَنَ جَمِيعًا مَقْصُودَانِ بِالْعَقْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَلَيْسَ كَالدُّهْنِ فِي السِّمْسِمِ. لِأَنَّ دُهْنَ السِّمْسِمِ لَا يَمْتَازُ عَنْ كُسْبِهِ فَيَصِيرَانِ مَقْصُودَيْنِ، وَإِنَّمَا الدُّهْنُ تَبَعٌ فَلَمْ يَكُنْ بِهِ مُعْتَبَرًا وَجَرَى بَيْعُ الشَّاةِ الَّتِي فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِشَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ مَجْرَى بَيْعِ نَخْلَةٍ فِيهَا رُطَبٌ بنخلة فيها رطب، لما لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ النَّخْلِ وَالرُّطَبِ مَقْصُودٌ، لَمْ يَجُزْ فِي مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الشَّاةِ وَاللَّبَنِ مَقْصُودٌ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا بَيْعُ شَاةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِشَاةٍ لَبُونٍ لَيْسَ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ فَجَائِزٌ لِعَدَمِ الرِّبَا، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ نَخْلَةٍ فِيهَا رُطَبٌ بِنَخْلَةٍ لَيْسَ فِيهَا رُطَبٌ، وَلَكِنْ لَوْ بَاعَ شَاةً فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِشَاةٍ مَذْبُوحَةٍ لَيْسَ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ لَمْ يَجُزْ، لَا مِنْ جِهَةِ الرِّبَا وَلَكِنْ مِنْ حَيْثُ أَنَّ بَيْعَ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ.
فَأَمَّا إِذَا بَاعَ شَاةً فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ بِبَقَرَةٍ فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ.
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْأَلْبَانَ جِنْسٌ وَاحِدٌ.
وَالثَّانِي: يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ الْأَلْبَانَ أَجْنَاسٌ.
وَإِذَا كَانَ بَيْعُ الشَّاةِ الَّتِي فِي ضَرْعِهَا لَبَنٌ لَا يَجُوزُ بِاللَّبَنِ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا بِالزُّبْدِ وَلَا بِالسَّمْنِ وَلَا بِالْمَصْلِ وَلَا بِالْأَقِطِ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبَنِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا بَاعَ دَجَاجَةً فِيهَا بَيْضٌ بِبَيْضٍ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مُخْرِجَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي الْحَمْلِ. هَلْ يَكُونُ تَبَعًا أَوْ يُأْخَذُ قسطا من الثَّمَنِ، لِأَنَّ الْبَيْضَ كَالْحَمْلِ.

(5/125)


فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ تَبَعٌ جَازَ بَيْعُ الدَّجَاجَةِ الَّتِي فِيهَا بَيْضٌ بِالْبَيْضِ، لِأَنَّ مَا مَعَ الدَّجَاجَةِ مِنَ الْبَيْضِ تَبَعٌ.
وَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَمْلَ يَأْخُذُ قِسْطًا مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّ بَيْعَ الْبَيْضِ بِالْبَيْضِ لَا يَجُوزُ عَلَى قَوْلِهِ الْجَدِيدِ.

فَصْلٌ:
إِذَا بَاعَهُ دَارًا فِيهَا مَاءٌ بِدَارٍ فِيهَا مَاءٌ. فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْمَاءَ لَا رِبَا فِيهِ عَلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ جَازَ هَذَا بِكُلِّ حَالٍ، وَإِنْ قِيلَ فِي الْمَاءِ الرِّبَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَاءِ الَّذِي فِي الدَّارِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُحْرَزًا فِي الْأَجْبَابِ أَوْ حَاصِلًا فِي الْآبَارِ.
فَإِنْ كَانَ فِي الْأَجْبَابِ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لَا يَخْتَلِفُ، وَهَذَا بَيْعٌ غَيْرُ جَائِزٍ خَوْفَ التَّفَاضُلِ فِي الْمَاءِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَاةٍ مَعَهَا لَبَنٌ بِشَاةٍ مَعَهَا لَبَنٌ.
وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ فِي الْآبَارِ فَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَزْعُمُ أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ يَكُونُ مِلْكًا لِمَالِكِ الْبِئْرِ كَمَا يُمْلَكُ بِالْإِجَارَةِ فِي الْأَجْبَابِ.
فَعَلَى هَذَا يَمْنَعُ مِنْ بَيْعِ دَارٍ ذَاتِ بِئْرٍ فِيهَا مَاءٌ بِدَارٍ ذَاتِ بِئْرٍ فِيهَا مَاءٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ مِلْحًا فَيَجُوزُ، لِأَنَّ الْمَاءَ الْمِلْحَ غَيْرُ مَشْرُوبٍ وَلَا رِبَا فِيهِ.
وَذَهَبَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ ظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ إِلَى أَنَّ مَاءَ الْبِئْرِ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِالْأَخْذِ وَالْإِجَارَةِ، وَكَذَلِكَ مَاءُ الْعَيْنِ وَالنَّهْرِ وَإِنَّمَا يَكُونُ لِمَالِكِ الْبِئْرِ مَنْعُ غَيْرِهِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي بِئْرِهِ أَوْ نَهْرِهِ. فَإِنْ تَصَرَّفَ غَيْرُهُ وَأَجَازَ الْمَالِكُ كَانَ مَا أَجَازَهُ أَمْلَكَ بِهِ مِنْ صَاحِبِ الْبِئْرِ.
وَإِنَّمَا لَمْ يُمْلَكْ مَاءُ الْبِئْرِ إِلَّا بِالْإِجَارَةِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَنِ اشْتَرَى دَارًا ذَاتَ بِئْرٍ فَاسْتَعْمَلَ مَاءَهَا ثُمَّ رَدَّهَا بِعَيْبٍ لَمْ يَلْزَمْهُ لِلْمَاءِ غُرْمٌ، وَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَزِمَهُ غُرْمُهُ كَمَا يُغْرَمُ لَبَنُ الضَّرْعِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ مُسْتَأْجِرَ الدَّارِ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ مَاءَ الْبِئْرِ وَلَوْ كَانَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الدَّارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ. فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ أَنَّ الْمَاءَ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِالْإِجَارَةِ.
فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ بَيْعُ دَارٍ ذَاتِ بِئْرٍ فِيهَا مَاءٌ بِدَارٍ ذَاتِ بِئْرٍ فيها ماء.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكُلُّ مَا لَمْ يَجُزِ التَّفَاضُلُ فِيهِ فَالْقَسْمُ فِيهِ كَالْبَيْعِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقِسْمَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا بَيْعٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا إِفْرَازُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ.

(5/126)


وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِيهَا لِاخْتِلَافِ قَوْلِهِ فِي خَرْصِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثِمَارَ الْمَدِينَةِ وَأَعْنَابَ الطَّائِفِ فَهَلْ كَانَ لِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الزَّكَاةِ أَوْ لِإِفْرَازِ حُقُوقِ أَهْلِ السُّهْمَانِ؟ فَإِذَا قِيلَ خَرْصُهَا لِمَعْرِفَةِ قَدْرِ الزَّكَاةِ فِيهَا وَإِنَّمَا كَانَ إِفْرَازُ الْحَقِّ تَبَعًا لِمَعْرِفَتِهَا.
فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا تَجُوزُ قِسْمَةُ الثِّمَارِ خَرْصًا وَتَكُونُ الْقِسْمَةُ بَيْعًا.
وَإِذَا قِيلَ إِنَّمَا خَرْصُهَا لِإِفْرَازِ حَقِّ أَهْلِ السُّهْمَانِ مِنْهَا جَازَ قِسْمَةُ الثِّمَارِ خَرْصًا وَكَانَتِ الْقِسْمَةُ إِفْرَازَ حَقٍّ وَتَمْيِيزَ نَصِيبٍ.
فَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ بَيْعٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة وَأَشْهَرُ الْقَوْلَيْنِ فَوَجْهُهُ:
أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّارِ كُلُّ جُزْءٍ مِنْهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ. فَإِذَا اقْتَسَمَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا مُقَدَّمَ الدَّارِ وَأَخَذَ الْآخَرُ مُؤَخَّرَهَا صَارَ صَاحِبُ الْمُقَدَّمِ بَائِعًا لِحِصَّتِهِ مِنْ مُؤَخَّرِ الدَّارِ بِحِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْ مُقَدَّمِهَا، لِأَنَّهُ نَقْلُ مِلْكٍ بِمِلْكٍ وَهَذَا هُوَ الْبَيْعُ الْمَحْضُ.
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ الْقِسْمَةَ إِفْرَاز حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ فَوَجْهُهُ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْقِسْمَةَ لَمَّا خَالَفَتِ الْبَيْعَ فِي الِاسْمِ وَجَبَ أَنْ تُخَالِفَ الْبَيْعَ فِي الْحُكْمِ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَسَامِي دَلِيلٌ عَلَى اخْتِلَافِ الْمَعَانِي.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقِسْمَةَ لَمَّا دَخَلَهَا الْجَبْرُ وَالْإِكْرَاهُ، وَلَمْ يَصِحَّ الْبَيْعُ مَعَ الْجَبْرِ وَالْإِكْرَاهِ، دَلَّ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا وَعَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ حُكْمَيْهِمَا.
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ لَمَّا صَحَّ دُخُولُ الْقُرْعَةِ فِي تَعْيِينِ الْمِلْكِ بِالْقِسْمَةِ وَلَمْ يَصِحَّ دُخُولُ الْقُرْعَةِ فِي تَعْيِينِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ حَتَّى يَكُونَ مُعَيَّنًا بِالْعَقْدِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ مُخَالِفَةٌ لِلْبَيْعِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ وَضَمَانُ الدَّرْكِ، وَانْتَفَى عَنِ الْقِسْمَةِ اسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ وَضَمَانُ الدَّرْكِ دَلَّ عَلَى تَنَافِي حُكْمَيْهِمَا وَعَدَمِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا.

فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِذَا قِيلَ إن القسمة بيع فلا يخل حَالُ الْجِنْسِ الَّذِي يُرِيدُ الشَّرِيكَانِ قِسْمَتَهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا أَمْ لَا.
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الرِّبَا كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ وَالصُّفْرِ وَالنُّحَاسِ، جَازَ لَهُمَا أَنْ يَقْتَسِمَاهُ، كَيْفَ شَاءَا، وَزْنًا وَعَدَدًا وَجُزَافًا وَمُتَفَاضِلًا، لِأَنَّ التَّفَاضُلَ فِي بَيْعِ مَا لَا رِبَا فِيهِ جَائِزٌ، وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ.
وَإِنْ كَانَ مِمَّا فِيهِ الرِّبَا فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ جِنْسًا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كالحنطة. فلا يجوز أن يقتسماه إِلَّا كَيْلًا مُتَسَاوِيًا وَيَتَقَابَضَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ، وَلَا يَصْحُّ مِنْهُمَا اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُمَا خِيَارُ الْمَجْلِسِ، فَتَكُونُ صِحَّةُ هَذِهِ الْقِسْمَةِ مُعْتَبَرَةٌ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ.

(5/127)


أَحَدُهَا: أَنْ يَقْتَسِمَاهُ كَيْلًا لِأَنَّ الْحِنْطَةَ الْأَصْلُ فِيهَا الْكَيْلُ وَإِنِ اقْتَسَمَاهُ وَزْنًا لَمْ يَجُزْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ جِنْسًا أَصِلُهُ الْوَزْنُ، فَإِنِ اقْتَسَمَاهُ كَيْلًا لَمْ يَجُزْ.
وَإِذَا كَانَتِ الصُّبْرَةُ بينهما نصفين أخذ هذا قفيزا وأخذ صاحب الثلث قَفِيزًا.
وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا أَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ قَفِيزَيْنِ وَأَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثِ قَفِيزًا.
وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ حِصَّتِهِ مِنَ الصُّبْرَةِ ثُمَّ يَكْتَالُ الْآخَرُ مَا بَقِيَ لِجَوَازِ أَنْ يَتْلِفَ الْبَاقِي قَبْلَ أَنْ يَكْتَالَهُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ.
وَلِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَوَيَا فِي الْمِلْكِ فَوَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الْقَبْضِ.
فَإِنِ اتَّفَقَا عَلَى الْمُبْتَدِئِ مِنْهُمَا بِأَخْذِ الْقَفِيزِ الْأَوَّلِ وَإِلَّا أُقْرِعَ بَيْنَهُمَا فِي أَخْذِهِ، وَيَكُونُ اسْتِقْرَارُ مِلْكُ الْأَوَّلِ عَلَى مَا أَخَذَهُ مَوْقُوفًا عَلَى أَنْ يَأْخُذَ الْآخَرُ مِثْلَهُ.
فَلَوْ أَخَذَ الْأَوَّلُ قَفِيزًا فَهَلَكَتِ الصُّبْرَةُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الثَّانِي مِثْلَهُ لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُ الْأَوَّلِ عَلَى الْقَفِيزِ، وَكَانَ الثَّانِي شَرِيكًا لَهُ فِيهِ، لِيَمْلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقِسْمَةِ مِثْلَ مَا مَلَكَهُ صَاحِبُهُ، فَهَذَا أَحَدُ الشُّرُوطِ وَفُرُوعُهُ.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي قَبْضِ حُقُوقِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَفَاضُلٍ، وَإِذَا كَانَتِ الصُّبْرَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَزْدَادَ أَحَدُهُمَا عَلَى أَخْذِ النِّصْفِ شَيْئًا وَلَا أَنْ يَنْقُصَ مِنْهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ إِنِ ازْدَادَ أَوْ نَقَصَ صَارَ بَائِعًا لِلطَّعَامِ بِالطَّعَامِ مُتَفَاضِلًا وَذَلِكَ حَرَامٌ.
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا نِصْفَ الصُّبْرَةِ وَثَوْبًا أَوْ يَأْخُذَ الْآخَرُ نِصْفَهَا وَيُعْطِي ثَوْبًا لِحُصُولِ التَّفَاضُلِ فِيهِ.
فَإِنْ كَانَتِ الصُّبْرَةُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا اقْتَسَمَاهَا كَذَلِكَ، فَأَخَذَ صَاحِبُ الثلثين ثلثي الصبر مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزْدَادَ شَيْئًا أَوْ يَنْقُصَ.
فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا يُوقِعُ تُفَاضُلًا فِي بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ. قِيلَ: التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا مُعْتَبَرٌ بِقَدْرِ الْحَقِّ لَا بِالتَّمَاثُلِ فِي الْقَدْرِ.
فَإِذَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ حَقِّهِ فَقَدْ تَسَاوَيَا وَإِنْ كَانَتِ الْحُقُوقُ مُتَفَاضِلَةً بِخِلَافِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ وَكِيلُهُ قَابِضًا وَمُقْبِضًا، لِأَنَّ لَهُ حَقًّا وَعَلَيْهِ حَقًّا. فَلَهُ قَبْضُ حَقِّهِ وَعَلَيْهِ إِقْبَاضُ حَقِّ شَرِيكِهِ، فَإِنْ قَبَضَ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ إِقْبَاضِ الشَّرِيكِ حَقَّهُ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ أَقْبَضَ شَرِيكَهُ حَقَّهُ مِنْ غَيْرِ قَبْضِ حَقِّ نَفْسِهِ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهَا مُنَاقَلَةٌ بَيْنَ مُتَعَاوِضَيْنِ فَلَزِمَ فِيهَا الْقَبْضُ وَالْإِقْبَاضُ مَعًا.
فَلَوْ أَذِنَ أَحَدُهُمَا لِشَرِيكِهِ فِي الْقَبْضِ لَهُ وَالْإِقْبَاضِ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ ومقبضا عنها.

(5/128)


وَكَذَا لَوْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ لِزَيْدٍ فِي الْقَبْضِ لَهُ وَالْإِقْبَاضِ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَتَوَلَّى الْقَبْضَ وَالْإِقْبَاضَ اثْنَانِ.
وَالشَّرْطُ الرَّابِعُ: أَنْ يَتَقَابَضَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَقَبْضُهُمَا بِالْكَيْلِ وَحْدَهُ دُونَ التَّحْوِيلِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْبَيْعِ حَيْثُ كَانَ التَّحْوِيلُ فِي قَبْضِهِ مُعْتَبَرًا وَبَيْنَ الْقِسْمَةِ حَيْثُ لَمْ يَكُنِ التَّحْوِيلُ فِي قَبْضِهَا مُعْتَبَرًا. أَنَّ الْمَبِيعَ مَضْمُونٌ عَلَى بَائِعِهِ بِالْيَدِ فَاعْتُبِرَ فِي قَبْضِهِ التَّحْوِيلُ لِتَرْتَفِعَ الْيَدُ فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ، وَلَيْسَ فِي الْقِسْمَةِ ضَمَانٌ يَسْقُطُ بِالْقَبْضِ وَإِنَّمَا هِيَ مَوْضُوعَةٌ لِلْإِجَازَةِ وَبِالْكَيْلِ دُونَ التَّحْوِيلِ تَقَعُ الْإِجَازَةُ.
فَلَوْ تَقَابَضَا بَعْضَ الصُّبْرَةِ وَلَمْ يَتَقَابَضَا بَاقِيَهَا حَتَّى افْتَرَقَا صَحَّتِ الْقِسْمَةُ فِيمَا تَقَابَضَا قَوْلًا وَاحِدًا إِذَا صَارَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ حَقِّهِ مِثْلُ مَا صَارَ إِلَى صَاحِبِهِ، وَكَانَتِ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِيمَا بَقِيَ مِنَ الصُّبْرَةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْإِشَاعَةِ.
وَالشَّرْطُ الْخَامِسُ: وُقُوعُ الْقِسْمَةِ نَاجِزَةً مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ يُسْتَحَقُّ فِيهَا. لَا خِيَارِ الثَّلَاثِ بِالشَّرْطِ، وَلَا خِيَارِ الْمَجْلِسِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْبَيْعِ.
أَمَّا خِيَارُ الْمَجْلِسِ فَلِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ فِي الْبَيْعِ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَبْنِ مَعَ بَقَايَا أَحْكَامِ الْعَقْدِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْقِسْمَةُ وَإِنْ كَانَتْ بَيْعًا مِثْلَهُ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ وَالْغَبْنَ قَدِ انْتَفَيَا عَنْهَا وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ الْإِجَازَةِ لِلْقِسْمَةِ حُكْمٌ فِي الشَّرِكَةِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ فِيهَا. فَبِهَذَيْنِ سَقَطَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ.
فَأَمَّا خِيَارُ الثَّلَاثِ فَهُوَ أَسْقَطُ، لِأَنَّ خِيَارَ الْمَجْلِسِ أَثْبَتُ فِي الْعُقُودِ مِنْ خِيَارِ الثَّلَاثِ، فَإِذَا سَقَطَ خِيَارُ الْمَجْلِسِ فَأَوْلَى أَنْ يَسْقُطَ خِيَارُ الثَّلَاثِ.
فَهَذِهِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي قِسْمِ هَذَا الضَّرْبِ وَهُوَ مَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ. فَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّانِي وَهُوَ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَالرُّطَبِ، وَالْعِنَبِ، وَالْبُقُولِ، وَالْخُضَرِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقْتَسِمَهُ الشَّرِيكَانِ كَيْلًا وَلَا وَزْنًا وَلَا جُزَافًا عَلَى هَذَا الْقَوْلِ، لِتَحْرِيمِ بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ.
وَالْوَجْهُ فِي ارْتِفَاعِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِيهِ، صِنْفٌ مِنَ الْبُيُوعِ.
وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَا ذَلِكَ حِصَّتَيْنِ مُتَمَيِّزَتَيْنِ ثُمَّ يَبِيعُ أَحَدُهُمَا حَقَّهُ مِنْ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ عَلَى شَرِيكِهِ بِدِينَارٍ، وَيَبْتَاعُ مِنْهُ حَقَّهُ مِنَ الْحِصَّةِ الْأُخْرَى بِدِينَارٍ.
فَتَصِيرُ إِحْدَى الْحِصَّتَيْنِ بِكَمَالِهَا لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ، وَالْحِصَّةُ الْأُخْرَى بِكَمَالِهَا لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ وَعَلَيْهِ دِينَارٌ.
ثُمَّ يَتَقَابَضَانِ الدِّينَارَ بِالدِّينَارِ، فَيَكُونُ هَذَا بَيْعًا يَجْرِي عَلَيْهِ جَمِيعُ أَحْكَامِ الْبُيُوعِ المشاعة.

(5/129)


فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي الْقِسْمَةِ إِذَا قِيلَ إِنَّهَا بَيْعٌ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا قِيلَ إِنَّهَا إِفْرَازُ حَقٍّ وَتَمْيِيزُ نَصِيبٍ. جَازَ لَهُمَا أَنْ يَتَقَاسَمَا كُلَّ جِنْسٍ بَيْنَهُمَا مِمَّا فِيهِ الرِّبَا أَوْ لَا رِبَا فِيهِ كَيْفَ شَاءَا كَيْلًا وَوَزْنًا وَجُزَافًا.
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهُ كَالثِّيَابِ وَالْحَيَوَانِ فَلَا بُدَّ مِنِ اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى الْقِسْمَةِ حَتَّى يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَابِضًا وَمُقْبِضًا.
فَإِذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِأَخْذِ حِصَّتِهِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ مَا أَخَذَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ وَعَلَيْهِ ضَمَانُ حِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْهُ، وَمَا بَقِيَ أَيْضًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ لَكِنْ لَا يَضْمَنُ حِصَّةَ شَرِيكِهِ مِنْهُ.
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَمَاثَلُ أَجْزَاؤُهُ وَلَا يَخْتَلِفُ كَالْحُبُوبِ وَالْأَدْهَانِ جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِأَخْذِ حِصَّتِهِ عَنْ إِذْنِ شَرِيكِهِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ مَا يَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهُ يَحْتَاجُ إِلَى اجْتِهَادٍ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ وَنَظَرٍ فِي طَلَبِ الْأَحَظِّ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِالْقِسْمَةِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ الشَّرِيكُ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ مَا كَانَتْ أَجْزَاؤُهُ مُتَمَاثِلَةً لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ مُقَدَّرٌ لَا يَفْتَقِرُ إِلَى اجْتِهَادٍ فِي اسْتِيفَائِهِ وَلَا إِلَى نَظَرٍ فِي طَلَبِ الْأَحَظِّ فِي أَخْذِهِ، فَجَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِأَخْذِ حِصَّتِهِ عَنْ إِذْنِ شَرِيكِهِ، فَإِنِ اسْتَفْضَلَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ وَبَانَ وَظَهَرَ، رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا اسْتَفْضَلَ. وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ فِيمَا تَمَاثَلَتْ أَجْزَاؤُهُ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا بِالْقِسْمَةِ عَنْ إِذْنِ شَرِيكِهِ وَإِنْ جَازَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بَيْعٌ، وَالْبَيْعُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ أَحَدُهُمَا. وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِفْرَازُ حَقٍّ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ أَحَدُهُمَا.
فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَوِ انْفَرَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِأَخْذِ حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ إِذْنِ شَرِيكِهِ فَفِيهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ لِشَرِيكِهِ حَقَّ الْإِشَاعَةِ فَلَمْ يَسْقُطْ إِلَّا بِإِذْنٍ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَا أَجَازَهُ الشَّرِيكُ مُشَاعًا وَهُوَ ضَامِنٌ لِحِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ. لِأَنَّهُ لَوِ اسْتَأْذَنَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ فَجَازَ إِذَا اسْتَوْفَى قَدْرَ حَقِّهِ أَلَّا يَسْتَأْذِنَهُ. وَاللَّهُ أعلم بالصواب.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ تَمْرٍ بِرُطَبٍ بِحَالٍ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ " فَنَهَى عَنْهُ فَنَظَرَ إِلَى الْمُتَعَقِّبِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.

(5/130)


بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ لَا يَجُوزُ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وأبو يوسف ومحمد وَعَامَّةُ الْفُقَهَاءِ وَقَالَ أبو حنيفة يَجُوزُ.
اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ التَّمْرَ وَالرُّطَبَ لَيْسَ يَخْلُو حَالُهُمَا مِنْ أَنْ يَكُونَا جِنْسًا وَاحِدًا أَوْ جِنْسَيْنِ. فَإِنْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا جَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَسَاوِيًا حَالَ الْعَقْدِ.
وَإِنْ كَانَا جِنْسَيْنِ فَبَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ أَجْوَزُ.
قَالَ: وَلِأَنَّ الرُّطَبَ نَوْعٌ مِنَ التَّمْرِ يَنْقُصُ بِالْيُبْسِ وَطُولِ الْمُكْثِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مَنْ بَيْعِهِ بِتَمْرٍ مِنْ جِنْسِهِ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ يُبْسِهِ كَمَا جَازَ بَيْعُ التَّمْرِ الْحَدِيثِ بِالتَّمْرِ الْعَتِيقِ وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ يَنْقُصُ إِذَا صَارَ كَالْعَتِيقِ.
قَالَ: وَلِأَنَّ التَّمَاثُلَ فِي الْجِنْسِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الْعَقْدِ وَلَا اعْتِبَارَ بِحُدُوثِ التَّفَاضُلِ فِيمَا بَعْدُ كَالسِّمْسِمِ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالسِّمْسِمِ إِذَا تَمَاثَلَا وَإِنْ جَازَ بَعْدَ اسْتِخْرَاجِهِمَا دُهْنًا أَنْ يَتَفَاضَلَا.
قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ عِنْدَكُمْ بَيْعُ الْعَرَايَا وَهِيَ تَمْرٌ بِرُطَبٍ عَلَى رؤوس النَّخْلِ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمَاثُلِهِمَا كَيْلًا إِلَّا بِالْخَرْصِ كَانَ بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ الْمَقْدُورِ عَلَى تَمَاثُلِهِمَا بِالْكَيْلِ أَجْوَزُ وَهُوَ مِنَ الرِّبَا أَبْعَدُ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى مَا قُلْنَا رِوَايَةُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ كَيْلًا وَعَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ بِالزَّيْتِ كَيْلًا، وَعَنْ بَيْعِ الزَّرْعِ بِالْحِنْطَةِ كَيْلًا. وَهَذَا نَصٌّ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا خَصَّ بِالنَّهْيِ التَّمْرَ بِالرُّطَبِ إِذَا كَانَ عَلَى رؤوس النَّخْلِ لِأَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْمُزَابَنَةِ. قِيلَ: هَذَا تَأْوِيلٌ يَفْسَدُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ تَخْصِيصُ عُمُومٍ بِدَعْوَى.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ بالكيل وكيل ما على رؤوس النَّخْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ، فَعُلِمَ أَنَّ النَّهْيَ وَارِدٌ فِيمَا الْكَيْلُ فِيهِ مُمْكِنٌ.
وَرَوَى بَشِيرُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ إِلَّا أَنَّهُ رَخَّصَ فِي الْعَرَايَا أَنْ تُبَاعَ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا. فَإِنْ قِيلَ: فَيَحْصُلُ النَّهْيُ عَنْ بَيْعِ ذَلِكَ بِالْخَرْصِ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى الْعَرَايَا مِنْهَا بِالْخَرْصِ.
قِيلَ: النَّهْيُ إِذَا كَانَ عَامًّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ مَخْصُوصًا بِالِاسْتِثْنَاءِ إِذَا كان خاصا.

(5/131)


وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ زَيْدًا أَبَا عَيَّاشٍ أَخْبَرَهُ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِلَ عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ فَقَالَ: أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ قِيلَ نَعَمْ. قَالَ: فَلَا إذًا.
وَهَذَا أَظْهَرُ الْأَخْبَارِ الثَّلَاثَةِ دَلِيلًا وَتَعْلِيلًا.
اعْتَرَضُوا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: طَعْنُهُمْ فِي رَاوِيهِ فَقَالُوا لَمْ يَرِدْ إِلَّا مِنْ جِهَةِ زَيْدِ بْنِ عَيَّاشٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا أَنَّ زَيْدًا أَبَا عَيَّاشٍ ثِقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَقْبُولُ الْحَدِيثِ وَهُوَ مَوْلًى لِبَنِي مَخْزُومٍ. وَقَدْ رَوَى عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، وَعِمْرَانُ بْنُ أَبِي أَنَسٍ وَغَيْرُهُمَا مِنْ وُجُوهِ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ وَأَثْنَى عَلَيْهِ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ فِي حَدِيثِهِ.
الِاعْتِرَاضُ الثَّانِي: قَدْحُهُمْ فِي مَتْنِهِ، فَقَالُوا: لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْفَى عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّ الرُّطَبَ يَنْقُصُ إِذَا صَارَ تَمْرًا حَتَّى يَسْأَلَ عَنْهُ. وَمِثْلُ هَذَا لَا يَخْفَى عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا السُّؤَالَ وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الِاسْتِفْهَامِ فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ بِهِ الِاسْتِفْهَامَ، وَإِنَّمَا قُصِدَ بِهِ التَّقْرِيرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] . فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ اسْتِفْهَامًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا كَانَ تَقْرِيرًا عَلَى مُوسَى.
كَذَلِكَ هَذَا السُّؤَالُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى وَجْهِ التَّقْرِيرِ لِيُنَبِّهَ بِهِ عَلَى الْعِلَّةِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا يَنْقُصُ إِنْ يَبِسَ مِنْ سَائِرِ الْأَجْنَاسِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ. وَلَوْ أَجَابَ مِنْ غَيْرِ تَقْرِيرٍ لَكَانَ الْجَوَابُ مَقْصُورًا عَلَى السُّؤَالِ.
الِاعْتِرَاضُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْحَدِيثَ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِرْشَادِ وَالْمَشُورَةِ كَأَنْ كَانَ مُشْتَرِي الرُّطَبِ سَأَلَهُ مُسْتَشِيرًا فِي الشِّرَاءِ، فَقَالَ لَا لِأَنَّهُ يَنْقُصُ عَلَيْكَ إِذَا يَبِسَ.
وَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّ هَذَا تَأْوِيلٌ يُخَالِفُ الْعَادَةَ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. لِأَنَّ الْعُرْفَ فِي سُؤَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ عَنِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَخْتَصُّ بِعِلْمِهَا دُونَ الْمَتَاجِرِ الَّتِي قَدْ يُشَارِكُونَهُ فِي الْعِلْمِ بِهَا وَأَنَّ جَوَابَهُ عَنْهَا جَوَابٌ شَرْعِيٌّ وَنَهْيُهُ عَنْهَا نَهْيٌ حُكْمِيٌّ فَلَا جَائِزَ أَنْ يَعْدِلَ بِالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ عَنْ مَوْضُوعِهِمَا وَالْعُرْفِ الْقَائِمِ فِيهِمَا.

(5/132)


وَدَلِيلُنَا مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى: أَنَّهُ جِنْسٌ فِيهِ الرِّبَا فَلَمْ يَجُزْ بَيْعُ رَطْبِهِ بِيَابِسِهِ مُتَسَاوِيَيْنِ كَالْحِنْطَةِ بِالْعَجِينِ وَالْخُبْزِ بِالدَّقِيقِ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ لِأَنَّ طَحْنَ الدَّقِيقِ صَنْعَةٌ يُعَاوَضُ عَلَيْهَا فَصَارَ فِي خُبْزِ الدَّقِيقِ عِوَضٌ لَيْسَ فِي مُقَابَلَتِهِ شَيْءٌ، وَلَيْسَ جَفَافُ التَّمْرِ بِصَنْعَةٍ يُعَاوَضُ عَلَيْهَا فَجَازَ بَيْعُهُ بِالرُّطَبِ. قِيلَ: عَنْ هَذَا جَوَابَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا صَحِيحًا لَجَازَ عَلَى أَصْلِكُمُ التَّفَاضُلُ فِي بَيْعِ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ حَتَّى يُجِيزُوا بَيْعَ صَاعٍ مِنْ دَقِيقٍ بِصَاعَيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ لِيَكُونَ صَاعٌ بِصَاعٍ وَالصَّاعُ الْفَاضِلُ مِنَ الْحِنْطَةِ بِإِزَاءِ مَا فِي الدَّقِيقِ مِنَ الصَّنْعَةِ، فَلَمَّا لَمْ تَقُولُوا بِهَذَا دَلَّ عَلَى أَنَّكُمْ لَمْ تَجْعَلُوا لِلصَّنْعَةِ قِيمَةً.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الصَّنْعَةَ لَا تَقُومُ فِي عُقُودِ الرِّبَا وَلَا تَأْثِيرَ لِدُخُولِهَا فِيهِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ ابْتَاعَ حُلِيًّا مَصْبُوغًا بِذَهَبٍ مَسْبُوكٍ جَازَ إِذَا تَمَاثَلَا وَلَا يَكُونُ وُجُودُ الصَّنْعَةِ فِي أَحَدِهِمَا دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا، كَذَلِكَ الدَّقِيقُ بِالْحِنْطَةِ لَيْسَ الْمَنْعُ مِنَ الْعَقْدِ عَلَيْهِمَا لِأَجْلِ مَا فِي الدَّقِيقِ مِنَ الصَّنْعَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الْمَعْنَى ثَبَتَ أَنَّهُ لِمَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِلَافِهِمَا فِي حَالِ الِادِّخَارِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّهُ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ جِنْسًا أَوْ جِنْسَيْنِ وَإِنْ تَقَابَلُوا بِمِثْلِهِ فِي بَيْعِ الدَّقِيقِ بِالْحِنْطَةِ ثُمَّ يُقَالَ هُمَا وَإِنْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا فَقَدِ اخْتَلَفَا فِي حَالِ الِادِّخَارِ فَهُنَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ نُقْصَانَ الرُّطَبِ إِذَا صَارَ تَمْرًا كَنُقْصَانِ الْحَدِيثِ إِذَا صَارَ عَتِيقًا ثُمَّ لَمْ يَمْنَعْ حُدُوثُ النُّقْصَانِ مِنْ بَيْعِ الْحَدِيثِ بِالْعَتِيقِ، كَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ فِي بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْحَدِيثَ وَالْعَتِيقَ قَدْ بَلَغَا حَالَ الِادِّخَارِ فَجَازَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ وَإِنْ نَقَصَا فِيمَا بَعْدُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرُّطَبُ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ حَالَ الِادِّخَارِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ نُقْصَانَ الْحَدِيثِ إِذَا صَارَ عَتِيقًا يسير لَا يُضْبَطُ فَكَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ كَالْفَضْلِ بَيْنَ الْكَيْلَيْنِ وَالْوَزْنَيْنِ لَمَّا كَانَ يَسِيرًا لَا يُضْبَطُ عُفِيَ عَنْهُ، وَنُقْصَانُ الرُّطَبِ كَثِيرٌ فَلَمْ يُعْفَ عَنْهُ.
أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَ الطَّعَامِ الْحَدِيثِ بِالطَّعَامِ الْعَتِيقِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ الْحَدِيثُ أَنْدَى وَالْعَتِيقُ أَيْسَرُ لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا يَسِيرٌ فَعُفِيَ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ الطَّعَامُ مَبْلُولًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ بِالطَّعَامِ لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا كَثِيرٌ فَلَمْ يُعْفَ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ التَّمَاثُلَ مُعْتَبَرٌ حَالَ الْعَقْدِ وَإِنْ حَدَثَ التَّفَاضُلُ فيما بعد

(5/133)


كَالسِّمْسِمِ بِالسِّمْسِمِ. قُلْنَا: التَّمَاثُلُ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الِادِّخَارِ، وَالسِّمْسِمُ مُدَّخَرٌ فَصَحَّ التَّمَاثُلُ فِيهِ وَالرُّطَبُ غَيْرُ مُدَّخِرٍ فَلَمْ يَصِحَّ التَّمَاثُلُ فِيهِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْعَرَايَا فَهُوَ أَنَّ الْعَرَايَا وَإِنْ جَوَّزْنَاهَا لِتَخْصِيصِ الشَّرْعِ لَهَا فَلِأَنَّنَا اعْتَبَرْنَا الْمُمَاثَلَةَ حَالَ الِادِّخَارِ وَأَنْتُمْ أَسْقَطْتُمُ اعْتِبَارَ الْمُمَاثَلَةِ حَالَ الِادِّخَارِ، ثُمَّ الْمُمَاثَلَةُ مَأْخُوذَةٌ بِالشَّرْعِ فَوَرَدَ الشَّرْعُ فِي مُمَاثَلَةِ الْعَرَايَا بِالْخَرْصِ وَفِي غَيْرِهَا بِالْكَيْلِ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ بَيْعَ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ الزَّبِيبُ بِالْعِنَبِ لَا يَجُوزُ، وَالْفَوَاكِهُ كُلُّهَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ رَطْبِهَا بِيَابِسِهَا.
فَإِذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ جَازَ بَيْعُ يَابِسِ أَحَدِهِمَا بِرَطْبِ الْآخَرِ، وَرَطْبِ أَحَدِهِمَا بِرَطْبِ الْآخَرِ.
وَأَمَّا النَّوْعَانِ مِنَ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ كَالرُّطَبِ الْبَرْنِيِّ وَالرُّطَبِ الْمَعْقِلِيِّ فَحُكْمُهُمَا حُكْمُ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ. لَا يَجُوزُ بيع تمر أحدهما برطب الآخر.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ رُطَبٍ بِرُطَبٍ لِأَنَّهُمَا فِي الْمُتَعَقَّبِ مَجْهُولَا الْمِثْلِ تَمْرًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ. بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ مَالِكٌ وأبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ وَالْمُزَنِيُّ يَجُوزُ. اسْتِدْلَالًا بِأَنَّ الرُّطَبَ أَكْثَرُ مَنَافِعِهِ فَجَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ رُطَبًا وَإِنْ نَقَصَ بَعْدَ يُبْسِهِ كَاللَّبَنِ. وَلِأَنَّ نُقْصَانَ الرُّطَبِ إِذَا بِيعَ بِالرُّطَبِ مِنْ طَرَفَيْهِ جَمِيعًا فَتَسَاوَيَا فِي حَالِ كَوْنِهِمَا رَطْبًا وَتَسَاوَيَا بَعْدَ جَفَافِهِمَا تَمْرًا.
فَلَمَّا جَازَ بَيْعُهُمَا تَمْرًا لِتَسَاوِيهِمَا فِي الْجَفَافِ جَازَ بَيْعُ رَطْبِهِمَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي الرُّطُوبَةِ.
وَدَلِيلُنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا يَبِسَ؟ . قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَلَا إذًا ". فَجَعَلَ عِلَّةَ الْمَنْعِ حُدُوثَ النُّقْصَانِ فِيمَا بَعْدُ، وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ كَوُجُودِهِمَا فِي بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ.
وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ النَّقْصُ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ مِنْ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ مَانِعًا مِنَ الْبَيْعِ كَانَ النَّقْصُ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مَعًا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَانِعًا مِنَ الْبَيْعِ. وَلِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّمَاثُلِ كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ، فَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِالتَّفَاضُلِ فِي بَيْعِ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ لِنُقْصَانِ الرُّطَبِ إِذَا صَارَ تَمْرًا، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْجَهْلُ بِالتَّمَاثُلِ فِي بَيْعِ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ مَانِعًا مِنْ صِحَّةِ الْبَيْعِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نَقْصُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ نَقْصِ الْآخَرِ إِذَا صَارَ تَمْرًا وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَخْتَصُّ بِمَالِكٍ وَالْمُزَنِيِّ وَمَنْ وَافَقَنَا فِي الْمَنْعِ مِنْ بَيْعِ التَّمْرِ بالرطب.

(5/134)


فَأَمَّا أبو حنيفة فَالْكَلَامُ مَعَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَلَامِ فِي الَّتِي قَبْلِهَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِاللَّبَنِ فَهُوَ أَنَّ أَكْمَلَ مَنَافِعِ اللَّبَنِ يُوجَدُ إِذَا كَانَ لَبَنًا. فَجَازَ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ لِكَمَالِ مَنَافِعِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الرُّطَبُ لِأَنَّ كَمَالَ مَنَافِعِهِ يَكُونُ إِذَا يَبِسَ، إِذْ كَلُّ شَيْءٍ أُمْكِنَ أَنْ يُعْمَلَ مِنَ الرُّطَبِ أُمْكِنَ أَنْ يُعْمَلَ مِنَ التَّمْرِ، وَلَيْسَ كُلُّ شَيْءٍ أُمْكِنَ أَنْ يُعْمَلَ مِنَ اللَّبَنِ أُمْكِنَ أَنْ يُعْمَلَ مِنَ الْجُبْنِ وَالْمَصْلِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِأَنَّ نَقْصَهُمَا قَدِ اسْتَوَى مِنَ الطَّرَفَيْنِ فَهُوَ مَا ذَكَرْنَاهُ دَلِيلًا أَنَّ ذَلِكَ أَبْلَغُ فِي الْمَنْعِ. عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي النَّقْصِ إِذَا نَقَصَ الرُّطَبُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِهِ وَيَتَبَايَنُ بِتَبَايُنِ أَزْمَانِهِ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بَيْعَ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ لَا يَجُوزُ وَبَيْعَ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ لَا يَجُوزُ فَكَذَا كُلُّ مَا يَصِيرُ رُطَبًا وَتَمْرًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالرُّطَبِ وَلَا بِالتَّمْرِ كَالْبَلَحِ وَالْخَلَالِ، وَالْبُسْرِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِرُطَبٍ وَلَا بِتَمْرٍ، وَكَذَا كُلُّ مَا يُتَّخَذُ مِنَ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ كَالدِّبْسِ وَالنَّاطِقِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالتَّمْرِ وَالرُّطَبِ وَلَا بِمَا يَصِيرُ تَمْرًا وَرُطَبًا كَالْبَلَحِ وَالْخَلَالِ وَالْبُسْرِ. فَأَمَّا بَيْعُ الطَّلْعِ بِالرُّطَبِ وَالتَّمْرِ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ أَصْحَابُنَا عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: جَوَازُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْعَقِدْ فَشَابَهَ بَيْعَ الْقَصِيلِ بِالْحِنْطَةِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْقَصِيلِ بِالْحِنْطَةِ لِأَنَّ نَفْسَ الطَّلْعِ يَصِيرُ رُطَبًا وَتَمْرًا، وَلَيْسَ يَصِيرُ نَفْسُ الْقَصِيلِ حِنْطَةً وَإِنَّمَا تَنْعَقِدُ فِيهِ الْحِنْطَةُ.
وَالثَّالِثُ: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنْ طَلْعِ الْفُحُولُ جَازَ كَالْقَصِيلِ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ رُطَبًا.
وَإِنْ كَانَ مِنْ طَلْعِ الْإِنَاثِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ يَصِيرُ رُطَبًا.
وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ سُرَيْجٍ يُجِيزُ بَيْعَ الرُّطَبِ الَّذِي لَا يَصِيرُ تَمْرًا بِمِثْلِهِ لِأَنَّهَا حَالَ كَمَالِ مَنَافِعِهِ كَاللَّبَنِ. وَلَيْسَ هَذَا صَحِيحًا لِأَنَّ النَّادِرَ مِنَ الجنس يلحق بالغالب منه في الحكم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ قَمْحٌ مَبْلُولٌ بِقَمْحٍ جَافٍّ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ بِالْحِنْطَةِ الْيَابِسَةِ. لِأَنَّ الْمَبْلُولَةَ تَنْقُصُ إِذَا جَفَّتْ وَيَبِسَتْ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ.
وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ بِالْحِنْطَةِ الْمَبْلُولَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَخْتَلِفَا فِي النُّقْصَانِ إِذَا يَبِسَا كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الرُّطَبِ بِالرُّطَبِ.
وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَقْلُوَّةِ بِالْحِنْطَةِ النَّيَّةِ لِأَنَّ النَّارَ قَدْ أَخَذَتْ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَقْلُوَّةِ وَأَحْدَثَتْ فِيهَا انْتِفَاخًا يَمْنَعُ مِنَ الْمُمَاثَلَةِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ المغلي بالزيت النيئ.
وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ الْمَقْلُوَّةِ بِالْحِنْطَةِ الْمَقْلُوَّةِ لِأَنَّ مَا أَحْدَثَتْهُ النَّارُ فِيهِمَا قَدْ يَخْتَلِفُ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الزَّيْتِ الْمَغْلِيِّ بالزيت المغلي.

(5/135)


وَكَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ النَّشَا بِالْحِنْطَةِ وَلَا بِالنَّشَا لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمَعْنَى.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا كَانَ الْمُتَبَايِعَانِ الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ بِأَعْيَانِهِمَا إِذَا تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَا فِي مَعْنَى مَنْ لَمْ يُبَايِعْ دَلَّ عَلَى أَنَّ كُلَّ سِلْعَةٍ بَاعَهَا فَهَلَكَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَمِنْ مَالِ بَائِعِهَا لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهَا فَلَمَّا هَلَكَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَخْذُ ثَمَنِهَا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
إِذَا تَلِفَتِ السِّلْعَةُ الْمَبِيعَةُ فِي يَدِ بَائِعِهَا قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي لَهَا بَطَلَ الْبَيْعُ وَكَانَتْ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ وَاسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي اسْتِرْجَاعَ الثَّمَنَ سَوَاءٌ بَذَلَهَا الْبَائِعُ فَامْتَنَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ قَبْضِهَا، أَوْ طَلَبَهَا الْمُشْتَرِي فَامْتَنَعَ الْبَائِعُ مِنْ إِقْبَاضِهَا. هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِتَلَفِهَا وَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي بِثَمَنِهَا.
فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ طَلَبَهَا مِنَ الْبَائِعِ فَامْتَنَعَ عَلَيْهِ ضَمِنَهَا الْبَائِعُ بِالْقِيمَةِ كَالْغَاصِبِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمُشْتَرِي طَلَبَهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ كَالْمُودِعِ. وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
وَقَالَ النَّخَعِيُّ إِنْ كَانَ الْبَائِعُ قَدْ بَذَلَهَا لِلْمُشْتَرِي فَامْتَنَعَ مِنْ قَبْضِهَا لَمْ يَبْطُلِ الْبَيْعُ بِتَلَفِهَا وَكَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ وَإِنْ لَمْ يَبْذُلْهَا لِلْمُشْتَرِي حَتَّى هَلَكَتْ بَطَلَ الْبَيْعُ وَكَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْبَائِعِ وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ مَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ.
وَاسْتَدَلَّ مَنْ أَمْضَى الْبَيْعَ مَعَ تَلَفِهَا بِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ. فَجَعَلَ الْخَرَاجَ مِلْكًا لِمَنْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فَلَمَّا كَانَ الْخَرَاجُ لِلْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يُقْبَضْ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ.
وَقَدْ يَتَحَرَّرُ دَلِيلُ هَذَا الْخَبَرِ قِيَاسًا فَيُقَالُ: لِأَنَّهُ مَبِيعٌ مَلَكَ الْمُشْتَرِي خَرَاجَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ ضَمَانٌ كَالْمَقْبُوضِ.
وَلِأَنَّ ضَمَانَ الثَّمَنِ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الثَّمَنِ فَلَمَّا كَانَ الثَّمَنُ الْمَبِيعُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ الْمَبِيعِ مَضْمُونًا عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْقَبْضَ مُوجِبًا لِتَمَامِ الْعَقْدِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] فَجَعَلَ الْمَقْبُوضَ مِمَّا قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْمِلْكُ فَلَمْ يُوجِبِ اسْتِرْجَاعَهُ وَمَا لَيْسَ بِمَقْبُوضٍ مِمَّا لَمْ يَسْتَقِرَّ عَلَيْهِ مِلْكٌ فَأَوْجَبَ رَدَّهُ، وَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّ عُقُودَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا تَقَابَضُوهَا، مُمْضَاةٌ، وَإِنْ عُقِدَتْ فَاسِدَةً.
فَلَمَّا كَانَ الْقَبْضُ مُوجِبًا لِاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ، وَعَدَمُ الْقَبْضِ مَانِعًا مِنِ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ. اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مَا تَلِفَ قَبْلَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ وَيَبْطُلُ عَقْدَهُ.

(5/136)


وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنْهِ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ، وَرِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا لَمْ يُقْبَضْ غَيْرُ مَضْمُونٍ فَمَنَعَ مِنْ طَلَبِ الرِّبْحِ فِيهِ.
وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ مَنَعَ اللَّهُ الثَّمَرَةَ فَبِمَ يَأْخُذُ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ.
فَمَنَعَ مِنَ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ لِتَلَفِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَنَبَّهَ عَلَى حُكْمِ كُلِّ مَبِيعٍ تَلِفَ قَبْلَ الْقَبْضِ.
وَالدَّلِيلُ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى تَعْلِيلُ الشَّافِعِيِّ وَتَحْرِيرِهِ.
أَنَّهُ قَبْضٌ مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدٍ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَوَاتُهُ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ كَالصَّرْفِ.
وَلِأَنَّهُ مَبِيعٌ تَلِفَ قبل القبض فوجب أن يكون مسقط لِلضَّمَانِ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ كَالْقَفِيزِ الْمَبِيعِ مِنَ الصُّبْرَةِ إِذَا تَلِفَ جَمِيعُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا دَلِيلَ فِيهِ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْخَرَاجَ لِمَنْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَهُمْ عَكَسُوا الْأَمْرَ فَجَعَلُوا الضَّمَانَ عَلَى مَنْ لَهُ الْخَرَاجُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ بِالْقِيمَةِ وَالْخَرَاجُ لِلْمُشْتَرِي. فَلَمَّا جَازَ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ بِالْقِيمَةِ وَإِنْ كَانَ الْخَرَاجُ لِلْمُشْتَرِي فلم لا جاز أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ وَيَكُونُ الْخَرَاجُ لِلْمُشْتَرِي.
وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْمَقْبُوضِ فَالْمَعْنَى فِي الْمَقْبُوضِ اسْتِقْرَارُ مِلْكِهِ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ غَيْرُ الْمَقْبُوضِ.
وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِجَمْعِهِمْ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ فَمُنْتَقِضٌ بِالْقَفِيزِ مِنَ الصُّبْرَةِ، ثُمَّ يُقَالُ: هُمَا سَوَاءٌ فِي أَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي عَلَى الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ قَبْلَ الْقَبْضِ وَسَتَأْتِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَاللَّهُ أعلم.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا اشْتَرَى بِالدَّنَانِيرِ دَرَاهِمَ بِأَعْيَانِهَا فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْبَيْعُ ".

(5/137)


قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ. فَإِذَا اشْتَرَى دَنَانِيرَ بِدَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ أَوْ ثَوْبًا بِدَنَانِيرَ مُعَيَّنَةٍ تَعَيَّنَتْ بِالْعَقْدِ.
وَفَائِدَةُ التَّعْيِينِ، أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ غَيْرَ الدَّرَاهِمَ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ وَمَتَى تَلِفَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ لَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ وَيَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ مِثْلَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي وَقَعَ عَلَيْهَا الْعَقْدُ. فَإِنْ تَلِفَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ لَمْ يَبْطُلِ الْعَقْدُ احْتِجَاجًا بِقَوْلِ الْفَرَّاءِ إِنَّ لِلثَّمَنِ شَرْطَيْنِ: أَنْ تَصْحَبَهُ الْبَاءُ وَأَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ كَقَوْلِهِ: بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِدِينَارٍ فَلَمَّا كَانَ اقْتِرَانُ الْبَاءِ شَرْطًا لَازِمًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ شَرْطًا لَازِمًا فَهَذَا مِنْ طَرِيقِ اللُّغَةِ وَمُقْتَضَى اللِّسَانِ.
فَأَمَّا مِنْ طريق الشرح فَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالدنَانِيرِ وَآخُذُ الدَّرَاهِمَ وَأَبِيعُ بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ الدَّنَانِيرَ فَقَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ تَأْخُذَهَا بِسِعْرِ يَوْمِهَا مَا لَمْ تَتَفَرَّقَا وَبَيْنَكُمَا شَيْءٌ.
فَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَوْ تَعَيَّنَتْ بِالْعَقْدِ لَمَا جَازَ أَخْذُ بَدَلِهَا قَبْلَ الْقَبْضِ فلما جاز أخذ به لها دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ.
وَلِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَمَّا جَازَ إِطْلَاقُ ذِكْرِهَا فِي الْعَقْدِ لَمْ تَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ، كَمَا أَنَّ غَيْرَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مِنَ السِّلَعِ وَالْعُرُوضِ لَمَّا لَمْ يَجُزْ إِطْلَاقُ ذِكْرِهَا فِي الْعَقْدِ تَعَيَّنَتْ بِالْعَقْدِ، وَلِأَنَّ تَعْيِينَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ غَيْرُ مُفِيدٍ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ الْمُعَيَّنَةَ كَغَيْرِهَا مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ وإن تَكُنْ مُعَيَّنَةً فَلَمَّا سَقَطَتْ فَائِدَةُ التَّعْيِينِ وَجَبَ أن يسقط حكمه كما أن تعيين الْمِيزَانِ وَالْوَزَّانِ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مُفِيدٍ لَمْ يتعينا وجاز أن يوفيه الثمن بغير ذلك الميزان والوزان.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ:
لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ وَلَا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إِلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ عَيْنًا بِعَيْنٍ.
فَوَصَفَ الذَّهَبَ وَالْوَرِقَ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ فَدَلَّ عَلَى تَعْيِينِهِمَا فِيهِ.
وَلِأَنَّ كُلَّ مَا تَعَيَّنَ بِالْقَبْضِ جَازَ أَنْ يَتَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ كَالثِّيَابِ.
وَلِأَنَّ كُلَّ مَا تَعَيَّنَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْأَثْمَانِ وَجَبَ أَنْ تَتَعَيَّنَ فِيهِ الْأَثْمَانُ كَالْقَبْضِ. وَلِأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ تُعَيَّنُ بِهِ غَيْرُ الْأَثْمَانِ تُعَيَّنُ بِهِ الْأَثْمَانُ كَالْوَدِيعَةِ وَالْغَصْبِ. وَلِأَنَّ كُلَّ مَا تَعَيَّنَ مَصْنُوعُهُ بِالْعَقْدِ وَجَبَ أَنْ يَتَعَيَّنَ بِهِ غَيْرُ مَصْنُوعِهِ كَالصُّفْرِ.

(5/138)


وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ بِالْعَقْدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ اشْتِرَاطُ التَّعْيِينِ فِيهِ مُبْطِلًا لِذَلِكَ الْعَقْدِ كَالسَّلَمِ. فَلَمَّا كَانَ اشْتِرَاطُ التَّعْيِينِ فِي الْأَثْمَانِ لَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ. وَلِأَنَّ الْعَقْدَ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَمَنٍ وَمُثَمَّنٍ فَلَمَّا كَانَ الثَّمَنُ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ: مُعَيَّنٌ وَهُوَ الْبَيْعُ، وَغَيْرُ مُعَيَّنٍ وَهُوَ السَّلَمُ، اقْتَضَى أن يكون الثمن أيضا بتنوع نَوْعَيْنِ: مُعَيَّنٌ بِالْإِشَارَةِ وَغَيْرُ مُعَيَّنٍ بِالْإِطْلَاقِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ احْتِجَاجِهِ بِقَوْلِ الْفَرَّاءِ فَهُوَ أَنَّ الثَّمَنَ قَدْ يَكُونُ تَارَةً ذَهَبًا وَوَرِقًا وَيَكُونُ تَارَةً عُرُوضًا وَسِلَعًا. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ فِي الْعُرُوضِ وَالسِّلَعِ مُبْطِلًا لِتَعْيِينِهَا جَازَ أَلَّا يَكُونَ قَوْلُهُ فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ مُبْطِلًا لِتَعْيِينِهَا. عَلَى أَنَّ التَّعْيِينَ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ فِيهِ حُجَّةً.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عن استدلاله بحديث ابن عمر فهو مَحْمُولٌ عَلَى الْأَثْمَانِ الْمُطْلَقَةِ اعْتِبَارًا بِغَالِبِ أَحْوَالِ التُّجَّارِ فِي بِيَاعَاتِهِمْ، وَعُرْفِهِمُ الْجَارِي فِي تِجَارَاتِهِمْ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ مَا جَازَ إِطْلَاقُ ذِكْرِهِ لَمْ يَتَعَيَّنْ فَهُوَ أَنَّ إِطْلَاقَ ذِكْرِهِ إِنَّمَا جَازَ لِأَنَّ فِيهِ نَقْدًا غَالِبًا وَعُرْفًا مُعْتَبَرًا، وَلَوْ كَانَ فِي جِنْسٍ مِنَ الْعُرُوضِ نَوْعٌ غَالِبٌ وَعُرْفٌ مُعْتَبَرٌ جَازَ إِطْلَاقُ ذِكْرِهِ كَالنُّقُودِ، وَلَوْ كَانَتِ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً لَمْ يَجُزْ إِطْلَاقُ ذِكْرِهَا كَالْعُرُوضِ. لِأَنَّ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا وَيَصِيرُ مَعْلُومًا بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: إِمَّا بِالْإِشَارَةِ، وَإِمَّا بِالصِّفَةِ، وَإِمَّا بِالْعُرْفِ. سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ ثَمَنًا أَوْ مُثَمَّنًا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِ بِأَنَّ تَعْيِينَ النُّقُودِ غَيْرُ مُفِيدٍ فَجَرَى مَجْرَى تَعْيِينِ الْمِيزَانِ وَالْوَزَّانِ اللَّذَيْنِ لَمَّا لَمْ يُفِيدَا لَمْ يَتَعَيَّنَا بِالْعَقْدِ. فَهُوَ أَنَّ فِي تَعْيِينِ النُّقُودِ لِلنَّاسِ أَغْرَاضًا صَحِيحَةً، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْفَائِدَةِ فِيهَا يَمْنَعُ مِنْ تَعْيِينِهَا بِالْعَقْدِ لَجَازَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ تَعْيِينِهَا بِالْقَبْضِ أَوْ فِي الْغَصْبِ.
فَأَمَّا الْمِيزَانُ وَالْوَزَّانُ فَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ مِقْدَارَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ لَمْ يَتَعَيَّنْ بِخِلَافِ النقود المملوكة بالعقد.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فَإِنْ وَجَدَ بِالدَّنَانِيرِ أَوِ الدَّرَاهِمِ عَيْبًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ حَبَسَ الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ سَوَاءٌ قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ حَبَسَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ نَقَضَ الْبَيْعَ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الصَّرْفَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُعَيَّنٌ وَفِي الذِّمَّةِ. فَأَمَّا مَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ فَيَأْتِي مِنْ بَعْدُ. وَأَمَّا الْمُعَيَّنُ فَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ قَدْ بِعْتُكَ هَذِهِ الْعَشْرَةَ دَنَانِيرَ بِعَيْنِهَا بِهَذِهِ الْمِائَةِ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا. فَيَلْزَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَفْعَ مَا تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ.
فَلَوْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الدَّنَانِيرَ بِعَيْنِهَا فَوَجَدَهَا مَعِيبَةً لَمْ يَخْلُ حَالُ عَيْبِهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:

(5/139)


إِمَّا أَنْ يُخْرِجَهَا الْعَيْبُ مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ أَوْ لَا يُخْرِجُهَا.
فَإِنْ أَخْرَجَهَا مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ كَأَنْ وَجَدَ الدَّنَانِيرَ نُحَاسًا أَوْ وَجَدَهَا فِضَّةً مَطْلِيَّةً فَالصَّرْفُ فِي الْمَعِيبِ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ اشْتَرَى غَيْرَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الْعَقْدُ، كَمَنِ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ قُطْنٌ فَكَانَ كَتَّانًا. وَإِذَا كَانَ الصَّرْفُ فِي الْمَعِيبِ بَاطِلًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمَعِيبِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ جَمِيعَ الدَّنَانِيرِ أَوْ بَعْضَهَا. فَإِنْ كَانَ جَمِيعَهَا فَالصَّرْفُ بَاطِلٌ وَيَسْتَرْجِعُ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا مَعِيبًا كَانَ الصَّرْفُ فِي الْمَعِيبِ بَاطِلًا. وَهَلْ يَبْطُلُ فِي الْبَاقِي أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.
وَالثَّانِي: جَائِزٌ إِذَا قِيلَ بِجَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بَيْنَ فَسْخِ الْعَقْدِ فِيهِ وَاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ وَبَيْنَ إِمْضَاءِ الْبَيْعِ فِيهِ وَالْإِقَامَةِ عَلَى الْجَيِّدِ مِنْهُ. وَبِمَاذَا يُقَيَّمُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ.
وَالثَّانِي: بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِلَّا فُسِخَ. وَكَذَا لَوْ كَانَ الْعَيْبُ فِي الدَّرَاهِمِ دون الدنانير كان الجواب واحد وَالْخِيَارُ لِلْبَائِعِ.
وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ جِنْسًا وَاحِدًا كدراهم بدارهم أَوْ دَنَانِيرَ بِدَنَانِيرَ ثُمَّ وُجِدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا يُخْرِجُهَا مِنَ الْجِنْسِ وَكَانَ الْعَيْبُ فِي بَعْضِهَا وَقِيلَ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ فِي الْجَيِّدِ الْبَاقِي مِنْهَا كَانَ لَهُ إِمْسَاكُهُ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ يَحْرُمُ فِيهِ التَّفَاضُلُ، فَلَوْ قِيلَ بِأَخْذِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ حَصَلَ التَّحْرِيمُ بِالتَّفَاضُلِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْجِنْسَانِ فِي جَوَازِ التَّفَاضُلِ.
فَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْعَيْبِ إِذَا كَانَ يُخْرِجُهَا مِنَ الْجِنْسِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْعَيْبُ لَا يُخْرِجُهَا مِنَ الْجِنْسِ كَأَنَّهُ اشْتَرَى دَنَانِيرَ عَلَى أَنَّهَا مَغْرِبِيَّةٌ فَكَانَتْ مَشْرِقِيَّةً أَوْ عَلَى أَنَّهَا ذَهَبٌ أَحْمَرُ فَكَانَتْ ذَهَبًا أَصْفَرَ فَالصَّرْفُ لَا يَبْطُلُ بِهَذَا الْعَيْبِ لِوُجُودِ الْعَيْنِ وَحُصُولُ الْجِنْسِ كَمَنِ اشْتَرَى ثوبا على أنه مروي فوجده هروي.
وَلَا يَجُوزُ لَهُ إِبْدَالُ الْمَعِيبِ لِأَنَّ الْبَدَلَ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ نُظِرَ إِلَى الْعَيْبِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي جَمِيعِ الدَّنَانِيرِ أَوْ بَعْضِهَا. فَإِنْ كَانَ فِي جَمِيعِهَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي فَسْخِ الصَّرْفِ وَاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ أَوِ الْمَقَامُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ أَرْشِ الْعَيْبِ. لِأَنَّ الْأَرْشَ لَا يَسْتَحِقُّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الرَّدِّ.
وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فِي بَعْضِهَا، فَإِنْ رَضِيَ بِالْعَيْبِ وَأَمْسَكَ الْجَمِيعَ بِكُلِّ الثَّمَنِ كَانَ ذَلِكَ

(5/140)


لَهُ. فَإِنْ فَسَخَ الصَّرْفَ فِي الْجَمِيعِ وَاسْتَرْجَعَ جَمِيعَ الثَّمَنِ كَانَ لَهُ وَإِنْ أَرَادَ فَسْخَ الصَّرْفِ فِي الْمَعِيبِ وَإِمْسَاكَهُ فِي الْجَيِّدِ السَّلِيمِ كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يُمْسِكَ الْجَمِيعَ أَوْ يَفْسَخَ الْجَمِيعَ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَجُوزُ إِذَا قِيلَ إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ يَجُوزُ.
فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُخَيَّرًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ:
إِمَّا أَنْ يَفْسَخَ فِي الْكُلِّ، أَوْ يُقِيمَ عَلَى الْكُلِّ، أَوْ يَفْسَخَ فِي الْمَعِيبِ وَيُقِيمَ عَلَى السَّلِيمِ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا حَيْثُ أَخَذَهُ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَيْبُ بَعْضِهَا يُخْرِجُهَا مِنَ الْجِنْسِ فَيَكُونُ فِيمَا يَأْخُذُهَا بِهِ قَوْلَانِ.
قِيلَ: الفرق بينهما أن ها هنا قَدْ كَانَ لَهُ الْمَقَامُ عَلَى الْكُلِّ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِنَّمَا فَسَخَ فِي الْبَعْضِ الْمَعِيبِ وَأَقَامَ عَلَى الْبَعْضِ السَّلِيمِ طَلَبًا لِلْحَظِّ فَلَوْ قِيلَ يَأْخُذُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، كَانَ فَسْخُ الْمَعِيبِ سَفَهًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ الْمَعِيبُ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ بَطَلَ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِكُلِّ الثَّمَنِ فَجَازَ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ أَنْ يَأْخُذَ السَّلِيمَ بِجَمِيعِ الثمن.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِذَا تَبَايَعَا ذَلِكَ بِغَيْرِ عَيْنِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَتَقَابَضَا ثُمَّ وَجَدَ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ بِبَعْضِ الدَّرَاهِمِ عَيْبًا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا أَبْدَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ الْمَعِيبَ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ ففيه أقاويل أحدها أنه كالجواب في العين والثاني أنه يبدل المعيب لأنه بيع صفة أجازها المسلمون إذا قبضت قبل التفرق ويشبه أن يكون من حجته كما لو اشترى سلما بصفة ثم قبضه فأصاب به عيبا أخذ صاحبه بمثله (قال) وتنوع الصفات غير تنوع الأعيان ومن أجاز بعض الصفقة رد المعيب من الدراهم بحصتها من الدينار (قال المزني) إذا كان بيع العين والصفات من الدنانير بالدراهم فيما يجوز بالقبض قبل الافتراق سواء وفيما يفسد به البيع من الافتراق قبل القبض سواء لزم أن يكونا في حكم المعيب بعد القبض سواء وقد قال يرد الدراهم بقدر حصتها من الدينار ".
قال المارودي: قَدْ مَضَى الْكَلَامُ فِي الصَّرْفِ الْمُعَيَّنِ.
فَأَمَّا الْمَضْمُونُ فِي الذِّمَّةِ فَصُورَتُهُ: أَنْ يَشْتَرِيَ رَجُلٌ مِنْ صَيْرَفِيٍّ مِائَةَ دِينَارٍ قَاسَانِيَّةً مَوْصُوفَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَاضِرَةٍ أَوْ مَوْصُوفَةٍ ثُمَّ يَقْبِضُ الدَّنَانِيرَ فَيَجِدُهَا مَعِيبَةً فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يجد بها المعيب قبل التفرق فله إبدال العيب لَا يَخْتَلِفُ. سَوَاءٌ كَانَ

(5/141)


الْعَيْبُ يُخْرِجُهَا مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ فِي جَمِيعِهَا أَوْ فِي بَعْضِهَا لِأَنَّ الْقَبْضَ مَا تَضَمَّنَهُ الْعَقْدُ مُسْتَحَقٌّ بِالشَّرْطِ. وَاجْتِمَاعُهُمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ مَانِعًا مِنْ إِبْرَامِ الْعَقْدِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَجِدَ بِهَا الْعَيْبَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الْعَيْبِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ أَوْ لَا يُخْرِجَهَا. فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ يُخْرِجُهَا مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ بِأَنْ كَانَتْ تَفَرُّقًا فِي الصَّرْفِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ فَإِنْ كَانَ الْكُلُّ مَعِيبًا اسْتَرْجَعَ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ، وَإِنْ كَانَ الْبَعْضُ مَعِيبًا وَالْبَاقِي سَلِيمًا بَطَلَ الصَّرْفُ فِي الْمَعِيبِ وَصَحَّ الصَّرْفُ فِي السَّلِيمِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ.
وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ يُخْرِجُهُ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ. وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. لِأَنَّ الْفَسَادَ طَرَأَ عَلَى الصَّفْقَةِ بَعْدَ صِحَّتِهَا وَإِنَّمَا الْقَوْلَانِ فِيمَا إِذَا كَانَ الْفَسَادُ مُقْتَرِنًا بِهَا.
فَإِنْ قِيلَ بِتَخْرِيجِ أَبِي إِسْحَاقَ إِنَّ الصَّرْفَ فِي الْكُلِّ بَاطِلٌ. اسْتَرْجَعَ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ الثَّمَنِ.
وَإِنْ قِيلَ بِجَوَازِهِ فِي السَّلِيمِ عَلَى الصَّحِيحِ مِنَ الْمَذْهَبِ. كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ لِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الصَّرْفَ فِي السَّلِيمِ لِبُطْلَانِهِ فِي الْمَعِيبِ وَيَسْتَرْجِعَ جَمِيعَ الثَّمَنِ وَبَيْنَ أَنْ يُمْضِيَهُ فِي السَّلِيمِ بِحِصَّتِهِ من الثمن على الصحيح من الذهب. وَكَانَ أَبُو إِسْحَاقَ يُخَرِّجُ قَوْلًا ثَانِيًا إِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِلَّا فُسِخَ عَلَى مَعْنَى قَوْلِهِ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فَهَذَا إِذَا كَانَ عَيْبُهَا يُخْرِجُهَا مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا كَانَ عَيْبُهَا لَا يُخْرِجُهَا مِنْ جِنْسِ الذَّهَبِ فَهَلْ لَهُ إِبْدَالُ الْمَعِيبِ أَمْ لَا. عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُبْدِلَ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ. لِأَنَّ الصَّرْفَ يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ كَمَا يَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدِلَ ما تعين بالقبض لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدِلَ مَا تَعَيَّنَ بِالْعَقْدِ.
وَلِأَنَّهُ لَوْ أَبْدَلَ بَعْدَ التَّفَرُّقِ لَبَطَلَ الْقَبْضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَإِذَا لَمْ يَتِمَّ الْقَبْضُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ بَطَلَ الصَّرْفُ فَكَانَ فِي إِثْبَاتِ الْبَدَلِ إِبْطَالُ الْعَقْدِ، فَمَنَعَ مِنَ الْبَدَلِ لِيَصِحَّ الْعَقْدُ.
وَلِمَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الصَّرْفُ الْمُعَيَّنُ وَمَا فِي الذِّمَّةِ يَسْتَوِيَانِ فِي الْفَسَادِ بِالتَّفَرُّقِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَيَسْتَوِيَانِ فِي الصِّحَّةِ بِالْقَبْضِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَا فِي حُكْمِ الْمَعِيبِ.
فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدَلَ مَعِيبُ مَا كَانَ مَعِيبًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُبْدَلَ مَعِيبُ مَا كَانَ فِي الذِّمَّةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: لَهُ أَنْ يُبْدِلَ. وَهُوَ قَوْلُ أبي حنيفة.
لِأَنَّ مَا جَازَ إِبْدَالُهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ جَازَ إِبْدَالُهُ مَعَ صِحَّةِ الْعَقْدِ بَعْدَ التَّفَرُّقِ كَالسَّلَمِ وَكَمَا أَنَّ مَا

(5/142)


لَمْ يَجُزْ إِبْدَالُهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ مِنَ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَجُزْ إِبْدَالُهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ. وَبِهَذَا يَنْتَقِضُ مَا ذَكَرَهُ الْمُزَنِيُّ. وَلِأَنَّهُ مَضْمُونٌ فِي الذِّمَّةِ فَجَازَ إِبْدَالُ مَعِيبِهِ مَعَ صِحَّةِ عَقْدِهِ اعْتِبَارًا بِمَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ.
فَإِنْ قِيلَ لَهُ الْبَدَلُ، أُبْدِلَ الْمَعِيبُ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي الْفَسْخِ.
وَإِذَا قِيلَ لَيْسَ لَهُ الْبَدَلُ، كَانَ حُكْمُهُ كَالْمُعَيَّنِ إِذَا كَانَ عَيْبُهُ مِنْ جِنْسِهِ فِي اعْتِبَارِ حَالِ الْمَعِيبِ.
فَإِنْ كَانَ جَمِيعُ الدَّنَانِيرِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ إِمْضَاءِ الْعَقْدِ فِي جَمِيعِهَا مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ وَالْفَسْخِ.
وَإِنْ كَانَ الْمَعِيبُ بَعْضَ الدَّنَانِيرِ فَإِنْ أَمْضَى فِي الْكُلِّ جَازَ. وَإِنْ فَسَخَ فِي الْكُلِّ جَازَ وَإِنْ أَمْضَى فِي السَّلِيمِ وَفَسَخَ فِي الْمَعِيبِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَوْ رَاطَلَ مِائَةَ دِينَارٍ عِتْقَ مَرْوَانِيَّةٍ وَمَائةَ دِينَارٍ مِنْ ضَرْبٍ مَكْرُوهٍ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ مِنْ ضَرْبٍ وَسَطٍ خَيْرٍ مِنَ الْمَكْرُوهِ وَدُونَ الْمَرْوَانِيَّةِ لَمْ يَجُزْ لِأَنِّي لَمْ أَرَ بَيْنَ أَحَدٍ مِمَّنْ لَقِيتُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ اخْتِلَافًا فِي أَنَّ مَا جَمَعَتْهُ الصَّفْقَةُ مِنْ عَبْدٍ وَدَارٍ أَنَّ الثَّمَنَ مَقْسُومٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ قِيمَتِهِ مِنَ الثَّمَنِ فَكَانَ قِيمَةُ الْجَيِّدِ مِنَ الذَّهَبِ أَكْثَرَ مِنَ الرَّدِيءِ وَالْوَسَطُ أَقَلَّ مِنَ الْجَيِّدِ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ إِلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ لَا يَجُوزُ بَيْعُ مِائَةِ دِينَارٍ مِنْ جَيِّدِ الدَّنَانِيرِ وَمِائَةِ دِينَارٍ مِنْ رَدِيءِ الدَّنَانِيرِ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ مِنْ وَسَطِ الدَّنَانِيرِ الَّتِي هِيَ دُونَ الْجَيِّدِ وَفَوْقَ الرَّدِيءِ.
وَكَذَا لَا يَجُوزُ ذَهَبٌ جَيِّدٌ وَذَهَبٌ رَدِيءٌ بِذَهَبٍ جَيِّدٍ وَلَا بِذَهَبٍ رَدِيءٍ وَكَذَا الْفِضَّةُ مِثْلُهَا.
وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الدَّرَاهِمِ الصِّحَاحِ وَالدَّرَاهِمِ الْغُلَّةِ بِالدَّرَاهِمِ الصِّحَاحِ وَلَا بِالْغُلَّةِ.
وَقَالَ أبو حنيفة بِجَوَازِ هَذَا كُلِّهِ. احْتِجَاجًا بِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن بيع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل. وَالْمُمَاثَلَةُ فِي هَذَا مَوْجُودَةٌ.
قَالَ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُ الذَّهَبِ الْجَيِّدِ بِالذَّهَبِ الرَّدِيءِ لِتَمَاثُلِهَا فِي الْوَزْنِ مَعَ تَفَاضُلِهِمَا فِي الْقِيمَةِ فَأَوْلَى أَنْ يَجُوزَ بَيْعُ الذَّهَبِ الْجَيِّدِ وَالذَّهَبِ الرَّدِيءِ بِالذَّهَبِ الْوَسَطِ لِتَمَاثُلِهِمَا فِي الْوَزْنِ وَإِنْ جَازَ أن يتفاضلان فِي الْقِيمَةِ.
قَالَ: وَلِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ مُعْتَبَرَةٌ وَلَيْسَ يَخْلُو أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةِ أَوْ مِنْ حَيْثُ الْوَزْنِ. فَلَمَّا بَطَلَ أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً مِنْ جِهَةِ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ دِينَارًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ جَازَ أَنْ يَتَسَاوَىَ الْوَزْنُ مَعَ تَفَاضُلِ الْقِيمَةِ، وَلَوْ بَاعَهُ دِينَارًا قِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا بِدِينَارَيْنِ قِيمَتُهُمَا عِشْرُونَ دِرْهَمًا لَمْ يَجُزِ التفاضل الْوَزْنِ مَعَ تَمَاثُلِ الْقِيمَةِ.

(5/143)


ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ التَّمَاثُلُ مِنْ جِهَةِ الْوَزْنِ دُونَ الْقِيمَةِ وَقَدْ تَمَاثَلَ الْوَزْنَانِ فِي الذَّهَبِ الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ بِالذَّهَبِ الْوَسَطِ فَوَجَبَ أَنْ يَجُوزَ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مَعَهُ فِي بَيْعِ مُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْ عَجْوَةٍ لِأَنَّ تِلْكَ أَصْلٌ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثُمَّ نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن بيع الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل. فَاقْتَضَى ذَلِكَ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْقَدْرِ وَالْقِيمَةِ إِلَّا مَا خَصَّهُ إِجْمَاعٌ أَوْ دَلِيلٌ. وَلِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الصَّفْقَةَ إِذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى شَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَانَ الثَّمَنُ مُقَسَّطًا عَلَى قِيمَتِهَا دُونَ عَدَدِهِمَا.
فَإِذَا بَاعَهُ مِائَةَ دِينَارٍ مِنْ ذَهَبٍ جَيِّدٍ يُسَاوِي أَلْفَيْ دِرْهَمٍ، وَمِائَةَ دِينَارٍ مِنْ ذَهَبٍ رَدِيءٍ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ مِنْ ذَهَبٍ وَسَطٍ تُسَاوِي ثَلَاثَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ. كَانَ مِائَةُ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ الْوَسَطِ فِي مُقَابَلَةِ أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ الْجَيِّدِ، وَالْمِائَةُ الْأُخْرَى فِي مُقَابَلَةِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ مِنَ الذَّهَبِ الرَّدِيءِ فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى التَّفَاضُلِ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ وَذَلِكَ حَرَامٌ. وَكَانَ هَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهُ مِائَةَ دِينَارٍ مِنْ ذَهَبٍ جَيِّدٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ مِنْ ذَهَبٍ رَدِيءٍ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي بَيْعِ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ مَعَ تَسَاوِي الْقَدْرِ. الْمُسَامَحَةُ دُونَ الْمُغَابَنَةِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا قَابَلَ نَوْعَيْنِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّفْقَةَ فِي بَيْعِ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ قَابَلَتْ نَوْعًا وَاحِدًا فَقُسِّطَ الثَّمَنُ عَلَى الْأَجْزَاءِ لَا عَلَى الْقِيمَةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إِذَا بَاعَ دِينَارًا قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ بِدِينَارٍ قِيمَتُهُ عِشْرُونَ فَنِصْفُ الدِّينَارِ وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ خَمْسَةٌ فِي مُقَابَلَةِ نِصْفِ الدِّينَارِ وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ.
وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُقَابَلًا بِنَوْعَيْنِ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى التَّفَاضُلِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الِاعْتِبَارَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْمُمَاثِلَةِ فِي الْقَدْرِ أَوِ الْقِيمَةِ. فَلَمَّا بَطَلَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقِيمَةِ ثَبَتَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَدْرِ.
فَهُوَ أَنْ يُقَالَ: الِاعْتِبَارُ بِالْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَدْرِ مَا لَمْ يَكُنِ الثَّمَنُ مُقَسَّطًا عَلَى الْقِيمَةِ.
فَأَمَّا إِذَا كَانَ الثَّمَنُ مُقُسَّطًا عَلَى الْقِيمَةِ لِاخْتِلَافِ الْأَنْوَاعِ فَلَا اعْتِبَارَ بِالْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَدْرِ.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا إِذَا بَاعَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ صِحَاحًا وَمِائَةَ دِرْهَمٍ غُلَّةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ صِحَاحٍ وَمِائَةٍ غُلَّةٍ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَخْتَلِفَ جَوْهَرُ الصِّحَاحِ مِنْ هَذَا الْعِوَضِ بِالصِّحَاحِ مِنْ هَذَا الْعِوَضِ، أَوْ جَوْهَرُ الْغَلَّةِ مِنْ هَذَا الْعِوَضِ، فَيَكُونُ الصَّرْفُ بَاطِلًا لِمَا ذَكَرْنَا.
وَالثَّانِي: أَلَّا يَخْتَلِفَ. فَعَلَى وَجْهَيْنِ:

(5/144)


أَحَدُهُمَا: جَائِزٌ لِتَسَاوِي الْعِوَضَيْنِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ. لِلتَّعْلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ.

فَصْلٌ:
وَعَلَى قِيَاسِ مَا ذَكَرْنَا. لَا يَجُوزُ بَيْعُ ذَهَبٍ مَعَ آخَرَ مِنْ جَوْهَرٍ أَوْ لُؤْلُؤٍ أَوْ سَيْفٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ بِذَهَبٍ، لِحَدِيثِ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ الْمُقَدَّمِ ذِكْرُهُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الذَّهَبُ الَّذِي مَعَ الْجَوْهَرِ أَقَلَّ مِنَ الذَّهَبِ الَّذِي هو الثمن جاز ليكون الفاضل من الذهب الثَّمَنِ فِي مُقَابَلَةِ الْجَوْهَرِ.
وَإِنْ كَانَا مِثْلَيْنِ لَمْ يَجُزْ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ كَانَ الذَّهَبُ الَّذِي مَعَ الْجَوْهَرِ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ الثَّمَنِ جَازَ. وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ فَصَاعِدًا لَمْ يَجُزْ. وفيما ذكرنا دليل كاف.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَ الدَّرَاهِمَ مِنَ الصَّرَّافِ وَيَبِيعَهَا مِنْهُ إِذَا قَبَضَهَا بأقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَ عَادَةً وَغَيْرَ عَادَةٍ سَوَاءٌ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ إِذَا اشْتَرَى مِنْ صَيْرَفِيٍّ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ صِحَاحًا وَقَبَضَ الدِّينَارَ وَتَمَّ الصَّرْفُ ثُمَّ بَاعَ ذَلِكَ الدِّينَارَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا غُلَّةً كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا. سَوَاءٌ جَرَتْ لَهُ بِذَلِكَ عَادَةٌ أَمْ لَا.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ جَرَتْ لَهُ بِذَلِكَ عَادَةٌ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ حَرَامًا لِأَنَّ الْعُرْفَ وَالْعَادَةَ كَالشَّرْطِ الْمَلْفُوظِ بِهِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ لَفْظًا كَانَ رِبًا حَرَامًا. كَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُعْتَادًا. قَالَ: وَلِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ يُضَارِعُ الرِّبَا الْحَرَامَ لِأَنَّ قَصْدَهُ أَنْ يَبِيعَ عَشَرَةً صِحَاحًا بِعِشْرِينَ غُلَّةً، وَمَا ضَارَعَ الْحَرَامَ كَانَ حَرَامًا.
وَهَذَا خَطَأٌ بِدَلِيلِ مَا رَوَاهُ عُبَادَةُ أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: وَلَكِنْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالْوَرِقِ وَالْوَرِقَ بِالذَّهَبِ كَيْفَ شِئْتُمْ يَدًا بِيَدٍ. وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ عَادَةٍ وَغَيْرِ عَادَةٍ.
وَلِأَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ الْفِعْلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ رِبًا أَوْ غَيْرَ رِبًا. فَإِنْ كَانَ رِبًا لَمْ يَجُزْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رِبًا جَازَ وَإِنْ تَكَرَّرَ مِائَةَ مَرَّةٍ. فَلَمَّا جَازَ أَوَّلَ مَرَّةٍ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِرِبًا وَأَنَّهُ يَجُوزُ وَلَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْعَادَةَ تَجْرِي مَجْرَى الشَّرْطِ اعْتِبَارًا بِغَالِبِ النَّقْدِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ عَادَةَ الْبَلَدِ تَجْرِي مَجْرَى الشَّرْطِ وَلَيْسَ عَادَةُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ كَالشَّرْطِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْعَادَةَ فِي صِفَاتِ الْعَقْدِ مُخَالِفَةٌ لِلشَّرْطِ. أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ رَجُلًا عقد نكاحا

(5/145)


وَشَرَطَ فِيهِ الطَّلَاقَ فَسَدَ. وَلَوْ عَقَدَ نِكَاحًا وَكَانَ مُعْتَادًا لِلطَّلَاقِ لَمْ يَفْسَدْ. فَقَدْ وَقَعَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَادَةِ وَالشَّرْطِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: إِنَّ هَذَا الْفِعْلَ مُضَارِعٌ لِلرِّبَا فَهُوَ أَنَّ هَذَا قَوْلٌ مَعْلُولٌ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ التَّقْسِيمِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَاسِطَةٌ. فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ رِبًا صَرِيحًا كَانَ عَقْدًا صَحِيحًا.

فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ ذَلِكَ انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى شَرْحِ الْمَذْهَبِ فِي كَيْفِيَّةِ الْعَقْدِ فَنَقُولُ: إِنَّهُ إِذَا اشْتَرَى مِنْهُ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَقَبَضَ مِنْهُ الدِّينَارَ وَدَفَعَ إِلَيْهِ الدَّرَاهِمَ ثُمَّ افْتَرَقَا جَازَ أَنْ يَعُودَ فَيَبِيعَ عَلَيْهِ الدِّينَارَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ.
وَهَكَذَا لَوْ تَقَابَضَا ثُمَّ تَخَايَرَا مِنْ غَيْرِ تَفَرُّقٍ ثُمَّ اسْتَأْنَفَا الْعَقْدَ الثَّانِيَ جَازَ.
لِأَنَّ التَّخَايُرَ فِي الْعَقْدِ يَقُومُ مَقَامَ الِافْتِرَاقِ فِي لُزُومِ الْعَقْدِ فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى عَقَدَا الْعَقْدَ الثَّانِيَ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الْعَقْدُ الثَّانِي بَاطِلًا، لِأَنَّ بَيْعَ مَا لَمْ يُقْبَضْ لَا يَجُوزُ. وَلَوْ تَقَابَضَا ثُمَّ عَقَدَا الْعَقْدَ الثَّانِيَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ يَجُوزُ. لِأَنَّ اتِّفَاقَهُمَا عَلَى الْعَقْدِ الثَّانِي اخْتِيَارٌ مِنْهُمَا لِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَجَرَى مَجْرَى الْعَقْدِ بَعْدَ التَّخَايُرِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدِي إِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ الْعَقْدُ الثَّانِي بَاطِلًا. لِأَنَّ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ لَمْ يَسْتَقِرَّ بِالِافْتِرَاقِ وَلَا بِالتَّخَايُرِ. وَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْعَبَّاسِ مِنْ أَنَّ الرِّضَا بِالْعَقْدِ الثَّانِي اخْتِيَارٌ لِإِمْضَاءِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَغَلَطٌ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّخَايُرِ وَالْبَيْعِ أَنَّهُمَا إِذَا اخْتَارَا الْإِمْضَاءَ فَقَدْ رَضِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِقْرَارِ مِلْكِ صَاحِبِهِ عَلَى مَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ فَاسْتَقَرَّ بِذَلِكَ الْمِلْكُ. وَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى الْبَيْعِ الثَّانِي فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَرْضَ بِاسْتِقْرَارِ مِلْكِ صَاحِبِهِ عَلَى مَا انْتَقَلَ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ بِذَلِكَ الْمِلْكُ، فَصَارَ حُكْمُ التَّخَايُرِ وَالْبَيْعِ مُخْتَلِفًا فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ فِي لُزُومِ الْعَقْدِ مُتَّفَقًا فَهَذَا آخِرُ الْبَابِ.
فَصْلٌ:
وإذ قد مضى مسطور الْبَابِ مُسْتَوْفِيًا فَسَنَذْكُرُ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ أُصُولِهِ فُرُوعًا بَعْدَ عَقْدِ مَا مَضَى مَنْشُورًا لِيَكُونَ أَمْهَدَ لِأُصُولِهِ وَأَصَحَّ لِفُرُوعِهِ فَنَقُولُ:
إِنَّمَا سُمِّيَ الصَّرْفُ صَرْفًا لِصَرْفِ حُكْمِهِ عَنْ أَكْثَرِ أَحْكَامِ الْبَيْعِ. وَقِيلَ: بَلْ سُمِّيَ صَرْفًا لِصَرْفِ الْمُسَامَحَةِ عَنْهُ فِي زِيَادَةٍ أَوْ تَأْخِيرٍ. وَقِيلَ بَلْ سُمِّيَ صَرْفًا لِأَنَّ الشَّرْعَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصَارَفَةَ صَاحِبِهِ أَيْ مُضَايَقَتَهُ.
وَالصَّرْفُ إِنَّمَا يَخْتَصُّ بِبَيْعِ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ أَوِ الفضة بالفضة والذهب الذهب. وَشُرُوطُ الصَّرْفِ الَّتِي لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهَا ثَلَاثَةٌ لَازِمَةٌ وَرَابِعٌ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصَّرْفِ وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ اللَّازِمَةَ:
فَأَحُدُهَا: إِطْلَاقُ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ مَشْرُوطٍ فِيهِ.
فَلَوْ شَرَطَا فِيهِ أَجَلًا كَانَ بَاطِلًا. فَلَوْ أَسْقَطَا الْأَجَلَ بَعْدَ اشْتِرَاطِهِ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَصِحَّ.

(5/146)


وَقَالَ أبو حنيفة وَصَاحِبَاهُ: إِذَا اشْتَرَطَا إِسْقَاطَ الْأَجَلِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّ اسْتِحْسَانًا.
وَالشَّرْطُ الثَّانِي: أَنْ يَعْقِدَ نَاجِزًا مِنْ غَيْرِ خِيَارٍ مَشْرُوطٍ فِيهِ فَإِنْ شَرَطَا فِيهِ خِيَارَ الثَّلَاثِ كَانَ بَاطِلًا، وَلَوْ أَسْقَطَا الْخِيَارَ بَعْدَ اشْتِرَاطِهِ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَصِحَّ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِذَا أَسْقَطَاهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ صَحَّ اسْتِحْسَانًا.
وَالشَّرْطُ الثَّالِثُ: التَّقَابُضُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ بَاطِلًا فَهَذِهِ الشُّرُوطُ اللَّازِمَةُ.
وَأَمَّا الشَّرْطُ الرابع: وهو المماثلة فإن كان الجنس واحد كَانَتِ الْمُمَاثَلَةُ شَرْطًا مُعْتَبَرًا وَإِنِ اخْتَلَفَ الْجِنْسَانِ لَمْ يَكُنْ شَرْطًا مُعْتَبَرًا.
ثُمَّ الصَّرْفُ يَنْقَسِمُ أَقْسَامًا أَرْبَعَةً:
فَالْقِسْمُ الْأَوَّلُ: بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ وَهُوَ ضَرْبَانِ:
جِنْسٌ بِمِثْلِهِ كَالْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ بِالذَّهَبِ، وَجِنْسٌ بِغَيْرِهِ كَالْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ، فَهَذَا يَصِحُّ بِشُرُوطِهِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ. وَهَذَا بَاطِلٌ لِلنَّهْيِ عَنْهُ كَرَجُلٍ بَاعَ دَرَاهِمَ لَهُ عَلَى زَيْدٍ دَيْنًا بِدَنَانِيرَ أَوْ بِدَرَاهِمَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى عَمْرٍو دَيْنًا.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: بَيْعُ عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَهَذَا بَاطِلٌ وَهُوَ الصَّرْفُ بِالْأجِلِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: بَيْعُ دَيْنٍ بِعَيْنٍ كَرَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَبِيعُهَا عَلَيْهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ يَأْخُذُهَا مِنْهُ عَيْنًا. فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ حَالًّا صَحَّ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو إن كَانَ مُؤَجَّلًا لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ لَا يَمْلِكُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ فَلَمْ تَجُزِ الْمُعَاوَضَةُ عَلَيْهِ.
وَإِذَا صَحَّ فِي الْحَالِّ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى قَبْضِ الدَّنَانِيرِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ بَدَلَ الدَّرَاهِمِ ثَوْبًا أَوْ عَرَضًا فَفِي لُزُومِ قَبْضِهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ: أَنَّهُ يَجُوزُ الِافْتِرَاقُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِأَنَّ مَا سِوَى الصَّرْفِ لَا يَلْزَمُ فِيهِ تَعْجِيلُ الْقَبْضِ.
وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ حَتَّى يَتَقَابَضَا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ وَإِلَّا صَارَ بَيْعَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ.
فَلَوْ أَخَذَ بَدَلَ الْأَلْفِ دِرْهَمٍ خَمْسِينَ دِينَارًا وَعَبْدًا كَانَ عَلَى قَوْلَيْنِ. لِأَنَّهُ عَقْدٌ جَمَعَ بَيْعًا وَصَرْفًا.
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ فِيهِمَا وَيَرْجِعُ بِالْأَلْفِ.

(5/147)


وَالثَّانِي: جَائِزٌ فِيهِمَا وَيَلْزَمُ قَبْضُ الدَّنَانِيرِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ. وَفِي قَبْضِ الْعَبْدِ قَبْلَهُ وَجْهَانِ.
فَرْعٌ:
فَلَوْ أَحَالَ بِالدَّنَانِيرِ الَّتِي قَدِ اسْتَحَقَّ قَبْضَهَا فِي الصَّرْفِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ عَلَى رَجُلٍ حَاضِرٍ. فَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُسْتَحِقُّ لَهَا مِنَ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الصَّرْفُ.
وَإِنْ قَبَضَهَا فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ كَانَ عَلَى وَجْهَيْنِ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِنَا فِي الْحَوَالَةِ هَلْ تَجْرِي مَجْرَى الْبَيْعِ أَوْ هِيَ عَقْدُ مَعُونَةٍ وَإِرْفَاقٍ.
فَإِنْ قِيلَ إِنَّ الْحَوَالَةَ تَجْرِي مَجْرَى الْبَيْعِ لَمْ يَجُزْ. وَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا عَقْدُ مَعُونَةٍ وَإِرْفَاقٍ جَازَ. كَمَا لَوْ أَمَرَ وَكِيلَهُ بِالدَّفْعِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ.
فَرْعٌ:
فَلَوْ لَمْ يُحِلَّهُ بِهَا وَلَكِنِ اقْتَرَضَهَا لَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَدَفَعَهَا إِلَيْهِ جَازَ لِوُجُودِ الْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ، وَلَكِنْ لَوِ اقْتَرَضَهَا الصَّيْرَفِيُّ مِنَ الْمُشْتَرِي ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ لِيَكُونَ قَبْضًا عَمَّا اشْتَرَاهُ مِنَ الدَّنَانِيرِ عَلَى وَجْهَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي الْقَرْضِ مَتَى يَمْلِكُ.
وَأَحَدُ الْوَجْهَيْنِ: أَنَّ القرض يملك بالقبض فعلى هذا يجوز ها هنا وَيَصِحُّ هَذَا الصَّرْفُ، لِأَنَّهُ قَبَضَ الدَّنَانِيرَ مِنَ الصَّيْرَفِيِّ بَعْدَ أَنْ مَلَكَهَا بِالْقَرْضِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْقَرْضَ يُمْلَكُ بِالتَّصَرُّفِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ المروزي. فعلى هذا لا يجوز ها هنا وَيَبْطُلُ هَذَا الصَّرْفُ لِأَنَّهُ قَبَضَ الدَّنَانِيرَ مُشْتَرِيًا لَهَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُ الصَّيْرَفِيِّ عَلَيْهَا.
فَرْعٌ:
فَلَوِ اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ صَيْرَفِيٍّ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَقَبَضَ مِنْهُ الدِّينَارَ وَحَصَلَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الصَّيْرَفِيِّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ. قَالَ: اجْعَلْ هَذِهِ الْعَشَرَةَ بَدَلًا مِنَ الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ سَوَاءٌ حَصَلَتِ الْعَشَرَةُ عَلَى الصَّيْرَفِيِّ قَبْلَ الصَّرْفِ أَوْ بَعْدَهُ وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ حَصَلَتْ قَبْلَ الصَّرْفِ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ حَصَلَتْ بَعْدَهُ جَازَ: وَهَذَا غَلَطٌ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَكُونُ صَرْفًا قَدْ عُدِمَ فِيهِ الْقَبْضُ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَصِيرُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ إِلَّا أَنْ يَأْخُذَ دِينَارًا بِالْعَشَرَةِ بَعْدَ حُصُولِهَا عَلَيْهِ فَيَجُوزُ. وَهُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالْعَيْنِ الْمَذْكُورِ مِنْ قَبْلُ.
فَرْعٌ:
فَإِذَا اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ صَيْرَفِيٍّ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ إِنَّ الصَّيْرَفِيَّ أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي مِنَ الْعَشَرَةِ كَانَتِ الْبَرَاءَةُ بَاطِلَةً وَإِنِ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِهَا بَطَلَ الصَّرْفُ لِأَنَّهُ إِبْرَاءٌ مِمَّا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ.
وَلَوْ كَانَتِ الْعَشَرَةُ مُعَيَّنَةً فَوَهَبَهَا الصَّيْرَفِيُّ لَهُ فَإِنْ كَانَتِ الْهِبَةُ قَبْلَ قَبْضِهَا لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهَا لَمْ يَسْتَقِرَّ وَإِنْ كَانَتِ الْهِبَةُ بَعْدَ قَبْضِهَا فَفِيهَا وَجْهَانِ كَالْبَيْعِ.

(5/148)


فَرْعٌ:
وَإِذَا اشْتَرَى مِنْهُ دِينَارًا فَقَبَضَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ مَعِيبًا بَعْدَ تَلَفِهِ فَأَرَادَ الرُّجُوعَ بِأَرْشِ عَيْبِهِ نَظَرَ:
فَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَى الدِّينَارَ بِوَزْنِهِ ذَهَبًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَرْجِعَ بِأَرْشِ الْعَيْبِ لِأَنَّ أَخْذَ الْأَرْشِ يُؤَدِّي إِلَى التَّفَاضُلِ فِي بَيْعِ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ.
وَإِنْ كَانَ قَدِ اشتراه بدراهم ففي جواز الرجوع بأرش عينه وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ. اعْتِبَارًا بِعُيُوبِ سَائِرِ الْمَبِيعَاتِ السَّالِفَةِ وَهَذَا أَقَيْسُ الْوَجْهَيْنِ، فَعَلَى هَذَا يَرْجِعُ بِأَرْشِ عَيْبِ الدِّينَارِ دَرَاهِمَ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ الْمَعِيبُ فِضَّةً رَجَعَ بِأَرْشِ عَيْبِهَا ذَهَبًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الشُّيُوخِ مِنْ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ وَالْجُمْهُورِ مِنْ غَيْرِهِمْ لَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ بِأَرْشِ عَيْبِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّرْفَ أَضْيَقُ حُكْمًا مِنَ الْبِيَاعَاتِ فَلَمْ يَتَّسِعْ لِدُخُولِ الْأَرْشِ فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَرْشَ يُعْتَبَرُ بِالْأَثْمَانِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي الْأَثْمَانِ.
فَعَلَى هَذَا لَا يَخْلُو عَيْبُ الدِّينَارِ الْمُسْتَهْلَكِ إِذَا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنَ الْجِنْسِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ:
إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْبًا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ أَوْ لَا يَصِحُّ. فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ مِمَّا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً فِي الذِّمَّةِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ دِينَارًا قَاسَانِيًّا فَيَتَبَيَّنُ بَعْدَ تَلَفِهِ مَغْرِبِيًّا. فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَعَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ بَدَلَهُ دِينَارًا مِثْلَهُ مَغْرِبِيًّا.
وَإِنْ كَانَ الْمَعِيبُ مُبَهْرَجًا مِمَّا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَا فِي الذِّمَّةِ مِثْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ دِينَارًا قَاسَانِيًّا فَيَتَبَيَّنُ الدِّينَارَ مُبَهْرَجًا فَعَلَيْهِ إِذَا لَمْ يَرْضَ بِعَيْبِهِ أَنْ يَرُدَّ قِيمَتَهُ دَرَاهِمَ. وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَهُ لِأَنَّ الْمُبَهْرَجَ لَا مِثْلَ لَهُ.
فَإِذَا رَدَّ مِثْلَ الدِّينَارِ الْمَعِيبِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ أَوْ رَدَّ قِيمَتَهُ وَرِقًا فِيمَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ نَظَرَ: فَإِنْ كَانَ قَدِ اشْتَرَى الدِّينَارَ الَّذِي بَانَ عَيْبُهُ بِعَيْنِهِ لَمْ تَكُنْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِهِ وَكَانَ لَهُ اسْتِرْجَاعُ مَا دَفَعَ مِنْ ثَمَنِهِ.
وَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ فِي الذِّمَّةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ فَهَلْ لَهُ الرُّجُوعُ بِبَدَلِهِ سَلِيمًا مِنْ عَيْبٍ أَمْ لَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ.
فَرْعٌ:
وَإِذَا حَصَلَتْ فِي ذِمَّةِ رَجُلٍ دَرَاهِمُ مَوْصُوفَةٌ وَكَانَتْ نَقْدًا يَتَعَامَلُ النَّاسُ بِهِ فَحَظَرَ السُّلْطَانُ الْمُعَامَلَةَ بِهَا وَحَرَّمَهَا عَلَيْهِمْ لَمْ يَسْتَحِقَّ صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَالِبَهُ بِقِيمَتِهَا. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِقِيمَتِهَا ذَهَبًا فِي آخِرِ يَوْمٍ حُرِّمَتْ. وَهَذَا خَطَأٌ.
لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي تَحْرِيمِ الْمُعَامَلَةِ بِهَا أَنْ يَكُونَ مُوَكِّسًا لِقِيمَتِهَا، وَمَا ثَبَتَ فِي الذِّمَّةِ لَا يَسْتَحِقُّ بَدَلَهُ لِنُقْصَانِ قِيمَتِهِ كَالْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وغيره.

(5/149)


فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ أَخْذُ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ بِعَيْنِهَا بَعْدَ التَّحْرِيمِ كَمَا كَانَ لَهُ أَخْذُهَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَعُدِمَتْ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ وَلَمْ تُوجَدْ، كَانَ لَهُ حِينَئِذٍ أَخْذُ قِيمَتِهَا ذَهَبًا، لِتَعَذُّرِهَا وَاعْتِبَارِ زَمَانِ الْقِيمَةِ فِي آخِرِ أَوْقَاتِ وُجُودِهَا وَالْقُدْرَةِ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ آخِرُ وَقْتٍ كَانَتْ عَيْنُهَا فِيهِ مُسْتَحَقَّةً فَلَوِ ابْتَاعَ دِينَارًا وَثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مُعَيَّنَةٍ مِنْ هَذَا النَّقْدِ الْمَذْكُورِ فَحَظَرَ السُّلْطَانُ الْمُعَامَلَةَ بِهَا قَبْلَ قَبْضِهَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْبًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ، لِأَنَّ الْعُيُوبَ مَا اخْتُصَّتْ بِالصِّفَاتِ اللَّازِمَةِ، فَأَمَّا تَحْرِيمُ السُّلْطَانِ فَعَارِضٌ يَخْتَصُّ بِالسِّعْرِ وَنَقْصِهِ، وَنُقْصَانُ الْأَسْعَارِ لَا يَكُونُ عَيْبًا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْفَسْخَ.
فَرْعٌ:
وَإِذَا تَبَايَعَا ذَهَبَهُ بِذَهَبِهِ نَظَرَ: فَإِنْ تَبَايَعَاهَا جُزَافًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَا الْمُوَازَنَةَ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا وَيَتَرَادَّانِ. فَلَوْ وُزِنَتَا جَمِيعًا فَكَانَتَا سَوَاءً لَمْ يَصِحَّ الصَّرْفُ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ عَلِمَا ذَلِكَ قَبْلَ التَّفَرُّقِ صَحَّ الصَّرْفُ، وَإِنْ عَلِمَاهُ بَعْدَهُ لَمْ يَصِحَّ.
وَقَالَ زفر: يَصِحُّ بِكُلِّ حَالٍ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ خَطَأٌ وَمَذْهَبُنَا فِيهِ أَصَحُّ.
لِأَنَّ الْجَهْلَ بِالتَّمَاثُلِ كَالْعِلْمِ بِالتَّفَاضُلِ، ثُمَّ كَانَ الْعِلْمُ بِالتَّفَاضُلِ مُعْتَبَرًا وَقْتَ الْعَقْدِ كَذَا الْجَهْلُ بِالتَّمَاثُلِ مُعْتَبَرًا وَقْتَ الْعَقْدِ.
فَأَمَّا إِنْ تَبَايَعَاهَا مُوَازَنَةً لَمْ يَفْسَدِ الْعَقْدُ وَكَانَ مُعْتَبَرًا بِمَا يُخْرِجُهُ الْوَزْنُ مِنْ تَمَاثُلِهِمَا أَوْ تَفَاضُلِهِمَا فَإِنْ كَانَتَا سَوَاءً صَحَّ الصَّرْفُ، وَإِنْ تَفَاضَلَتَا فَقَوْلَانِ حَكَاهُمَا ابْنُ سُرَيْجٍ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ الصَّرْفَ بَاطِلٌ لِظُهُورِ الْفَضْلِ فِيهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الصَّرْفَ جَائِزٌ بِإِسْقَاطِ الْفَضْلِ لِاشْتِرَاطِ التَّمَاثُلِ، وَلِلَّذِي نَقَصَتْ ذَهَبَتُهُ الْخِيَارُ دُونَ الْآخَرِ لِنُقْصَانِ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي بَيْعِ صُبْرَةِ طَعَامٍ بِصُبْرَةِ طَعَامٍ.
فَرْعٌ:
وَإِذَا بَاعَ رَجُلٌ ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهَا مِنْ صَرْفِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ كَانَ الْبَيْعُ وَالصَّرْفُ بَاطِلَيْنِ لِأَنَّ السِّعْرَ لَيْسَ بِصِفَةٍ يَخْتَصُّ بِالْعَيْنِ وَلَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ.
فَرْعٌ:
وَلَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ بِقِيمَتِهَا دَنَانِيرَ مِنْ صَرْفِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ كَانَ الْبَيْعُ وَالصَّرْفُ بَاطِلَيْنِ لِأَنَّهُمَا بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هَذَا الشَّرْطُ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ وَلَا يَلْزَمُ الشَّرْطُ وَيَكُونُ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي دَفْعِ الدَّنَانِيرِ، وَالْبَائِعُ بِالْخِيَارِ فِي قَبْضِهَا وَالْمُسْتَحِقُّ دَفْعَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي كَانَ بِهَا الْعَقْدُ.
فَرْعٌ:
فَإِذَا بَاعَهُ ثَوْبًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ نقد سوق وكذا نَظَرَ فِي نَقْدِ تِلْكَ فَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُخْتَلِفٍ كَانَ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ وَهُوَ أَظْهَرُ. لِأَنَّهَا صِفَةٌ يَمْتَازُ بِهَا الْمَوْصُوفُ عَنْ غَيْرِهِ. وَالثَّانِي: يَجُوزُ لِأَنَّهَا صِفَةٌ فِي غَيْرِ الْمَوْصُوفِ يَجُوزُ انْتِقَالُهَا عَنْهُ.
فَرْعٌ:
فَإِذَا اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنَّهُ يُسَاوِي الْعَشَرَةَ أَوْ عَلَى أَلَّا غَبِينَةَ عَلَيْهِ

(5/150)


فِي ثَمَنِهِ أَوْ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَقْصًى بِهِ فَالصَّرْفُ بَاطِلٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّهَا شُرُوطٌ تُنَافِي الْعَقْدَ وَمِثْلُهُ وَاقِعٌ.
فَرْعٌ:
وَإِذَا بَاعَهُ ثَوْبًا بِدِينَارٍ إِلَّا دِرْهَمًا فَإِنْ جَهِلَا أَوْ أَحَدُهُمَا قِيمَةَ الدِّينَارِ فِي الْحَالِ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا لِلْجَهْلِ بِالثَّمَنِ. وَإِنْ عَلِمَا قِيمَةَ الدِّينَارِ فَفِي الْبَيْعِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ لَا يَجُوزُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لِأَنَّهُمَا إِذَا عَلِمَا أَنَّ قِيمَةَ الدِّينَارِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَقَدْ بَاعَهُ بِدِينَارٍ إِلَّا دِرْهَمًا كَانَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ بِعْتُكَ بِدِينَارٍ إِلَّا عُشْرَ دِينَارٍ فَيَصِيرُ الْبَيْعُ بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ دِينَارٍ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ عَلَى الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى دِرْهَمًا وَلَمْ يَسْتَثْنِ قِيمَةَ دِرْهَمٍ فَلَا يَلْزَمُ الْمُشْتَرِي دَفْعُ الدِّينَارِ كُلِّهِ لِمَوْضِعِ الِاسْتِثْنَاءِ وَلَا يَلْزَمُ الْبَائِعَ دَفَعُ دِرْهَمٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بمشترِ فَيَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الْعَقْدِ فَبَطَلَ.
فَرْعٌ:
فَإِذَا ابْتَاعَ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَدَفَعَ إِلَيْهِ الصَّيْرَفِيُّ دِينَارًا وَرَجَحَ الدِّينَارُ قِيرَاطًا جَازَ لِلصَّيْرَفِيِّ أَنْ يَهَبَ الْقِيرَاطَ الزَّائِدَ لِلْمُشْتَرِي وَجَازَ أَنْ يُودِعَهُ إِيَّاهُ فَيَصِيرُ الصَّيْرَفِيُّ شَرِيكًا لِلْمُشْتَرِي فِي الدِّينَارِ بِالْقِيرَاطِ الزَّائِدِ.
فَإِنْ دَفَعَ إِلَيْهِ الْمُشْتَرِي قِيرَاطًا مِنْ غَيْرِ الدِّينَارِ لَمْ يَلْزَمْهُ قَبُولُهُ إِلَّا بِاخْتِيَارِهِ وَيَكُونُ اسْتِئْنَافَ صَرْفٍ آخَرَ فِي قِيرَاطٍ بِقِيرَاطٍ.
فَلَوْ كَانَ الصَّيْرَفِيُّ حِينَ زَادَ الدِّينَارَ قِيرَاطًا أَخَذَ مِنَ الْمُشْتَرِي ثَمَنَ الْقِيرَاطِ الزَّائِدِ وَرِقًا جَازَ بِأَكْثَرَ مِنَ السِّعْرِ الْأَوَّلِ وَبِأَقَلَّ لِأَنَّهُ اسْتِئْنَافُ صَرْفٍ ثَانٍ.
وَلَوْ أَخَذَ مِنْهُ الصَّيْرَفِيُّ بَدَلَ الْقِيرَاطِ الزَّائِدِ قِيرَاطًا مِنْ ذَهَبٍ جَازَ أَيْضًا لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ وَلَكِنْ لَوْ تَبَايَعَا فِي الِابْتِدَاءِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَقِيرَاطًا بِدِينَارٍ وَقِيرَاطٍ كَانَ بَاطِلًا لِأَنَّهُ عَقْدٌ وَاحِدٌ كَمُدِّ عَجْوَةٍ وَدِرْهَمٍ بِمُدَّيْ عَجْوَةٍ.
فَرْعٌ:
وَإِذَا اشْتَرَى ثَوْبًا بِدِينَارٍ وَوَزَنَ الْمُشْتَرِي الدِّينَارَ فَرَجَحَ فِي الْمِيزَانِ فَأَعْطَاهُ بَائِعُ الثَّوْبِ حِزَامًا أَفْضَلَ مِنَ الدِّينَارِ ذَهَبًا وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ قَدْرَ الزِّيَادَةِ جَازَ. لِأَنَّهُمَا قَدِ اسْتَأْنَفَا صَرْفًا فِي ذَهَبٍ بِذَهَبٍ مُتَمَاثِلٍ مَعَ الْجَهْلِ بِالْقَدْرِ وَهَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الصَّرْفِ. أَلَّا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ سَبِيكَةَ ذَهَبٍ لَا يَعْلَمُ وَزْنَهَا بِوَزْنِهَا ذَهَبًا جَازَ لِحُصُولِ التَّمَاثُلِ وَإِنْ جَهِلَا الْقَدْرَ.
فَرْعٌ:
وَإِذَا أَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا مِائَةَ دِينَارٍ ثُمَّ إِنَّ صَاحِبَ الدَّنَانِيرِ لَقِيَ الْمُودَعَ فَبَاعَ عَلَيْهِ الدَّنَانِيرَ الْوَدِيعَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالدَّنَانِيرُ غَيْرُ حَاضِرَةٍ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ الصَّرْفُ بَاطِلًا لِأَنَّهُ لَمْ يَتَنَاوَلْ عَيْنًا حَاضِرَةً تُرَى وَلَا صِفَةً فِي الذِّمَّةِ تُعْرَفُ وَلَكِنْ لَوْ كَانَ الْمُودَعُ قَدْ ضَمِنَهَا بِالِاسْتِهْلَاكِ ثُمَّ ابْتَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ صَحَّ وَكَانَ هَذَا بَيْعَ عَيْنٍ بِدَيْنٍ.
فَلَوْ كَانَ قَدْ ضَمِنَهَا بِالتَّعَدِّي مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا فَابْتَاعَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ بَقَاءَ عَيْنِهَا يَمْنَعُ مِنَ اسْتِقْرَارِهَا فِي الذِّمَّةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ الدَّنَانِيرُ وَقْتَ الْعَقْدِ حَاضِرَةً فَيَصِحُّ الصَّرْفُ.

(5/151)


فَرْعٌ:
وَإِذَا كَانَ عَلَى رَجُلٍ دَنَانِيرُ يُعْطِي صَاحِبَهَا دَرَاهِمَ عَلَى مَا يَتَّفِقُ عِنْدَهُ وَيَحْصُلُ بِيَدِهِ مِنْ غَيْرِ مُصَارَفَةٍ وَتَقْرِيرِ سِعْرٍ بِالدَّنَانِيرِ لَمْ يَكُنْ هَذَا صَرْفًا وَلَمْ يَصِرْ قِصَاصًا مِنَ الدَّنَانِيرِ وَكَانَتِ الدَّرَاهِمُ الْمَدْفُوعَةُ فِي حُكْمِ الْقَرْضِ لِصَاحِبِهَا اسْتِرْجَاعُهَا مَتَى شَاءَ وَعَلَيْهِ دَفْعُ مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنَ الدَّنَانِيرِ. فَلَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الدَّنَانِيرِ أَنْ يَحْبِسَ مَا قَبَضَ مِنَ الدراهم على قبض ماله مِنَ الدَّنَانِيرِ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ عَنْ بَيْعٍ فَاسِدٍ لَا يَجُوزُ حَبْسُهُ عَلَى اسْتِرْجَاعِ ثَمَنِهِ.
وَلَوِ اتَّفَقَا بَعْدَ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ عَلَى أَنْ يَتَبَايَعَا الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ فَإِنْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ حَاضِرَةً لَمْ يَسْتَهْلِكْهَا الْقَابِضُ جَازَ بَيْعُهَا لِأَنَّهُ بِيعُ دَرَاهِمَ حَاضِرَةٍ بِدَنَانِيرَ فِي الذِّمَّةِ.
وَإِنْ كَانَتِ الدَّرَاهِمُ قَدِ اسْتَهْلَكَهَا الْقَابِضُ وَصَارَتْ فِي ذِمَّتِهِ لَمْ يَجُزْ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَيْعُ دَيْنٍ بِدَيْنٍ إِلَّا أَنْ يَتَطَارَحَا وَيَتَبَارَيَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَيَقُولُ قَابِضُ الدَّرَاهِمِ لِدَافِعِهَا قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنْ كَذَا دِينَارًا وَيَقُولُ صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ لَقَابِضِهَا قَدْ أَبْرَأْتُهُ مِنْ كَذَا دِرْهَمًا فَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ مِنْهُمَا جَمِيعًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِبْرَاءُ مَشْرُوطًا فَلَا يَصِحُّ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الدَّنَانِيرِ لِصَاحِبِ الدَّرَاهِمِ قَدْ أَبْرَأْتُكَ مِنْ كَذَا دِينَارًا عَلَى أَنْ تُبْرِئَنِي مِنْ كَذَا دِرْهَمًا وَيَقُولُ صاحب الدراهم لصاحب الدنانير قد أبرأته مِنْ كَذَا دِرْهَمًا عَلَى أَنْ تُبْرِئَنِي مِنْ كَذَا دِينَارًا فَيَكُونُ الْإِبْرَاءُ مِنْهُمَا جَمِيعًا بَاطِلًا، لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ وَإِنَّمَا تَصِحُّ مَعَ الْإِطْلَاقِ.
فَلَوْ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَبْرَأَهُ صَاحِبُهُ بَرَاءَةً مُطْلَقَةً مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلَمْ يُبْرِئْهُ الْآخَرُ مِنْ شَيْءٍ جَازَ وَكَانَ لَهُ مُطَالَبَتُهُ بِحَقِّهِ وَلَيْسَ لِلْمُبْرِئِ مُطَالَبَةُ الْآخَرِ بِشَيْءٍ.
فَرْعٌ:
وَإِذَا ابْتَاعَ ثَوْبًا بِنِصْفِ دِينَارٍ ثُمَّ ابْتَاعَ ثَوْبًا ثَانِيًا بِنِصْفِ دِينَارٍ كَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ دِينَارًا بِنِصْفَيْنِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ دِينَارًا صَحِيحًا إِلَّا أَنْ يَبْتَاعَهُمَا مَعًا بِدِينَارٍ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ دِينَارًا صَحِيحًا وَلَا يَلْزَمُ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ دِينَارًا بِنِصْفَيْنِ فَلَوِ ابْتَاعَ ثَوْبًا بِنِصْفِ دِينَارٍ وَابْتَاعَ ثَوْبًا آخَرَ بِنِصْفِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ إِلَيْهِ ثَمَنَ الثَّوْبَيْنِ دِينَارًا صَحِيحًا كَانَ هَذَا الشَّرْطُ مَعَ الْبَيْعِ الثَّانِي بَاطِلًا وَصَحَّ بَيْعُ الثَّوْبِ الْأَوَّلِ بِنِصْفِ دِينَارٍ، لِأَنَّ مَا اقْتَرَنَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي مِنَ الشَّرْطِ يُنَافِيهِ.
وَلَوِ ابْتَاعَ ثَوْبًا بِنِصْفِ دِينَارٍ ثُمَّ ابْتَاعَ آخَرَ بِنِصْفِ دِينَارٍ عَلَى أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ دِينَارًا كَانَ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي جَائِزَيْنِ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمُقْتَرِنَ بِالثَّانِي لَا يُنَافِيهِ.
فَرْعٌ:
فَإِذَا قَبَضَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ فَضَمِنَ لَهُ رَجُلٌ آخَرُ بَدَلَ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ زَائِفٍ أَوْ بَهْرَجَةٍ أَوْ دِرْهَمٍ لَا يَجُوزُ، فَإِنَّ الضَّمَانَ جَائِزٌ إِلْحَاقًا بِضَمَانِ الدَّرْكِ وَإِنْ كان مترددا بين الوجوب والإسقاء وَهَذِهِ مِنْ مَنْصُوصَاتِ ابْنِ سُرَيْجٍ. فَإِنْ وَجَدَ القابض زَائِفًا أَوْ مُبَهْرَجًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ فِي إِبْدَالِهَا على القاضي إن شاءه أَوْ عَلَى الضَّامِنِ إِنْ شَاءَ.

(5/152)


فَلَوْ أَبْدَلَهَا عَلَى الْقَاضِي بَرِئَ الضَّامِنُ أَيْضًا، وَلَوْ أَبْدَلَهَا عَلَى الضَّامِنِ رَجَعَ الضَّامِنُ عَلَى الْقَاضِي بِهَا إِنْ ضَمِنَهَا عَنْهُ بِأَمْرِهِ.
فَإِنْ قَالَ الضَّامِنُ: أَعْطُونِي الْمَرْدُودَ بِعَيْنِهِ لِأُعْطِيَكُمْ بَدَلَهُ لَمْ يُعْطِهِ إِيَّاهُ وَقِيلَ لَهُ: الْوَاجِبُ أَنْ يَفْسَخَ الْقَضَاءُ فِي الْمَرْدُودِ وَيَرُدَّ عَلَى الْمَضْمُونِ لَهُ مَا ضَمِنَهُ، وَهَذَا الْمَرْدُودُ وَغَيْرُهُ مِنْ مَالِ الْمَضْمُونِ عَنْهُ، وَلَكَ الرُّجُوعُ بِمِثْلِ مَا أَدَّيْتَ، فَلَوْ أَحْضَرَ الْقَابِضُ دَرَاهِمَ رَدِيئَةً لِيُبَدِّلَهَا وَقَالَ هِيَ مِمَّا قَبَضْتُهُ وَأَنْكَرَاهُ جَمِيعًا، فَإِنْ كَانَ الرَّدُّ دَرَاهِمَ مَعِيبَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا مَعَ أَيْمَانِهِمَا وَعَلَى الْقَابِضِ الْبَيِّنَةُ.
لِأَنَّهُ قَدْ مَلَكَ مَا قَبَضَ وَبَرِئَا مِنْهُ بِالْقَبْضِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي رُجُوعِ الْحَقِّ.
وَإِنْ كَانَ الرَّدُّ نُحَاسًا أَوْ غَيْرَ فِضَّةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ ثَابِتٌ وَإِنَّمَا يُقِرُّ بِقَبْضِ النُّحَاسِ قَضَاءً، وَالنُّحَاسُ لَا يَكُونُ قَضَاءً عَنِ الْفِضَّةِ.
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوِ اشْتَرَى دَرَاهِمَ فَكَانَتْ نُحَاسًا كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا. وَلَوْ كَانَتْ فِضَّةً مَعِيبَةً كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا، وَلَوِ اشْتَرَى غُلَامًا فَكَانَ جَارِيَةً كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا. والله أعلم بالصواب. قال رحمه الله، انتهى.

(5/153)