الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

باب السلم
قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن أبي كثير أو ابن كثير الشك من المزني عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ عَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَةَ وَرُبَّمَا قَالَ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ معلوم وأجل مَعْلُومٍ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ.
أَمَّا السَّلَفُ وَالسَّلَمُ فَهُمَا عِبَارَتَانِ عَنْ مَعْنَى وَاحِدٍ فَالسَّلَفُ لُغَةٌ عِرَاقِيَّةٌ وَالسَّلَمُ لُغَةٌ حِجَازِيَّةٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَةُ وَاتِّفَاقُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] .
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَفَ الْمَضْمُونَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَدْ أَحَلَّهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ وَأَذِنَ اللَّهُ فِيهِ ثُمَّ قَرَأَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [البقرة: 282] . فَدَلَّ هَذَا النَّقْلُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَرَدَتْ فِي إِبَاحَةِ السَّلَمِ ثُمَّ دَلَّ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِ الْآيَةِ قَوْلُهُ فِي إِثْبَاتِهَا: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282] . وَهَذَا فِي الْبَيْعِ النَّاجِزِ فَدَلَّ أَنَّ مَا قَبْلَهُ مِنَ الْمَوْصُوفِ غَيْرِ النَّاجِزِ.
ثُمَّ يَدُلُّ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَةِ مَا قَدَّمَهُ الشَّافِعِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ ". وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ هَذَا الْحَدِيثَ بِإِسْنَادِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ وَإِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ. قال الشافعي:

(5/388)


وَأَخْبَرَنِي مَنْ أُصَدِّقُهُ عَنْ سُفْيَانَ أَنَّهُ قَالَ فِي الْأَجَلِ وَإِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ وَقَدْ حَفِظْتُهُ عَنْ سُفْيَانَ مِرَارًا كَمَا وَصَفْتُهُ.
وَرَوَى شُعْبَةُ عَنْ أَبِي الْمُجَالِدِ قَالَ: اخْتَلَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ وَأَبُو بُرْدَةَ فِي السَّلَفِ فَبَعَثُونِي إِلَى ابْنِ أَبِي أَوْفَى فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: كُنَّا نُسْلِفُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ إِلَى قَوْمٍ مَا هُوَ عِنْدَهُمْ.
وَرَوَى عَطِيَّةُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: مَنْ أَسْلَفَ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصْرِفْهُ إِلَى غَيْرِهِ.
وَرَوَى جَامِعُ بْنُ شَدَّادٍ عَنْ طَارِقٍ المجازي قَالَ: كُنْتُ فِي رُفْقَةٍ فَنَزَلْنَا قُرْبَ الْمَدِينَةِ فَكَانَ مَعَنَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ فَخَرَجَ إِلَيْنَا رَجُلٌ عَلَيْهِ ثَوْبَانِ فَقَالَ: تَبِيعُونَ النَّاقَةَ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ بِكَمْ فَقُلْنَا: بِكَذَا وَكَذَا وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ فَأَخَذَ النَّاقَةَ وَلَمْ يَتَرَبَّصْ فَلَمَّا أَخَذَهَا وَتَوَارَى بَيْنَ جُدْرَانِ الْمَدِينَةِ قَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ أَتَعْرِفُونَ الرَّجُلَ؟ فَقَالَ: بَعْضُنَا: أَمَّا وَجْهُهُ بِوَجْهِ غَدَّارٍ فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ جَاءَنَا رَجُلٌ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا حَتَى تَشْبَعُوا وَأَنْ تَكْتَالُوا حَتَى تَسْتَوْفُوا قَالَ فَأَكَلْنَا حَتَى شَبِعْنَا وَاكْتَلْنَا حَتَّى اسْتَوْفَيْنَا. فَمَوْضِعُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ ابْتَاعَ النَّاقَةَ بِثَمَنٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ.
فَدَلَّ عَلَى أمرين:
أحدهما: جوازه السلم في الأصل.
والثاني: جواز حَالًا.
فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عَقْدِ السَّلَمِ بلفظ البيع كقول: بِعْتُكَ هَذَا الدِّينَارَ بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ هَلْ يَكُونُ بَيْعًا أَوْ سَلَمًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ يَكُونُ سَلَمًا بِلَفْظِ الْبَيْعِ لِأَنَّ السَّلَمَ صِنْفٌ مِنَ الْبُيُوعِ فَعَلَى هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَفْتَرِقَا قَبْلَ قَبْضِ الدِّينَارِ وَيَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ بِهَذَا الْحَدِيثِ. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا يَكُونُ بَيْعًا لِأَنَّ السَّلَمَ اسْمٌ هُوَ أَخَصُّ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَفْتَرِقَا قَبْلَ قَبْضِ الدِّينَارِ وَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَالُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ.
ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ مِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى أَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يُجْمَعُ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا فَلَمَّا تَنَوَّعَ الثَّمَنُ نَوْعَيْنِ مُعَيَّنًا وَمَوْصُوفًا وَجَبَ أَنْ يَتَنَوَّعَ الْمُثَمَّنُ نَوْعَيْنِ مُعَيَّنًا وَمَوْصُوفًا فَالْمُعَيَّنُ الْبُيُوعُ

(5/389)


النَّاجِزَةُ وَالْمَوْصُوفُ السَّلَمُ فِي الذِّمَّةِ فَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ النَّصِّ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالْمَعْنَى عَلَى جَوَازِ السَّلَمِ.
فَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدِ انْعَقَدَ مِنَ الصَّحَابَةِ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى وَلَمْ يُخَالِفْ بَعْدَهُمْ إِلَّا ابْنُ الْمُسَيَّبِ فَقَدْ حُكِيَتْ عَنْهُ حِكَايَةٌ شَاذَّةٌ أَنَّهُ أَبْطَلَ السَّلَمَ وَمَنَعَ مِنْهُ وَهُوَ إِنْ صَحَّتِ الْحِكَايَةُ عَنْهُ فَمَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ تَقَدَّمُوا مَعَ مَا ذكرنا من النصوص الدالة والمعنى الموجب. قال الشافعي رحمه الله تعالى: " قد أَذِنَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ فِي الرَّهْنِ وَالسَّلَمِ فَلَا بَأْسَ بِالرَّهْنِ وَالْحَمِيلِ فِيهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِيهِ.
وَحُكِيَ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ أَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِي السَّلَمِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ ذَلِكَ وَثِيقَةٌ فِي الثَّمَنِ دُونَ الْمُثَمَّنِ فَأَشْبَهَ بُيُوعَ الْأَعْيَانِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ فِيهَا وَهَذَا خَطَأٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . وَرَدَ هَذَا فِي آيَةِ الدَّيْنِ فَكَانَ إِبَاحَةُ الرَّهْنِ وَالسَّلَمِ نَصًّا وَفِي غَيْرِهِ اسْتِدْلَالًا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَصِحُّ أَنْ يُسْتَوْثَقَ فِيهِ بِالشَّهَادَةِ فَجَازَ أَنْ يُسْتَوْثَقَ فِيهِ بِالرَّهْنِ وَالضَّمَانِ كَالْبَيْعِ وَلِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ لَمَّا لَمْ يَجُزْ أَخْذُ الرَّهْنِ فِي الْمُثَمَّنِ وَجَازَ فِي الثَّمَنِ وَجَبَ إِذَا لَمْ يَجُزْ فِي السَّلَمِ أَخْذُ الرَّهْنِ فِي الثَّمَنِ أَنْ يَجُوزَ فِي الْمُثَمَّنِ وَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ سَقَطَ اسْتِدْلَالُهُمْ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ جَوَازُ الرَّهْنِ وَالضَّمِينِ فِي السَّلَمِ فَإِنْ كَانَ الْمَأْخُوذُ فِيهِ رَهْنًا كَانَ لِلْمُسَلِّمِ مُطَالَبَةُ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ بِحَقِّهِ عِنْدَ مَحَلِّهِ فَإِنْ تَعَذَّرَ حُصُولِ ذَلِكَ مِنْ جِهَتِهِ بِيعَ الرَّهْنُ بِجِنْسِ الْأَثْمَانِ ثُمَّ اشْتَرَى بِمَا حَصَلَ مِنْ ثَمَنِهِ مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُسَلِّمُ فِي سِلْمِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُبَاعَ الرَّهْنُ بِالسَّلَمِ الْمُسْتَحَقِّ إِلَّا عَنْ رِضَا الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ وَإِذْنِهِ؛ لِأَنَّ الرُّهُونَ الْمَبِيعَةَ عَلَى أَرْبَابِهَا إِنَّمَا تُبَاعُ بِغَالِبِ أَثْمَانِهَا وَإِنْ كَانَتِ الْوَثِيقَةُ فِي السَّلَمِ ضَمَانًا ضَمِنَهُ فَالْمُسَلِّمُ إِذَا حَصَّلَ حَقَّهُ الْخِيَارُ فِي مُطَالَبَةِ الضَّامِنِ بِهِ أَوِ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ فَإِنْ أَخَذَ حَقَّهُ مِنَ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ بَرِئَ وَبَرِئَ الضَّامِنُ مَعَهُ وَلَوْ أَخَذَ حَقَّهُ مِنَ الضَّامِنِ كَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ بِهَا إِذَا كَانَ ضَمَانُهُ بِأَمْرِهِ دُونَ قِيمَتِهِ وَلَوْ أَخَذَ حَقَّهُ مِنَ الضَّامِنِ كَانَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَرْجِعَ لِلْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ بِهَا إِذَا كَانَ ضَمَانُهُ بِأَمْرِهِ دُونَ قِيمَتِهِ سَوَاءً كَانَ الْمُسَلِّمُ مِمَّا يَضْمَنُ فِي الْمَغْصُوبِ بِالْمِثْلِ كَالْحِنْطَةِ أَوْ بِالْقِيمَةِ كَالثِّيَابِ وَلَا يَجُوزُ لِلضَّامِنِ مُطَالَبَةُ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ بِغَيْرِ مَا ضَمِنَ عَنْهُ قَبْلَ أَدَائِهِ عَنْهُ وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِخِلَافِهِ؛ فَلَوْ أَنَّ الْمُسَلَّمَ إِلَيْهِ دَفَعَ السَّلَمَ إِلَى الضَّامِنِ فَإِنْ جَعَلَهُ رَسُولًا فِي دَفْعِهِ إِلَى الْمُسَلِّمِ جَازَ فَلَوْ تَلِفَ فِي يَدِ الضَّامِنِ لَمْ يُلْزِمْهُ ضَمَانُهُ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَإِنْ دَفْعَهُ إِلَيْهِ قَضَى مِنْ ضَمَانِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّ الضَّامِنَ يَسْتَحِقُّ الْقَضَاءَ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَقْضِيَهُ مَا لَيْسَ لَهُ فَلَوْ تَلِفَ

(5/390)


ذَلِكَ مِنْ يَدِ الضَّامِنِ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى الْبَدَلِ وَلَوْ كَانَ الضَّامِنُ باعه بَيْعُهُ بَاطِلًا فِي الْحَالَتَيْنِ مَعًا لِأَنَّهُ بَاعَ ما لم يملكه بغير أمر مالكه.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإذا جاز السلم في التمر السنتين وَالتَّمْرُ قَدْ يَكُونُ رُطَبًا فَقَدْ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَجَازَ الرُّطَبَ سَلَفًا مَضْمُونًا فِي غَيْرِ حِينِهِ الَذِي يَطِيبُ فِيهِ لِأَنَّهُ إِذَا أَسْلَفَ سنتين كَانَ فِي بَعْضِهَا فِي غَيْرِ حِينِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ.
السَّلَمُ يَجُوزُ فِيمَا كَانَ مَوْجُودًا أَوْ وَقْتَ الْمَحَلِّ وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا مِنْ قَبْلِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: لَا يَصِحُّ السَّلَمُ إِلَّا فِيمَا يَكُونُ مَوْجُودًا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إِلَى وَقْتِ الْمَحَلِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: إِذَا كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ وَوَقْتَ الْمَحَلِّ جَازَ السَّلَمُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِيمَا بَيْنَهُمَا مَعْدُومًا فَاعْتَبَرَ طَرَفَي الْعَقْدِ لَا غَيْرَ.
وَاسْتَدَلُّوا بِرِوَايَةِ إِسْحَاقَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ نَجْرَانَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " لَا تُسْلِفُوا فِي النَّخِيلِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا يَعْنِي فِي تَمْرِ النَّخْلِ وَبِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حُكْمًا عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ ".
وَقَالَ أبو حنيفة: وَلِأَنَّ مَوْتَ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ قَبْلَ الْمَحَلِّ يَجُوزُ وَحُلُولُ مَا عَلَيْهِ إِنْ مَاتَ وَاجِبٌ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وُجُودُهُ مِنْ حِينِ العقد إلى أن يقدر السَّلَمُ فِي بُيُوعِ الصِّفَاتِ كَتَأْخِيرِ الْقَبْضِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ، ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ مَا أَوْجَبَ تأخير القبض في الأعيان المبيعة ثبت الْخِيَارَ وَلَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ، وَجَبَ أَنْ يَكُونَ كل مَا اقْتَضَى تَأْخِيرُ الْقَبْضِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَوْصُوفَةِ قد ثبت الْخِيَارَ وَلَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدِمَ الْمُثَمَّنُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ يُوجِبُ الْخِيَارَ ولا يبطل العقد وَقْتِ الْمَحَلِّ شَرْطًا لِجَوَازِ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ كَمَا كَانَ وُجُودُهُ وَقْتَ الْمَحَلِّ شَرْطًا لِاسْتِحْقَاقِهِ فِيهِ وَهُوَ عُمْدَتُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ وَقَدْ جَوَّزَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ ذَلِكَ قِيَاسًا فَقَالُوا كُلُّ وَقْتٍ جَازَ أَنْ يَكُونَ السَّلَمُ فِيهِ مُسْتَحَقًا كَانَ وُجُودُهُ فِيهِ شَرْطًا قِيَاسًا عَلَى وَقْتِ الْمَحَلِّ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لِلْعَقْدِ طَرَفَانِ ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ فَلَمَّا كَانَ وَجُودُهُ فِي انْتِهَائِهِ وَقْتَ الْمَحَلِّ شَرْطًا اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ وَجُوُدُهُ فِي ابْتِدَائِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ شَرْطًا وَتَحْرِيرُهُ أَنَّهُ أَحَدُ طَرَفَيِ الْعَقْدِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ شَرْطًا كَالطَّرَفِ الثَّانِي.
وَاسْتَدَلَّا جَمِيعًا بِأَنْ قَالَا ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ أَغْلَظُ حُكْمًا مِنِ انْتِهَائِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ بَيْعَ الْآبِقِ وَقْتَ الْعَقْدِ بَاطِلٌ وَإِنْ وُجِدَ مِنْ بَعْدُ فَلَمَّا كَانَ وُجُودُ ذَلِكَ فِي انْتِهَاءِ الْعَقْدِ شَرْطًا فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ

(5/391)


وُجُودُهُ فِي ابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ شَرْطًا؛ وَلِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ غَرَرٌ فَكَانَ مِنْ شَرْطِهِ أَنْ يُحْرَسَ مما يخاف حدوثه من الغرر حتى لا يكثر فيه فيبطل ذلك وَعَدَمُ ذَلِكَ وَقْتَ الْعَقْدِ وَإِثْبَاتِهِ غَرَرٌ فَوَجَبَ أَنْ يُحْرَسَ مِنَ الْعَقْدِ وَلِأَنَّ جَهَالَةَ الشَّيْءِ أَيْسَرُ مِنْ عَدَمِهِ فَلَمَّا بَطَلَ السَّلَمُ بِجَهَالَتِهِ وقت العقد فأولى أن يبطل بعدمه وقت الْعَقْدِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِفُونَ فِي التَّمْرِ السَّنَتَيْنِ والثلاث فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ معلوم وأجل مَعْلُومٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثِّمَارَ إِنَّمَا تُوجَدُ فِي وَقْتٍ مِنَ السَّنَةِ وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدْ أَجَازَ السَّلَمَ فِيهِ سَنَتَيْنِ وَثَلَاثًا وَهَذِهِ مُدَّةٌ يَعْدَمُ الرُّطَبُ فِي أَكْثَرِهَا فَدَلَّ عَلَى جَوَازِهِ وَإِنْ عَدِمَ قَبْلَ أَجْلِهِ؛ وَلِأَنَّ كُلَّ زَمَانٍ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلسَّلَمِ عَقْدًا لَمْ يَكُنْ وَجُودُهُ فِيهِ شَرْطًا قِيَاسًا عَلَى مَا بَعْدَ الْأَجَلِ وَلِأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ فِي مِلْكِ الْعَاقِدِ مُعْتَبَرًا لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ مُعْتَبَرًا كَالْوَصِيَّةِ، وَلِأَنَّ قَبْضَ السَّلَمِ يَفْتَقِرُ إِلَى زَمَانٍ وَمَكَانٍ فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ وُجُودُهُ فِي غَيْرِ مَكَانِ الْقَبْضِ مُعْتَبَرًا وَجَبَ أَلَّا يَكُونَ وُجُودُهُ فِي غَيْرِ زَمَانِ الْقَبْضِ مُعْتَبَرًا؛ وَلِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُثَمَّنِ فِي بُيُوعِ الصِّفَاتِ فَلَمَّا صَحَّ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَحَلِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مِنْ قَبْلُ صَحَّ فِي بُيُوعِ الصِّفَاتِ أَنْ يَكُونَ الْمُثَمَّنُ مَوْجُودًا وَقْتَ الْمَحَلِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مِنْ قَبْلُ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَمَّا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: لَا تُسْلِفُوا فِي النَّخْلِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهُ فَهُوَ أَنَّ رِوَايَةَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ مَجْهُولٍ لَا يُعَوَّلُ عَلَى حَدِيثِهِ ثُمَّ لَوْ صَحَّ لَحُمِلَ عَلَى بُيُوعِ الْأَعْيَانِ. وَأَمَّا نَهْيُ حَكِيمٍ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ فَمَحْمُولٌ عَلَى بَيْعِ مَا لَمْ يَمْلِكْهُ مِنَ الْأَعْيَانِ.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُهُمْ بِأَنَّ السَّلَمَ قَدْ حَلَّ بِمَوْتِ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ فَهَذَا اعْتِبَارٌ سَاقِطٌ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ تُحْمَلُ عَلَى السَّلَامَةِ، وَلَوْ جَازَ أَنْ كون مِثْلُ هَذَا مُعْتَبَرًا لَبَطَلَتْ أَكْثَرُ الْعُقُودِ لِجَوَازِ تلفها وحدوث مِنْ صِحَّتِهَا وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ مَا قَبْلَ الْمَحَلِّ أَجَلًا مُسْتَحَقًّا لَكَانَ مَجْهُولًا، وَلَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْعَقْدُ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَبْطُلُ بِالْأَجَلِ الْمَجْهُولِ وَفِي تَرْكِ اعْتِبَارِ هَذَا دَلِيلٌ على ترك اعتبار ما قالوا.
وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ مَالِكٍ بِالطَّرَفِ الثَّانِي فَإِنَّمَا كَانَ وُجُودُهُ فِيهِ مُعْتَبَرًا لِاسْتِحْقَاقِ قَبْضِهِ فِيهِ وَلَمْ يكن وجوده وقت العقد معتبر لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ فِيهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعَقْدَ أَقْوَى مِنْ حَالِ الْقَبْضِ فَهَذَا فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ فَأَمَّا فِي السَّلَمِ فَحَالُ الْقَبْضِ وَالْمَحَلِّ أَقْوَى مِنْ حَالِ الْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّ السَّلَمَ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ مَعْدُومًا وَقْتَ الْمَحَلِّ كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ عَقْدَ السَّلَمِ غَرَرٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَحْرُوسًا مِنَ الْغَرَرِ الْمَظْنُونِ فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِيهِ عَلَى وَجْهَيْنِ:

(5/392)


أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ بِغَرَرٍ كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ فَعَلَى هَذَا سَقَطَ الِاسْتِدْلَالُ وَالثَّانِي: أَنَّهُ غَرَرٌ جَوَّزَهُ الشَّرْعُ فَعَلَى هَذَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مَحْرُوسًا مِنَ الْغَرَرِ فِي حَالَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: فِي حَالِ السَّلَامَةِ وَهَذَا غَرَرٌ فِي غَيْرِ حَالِ السَّلَامَةِ.
والثانية: من الغرر وقبل الْمَحَلِّ وَهَذَا غَرَرٌ قَبْلَ الْمَحَلِّ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ أَنَّهُ لَمَّا بَطَلَ بِجَهَالَتِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَأَوْلَى أَنْ يَبْطُلَ بِعَدَمِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّ جَهَالَتَهُ وَقْتَ الْعَقْدِ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَاءِ مَا يَسْتَحِقُّ بِالْعَقْدِ وَعَدَمِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَاءِ مَا اسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ.

مَسْأَلَةٌ:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وَإِنْ فَقَدَ الرُّطَبَ أَوِ الْعِنَبَ حَتَّى لَا يبقى منه شيء في البلد الذي أسلفه فيه قيل المسلف بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا بَقِيَ مِنْ سَلَفِهِ بِحِصَّتِهِ أَوْ يُؤَخِّرَ ذَلِكَ إِلَى رُطَبٍ قابل وقيل ينفسخ بحصته ونهى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حكيما عن بيع ما ليس عنده وأجاز السلف فدل أنه نهى حكيما عن بيع ما ليس عنده إذا لم يكن مضمونا وذلك بيع الأعيان ".
قال الماوردي: وهذا باطل إِذَا أَسْلَمَ فِي ثَمَرَةٍ إِلَى أَجَلٍ يُوجَدُ غَالِبًا فِيهِ فَحَلَّ الْأَجَلُ وَقَدْ أُعْدِمَتِ الثَّمَرَةُ لِحَاجَةٍ حَدَثَتْ أَوْ لِتَأْخِيرِ الْقَبْضِ حَتَّى فُقِدَتْ فَفِي عَقْدِ السَّلَمِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: قَدْ بَطَلَ بِعَدَمِهِ عِنْدَ الْأَجَلِ لِأَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ سَلَمٌ فِي مَعْدُومٍ فَصَارَ كَمَا لَوْ عَلِمَا عِنْدَ العقد مَعْدُومٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَلَفُ الْعَيْنِ الْمَبِيعَةِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْقَبْضِ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّ الْعَقْدَ صَحِيحٌ وَلِلْمُسَلِّمِ الْخِيَارُ لِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ تَعَذُّرَ السَّلَمُ فِي بُيُوعِ الصِّفَاتِ كَتَأْخِيرِ الْقَبْضِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ ثُمَّ ثَبَتَ أَنَّ مَا أَوْجَبَ تَأْخِيرَ الْقَبْضِ فِي الْأَعْيَانِ الْمَبِيعَةِ يُثْبِتُ الْخِيَارَ وَلَا يُبْطِلُ الْعَقْدَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا اقْتَضَى تَأْخِيرُ الْقَبْضِ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَوْصُوفَةِ يَثْبُتُ الْخِيَارُ وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدَ وجب أَنْ يَكُونَ عَدِمَ الْمُثَمَّنُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ يوجب الخيار ولا يبطل العقد.

فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ وَجَبَ اسْتِرْجَاعُ الثَّمَنِ وَلَا خِيَارَ. فلو اختلفا في قدر الثمن فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْبَائِعِ الْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ غَارِمٌ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الثَّمَنَ مُسَلَّمًا فِي غَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ إِلَّا بعد قبضه؛ لأن لَا يَكُونَ دَيْنًا بِدَيْنٍ وَلَوْ كَانَ الْمُسَلِّمُ قَدْ أَخَذَ بِالسَّلَمِ رَهْنًا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبْسُ الرَّهْنِ عَلَى الثَّمَنِ، وَقَالَ أبو حنيفة لَهُ ذَلِكَ لِقِيَامِ الثَّمَنِ بَعْدَ الْفَسْخِ مَقَامَ الأجل وهذا خطأ؛ لأن الأجل قد يبطل فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَبْقَى مَا كَانَ مَعْقُودًا بِهِ وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِبُطْلَانِ الثَّمَنِ فَإِنْ قُلْنَا إِنَّ الْعَقْدَ لَا يَبْطُلُ فَالْمُسَلِّمُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَيَسْتَرْجِعَ الثَّمَنَ وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْعَقْدِ إِلَى وُجُودِ ذَلِكَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَإِنَّمَا يُثْبِتُ

(5/393)


لَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ نَقْصٌ فَإِذَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ وَفِي هَذَا الْخِيَارِ وَجْهَانِ كَمَا قُلْنَا فِي الْخِيَارِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الْبَيْعِ عِنْدَ تَلَقِّي الرُّكْبَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ كَخِيَارِ الْعَيْبِ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُمْتَدٌّ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَإِنْ فَسَخَ اسْتَرْجَعَ الثَّمَنَ وَإِنْ أَقَامَ لَزِمَهُ الصَّبْرُ إِلَى الْعَامِ الْمُقْبِلِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ الْفَسْخُ قَبْلَهُ.
فَإِنْ جَاءَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ وَالثَّمَرَةُ أَيْضًا مَعْدُومَةٌ فَلَهُ الْخِيَارُ أَيْضًا بِعَدَمِ الثَّمَرَةِ فِي الْعَامِ الثَّانِي بَيْنَ الْفَسْخِ وَاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ أَوِ الْمَقَامِ إِلَى الْعَامِ الثَّالِثِ ثُمَّ هَكَذَا فِي كُلِّ عَامٍ ثَانٍ فَلَوْ لَمْ تَكُنِ الثَّمَرَةُ مَعْدُومَةً وَلَكِنْ عَزَّتْ وَغَلَتْ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ قول واحد يُؤْخَذُ الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ بِدَفْعٍ ذَلِكَ مَعَ عِزَّتِهِ وَغُلُوِّ سِعْرِهِ فَإِنْ ضَاقَ بِهِ أَوْ أَعْسَرَ عَنْهُ صَارَ كَالْمُفْلِسِ فَيَكُونُ لِلْمُسَلِّمِ الْخِيَارُ.

فَصْلٌ:
وأما إِنْ وُجِدَ بَعْضُ الثَّمَرَةِ الَّتِي أَسْلَمَ فِيهَا وَعَدِمَ بَاقِيهَا لِتَأْخِيرِ الْقَبْضِ حَتَّى نَفَذَتْ أَوْ لجائحة حدثت فالمسلم فِي الْمَعْدُومِ الْبَاقِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ الْمَاضِيَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: جَائِزٌ فَعَلَى هَذَا هُوَ فِي الْمَوْجُودِ أَجْوَزُ:
وَالثَّانِي: أَنَّهُ فِي الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ فَعَلَى هَذَا إِنْ قِيلَ بِجَوَازِ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ كَانَ السَّلَمُ فِي الْمَوْجُودِ وَإِنْ قِيلَ إِنَّ تَفْرِيقَ الصَّفْقَةِ لَا يَجُوزُ فَهَذَا فَسَادٌ طَرَأَ عَلَى بَعْضِ الصَّفْقَةِ مَعَ تَقَدُّمِهِ صِحَّتُهَا فَيَكُونُ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ المروزي أن مَا طَرَأَ عَلَى الصَّفْقَةِ مِنَ الْفَسَادِ بَعْدَ الْعَقْدِ كَانَ لِفَسَادِ الْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ فَيُجْعَلُ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ بَاطِلًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا الْفَسَادُ الطَّارِئُ عَلَى الصَّفْقَةِ لِمَعْنَى حَادِثٍ لَمْ يَبْطُلِ الْبَاقِي مِنْهَا فَيَكُونُ الْعَقْدُ فِي الْمَوْجُودِ جَائِزًا وَفِي الْمَعْدُومِ بَاطِلًا فَيَخْرُجُ السَّلَمُ فِي الْجَمِيعِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ فِي الْكُلِّ بَاطِلٌ وَيَسْتَرْجِعُ الْمُسَلِّمُ الثَّمَنَ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: السَّلَمُ فِي الْمَوْجُودِ جَائِزٌ وَفِي الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ وَلِلْمُسَلِّمِ الْخِيَارُ بَيْنَ الْفَسْخِ وَاسْتِرْجَاعِ الثَّمَنِ أَوِ الْمَقَامِ عَلَى الْمَوْجُودِ بِحِسَابِهِ مِنَ الثَّمَنِ وَقِسْطِهِ قَوْلًا وَاحِدًا وَلَا خِيَارَ لِلْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ وَجْهًا وَاحِدًا.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّ السَّلَمَ فِي الْكُلِّ جَائِزٌ فَيَكُونُ الْمُسَلَّمُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ فِي الْجَمِيعِ وَيَسْتَرْجِعَ الثَّمَنَ وبين أن يقيم على العقد وَبَيْنَ أَنْ يُقِيمَ عَلَى الْعَقْدِ فِي الْمَعْدُومِ فَعَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَجُوزُ إِذَا مَنَعَ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ.

(5/394)


وَالثَّانِي: يَجُوزُ إِذَا أُجِيزَ تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ فَعَلَى هذا بما يُقِيمُ عَلَى الْمَوْجُودِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُقِيمُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِلَّا فَسَخَ.
وَالثَّانِي: بِالْحِسَابِ وَالْقِسْطِ وَهُوَ أَصَحُّ فَعَلَى هَذَا هَلْ يَكُونُ لِلْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ الْخِيَارُ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ.

مسألة:
قال الشافعي رحمه الله تعالى: " فإذا أجازه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بصفة مضمونا إِلَى أَجَلٍ كَانَ حَالًا أَجْوَزُ وَمِنَ الْغَرَرِ أَبْعَدَ فَأَجَازَهُ عَطَاءٌ حَالًا ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: يَجُوزُ عَقْدُ السَّلَمِ حَالًا وَمُؤَجَّلًا وَقَالَ مَالِكٌ، وأبو حنيفة: لَا يَجُوزُ السَّلَمُ حَالًا حَتَّى يَكُونَ مُؤَجَّلًا إِلَّا أَنَّ أبا حنيفة يَقُولُ: يَجُوزُ إِلَى كُلِّ أَجَلٍ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ الْأَجَلُ فيه أقل من ثلاثة أيام.
واستدلا عَلَى أَنَّ الْأَجَلَ مِنْ شَرْطِهِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ ". فَجَعَلَ الْأَجَلَ فِيهِ شَرْطًا، وَلِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ يَجْمَعُ ثَمَنًا وَمُثَمَّنًا فَلَمَّا كَانَ الثَّمَنُ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التَّعْجِيلُ اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْمُثَمَّنُ لَا يَقَعُ إِلَّا عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التَّأْجِيلُ.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ أَحَدُ بَدَلَيِ الْمُسَلِّمِ فَوَجَبَ أَلَّا يَقَعَ عَلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ كَالثَّمَنِ؛ وَلِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ كَعَقْدِ الْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقَدٌ عَلَى مَا لَا يَمْلُكُهُ الْعَاقِدُ فِي الْحَالِ ثُمَّ أَثْبَتَ أَنَّ الْأَجَلَ شَرْطٌ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي عَقْدِ السَّلَمِ وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّهُ عَقْدٌ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ وُجُودُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي مِلْكِ عَاقِدِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مِنْ شَرْطِهِ كَالْإِجَارَةِ وَلِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ مَوْضُوعٌ عَلَى ارْتِفَاقِ الْعَاقِدَيْنِ بِهِ وَارْتِفَاقِ الْمُشْتَرِي بِاسْتِرْخَاصِهِ وَارْتِفَاقِ الْبَائِعِ بِتَأْخِيرِهِ فَإِذَا عَقَدَ حَالًا زَالَ وَضْعُ حَقِّ حَمْلِ الْبَائِعِ بِهِ فَبَطَلَ لِخُرُوجِهِ عَنْ مَوْضُوعِهِ وَلِأَنَّ السَّلَمَ إِنَّمَا سُمِّيَ سَلَمًا لِاخْتِصَاصِهِ بِتَأْجِيلِ الْمُثَمَّنِ وَتَسْلِيمِ الثَّمَنِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْدِلَ بِهِ عَمَّا وُضِعَ الِاسْمُ لَهُ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى جَوَازِهِ حَالًا قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ فَجَازَ أَنْ يَصِحَّ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا كَالْبَيْعِ وَلِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ بَيْعُ عَيْنٍ وَبَيْعُ صِفَةٍ فَلَمَّا صَحَّتْ بُيُوعُ الْأَعْيَانِ حَالَّةً وَجَبَ أَنْ يَصِحَّ بُيُوعُ الصِّفَاتِ حَالَّةً.
وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الْبَيْعِ فَوَجَبَ أَنْ يَصِحَّ حَالًا كَبُيُوعِ الْأَعْيَانِ؛ وَلِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُثَمَّنُ فِي بَيْعِ الصِّفَاتِ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِالذِّمَّةِ مِنْ عَقْدِ المعاوضة دخله التعجيل والتأجيل كالثمن ولأنها مُدَّةٌ مُلْحَقَةٌ بَعْدَ مُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ شَرْطًا فِيهِ كَالْخِيَارِ وَكَالْأَجَلِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدٌ مَعْلُومٌ لَيْسَ مِنْ شَرْطِهِ التَّنْجِيمُ فَوَجَبَ أَلَّا يَكُونَ مِنْ شَرْطِهِ التَّأْجِيلُ

(5/395)


كَالنِّكَاحِ وَلِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي أَنَّ الْأَجَلَ غَرَرٌ فَلَمَّا جَازَ السَّلَمُ مُؤَجَّلًا مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ كَانَ حَالًا أَجْوَزُ لِأَنَّهُ مِنَ الْغَرَرِ أَبْعَدُ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى سَبَبِهِ الْمَنْقُولِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ يُسْلِمُونَ فِي الثَّمَرِ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَ فَقَالَ: مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم.
فيكون تقرير ذَلِكَ فَمَنْ أَسْلَمَ فِي مَكِيلٍ فَلْيَكُنِ الْكَيْلُ مَعْلُومًا، وَمَنْ أَسْلَمَ فِي مَوْزُونٍ فَلْيَكُنِ الْوَزْنُ مَعْلُومًا وَمَنْ أَسْلَمَ فِي مُؤَجَّلٍ فَلْيَكُنِ الْأَجَلُ معلوما يدل على ذلك من الحديثان:
أَحَدُهُمَا: جَوَازُ السَّلَمِ فِيمَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا بِمَوْزُونٍ فِي الْعَدَدِ الْمَزْرُوعِ وَلَمْ يَكُنِ الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ شَرْطًا فِي كُلِّ سَلَمٍ كَذَلِكَ يَجُوزُ فِي غَيْرِ الْمُؤَجَّلِ وَلَا يَكُونُ الْأَجَلُ شَرْطًا فِي كُلِّ سَلَمٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الْحَدَّيْنِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَاجْتِمَاعُهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ كَذَلِكَ ضَمُّ الْأَجَلِ إِلَيْهِمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ أَحَدُ بَدَلَيِ السَّلَمِ فَكَانَ عَلَى جِهَةٍ وَاحِدَةٍ كَالثَّمَنِ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ رَدَّ الْفَرْعَ إِلَى الْأَصْلِ لِأَنَّ الثَّمَنَ لَا يَدْخُلُهُ الْأَصْلُ.
وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْقِيَاسِ أَنْ يُلْزِمَ فِي الْمُثَمَّنِ الْأَجَلَ وَهَذَا لَا يَصِحُّ ثُمَّ يَقُولُ الثَّمَنُ فِي السَّلَمِ فِي مُقَابَلَةِ الْمُثَمَّنِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ لِاسْتِحْقَاقِ تَعْجِيلِهَا وَسُقُوطِ الْأَجَلِ فِيهَا ثُمَّ كَانَ مَا فِي مُقَابَلَةِ الْعَيْنِ مِنَ الْمُثَمَّنِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا فِي مُقَابَلَةِ الثَّمَنِ فِي السَّلَمِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُؤَجَّلًا وَمُعَجَّلًا وَأَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِيهَا مُقَدَّرَةً بِغَيْرِ مُدَّةٍ فَهَذِهِ الْإِجَارَةُ تَجُوزُ حَالًا وَمُؤَجَّلَةً فَإِنْ رَدُّوهُ إِلَيْهَا لَمْ يَصِحَّ وَضَرْبٌ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِيهَا لَا تَتَقَدَّرُ إِلَّا بِالْمُدَّةِ فَلَا بُدَّ مِنْ شَرْطِ الْمُدَّةِ فِيهَا لِتَصِيرَ الْمَنْفَعَةُ مُقَدَّرَةٌ فِيهَا وَلَا يَصِحُّ رَدُّ السَّلَمِ إِلَيْهَا؛ لِأَنَّ السَّلَمَ لَمَّا تَقَدَّرَ بِغَيْرِ مُدَّةٍ لَمْ يَلْزَمْ فِيهِ اشْتِرَاطُ الْمُدَّةِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّ مَوْضُوعَ السَّلَمِ ارْتِفَاقُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِهِ فِي إِسْقَاطِ الْأَجَلِ إِبْطَالُ مَوْضُوعِهِ فَهَذِهِ حُجَّةُ تُقْلَبُ عَلَيْهِمْ فَيُقَالُ لَمَّا كَانَ مَا وُضِعَ لَهُ السَّلَمُ مِنْ رِفْقِ الْمُشْتَرِي بِالِاسْتِرْخَاصِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ دِينَارًا فِيمَا يُسَاوِي دِرْهَمًا جَازَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَا وَضَعَ لَهُ مِنْ رِفْقِ الْبَائِعِ بِالْأَجَلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ السَّلَمِ وَلَوْ أَسْلَمَ حَالًا جَازَ وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إِنَّهُ إِنَّمَا اخْتَصَّ بِاسْمِ السَّلَمِ لِاسْتِحْقَاقِ الْأَجَلِ فَدَعْوَى غَيْرِ مسلم بَلْ سُمِّي سَلَمًا لِاسْتِحْقَاقِ تَسْلِيمِ جَمِيعِ الثَّمَنِ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ السَّلَمِ حَالًا وَمُؤَجَّلًا فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلِ الْأَصْلُ فِيهِ التَّأْجِيلُ أَوِ الْحُلُولُ رُخْصَةٌ أَوِ الْأَصْلُ فِيهِ الْحُلُولُ والتأجيل رخصة على ثلاثة أوجه:

(5/396)


أحدها: أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ التَّأْجِيلُ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِهِ، وَالْحُلُولُ رُخْصَةٌ فِيهِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الْحُلُولُ لِانْتِفَاءِ الْغَرَرِ فِيهِ وَالتَّأْجِيلُ رُخْصَةٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ الْأَمْرَيْنِ فِيهِ سَوَاءٌ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ أَصْلًا بِأَوْلَى مِنَ الْآخَرِ لِقِيَامِ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِمَا وَجَوَازِ السَّلَمِ مَعَهُمَا وَلِهَذَا الْخِلَافُ تَأْثِيرٌ نَذْكُرُهُ مِنْ بَعْدُ إِنْ شَاءَ اللهٌ تَعَالَى.

مَسْأَلَةٌ:
(قَالَ الْمُزَنِيُّ) قلت أنا وَالَّذِي اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ أَنْ لَا يُسَلِّفَ جُزَافًا مِنْ ثِيَابٍ وَلَا غَيْرِهَا وَلَوْ كَانَ دِرْهَمًا حتى يصفه بوزنه وسكته وَبِأَنَّهُ وَضَحٌ أَوْ أَسْوَدُ كَمَا يَصِفُ مَا أسلم فيه (قال المزني) قلت أنا فَقَدْ أَجَازَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنْ يَدْفَعَ سِلْعَتَهُ غَيْرَ مَكِيلَةٍ وَلَا مَوْزُونَةٍ فِي سَلَمٍ (قال المزني) وَهَذَا أَشْبَهُ بِأَصْلِهِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ: إِذَا كَانَ الثَّمَنُ فِي السَّلَمِ مُشَاهَدًا فَهَلْ يَلْزَمُ صِفَتُهُ جِنْسًا وَقَدْرًا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ السَّلَمِ صِفَةُ الثمن كما أن صحته صفة المثمن؛ ولأن عَقْدَ السَّلَمِ غَيْرُ مُنْبَرِمٍ لِأَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ وُجُودِ السَّلَمِ فَيَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَبَيْنَ عَدَمِهِ فَيَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةُ بِثَمَنِهِ وَمَا اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِبَدَلِهِ لَمْ تُغْنِ مُشَاهَدَتُهُ عَنْ صِفَتِهِ كَالْقَرْضِ وَمَالِ الْقِرَاضِ لَمَّا اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ بِبَدَلِهِ افْتَقَرَ إِلَى صِفَةِ جِنْسِهِ وَقَدْرِهِ وَلَمْ تُغْنِ الْمُشَاهَدَةُ عَنْ صِفَتِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ وَاخْتَارَهُ الْمُزَنِيُّ أَنَّ مُشَاهَدَةَ الثَّمَنِ فِي السَّلَمِ تُغْنِي عَنْ صفته.
لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ " فَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ يَحْتَاجُ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ لَبَيَّنَهَا لَهُمْ مَعَ حَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا كَمَا بَيَّنَ صِفَةَ السَّلَمِ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهَا؛ وَلِأَنَّ بُيُوعَ الْأَعْيَانِ قَدْ يَكُونُ الثَّمَنُ فِيهَا مُعَيَّنًا تَارَةً فَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى الصِّفَةِ وَفِي الذِّمَّةِ تَارَةً فَيَفْتَقِرُ إِلَى الصِّفَةِ كَذَلِكَ السلم لما تعين فيه الثمن لم يفتقر إلى الصفة ولما لم يتعين فيه الثمن افْتَقَرَ إِلَى الصِّفَةِ فَهَذَا تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ.
وَقَالَ أبو حنيفة: إِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا افْتَقَرَ إِلَى الصِّفَةِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ كَالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ لَمْ يَفْتَقِرْ إِلَى الصِّفَةِ.
وَلَوْ قَلَبَ هَذَا عَلَى أبي حنيفة لَكَانَ أَوْلَى لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِبَدَلِ مَالِهِ مِثْلٌ أَسْهَلُ مِنَ الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ مَا لَيْسَ لَهُ مِثْلٌ فَاقْتَضَى أَنْ تَكُونَ صِفَةَ مَا لَيْسَ لَهُ مِثْلُ مُسْتَحِقِّهِ لِيَعْلَمَ بِهَا الْقِيمَةَ وصفة ماله مثل غير مستحقه لأنه لا يَفْتَقِرُ إِلَى الْقِيمَةِ فَلَمَّا بَطَلَ هَذَا بَطَلَ مَا قَالَهُ وَلَيْسَ إِلَّا وَاحِدٌ مِنَ الْقَوْلَيْنِ إِمَّا أَنْ يَسْتَحِقَّ الصِّفَةَ فِي كُلِّ الثَّمَنِ أَوْ لَا يَسْتَحِقُّ فِي كُلِّ الثَّمَنِ.

(5/397)


فَصْلٌ:
فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَوْجِيهِ الْقَوْلَيْنِ فَلَا يَخْلُو حَالُ الثَّمَنِ فِي السَّلَمِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَضْرُبٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مُشَاهَدًا مَوْصُوفًا فَهَذَا جَائِزٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِانْتِفَاءِ الْجَهَالَةِ عَنْهُ بِمُشَاهَدَتِهِ وَانْتِفَاءِ الْغَرَرِ عَنْهُ بِصِفَتِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُشَاهَدٍ وَلَا مَوْصُوفٍ فَهَذَا بَاطِلٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا لِلْجَهَالَةِ بِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَوْصُوفًا غَيْرَ مُشَاهَدٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدْ أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ يَصِفُهَا فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ يَصِفُهَا ثُمَّ يَتَقَابَضَا الدَّنَانِيرَ فِي الْمَجْلِسِ عَلَى الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ.
فَذَهَبَ أَبُو الْعَبَّاسِ بْنُ رَجَاءٍ الْبَصْرِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا إِلَى أَنَّهُ سَلَمٌ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ يصير كلا الْبَدَلَيْنِ مَوْصُوفًا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ أَلَا تَرَى أَنَّ بُيُوعَ الْأَعْيَانِ لَمَّا كَانَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ فِيهِ مَوْصُوفًا وَهُوَ الثَّمَنُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ الْبَدَلُ الْآخَرُ مَوْصُوفًا وَهُوَ الْمُثَمَّنُ. وَقَالَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ: إِنَّ السَّلَمَ جَائِزٌ لِأَنَّ مَا كَانَ مَوْصُوفًا وَأُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ عَلَى صِفَتِهِ اسْتُغْنِيَ عَنْ مُشَاهَدَتِهِ كَالثَّمَنِ فِي بُيُوعِ الْأَعْيَانِ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ يَنْبَنِي عَلَى اخْتِلَافِ قَوْلَيْهِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ الْغَائِبَةِ عَلَى خِيَارِ الرُّؤْيَةِ.
وَالضَّرْبُ الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ مُشَاهَدًا غَيْرَ مَوْصُوفٍ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ قَدْ أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ هَذِهِ الدَّنَانِيرَ الَّتِي قَدْ شَاهَدْتَهَا فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ مِنْ حَالِهَا وَصِفَتِهَا فَهَذَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْنَاهُمَا:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاطِلٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ صِفَةَ الثَّمَنِ شَرْطٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ جَائِزٌ إِذَا قِيلَ إِنَّ صِفَةَ الثَّمَنِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ثُمَّ يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ إِحْدَاهَا أَنْ يَكُونَ فِي السَّلَمِ مِمَّا لَا يَجُوزُ فيه السلم ولا يضبط بِالصِّفَةِ كَاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ فَيَكُونُ جَوَازُ السَّلَمِ إِذَا كَانَ هَذَا ثَمَنًا عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ إِذَا قُلْنَا إِنَّ صِفَةَ الثَّمَنِ الْمُشَاهَدِ شَرْطٌ؛ لأن صفته مقدرة.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُسْلِمَ شَيْئًا وَاحِدًا فِي جنسين مختلفين كما أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَكُرِّ شَعِيرٍ أَوْ فِي خَمْسَةِ أَثْوَابِ قُطْنٍ وَخَمْسَةِ أَثْوَابِ كَتَّانٍ فَيَكُونُ السَّلَمُ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَصِحُّ حَتَّى يَذْكُرَ قِسْطَ كُلِّ جِنْسٍ مِنَ الثَّمَنِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُوجِبُ فِيهِ الوصف الثَّمَنُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يَصِحُّ السَّلَمُ وَإِنْ لَمْ يذكر قسط كل جنس من الثمن على القول الذي

(5/398)


لَا يُوجِبُ فِيهِ وَصْفَ الثَّمَنِ فَأَمَّا إِنِ اسْتَلَمَ مِائَةَ دِينَارٍ فِي عَشَرَةِ أَكَرَارٍ حِنْطَةً لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَذْكُرَ قِسْطَ كُلِّ كُرٍّ مِنَ الثَّمَنِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ وَالثَّمَنَ عَلَى أَجْزَائِهِ مُتَقَسَّطٌ.
وَالْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يُسْلِمَ ثَمَنًا وَاحِدًا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ إِلَى أَجَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَأَنَّهُ أَسْلَمَ فِي كُرَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ:
أَحَدُهُمَا: إِلَى أَجَلِ شَهْرٍ، وَالْآخَرُ إِلَى أَجَلِ شَهْرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا حَالٌ وَالْآخَرُ مُؤَجَّلٌ فَيَكُونُ السَّلَمُ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بَاطِلٌ على القول الذي يوجب فيه وصف الثمن حَتَّى يُمَيِّزَ ثَمَنَ الْحَالِ مِنْ ثَمَنِ الْمُؤَجَّلِ؛ لِأَنَّ ثَمَنَهُمَا مُخْتَلِفٌ فَلَا يَصِيرُ مَعْلُومَا الْقَدْرِ إِلَّا بِالْصِّفَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ السَّلَمَ جَائِزٌ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي لَا يُوجِبُ فِيهِ وَصْفَ الثَّمَنِ.
وَلَكِنْ لَوْ أَسْلَمَ فِي كُرَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ بِأَحَدِهِمَا رَهْنًا وَضَمِينًا جَازَ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مَعًا وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ قِسْطَ مَا يَأْخُذُ فِيهِ الرَّهْنَ مِنْ غَيْرِهِ لأنها وثيقة لا تتعلق بالثمن.

مسألة:
(وقال المزني) والذي أحتج به فِي تَجْوِيزِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تَسَلَّفَ بَكْرًا فَصَارَ بِهِ عَلَيْهِ حَيَوَانًا مَضْمُونًا وَإِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَاعَ جَمَلًا بِعِشْرِينَ جَمَلًا إِلَى أَجَلٍ وَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ اشْتَرَى رَاحِلَةً بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ إِلَى أَجَلٍ (قَالَ المزني) قلت أنا وَهَذَا مِنَ الْجُزَافِ الْعَاجِلِ فِي الْمَوْصُوفِ الْآجِلِ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا الْفَصْلُ حَكَاهُ الْمُزَنِيُّ عَنِ الشافعي وأراد به الشافعي شيئا وأراد به المزني غَيْرَهُ فَأَمَّا مُرَادُ الشَّافِعِيِّ بِهِ فَهُوَ جَوَازُ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ.
وَقَالَ أبو حنيفة: السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ في إحدى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ عُمَرَ.
احْتِجَاجًا بِرِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ: " مَنْ أَسْلَفَ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ ووزن معلوم وأجل مَعْلُومٍ " فَكَانَ ظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَا يُقَدَّرُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ شَرْطًا فِي جَوَازِ السَّلَمِ وَبِمَا رَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً، فَمَنَعَ مِنَ النِّسَاءِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذمة وما لا يثبت في الذمة يَجُوزُ فِيهِ السَّلَمُ.
وَرَوَى جَابِرٍ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ وَاحِدٍ بِاثْنَيْنِ فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فيه نساء.

(5/399)


قَالُوا: وَلِأَنَّ الْجُلُودَ وَالْأَكَارِعَ وَالرَّوْسَ بَعْضُ الْحَيَوَانِ وَالسَّلَمُ فِيهَا لَا يَجُوزُ، فَلِأَنْ لَا يَجُوزَ السَّلَمُ فِي جَمِيعِهِ أَوْلَى، وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ فِي بَعْضِهِ لَمْ يَجُزِ السَّلَمُ فِي كُلِّهِ كَالْجَوَاهِرِ. قَالُوا وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ يَجْمَعُ أَشْيَاءً مُتَغَايِرَةً لِأَنَّهُ يَجْمَعُ لَحْمًا وَشَحْمًا وَجِلْدًا وَعَظْمًا. وَمَا اخْتَلَفَتْ أَنْوَاعُهُ وَتَغَايَرَتْ أَخْلَاطُهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ السَّلَمُ كَالْمَعْجُونَاتِ وَكَذَلِكَ الْحَيَوَانُ.
قَالُوا: وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يُضْبَطُ بِالصِّفَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْهُ لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مِنَ الْإِبِلِ الْعَوَامِلِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ قُوَّتُهُ وَصَبْرُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنَ السَّوَائِمِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ كَثْرَةُ الدَّرِّ وَصِحَّةِ النِّتَاجِ، وَإِنْ كَانَ لِلرُّكُوبِ فَالْمَقْصُودُ مِنْهُ سُرْعَةُ الْمَشْيِ ووطء الظهر، وإن كان عبدا فالمقصود منها ثقته وخدمته، وإن كانت جارية فالمقصود منه جَمَالُ مَحَاسِنِهَا وَحَلَاوَةُ شَمَائِلِهَا وَعِفَّةُ فَرْجِهَا، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَوْصَافِ غَيْرُ مَضْبُوطَةٍ بَلْ هِيَ بِغَيْرِ الْمُشَاهَدَةِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ إِلَّا بِالتَّجْرِبَةِ وَالْخِبْرَةِ.
وَالدَّلَالَةُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ فِي جَوَازِ السَّلَمِ فِيهِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - جَهَّزَ جَيْشًا فَعَزَّتِ الِإِبِلُ فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ إِلَى إِبِلِ الصَّدَقَةِ.
فَلَمَّا بَطَلَ أَنْ يَكُونَ هَذَا قَرْضًا لِظُهُورِ الْفَضْلِ فِيهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ سَلَمٌ وَرَوَى أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عَبْدًا بَايَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَلَى الْهِجْرَةِ فَجَاءَ سَيِّدُهُ يُرِيدُهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِعْنِيهِ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ بِعَبْدَيْنِ أَسْوَدَيْنِ.
وَلِأَنَّ كُلَّ عَيْنٍ صَحَّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ مَهْرًا صَحَّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا كَالثِّيَابِ طَرْدًا وَالْجَوْهَرِ عَكْسًا، وَلِأَنَّ كُلَّ مَا صَحَّ أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ عِوَضًا فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ صَحَّ أَنْ يَكُونَ فِي الذِّمَّةِ سَلَمًا كَالْحِنْطَةِ، وَلِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَجَازَ أَنْ يَكُونَ الْحَيَوَانُ فِي الذِّمَّةِ عِوَضًا فِيهِ كَالنِّكَاحِ وَالْكِتَابَةِ، وَلِأَنَّهُ جِنْسٌ يَجِبُ فِيهِ الصَّدَقَةُ فَجَازَ فِيهِ السَّلَمُ كَالْحُبُوبِ.
وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ مَضْبُوطُ الصِّفَةِ شَرْعًا وَعُرْفًا أَمَّا الشَّرْعُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تذبحوا بقرة} إلى قوله تعالى: {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ الله لمهتدون قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تثير الأرض} الْآيَةَ، إِلَى قَوْله تَعَالَى: {الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ} [البقرة: 67: 71] . قَالَ قَتَادَةُ مَعْنَاهُ الْآنَ ثَبَتَ الْحَقُّ.
فَلَوْلَا أَنَّ الصِّفَةَ مَضْبُوطَةٌ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بَيَانٌ وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ قَالَ: " لَا تَصِفُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ لِزَوْجِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا ".

(5/400)


لَوْلَا أَنَّ الْوَصْفَ لَهَا يَقُومُ مَقَامَ النَّظَرِ إِلَيْهَا لَمْ يَنْهَ عَنْهُ.
وَأَمَّا الْعُرْفُ فَهُوَ أَنَّ الْعَرَبَ قَدْ كَانَتْ تَكْتَفِي بِالصِّفَةِ عَنِ الْمُشَاهَدَةِ حَتَّى وَصَفُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِصِفَاتِهِ حَتَّى كَأَنَّهُ مُشَاهَدٌ، وَإِذَا أَرَادُوا أَنْ يَعْرِضُوا فَرَسًا لِلْبَيْعِ أَوْ غَيْرِهِ وَصَفُوهُ صِفَةً تُغْنِي عَنِ الْمُشَاهَدَةِ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّعَرَاءِ: " مِنْ وَصْفِكَ فَقَدْ سَمَّاكَ الْعَرَبُ "، وَإِذَا ضَبَطَ صِفَةَ الْحَيَوَانِ بِأَيِّ صِفَةٍ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ صَحَّ فِيهِ السَّلَمُ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَوْصُوفَاتِ.
فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا وَرَدَ فِيهِ مِنَ النَّهْيِ بِدَلَالَةِ جَوَازِ السَّلَمِ فِيمَا لَيْسَ بِمَكِيلٍ وَلَا مَوْزُونٍ مِنَ الْمَزْرُوعِ وَالْمَعْدُودِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ خَبَرَي سَمُرَةَ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَنْعُ لِأَجْلِ النِّسَاءِ وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونَ مِنْهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ بِالصِّفَةِ فَلَمْ يَسْلَمِ الدَّلِيلُ مِنْهُ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى النِّسَاءِ إِذَا كَانَ مِنَ الطَّرَفَيْنِ مَعًا.

فَصْلٌ:
فَأَمَّا قَصْدُ الْمُزَنِيُّ بِهِ فَهُوَ أَنْ يَحْتَجَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مُشَاهَدَةَ الثَّمَنِ تُغْنِي عَنِ الصِّفَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَخْبَارَ فِيهَا أَنَّهُمْ وَصَفُوا مَا دَفَعُوهُ مِنَ الْحَيَوَانِ سَلَفًا فَاقْتَصَرُوا عَلَى الْمُشَاهَدَةِ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُزَنِيُّ لَيْسَ بِدَلِيلٍ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا جَوَازُ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ فَاقْتَصَرَ الرَّاوِي عَلَى ذِكْرِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ شَرْطَهُ بِالصِّفَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسَلَّمَ فِيهِ لَا بُدَّ مِنْ صِفَتِهِ وَلَيْسَ فِي الْخَبَرِ ذِكْرُهَا فَكَذَلِكَ الثَّمَنُ لَا يَمْنَعُ أَنْ يَلْزَمَ وَصْفَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْخَبَرِ ذِكْرُهُ.
وأما الجواب عن استدلالهم بأن الجلد لما لم يجز السلم فيه وهو بعض الحيوان كان جميع الحيوان أولى فهذا مما لا يصح اعتباره والأصول تدفعه ألا ترى أن الحمل لا يصح بيعه ويصح بيع الأم مع حملها فكذا الجلد وإن لم يصح السلم فيه لا يمنع من السلم في الحيوان.
وأما الجواب عن قولهم إن الحيوان يجمع أشياء مختلفة فلم يجز السلم فيه كالمعجونات فهو أن جملة الحيوان مقصود وليس تقدير ما فيه من أنواعه مقصود وهو متشاغل الخلقة وكل ما فيه مقدر وليس كالمعجونات التي يقصد منها تقدير أنواعها وإذا صبغها الآدميون أمكنهم زيادة جنس ونقصان غيره فاختلفا. وأما قوله إنه غير مضبوط الصفة فقد دللنا على أنه مضبوط الصفة بالشرع والعرف فدل بما ذكرنا على جواز السلم في الحيوان وهو ما قصده الشافعي بهذا الفصل.
فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ فَكَمَا جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي السَّلَمِ فِي غَيْرِ الْحَيَوَانِ جَازَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ سَوَاءً كَانَ مِنْ جِنْسِهِ كَالْإِبِلِ سَلَمًا فِي الْإِبِلِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا كَالْإِبِلِ سَلَمًا فِي الْبَقَرِ إِلَّا الْجَوَارِي سَلَمًا فِي الْجَوَارِي فَفِيهِ وَجْهَانِ:

(5/401)


أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ جَارِيَةً سَلَمًا مِنْ جَارِيَةٍ لِعِلَّتَيْنِ:
الأولى: أَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجَارِيَةُ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ عَلَى صِفَةِ الْجَارِيَةِ الَّتِي هِيَ الْمُثَمَّنُ فَيَدْفَعُهَا إِلَيْهِ فَيَصِيرُ الثَّمَنُ وَالْمُثَمَّنُ وَاحِدًا وَهَذِهِ الْعِلَّةُ فَاسِدَةٌ يُسْلَمُ الْبَعِيرُ فِي الْبَعِيرِ.
وَالْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ قَدْ يقبض الجارية على صفة المسلم فيها فَيَرُدُّهَا وَيَصِيرُ مُسْتَمْتِعًا بِهَا بِغَيْرٍ بَدَلٍ وَهَذِهِ العلة فاسدة بالمنع إِذَا رَدَّ بِالْعَيْبِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ جَارِيَةً سَلَمًا فِي جَارِيَةٍ كَمَا يَجُوزُ أَنْ يكون العبد سلما في عبد، والفرس سلما في فرس فعلى هذا إذا كان العبد الذي هُوَ الثَّمَنُ عَلَى مِثْلِ صِفَةِ الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ الْمُثَمَّنُ أَوْ كَانَتِ الْجَارِيَةُ الَّتِي هِيَ الثَّمَنُ مِثْلَ الْجَارِيَةِ الَّتِي هِيَ الْمُثَمَّنُ فَدَفَعَهَا الْمُسَلَّمُ إِلَيْهِ كَمَا وَجَبَ عَلَيْهِ. فَهَلْ يَلْزَمُ الْمُسَلِّمُ قَبُولَهَا أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهَا، لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَالِكًا لِلثَّمَنِ كسائر أملاكه. فيلزمه قَبُولُهَا إِذَا دَفَعَهَا إِلَيْهِ كَمَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ غيرها من أملاكه.

مسألة:
قال الشافعي رضي الله عنه: " وَلَوْ لَمْ يَذْكُرَا فِي السَّلَمِ أَجَلًا فَذَكَرَاهُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا جَازَ وَلَوْ أَوْجَبَاهُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ لَمْ يَجُزْ ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو حَالُ مُتَعَاقِدَيِ السَّلَمِ مِنْ ثَلَاثَةِ أحوال:
أحدها: أن يعقداه مؤجلا.
والثاني: أن يَعْقِدَاهُ حَالًا.
وَالثَّالِثُ: أَنْ يَعْقِدَاهُ مُطْلَقًا. فَإِنْ عَقَدَاهُ حَالًا كَانَ عَلَى حُلُولِهِ. وَإِنْ عَقَدَاهُ مُطْلَقًا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ أَوْ مَعْدُومًا فَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا بَطَلَ السَّلَمُ؛ لِأَنَّ الْحُلُولَ لَا يَصِحُّ فِيهِ وَالْأَجَلُ لَا يَتَقَدَّرُ بِإِطْلَاقِهِ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فَفِي عَقْدِ السَّلَمِ وَجْهَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى اخْتِلَافِ وَجْهَيْ أَصْحَابِنَا فِي السَّلَمِ هَلْ هُوَ الْأَصْلُ فِيهِ الْحُلُولُ أَوِ التَّأْجِيلُ؟ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّ السَّلَمَ بَاطِلٌ إِذَا قِيلَ الْأَصْلُ فِيهِ التَّأْجِيلُ؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَهُ يُوجِبُ رَدُّهُ إِلَى أَصْلِهِ، وَرَدُّهُ إِلَى الْأَصْلِ فِي الْأَجَلِ إِذَا لَمْ يَتَقَدَّرْ بِالشَّرْطِ بَاطِلٌ.
وَالثَّانِي: أَنَّ السَّلَمَ جَائِزٌ وَيَكُونُ حَالًا إِذَا قِيلَ الْأَصْلُ فِيهِ الْحُلُولُ؛ لِأَنَّ إِطْلَاقَهُ يَقْتَضِيهِ.

فَصْلٌ:
فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ فِيهِ بِعَقْدٍ ثَبَتَ فِيهِ خِيَارُ الْمَجْلِسِ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الشَّرْطِ وَقَدْ عَلَّلْنَا ذَلِكَ فِي بَابِ الْخِيَارِ فِيمَا لَمْ يَفْتَرِقَا، وَالْعَقْدُ غَيْرُ مُنْبَرِمٍ فإذا

(5/402)


افْتَرَقَا عَلَيْهِ فَقَدْ لَزِمَ فَعَلَى هَذَا لَوْ عَقَدَاهُ حَالًا ثُمَّ أَجَّلَاهُ قَبْلَ افْتِرَاقِهِمَا ثَبَتَ مُؤَجَّلًا عَلَى مَا افْتَرَقَا عَلَيْهِ كَذَا لَوْ زَادَا فِي الْأَجَلِ أَوْ نَقَّصَا مِنْهُ أَوْ زَادَا فِي الثَّمَنِ أَوْ نَقَّصَا مِنْهُ ثَبَتَ الْعَقْدُ عَلَى مَا افْتَرَقَا عَلَيْهِ مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ فَأَمَّا إِذَا عَقَدَاهُ عَلَى صِفَةٍ وَافْتَرَقَا عَلَيْهَا ثُمَّ أَجَّلَا مَا كَانَ مُعَجَّلًا أَوْ عَجَّلَا مَا كَانَ مُؤَجَّلًا أَوْ زَادَا فِي الْأَجَلِ أَوْ نَقَّصَا عَنْهُ لَمْ يَلْزَمْ مَا أخذناه بَعْدَ الِافْتِرَاقِ وَكَانَ الْعَقْدُ لَازِمًا عَلَى مَا افْتَرَقَا عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَلْحَقُهُ التَّغْيِيرُ بَعْدَ التَّفَرُّقِ.
وَخَالَفَ أبو حنيفة فِيهِ وَقَدْ مَضَى الْكَلَامُ مَعَهُ فَعَلَى هَذَا لَوْ عَقَدَاهُ حَالًا وَافْتَرَقَا ثُمَّ جَعَلَاهُ مُؤَجَّلًا لَمْ يَلْزَمْ فيه الأجل ويستحب للمسلم أن لَوْ وَفَى بِالْوَعْدِ وَصَبَرَ بِهِ إِلَى الْأَجَلِ وكذا لو عقداه مؤجلا ثم جعلاه حالا بعد التفرق لم يلزم فيه الحلول وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُسَلَّمِ إِلَيْهِ أَنْ لَوْ وَفَى بِالْوَعْدِ، وَعَجَّلَ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَجَلِ وَلَوِ اخْتَلَفَا بَعْدَ التَّفَرُّقِ فِي الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ وَلَوِ اخْتَلَفَا فِيهِ قَبْلَ التَّفَرُّقِ فَلَا عَقْدَ بَيْنِهِمَا.

مَسْأَلَةٌ:
قَالَ الشافعي رضي الله عنه: " وَلَا يَجُوزُ فِي السَّلَفِ حَتَى يَدْفَعَ الثَّمَنَ قبل أن يفارقه ويكون ما سلف فيه موصوفا وإن كان ما سلف فيه بصفة معلومة عند أهل العلم بها وأجل معلوم جاز قال الله تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} فلم يجعل لأهل الإسلام علما إلا بها فلا يجوز إلى الحصاد والعطاء لتأخير ذلك وتقديمه ولا إلى فصح النصارى وقد يكون عاما في شهر وعاما في غيره على حساب ينسئون فيه أياما فلو أجزناه كنا قد عملنا في ديننا بشهادة النصارى وهذا غير حلال للمسلمين ولو كان أجله إلى يوم كذا فحتى يطلع فجر ذلك اليوم (قال) وإن كان ما سلف فيه مما يكال أو يوزن سميا مكيالا معروفا عند العامة ويكون المسلف فيه مأمونا في محله فإن كان تمرا قال صيحاني أو بردي أو كذا وإن كان حنطة قال شامية أو ميسانية أو كذا وإن كان يخلف في الجنس الواحد بالحدارة والرقة وصفا ما يضبطانه به وقال في كل واحد جيدا وأجلا معلوما أو قال حالا وعتيقا من الطعام أو جديدا وأن يصف ذلك بحصاد عام كذا مسمى أصح ويكون الموضع معروفا ولا يستغنى في العسل من أن يصفه ببياض أو صفرة أو خضرة لأنه يتباين في ذلك ولو اشترطا أجود الطعام أو أردأه لم يجز لأنه لا يوقف عليه ولو كان ما أسلف فيه رقيقا قال عبدا نوبيا خماسيا أو سداسيا أو محتلما ووصف سنه وأسود هو أو وضيء أبيض أو أصفر أو أسحم وكذلك إن كانت جارية وصفها ولا يجوز أن يشترط معها ولدها ولا أنها حبلى وإن كان في بعير قال من نعم بني فلان من ثني غير مودن نقي من العيوب سبط الخلق أحمر مجفر الجنبين رباع أو قال بازل وهكذا الدواب يصفها بنتاجها وجنسها وألوانها وأسنانها

(5/403)


ويصف الثياب بالجنس من كتان أو قطن أو وشي إسكندراني أو يماني ونسج بلده وذرعه من عرض وطول أو صفافة أو دقة أو جودة وهكذا النحاس يصفه أبيض أو شبه أو أحمر ويصف الحديد ذكرا أو أنثى وبجنس إن كان له في نحو ذلك وإن كان في لحم قال لحم ماعز ذكر خصي أو غير خصي أو لحم ماعزة ثنية أو ثني أو جذع رضيع أو فطيم وسمين أو منقى من فخذ أو يد ويشترط الوزن في نحو ذلك ويقول في لحم البعير خاصة بعير راع من قبل اختلاف لحم الراعي ولحم المعلوف وأكره اشتراط الأعجف والمشوي والمطبوخ ويجوز السلم في لحوم الصيد إذا كانت ببلد لا تختلف ويقول في السمن سمن ماعز أو ضأن أو بقر وإن كان منها شيء يختلف ببلد سماه ويصف اللبن كالسمن فإن كان لبن إبل قال لبن عود أو أوارك أو حمضية ويقول راعية أو معلوفة لاختلاف ألبانها في الثمن والصحة ويقول حليب يومه ولا يسلف في اللبن المخيض لأن فيه ماء وهكذا كل مختلط بغيره لا يعرف أو مصلح بغيره (قال المزني) يدخل في هذا الطيب الغالية والأدهان المربية ونحوها (قال الشافعي) ولا خير في أن يسمي لبنا حامضا لأن زيادة حموضته زيادة نقص ويوصف اللبأ كاللبن إلا أنه موزون ويقول في الصوف صوف ضأن بلد كذا لاختلافه في البلدان ويسمي لونا لاختلاف ألوانها ويقول جيدا نقيا ومغسولا لما يعلق به فيثقل فيسمى قصارا أو طوالا بوزن وإن اختلف صوف فحولها من غيرها وصفا ما يختلف وكذلك الوبر والشعر ويقول في الكرسف كرسف بلد كذا ويقول جيدا أبيض نقيا أو أسمر وإن اختلف قديمه وجديده سماه وإن كان يكون نديا سماه جافا بوزن (قال إبراهيم) وحدثنا الربيع قال سمعت الشافعي يقول ولا يجوز السلف فيها حتى يسمى أخضر أو أبيض أو ربيريا أو سبيلانيا وبأن لا يكون فيه عرق ولا كلى ويقول في الحطب سمر أو سلم أو حمض أو أراك أو عرعر ويقول في عيدان القسي عود شوحطة جدل مستوي البنية (قال) ولا بأس أن يسلف في الشيء كيلا وإن كان أصله وزنا ويسلف في لحم الطير بصفة ووزن غير أنه لا سن له يعني يعرف فيوصف بصغير أو كبير وما احتمل أن يباع مبعضا وصف موضعه وكذلك الحيتان وما ضبطت صفته من خشب ساج أو عيدان قسي من طول أو عرض جاز فيه السلم وما لم يكن لم يجز وكذلك حجارة الأرحاء والبنيان والآنية (قال) ويجوز السلف فيما لا ينقطع من العطر في أيدي الناس بوزن وصفة كغيره والعنبر منه الأشهب والأخضر والأبيض ولا يجوز حتى يسمى وإن سماه قطعة أو قطعا صحاحا لم يكن له أن يعطيه مفتتا ومتاع الصيادلة كمتاع العطارين ولا خير في شراء شيء

(5/404)


خالطه لحوم الحيات من الدرياق لأن الحيات محرمات ولا ما خالطه لبن الترياق ما لا يؤكل لحمه من غير الآدميين ولو أقاله بعض السلم وقبض بعضا فجائز قال ابن عباس ذلك المعروف وأجازه عطاء (قال) وإذا أقاله فبطل عنه الطعام وصار عليه ذهبا تبايعا بعد بالذهب ما شاءا وتقابضا قبل أن يتفرقا من عرض وغيره ولا يجوز في السلف الشركة ولا التولية لأنهما بيع والإقالة فسخ بيع ولو عجل له قبل محله أدنى من حقه أجزته ولا أجعل للتهمة موضعا ".

(5/405)