المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

بَابُ زَكَاةِ الثِّمَارِ
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِي ثَمَرِ النَّخْل وَالكَرْمِ، لمَا رَوَى عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال فِي الكَرْمِ
"إنَّهَا تُخْرَصُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْل، فَتُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْل تَمْرًا"وَلأَنَّ ثَمَرَةَ النَّخْل وَالكَرْمِ تَعْظُمُ مَنْفَعَتُهُمَا؛ لأَنَّهُمَا مِنْ الأَقْوَاتِ وَالأَمْوَال المُدَّخَرَةِ المُقْتَاتَةِ، فَهِيَ كَالأَنْعَامِ فِي المَوَاشِي".
الشرح: هَذَا الحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدِهِمْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ عَنْ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ وَهُوَ مُرْسَلٌ؛ لأَنَّ عَتَّابًا تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلاثَ عَشَرَةَ، وَسَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ وُلدَ بَعْدَ ذَلكَ بِسَنَتَيْنِ، وَقِيل بِأَرْبَعِ سِنِينَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الفُصُول السَّابِقَةِ فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا الشَّرْحِ أَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَال: يُحْتَجُّ بِمَرَاسِيل ابْنِ المُسَيِّبِ مُطْلقًا، وَالأَصَحُّ أَنَّهُ إنَّمَا يُحْتَجُّ بِهِ إذَا اعْتَضَدَ بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ، أَنْ يُسْنَدَ أَوْ يُرْسَل مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، أَوْ يَقُول بِهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَوْ أَكْثَرُ العُلمَاءِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلكَ هُنَا، فَقَدْ أَجْمَعَ العُلمَاءُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ عَلى وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ.
فَإِنْ قِيل: مَا الحِكْمَةُ فِي قَوْلهِ صلى الله عليه وسلم فِي الكَرْمِ
"يُخْرَصُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْل وَيُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْل تَمْرًا؟ "فَجَعَل النَّخْل أَصْلًا؟ فالجواب:  مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحْسَنُهُمَا: مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ البَيَانِ فِيهِ وَفِي مُشْكِلاتِ المُهَذَّبِ أَنَّ خَيْبَرَ فُتِحَتْ أَوَّل سَنَةِ سَبْعٍ مِنْ الهِجْرَةِ، "وَبَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إليْهِمْ

 

ج / 5 ص -307-       عَبْدَ اللهِ بْنَ رَوَاحَةَ رضي الله عنه يَخْرُصُ النَّخْل فَكَانَ خَرْصُ النَّخْل مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ فَلمَّا فَتَحَ صلى الله عليه وسلم الطَّائِفَ، وَبِهَا العِنَبُ الكَثِيرُ، أَمَرَ بِخَرْصِهِ كَخَرْصِ النَّخْل المَعْرُوفِ عِنْدَهُمْ.
والثاني: أَنَّ النَّخْل كَانَتْ عِنْدَهُمْ أَكْثَرُ وَأَشْهَرُ، فَصَارَتْ أَصْلًا لغَلبَتِهَا.
فَإِنْ قِيل: كَيْفَ سُمِّيَ العِنَبُ كَرْمًا؟ وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْهُ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال:
"قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لا تُسَمُّوا العِنَبَ الكَرْمَ فَإِنَّ الكَرْمَ المُسْلمَ"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ "فَإِنَّمَا الكَرْمُ قَلبُ المُؤْمِنِ"وَعَنْ وَائِل بْنِ حُجْرٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال "لا تَقُولوا الكَرْمَ وَلكِنْ قُولوا: العِنَبَ وَالحَبَلةَ"رَوَاهُ مُسْلمٌ؟ وَالحَبَلةُ بِفَتْحِ الحَاءِ وَبِفَتْحِ البَاءِ وَإِسْكَانِهَا فالجواب: أَنَّ هَذَا نَهْيُ تَنْزِيهٍ وَليْسَ فِي الحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَرَّحَ بِتَسْمِيَتِهَا كَرْمًا، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ كَلامِ الرَّاوِي، فَلعَلهُ لمْ يَبْلغْهُ النَّهْيُ، أَوْ خَاطَبَ بِهِ مَنْ لا يَعْرِفُهُ بِغَيْرِهِ، فَأَوْضَحَهُ أَوْ اسْتَعْمَلهَا بَيَانًا لجَوَازِهِ، قَال العُلمَاءُ: سَمَّتْ العَرَبُ العِنَبَ كَرْمًا وَالخَمْرَ كَرْمًا.
أَمَّا العِنَبُ فَالكَرَمِ1 ثَمَرِهِ، وَكَثْرَةِ حَمْلهِ وَتَذَللهِ للقِطْفِ، وَسُهُولةِ تَنَاوُلهِ بِلا شَوْكٍ وَلا مَشَقَّةٍ، وَيُؤْكَل طَيِّبًا غَضًّا طَرِيًّا وَزَبِيبًا وَيُدَّخَرُ قُوتًا، وَيُتَّخَذُ مِنْهُ العَصِيرُ وَالخَل وَالدِّبْسِ وَغَيْرِ ذَلكَ، وَأَصْل الكَرْمِ الكَثْرَةُ، وَجَمْعُ الخَيْرِ، وَسُمِّيَ الرَّجُل كَرْمًا لكَثْرَةِ خَيْرِهِ، وَنَخْلةٌ كَرِيمَةٌ لكَثْرَةِ حَمْلهَا، وَشَاةٌ كَرِيمَةٌ كَثِيرَةُ الدَّرِّ وَالنَّسْل وَأَمَّا الخَمْرُ فَقِيل: سُمِّيَتْ كَرْمًا؛ لأَنَّهَا كَانَتْ تَحُثّهُمْ عَلى الكَرَمِ وَالجُودِ وَتَطْرُدُ الهُمُومَ، فَنَهَى الشَّرْعُ عَنْ تَسْمِيَةِ العِنَبِ كَرْمًا لتَضَمُّنِهِ مَدْحَهَا، لئَلا تَتَشَوَّقَ إليْهَا النُّفُوسُ، وَكَانَ اسْمُ الكَرْمِ بِالمُؤْمِنِ وَبِقَلبِهِ أَليَقُ لكَثْرَةِ خَيْرِهِ وَنَفْعِهِ وَاجْتِمَاعِ الأَخْلاقِ وَالصِّفَاتِ الجَمِيلةِ، وَعَتَّابٌ الرَّاوِي بِتَشْدِيدِ التَّاءِ المُثَنَّاةِ فَوْقَ وَأَسِيدُ2 بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلا تَجِبُ فِيمَا سِوَى ذَلكَ مِنْ الثِّمَارِ كَالتِّينِ وَالتُّفَّاحِ وَالسَّفَرْجَل وَالرُّمَّانِ؛ لأَنَّهُ ليْسَ مِنْ الأَقْوَاتِ، وَلا مِنْ الأَمْوَال المُدَّخَرَةِ المُقْتَاتَةِ، وَلا تَجِبُ فِي طَلعِ الفُحَّال؛ لأَنَّهُ لا يَجِيءُ مِنْهُ الثِّمَارُ، وَاخْتَلفَ قَوْلهُ فِي الزَّيْتُونِ فَقَال فِي القَدِيمِ: تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه "أَنَّهُ جَعَل فِي الزَّيْتِ العُشْرَ "وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَال "فِي الزَّيْتُونِ الزَّكَاةُ "وَعَلى هَذَا القَوْل إذَا أَخْرَجَ الزَّيْتَ عَنْهُ جَازَ لقَوْل عُمَرَ رضي الله عنه وَلأَنَّ الزَّيْتَ أَنْفَعُ مِنْ الزَّيْتُونِ، فَكَانَ أَوْلى بِالجَوَازِ. وَقَال فِي الجَدِيدِ: لا زَكَاةَ فِيهِ؛ لأَنَّهُ ليْسَ بِقُوتٍ فَلا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةٌ كَالخَضْرَاوَاتِ وَاخْتَلفَ قَوْلهُ فِي الوَرْسِ، فَقَال فِي القَدِيمِ: تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، لمَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه: كَتَبَ إلى بَنِي خُفَّاشٍ "أَنْ أَدُّوا زَكَاةَ الذُّرَةِ وَالوَرْسِ "وَقَال فِي الجَدِيدِ: لا زَكَاةَ فِيهِ؛ لأَنَّهُ نَبْتٌ لا يُقْتَاتُ بِهِ، فَأَشْبَهَ الخَضْرَاوَاتِ. قَال الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: مَنْ قَال: لا عُشْرَ فِي الوَرْسِ لمْ يُوجِبْ فِي الزَّعْفَرَانِ وَمَنْ قَال: يَجِبُ فِي الوَرْسِ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في ش و ق والعبارة فيها خلل إذ لا وجوب لأكثر مقاطعها ولعل العبارة تستقيم إذاكانت أما "العنب فالكرم- بفتح – الراء – ثمرة وكثرة حمله الخ (ط).
2 في ش و ق (أبو أسيد) وهو خطأ (ط).

 

ج / 5 ص -308-       فَيُحْتَمَل أَنْ يُوجِبَ فِي الزَّعْفَرَانِ؛ لأَنَّهُمَا طَيِّبَانِ، وَيُحْتَمَل أَنْ لا يُوجَبَ فِي الزَّعْفَرَانِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الوَرْسَ شَجَرٌ لهُ سَاقٌ، وَالزَّعْفَرَانُ نَبَاتٌ، وَاخْتَلفَ قَوْلهُ فِي العَسَل، فَقَال فِي القَدِيمِ: يُحْتَمَل أَنْ تَجِبَ فِيهِ وَوَجَّهَ مَا رُوِيَ: "أَنَّ بَنِي شَبَّابَةَ بَطْنٌ مِنْ فَهْمٍ كَانُوا يُؤَدُّونَ إلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَحْلٍ كَانَ عِنْدَهُمْ العُشْرَ مِنْ عَشْرِ قِرَبٍ قِرْبَةً "وَقَال فِي الجَدِيدِ: لا تَجِبُ؛ لأَنَّهُ ليْسَ بِقُوتٍ فَلا يَجِبُ فِيهِ العُشْرُ كَالبَيْضِ. وَاخْتَلفَ قَوْلهُ فِي القُرْطُمِ: وَهُوَ حَبُّ العُصْفُرِ، فَقَال فِي القَدِيمِ: يَجِبُ إنْ صَحَّ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه وَقَال فِي الجَدِيدِ: لا تَجِبُ؛ لأَنَّهُ ليْسَ بِقُوتٍ فَأَشْبَهَ الخَضْرَاوَاتِ".
الشرح:
الأَثَرُ المَذْكُورُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه ضَعِيفٌ رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ، وَقَال: إسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ وَرَاوِيهِ ليْسَ بِقَوِيٍّ، قَال: وَأَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي الزَّيْتُونِ قَوْل الزُّهْرِيِّ "مَضَتْ السُّنَّةُ فِي زَكَاةِ الزَّيْتُونِ أَنْ تُؤْخَذَ، فَمَنْ عَصْرَ زَيْتُونَهُ حِينَ يَعْصِرُهُ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ أَوْ كَانَ بَعْلًا العُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِرَشِّ النَّاضِحِ نِصْفُ العُشْرِ "وَهَذَا مَوْقُوفٌ لا يُعْلمُ اشْتِهَارُهُ، وَلا يُحْتَجُّ بِهِ عَلى الصَّحِيحِ. قَال البَيْهَقِيُّ: وَحَدِيثُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنهما أَعْلى وَأَوْلى أَنْ يُؤْخَذَ بِهِ، يَعْنِي رِوَايَتَهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال لهُمَا لمَّا بَعَثَهُمَا إلى اليَمَنِ "لا تَأْخُذَا فِي الصَّدَقَةِ إلا مِنْ هَذِهِ الأَصْنَافِ الأَرْبَعَةِ الشَّعِيرِ وَالحِنْطَةِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ"وَأَمَّا المَذْكُورُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَضَعِيفٌ أَيْضًا وَالأَثَرُ المَذْكُورُ عَنْ أَبِي بَكْرِ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه ضَعِيفٌ أَيْضًا، ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ وَضَعَّفَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ، وَاتَّفَقَ الحُفَّاظُ عَلى ضِعْفِهِ، وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا فِي كُتُبِ المَذْهَبِ عَلى ضِعْفِهِ قَال البَيْهَقِيُّ: وَلمْ يَثْبُتْ فِي هَذَا إسْنَادٌ تَقُومُ بِهِ حُجَّةٌ، قَال: وَالأَصْل عَدَمُ الوُجُوبِ فَلا زَكَاةَ فِيمَا لمْ يَرِدْ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَوْ كَانَ فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ بِهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَأَمَّا حَدِيثُ بَنِي شَبَّابَةَ فِي العَسَل فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ، قَال التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ: لا يَصِحُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا كَبِيرُ شَيْءٍ، قَال البَيْهَقِيُّ: قَال التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابُ العِلل: قَال البُخَارِيُّ: ليْسَ فِي زَكَاةِ العَسَل شَيْءٌ يَصِحُّ: فَالحَاصِل أَنَّ جَمِيعَ الآثَارِ وَالأَحَادِيثِ التِي فِي هَذَا الفَصْل ضَعِيفَةٌ.
وَأَمَّا أَلفَاظُ الفَصْل: فَبَنُو خُفَّاشٍ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ، ثُمَّ فَاءٍ مُشَدَّدَةٍ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ وَضَبَطَهُ بَعْضُ النَّاسِ بِكَسْرِ الخَاءِ وَتَخْفِيفِ الشِّينِ وَهُوَ غَلطٌ وَبَنُو شَبَابَةٍ بِشِينٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ، ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ مُخَفَّفَةٍ، ثُمَّ أَلفٍ ثُمَّ مُوَحَّدَةٍ أُخْرَى وقوله: بَطْنٌ مِنْ فَهْمٍ بِفَتْحِ الفَاءِ وَإِسْكَانِ الهَاءِ قَال الجَوْهَرِيُّ فِي الصِّحَاحِ: بَنِي شَبَابَةٍ يَكُونُونَ فِي الطَّائِفِ.
أَمَّا أَحْكَامُ الفَصْل: فَمُخْتَصَرُهَا أَنَّهَا كَمَا قَالهَا المُصَنِّفُ وأما: بَسْطُهَا فَاتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالأَصْحَابِ أَنَّهُ لا زَكَاةَ فِي التِّينِ وَالتُّفَّاحِ وَالسَّفَرْجَل وَالرُّمَّانِ، وَطَلعِ فُحَّال النَّخْل وَالخَوْخِ وَالجَوْزِ وَاللوْزِ وَالمَوْزِ وَأَشْبَاهِهَا، وَسَائِرِ الثِّمَارِ سِوَى الرُّطَبِ وَالعِنَبِ، وَلا خِلافَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إلا الزَّيْتُونَ فَفِيهِ القَوْلانِ: كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى وَوَجْهُهُ أَنَّ الأَصْل عَدَمُ الوُجُوبِ حَتَّى يَثْبُتَ دَليلهُ.
وَأَمَّا الزَّيْتُونُ فَفِيهِ القَوْلانِ: اللذَانِ ذَكَرَهُمَا المُصَنِّفُ بِدَليليْهِمَا، وَهُمَا مَشْهُورَانِ وَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَلى أَنَّ الأَصَحَّ أَنَّهُ لا زَكَاةَ فِيهِ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي الجَدِيدِ.

 

ج / 5 ص -309-       قَال أَصْحَابُنَا: وَالصَّحِيحُ فِي هَذِهِ المَسَائِل كُلهَا هُوَ القَوْل الجَدِيدُ؛ لأَنَّهُ ليْسَ للقَوْل القَدِيمِ حُجَّةٌ صَحِيحَةٌ فَإِنْ قُلنَا بِالقَدِيمِ: أَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الزَّيْتُونِ. قَال أَصْحَابُنَا: وَقْتُ وُجُوبِهِ بُدُوِّ صَلاحِهِ وَهُوَ نُضْجُهُ وَاسْوِدَادُهُ، وَيُشْتَرَطُ بُلوغُهُ نِصَابًا. هَذَا هُوَ المَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ إلا مَا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ القَطَّانِ أَنَّهُ خَرَجَ اعْتِبَارُ النِّصَابُ فِيهِ، وَفِي سَائِرِ مَا اخْتَصَّ القَدِيمُ بِإِيجَابِ الزَّكَاةِ فِيهِ عَلى قَوْليْنِ، وَيُعْتَبَرُ النِّصَابُ زَيْتُونًا لا زَيْتًا هَذَا هُوَ المَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ القَاضِي حُسَيْنٌ وَالجُمْهُورُ وَنَقَل إمَامُ الحَرَمَيْنِ اتِّفَاقَ الأَصْحَابِ عَليْهِ. وَذَكَرَ صَاحِبُ الحَاوِي فِيهِ وَجْهَيْنِ إذَا كَانَ مِمَّا يَجِيءُ مِنْهُ الزَّيْتُ أحدهما: هَذَا والثاني: يُعْتَبَرُ زَيْتًا، فَيُؤْخَذُ عُشْرُهُ زَيْتًا، وَهَذَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ.
قَال أَصْحَابُنَا: ثُمَّ إنْ كَانَ زَيْتُونًا لا يَجِيءُ مِنْهُ زَيْتٌ أُخِذَتْ الزَّكَاةُ مِنْهُ زَيْتُونًا بِالاتِّفَاقِ وَإِنْ كَانَ يَجِيءُ مِنْهُ زَيْتٌ كَالشَّامِيِّ قَال الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي القَدِيمِ: إنْ أَخْرَجَ زَيْتُونًا جَازَ؛ لأَنَّهُ حَالةُ الادِّخَارِ، قَال: وَأُحِبُّ أَنْ أُخْرِجَ عُشْرَهُ زَيْتًا؛ لأَنَّهُ نِهَايَةُ ادِّخَارِهِ وَنَقَل الأَصْحَابُ عَنْ ابْنِ المَرْزُبَانِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ حَكَى فِي جَوَازِ إخْرَاجِ الزَّيْتُونِ وَجْهَيْنِ قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَسَائِرُ الأَصْحَابِ: هَذَا غَلطٌ مِنْ ابْنِ المَرْزُبَانِيِّ، وَالصَّوَابُ مَا نَصَّ عَليْهِ فِي القَدِيمِ، وَهُوَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ زَيْتًا أَوْ زَيْتُونًا أَيَّهمَا شَاءَ وَنَقَل إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَجْهًا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ إخْرَاجُ الزَّيْتُونِ دُونَ الزَّيْتِ، قَال:؛ لأَنَّ الاعْتِبَارَ بِهِ الاتِّفَاقُ، فَحَصَل ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أصحها: عِنْدَ الأَصْحَابِ وَهُوَ نَصُّهُ فِي القَدِيمِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَخْرَجَ زَيْتًا، وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ زَيْتُونًا، وَالزَّيْتُ أَوْلى كَمَا نَصَّ عَليْهِ والثاني: يَتَعَيَّنُ الزَّيْتُ والثالث: يَتَعَيَّنُ الزَّيْتُونُ، قَال صَاحِبُ التَّتِمَّةِ وَغَيْرُهُ: فَإِذَا قُلنَا بِالمَذْهَبِ وَخَيَّرْنَاهُ بَيْنَ إخْرَاجِ الزَّيْتُونِ وَالزَّيْتِ، فَالفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّمْرِ أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ وَلا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهُ دِبْسَ التَّمْرِ وَلا خَل التَّمْرِ؛ لأَنَّ التَّمْرَ قُوتٌ وَالخَل وَالدِّبْسَ ليْسَا بِقُوتٍ، وَلكِنَّهُمَا أُدْمَانِ وأما: الزَّيْتُونُ، فَليْسَ بِقُوتٍ بَل هُوَ أُدْمٌ وَالزَّيْتُ أَصْلحُ للأُدْمِ مِنْ الزَّيْتُونِ، فَلا يَفُوتُ الغَرَضُ.
قَال أَصْحَابُنَا: وَلا يُخْرَصُ الزَّيْتُونُ بِلا خِلافٍ لمَعْنَيَيْنِ ذَكَرَهُمَا القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ وَغَيْرِهِ أحدهما: وَهُوَ الذِي اعْتَمَدَهُ الجُمْهُورُ أَنَّ الوَرِقَ يُخْفِيهِ مَعَ صِغَرِ الحَبِّ وَتَفَرُّقِهِ فِي الأَغْصَانِ وَلا يَنْضَبِطُ بِخِلافِ الرُّطَبِ وَالعِنَبِ والثاني: أَنَّ الغَرَضَ مِنْ خَرْصِ النَّخْل وَالعِنَبِ تَعْجِيل الانْتِفَاعِ بِثَمَرَتِهِمَا قَبْل الجَفَافِ، وَهَذَا المَعْنَى لا يُوجَدُ فِي الزَّيْتُونِ قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ إذَا أَخْرَجَ العُشْرَ زَيْتًا، فَالكَسْبُ الذِي يَحْصُل مِنْ عَصْرِ الزَّيْتِ لا نَقْل فِيهِ عِنْدِي. قَال: وَلعَل الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَجِبُ تَسْليمُ نَصِيبِ الفُقَرَاءِ مِنْهُ إليْهِمْ، وَليْسَ كَالقَصْل وَالتِّبْنِ الذِي يَتَخَلفُ عَنْ الحُبُوبِ؛ لأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِي الزَّيْتُونِ نَفْسِهِ، ثُمَّ عَلى المَالكِ مُؤْنَةُ تَمْيِيزِ الزَّيْتِ، كَمَا عَليْهِ مُؤْنَةُ تَجْفِيفِ الرُّطَبِ، وَلا يَجِبُ العُشْرُ فِي الزُّرُوعِ إلا فِي الحَبِّ دُونَ التِّبْنِ قَال: وَفِي المَسْأَلةِ احْتِمَالٌ وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
وَأَمَّا الوَرْسُ فَالصَّحِيحُ الجَدِيدُ لا زَكَاةَ فِيهِ، وَأَوْجَبَهَا القَدِيمُ وَسَبَقَ دَليلهُمَا، فَإِنْ أَوْجَبْنَاهَا لمْ نَشْرُطْ فِيهِ النِّصَابَ عَلى المَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الجَمَاهِيرُ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ بَل تَجِبُ فِي قَليلهِ وَكَثِيرِهِ، وَلا خِلافَ فِيهِ إلا مَا سَبَقَ عَنْ ابْنِ القَطَّانِ أَنَّهُ طَرَدَ قَوْليْنِ فِي اعْتِبَارِ النِّصَابِ فِيهِ وَفِي سَائِرِ مَا اخْتَصَّ القَدِيمُ بِإِيجَابِ زَكَاتِهِ، وَفَرَّقَ الأَصْحَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّيْتُونِ عَلى المَذْهَبِ فِيهِمَا بِفَرْقَيْنِ أحدهما: أَنَّ النَّصَّ

 

ج / 5 ص -310-       الوَارِدَ فِي الزَّيْتُونِ مُقَيَّدٌ بِالنِّصَابِ وَمُطْلقٌ فِي الوَرْسِ، فَعُمِل بِهِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا عَلى حَسْبِ وُرُودِهِ والثاني: أَنَّ الغَالبَ أَنَّهُ لا يَجْتَمِعُ لإِنْسَانٍ وَاحِدٍ مِنْ الوَرْسِ نِصَابٌ بِخِلافِ الزَّيْتُونِ، وَاعْلمْ أَنَّ الوَرْسَ ثَمَرُ شَجَرٍ يَكُونُ بِاليَمَنِ أَصْفَرُ يُصْبَغُ بِهِ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ يُبَاعُ فِي الأَسْوَاقِ فِي كُل البِلادِ هَكَذَا ذَكَرَهُ المُحَقِّقُونَ، وَقَال البَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ: هُوَ شَجَرٌ يُخْرِجُ شَيْئًا كَالزَّعْفَرَانِ وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلى مَا ذَكَرَهُ المُحَقِّقُونَ.
وَأَمَّا الزَّعْفَرَانُ فَالأَشْهَرُ أَنَّهُ كَالوَرْسِ فَلا زَكَاةَ فِيهِ عَلى الصَّحِيحِ الجَدِيدِ وَتَجِبُ فِي القَدِيمِ، وَقِيل لا تَجِبُ قَطْعًا، وَحُكْمُ النِّصَابِ كَمَا سَبَقَ فِي الوَرْسِ. وَأَمَّا العَسَل فَفِيهِ طَرِيقَانِ أَشْهُرُهُمَا وَبِهِ قَال المُصَنِّفُ وَالأَكْثَرُونَ فِيهِ القَوْلانِ: الصَّحِيحُ الجَدِيدُ: لا زَكَاةَ وَالقَدِيمُ: وَجْهَانِ: والثاني: القَطْعُ بِأَنْ لا زَكَاةَ فِيهِ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالبَنْدَنِيجِيّ وَآخَرُونَ. وَمَنْ الأَصْحَابِ مَنْ قَال: لا تَجِبُ فِي الجَدِيدِ، وَفِي القَدِيمِ قَوْلانِ: وَالمَذْهَبُ لا تَجِبُ لعَدَمِ الدَّليل عَلى الوُجُوبِ. قَال أَصْحَابُنَا: وَالحَدِيثُ المَذْكُورُ ضَعِيفٌ كَمَا سَبَقَ. قَالوا: وَلوْ صَحَّ لكَانَ مُتَأَوَّلًا، ثُمَّ اخْتَلفُوا فِي تَأْوِيلهِ فَقِيل يُحْمَل عَلى تَطَوُّعِهِمْ بِهِ، وَقِيل: إنَّمَا دَفَعُوهُ مُقَابَلةً لمَا حَصَل لهُمْ مِنْ الاخْتِصَاصِ بِالحِمَى، وَلهَذَا امْتَنَعُوا مِنْ دَفْعِهِ إلى عُمَرَ رضي الله عنه حِينَ طَالبَهُمْ بِتَخْليَةِ الحِمَى لسَائِرِ النَّاسِ. وَهَذَا الجَوَابُ هُوَ الذِي ذَكَرَهُ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْليقِهِ وَالمَحَامِليُّ فِي المَجْمُوعِ فَإِنْ أَوْجَبْنَاهَا فَفِي اعْتِبَارِ النِّصَابِ خِلافٌ، المَذْهَبُ اعْتِبَارُهُ، وَقَال ابْنُ القَطَّانِ: قَوْلانِ: كَمَا سَبَقَ فِي الزَّيْتُونِ قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: وَسَوَاءٌ كَانَ النَّخِيل مَمْلوكًا لهُ أَوْ أَخَذَهُ مِنْ المَوَاضِعِ المُبَاحَةِ، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
وَأَمَّا القُرْطُمُ فَبِكَسْرِ القَافِ وَالطَّاءِ وَبِضَمِّهِمَا لغَتَانِ: وَالجَدِيدُ الصَّحِيحُ: أَنَّهُ لا زَكَاةَ فِيهِ، وَالقَدِيمُ: وُجُوبُهَا، وَيُعْتَبَرُ النِّصَابُ عَلى المَذْهَبِ. وَقَال ابْنُ القَطَّانِ قَوْلانِ: وَأَمَّا العُصْفُرُ نَفْسُهُ، فَقَال الرَّافِعِيُّ: قِيل هُوَ كَالقُرْطُمِ وَقِيل لا تَجِبُ قَطْعًا قَال: وَيُمْكِنُ تَشْبِيهُهُ بِالوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانُ وَأَمَّا التُّرْمُسُ فَفِي الجَدِيدِ لا زَكَاةَ فِيهِ وَفِي القَدِيمِ تَجِبُ فِيهِ. وَأَمَّا الفُجْل فَالجَدِيدُ لا زَكَاةَ فِيهِ، قَال الرَّافِعِيُّ: وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وُجُوبَهَا فِيهِ عَلى القَدِيمِ قَال: وَلمْ أَرَهُ لغَيْرِهِ

فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي هَذِهِ المَذْكُورَاتِ
مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لا زَكَاةَ فِي غَيْرِ النَّخْل وَالعِنَبِ مِنْ الأَشْجَارِ وَلا فِي شَيْءٍ مِنْ الحُبُوبِ إلا فِيمَا يُقْتَاتُ وَيُدَّخَرُ وَلا زَكَاةَ فِي الخَضْرَاوَاتِ، وَبِهَذَا كُلهِ قَال مَالكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَزُفَرُ: يَجِبُ العُشْرُ فِي كُل مَا أَخْرَجَتْهُ الأَرْضُ إلا الحَطَبَ وَالقَصَبَ الفَارِسِيَّ وَالحَشِيشَ الذِي يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ، وَقَال العَبْدَرِيُّ: وَقَال الثَّوْرِيُّ وَابْنُ أَبِي ليْلى: ليْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ الزُّرُوعِ زَكَاةٌ إلا التَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ، وَقَال أَحْمَدُ: يَجِبُ العُشْرُ فِي كُل مَا يُكَال وَيُدَّخَرُ مِنْ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ.
فَأَمَّا مَا لا يُكَال كَالقِثَّاءِ وَالبَصَل وَالخِيَارِ وَالبِطِّيخِ وَالرَّيَاحِينِ وَجَمِيعِ البُقُول فَليْسَ فِيهَا زَكَاةٌ، وَأَوْجَبَ أَبُو يُوسُفَ الزَّكَاةَ فِي الحِنَّاءِ وَقَال مُحَمَّدٌ: لا زَكَاةَ، وَقَال دَاوُد: مَا أَنْبَتَتْهُ الأَرْضُ ضَرْبَانِ: مُوسَقٌ وَغَيْرُهُ، فَمَا كَانَ مُوسَقًا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيمَا بَلغَ مِنْهُ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَلا زَكَاةَ فِيمَا دُونَهَا، وَمَا كَانَ

 

ج / 5 ص -311-       غَيْرَ مُوسَقٍ، فَفِي قَليلهِ وَكَثِيرِهِ الزَّكَاةُ. وَأَمَّا الزَّيْتُونُ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنْ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لا زَكَاةَ فِيهِ، وَبِهِ قَال الحَسَنُ بْنُ صَالحٍ وَابْنُ أَبِي ليْلى وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَقَال الزُّهْرِيُّ وَالأَوْزَاعِيُّ وَالليْثُ وَمَالكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ: فِيهِ الزَّكَاةُ. قَال الزُّهْرِيُّ وَالليْثُ وَالأَوْزَاعِيُّ: يُخْرَصُ فَتُؤْخَذُ زَكَاتُهُ زَيْتًا. وَقَال مَالكٌ: لا يُخْرَصُ، بَل يُؤْخَذُ العُشْرُ بَعْدَ عَصْرِهِ وَبُلوغِهِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَأَمَّا العَسَل فَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا لا زَكَاةَ فِيهِ مُطْلقًا، وَبِهِ قَال مَالكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالحَسَنُ بْنُ صَالحٍ وَابْنُ أَبِي ليْلى وَابْنُ المُنْذِرِ. وَرَوَيْنَا هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ وَالأَوْزَاعِيُّ: إنْ وُجِدَ فِي غَيْرِ أَرْضِ الخَرَاجِ فَفِيهِ العُشْرُ. وَقَال أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: يَجِبُ فِيهِ العُشْرُ سَوَاءٌ كَانَ فِي أَرْضِ الخَرَاجِ أَوْ غَيْرِهَا وَنَقَلهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ مَكْحُولٍ وَسُليْمَانَ بْنِ مُوسَى وَالأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَشَرَطَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ فِي وُجُوبِ زَكَاتِهِ أَنْ يَبْلغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَأَوْجَبَهَا أَبُو حَنِيفَةَ فِي قَليلهِ وَكَثِيرِهِ، قَال ابْنُ المُنْذِرِ: ليْسَ فِي زَكَاتِهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلا إجْمَاعٌ، فَلا زَكَاةَ فِيهِ، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي ثَمَرِ النَّخْل وَالكَرْمِ، إلا أَنْ يَكُونَ نِصَابًا، وَنِصَابُهُ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ لمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال:
"ليْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ"وَالخَمْسَةُ أَوْسُقٍ ثَلاثُمِائَةِ صَاعٍ، وَهِيَ أَلفٌ وَسِتُّمِائَةِ رَطْلٍ بِالبَغْدَادِيِّ، وَهَل ذَلكَ تَحْدِيدٌ أَوْ تَقْرِيبٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: أَنَّهُ تَقْرِيبٌ، فَلوْ نَقَصَ مِنْهُ شَيْءٌ يَسِيرٌ لمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ، وَالدَّليل عَليْهِ أَنَّ الوَسْقَ حِمْل البَعِيرِ، قَال النَّابِغَةُ:

 أَيْنَ الشِّظَاظَانِ وَأَيْنَ المِرْبَعَةْ                      وَأَيْنَ وَسْقُ النَّاقَةِ المُطَبَّعَةْ

وَحِمْل البَعِيرِ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ والثاني: أَنَّهُ تَحْدِيدٌ، فَإِنْ نَقَصَ مِنْهُ شَيْءٌ يَسِيرٌ لمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ لمَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "الوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا"وَلا تَجِبُ حَتَّى تَكُونَ يَابِسُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، لحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ "ليْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ"وَإِنْ كَانَ رُطَبًا لا يَجِيءُ مِنْهُ تَمْرٌ، أَوْ عِنَبًا لا يَجِيءُ مِنْهُ زَبِيبٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: يُعْتَبَرُ نِصَابُهُ بِنَفْسِهِ، وَهُوَ أَنْ يَبْلغَ يَابِسُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ؛ لأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ فِيهِ فَاعْتُبِرَ النِّصَابُ مِنْ يَابِسِهِ، والثاني: يُعْتَبَرُ بِغَيْرِهِ؛ لأَنَّهُ لا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ بِنَفْسِهِ فَاعْتُبِرَ بِغَيْرِهِ كَالجِنَايَةِ التِي ليْسَ لهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ مِنْ الحُرِّ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ بِالعَبْدِ".
الشرح:
حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه الأَوَّل صَحِيحٌ رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ وَحَدِيثُهُ الثَّانِي "الوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا"ضَعِيفٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ قَال أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ: إسْنَادُهُ مُنْقَطِعٌ، وَلكِنَّ الحُكْمَ الذِي فِيهِ مَجْمَعٌ عَليْهِ. نَقَل ابْنُ المُنْذِرِ وَغَيْرُهُ الإِجْمَاعَ عَلى أَنَّ الوَسْقَ سِتُّونَ صَاعًا، وَفِي الوَسْقِ لغَتَانِ: أَشْهَرُهُمَا وَأَفْصَحُهُمَا: فَتْحُ الوَاوِ، والثانية: كَسْرُهَا وَجَمْعُهُ أَوْسُقٌ فِي القِلةِ وَوُسُوقٌ فِي الكَثْرَةِ وَأَوْسَاقٌ، وَسَبَقَتْ اللغَاتُ فِي بَغْدَادَ وَفِي الرَّطْل فِي مَسْأَلةِ القُلتَيْنِ وَالشِّظَاظَانِ بِكَسْرِ الشِّينِ العُودَانِ اللذَانِ يُجْمَعُ بِهِمَا عُرْوَتَا العَدْليْنِ عَلى البَعِيرِ "، وَالمِرْبَعَةُ "بِكَسْرِ المِيمِ وَإِسْكَانِ الرَّاءِ وَفَتْحِ البَاءِ المُوَحَّدَةِ وَهِيَ عَصًا قَصِيرَةٌ يَقْبِضُ الرَّجُلانِ بِطَرَفَيْهَا كُل وَاحِدٍ فِي يَدِهِ طَرَفٌ وَيَعْكِمَانِ العَدْل عَلى أَيْدِيهِمَا مَعَ العَصَا وَيَرْفَعَانِهِ إلى ظَهْرِ البَعِيرِ وَقَوْلهُ "النَّاقَةُ المُطَبَّعَةُ "وَهِيَ بِضَمِّ المِيمِ وَفَتْحِ الطَّاءِ المُهْمَلةِ وَالبَاءِ المُوَحَّدَةِ وَهِيَ المُثْقَلةُ بِالحَمْل قَالهُ ابْنُ فَارِسٍ وَغَيْرُهُ.

 

ج / 5 ص -312-       وَهَذَا النَّابِغَةُ الشَّاعِرُ صَحَابِيٌّ. وَهُوَ أَبُو ليْلى النَّابِغَةُ الجَعْدِيُّ، وَالنَّابِغَةُ لقَبٌ لهُ وَاسْمُهُ: قَيْسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، وَقِيل: عَبْدُ اللهِ بْنُ قَيْسٍ، وَقِيل: حِبَّانُ بْنُ قَيْسٍ، قَالوا: وَإِنَّمَا قِيل لهُ النَّابِغَةُ؛ لأَنَّهُ قَال الشِّعْرَ فِي الجَاهِليَّةِ، ثُمَّ تَرَكَهُ نَحْوَ ثَلاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ نَبَغَ فِيهِ فَقَالهُ. وَطَال عُمْرُهُ فِي الجَاهِليَّةِ وَالإِسْلامِ وَهُوَ أَسَنُّ مِنْ النَّابِغَةِ الذُّبْيَانِيِّ وَمَاتَ الذُّبْيَانِيُّ قَبْلهُ. وَعَاشَ الجَعْدِيُّ بَعْدَ الذُّبْيَانِيِّ طَوِيلًا قِيل عَاشَ مِائَةً وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَقَال ابْنُ قُتَيْبَةَ: عَاشَ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً وَبُسِطَتْ أَحْوَالهُ فِي التَّهْذِيبِ.
أما الأحكام: فَفِيهِ مَسَائِل:
إحداها: لا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الرُّطَبِ وَالعِنَبِ إلا أَنْ يَبْلغَ يَابِسُهُ نِصَابًا، وَهُوَ خَمْسَةُ أَوْسُقً، هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَال العُلمَاءُ كَافَّةً إلا أَبَا حَنِيفَةَ وَزُفَرَ فَقَالا: تَجِبُ فِي كَثِيرٍ وَقَليلٍ حَتَّى لوْ كَانَ حَبَّةً وَجَبَ عُشْرُهَا: دَليلنَا حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ المَذْكُورُ وَأَحَادِيثُ غَيْرِهِ بِمَعْنَاهُ، وَالقِيَاسُ عَلى المَوَاشِي وَالنَّقْدَيْنِ.
الثانية: الوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِالإِجْمَاعِ، نَقَل الإِجْمَاعَ فِيهِ ابْنُ المُنْذِرِ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ أَلفٌ وَسِتُّمِائَةِ رَطْلٍ بِالبَغْدَادِيِّ، وَسَبَقَ تَحْقِيقُ الرَّطْل وَمِقْدَارُهُ فِي مَسْأَلةِ القُلتَيْنِ، وَيَجِيءُ بِرَطْل دِمَشْقَ ثَلاثُمِائَةٍ وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ رَطْلًا وَنِصْفُ رَطْلٍ وَثُلثُ رَطْلٍ وَسُبْعَا أُوقِيَّةٍ، تَفْرِيعًا عَلى الأَصَحِّ أَنَّ رَطْل بَغْدَادَ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ، وَالمُعْتَمَدُ فِي تَقْدِيرِ الأَوْسُقِ بِهَذَا الإِجْمَاعِ، وَإِلا فَالحَدِيثُ ضَعِيفٌ كَمَا سَبَقَ، وَالأَصَحُّ مِنْ الوَجْهَيْنِ أَنَّ هَذَا التَّقْدِيرَ تَحْدِيدٌ صَحَّحَهُ أَصْحَابُنَا وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ المَحَامِليُّ وَالمَاوَرْدِيُّ وَالمُتَوَلي وَالأَكْثَرُونَ، قَال الرَّافِعِيُّ: صَحَّحَهُ الأَكْثَرُونَ، وَقَطَعَ الصَّيْدَلانِيُّ بِأَنَّهُ تَقْرِيبٌ، وَقَال المَحَامِليُّ وَغَيْرُهُ: إذَا قُلنَا هُوَ تَقْرِيبٌ فَلا يَمْنَعُ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ نَقْصُ خَمْسَةِ أَرْطَالٍ، وَنَقَل إمَامُ الحَرَمَيْنِ عَنْ العِرَاقِيِّينَ، ثُمَّ أَنْكَرَهُ عَليْهِمْ وَقَال فِي تَقْدِيرِهِ كَلامًا طَوِيلًا حَاصِلهُ: الأَوْسُقُ هِيَ الأَوْقَارُ، وَالوِقْرُ المُقْتَصِدُ مِائَةٌ وَسِتُّونَ مَنًّا، وَالمَنُّ رَطْلانِ، فَكُل قَدْرٍ لوْ وُزِّعَ عَلى الأَوْسُقِ الخَمْسَةِ لمْ تَعُدْ مُنْحَطَّةً عَنْ الاعْتِدَال بِسَبَبِهِ لا يَضُرُّ نَقْصُهُ، وَإِنْ عُدَّتْ مُنْحَطَّةً ضَرَّ. وَإِنْ أُشْكِل ذَلكَ فَالأَظْهَرُ عَلى تَقْدِيرِهِ بِالتَّقْرِيبِ أَنَّهُ لا يَضُرُّ لبَقَاءِ اسْمِ الأَوْسُقِ قَال: وَلا يَبْعُدُ أَنْ يَمِيل النَّاظِرُ إلى نَفْيِ الوُجُوبِ اسْتِصْحَابًا للقِلةِ إلى أَنْ يَتَيَقَّنَ الكَثْرَةَ، وَذَكَرَ إمَامُ الحَرَمَيْنِ فِي أَثْنَاءِ هَذِهِ المَسْأَلةِ مَا عَلقَهُ الشَّارِعُ بِالصَّاعِ وَالمُدِّ، فَالاعْتِبَارُ فِيهِ بِمِقْدَارٍ مَوْزُونٍ، يُضَافُ إلى المُدِّ وَالصَّاعِ، لا بِمَا يَحْوِيهِ المُدُّ مِنْ البُرِّ وَنَحْوِهِ.
وَذَكَرَ الرَّافِعِيُّ كَلامَ إمَامِ الحَرَمَيْنِ هَذَا، ثُمَّ قَال: وَقَال الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ: الاعْتِبَارُ بِالكَيْل لا بِالوَزْنِ، قَال: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَاسْتَثْنَى أَبُو العَبَّاسِ الجُرْجَانِيُّ العَسَل فَقَال: الاعْتِبَارُ فِي نِصَابِهِ بِالوَزْنِ إذَا أَوْجَبْنَا فِيهِ الزَّكَاةَ قَال: وَتَوَسَّطَ صَاحِبُ العُدَّةِ فَقَال: هُوَ عَلى التَّحْدِيدِ فِي الكَيْل، وَعَلى التَّقْرِيبِ فِي الوَزْنِ، وَإِنَّمَا قَدَّرَهُ العُلمَاءُ بِالوَزْنِ اسْتِظْهَارًا قُلتُ: هَذَا الذِي صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ مِنْ الاعْتِبَارِ بِالكَيْل هُوَ الصَّحِيحُ، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو الفَرَجِ الدَّارِمِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَصَنَّفَ فِي هَذِهِ المَسْأَلةِ تَصْنِيفًا، وَسَأَزِيدُ المَسْأَلةَ إيضَاحًا فِي بَابِ زَكَاةِ الفِطْرِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى.
المسألة الثالثة: إذَا كَانَ لهُ رُطَبٌ لا يَجِيءُ مِنْهُ تَمْرٌ، أَوْ عِنَبٌ لا يَجِيءُ مِنْهُ زَبِيبٌ، فَقَدْ ذَكَرَ

 

ج / 5 ص -313-       المُصَنِّفُ وَأَكْثَرُ العِرَاقِيِّينَ فِيهِ وَجْهَيْنِ. أحدهما: يُعْتَبَرُ بِنَفْسِهِ والثاني: بِغَيْرِهِ مِمَّا يُجَفَّفُ، وَالوَجْهَانِ مُتَّفِقَانِ عَلى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ تَمْرًا لا رُطَبًا، فَفِي وَجْهٍ يُشْتَرَطُ لوُجُوبِ زَكَاتِهِ أَنْ يَبْلغَ يَابِسُهُ بِنَفْسِهِ لوْ يَبِسَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَفِي وَجْهٍ يُشْتَرَطُ بُلوغُهُ بِغَيْرِهِ فَيُقَال: لوْ كَانَ هَذَا مِمَّا يُجَفَّفُ بُلوغُهُ نِصَابًا فِي حَال رُطُوبَتِهِ، فَإِنْ بَلغَ الرُّطَبُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَجَبَتْ، وَإِنْ كَانَ لوْ قُدِّرَ تَمْرًا لا يَبْلغُهَا وَإِنْ لمْ يَبْلغْهَا الرُّطَبُ فَلا زَكَاةَ، وَهَذَا هُوَ الأَصَحُّ عِنْدَ إمَامِ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليِّ وَالرَّافِعِيِّ وَآخَرِينَ؛ لأَنَّهُ ليْسَ لهُ حَالةُ جَفَافٍ وَادِّخَارٍ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي حَال كَمَالهِ، والوجه الثاني: يُعْتَبَرُ النِّصَابُ مِنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، للحَدِيثِ: "ليْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ، فَعَلى هَذَا هَل يُعْتَبَرُ بِنَفْسِهِ؟ أَمْ بِغَيْرِهِ؟ فِيهِ الوَجْهَانِ اللذَانِ ذَكَرَهُمَا المُصَنِّفُ وَأَكْثَرُ العِرَاقِيِّينَ، فَحَاصِل المَذْهَبِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ أصحها: يُعْتَبَرُ رُطَبًا، فَإِنْ بَلغَ الرُّطَبُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ وَإِلا فَلا، والثاني: يُعْتَبَرُ تَمْرًا بِنَفْسِهِ لوْ يَبِسَ، والثالث: يُعْتَبَرُ تَمْرًا مِنْ غَيْرِهِ.
قَال أَصْحَابُنَا: فَعَلى هَذَا الثَّالثِ يُعْتَبَرُ أَقْرَبُ أَنْوَاعِ الرُّطَبِ إليْهِ، وَعَلى الأَوْجُهِ يَجِبُ إخْرَاجُ وَاجِبِهِ فِي الحَال رُطَبًا، وَلا يُؤَخَّرُ؛ لأَنَّهُ ليْسَ لهُ جَفَافٌ يُنْتَظَرُ، قَال الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: هَذَا الخِلافُ هُوَ فِيمَا لا يُغَيِّرُهُ تَجْفِيفُهُ، وَلوْ جُفِّفَ جَاءَ مِنْهُ تَمْرٌ رَدِيءٌ حَشَفٌ. فَأَمَّا: إذَا كَانَ لوْ جُفِّفَ فَسَدَ بِالكُليَّةِ، لمْ يَجِئْ فِي الاعْتِبَارِ بِنَفْسِهِ، قَال أَصْحَابُنَا وَيَضُمُّ مَا لا يُجَفَّفُ إلى مَا يُجَفَّفُ فِي إكْمَال النِّصَابِ بِلا خِلافٍ؛ لأَنَّهُ كُلهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ. قَال المَحَامِليُّ، فَإِنْ قِيل: إذَا كَانَ الرُّطَبُ وَالعِنَبُ لا يُجَفَّفُ وَلا يُدَّخَرُ، فَهُوَ فِي مَعْنَى الخَضْرَاوَاتِ قُلنَا: الخَضْرَاوَاتُ لا يُجَفَّفُ جِنْسُهَا، وَلا يُدَّخَرُ، وَأَمَّا: الرُّطَبُ وَالعِنَبُ فَيُجَفَّفُ جِنْسُهُ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْهُ نَادِرٌ، فَوَجَبَ إلحَاقُهُ بِالغَالبِ وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَتُضَمُّ ثَمَرَةُ العَامِ الوَاحِدِ بَعْضُهَا إلى بَعْضٍ فِي إكْمَال النِّصَابِ، وَإِنْ اخْتَلفَتْ أَوْقَاتُهُ بِأَنْ كَانَ لهُ نَخِيلٌ بِتِهَامَةٍ، وَنَخِيلٌ بِنَجْدٍ، فَأَدْرَكَ ثَمَرُ التِي بِتِهَامَةٍ فَجَذَّهَا، وَحَمَلتْ التِي بِنَجْدٍ، وَأَطْلعَتْ التِي بِتِهَامَةٍ، وَأَدْرَكَتْ قَبْل أَنْ تُجَذَّ التِي بِنَجْدٍ لمْ يُضَمَّ أَحَدُهُمَا إلى الآخَرِ؛ لأَنَّ ذَلكَ ثَمَرَةُ عَامٍ آخَرَ، وَإِنْ حَمَلتْ نَخْلٌ حَمْلًا فَجَذَّ [هَا]، ثُمَّ حَمَلتْ حَمْلًا آخَرَ لمْ يُضَمَّ ذَلكَ إلى الأَوَّل؛ لأَنَّ النَّخْل لا يَحْمِل فِي عَامٍ مَرَّتَيْنِ. [فَيُعْتَبَرُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَفْسِهِ، فَإِنْ بَلغَ نِصَابًا وَجَبَ فِيهِ العُشْرُ1 وَإِنْ لمْ يَبْلغْ لمْ يَجِبْ]".
الشرح:
هَذِهِ المَسْأَلةُ ذَكَرَهَا المُصَنِّفُ مُخْتَصَرَةً جِدًّا، وَهِيَ فِي كَلامِ الأَصْحَابِ مَبْسُوطَةً بَسْطًا شَافِيًا، وَقَدْ جَمَعَ الرَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى مُعْظَمَ كَلامِ الأَصْحَابِ وَاخْتَصَرَهُ وَلخَّصَهُ فَقَال: لا خِلافَ أَنَّ ثَمَرَةَ العَامِ الثَّانِي لا تُضَمُّ إلى الأَوَّل فِي إكْمَال النِّصَابِ، سَوَاءٌ أَطْلعَتْ ثَمَرَةُ العَامِ الثَّانِي قَبْل جِذَاذِ. الأَوَّل أَوْ بَعْدَهُ، وَلوْ كَانَ لهُ نَخِيلٌ أَوْ عِنَبٌ يَحْمِل فِي العَامِ الوَاحِدِ مَرَّتَيْنِ، لمْ يُضَمَّ الثَّانِي بِلا خِلافٍ؛ لأَنَّ كُل حَمْلٍ كَثَمَرَةِ عَامٍ. قَال الأَصْحَابُ: هَذَا لا يَكَادُ يُتَصَوَّرُ فِي النَّخْل وَالعِنَبِ، فَإِنَّهُمَا لا يَحْمِلانِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مابين المعقوفين ساقط من ش و ق (ط).

 

ج / 5 ص -314-       فِي السَّنَةِ حَمْليْنِ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي التِّينِ وَغَيْرِهِ مِمَّا لا زَكَاةَ فِيهِ. قَالوا: وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه المَسْأَلةَ بَيَانًا لحُكْمِهَا لوْ تَصَوَّرَ، ثُمَّ القَاضِي ابْنُ كَجٍّ فَصَّل، فَقَال: إنْ أَطْلعَتْ النَّخْلةُ الحَمْل الثَّانِي بَعْدَ جِذَاذِ الأَوَّل فَلا ضَمَّ. وَإِنْ أَطْلعَتْ قَبْل جِذَاذِهِ وَبَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاحِ فَفِيهِ الخِلافُ الذِي سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى فِي حَمْل نَخْلتَيْنِ، قَال الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا الذِي قَالهُ ابْنُ كَجٍّ لا يُخَالفُ إطْلاقَ الجُمْهُورِ فِي عَدَمِ الضَّمِّ؛ لأَنَّ السَّابِقَ إلى الفَهْمِ مِنْ الحَمْل الثَّانِي هُوَ الحَادِثُ بَعْدَ جِذَاذِ الأَوَّل.
أَمَّا إذَا كَانَ نَخِيلٌ أَوْ أَعْنَابٌ يَخْتَلفُ إدْرَاكُ ثِمَارِهَا فِي العَامِ الوَاحِدِ لاخْتِلافِ أَنْوَاعِهَا أَوْ لاخْتِلافِ بِلادِهَا حَرَارَةً وَبُرُودَةً أَوْ غَيْرِ ذَلكَ نُظِرَ إنْ أَطْلعَ المُتَأَخِّرُ قَبْل بُدُوِّ صَلاحِ الأَوَّل فَوَجْهَانِ أحدهما: وَبِهِ قَال ابْنُ كَجٍّ وَأَصْحَابُ القَفَّال: لا ضَمَّ؛ لأَنَّ الثَّانِي حَدَثَ بَعْدَ انْصِرَامِ الأَوَّل فَأَشْبَهَ ثَمَرَةَ العَامِ الثَّانِي، وَهُوَ الأَصَحُّ عِنْدَ المَاوَرْدِيُّ، والثاني: وَبِهِ قَطَعَ أَصْحَابُ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ: يُضَمُّ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه؛ لأَنَّهَا ثَمَرَةُ عَامٍ وَاحِدٍ. قُلتُ: هَذَا الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي المُحَرَّرِ1. وَإِنْ أَطْلعَ المُتَأَخِّرُ بَعْدَ بُدُوِّ2 صَلاحِ الأَوَّل وَقَبْل جِذَاذِهِ فإن قالنا فِيمَا بَعْدَ الجِذَاذِ: يُضَمُّ، فَهُنَا أَوْلى وَإِلا فَوَجْهَانِ أصحهما: عِنْدَ المَاوَرْدِيُّ وَالبَغَوِيِّ وَبِهِ قَال أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ لا يُضَمُّ لحُدُوثِ الثَّانِي بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الأَوَّل، والثاني: يُضَمُّ لاجْتِمَاعِهِمَا عَلى رُءُوسِ النَّخْل كَمَا لوْ أَطْلعَ قَبْل بُدُوِّ صَلاحِ الأَوَّل. فَإِنْ قُلنَا بِقَوْل أَصْحَابِ القَفَّال فَهَل يَقُومُ وَقْتُ الجِذَاذِ مَقَامَ الجِذَاذِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: يَقُومُ، وَبِهِ قَطَعَ الصَّيْدَلانِيُّ؛ لأَنَّهَا بَعْدَ دُخُول وَقْتِ الجِذَاذِ كَالمَجْذُوذَةِ وَلهَذَا لوْ أَطْلعَتْ النَّخْلةُ للعَامِ الثَّانِي وَعَليْهَا بَعْضُ ثَمَرَةِ الأَوَّل لمْ يَثْبُتْ الضَّمُّ بِلا خِلافٍ. فَعَلى هَذَا قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ لجِذَاذِ الثِّمَارِ أَوَّل وَقْتٍ وَنِهَايَةٌ وَيَكُونُ تَرْكُ الثِّمَارِ إليْهَا أَوْلى وَتِلكَ النِّهَايَةُ هِيَ المُعْتَبَرَةُ.
واعلم:أَنَّ مِنْ مَوَاضِعِ اخْتِلافِ إدْرَاكِ الثِّمَارِ نَجْدًا وَتِهَامَةً. فَتِهَامَةُ حَارَّةٌ يَسْرُعُ إدْرَاكُ الثَّمَرَةِ بِهَا بِخِلافِ نَجْدٍ، فَإِذَا كَانَتْ للرَّجُل نَخِيلٌ تِهَامِيَّةٌ وَنَخِيلٌ نَجْدِيَّةٌ فَأَطْلعَتْ التِّهَامِيَّةُ، ثُمَّ النَّجْدِيَّةُ لذَلكَ العَامِ وَاقْتَضَى الحَال ضَمَّ النَّجْدِيَّةِ إلى التِّهَامِيَّةِ عَلى مَا سَبَقَ بَيَانُهُ فَضَمَمْنَا، ثُمَّ أَطْلعَتْ التِّهَامِيَّةُ مَرَّةً أُخْرَى فَلا تُضَمُّ التِّهَامِيَّةُ الثَّانِيَةُ إلى النَّجْدِيَّةِ، وَإِنْ أَطْلعَتْ قَبْل بُدُوِّ صَلاحِهَا، لأَنَّا لوْ ضَمَمْنَاهَا إلى النَّجْدِيَّةِ لزِمَ ضَمُّهَا إلى التِّهَامِيَّةِ الأُولى، وَذَلكَ لا يَجُوزُ بِالاتِّفَاقِ. هَكَذَا قَالهُ الأَصْحَابُ. قَال الصَّيْدَلانِيُّ وَإِمَامُ الحَرَمَيْنِ: وَلوْ لمْ تَكُنْ النَّجْدِيَّةُ مَضْمُومَةً إلى التِّهَامِيَّةِ الأُولى بِأَنْ أَطْلعَتْ بَعْدَ جِذَاذِهَا ضَمَمْنَا التِّهَامِيَّةَ الثَّانِيَةَ إلى النَّجْدِيَّةِ؛ لأَنَّهُ لا يَلزَمُ المَحْذُورُ الذِي ذَكَرْنَاهُ. قَال الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا قَدْ لا يُسَلمُهُ سَائِرُ الأَصْحَابِ؛ لأَنَّهُمْ حَكَمُوا بِضَمِّ ثَمَرَةِ العَامِ الوَاحِدِ بَعْضِهَا إلى بَعْضٍ، وَبِأَنَّهُ لا تُضَمُّ ثَمَرَةُ عَامٍ إلى ثَمَرَةِ عَامٍ آخَرَ وَالتِّهَامِيَّةُ الثَّانِيَةُ حَمْل عَامٍ آخَرَ، هَذَا آخِرُ مَا ذَكَرَهُ الرَّافِعِيُّ، قَال الدَّارِمِيُّ وَالمَاوَرْدِيُّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المحرر هو أصل المنهاج إذ اختصره النووي وسماه المنهاج كما اختصر فتح العزيز وسماه روضة الطالبين (ط).
2 بضم الباء والدال والواو مشددة (ط).

 

ج / 5 ص -315-       وَالبَنْدَنِيجِيّ وَغَيْرُهُمْ: إذَا كَانَ عَلى النَّخْلةِ بَلحٌ وَبُسْرٌ وَرُطَبٌ ضُمَّ بَعْضُهُ إلى بَعْضٍ بِلا خِلافٍ؛ لأَنَّهُ حَمْلٌ وَاحِدٌ، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
قَالوا: وَلوْ كَانَ بَعْضُ نَخْلهِ أَوْ عِنَبِهِ يَحْمِل حَمْليْنِ، وَبَعْضُهَا حَمْلًا، فَإِنَّ ذَاتَ الحَمْل يُضَمُّ إلى مَا يُوَافِقُهُ فِي الزَّمَانِ مِنْ الحَمْليْنِ. قَال البَنْدَنِيجِيُّ: فَإِنْ أُشْكِلا فَلمْ يُعْلمْ مَعَ أَيِّهِمَا كَانَ ضُمَّ إلى أَقْرَبِ الحَمْليْنِ إليْهِ، وَاَللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالى أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَزَكَاتُهُ العُشْرُ فِيمَا سُقِيَ بِغَيْرِ مُؤْنَةٍ ثَقِيلةٍ، كَمَاءِ السَّمَاءِ وَالأَنْهَارِ وَمَا شَرِبَ بِالعُرُوقِ، وَنِصْفُ العُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِمُؤْنَةٍ ثَقِيلةٍ كَالنَّوَاضِحِ وَالدَّوَاليبِ وَمَا أَشْبَهَهَا، لمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:
فَرَضَ فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالأَنْهَارُ وَالعُيُونُ أَوْ كَانَ بَعْلًا، وَرُوِيَ عَثَرِيًّا العُشْرُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ"وَالبَعْل [الشَّجَرُ] الذِي يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ وَالعَثَرِيُّ الشَّجَرُ الذِي يَشْرَبُ مِنْ المَاءِ الذِي يَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ فَيَجْرِي كَالسَّاقِيَةِ؛ وَلأَنَّ المُؤْنَةَ فِي أَحَدِهِمَا تَخِفُّ، وَفِي الأُخْرَى تَثْقُل، فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الزَّكَاةِ. وَلوْ كَانَ يُسْقَى نِصْفُهُ بِالنَّوَاضِحِ، وَنِصْفُهُ بِالسَّيْحِ، فَفِيهِ ثَلاثَةُ أَرْبَاعِ العُشْرِ اعْتِبَارًا بِالسَّقْيَتَيْنِ، وَإِنْ سُقِيَ بِأَحَدِهِمَا أَكْثَرُ فَفِيهِ قَوْلانِ: أحدهما: يُعْتَبَرُ فِيهِ الغَالبُ، فَإِنْ كَانَ الغَالبُ السَّقْيَ بِمَاءِ السَّمَاءِ أَوْ السَّيْحِ وَجَبَ العُشْرُ، وَإِنْ كَانَ الغَالبُ السَّقْيَ بِالنَّاضِحِ وَجَبَ نِصْفُ العُشْرِ؛ لأَنَّهُ اجْتَمَعَ الأَمْرَانِ وَلأَحَدِهِمَا قُوَّةٌ بِالغَلبَةِ، فَكَانَ الحُكْمُ لهُ كَالمَاءِ إذَا خَالطَهُ مَائِعٌ، (وَالقَوْل الثَّانِي) يُقَسَّطُ عَلى عَدَدِ السَّقْيَاتِ؛ لأَنَّ مَا وَجَبَ فِيهِ الزَّكَاةُ بِالقِسْطِ عِنْدَ التَّمَاثُل وَجَبَ فِيهِ بِالقِسْطِ عِنْدَ التَّفَاضُل كَزَكَاةِ الفِطْرِ فِي العَبْدِ المُشْتَرَى، فَإِنْ جَهِل القَدْرَ الذِي سَقَى بِكُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُعِلا نِصْفَيْنِ؛ وَلأَنَّهُ ليْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلى مِنْ الآخَرِ، فَوَجَبَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا كَالدَّارِ فِي يَدِ اثْنَيْنِ".
الشرح:
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلى شَرْطِ مُسْلمٍ بِلفْظِهِ فِي المُهَذَّبِ وَرَوَاهُ البُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ قَال: عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَال: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا العُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ"وَرَوَاهُ مُسْلمٌ فِي صَحِيحِهِ بِمَعْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ، وَرَوَاهُ البَيْهَقِيُّ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ، قَال البَيْهَقِيُّ: وَهُوَ قَوْلٌ، العَامَّةُ لمْ يَخْتَلفُوا فِيهِ، وَكَذَا أَشَارَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي المُخْتَصَرِ إلى أَنَّهُ مُجْمَعٌ عَليْهِ وَهَذَا الذِي ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ فِي تَفْسِيرِ البَعْل، كَذَا قَالهُ أَهْل اللغَةِ وَغَيْرُهُمْ وَأَمَّا العَثَرِيُّ فَبِعَيْنٍ مُهْمَلةٍ وَثَاءٍ مُثَلثَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ، ثُمَّ يَاءٍ مُشَدَّدَةٍ، وَيُقَال بِإِسْكَانِ الثَّاءِ وَالصَّحِيحُ المَشْهُورُ فَتْحُهَا وَأَنْكَرَ القَلعِيُّ عَلى المُصَنِّفِ تَفْسِيرَهُ العَثَرِيِّ وَقَال: إنَّمَا هُوَ مَا سَقَتْ السَّمَاءُ، لا خِلافَ بَيْنَ أَهْل اللغَةِ فِيهِ، وَهَذَا الذِي قَالهُ القَلعِيُّ ليْسَ كَمَا قَالهُ وَليْسَ نَقْلهُ عَنْ جَمِيعِ أَهْل اللغَةِ صَحِيحًا وَإِنَّمَا هُوَ قَوْل قَليلٍ مِنْهُمْ. وَذَكَرَ ابْنُ فَارِسٍ فِي المُجْمَل فِيهِ قَوْليْنِ لأَهْل اللغَةِ قَال: العَثَرِيُّ مَا سُقِيَ مِنْ النَّخْل سَيْحًا، وَالسَّيْحُ المَاءُ الجَارِي قَال: وَيُقَال هُوَ العِذْيُ وَالعِذْيُ الزَّرْعُ الذِي لا يَسْقِيه إلا مَاءُ المَطَرِ، وَلمْ يَذْكُرْ الجَوْهَرِيُّ فِي صِحَاحِهِ إلا هَذَا القَوْل الثَّانِي، وَالأَصَحُّ مَا قَالهُ الأَزْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْل اللغَةِ أَنَّ العَثَرِيَّ مَخْصُوصٌ بِمَا سُقِيَ مِنْ مَاءِ السَّيْل فَيُجْعَل عَاثُورًا وَشَبَّهَ سَاقِيَّتَهُ بِحُفَرٍ يَجْرِي فِيهَا المَاءُ إلى أُصُولهِ، وَسُمِّيَ عَاثُورًا؛ لأَنَّهُ يَتَعَثَّرُ بِهِ المَارُّ الذِي لا يَشْعُرُ بِهِ، وَهَذَا هُوَ مُرَادُ المُصَنِّفِ، وَإِنْ كَانَتْ عِبَارَتُهُ تَحْتَاجُ إلى تَقْيِيدٍ.

 

ج / 5 ص -316-       وَأَمَّا النَّوَاضِحُ فَجَمْعُ نَاضِحٍ أَوْ هُوَ مَا يُسْقَى عَليْهِ نَضْحًا مِنْ بَعِيرٍ وَبَقَرَةٍ وَغَيْرِهِمَا قَال أَهْل اللغَةِ: النَّضْحُ السَّقْيُ مِنْ مَاءِ بِئْرٍ أَوْ نَهْرٍ بِسَاقِيَّةٍ. وَالنَّاضِحُ اسْمٌ للبَعِيرِ وَالبَقَرَةِ الذِي يُسْقَى عَليْهِ مِنْ البِئْرِ أَوْ النَّهْرِ وَالأُنْثَى نَاضِحَةٌ، وَالدَّوَاليبُ جَمْعُ دُولاب بِفَتْحِ الدَّال قَال الجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: هُوَ فَارِسِيٌّ مُعَرَّبٌ.
وَأَمَّا الأَحْكَامُ: فَقَال الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَالأَصْحَابُ: يَجِبُ فِيمَا سُقِيَ بِمَاءِ السَّمَاءِ مِنْ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ العُشْرُ، وَكَذَا البَعْل وَهُوَ مَا يَشْرَبُ بِعُرُوقِهِ، وَكَذَا مَا يَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ يَنْصَبُّ إليْهِ مِنْ جَبَلٍ أَوْ نَهْرٍ أَوْ عَيْنٍ كَبِيرَةٍ، فَفِي هَذَا كُلهِ العُشْرُ. وَأَمَّا مَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ أَوْ الدِّلاءِ أَوْ الدَّوَاليبِ، وَهِيَ التِي تُدِيرُهَا البَقَرُ أَوْ بِالنَّاعُورَةِ، وَهِيَ التِي يُدِيرُهَا المَاءُ بِنَفْسِهِ، فَفِي جَمِيعِهِ نِصْفُ العُشْرِ. وَهَذَا كُلهُ لا خِلافَ فِيهِ بَيْنَ المُسْلمِينَ، وَقَدْ سَبَقَ نَقْل البَيْهَقِيّ الإِجْمَاعَ فِيهِ. وَأَمَّا القَنَوَاتُ وَالسَّوَاقِي المَحْفُورَةُ مِنْ نَهْرٍ عَظِيمٍ التِي تَكْثُرُ مُؤْنَتُهَا، فَفِيهَا العُشْرُ كَامِلًا. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ المَشْهُورُ المَقْطُوعُ بِهِ فِي كُتُبِ العِرَاقِيِّينَ وَالخُرَاسَانِيِّينَ. وَنَقَل إمَامُ الحَرَمَيْنِ اتِّفَاقَ الأَئِمَّةِ عَليْهِ، وَعَللهُ الأَصْحَابُ بِأَنَّ مُؤْنَةَ القَنَوَاتِ إنَّمَا تُشَقُّ لإِصْلاحِ الضَّيْعَةِ، وَكَذَا الأَنْهَارُ إنَّمَا تُشَقُّ لإِحْيَاءِ الأَرْضِ، وَإِذَا تَهَيَّأَتْ وَصَل المَاءُ إلى الزَّرْعِ بِنَفْسِهِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى بِخِلافِ النَّوَاضِحِ وَنَحْوِهَا، فَإِنَّ المُؤْنَةَ فِيهَا لنَفْسِ الزَّرْعِ.
وَنَقَل الرَّافِعِيُّ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي عَاصِمٍ أَنَّهُ نَقَل أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا سَهْلٍ الصُّعْلوكِيَّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَفْتَى أَنَّ مَا سُقِيَ بِمَاءِ القَنَاةِ وَجَبَ فِيهِ نِصْفُ العُشْرِ. وَقَال صَاحِبُ التَّهْذِيبِ: إنْ كَانَتْ القَنَاةُ أَوْ العَيْنُ كَثِيرَةَ المُؤْنَةِ لا تَزَال تَنْهَارُ، وَتَحْتَاجُ إلى إحْدَاثِ حَفْرٍ وَجَبَ نِصْفُ العُشْرِ، وَإِنْ لمْ يَكُنْ لهَا مُؤْنَةٌ أَكْثَرُ مِنْ مُؤْنَةِ الحَفْرِ الأَوَّل وَكَسْحِهَا فِي بَعْضِ الأَوْقَاتِ وَجَبَ العُشْرُ. قَال الرَّافِعِيُّ: وَالمَذْهَبُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الجُمْهُورِ. قَال الرَّافِعِيُّ: قَال ابْنُ كَجٍّ: وَلوْ اشْتَرَى مَاءً وَسَقَى بِهِ وَجَبَ نِصْفُ العُشْرِ، قَال: وَكَذَا لوْ سَقَاهُ بِمَاءٍ مَغْصُوبٍ؛ لأَنَّ عَليْهِ ضَمَانَهُ. قَال الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا حَسَنٌ جَارٍ عَلى كُل مَأْخَذٍ، فَإِنَّهُ لا يَتَعَلقُ بِصَلاحِ الضَّيْعَةِ بِخِلافِ القَنَاةِ، ثُمَّ حَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ ابْنِ كَجٍّ عَنْ ابْنِ القَطَّانِ وَجْهَيْنِ فِيمَا لوْ وُهِبَ لهُ المَاءُ، وَرَجَّحَ إلحَاقَهُ بِالمَغْصُوبِ لوُجُودِ المِنَّةِ العَظِيمَةِ، وَكَمَا لوْ عَلفَ مَاشِيَتَهُ بِعَلفٍ مَوْهُوبٍ قُلتُ: وَهَذَانِ الوَجْهَانِ تَفْرِيعٌ عَلى قَوْلنَا لا تَقْتَضِي الهِبَةُ ثَوَابًا فإن قالنا تَقْتَضِيه، فَنِصْفُ العُشْرِ بِلا خِلافٍ، صَرَّحَ بِذَلكَ كُلهِ الدَّارِمِيُّ فِي الاسْتِذْكَارِ، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
فَصْلٌ: إذَا اجْتَمَعَ فِي الشَّجَرِ الوَاحِدِ أَوْ الزَّرْعِ الوَاحِدِ السَّقْيُ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالنَّوَاضِحِ، فَلهُ حَالانِ أحدهما: أَنْ يَزْرَعَ عَازِمًا عَلى السَّقْيِ بِهِمَا، فَيَنْظُرُ إنْ كَانَ نِصْفُ السَّقْيِ بِهَذَا وَنِصْفُهُ بِذَلكَ، فَطَرِيقَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَالجُمْهُورُ مِنْ الطَّرِيقِينَ: يَجِبُ ثَلاثَةُ أَرْبَاعِ العُشْرِ. والثاني: حَكَاهُ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ يَجِبُ العُشْرُ بِكَمَالهِ عَلى قَوْلنَا فِيمَا إذَا تَفَاضَلا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الأَغْلبُ، وَعَللوهُ بِأَنَّهُ أَرْفَقُ للمَسَاكِينِ، وَالمَذْهَبُ الأَوَّل وَدَليلهُ فِي الكِتَابِ، فَإِنْ سُقِيَ بِأَحَدِهِمَا أَكْثَرُ فَقَوْلانِ مَشْهُورَانِ. ذَكَرَ المُصَنِّفُ دَليلهُمَا، أصحهما: عِنْدَ الأَصْحَابِ وَرَجَّحَهُ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه أَيْضًا فِي المُخْتَصَرِ: يُقَسَّطُ الوَاجِبُ عَليْهِمَا، والثاني: يُعْتَبَرُ الأَغْلبُ. فَإِنْ قُلنَا بِالتَّقْسِيطِ وَكَانَ ثُلثَا السَّقْيِ بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالثُّلثُ بِالنَّضْحِ وَجَبَ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ العُشْرِ، وَإِنْ اسْتَوَيَا فَثَلاثَةُ أَرْبَاعِ العُشْرِ، وَإِنْ قُلنَا بِالأَغْلبِ، فَزَادَ السَّقْيُ

 

ج / 5 ص -317-       بِمَاءِ السَّمَاءِ أَدْنَى زِيَادَةٍ وَجَبَ العُشْرُ، وَإِنْ زَادَ الآخَرُ أَدْنَى زِيَادَةٍ وَجَبَ نِصْفُ العُشْرِ، فَإِنْ اسْتَوَيَا فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ المَذْهَبَ وُجُوبُ ثَلاثَةِ أَرْبَاعِ العُشْرِ، وَفِي وَجْهٍ شَاذٍّ يَجِبُ كُل العُشْرِ.
قَال أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ قَسَّطْنَا أَمْ اعْتَبَرْنَا الأَغْلبَ، فَهَل النَّظَرُ إلى عَدَدِ السَّقْيَاتِ أَمْ غَيْرِهَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي كُتُبِ الخُرَاسَانِيِّينَ وَفِي كُتُبِ جَمَاعَةٍ مِنْ العِرَاقِيِّينَ:
 أحدهما: يُقَسَّطُ عَلى عَدَدِ السَّقْيَاتِ، وَبِهَذَا قَطَعَ المُصَنِّفُ وَالمَاوَرْدِيُّ؛ لأَنَّ المُؤْنَةَ تَخْتَلفُ بِعَدَدِ السَّقْيَاتِ، وَالمُرَادُ السَّقْيَاتُ المُفِيدَةُ، والوجه الثاني وَهُوَ الأَصَحُّ وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَصَحَّحَهُ المُحَقِّقُونَ وَرَجَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي كِتَابَيْهِ: أَنَّ الاعْتِبَارَ بِعَيْشِ الزَّرْعِ وَالثَّمَرَةِ وَنَمَائِهِ، قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ: وَعَبَّرَ بَعْضُهُمْ عَنْ هَذَا الثَّانِي بِالنَّظَرِ إلى النَّفْعِ قَالوا: وَقَدْ تَكُونُ سَقْيَةٌ أَنْفَعُ مِنْ سَقَيَاتٍ كَثِيرَةٍ. قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالعِبَارَتَانِ مُتَقَارِبَتَانِ، إلا أَنَّ صَاحِبَ الثَّانِيَةِ لا يَنْظُرُ إلى المُدَّةِ بَل يُعْتَبَرُ النَّفْعُ الذِي يَحْكُمُ بِهِ أَهْل الخِبْرَةِ، وَصَاحِبُ العِبَارَةِ الأُولى يَعْتَبِرُ المُدَّةَ قَال الرَّافِعِيُّ رحمه الله: وَاعْتِبَارُ المُدَّةِ هُوَ الذِي ذَكَرَهُ الأَكْثَرُونَ تَفْرِيعًا عَلى هَذَا الوَجْهِ، قَال: وَذَكَرُوا فِي المِثَال أَنَّهُ لوْ كَانَتْ المُدَّةُ مِنْ يَوْمِ الزَّرْعِ إلى يَوْمِ الإِدْرَاكِ ثَمَانِيَةَ أَشْهُرٍ وَاحْتَاجَ فِي سِتَّةِ أَشْهُرٍ زَمَانَ الشِّتَاءِ وَالرَّبِيعِ إلى سَقْيَتَيْنِ فَسَقَى فِيهِمَا بِمَاءِ السَّمَاءِ، وَاحْتَاجَ فِي الصَّيْفِ فِي الشَّهْرَيْنِ البَاقِيَيْنِ إلى ثَلاثِ سَقَيَاتٍ فَسُقِينَ بِالنَّضْحِ فَإِنْ اعْتَبَرْنَا عَدَدَ السَّقْيَاتِ، فَعَلى قَوْل التَّقْسِيطِ: يَجِبُ خُمُسَا العُشْرِ وَثَلاثَةُ أَخْمَاسِ نِصْفِ العُشْرِ، وَعَلى اعْتِبَارِ الأَغْلبِ يَجِبُ نِصْفُ العُشْرِ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا المُدَّةَ، فَعَلى قَوْل التَّقْسِيطِ يَجِبُ ثَلاثَةُ أَرْبَاعِ العُشْرِ وَرُبْعُ نِصْفِ العُشْرِ، وَعَلى قَوْل اعْتِبَارِ الأَغْلبِ يَجِبُ العُشْرُ؛ لأَنَّ مُدَّةَ السَّقْيِ بِمَاءِ السَّمَاءِ أَطْوَل.
وَلوْ سَقَى بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالنَّضْحِ جَمِيعًا وَجَهِل المِقْدَارَ مِنْ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ عَلمَ أَنَّ أَحَدَهُمَا أَكْثَرُ وَجَهِل أَيَّهُمَا هُوَ وَجَبَ ثَلاثَةُ أَرْبَاعِ العُشْرِ. هَذَا هُوَ المَذْهَبُ. وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَجَمَاهِيرُ الأَصْحَابِ وَنَقَلوهُ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَأَطْبَقُوا عَليْهِ، إلا ابْنَ كَجٍّ وَالدَّارِمِيَّ فَحَكَيَا وَجْهًا أَنَّهُ يَجِبُ نِصْفُ العُشْرِ؛ لأَنَّ الأَصْل البَرَاءَةُ مِمَّا زَادَا، وَإِلا صَاحِبَ الحَاوِي فَقَال: إنْ سَقَى بِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ وَجُهِلتْ عَيْنُهُ فَإِنْ اعْتَبَرْنَا الأَغْلبَ وَجَبَ نِصْفُ العُشْرِ؛ لأَنَّهُ اليَقِينُ. وَإِنْ قُلنَا بِالتَّقْسِيطِ، فَالوَاجِبُ يَنْقُصُ عَنْ العُشْرِ وَيَنْقُصُ عَنْ نِصْفِهِ، فَيَأْخُذُ اليَقِينَ وَيَقِفُ عَنْ البَاقِي حَتَّى يَتَبَيَّنَ. قَال: وَإِنْ شَكَكْنَا هَل اسْتَوَيَا أَوْ زَادَ أَحَدُهُمَا؟ فَإِنْ قُلنَا بِالغَالبِ وَجَبَ نِصْفُ العُشْرِ؛ لأَنَّهُ اليَقِينُ، وَإِنْ قَسَّطْنَا فَوَجْهَانِ:
 أحدهما: يَجِبُ ثَلاثَةُ أَرْبَاعِ العُشْرِ والثاني: يَجِبُ زِيَادَةٌ عَلى نِصْفِ العُشْرِ بِشَيْءٍ وَإِنْ قَل. هَذَا كَلامُ صَاحِبِ الحَاوِي وَالمَذْهَبُ مَا قَدَّمْنَاهُ. الحال الثاني يَزْرَعُ نَاوِيًا السَّقْيَ بِأَحَدِهِمَا، ثُمَّ يَقَعُ الآخَرُ، فَهَل يُسْتَصْحَبُ حُكْمُ مَا نَوَاهُ أَوَّلًا؟ أَمْ يُعْتَبَرُ الحُكْمُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الخُرَاسَانِيُّونَ وَالدَّارِمِيُّ وَآخَرُونَ أصحهما: وَأَشْهُرُهُمَا: يُعْتَبَرُ الحُكْمُ، وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ. وَهُوَ مُقْتَضَى إطْلاقِ العِرَاقِيِّينَ. قَالوا: وَعَلى هَذَا فَفِي كَيْفِيَّةِ اعْتِبَارِهِمَا الخِلافُ السَّابِقُ. وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
 فرع: قَال أَصْحَابُنَا: قَال الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي المُخْتَصَرِ: وَلوْ اخْتَلفَ المَالكُ وَالسَّاعِي

 

ج / 5 ص -318-       فِي أَنَّهُ بِمَاذَا سُقِيَ؟ فَالقَوْل قَوْل المَالكِ فِيمَا يُمْكِنُ؛ لأَنَّ الأَصْل عَدَمُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَإِنْ اتَّهَمَهُ السَّاعِي حَلفَهُ، وَهَذِهِ اليَمِينُ مُسْتَحَبَّةٌ بِالاتِّفَاقِ، صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَالبَنْدَنِيجِيّ وَالمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ؛ لأَنَّهُ لا يُخَالفُ الظَّاهِرَ. وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
فرع: لوْ كَانَ لهُ حَائِطَانِ مِنْ النَّخْل وَالعِنَبِ أَوْ قِطْعَتَانِ مِنْ الزَّرْعِ سُقِيَ أَحَدُهُمَا بِمَاءِ السَّمَاءِ وَالآخَرُ بِالنَّضْحِ وَلمْ يَبْلغْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا نِصَابًا وَجَبَ ضَمُّ أَحَدِهِمَا إلى الآخَرِ فِي إكْمَال النِّصَابِ وَأَخْرَجَ مِنْ المَسْقِيِّ بِمَاءِ السَّمَاءِ العُشْرَ، وَمَنْ الآخَرِ نِصْفَهُ وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ زَادَتْ الثَّمَرَةُ عَلى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَجَبَ الفَرْضُ فِيهِ بِحِسَابِهِ؛ لأَنَّهُ يَتَجَزَّأُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَوَجَبَ فِيهِ بِحِسَابِهِ كَزَكَاةِ الأَثْمَانِ".
الشرح: قَوْلهُ يَتَجَزَّأُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ احْتِرَازٌ مِنْ المَاشِيَةِ وَتَجِبُ فِيمَا زَادَ عَلى النِّصَابِ بِحِسَابِهِ بِإِجْمَاعِ المُسْلمِينَ، نَقَل الإِجْمَاعَ فِيهِ صَاحِبُ الحَاوِي وَآخَرُونَ، وَدَليلهُ مِنْ السُّنَّةِ قَوْلهُ صلى الله عليه وسلم: "فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ العُشْرُ"الحَدِيثَ، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلا يَجِبُ العُشْرُ حَتَّى يَبْدُو الصَّلاحُ فِي الثِّمَارِ، وَبُدُوُّ الصَّلاحِ أَنْ يَحْمَرَّ البُسْرُ أَوْ يَصْفَرَّ وَيَتَمَوَّهُ العِنَبُ؛ لأَنَّهُ قَبْل بُدُوِّ الصَّلاحِ لا يُقْصَدُ أَكْلهُ، فَهُوَ كَالرُّطَبَةِ وَبَعْدَهُ يُقْتَاتُ، وَيُؤْكَل فَهُوَ كَالحُبُوبِ".
الشرح:
قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ رضي الله عنهم: وَقْتُ وُجُوبِ زَكَاةِ النَّخْل وَالعِنَبِ بُدُوُّ الصَّلاحِ وَوَقْتُ الوُجُوبِ فِي الحُبُوبِ اشْتِدَادُهَا. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ المَعْرُوفُ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه القَدِيمَةِ وَالجَدِيدَةِ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاهِيرُ الأَصْحَابِ فِي كُل الطُّرُقِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الشَّامِل أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ حَكَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه أَوْمَأَ فِي القَدِيمِ إلى أَنَّ الزَّكَاةَ لا تَجِبُ إلا عِنْدَ فِعْل الحَصَادِ، قَال: وَليْسَ بِشَيْءٍ.
وَذَكَرَ إمَامُ الحَرَمَيْنِ عَنْ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ أَنَّهُ حَكَى قَوْلًا غَرِيبًا أَنَّ وَقْتَ الزَّكَاةِ هُوَ الجَفَافُ فِي الثِّمَارِ وَالتَّصْفِيَةُ فِي الحُبُوبِ، وَلا يَتَقَدَّمُ الوُجُوبُ عَلى الأَمْرِ بِالأَدَاءِ وَهَذَانِ شَاذَّانِ وَالمَذْهَبُ مَا سَبَقَ. قَال أَصْحَابُنَا: وَبُدُوُّ الصَّلاحِ فِي بَعْضِهِ كَبُدُوِّهِ فِي الجَمِيعِ كَمَا فِي البَيْعِ. فَإِذَا بَدَا الصَّلاحُ فِي أَقَل شَيْءٍ مِنْهُ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ. وَكَذَا اشْتِدَادُ بَعْضِ الحَبِّ كَاشْتِدَادِ كُلهِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ كَمَا أَنَّهُ مِثْلهُ فِي البَيْعِ. قَال أَصْحَابُنَا: وَحَقِيقَةُ بُدُوِّ الصَّلاحِ هُنَا كَمَا هُوَ مُقَدَّرٌ فِي كِتَابِ البَيْعِ وَمُخْتَصَرُهُ مَا قَالهُ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ أَنْ يَحْمَرَّ البُسْرُ وَيَتَمَوَّهُ العِنَبُ
قَال الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه: (فَإِنْ كَانَ عِنَبًا أَسْوَدَ فَحَتَّى يَسْوَدَّ، أَوْ أَبْيَضَ فَحَتَّى يَتَمَوَّهَ) قِيل: أَرَادَ بِالتَّمَوُّهِ أَنْ يَدُورَ فِيهِ المَاءُ الحُلوُ، وَقِيل: أَنْ تَبْدُوَ فِيهِ الصُّفْرَةُ.
فرع: قَال أَصْحَابُنَا: لوْ اشْتَرَى نَخِيلًا مُثْمِرَةً، أَوْ وَرِثَهَا قَبْل بُدُوِّ الصَّلاحِ، ثُمَّ بَدَا، فَعَليْهِ الزَّكَاةُ لوُجُودِ وَقْتِ الوُجُوبِ فِي مِلكِهِ، وَلوْ بَاعَ المُسْلمُ نَخِيلهُ المُثْمِرَةَ قَبْل بُدُوِّ الصَّلاحِ لمُكَاتَبٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، فَبَدَا الصَّلاحُ فِي مِلكِهِ، فَلا زَكَاةَ عَلى وَاحِدٍ، فَلوْ عَادَ إلى مِلكِ البَائِعِ المُسْلمِ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاحِ بِبَيْعٍ مُسْتَأْنَفٍ

 

ج / 5 ص -319-       أَوْ هِبَةٍ أَوْ إقَالةٍ أَوْ رَدٍّ بِعَيْبٍ أَوْ غَيْرِ ذَلكَ فَلا زَكَاةَ؛ لأَنَّهُ لمْ يَكُنْ مَالكًا لهُ حَال الوُجُوبِ، وَلوْ اشْتَرَى بِشَرْطِ الخِيَارِ، فَبَدَا الصَّلاحُ فِي مُدَّةِ الخِيَارِ فَإِنْ قُلنَا: المِلكُ للبَائِعِ، فَعَليْهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ تَمَّ البَيْعُ، وَإِنْ قُلنَا: للمُشْتَرِي فَعَليْهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ فُسِخَ. وَإِنْ قُلنَا: مَوْقُوفٌ فَالزَّكَاةُ مَوْقُوفَةٌ، فَمَنْ ثَبَتَ لهُ المِلكُ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ عَليْهِ، وَلوْ بَاعَ نَخِيلًا قَبْل بُدُوِّ الصَّلاحِ، فَبَدَا فِي مِلكِ المُشْتَرِي، ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا، فَليْسَ لهُ الرَّدُّ إلا بِرِضَا البَائِعِ لتَعَلقِ الزَّكَاةِ بِهَا، وَهُوَ كَعَيْبٍ حَدَثَ فِي يَدِهِ، فَإِنْ أَخْرَجَ المُشْتَرِي الزَّكَاةَ مِنْ نَفْسِ الثَّمَرَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا، فَحُكْمُهُ مَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى.
هَذَا كُلهُ إذَا بَاعَ النَّخْل وَالثَّمَرَ جَمِيعًا، فَلوْ بَاعَ الثَّمَرَةَ وَحْدَهَا قَبْل بُدُوِّ الصَّلاحِ فَشَرْطُهُ أَنْ يُبَاعَ بِشَرْطِ القَطْعِ، فَلوْ لمْ يُقْطَعْ حَتَّى بَدَا، فَقَدْ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ، ثُمَّ إنْ رَضِيَا بِإِبْقَائِهَا إلى الجِذَاذِ جَازَ، وَالعُشْرُ عَلى المُشْتَرِي قَال الرَّافِعِيُّ: وَحَكَى قَوْل أَنَّ البَيْعَ يَنْفَسِخُ كَمَا لوْ اتَّفَقْنَا عِنْدَ البَيْعِ عَلى الإِبْقَاءِ. وَهَذَا غَرِيبٌ ضَعِيفٌ، وَإِنْ لمْ يَرْضَيَا بِالإِبْقَاءِ لمْ تُقْطَعْ الثَّمَرَةُ؛ لأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِالفُقَرَاءِ، ثُمَّ فِيهِ قَوْلانِ: أحدهما: يَنْفَسِخُ البَيْعُ لتَعَذُّرِ إمْضَائِهِ وأصحهما: لا يَنْفَسِخُ، لكِنْ إنْ لمْ يَرْضَ البَائِعُ بِالإِبْقَاءِ يُفْسَخُ، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ وَامْتَنَعَ المُشْتَرِي وَطَلبَ القَطْعَ فَوَجْهَانِ: أحدهما: يُفْسَخُ وأصحهما: لا يُفْسَخُ، وَلوْ رَضِيَ البَائِعُ، ثُمَّ رَجَعَ كَانَ لهُ ذَاكَ؛ لأَنَّ رِضَاهُ إعَارَةٌ، وَحَيْثُ قُلنَا: يُفْسَخُ البَيْعُ فَفُسِخَ، فَعَلى مَنْ تَجِبُ الزَّكَاةُ؟ فِيهِ قَوْلانِ: أحدهما: عَلى البَائِعِ؛ لأَنَّ المِلكَ اسْتَقَرَّ لهُ وأصحهما: عَلى المُشْتَرِي كَمَا لوْ فُسِخَ بِعَيْبٍ، فَعَلى هَذَا لوْ أَخَذَ السَّاعِي مِنْ نَفْسِ الثَّمَرَةِ رَجَعَ البَائِعُ عَلى المُشْتَرِي.
فرع: إذَا قُلنَا بِالمَذْهَبِ: إنَّ وَقْتَ الوُجُوبِ هُوَ بُدُوُّ الصَّلاحِ وَاشْتِدَادُ الحَبِّ قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: لا يَجِبُ الإِخْرَاجُ فِي ذَلكَ الوَقْتِ بِلا خِلافٍ، لكِنْ يَنْعَقِدُ سَبَبًا لوُجُوبِ الإِخْرَاجِ إذَا صَارَ تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا أَوْ حَبًّا مُصَفًّى، وَيَصِيرُ للفُقَرَاءِ فِي الحَال حَقٌّ يَجِبُ دَفْعُهُ إليْهِمْ بَعْدَ مَصِيرِهِ تَمْرًا أَوْ حَبًّا، فَلوْ أَخْرَجَ الرُّطَبَ وَالعِنَبَ فِي الحَال لمْ يُجْزِئْهُ بِلا خِلافٍ، وَلوْ أَخَذَهُ السَّاعِي غَرِمَهُ بِلا خِلافٍ؛ لأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَكَيْفَ يَغْرَمُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ وَذَكَرَهُمَا المُصَنِّفُ فِي آخِرِ البَابِ الصحيح: الذِي قَطَعَ بِهِ الجُمْهُورُ، وَنَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه أَنَّهُ يَلزَمُهُ قِيمَتُهُ والثاني: يَلزَمُهُ مِثْلهُ وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلى أَنَّ الرُّطَبَ وَالعِنَبَ مِثْليَّانِ أَمْ لا؟ وَالصَّحِيحُ المَشْهُورُ أَنَّهُمَا ليْسَا مِثْليَّيْنِ. وَلوْ جَفَّ عِنْدَ السَّاعِي فَإِنْ كَانَ قَدْرَ الزَّكَاةِ أَجْزَأَ، وَإِلا رَدَّ التَّفَاوُتَ أَوْ أَخَذَهُ. كَذَا قَالهُ العِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَجْهًا أَنَّهُ لا يُجْزِئُ بِحَالٍ لفَسَادِ القَبْضِ. قَال الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا الوَجْهُ أَوْلى وَالمُخْتَارُ مَا سَبَقَ. وَهَذَا كُلهُ فِي الرُّطَبِ وَالعِنَبِ اللذَيْنِ يَجِيءُ مِنْهُمَا تَمْرٌ وَزَبِيبٌ، فَأَمَّا مَا لا يَجِيءُ مِنْهُ، فَسَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى.
قَال أَصْحَابُنَا: وَمُؤْنَةُ تَجْفِيفِ التَّمْرِ وَجِذَاذِهِ وَحَصَادِ الحَبِّ وَحَمْلهِ وَدِيَاسِهِ وَتَصْفِيَتِهِ وَحِفْظِهِ وَغَيْرِ ذَلكَ مِنْ مُؤْنَةٍ تَكُونُ كُلهَا مِنْ خَالصِ مَال المَالكِ لا يُحْسَبُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ مَال الزَّكَاةِ بِلا خِلافٍ، وَلا تَخْرُجُ مِنْ نَفْسِ مَال الزَّكَاةِ، فَإِنْ أُخْرِجَتْ مِنْهُ لزِمَ المَالكَ زَكَاةُ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ خَالصِ مَالهِ وَلا خِلافَ فِي هَذَا عِنْدَنَا. وَحَكَى صَاحِبُ الحَاوِي عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ أَنَّهُ قَال: تَكُونُ المُؤْنَةُ مِنْ وَسَطِ المَال لا يَخْتَصُّ بِتَحَمُّلهَا المَالكُ دُونَ الفُقَرَاءِ؛ لأَنَّ المَال للجَمِيعِ فَوُزِّعَتْ المُؤْنَةُ عَليْهِمْ. قَال

 

ج / 5 ص -320-       صَاحِبُ الحَاوِي: وَهَذَا غَلطٌ؛ لأَنَّ تَأْخِيرَ الأَدَاءِ عَنْ وَقْتِ الحَصَادِ إنَّمَا كَانَ لتَكَامُل المَنَافِعِ وَذَلكَ وَاجِبٌ عَلى المَالكِ وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
 قَال: وَلا يَجُوزُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ الحُبُوبِ المُزَكَّاةِ إلا بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ قُشُورِهَا إلا العَلسَ1 فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه قَال: مَالكُهُ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أَخْرَجَهُ فِي قِشْرِهِ فَيُخْرِجُ مِنْ كُل عَشَرَةِ أَوْسُقٍ وَسْقًا؛ لأَنَّ بَقَاءَهُ فِي قِشْرِهِ أَصْوَنُ، وَإِنْ شَاءَ صَفَّاهُ مِنْ القُشُورِ، قَال: وَلا يَجُوزُ إخْرَاجُ الحِنْطَةِ فِي سُنْبُلهَا، وَإِنْ كَانَ ذَلكَ أَصْوَنَ لهَا؛ لأَنَّهُ يُتَعَذَّرُ كَيْلهَا، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ الثَّمَرَةَ قَبْل بُدُوِّ الصَّلاحِ نُظِرَتْ فَإِنْ كَانَ لحَاجَةٍ لمْ يُكْرَهْ، وَإِنْ كَانَ يَبِيعُ لفِرَارٍ مِنْ الزَّكَاةِ كُرِهَ؛ لأَنَّهُ فِرَارٌ مِنْ القُرْبَةِ وَمُوَاسَاةِ المَسَاكِينِ، وَإِنْ بَاعَ صَحَّ البَيْعُ؛ لأَنَّهُ بَاعَ وَلا حَقَّ لأَحَدٍ فِيهِ".
الشرح:
قَال الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي المُخْتَصَرِ وَالأَصْحَابُ: إذَا بَاعَ مَال الزَّكَاةِ قَبْل وَقْتِ وُجُوبِهَا كَالتَّمْرِ قَبْل بُدُوِّ صَلاحِهِ، وَالحَبِّ قَبْل اشْتِدَادِهِ، وَالمَاشِيَةِ وَالنَّقْدِ وَغَيْرِهِ قَبْل الحَوْل، أَوْ نَوَى بِمَال التِّجَارَةِ القُنْيَةَ أَوْ اشْتَرَى بِهِ شَيْئًا للقِنْيَةِ قَبْل الحَوْل فَإِنْ كَانَ ذَلكَ لحَاجَةٍ إلى ثَمَنِهِ لمْ يُكْرَهْ بِلا خِلافٍ؛ لأَنَّهُ مَعْذُورٌ لا يُنْسَبُ إليْهِ تَقْصِيرٌ، وَلا يُوصَفُ بِفِرَارٍ وَإِنْ لمْ يَكُنْ بِهِ حَاجَةٌ وَإِنَّمَا بَاعَهُ لمُجَرَّدِ الفِرَارِ، فَالبَيْعُ صَحِيحٌ بِلا خِلافٍ لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، وَلكِنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ هَذَا هُوَ المَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ، وَشَذَّ الدَّارِمِيُّ وَصَاحِبُ الإِبَانَةِ فَقَالا: هُوَ حَرَامٌ، وَتَابَعَهُمَا الغَزَاليُّ فِي الوَسِيطِ، وَهَذَا غَلطٌ عِنْدَ الأَصْحَابِ، وَقَدْ صَرَّحَ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي المُجَرَّدِ وَالأَصْحَابُ بِأَنَّهُ لا إثْمَ عَلى البَائِعِ فِرَارًا. قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: وَإِذَا بَاعَ فِرَارًا قَبْل انْقِضَاءِ الحَوْل، فَلا زَكَاةَ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَال أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ وَدَاوُد وَغَيْرُهُمْ. وَقَال مَالكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: إذَا تَلفَ بَعْضُ النِّصَابِ قَبْل الحَوْل أَوْ بَاعَهُ فِرَارًا لزِمَتْهُ الزَّكَاةُ. دَليلنَا أَنَّهُ فَاتَ شَرْطُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَهُوَ الحَوْل، فَلا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَلى وَجْهٍ يُعْذَرُ فِيهِ أَوْ لا يُعْذَرُ وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
فإن قيل: فَمَا الفَرْقُ بَيْنَ الفِرَارِ هُنَا وَالفِرَارِ بِطَلاقِ المَرْأَةِ بَائِنًا فِي مَرَضِ المَوْتِ؟ فَإِنَّهَا تَرِثُهُ عَلى قَوْلٍ، فَالفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: أَنَّ الحَقَّ فِي الإِرْثِ لمُعَيَّنٍ، فَاحْتِيطَ لهُ بِخِلافِ الزَّكَاةِ، والثاني: أَنَّ الزَّكَاةَ مَبْنِيَّةٌ عَلى الرِّفْقِ وَالمُسَاهَلةِ. وَتَسْقُطُ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ للرِّفْقِ، كَالعَلفِ فِي بَعْضِ الحَوْل. وَالعَمَل عَليْهَا وَغَيْرِ ذَلكَ بِخِلافِ الإِرْثِ، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ بَاعَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاحِ فَفِي البَيْعِ فِي قَدْرِ الفَرْضِ قَوْلانِ: أحدهما: أَنَّهُ بَاطِلٌ؛ لأَنَّ فِي أَحَدِ القَوْليْنِ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي العَيْنِ، وَقَدْرُ الفَرْضِ للمَسَاكِينِ، فَلا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِمْ، وَفِي الآخَرِ تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَالعَيْنُ مَرْهُونَةٌ بِهِ، وَبَيْعُ المَرْهُونِ لا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ إذْنِ المُرْتَهِنِ، والثاني: أَنَّهُ يَصِحُّ؛ لأَنَّا إنْ قُلنَا: [إنَّ] الزَّكَاةَ تَتَعَلقُ بِالعَيْنِ إلا أَنَّ أَحْكَامَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 العلس بفتحتين من ضرب الحنطة تكون حبتان في قشرة وهو طعام أهل صنعاء (ط).

 

ج / 5 ص -321-       المِلكِ كُلهَا ثَابِتَةٌ، وَالبَيْعُ مِنْ أَحْكَامِ المِلكِ، وَإِنْ قُلنَا: إنَّهَا تَجِبُ فِي الذِّمَّةِ وَالعَيْنُ مُرْتَهَنَةٌ بِهِ إلا أَنَّهُ رَهْنٌ يَثْبُتُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، فَلمْ يَمْنَعْ البَيْعَ كَالجِنَايَةِ فِي رَقَبَةِ العَبْدِ، فَإِنْ قُلنَا: يَصِحُّ فِي قَدْرِ الفَرْضِ فَفِيمَا سِوَاهُ أَوْلى، وَإِنْ قُلنَا: لا يَصِحُّ فِي قَدْرِ الفَرْضِ فَفِيمَا سِوَاهُ قَوْلانِ بِنَاءً عَلى تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ".
الشرح: إذَا بَاعَ مَال الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ تَمْرًا أَوْ حَبًّا أَوْ مَاشِيَةً أَوْ نَقْدًا أَوْ غَيْرَهُ قَبْل إخْرَاجِهَا - فَإِنْ بَاعَ جَمِيعَ المَال - فَهَل يَصِحُّ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ؟ يُبْنَى عَلى الخِلافِ السَّابِقِ فِي بَابِ زَكَاةِ المَوَاشِي أَنَّ الزَّكَاةَ هَل تَتَعَلقُ بِالعَيْنِ؟ أَوْ بِالذِّمَّةِ؟ وَقَدْ سَبَقَ خِلافٌ مُخْتَصَرُهُ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ تَتَعَلقُ بِالعَيْنِ تَعَلقَ الشَّرِكَةِ، والثاني: تَتَعَلقُ بِالعَيْنِ تَعَلقَ أَرْشِ الجِنَايَةِ، والثالث: تَعَلقَ المَرْهُونِ والرابع: لا تَتَعَلقُ بِالعَيْنِ بَل بِالذِّمَّةِ فَقَطْ، وَتَكُونُ العَيْنُ خَلوًا مِنْ التَّعَلقِ، فَإِنْ قُلنَا: الزَّكَاةُ تَتَعَلقُ بِالذِّمَّةِ وَتَكُونُ العَيْنُ خَلوًا مِنْهَا صَحَّ البَيْعُ قَطْعًا، وَإِنْ قُلنَا تَتَعَلقُ بِهَا تَعَلقَ المَرْهُونِ فَقَوْلانِ، أَشَارَ المُصَنِّفُ إلى دَليلهَا أصحهما: عِنْدَ العِرَاقِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ الصِّحَّةُ أَيْضًا؛ لأَنَّ هَذِهِ العَلاقَةَ ثَبَتَتْ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ المَالكِ وَليْسَتْ لمُعَيَّنٍ فَسُومِحَ بِهَا بِمَا لا يُسَامَحُ بِهِ فِي المَرْهُونِ.
وَإِنْ قُلنَا: تَعَلقَ الشَّرِكَةِ فَطَرِيقَانِ: أحدهما: القَطْعُ بِالبُطْلانِ؛ لأَنَّهُ بَاعَ مَا لا يَمْلكُهُ، وأصحهما: وَأَشْهَرُهُمَا، وَبِهِ قَطَعَ أَكْثَرُ العِرَاقِيِّينَ فِي صِحَّتِهِ قَوْلانِ أصحهما: بِاتِّفَاقِ الأَصْحَابِ البُطْلانُ، وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ، والثاني: الصِّحَّةُ؛ لأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ قُلنَا: تَعَلقَ الأَرْشِ فَفِي صِحَّتِهِ خِلافٌ مَبْنِيٌّ عَلى صِحَّةِ بَيْعِ الجَانِي، فَإِنْ صَحَّحْنَاهُ صَحَّ هَذَا وَإِلا فَلا، فَإِنْ صَحَّحْنَا صَارَ بِالبَيْعِ مُلتَزِمًا الفِدَاءَ، فَحُصِل مِنْ جُمْلةِ هَذِهِ الاخْتِلافَاتِ أَنَّ الأَصَحَّ بُطْلانُ البَيْعِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ. قَال أَصْحَابُنَا: فَحَيْثُ صَحَّحْنَا فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، فَفِي البَاقِي أَوْلى، وَحَيْثُ أَبْطَلنَا فِيهِ فَفِي البَاقِي قَوْلًا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، هَكَذَا أَطْلقَهُ المُصَنِّفُ وَسَائِرُ العِرَاقِيِّينَ، وَقَال الخُرَاسَانِيُّونَ: إذَا قُلنَا بِالبُطْلانِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، فَهَل يَبْطُل فِي البَاقِي؟ إنْ قُلنَا: تَعَلقَ الشَّرِكَةِ فَقَوْلًا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، وَإِنْ قُلنَا: تَعَلقَ الرَّهْنِ، وَقُلنَا: الاسْتِيثَاقُ فِي الجَمِيعِ بَطَل فِي الجَمِيعِ، وَإِنْ قُلنَا بِالاسْتِيثَاقِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ فَقَطْ؛ فَفِي الزَّائِدِ قَوْلًا تَفْرِيقُ الصَّفْقَةِ، وَالأَصَحُّ فِي تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ الصِّحَّةُ وَحَيْثُ مَنَعْنَا البَيْعَ، وَكَانَ المَال ثَمَرَةً، فَالمُرَادُ قَبْل الخَرْصِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلا مَنْعَ إنْ قُلنَا: الخَرْصُ تَضْمِينٌ وَهُوَ الأَصَحُّ، وَإِنْ قُلنَا: غَيْرُهُ فِيهِ كَلامٌ يَأْتِي قَرِيبًا فِي فَصْل الخَرْصِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى.
وَالحَاصِل مِنْ هَذَا الخِلافِ كُلهِ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أصحها: يَبْطُل البَيْعُ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ وَيَصِحُّ فِي البَاقِي، والثاني: يَبْطُل فِي الجَمِيعِ، والثالث: يَصِحُّ فِي الجَمِيعِ، فَإِنْ صَحَّحْنَا فِي الجَمِيعِ نُظِرَ إنْ أَدَّى البَائِعُ الزَّكَاةَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَذَاكَ، وَإِلا فَللسَّاعِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْ غَيْرِ المَال مِنْ يَدِ المُشْتَرِي قَدْرَ الزَّكَاةِ عَلى جَمِيعِ الأَقْوَال بِلا خِلافٍ. فَإِنْ أَخَذَ انْفَسَخَ البَيْعُ فِي المَأْخُوذِ، وَهَل يَنْفَسِخُ فِي البَاقِي؟ فِيهِ الخِلافُ المَشْهُورُ فِي انْفِسَاخِ البَيْعِ بِتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الدَّوَامِ، وَالمَذْهَبُ لا يَنْفَسِخُ، فَإِنْ قُلنَا: يَنْفَسِخُ اسْتَرَدَّ الثَّمَنَ، وَإِلا فَلهُ الخِيَارُ إنْ كَانَ حَالًّا، فَإِنْ فُسِخَ فَذَاكَ، وَإِنْ أَجَازَ فِي البَاقِي فَهَل يَأْخُذُ بِقِسْطِهِ مِنْ الثَّمَنِ؟ أَمْ بِالبَاقِي؟ فِيهِ طَرِيقَانِ مَشْهُورَانِ فِي كِتَابِ البَيْعِ، المَذْهَبُ أَنَّهُ بِقِسْطِهِ.

 

ج / 5 ص -322-       وَلوْلمْ يَأْخُذْ السَّاعِي مِنْهُ الوَاجِبَ، وَلمْ يُؤَدِّ البَائِعُ الزَّكَاةَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، فَهَل للمُشْتَرِي الخِيَارُ إذَا عَلمَ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: لهُ الخِيَارُ والثاني: لا؛ لأَنَّهُ فِي الحَال مَالكٌ للجَمِيعِ. وَقَدْ يُؤَدِّي البَائِعُ الزَّكَاةَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ؛ فَإِنْ قُلنَا بِالأَصَحِّ: إنَّ لهُ الخِيَارَ فَأَدَّى البَائِعُ الزَّكَاةَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَهَل يَسْقُطُ خِيَارُهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: الصحيح: يَسْقُطُ لزَوَال العَيْبِ، كَمَا لوْ اشْتَرَى مَعِيبًا فَزَال عَيْبُهُ قَبْل الرَّدِّ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ، والثاني: لا يَسْقُطُ لاحْتِمَال أَنْ يَخْرُجَ مَا دَفَعَهُ إلى السَّاعِي مُسْتَحَقًّا، فَيَرْجِعُ السَّاعِي إلى عَيْنِ المَال، وَيَجْرِي الوَجْهَانِ فِيمَا لوْ بَاعَ السَّيِّدُ العَبْدَ الجَانِي، ثُمَّ فَدَاهُ هَل يَبْقَى للمُشْتَرِي خِيَارُهُ؟ أَمَّا إذَا أَبْطَلنَا البَيْعَ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ وَصَحَّحْنَا فِي البَاقِي، فَللمُشْتَرِي الخِيَارُ فِي فَسْخِ البَيْعِ فِي البَاقِي وَإِجَازَتُهُ، وَلا يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِأَدَاءِ البَائِعِ الزَّكَاةَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ؛ لأَنَّ الخِيَارَ هُنَا لتَبْعِيضِ الصَّفْقَةِ، وَإِذَا أَجَازَ فَهَل يُجِيزُ بِقِسْطِهِ أَمْ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ؟ فِيهِ القَوْلانِ السَّابِقَانِ. وَقَطَعَ بَعْضُ الأَصْحَابِ بِأَنَّهُ يُجِيزُ بِالجَمِيعِ فِي المَوَاشِي؛ وَالمَذْهَبُ الأَوَّل وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
هَذَا كُلهُ فِي بَيْعِ جَمِيعِ المَال؛ فَإِنْ بَاعَ بَعْضَهُ نُظِرَ فَإِنْ لمْ يَبْقَ قَدْرُ الزَّكَاةِ، فَهُوَ كَمَا لوْ بَاعَ الجَمِيعَ، وَإِنْ بَقِيَ قَدْرُ الزَّكَاةِ بِنِيَّةِ صَرْفِهِ إلى الزَّكَاةِ أَوْ بِغَيْرِ نِيَّةٍ فَإِنْ قُلنَا بِالشَّرِكَةِ، فَفِي صِحَّةِ البَيْعِ وَجْهَانِ، قَال ابْنُ الصَّبَّاغِ: أَقْيَسُهُمَا: البُطْلانُ، وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلى كَيْفِيَّةِ ثُبُوتِ الشَّرِكَةِ، وَفِيهَا وَجْهَانِ أحدهما: أَنَّ الزَّكَاةَ شَائِعَةٌ فِي الجَمِيعِ مُتَعَلقَةٌ بِكُل وَاحِدٍ مِنْ الشِّيَاهِ وَغَيْرِهَا بِالقِسْطِ. والثاني: أَنَّ مَحِل الاسْتِحْقَاقِ هُوَ قَدْرُ الوَاجِبِ فَقَطْ، وَيَتَعَيَّنُ بِالإِخْرَاجِ، وَإِنْ فَرَّعْنَا عَلى قَوْل الزَّكَاةِ فَقَطْ، فَعَلى الأَوَّل لا يَصِحُّ، وَعَلى الثَّانِي يَصِحُّ، وَإِنْ فَرَّعْنَا عَلى تَعْليقِ الأَرْشِ، فَإِنْ صَحَّحْنَا بَيْعَ الجَانِي صَحَّ هَذَا وَإِلا، فَالتَّفْرِيعُ كَالتَّفْرِيعِ عَلى قَوْل الرَّهْنِ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا هُوَ فِي بَيْعِ مَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ. فَأَمَّا بَيْعُ مَال التِّجَارَةِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فَسَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي بَابِهَا إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى.
فرع: لوْ رَهَنَ المَال الذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَهُوَ كَبَيْعِهِ فَيَعُودُ فِيهِ جَمِيعُ مَا سَبَقَ، فَإِنْ صَحَّحْنَا فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، فَفِي الزَّائِدِ أَوْلى، وَإِنْ أَبْطَلنَا فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، فَالبَاقِي يُرَتَّبُ عَلى البَيْعِ، فَإِنْ صَحَّحْنَا البَيْعَ فَالرَّهْنُ أَوْلى، وَإِلا فَقَوْلانِ كَتَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ فِي الرَّهْنِ إذَا صَحِبَ حَلالًا وَحَرَامًا، فَإِنْ صَحَّحْنَا الرَّهْنَ فِي الجَمِيعِ فَلمْ يُؤَدِّ الزَّكَاةَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَللسَّاعِي أَخْذُهَا مِنْهُ، فَإِذَا أَخَذَ انْفَسَخَ الرَّهْنُ فِيهَا، وَفِي البَاقِي الخِلافُ السَّابِقُ فِي نَظِيرِهِ فِي البَيْعِ، وَإِنْ أَبْطَلنَا فِي الجَمِيعِ أَوْ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ فَقَطْ، وَكَانَ الرَّهْنُ مَشْرُوطًا فِي بَيْعٍ، فَفِي فَسَادِ البَيْعِ قَوْلانِ، فَإِنْ لمْ يَفْسُدْ فَللمُشْتَرِي الخِيَارُ، وَلا يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِدَفْعِ الزَّكَاةِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ، وَأَمَّا: إذَا رَهَنَ قَبْل تَمَامِ الحَوْل فَتَمَّ، فَفِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ الخِلافُ السَّابِقُ فِي بَابِ زَكَاةِ المَوَاشِي، وَالرَّهْنُ لا يَكُونُ إلا بِدَيْنٍ، وَفِي كَوْنِ الدَّيْنِ مَانِعًا لوُجُوبِ الزَّكَاةِ قَوْلانِ سَبَقَا هُنَاكَ، الأصح: الجَدِيدُ: لا يَمْنَعُ، فَإِنْ قُلنَا: الرَّهْنُ لا يَمْنَعُ الزَّكَاةَ وَقُلنَا: الدَّيْنُ لا يَمْنَعُهَا أَوْ يَمْنَعُهَا وَكَانَ لهُ مَالٌ آخَرُ يَفِي بِالدَّيْنِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ وَإِلا فَلا، ثُمَّ إنْ لمْ يَمْلكْ الرَّاهِنُ مَالًا آخَرَ أُخِذَتْ الزَّكَاةُ مِنْ نَفْسِ المَرْهُونِ عَلى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ؛ لأَنَّهَا مُتَعَلقَةٌ بِالعَيْنِ. فَأَشْبَهَتْ أَرْشَ الجِنَايَةِ. وَعَلى الثَّانِي: لا يُؤْخَذُ مِنْهُ؛ لأَنَّ حَقَّ المُرْتَهِنِ سَابِقٌ عَلى وُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَالزَّكَاةُ حَقٌّ للهِ تَعَالى مَبْنِيَّةٌ عَلى المُسَامَحَةِ بِخِلافِ أَرْشِ الجِنَايَةِ؛ وَلأَنَّ أَرْشَ الجِنَايَةِ لوْ لمْ يَأْخُذْهُ يَفُوتُ لا إلى بَدَلٍ بِخِلافِ الزَّكَاةِ فَعَلى الأَصَحِّ

 

ج / 5 ص -323-       لوْ كَانَتْ الزَّكَاةُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ المَال كَالشَّاةِ مِنْ الإِبِل يُبَاعُ جُزْءٌ مِنْ المَال فِي الزَّكَاةِ.
وَقِيل: الخِلافُ فِيمَا إذَا كَانَ الوَاجِبُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ المَال، فَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أُخِذَ مِنْ المَرْهُونِ بِلا خِلافٍ، ثُمَّ إذَا أُخِذَتْ الزَّكَاةُ مِنْ نَفْسِ المَرْهُونِ، فَأَيْسَرَ الرَّاهِنُ بَعْدَ ذَلكَ فَهَل يُؤْخَذُ مِنْهُ قَدْرُ الزَّكَاةِ ليَكُونَ رَهْنًا عِنْدَ المُرْتَهِنِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ إنْ عَلقْنَاهُ بِالذِّمَّةِ أُخِذَ وَإِنْ عَلقْنَاهُ بِالعَيْنِ لمْ يُؤْخَذْ عَلى أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ، كَمَا لوْ تَلفَ بَعْضُ المَرْهُونِ وَقِيل: يُؤْخَذُ كَمَا لوْ أَتْلفَهُ المَالكُ، فَإِنْ قُلنَا يُؤْخَذُ فَإِنْ كَانَ النِّصَابُ مِثْليًّا أَخَذَ المِثْل، وَإِنْ كَانَ مُتَقَوِّمًا أَخَذَ القِيمَةَ عَلى قَاعِدَةِ الغَرَامَاتِ.
أَمَّا: إذَا مَلكَ مَالًا آخَرَ، فَالمَذْهَبُ وَاَلذِي قَطَعَ بِهِ الجُمْهُورُ أَنَّ الزَّكَاةَ تُؤْخَذُ مِنْ بَاقِي أَمْوَالهِ وَلا تُؤْخَذُ مِنْ نَفْسِ المَرْهُونِ سَوَاءٌ قُلنَا: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الذِّمَّةِ أَوْ العَيْنِ وَقَال جَمَاعَةٌ: يَأْخُذُ مِنْ نَفْسِ المَرْهُونِ إنْ قُلنَا تَتَعَلقُ بِالعَيْنِ، وَهَذَا هُوَ القِيَاسُ كَمَا لا يَجِبُ عَلى السَّيِّدِ فِدَاءُ المَرْهُونِ إذَا جَنَى وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَإِنْ أَكَل شَيْئًا مِنْ الثِّمَارِ أَوْ اسْتَهْلكَهُ وَهُوَ عَالمٌ عُزِّرَ وَغُرِّمَ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا غُرِّمَ وَلمْ يُعَزَّرْ".
الشرح:
لا يَجُوزُ للمَالكِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الثِّمَارِ قَبْل الخَرْصِ لا بِبَيْعٍ وَلا أَكْلٍ وَلا إتْلافٍ حَتَّى يُخْرَصَ، فَلوْ تَصَرَّفَ قَبْل الخَرْصِ وَبَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ غَرِمَ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ بِلا خِلافٍ، فَإِنْ كَانَ عَالمًا تَحْرِيمَهُ عُزِّرَ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا لمْ يُعَزَّرْ؛ لأَنَّهُ مَعْذُورٌ. قَال البَغَوِيّ: وَلا يَجُوزُ قَبْل الخَرْصِ أَنْ يَأْكُل مِنْهُ شَيْئًا، وَلا يَتَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ قَال: فَإِنْ لمْ يَبْعَثْ الحَاكِمُ خَارِصًا أَوْ لمْ يَكُنْ حَاكِمٌ تَحَاكَمَ إلى عَدْليْنِ يَخْرُصَانِ عَليْهِ، ثُمَّ إذَا غَرِمَ مَا تَصَرَّفَ فِيهِ يُنْظَرُ إنْ أَتْلفَهُ رُطَبًا فَوَجْهَانِ: أحدهما: يَضْمَنُ بِقِيمَتِهِ؛ لأَنَّهُ ليْسَ مِثْليًّا، فَأَشْبَهَ مَا لوْ أَتْلفَهُ أَجْنَبِيٌّ، والثاني: يَضْمَنُهُ بِمِثْلهِ رُطَبًا؛ لأَنَّ رَبَّ المَال إذَا أَتْلفَ مَال الزَّكَاةِ ضَمِنَهُ بِجِنْسِهِ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ مِثْليًّا كَمَا لوْ مَلكَ أَرْبَعِينَ شَاةً أَوْ ثَلاثِينَ بَقَرَةً فَأَتْلفَهَا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يَلزَمُهُ شَاةٌ أَوْ بَقَرَةٌ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ الأَنْوَاعُ قَليلةً ضَمِنَ كُل نَوْعٍ بِحِصَّتِهِ مِنْ القِيمَةِ أَوْ الرُّطَب عَلى اخْتِلافِ الأَنْوَاعِ، وَإِنْ كَانَتْ الأَنْوَاعُ كَثِيرَةً ضَمِنَ الوَسَطَ قِيمَةً أَوْ رُطَبًا.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"فَإِنْ أَصَابَ النَّخْل عَطَشٌ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاحِ وَخَافَ أَنْ يَهْلكَ جَازَ أَنْ يَقْطَعَ الثِّمَارَ؛ لأَنَّ الزَّكَاةَ تَجِبُ عَلى سَبِيل المُوَاسَاةِ، فَلوْ أَلزَمْنَاهُ تَرْكَهَا لحَقِّ المَسَاكِينِ كَانَ1 ذَلكَ سَبَبًا لهَلاكِ مَالهِ، فَيَخْرُجُ عَنْ المُوَاسَاةِ؛ وَلأَنَّ حِفْظَ النَّخِيل أَنْفَعُ للمَسَاكِينِ فِي مُسْتَقْبَل الأَحْوَال، وَلا يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ إلا بِحَضْرَةِ المُصَدِّقِ؛ لأَنَّ الثَّمَرَةَ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ المَسَاكِينِ، فَلا يَجُوزُ قَطْعُهَا إلا بِمَحْضَرٍ مِنْ النَّائِبِ عَنْهُمْ وَلا يَقْطَعُ إلا مَا تَدْعُو الحَاجَةُ إليْهِ، فَإِنْ قَطَعَ مِنْ غَيْرِ حُضُورِ المُصَدِّقِ، وَهُوَ عَالمٌ عَزَّرَهُ إنْ رَأَى ذَلكَ، وَلا يُغَرِّمُهُ مَا نَقَصَ؛ لأَنَّهُ لوْ حَضَرَ لوَجَبَ عَليْهِ أَنْ يَأْذَنَ لهُ فِي قَطْعِهِ وَإِنْ نَقَصَتْ بِهِ الثَّمَرَةُ".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ صار بدل كان (ط).

 

ج / 5 ص -324-       الشرح: قَال الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَالأَصْحَابُ رحمهم الله: إذَا أَصَابَ النَّخْل عَطَشٌ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاحِ وَخَافَ هَلاكَهَا أَوْ هَلاكَ الثَّمَرَةِ أَوْ هَلاكَ بَعْضِهَا إنْ لمْ تُقْطَعْ الثَّمَرَةُ، أَوْ خَافَ ضَرَرَ النَّخْل أَوْ الثَّمَرَةِ جَازَ قَطْعُ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ الضَّرَرُ إمَّا بَعْضِهَا أَوْ كُلهَا، فَإِنْ لمْ يَنْدَفِعْ إلا بِقَطْعِ الجَمِيعِ قَطَعَ الجَمِيعَ، وَإِنْ انْدَفَعَ بِقَطْعِ البَعْضِ، لمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ؛ لأَنَّ حَقَّ المَسَاكِينِ إنَّمَا هُوَ فِي التَّمْرِ يَابِسًا، وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا القَطْعَ للحَاجَةِ، فَلا يَجُوزُ زِيَادَةٌ عَليْهَا،، ثُمَّ إنْ أَرَادَ القَطْعَ، فَيَنْبَغِي للمَالكِ أَنْ يَسْتَأْذِنَ العَامِل، فَإِنْ اسْتَأْذَنَهُ وَجَبَ عَليْهِ أَنْ يَأْذَنَ لهُ، لمَا فِيهِ مِنْ المَصْلحَةِ وَدَفْعِ المَفْسَدَةِ عَنْ المَالكِ وَالمَسَاكِينِ كَمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ فَإِنْ لمْ يَسْتَأْذِنْ العَامِل، بَل اسْتَقَل المَالكُ بِقَطْعِهَا فَوَجْهَانِ: أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَسَائِرُ العِرَاقِيِّينَ وَالسَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الخُرَاسَانِيِّينَ، وَنَقَلهُ القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي المُجَرَّدِ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الاسْتِئْذَانَ وَاجِبٌ، فَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، وَإِنْ كَانَ عَالمًا بِتَحْرِيمِ الاسْتِقْلال عُزِّرَ، وَدَليلهُ مَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ. والثاني: أَنَّ الاسْتِئْذَانَ مُسْتَحَبٌّ، فَلا يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ وَلا يُعَزَّرُ، وَبِهَذَا قَال الصَّيْدَلانِيُّ وَالبَغَوِيُّ وَطَائِفَةٌ، وَسَوَاءٌ قُلنَا: يَجِبُ الاسْتِئْذَانُ أَمْ يُسْتَحَبُّ لا يَغْرَمُ المَالكُ مَا نَقَصَ بِالقَطْعِ لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ
وَإِذَا أَعْلمَ المَالكُ السَّاعِي قَبْل القَطْعِ وَأَرَادَ القِسْمَةَ بِأَنْ يَخْرُصَ الثِّمَارَ وَيُعَيِّنَ حَقَّ المَسَاكِينِ فِي نَخْلةٍ أَوْ نَخَلاتٍ بِأَعْيَانِهَا فَقَوْلانِ مَنْصُوصَانِ للشَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى عنه.
قَال الأَصْحَابُ: هُمَا مَبْنِيَّانِ عَلى أَنَّ القِسْمَةَ بَيْعٌ أَمْ إفْرَازُ حَقٍّ، فَإِنْ قُلنَا إفْرَازٌ، وَهُوَ الأَصَحُّ جَازَ، ثُمَّ للسَّاعِي بَيْعُ نَصِيبِ المَسَاكِينِ للمَالكِ أَوْ غَيْرِهِ وَأَنْ يَقْطَعَهُ وَيُفَرِّقَهُ بَيْنَهُمْ، يَفْعَل مِنْ ذَلكَ مَا فِيهِ مَصْلحَتُهُمْ، وَإِنْ قُلنَا: إنَّهَا بَيْعٌ لمْ يَجُزْ، وَلوْ لمْ يُمَيِّزْ للفُقَرَاءِ شَيْئًا، بَل قُطِعَتْ الثِّمَارُ مُشْتَرَكَةً. قَال الأَصْحَابُ: فَفِي جَوَازِ القِسْمَةِ خِلافٌ مَبْنِيٌّ عَلى أَنَّهَا بَيْعٌ أَوْ إفْرَازٌ، إنْ قُلنَا إفْرَازٌ، وَهُوَ الأَصَحُّ جَازَتْ المُقَاسَمَةُ كَيْلًا وَوَزْنًا، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ المُصَنِّفُ فِي آخِرِ البَابِ وَالأَصْحَابُ، وَإِنْ قُلنَا بَيْعٌ، فَفِي جَوَازِهَا خِلافٌ مَبْنِيٌّ عَلى جَوَازِ بَيْعِ الرُّطَبِ الذِي لا يَتَمَيَّزُ بِمِثْلهِ. وَفِيهِ قَوْلانِ للشَّافِعِيِّ رضي الله عنه مَذْكُورَانِ فِي بَابِ الرِّبَا أصحهما: لا يَجُوزُ. فَإِنْ جَوَّزْنَاهُ جَازَتْ القِسْمَةُ بِالكَيْل وَإِلا فَوَجْهَانِ:
 أحدهما: يَجُوزُ مُقَاسَمَةُ السَّاعِي؛ لأَنَّهَا ليْسَتْ مُعَاوَضَةً فَلا يُكَلفُ فِيهِ تَعَبُّدَاتِ الرِّبَا؛ وَلأَنَّ الحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إليْهَا وَهَذَا الوَجْهُ حَكَاهُ المُصَنِّفُ فِي آخِرِ البَابِ وَالأَصْحَابُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَبِي عَليِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، لكِنْ قَال المُصَنِّفُ: إنَّهُمَا يُجَوِّزَانِ البَيْعَ كَيْلًا وَوَزْنًا. وَقَال غَيْرُهُ: كَيْلًا فَقَطْ وَهُوَ الأَقْيَسُ وأصحهما: عِنْدَ المُصَنِّفِ وَالأَكْثَرِينَ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ تَفْرِيعًا عَلى هَذَا الرَّأْيِ لا يَجُوزُ، فَعَلى هَذَا لهُ فِي الأَخْذِ مَسْلكَانِ أحدهما: يَأْخُذُ قِيمَةَ عُشْرِ الرُّطَبِ المَقْطُوعِ، والثاني: يُسَلمُ عُشْرَهُ مُشَاعًا إلى السَّاعِي ليَتَعَيَّنَ حَقُّ المَسَاكِينِ، وَطَرِيقُهُ فِي تَسْليمِ عُشْرِهِ أَنْ يُسَلمَهُ كُلهُ، فَإِذَا تَسَلمَهُ السَّاعِي بَرِئَ المَالكُ مِنْ العُشْرِ، وَصَارَ مَقْبُوضًا للمَسَاكِينِ بِقَبْضِ نَائِبِهِمْ، ثُمَّ للسَّاعِي بَعْدَ قَبْضِهِ بَيْعُ نَصِيبِ المَسَاكِينِ للمَالكِ أَوْ لغَيْرِهِ، أَوْ يَبِيعُ هُوَ وَالمَالكُ الجَمِيعَ وَيَقْسِمَانِ الثَّمَنَ. وَهَذَا المَسْلكُ جَائِزٌ بِلا خِلافٍ.
وَأَمَّا المَسْلكُ الأَوَّل فَحَكَى إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ وَجْهًا فِي جَوَازِهِ للضَّرُورَةِ. كَمَا سَبَقَ فِي آخِرِ البَابِ الذِي قَبْل هَذَا بَيَانُ جَوَازِ أَخْذِ القِيمَةِ فِي مَوَاضِعِ الضَّرُورَةِ وَالصَّحِيحُ الذِي عَليْهِ الأَكْثَرُونَ مَنْعُهُ. وَحَكَى الإِمَامُ وَغَيْرُهُ وَجْهًا آخَرَ أَنَّ السَّاعِي يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَخْذِ القِيمَةِ وَالقِسْمَةِ، قَال: لأَنَّ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا

 

ج / 5 ص -325-       خِلافُ القَاعِدَةِ وَاحْتُمِل للحَاجَةِ فَيَفْعَل مَا هُوَ أَصْلحُ للمَسَاكِينِ، وَالصَّحِيحُ تَعَيُّنُ المَسْلكِ الثَّانِي. قَال الأَصْحَابُ: ثُمَّ مَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا مِنْ الخِلافِ، وَالتَّفْصِيل فِي كَيْفِيَّةِ إخْرَاجِ الوَاجِبِ يَجْرِي بِعَيْنِهِ فِي إخْرَاجِ الوَاجِبِ عَنْ الرُّطَبِ الذِي لا يَتَتَمَّرُ وَالعِنَبِ الذِي لا يَتَزَبَّبُ، وَفِي المَسْأَلتَيْنِ اسْتِدْرَاكٌ حَسَنٌ لإِمَامِ الحَرَمَيْنِ قَال: إنَّمَا يُتَصَوَّرُ الإِشْكَال عَلى قَوْلنَا: المَسَاكِينُ شُرَكَاءُ فِي النِّصَابِ بِقَدْرِ الزَّكَاةِ، وَحِينَئِذٍ يَنْتَظِمُ التَّرْجِيحُ عَلى القَوْليْنِ فِي القِسْمَةِ. فَأَمَّا إذَا لمْ نَجْعَلهُمْ شُرَكَاءَ، فَليْسَ تَسْليمُ حَقِّ السَّاعِي قِسْمَةً حَتَّى يَأْتِيَ فِيهِ القَوْلانِ فِي القِسْمَةِ، بَل هُوَ تَوْفِيَةُ حَقٍّ إلى مُسْتَحِقٍّ. هَذَا كَلامُ الإِمَامِ وَاسْتَحْسَنَهُ الرَّافِعِيُّ. وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
هَذَا كُلهُ إذَا كَانَتْ الثَّمَرَةُ بَاقِيَةً، فَإِنْ قَطَعَهَا المَالكُ وَأَتْلفَهَا أَوْ تَلفَتْ عِنْدَهُ، فَعَليْهِ قِيمَةُ عُشْرِهَا رُطَبًا حِينَ أَتْلفَهَا. قَال صَاحِبُ الحَاوِي وَغَيْرُهُ: فإن قيل لوْ أَتْلفَهَا رُطَبًا مِنْ غَيْرِ عَطَشٍ لزِمَهُ عُشْرُهَا تَمْرًا، فَهَلا لزِمَهُ فِي إتْلافِهَا للعَطَشِ عُشْرُهَا تَمْرًا؟، قُلنَا: الفَرْقُ أَنَّهُ إذَا لمْ يَخَفْ العَطَشَ وَلا ضَرَرًا فِي تَرْكِهَا لزِمَهُ تَرْكُهَا وَدَفْعُ التَّمْرِ بَعْدَ الجَفَافِ، فَإِذَا قَطَعَ فَهُوَ مُفَرِّطٌ مُتَعَدٍّ، فَلزِمَهُ ذَلكَ، فَإِذَا خَافَ العَطَشَ لمْ يَكُنْ عَليْهِ إبْقَاؤُهَا وَلا التَّمْرُ بَل لهُ القَطْعُ، وَدَفْعُ الرُّطَبِ، فَلمْ يَلزَمْهُ غَيْرُهُ؛ اللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
وَاعْلمْ أَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه قَال فِي المُخْتَصَرِ: "وَإِنْ أَصَابَهَا عَطَشٌ كَانَ لهُ قَطْعُ الثَّمَرَةِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ ثَمَنُ عُشْرِهَا أَوْ عُشْرُهَا مَقْطُوعَةً "هَكَذَا نَقَلهُ المُزَنِيّ فِي المُخْتَصَرِ. وَنَقَل الرَّبِيعُ فِي الأُمِّ "أَنَّهُ يُؤْخَذُ عُشْرُهَا مَقْطُوعَةً "وَاخْتَلفَ الأَصْحَابُ فِي هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ، فَذَكَرَ العِرَاقِيُّونَ وَالخُرَاسَانِيُّونَ فِيهِ تَأْوِيليْنِ يَتَخَرَّجَانِ مِمَّا سَبَقَ أحدهما: أَنَّهُ يَبِيعُ الثَّمَرَةَ بَعْدَ قَبْضِهَا مِنْ المَالكِ أَوْ لغَيْرِهِ، وَيَأْخُذُ ثَمَنَ العُشْرِ إنْ كَانَتْ مَصْلحَةُ المَسَاكِينِ فِي بَيْعِهَا وَإِلا فَعُشْرُهَا، وَتَنْزِل رِوَايَةُ المُزَنِيِّ عَلى هَذَا، وَتُحْمَل رِوَايَةُ الرَّبِيعِ عَلى أَنَّهُ رَأَى المَصْلحَةَ فِي عُشْرِ الثَّمَرَةِ لا ثَمَنِ عُشْرِهَا، التَّأْوِيل الثَّانِي: إنْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ بَاقِيَةً أَخَذَهَا وَإِنْ تَلفَتْ فَقِيمَتُهَا، وَعَبَّرَ عَنْ القِيمَةِ بِالثَّمَنِ، وَقَدْ اسْتَعْمَل الشَّافِعِيُّ مِثْل هَذَا فِي مَوَاضِعَ، وَسَبَقَ بَسْطُهُ فِي بَابِ التَّيَمُّمِ، فَتَنْزِل رِوَايَةُ المُزَنِيِّ عَلى هَذَا، وَتُحْمَل رِوَايَةُ الرَّبِيعِ عَلى أَنَّ الثَّمَرَةَ كَانَتْ بَاقِيَةً، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَالمُسْتَحَبُّ إذَا بَدَا الصَّلاحُ فِي النَّخْل وَالكَرْمِ أَنْ يَبْعَثَ الإِمَامُ مَنْ يَخْرُصُ لحَدِيثِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال فِي الكَرْمِ: يُخْرَصُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْل وَيُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا كَمَا يُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْل تَمْرًا؛ وَلأَنَّ فِي الخَرْصِ احْتِيَاطًا لرَبِّ المَال وَالمَسَاكِينِ، فَإِنَّ رَبَّ المَال يَمْلكُ التَّصَرُّفَ بِالخَرْصِ وَيَعْرِفُ المُصَدِّقُ حَقَّ المَسَاكِينِ، فَيُطَالبُ بِهِ. وَهَل يَجُوزُ خَارِصٌ وَاحِدٌ أَوْ لا؟ فِيهِ قَوْلانِ: أحدهما: يَجُوزُ وَهُوَ الصَّحِيحُ كَمَا يَجُوزُ حَاكِمٌ وَاحِدٌ، والثاني: لا يَجُوزُ أَقَل مِنْ خَارِصَيْنِ كَمَا لا يَجُوزُ أَقَل مِنْ مُقَوِّمَيْنِ، فَإِنْ كَانَتْ أَنْوَاعًا مُخْتَلفَةً خَرَصَ عَليْهِ نَخْلةً نَخْلةً، وَإِنْ كَانَتْ نَوْعًا وَاحِدًا، فَهُوَ بِالخِيَارِ، بَيْنَ أَنْ يَخْرُصَ نَخْلةً نَخْلةً، وَبَيْنَ أَنْ يَخْرُصَ الجَمِيعَ دَفْعَةً، فَإِذَا عَرَفَ مَبْلغَ الجَمِيعِ ضَمِنَ رَبُّ المَال حَقَّ الفُقَرَاءِ، فَإِنْ ضَمِنَ حَقَّهُمْ جَازَ لهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ بِالبَيْعِ، وَالأَكْل وَغَيْرِ ذَلكَ. فَإِنْ ادَّعَى رَبُّ المَال بَعْدَ الخَرْصِ هَلاكَ الثَّمَرَةِ، فَإِنْ كَانَ ذَلكَ لجَائِحَةٍ ظَاهِرَةٍ لمْ يُقْبَل حَتَّى يُقِيمَ البَيِّنَةَ، فَإِذَا أَقَامَ البَيِّنَةَ أَخَذَ بِمَا قَال، وَإِنْ لمْ يُصَدِّقْهُ حَلفَهُ، وَهَل اليَمِينُ مُسْتَحَبَّةٌ أَوْ وَاجِبَةٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، فَإِنْ حَلفَ

 

ج / 5 ص -326-       سَقَطَتْ الزَّكَاةُ وَإِنْ نَكِل لزِمَتْهُ الزَّكَاةُ، والثاني: أَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ فَإِنْ حَلفَ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ، وَإِنْ نَكِل سَقَطَتْ الزَّكَاةُ. وَإِنْ ادَّعَى الهَلاكَ بِسَبَبٍ يَخْفَى كَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِهَا، فَالقَوْل قَوْلهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَهَل اليَمِينُ وَاجِبَةٌ أَوْ مُسْتَحَبَّةٌ؟ عَلى الوَجْهَيْنِ، فَإِنْ تَصَرَّفَ رَبُّ المَال فِي الثِّمَارِ وَادَّعَى أَنَّ الخَارِصَ قَدْ أَخْطَأَ فِي الخَرْصِ، نُظِرَتْ فَإِنْ كَانَ فِي قَدْرٍ لا يَجُوزُ أَنْ يُخْطِئَ فِيهِ كَالرُّبْعِ وَالثُّلثِ لمْ يُقْبَل قَوْلهُ، وَإِنْ كَانَ فِي قَدْرٍ يَجُوزُ أَنْ يُخْطِئَ فِيهِ قُبِل قَوْلهُ مَعَ يَمِينِهِ، وَهَل تَجِبُ اليَمِينُ أَوْ تُسْتَحَبُّ؟ عَلى الوَجْهَيْنِ".
الشرح:
فِيهِ مَسَائِل:
إحداها: خَرْصُ الرُّطَبِ وَالعِنَبِ اللذَيْنِ تَجِبُ فِيهِمَا الزَّكَاةُ سُنَّةٌ، هَذَا هُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه فِي جَمِيعِ كُتُبِهِ، وَقَطَعَ بِهِ الأَصْحَابُ فِي طُرُقِهِمْ وَحَكَى الصَّيْمَرِيُّ وَصَاحِبُ البَيَانِ عَنْ حِكَايَتِهِ وَجْهًا أَنَّ الخَرْصَ وَاجِبٌ وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ قَال أَصْحَابُنَا: وَلا مَدْخَل للخَرْصِ فِي الزَّرْعِ بِلا خِلافٍ لعَدَمِ التَّوْقِيفِ فِيهِ وَلعَدَمِ الإِحَاطَةِ كَالإِحَاطَةِ بِالنَّخْل وَالعِنَبِ، وَمِمَّنْ نَقَل الاتِّفَاقَ عَليْهِ إمَامُ الحَرَمَيْنِ قَال أَصْحَابُنَا: وَوَقْتُ خَرْصِ الثَّمَرَةِ بُدُوُّ الصَّلاحِ، وَصِفَتُهُ أَنْ يَطُوفَ بِالنَّخْلةِ، وَيَرَى جَمِيعَ عَنَاقِيدِهَا وَيَقُول: خَرْصُهَا كَذَا وَكَذَا، ثُمَّ يَفْعَل بِالنَّخْلةِ الأُخْرَى كَذَلكَ، ثُمَّ بَاقِي الحَدِيقَةِ وَلا يَجُوزُ الاقْتِصَارُ عَلى رُؤْيَةِ البَعْضِ وَقِيَاسُ البَاقِي بِهِ؛ لأَنَّهَا تَتَفَاوَتُ وَإِنَّمَا يَخْرُصُ رُطَبًا، ثُمَّ يُقَدِّرُ تَمْرًا؛ لأَنَّ الأَرْطَابَ تَتَفَاوَتُ، فَإِنْ اخْتَلفَ نَوْعُ الثَّمَرِ وَجَبَ خَرْصُ شَجَرَةٍ شَجَرَةٍ، وَإِنْ اتَّحَدَ جَازَ كَذَلكَ وَهُوَ الأَحْوَطُ. وَجَازَ أَنْ يَطُوفَ بِالجَمِيعِ، ثُمَّ يَخْرُصُ الجَمِيعَ دَفْعَةً وَاحِدَةً رُطَبًا، ثُمَّ يُقَدِّرُ تَمْرًا، هَذَا الذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ الصَّحِيحُ المَشْهُورُ فِي المَذْهَبِ وَقَال صَاحِبُ الحَاوِي: اخْتَلفَ أَصْحَابُنَا فِي قَوْل الشَّافِعِيِّ: يَطُوفُ بِكُل نَخْلةٍ فَقِيل: هُوَ شَرْطٌ لا يَصِحُّ الخَرْصُ إلا بِهِ؛ لأَنَّهُ اجْتِهَادٌ، فَوَجَبَ بَذْل المَجْهُودِ فِيهِ، وَقِيل هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَاحْتِيَاطٌ وَليْسَ بِشَرْطٍ؛ لأَنَّ فِيهِ مَشَقَّةً، وَالثَّالثُ: قَال وَهُوَ الأَصَحُّ: إنْ كَانَتْ الثِّمَارُ عَلى السَّعَفِ ظَاهِرَةً كَعَادَةِ العِرَاقِ فَمُسْتَحَبٌّ، وَإِنْ اسْتَتَرَتْ بِهِ كَعَادَةِ الحِجَازِ فَشَرْطٌ.
المسألة الثانية: المَذْهَبُ الصَّحِيحُ المَشْهُورُ الذِي قَطَعَ بِهِ المُصَنِّفُ وَالأَكْثَرُونَ أَنَّهُ يَخْرُصُ لجَمِيعِ النَّخْل وَالعِنَبِ. وَفِيهِ قَوْل الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَتْرُكُ للمَالكِ نَخْلةً أَوْ نَخَلاتٍ يَأْكُلهَا أَهْلهُ، وَيَخْتَلفُ ذَلكَ بِاخْتِلافِ حَال الرَّجُل فِي قِلةِ عِيَالهِ وَكَثْرَتِهِمْ، وَهَذَا القَوْل نَصَّ عَليْهِ فِي القَدِيمِ وَفِي البُوَيْطِيِّ. وَنَقَلهُ البَيْهَقِيُّ عَنْ نَصِّهِ فِي البُوَيْطِيِّ وَالبُيُوعِ وَالقَدِيمِ. وَحَكَاهُ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ وَالمَاوَرْدِيُّ وَإِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ، لكِنْ فِي حِكَايَةِ المَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ يَتْرُكُ الرُّبْعَ أَوْ الثُّلثَ، وَيَحْتَجُّ لهُ بِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَسْعُودِ بْنِ نِيَارٍ عَنْ سَهْل بْنِ حَثْمَةَ أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُول:
"إذَا خَرَصْتُمْ فَخُذُوا وَدَعُوا الثُّلثَ، فَإِنْ لمْ تَدَعُوا الثُّلثَ فَدَعُوا الرُّبْعَ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ؛ إلا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَلمْ يَتَكَلمُوا فِيهِ بِجَرْحٍ وَلا تَعْدِيلٍ وَلا هُوَ مَشْهُورٌ؛ وَلمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُد وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
الثالثة: هَل يَكْفِي خَارِصٌ وَاحِدٌ أَمْ يُشْتَرَطُ اثْنَانِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: أحدهما: القَطْعُ بِخَارِصٍ، كَمَا يَجُوزُ حَاكِمٌ وَاحِدٌ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَال ابْنُ سُرَيْجٍ وَالإِصْطَخْرِيُّ، وَقَطَعَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ المُصَنَّفِينَ

 

ج / 5 ص -327-       وأصحهما: وَأَشْهَرُهُمَا: وَبِهِ قَطَعَ المُصَنِّفُ وَالأَكْثَرُونَ: فِيهِ قَوْلانِ. قَال المَاوَرْدِيُّ: وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَال أَبُو إِسْحَاقَ وَابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ وَجُمْهُورُ أَصْحَابِنَا المُتَقَدِّمِينَ أصحهما: بِاتِّفَاقِهِمْ خَارِصٌ، والثاني: يُشْتَرَطُ اثْنَانِ كَمَا يُشْتَرَطُ فِي التَّقْوِيمِ اثْنَانِ. وَحُكِيَ وَجْهٌ إنْ خُرِصَ عَلى صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ سَفِيهٍ أَوْ غَائِبٍ اُشْتُرِطَ اثْنَانِ وَإِلا كَفَى وَاحِدٌ. وَهَذَا الوَجْهُ مَشْهُورٌ فِي طَرِيقَةِ العِرَاقِيِّينَ، حَكَاهُ أَبُو عَليٍّ فِي الإِفْصَاحِ، وَالمَاوَرْدِيُّ وَالقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي المُجَرَّدِ وَالدَّارِمِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ العِرَاقِيِّينَ. وَذَكَرَ إمَامُ الحَرَمَيْنِ أَنَّ صَاحِبَ التَّقْرِيبِ حَكَاهُ قَوْلًا للشَّافِعِيِّ، وَتَوَهَّمَ هَذَا القَائِل مِنْ فَرْقِ الشَّافِعِيِّ بَيْنَهُمَا فِي الأُمِّ، وَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَلى أَنَّ هَذَا الوَجْهَ غَلطٌ، قَال المَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَإِنَّمَا فَرْقُ الشَّافِعِيِّ بَيْنَهُمَا فِي الأُمِّ جَوَازُ تَضْمِينِ الكَبِيرِ ثِمَارَهُ بِالخَرْصِ دُونَ الصَّغِيرِ، فَاشْتَبَهَ ذَلكَ عَلى صَاحِبِ هَذَا الوَجْهِ، قَال أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ شَرَطْنَا العَدَدَ أَمْ لا، فَشَرْطُ الخَارِصِ كَوْنُهُ مُسْلمًا عَدْلًا عَالمًا بِالخَرْصِ.
وَأَمَّا: الذُّكُورَةُ وَالحُرِّيَّةُ فَذَكَرَ الشَّاشِيُّ فِي اشْتِرَاطِهِمَا وَجْهَيْنِ مُطْلقًا، وَالأَصَحُّ اشْتِرَاطُهُمَا، وَصَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ فِي المُحَرَّرِ. وَقَال أَبُو المَكَارِمِ فِي العُدَّةِ: إنْ قُلنَا يَكْفِي خَارِصٌ كَالحَاكِمِ اُشْتُرِطَتْ الذُّكُورَةُ وَالحُرِّيَّةُ وَإِلا فَوَجْهَانِ: أحدهما: الجَوَازُ، كَمَا يَجُوزُ كَوْنُهُ كَيَّالًا وَوَزَّانًا، والثاني: لا؛ لأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلى اجْتِهَادٍ كَالحَاكِمِ بِخِلافِ الكَيْل وَالوَزْنِ. قَال الرَّافِعِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَلامَ أَبِي المَكَارِمِ: لك أَنْ تَقُول: إنْ اكْتَفَيْنَا بِوَاحِدٍ، فَهُوَ كَالحَاكِمِ فَيُشْتَرَطَانِ، وَإِنْ شَرَطْنَا اثْنَيْنِ فَسَبِيلهُ سَبِيل الشَّهَادَةِ، فَيَنْبَغِي أَنْ تُشْتَرَطَ الحُرِّيَّةُ وَأَنْ تُشْتَرَطَ الذُّكُورَةُ فِي أَحَدِهِمَا، وَيُقَامُ امْرَأَتَانِ مَقَامَ الآخَرِ، فَحَصَل مِنْ هَذَا كُلهِ أَنَّ المَذْهَبَ اشْتِرَاطُ الحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ دُونَ العَدَدِ. فَلوْ اخْتَلفَ الخَارِصَانِ فِي المِقْدَارِ، قَال الدَّارِمِيُّ: تَوَقَّفْنَا حَتَّى نَتَبَيَّنَ المِقْدَارَ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَحَكَى السَّرَخْسِيُّ فِيهِ وَجْهَيْنِ: أحدهما: يُؤْخَذُ بِالأَقَل؛ لأَنَّهُ اليَقِينُ، والثاني: يَخْرُصُهُ ثَالثٌ، وَيُؤْخَذُ بِمَنْ هُوَ أَقْرَبُ إلى خَرْصِهِ مِنْهُمَا، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الذِي جَزَمَ بِهِ الدَّارِمِيُّ، وَهُوَ الأَصَحُّ، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
الرابعة: الخَرْصُ هَل هُوَ عِبْرَةٌ أَمْ تَضْمِينٌ؟، فِيهِ قَوْلانِ مَشْهُورَانِ فِي طَرِيقَةِ الخُرَاسَانِيِّينَ أصحهما: تَضْمِينٌ، وَمَعْنَاهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ المَسَاكِينِ مِنْ عَيْنِ الثَّمَرَةِ وَيَنْتَقِل إلى ذِمَّةِ المَالكِ، والثاني: عِبْرَةٌ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ مُجَرَّدُ اعْتِبَارٍ للقَدْرِ، وَلا يَنْقَطِعُ حَقُّ المَسَاكِينِ مِنْ عَيْنِ الثَّمَرَةِ؛ وَبِالأَوَّل قَطَعَ المُصَنِّفُ وَالعِرَاقِيُّونَ. وَمَنْ فَوَائِدِ الخِلافِ أَنَّهُ هَل يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي كُل الثِّمَارِ بَعْدَ الخَرْصِ؟ إنْ قُلنَا تَضْمِينٌ جَازَ، وَإِلا فَفِيهِ خِلافٌ سَيَأْتِي قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى، وَمِنْهَا: أَنَّهُ لوْ أَتْلفَ المَالكُ الثِّمَارَ أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ بِحِسَابِ مَا خَرَصَ، وَلوْلا الخَرْصُ لكَانَ القَوْل قَوْلهُ فِي ذَلكَ. فَإِنْ قُلنَا: الخَرْصُ عِبْرَةٌ فَضَمَّنَ السَّاعِي المَالكَ حَقَّ المَسَاكِينِ تَضْمِينًا صَرِيحًا، وَقَبِلهُ المَالكُ كَانَ لغْوًا وَيَبْقَى حَقُّهُمْ عَلى مَا كَانَ، وَإِنْ قُلنَا تَضْمِينٌ فَهَل نَفْسُ الخَرْصِ تَضْمِينٌ أَمْ لا بُدَّ مِنْ تَصْرِيحِ الخَارِصِ بِذَلكَ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ: "أَحَدُهُمَا ": عَلى وَجْهَيْنِ، "أَحَدُهُمَا "نَفْسُهُ تَضْمِينٌ، "وَالثَّانِي ": لا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ، قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَعَلى هَذَا فَاَلذِي أَرَاهُ أَنَّهُ يَكْفِي تَضْمِينُ الخَارِصِ وَلا يَفْتَقِرُ إلى قَبُول المَالكِ. وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: وَهُوَ المَذْهَبُ وَعَليْهِ العَمَل وَبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ أَنَّهُ لا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِالتَّضْمِينِ وَقَبُول المَالكِ، فَإِنْ لمْ يَضْمَنْهُ أَوْ ضَمِنَهُ فَلمْ يَقْبَلهُ المَالكُ بَقِيَ حَقُّ المَسَاكِينِ كَمَا كَانَ، وَهَل يَقُومُ وَقْتَ الخَرْصِ مَقَامَ الخَرْصِ؟ إنْ قُلنَا:

 

ج / 5 ص -328-       لا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ لمْ يَقُمْ وَإِلا فَوَجْهَانِ أصحهما: لا يَقُومُ، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
الخامسة: إذَا أَصَابَتْ الثِّمَارَ آفَةٌ سَمَاوِيَّةٌ، أَوْ سُرِقَتْ مِنْ الشَّجَرَةِ أَوْ مِنْ الجَرِينِ قَبْل الجَفَافِ نُظِرَ، إنْ تَلفَتْ كُلهَا فَلا شَيْءَ عَلى المَالكِ بِاتِّفَاقِ الأَصْحَابِ لفَوَاتِ الإِمْكَانِ كَمَا لوْ تَلفَتْ المَاشِيَةُ قَبْل التَّمَكُّنِ مِنْ الأَدَاءِ، وَالمُرَادُ إذَا لمْ يُقَصِّرُ المَالكُ، فَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ الدَّفْعُ وَأَخَّرَ، وَوَضَعَهَا فِي غَيْرِ حِرْزٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قَطْعًا لتَفْرِيطِهِ، وَلوْ تَلفَ بَعْضُ الثِّمَارِ فَإِنْ كَانَ البَاقِي نِصَابًا زَكَّاهُ، وَإِنْ كَانَ دُونَهُ بُنِيَ عَلى أَنَّ الإِمْكَانَ شَرْطُ الوُجُوبِ أَوْ الضَّمَانِ، فَإِنْ قُلنَا بِالأَوَّل فَلا شَيْءَ، وَإِنْ قُلنَا بِالثَّانِي زَكَّى البَاقِي بِحِصَّتِهِ هَذَا هُوَ المَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ، وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الحَاوِي، ثُمَّ قَال: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَال: يَلزَمُهُ زَكَاةُ مَا بَقِيَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ.
أَمَّا: إذَا أَتْلفَ المَالكُ الثَّمَرَةَ أَوْ أَكَلهَا، فَإِنْ كَانَ قَبْل بُدُوِّ الصَّلاحِ، فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لا زَكَاةَ عَليْهِ، لكِنْ يُكْرَهُ إنْ قَصَدَ الفِرَارَ مِنْ الزَّكَاةِ، وَإِنْ قَصَدَ الأَكْل أَوْ التَّخْفِيفَ عَنْ الشَّجَرَةِ أَوْ غَرَضًا آخَرَ فَلا كَرَاهَةَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلاحِ ضَمِنَ للمَسَاكِينِ، ثُمَّ لهُ حَالانِ. أحدهما: أَنْ يَكُونَ ذَلكَ بَعْدَ الخَرْصِ. فَإِنْ قُلنَا: الخَرْصُ تَضْمِينٌ ضَمِنَ لهُمْ عُشْرَ التَّمْرِ؛ لأَنَّهُ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ بِالخَرْصِ، وَإِنْ قُلنَا: عِبْرَةٌ فَهَل يَضْمَنُ عُشْرَ الرُّطَبِ أَمْ قِيمَةَ عُشْرِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ بِنَاءً عَلى أَنَّهُ مِثْليٌّ أَمْ لا؟ وَالصَّحِيحُ الذِي قَطَعَ بِهِ الجُمْهُورُ: عُشْرُ القِيمَةِ، وَقَدْ سَبَقَتْ المَسْأَلةُ قَرِيبًا. الحال الثاني: أَنْ يَكُونَ الإِتْلافُ قَبْل الخَرْصِ فَيُعَزَّرُ، وَالوَاجِبُ ضَمَانُ الرُّطَبِ إنْ قُلنَا لوْ جَرَى الخَرْصُ لكَانَ عِبْرَةً، فإن قالنا لوْ جَرَى لكَانَ تَضْمِينًا فَوَجْهَانِ: أصحهما: يَضْمَنُ الرُّطَبَ، والثاني: ضَمَانُ التَّمْرِ.
وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ يَضْمَنُ أَكْثَرَ الأَمْرَيْنِ مِنْ عُشْرِ التَّمْرِ وَقِيمَةِ عُشْرِ الرُّطَبِ. وَالحَالانِ مَفْرُوضَانِ فِي رُطَبٍ يَجِيءُ مِنْهُ تَمْرٌ، وَعِنَبٍ يَجِيءُ مِنْهُ زَبِيبٌ، فَإِنْ لمْ يَكُنْ كَذَلكَ، فَالوَاجِبُ فِي الحَاليْنِ ضَمَانُ الرُّطَبِ بِلا خِلافٍ.
السادسة: تَصَرُّفُ المَالكِ فِيمَا خُرِصَ عَليْهِ بِالبَيْعِ وَالأَكْل وَغَيْرِهِمَا مَبْنِيٌّ عَلى أَقْوَال التَّضْمِينِ، وَالعِبْرَةِ إنْ قُلنَا بِالتَّضْمِينِ تَصَرَّفَ فِي الجَمِيعِ، وَإِنْ قُلنَا بِالعِبْرَةِ فَنُفُوذُ تَصَرُّفِهِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ يُبْنَى عَلى أَنَّ الزَّكَاةَ تَتَعَلقُ بِالعَيْنِ، أَمْ بِالذِّمَّةِ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ، وَأَمَّا مَا زَادَ عَلى قَدْرِ الزَّكَاةِ، فَنَقَل إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالغَزَاليُّ اتِّفَاقَ الأَصْحَابِ عَلى نُفُوذِهِ. قَال الرَّافِعِيُّ: وَلكِنَّ المَوْجُودَ فِي كُتُبِ العِرَاقِيِّينَ أَنَّهُ لا يَجُوزُ البَيْعُ وَلا سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ فِي شَيْءٍ مِنْ الثِّمَارِ، إذَا لمْ يَصِرْ التَّمْرُ فِي ذِمَّتِهِ بِالخَرْصِ، فَإِنْ أَرَادُوا نَفْيَ الإِبَاحَةَ دُونَ فَسَادِ البَيْعِ فَذَاكَ، وَإِلا فَدَعْوَى الإِمَامِ الاتِّفَاقَ غَيْرُ مُسَلمَةٍ، وَكَيْفَ كَانَ، فَالمَذْهَبُ جَوَازُ التَّصَرُّفِ فِي الأَعْشَارِ التِّسْعَةِ سَوَاءٌ انْفَرَدَتْ بِالتَّصَرُّفِ، أَمْ تَصَرَّفَ فِي الجَمِيعِ؛ لأَنَّا وَإِنْ قُلنَا بِالفَسَادِ فِي قَدْرِ الزَّكَاةِ، فَلا نُعَدِّيهِ إلى البَاقِي عَلى المَذْهَبِ، وَقَدْ سَبَقَ تَحْرِيمُ الأَكْل وَالتَّصَرُّفِ قَبْل الخَرْصِ، وَأَنَّهُ إذَا لمْ يَجِدْ خَارِصًا مُتَوَليًا حَكَّمَ عَدْليْنِ وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
السابعة: إذَا ادَّعَى المَالكُ هَلاكَ الثَّمَرَةِ المَخْرُوصَةِ عَليْهِ أَوْ بَعْضِهَا نُظِرَ إنْ أَضَافَ الهَلاكَ إلى سَبَبٍ يُكَذِّبُهُ الحِسُّ بِأَنْ قَال: هَلكَتْ بِحَرِيقٍ وَقَعَ فِي الجَرِينِ فِي الوَقْتِ الفُلانِيِّ، وَعَلمْنَا كَذِبَهُ لمْ

 

ج / 5 ص -329-       يُلتَفَتْ إلى كَلامِهِ بِلا خِلافٍ وَصَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الحَاوِي وَإِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُمَا، وَإِنْ أَضَافَهُ إلى سَبَبٍ خَفِيٍّ كَالسَّرِقَةِ وَنَحْوِهَا لمْ يُكَلفْ بَيِّنَةً، بَل القَوْل قَوْلهُ بِيَمِينِهِ، وَهَذِهِ اليَمِينُ مُسْتَحَبَّةٌ أَمْ وَاجِبَةٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ أصحهما: مُسْتَحَبَّةٌ، فَلا زَكَاةَ عَليْهِ فِيمَا يَدَّعِي هَلاكَهُ، سَوَاءٌ حَلفَ أَمْ لا، والثاني: وَاجِبَةٌ فَإِنْ حَلفَ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ، وَإِنْ نَكِل أُخِذَتْ مِنْهُ بِالوُجُوبِ السَّابِقِ لا بِالنُّكُول؛ لأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ وَادَّعَى سُقُوطَهَا، وَلمْ يَثْبُتْ المُسْقِطُ، فَبَقِيَ الوُجُوبُ، وَإِنْ أَضَافَ الهَلاكَ إلى سَبَبٍ ظَاهِرٍ كَالحَرِيقِ وَالنَّهْبِ وَالجَرَادِ وَنُزُول العَسْكَرِ وَنَحْوِ ذَلكَ، فَإِنْ عُرِفَ وُقُوعُ ذَلكَ السَّبَبِ وَعُمُومُ أَثَرِهِ صُدِّقَ بِلا يَمِينٍ، وَإِنْ اُتُّهِمَ فِي هَلاكِ ثِمَارِهِ بِهِ حَلفَ. وَهَل اليَمِينُ مُسْتَحَبَّةٌ أَمْ وَاجِبَةٌ؟ فِيهِ وَجْهَانِ، وَإِنْ لمْ يُعْرَفْ وُقُوعُ السَّبَبِ فَثَلاثَةُ أَوْجُهٍ: الصَّحِيحُ الذِي قَطَعَ بِهِ المُصَنِّفُ وَالجُمْهُورُ يُطَالبُ بِالبَيِّنَةِ عَلى وُجُودِ أَصْل السَّبَبِ لإِمْكَانِهَا، ثُمَّ القَوْل قَوْلهُ فِي الهَلاكِ بِهِ، والثاني: يُقْبَل قَوْلهُ بِيَمِينِهِ، حَكَاهُ إمَامُ الحَرَمَيْنِ عَنْ وَالدِهِ والثالث: يُقْبَل قَوْلهُ بِلا يَمِينٍ إذَا كَانَ ثِقَةً حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَحَيْثُ حَلفْنَاهُ، فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ عَلى الأَصَحِّ، وَقِيل: وَاجِبَةٌ، (وَأَمَّا) إذَا اُقْتُصِرَ عَلى دَعْوَى الهَلاكِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لسَبَبٍ فَقَال الرَّافِعِيُّ: المَفْهُومُ مِنْ كَلامِ الأَصْحَابِ قَبُولهُ بِيَمِينِهِ، وَهُوَ كَمَا قَال الرَّافِعِيُّ.
الثامنة: إذَا ادَّعَى المَالكُ إجْحَافًا فِي الخَرْصِ، فَإِنْ زَعَمَ أَنَّ الخَارِصَ تَعَمَّدَ ذَلكَ لمْ يُلتَفَتْ إليْهِ بِلا خِلافٍ، كَمَا لوْ ادَّعَى مَيْل الحَاكِمِ أَوْ كَذَّبَ الشَّاهِدَ وَلا يُقْبَل إلا بِبَيِّنَةٍ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ أَخْطَأَ وَغَلطَ فَإِنْ لمْ يُبَيِّنْ القَدْرَ لمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ بِلا خِلافٍ، صَرَّحَ بِهِ المَاوَرْدِيُّ وَآخَرُونَ، وَإِنْ بَيَّنَهُ وَكَانَ يَحْتَمِل الغَلطَ فِي مِثْلهِ كَخَمْسَةِ أَوْسُقٍ فِي مِائَةٍ قُبِل قَوْلهُ، وَحُطَّ عَنْهُ مَا ادَّعَاهُ، فَإِنْ اتَّهَمَهُ حَلفَهُ، وَفِي اليَمِينِ الوَجْهَانِ السَّابِقَانِ.
أصحهما: مُسْتَحَبَّةٌ، هَذَا إذَا كَانَ المُدَّعَى فَوْقَ مَا يَقَعُ بَيْنَ الكَيْليْنِ. أَمَّا: إذَا ادَّعَى بَعْدَ الكَيْل غَلطًا يَسِيرًا فِي الخَرْصِ بِقَدْرِ مَا يَقَعُ بَيْنَ الكَيْليْنِ كَصَاعٍ مِنْ مِائَةٍ، فَهَل يُحَطُّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الحَرَمَيْنِ عَنْ حِكَايَةِ العِرَاقِيِّينَ وَالصَّيْدَلانِيِّ، قَال: أصحهما: لا يُقْبَل؛ لأَنَّا لمْ نَتَحَقَّقْ للنَّقْصِ لاحْتِمَال أَنَّهُ وَقَعَ فِي الكَيْل، وَلوْ كِيل ثَانِيًا لوَفَّى. والثاني: يُقْبَل وَيُحَطُّ عَنْهُ؛ لأَنَّ الكَيْل تَعْيِينٌ، وَالخَرْصُ تَخْمِينٌ، فَالإِحَالةُ عَليْهِ أَوْلى (قُلتُ) وَهَذَا الثَّانِي أَقْوَى، قَال الإِمَامُ: وَصُورَةُ المَسْأَلةِ أَنْ يَقُول المَخْرُوصُ عَليْهِ: حَصَل النَّقْصُ لزَللٍ قَليلٍ فِي الخَرْصِ، وَيَقُول الخَارِصُ: بَل لزَللٍ فِي الكَيْل؛ وَيَكُونُ بَعْدَ فَوَاتِ عَيْنِ المَخْرُوصِ. أَمَّا إذَا ادَّعَى نَقْصًا فَاحِشًا لا يُجَوِّزُ أَهْل الخِبْرَةِ وُقُوعَ مِثْلهِ غَلطًا، فَلا يُقْبَل قَوْلهُ فِي حَطِّ جَمِيعِهِ بِلا خِلافٍ، وَهَل يُقْبَل فِي حَطِّ المُمْكِنِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: يُقْبَل، وَبِهِ قَطَعَ إمَامُ الحَرَمَيْنِ، وَنَقَلهُ عَنْ الأَئِمَّةِ قَال: وَهُوَ كَمَا لوْ ادَّعَتْ مُعْتَدَّةٌ بِالأَقْرَاءِ انْقِضَاءَهَا قَبْل زَمَنِ الإِمْكَانِ وَكَذَّبْنَاهَا، وَأَصَرَّتْ عَلى الدَّعْوَى حَتَّى جَاءَ زَمَنُ الإِمْكَانِ فَإِنَّا نَحْكُمُ بِانْقِضَائِهَا لأَوَّل زَمَنِ الإِمْكَانِ، وَلا يَكُونُ تَكْذِيبُهَا فِي غَيْرِ المُحْتَمَل مُوجِبًا لتَكْذِيبِهَا فِي المُحْتَمَل وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
التاسعة: إذَا خُرِصَ عَليْهِ فَأَقَرَّ المَالكُ بِأَنَّ التَّمْرَ زَادَ عَلى المَخْرُوصِ؛ قَال أَصْحَابُنَا: أُخِذَتْ الزَّكَاةُ مِنْهُ للزِّيَادَةِ، سَوَاءٌ كَانَ ضُمِّنَ أَمْ لا؛ لأَنَّ عَليْهِ زَكَاةَ جَمِيعِ الثَّمَرَةِ.
العاشرة: إذَا خُرِصَ عَليْهِ فَتَلفَ بَعْضُ المَخْرُوصِ، تَلفًا يُسْقِطُ الزَّكَاةَ وَأَكَل بَعْضَهُ وَبَقِيَ بَعْضَهُ

 

ج / 5 ص -330-       وَلمْ يَعْرِفْ السَّاعِي مَا تَلفَ فَإِنْ عَرَفَ المَالكُ مَا أَكَل زَكَّاهُ مَعَ البَاقِي. وَإِنْ اتَّهَمَهُ السَّاعِي حَلفَهُ اسْتِحْبَابًا عَلى الأَصَحِّ، وَوُجُوبًا عَلى الوَجْهِ الآخَرِ كَمَا سَبَقَ، وَإِنْ قَال: لا أَعْرِفُ قَدْرَ مَا أَكَلتُهُ وَلا مَا تَلفَ، قَال الدَّارِمِيُّ قُلنَا لهُ: إنْ ذَكَرْتَ قَدْرًا أَلزَمْنَاكَ بِهِ، فَإِنْ اتَّهَمْنَاكَ حَلفْنَاكَ، وَإِنْ ذَكَرْتَ مُجْمَلًا أَخَذْنَا الزَّكَاةَ بِخَرْصِنَا.
الحادية عشرة: إذَا اخْتَلفَ السَّاعِي وَالمَالكُ فِي جِنْسِ الثَّمَرِ أَوْ نَوْعِهِ بَعْدَ تَلفِهِ تَلفًا مُضَمَّنًا، قَال المَاوَرْدِيُّ وَالدَّارِمِيُّ: القَوْل قَوْل المَالكِ، فَإِنْ أَقَامَ السَّاعِي شَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ قُضِيَ لهُ، وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدًا فَلا؛ لأَنَّهُ لا يَحْلفُ مَعَهُ.
الثانية عشرة: قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: إذَا كَانَ بَيْنَ رَجُليْنِ رُطَبٌ مُشْتَرَكٌ عَلى النَّخْل، فَخَرَصَ أَحَدُهُمَا عَلى الآخَرِ وَأَلزَمَ ذِمَّتَهُ لهُ تَمْرًا جَافًّا. قَال صَاحِبُ التَّقْرِيبِ: يَتَصَرَّفُ المَخْرُوصُ عَليْهِ فِي الجَمِيعِ، وَيَلتَزِمُ لصَاحِبِهِ التَّمْرَ إنْ قُلنَا الخَرْصُ تَضْمِينٌ كَمَا يَتَصَرَّفُ فِي نَصِيبِ المَسَاكِينِ بِالخَرْصِ. وَإِنْ قُلنَا: الخَرْصُ عِبْرَةٌ، فَلا أَثَرَ لهُ فِي حَقِّ الشُّرَكَاءِ. قَال الإِمَامُ: وَهَذَا الذِي ذَكَرَهُ بَعِيدٌ فِي حَقِّ الشُّرَكَاءِ، وَمَا يَجْرِي فِي حَقِّ المَسَاكِينِ لا يُقَاسُ بِهِ تَصَرُّفُ الشُّرَكَاءِ فِي أَمْلاكِهِمْ المُحَقَّقَةِ، وَإِنْ ثَبَتَ مَا قَالهُ صَاحِبُ التَّقْرِيبِ، فَمُسْتَنَدُهُ خَرْصُ عَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ رضي الله عنه عَلى اليَهُودِ، فَإِنَّهُ أَلزَمَهُمْ التَّمْرَ وَكَانَ ذَلكَ الإِلزَامَ فِي حَقِّ المُلاكِ وَالغَانِمِينَ، قَال الإِمَامُ: وَاَلذِي لا بُدَّ مِنْهُ مِنْ مَذْهَبِ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ، أَنَّ الخَرْصَ فِي حَقِّ المَسَاكِينِ يَكْفِي فِيهِ إلزَامُ الخَارِصِ، وَلا يُشْتَرَطُ رِضَا المَخْرُوصِ عَليْهِ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الشُّرَكَاءِ فَلا بُدَّ مِنْ رِضَا الشُّرَكَاءِ لا مَحَالةَ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَلا تُؤْخَذُ زَكَاةُ الثِّمَارِ إلا بَعْدَ أَنْ تُجَفَّفَ، لحَدِيثِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ "فِي الكَرْمِ يُخْرَصُ كَمَا يُخْرَصُ النَّخْل، ثُمَّ تُؤَدَّى زَكَاتُهُ زَبِيبًا، كَمَا تُؤَدَّى زَكَاةُ النَّخْل تَمْرًا"فَإِنْ أَخَذَ الرُّطَبَ وَجَبَ رَدُّهُ، وَإِنْ فَاتَ وَجَبَ رَدُّ قِيمَتِهِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَال: يَجِبُ رَدُّ مِثْلهِ وَالمَذْهَبُ الأَوَّل؛ لأَنَّهُ لا مِثْل لهُ؛ لأَنَّهُ يَتَفَاوَتُ، وَلهَذَا لا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، فَإِنْ كَانَتْ الثِّمَارُ نَوْعًا وَاحِدًا أُخِذَ الوَاجِبُ مِنْهُ لقَوْلهِ عَزَّ وَجَل:
{أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} وَإِنْ كَانَتْ أَنْوَاعًا [قَليلةً] أُخِذَ مِنْ أَوْسَطِهَا لا مِنْ النَّوْعِ الجَيِّدِ، وَلا مِنْ النَّوْعِ الرَّدِيءِ؛ لأَنَّ أَخْذَهَا مِنْ كُل صِنْفٍ [بِقِسْطِهِ] يَشُقُّ فَأَخَذَ الوَسَطَ".
الشرح:
حَدِيثُ عَتَّابٍ سَبَقَ فِي أَوَّل البَابِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي فَصْل وَقْتِ وُجُوبِ العُشْرِ أَنَّهُ لا يَجِبُ الإِخْرَاجُ إلا بَعْدَ الجَفَافِ فِي الثِّمَارِ وَبَعْدَ التَّصْفِيَةِ فِي الحُبُوبِ، وَأَنَّ مُؤْنَةَ ذَلكَ كُلهِ تَكُونُ عَلى رَبِّ المَال لا تُحْسَبُ مِنْ جُمْلةِ مَال الزَّكَاةِ بَل تَجِبُ مِنْ خَالصِ مَال المَالكِ، وَسَبَقَ هُنَاكَ أَنَّهُ إذَا أَخَذَ الرُّطَبَ وَجَبَ رَدُّهُ، فَإِنْ فَاتَ غَرِمَهُ بِقِيمَتِهِ عَلى المَذْهَبِ.. وَبِهِ قَال الجُمْهُورُ. وَقِيل بِمِثْلهِ. وَسَبَقَ هُنَاكَ أَنَّ الخِلافَ مَبْنِيٌّ عَلى أَنَّ الرُّطَبَ مِثْليٌّ أَمْ لا. وَهُوَ المَذْهَبُ قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ رحمهم الله: فَإِنْ كَانَ الذِي يَمْلكُهُ مِنْ الثِّمَارِ وَالحُبُوبِ نَوْعًا وَاحِدًا أُخِذَتْ مِنْهُ الزَّكَاةُ. فَإِنْ أَخْرَجَ أَعْلى مِنْهُ مِنْ جِنْسِهِ أَجْزَأَهُ، وَقَدْ زَادَ خَيْرًا، وَإِنْ أَخْرَجَ دُونَهُ لمْ يُجْزِئْهُ لقوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}وَإِنْ اخْتَلفَتْ أَنْوَاعُهُ وَلمْ يُعْسَرْ إخْرَاجُ الوَاجِبِ مِنْ كُل نَوْعٍ بِالحِصَّةِ بِأَنْ كَانَتْ نَوْعَيْنِ أَوْ ثَلاثَةً أُخِذَ مِنْ كُل

 

ج / 5 ص -331-       نَوْعٍ بِالحِصَّةِ هَكَذَا قَالهُ الأَصْحَابُ وَنَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي الأُمِّ.
وَنَقَل القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي المُجَرَّدِ اتِّفَاقَ الأَصْحَابِ عَليْهِ، وَاحْتَجَّ لهُ أَبُو عَليٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الإِفْصَاحِ وَالقَاضِي وَسَائِرُ الأَصْحَابِ بِأَنَّهُ لا يَشُقُّ ذَلكَ مَعَ أَنَّهُ الأَصْل، فَوَجَبَ العَمَل بِهِ بِخِلافِ نَظِيرِهِ فِي المَوَاشِي عَلى قَوْلٍ؛ لأَنَّ التَّشْقِيصَ مَحْذُورٌ فِي الحَيَوَانِ دُونَ الثِّمَارِ. وَذَكَرَ القَاضِي أَبُو القَاسِمِ بْنُ كَجٍّ فِي الثِّمَارِ قَوْليْنِ كَالمَوَاشِي أحدهما: الأَخْذُ مِنْ الأَغْلبِ، وأصحهما: الأَخْذُ مِنْ كُل نَوْعٍ بِقِسْطِهِ، وَالمَذْهَبُ القَطْعُ بِالأَخْذِ بِالقِسْطِ مِنْ الثِّمَارِ.
وَأَمَّا إذَا عُسِرَ الأَخْذُ مِنْ كُل نَوْعٍ بِأَنْ كَثُرَتْ وَقَل ثَمَرُهَا، فَفِيهِ طَرِيقَانِ حَكَاهُمَا القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي المُجَرَّدِ وَآخَرُونَ أصحهما: القَطْعُ بِأَنَّهُ يَأْخُذُ الوَسَطَ لا الجَيِّدَ وَلا الرَّدِيءَ رِعَايَةً للجَانِبَيْنِ، وَبِهَذَا قَطَعَ المُصَنِّفُ وَالجُمْهُورُ وَهُوَ المَنْصُوصُ فِي المُخْتَصَرِ. وَنَقَل إمَامُ الحَرَمَيْنِ اتِّفَاقَ الأَصْحَابِ عَليْهِ، والثاني: فِيهِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا أَبُو عَليٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الإِفْصَاحِ وَالقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي المُجَرَّدِ وَالسَّرَخْسِيُّ فِي الأَمَالي وَآخَرُونَ أصحها: يَخْرُجُ مِنْ الوَسَطِ والثاني: يُؤْخَذُ مِنْ كُل نَوْعٍ بِقِسْطِهِ؛ لأَنَّهُ الأَصْل. والثالث: مِنْ الأَغْلبِ وَحَكَاهُ صَاحِبُ الحَاوِي وَغَيْرُهُ أَيْضًا، فَإِذَا قُلنَا بِالمَذْهَبِ وَهُوَ إخْرَاجُ الوَسَطِ فَتَكَلفَ المَشَقَّةَ وَأَخْرَجَ مِنْ كُل نَوْعٍ بِقِسْطِهِ جَازَ وَلزِمَ السَّاعِي قَبُولهُ، وَهَذَا لا خِلافَ فِيهِ. قَال البَنْدَنِيجِيُّ وَغَيْرُهُ: وَهُوَ أَفْضَل؛ وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
فرع: ذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الجُوَيْنِيُّ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ كِتَابِهِ الفُرُوقُ أَنَّ تَمْرَ المَدِينَةِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ نَوْعًا: سِتُّونَ أَحْمَرُ وَسِتُّونَ أَسْوَدُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ كَانَتْ الثَّمَرَةُ رُطَبًا لا يَجِيءُ مِنْهُ التَّمْرُ كَالهِليَاثِ وَالسُّكَّرِ، أَوْ عِنَبًا لا يَجِيءُ مِنْهُ الزَّبِيبُ، أَوْ أَصَابَ النَّخْل عَطَشٌ فَخَافَ عَليْهَا مِنْ تَرْكِ الثِّمَارِ فَفِي القِسْمَةِ قَوْلانِ - إنْ قُلنَا: إنَّ القِسْمَةَ فَرْزُ النَّصِيبَيْنِ - جَازَتْ المُقَاسَمَةُ فَيُجْعَل العُشْرُ فِي نَخَلاتٍ، ثُمَّ المُصَّدِّقُ يَنْظُرُ فَإِنْ رَأَى أَنْ يُفَرِّقَ عَليْهِمْ فَعَل، وَإِنْ رَأَى البَيْعَ وَقِسْمَةَ الثَّمَنِ فَعَل. وَإِنْ قُلنَا: إنَّ القِسْمَةَ بَيْعٌ لمْ يَجُزْ؛ لأَنَّهُ يَكُونُ بَيْعَ رُطَبٍ بِرُطَبٍ وَذَلكَ رِبًا، فَعَلى هَذَا يَقْبِضُ المُصَّدِّقُ عُشْرَهَا مُشَاعًا بِالتَّخْليَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَيَسْتَقِرُّ عَليْهِ مِلكُ المَسَاكِينِ، ثُمَّ يَبِيعُهُ وَيَأْخُذُ ثَمَنَهُ وَيُفَرِّقُ عَليْهِمْ، وَإِنْ قُطِعَتْ الثِّمَارُ - فَإِنْ قُلنَا: إنَّ القِسْمَةَ تَمْيِيزُ الحَقَّيْنِ - تَقَاسَمُوا كَيْلًا أَوْ وَزْنًا. وَإِنْ قُلنَا: إنَّهَا بَيْعٌ لمْ تَجُزْ المُقَاسَمَةُ بَل يُسَلمُ العُشْرَ إلى المُصَّدِّقِ، ثُمَّ يَبِيعُهُ وَيُفَرِّقُ ثَمَنَهُ، وَقَال أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو عَليٍّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: [تَجُوزُ] المُقَاسَمَةُ كَيْلًا وَوَزْنًا عَلى الأَرْضِ؛ لأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُخَلصَ حُقُوقَ المَسَاكِينِ بِالكَيْل وَالوَزْنِ وَلا يُمْكِنُ ذَلكَ فِي النَّخْل، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَلى الشَّجَرِ وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَلى الأَرْضِ؛ لأَنَّهُ بَيْعُ رُطَبٍ بِرُطَبٍ عَلى هَذَا القَوْل".
الشرح:
هَذِهِ المَسْأَلةُ بِفُرُوعِهَا سَبَقَ بَيَانُهَا وَاضِحًا فِي هَذَا البَابِ وَالهِليَاثُ بِكَسْرِ الهَاءِ وَإِسْكَانِ اللامِ وَبَعْدَهَا يَاءٌ مُثَنَّاةٌ تَحْتُ وَآخِرُهُ ثَاءٌ مُثَلثَةٌ؛ وَالسُّكَّرُ بِضَمِّ السِّينِ عَلى لفْظِ السُّكَّرِ المَعْرُوفِ وَهُمَا نَوْعَانِ مِنْ التَّمْرِ مَعْرُوفَانِ، وَاَللهُ أَعْلمُ بِالصَّوَابِ وَلهُ الحَمْدُ وَالمِنَّةُ.