المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

بَابَ زَكَاةِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، لقَوْلهِ عَزَّ وَجَل:{وَاَلذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَليمٍ}. وَلأَنَّ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ مُعَدٌّ للنَّمَاءِ فَهُوَ كَالإِبِل وَالبَقَرِ السَّائِمَةِ وَلا تَجِبُ فِيمَا سِوَاهُمَا مِنْ الجَوَاهِرِ كَاليَاقُوتِ وَالفَيْرُوزَجِ وَاللؤْلؤِ وَالمَرْجَانِ؛ لأَنَّ ذَلكَ مُعَدٌّ للاسْتِعْمَال، فَهُوَ كَالإِبِل وَالبَقَرِ العَوَامِل وَلا تَجِبُ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ مِنْ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ. وَنِصَابُ الذَّهَبِ عِشْرُونَ مِثْقَالًا؛ لمَا رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَال: "وَلا يَجِبُ فِي أَقَل مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ الذَّهَبِ شَيْءٌ"وَنِصَابُ الفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَالدَّليل عَليْهِ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "إذَا بَلغَ مَال أَحَدِكُمْ خَمْسَ أَوَاقٍ: مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهِ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ"وَالاعْتِبَارُ بِالمِثْقَال الذِي كَانَ بِمَكَّةَ، وَدَرَاهِمُ الإِسْلامِ التِي [كُل عَشْرَةٍ بِوَزْنِ سَبْعَةِ مَثَاقِيل]1؛ لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال: "المِيزَانُ مِيزَانُ أَهْل مَكَّةَ، وَالمِكْيَال مِكْيَال أَهْل المَدِينَةِ"وَلا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلى الآخَرِ فِي إكْمَال النِّصَابِ؛ لأَنَّهُمَا جِنْسَانِ فَلمْ يُضَمَّ أَحَدُهُمَا إلى الآخَرِ كَالإِبِل وَالبَقَرِ وَزَكَاتُهُمَا رُبْعُ العُشْرِ نِصْفُ مِثْقَالٍ عَنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنْ الذَّهَبِ، وَخَمْسَةُ دَرَاهِمَ عَنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. وَالدَّليل عَليْهِ قَوْلهُ صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابِ الصَّدَقَاتِ "فِي الرِّقَةِ رُبْعُ العُشْرِ"وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ جَمْرَةَ عَنْ عَليٍّ رضي الله عنه أَنَّهُ قَال: "ليْسَ فِي أَقَل مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا شَيْءٌ، وَفِي عِشْرِينَ نِصْفُ دِينَارٍ "وَيَجِبُ فِيمَا زَادَ عَلى النِّصَابِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق (دراهم الإسلام الذي كل عشرة وزن سبع مثاقيل) وهو ما أقره الشارح ورجحه (ط).

 

ج / 5 ص -346-       بِحِسَابِهِ؛ لأَنَّهُ يَتَجَزَّأُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ، فَوَجَبَ فِيمَا زَادَ بِحِسَابِهِ. وَيَجِبُ فِي الجَيِّدِ الجَيِّدُ وَفِي الرَّدِيءِ الرَّدِيءُ، فَإِنْ كَانَتْ أَنْوَاعًا قَليلةً وَجَبَ فِي كُل نَوْعٍ بِقِسْطِهِ وَإِنْ كَثُرَتْ الأَنْوَاعُ أَخْرَجَ مِنْ الوَسَطِ كَمَا قُلنَا فِي الثِّمَارِ وَإِنْ كَانَ لهُ ذَهَبٌ مَغْشُوشٌ أَوْ فِضَّةٌ مَغْشُوشَةٌ - فَإِنْ كَانَ الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ فِيهِ قَدْرُ الزَّكَاةِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ، وَإِنْ لمْ تَبْلغْ لمْ تَجِبْ، وَإِنْ لمْ يَعْرِفْ قَدْرَ مَا فِيهِ مِنْ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، فَهُوَ بِالخِيَارِ، إنْ شَاءَ شَبَّكَ ليَعْرِفَ الوَاجِبَ فَيُخْرِجُهُ، وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ وَاسْتَظْهَرَ ليَسْقُطَ الفَرْضُ بِيَقِينٍ".
الشرح: أَمَّا حَدِيثُ (فِي الرِّقَةِ رُبْعُ العُشْرِ) . فَصَحِيحٌ رَوَاهُ البُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ وَسَبَقَ بَيَانُهُ بِطُولهِ فِي أَوَّل بَابِ صَدَقَةِ الإِبِل. وَالرِّقَةُ بِتَخْفِيفِ القَافِ وَكَسْرِ الرَّاءِ هِيَ الوَرِقُ وَهُوَ كُل الفِضَّةِ. وَقِيل الدَّرَاهِمُ خَاصَّةً. وَأَمَّا قَوْل صَاحِبِ البَيَانِ قَال أَصْحَابُنَا: الرِّقَةُ هِيَ الذَّهَبُ وَالفِضَّةُ، فَغَلطٌ فَاحِشٌ. وَلمْ يَقُل أَصْحَابُنَا وَلا أَهْل اللغَةِ وَلا غَيْرُهُمْ: إنَّ الرِّقَةَ تُطْلقُ عَلى الذَّهَبِ، بَل هِيَ الوَرِقُ. وَفِيهِ الخِلافُ الذِي ذَكَرْته، وَأَصْلهَا وِرْقَةٌ بِكَسْرِ الوَاوِ كَالزِّنَةِ مِنْ الوَزْنِ. وَأَمَّا حَدِيثُ "المِيزَانُ مِيزَانُ أَهْل مَكَّةَ"إلى آخِرِهِ، فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَلى شَرْطِ البُخَارِيِّ وَمُسْلمٍ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما. قَال أَبُو دَاوُد: وَرُوِيَ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما. ذَكَرَهُ أَبُو دَاوُد فِي كِتَابِ البُيُوعِ، وَالنَّسَائِيُّ فِي الزَّكَاةِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَاصِمٍ عَنْ عَليٍّ رضي الله عنه فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَوْ صَحِيحٍ عَنْ عَليٍّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيُنْكَرُ عَلى المُصَنِّفِ كَوْنُهُ وَقَفَهُ عَلى عَليٍّ وَهُوَ مَرْفُوعٌ إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَّا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَابْنِ عُمَرَ فَغَرِيبَانِ وَيُغْنِي عَنْهُمَا الإِجْمَاعُ فَالمُسْلمُونَ مُجْمِعُونَ عَلى مَعْنَاهُمَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال:
"ليْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الوَرِقِ صَدَقَةٌ" وَفِي مُسْلمٍ مِثْلهُ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ، وَالأُوقِيَّةُ الحِجَازِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ أَرْبَعُونَ بِالنُّصُوصِ المَشْهُورَةِ وَإِجْمَاعِ المُسْلمِينَ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: قَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم "مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا إلا إذَا كَانَ يَوْمَ القِيَامَةِ صُفِّحَتْ لهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَأُحْمِيَ عَليْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ، كُلمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لهُ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلفَ سَنَةٍ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ بَيْنَ العِبَادِ، فَيَرَى سَبِيلهُ إمَّا إلى الجَنَّةِ وَإِمَّا إلى النَّارِ.
أَمَّا أَلفَاظُ الفَصْل: فَاللؤْلؤُ فِيهِ أَرْبَعُ لغَاتٍ قُرِئَ بِهِنَّ فِي السَّبْعِ لؤْلؤ بِهَمْزَتَيْنِ وَلولو بِغَيْرِ هَمْزٍ، وَبِهَمْزِ أَوَّلهِ دُونَ ثَانِيه وَعَكْسُهُ. قَال جُمْهُورُ أَهْل اللغَةِ: اللؤْلؤُ الكِبَارُ وَالمَرْجَانُ الصِّغَارُ، وَقِيل عَكْسُهُ. قَوْلهُ "وَدَرَاهِمُ الإِسْلامِ التِي كُل وَزْنِ عَشْرَةٍ سَبْعَةُ مَثَاقِيل "هَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَهُوَ الصَّوَابُ. وَكَذَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ فِي كِتَابِ الإِقْرَارِ، وَسَائِرُ الأَصْحَابِ، وَسَائِرُ العُلمَاءِ مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ وَلا خِلافَ فِيهِ. وَوَقَعَ فِي أَكْثَرِ نُسَخِ المُهَذَّبِ هُنَا كُل أُوقِيَّةٍ سَبْعَةُ مَثَاقِيل، وَهَكَذَا نَقَلهُ صَاحِبُ البَيَانِ فِيهِ وَفِي مُشْكِلاتِ المُهَذَّبِ عَنْ المُهَذَّبِ. وَهُوَ غَلطٌ صَرِيحٌ وَالصَّوَابُ الأَوَّل، وَلعَلهُ صُحِّفَ فِي نُسْخَةٍ وَشَاعَتْ وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ. وَقَوْلهُ "لأَنَّهُ يَتَجَزَّأُ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ"احْتِرَازٌ مِنْ المَاشِيَةِ. وَقَوْلهُ "فِي الرَّدِيءِ الرَّدِيءُ"هُوَ مَهْمُوزٌ.

 

ج / 5 ص -347-       أما الأحكام: فَفِيهَا مَسَائِل:
إحداها: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ بِالإِجْمَاعِ، وَدَليل المَسْأَلةِ النُّصُوصُ وَالإِجْمَاعُ وَسَوَاءٌ فِيهِمَا المَسْكُوكُ وَالتِّبْرُ وَالحِجَارَةُ مِنْهُمَا وَالسَّبَائِكُ وَغَيْرُهَا مِنْ جِنْسِهَا، إلا الحُليُّ المُبَاحُ عَلى أَصَحِّ القَوْليْنِ، كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى.
الثانية: لا زَكَاةَ فِيمَا سِوَى الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ مِنْ الجَوَاهِرِ كَاليَاقُوتِ وَالفَيْرُوزَجِ وَاللؤْلؤِ وَالمَرْجَانِ وَالزُّمُرُّدِ وَالزَّبَرْجَدِ وَالحَدِيدِ وَالصُّفْرِ وَسَائِرِ النُّحَاسِ وَالزُّجَاجِ، وَإِنْ حَسُنَتْ صُنْعُهَا وَكَثُرَتْ قِيمَتُهَا، وَلا زَكَاةَ أَيْضًا فِي المِسْكِ وَالعَنْبَرِ قَال الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه فِي المُخْتَصَرِ: وَلا فِي حِليَةِ بَحْرٍ. قَال أَصْحَابُنَا: مَعْنَاهُ كُل مَا يُسْتَخْرَجُ مِنْهُ فَلا زَكَاةَ فِيهِ، وَلا خِلافَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا عِنْدَنَا، وَبِهِ قَال جَمَاهِيرُ العُلمَاءِ مِنْ السَّلفِ وَغَيْرِهِمْ. وَحَكَى ابْنُ المُنْذِرِ وَغَيْرُهُ عَنْ الحَسَنِ البَصْرِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ وَالزُّهْرِيِّ وَأَبِي يُوسُفَ وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ أَنَّهُمْ قَالوا: يَجِبُ الخُمْسُ فِي العَنْبَرِ، قَال الزُّهْرِيُّ: وَكَذَلكَ اللؤْلؤُ، وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الحَسَنِ العَنْبَرِيِّ أَنَّهُ قَال: يَجِبُ الخُمْسُ فِي كُل مَا يَخْرُجُ مِنْ البَحْرِ سِوَى السَّمَكِ.
وَحَكَى العَنْبَرِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَيْنِ إحداهما: كَمَذْهَبِ الجَمَاهِيرِ، والثانية: أَنَّهُ أَوْجَبَ الزَّكَاةَ فِي كُل مَا ذَكَرْنَا إذْ بَلغَتْ قِيمَتُهُ نِصَابًا حَتَّى فِي المِسْكِ وَالسَّمَكِ. وَدَليلنَا الأَصْل أَنْ لا زَكَاةَ إلا فِيمَا ثَبَتَ الشَّرْعُ فِيهِ، وَصَحَّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَال: ليْسَ فِي العَنْبَرِ زَكَاةٌ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ دَسَرَهُ البَحْرُ، وَهُوَ بِدَالٍ وَسِينٍ مُهْمَلتَيْنِ مَفْتُوحَتَيْنِ أَيْ قَذَفَهُ وَدَفَعَهُ، فَهَذَا الذِي ذَكَرْنَاهُ هُوَ المُعْتَمَدُ فِي دَليل المَسْأَلةِ، وَأَمَّا الحَدِيثُ المَرْوِيُّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
"لا زَكَاةَ فِي حَجَرٍ"فَضَعِيفٌ جِدًّا، رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ وَبَيَّنَ ضَعْفَهُ.
الثالثة: لا زَكَاةَ فِي الذَّهَبِ حَتَّى يَبْلغَ نِصَابًا، وَنِصَابُ الذَّهَبِ عِشْرُونَ1 مِثْقَالًا، وَنِصَابُ الفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ، وَهِيَ خَمْسُ أَوَاقٍ بِوَقِيَّةِ الحِجَازِ وَالاعْتِبَارُ بِوَزْنِ مَكَّةَ، فَأَمَّا المِثْقَال فَلمْ يَخْتَلفْ فِي جَاهِليَّةٍ وَلا إسْلامٍ وَقَدْرُهُ مَعْرُوفٌ، وَالدَّرَاهِمُ المُرَادُ بِهَا دَرَاهِمُ الإِسْلامِ وَهِيَ التِي كُل عَشْرَةٍ مِنْهَا سَبْعَةُ مَثَاقِيل، وَسَأُفْرِدُ بَعْدَ هَذَا الفَصْل إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى فَصْلًا نَفِيسًا أَذْكُرُ فِيهِ أَقَاوِيل العُلمَاءِ فِي حَال الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَقَدْرَهُمَا وَمَا يَتَعَلقُ بِتَحْقِيقَيْهِمَا.
قَال أَصْحَابُنَا: فَلوْ نَقَصَ عَنْ النِّصَابِ حَبَّةً أَوْ بَعْضَ حَبَّةٍ، فَلا زَكَاةَ بِلا خِلافٍ عِنْدَنَا، وَإِنْ رَاجَ رَوَاجَ الوَازِنَةِ وَزَادَ عَليْهِ لجَوْدَةِ نَوْعِهِ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَال جُمْهُورُ العُلمَاءِ. وَقَال مَالكٌ: إنْ نَقَصَتْ المِائَتَانِ مِنْ الفِضَّةِ حَبَّةً وَحَبَّتَيْنِ وَنَحْوَهُمَا مِمَّا يُتَسَامَحُ بِهِ وَيَرُوجُ رَوَاجَ الوَازِنَةِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ، وَعَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المثقال يساوي ما وزنته في عصرنا هذا أربعة جرامات وأربعة أعشار الجرام وحساب الزكاة في عصرنا تتقوم الأوراق المالية باعتبارها سفنجة على مليء وهو بنك الإصدار فيكون النصاب 4,4×20=88 جراما فيها 2,5% قدر الزكاة والله أعلم (ط).

 

ج / 5 ص -348-       أَحْمَدَ نَحْوُهُ، وَعَنْهُ إنْ نَقَصَتْ دَانَقًا أَوْ دَانَقَيْنِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ، وَعَنْ مَالكٍ رِوَايَةٌ أَنَّهَا إذَا نَقَصَتْ ثَلاثَةُ دَرَاهِمَ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ، وَاحْتُجَّ لهُمَا بِأَنَّهَا كَالمِائَتَيْنِ فِي المُعَامَلةِ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا وَالجُمْهُورُ بِالحَدِيثِ السَّابِقِ فِي البَابِ "ليْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الوَرِقِ صَدَقَةٌ"وَالأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَهَذَا دُونَ ذَلكَ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا يُسَامِحُ بِهِ صَاحِبُهُ إذَا نَقَصَ تَبَرُّعًا، فَلوْ طَالبَ بِنُقْصَانِ الحَبَّةِ كَانَ لهُ ذَلكَ، وَوَجَبَ دَفْعُهَا إليْهِ وَاَللهُ أَعْلمُ.
فرع: لوْ نَقَصَ نِصَابُ الذَّهَبِ أَوْ الفِضَّةِ حَبَّةً وَنَحْوَهَا فِي بَعْضِ المَوَازِينِ، وَكَانَ تَامًّا فِي بَعْضِهَا فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَالرَّافِعِيُّ، أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ المَحَامِليُّ وَالمَاوَرْدِيُّ وَالبَنْدَنِيجِيّ وَآخَرُونَ: لا تَجِبُ للشَّكِّ فِي بُلوغِ النِّصَابِ، وَالأَصْل عَدَمُ الوُجُوبِ وَعَدَمُ النِّصَابِ، والثاني: تَجِبُ، وَهُوَ قَوْل الصَّيْدَلانِيِّ، حَكَاهُ عَنْهُ إمَامُ الحَرَمَيْنِ، وَغَلطَهُ فِيهِ وَشَنَّعَ عَليْهِ، وَبَالغَ فِي الشَّنَاعَةِ وَقَال: الصَّوَابُ لا تَجِبُ للشَّكِّ فِي النِّصَابِ.
الرابعة: لا يُضَمُّ الذَّهَبُ إلى الفِضَّةِ، وَلا هِيَ إليْهِ فِي إتْمَامِ النِّصَابِ بِلا خِلافٍ كَمَا لا يُضَمُّ التَّمْرُ إلى الزَّبِيبِ، وَيَكْمُل النَّوْعُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالنَّوْعِ الآخَرِ، وَالجَيِّدُ بِالرَّدِيءِ وَالمُرَادُ بِالجَوْدَةِ النُّعُومَةُ، وَالصَّبْرُ عَلى الضَّرْبِ وَنَحْوُهُمَا وَبِالرَّدَاءَةِ الخُشُونَةُ، وَالتَّفَتُّتُ عِنْدَ الضَّرْبِ وَنَحْوُهُمَا، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
الخامسة: وَاجِبُ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ رُبْعُ العُشْرِ، سَوَاءٌ كَانَ نِصَابًا فَقَطْ، أَمْ زَادَ زِيَادَةً قَليلةً أَمْ كَثِيرَةً، وَدَليلهُ فِي الكِتَابِ.
السادسة: يُشْتَرَطُ لوُجُوبِ زَكَاتِهِمَا أَنْ يَمْلكَهُمَا حَوْلًا كَامِلًا بِلا خِلافٍ، فَلوْ مَلكَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مُعْظَمَ السَّنَةِ، ثُمَّ نَقَصَتْ وَلوْ نُقْصَانًا يَسِيرًا، ثُمَّ تَمَّتْ بَعْدَ سَاعَةٍ انْقَطَعَ الحَوْل الأَوَّل، وَلا زَكَاةَ حَتَّى يَمْضِيَ عَليْهَا حَوْلٌ كَامِلٌ، مِنْ حِينِ تَمَّتْ نِصَابًا، وَهَذَا لا خِلافَ فِيهِ، نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَاتَّفَقَ عَليْهِ الأَصْحَابُ، وَقَدْ أَخَل المُصَنِّفُ بِذِكْرِ اشْتِرَاطِ الحَوْل هُنَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ ذَكَرَهُ فِي التَّنْبِيهِ.
السابعة: إذَا كَانَ الذَّهَبُ أَوْ الفِضَّةُ الذِي وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ كُلهُ جَيِّدًا أَخْرَجَ جَيِّدًا مِنْهُ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنْ أَخْرَجَ دُونَهُ مَعِيبًا أَوْ رَدِيئًا أَوْ مَغْشُوشًا لمْ يُجْزِئْهُ، هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الأَصْحَابُ فِي كُل الطُّرُقِ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ عَنْ الصَّيْدَلانِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ قَال: وَهُوَ غَلطٌ، وَحَكَاهُ عَنْهُ إمَامُ الحَرَمَيْنِ فِيمَا إذَا كَانَ البَعْضُ جَيِّدًا وَالبَعْضُ رَدِيئًا فَأَخْرَجَ عَنْ الجَمِيعِ رَدِيئًا، قَال الصَّيْدَلانِيُّ: يُجْزِيهِ مَعَ الكَرَاهَةِ، قَال الإِمَامُ: وَهَذَا عِنْدِي خَطَأٌ مَحْضٌ صَرِيحٌ إذَا اخْتَلفَتْ القِيمَةُ، فَالصَّوَابُ مَا سَبَقَ أَنَّهُ لا يُجْزِيهِ بِلا خِلافٍ، وَهَل لهُ اسْتِرْجَاعُ المَعِيبِ وَالرَّدِيءِ وَالمَغْشُوشِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَوْ قَوْلانِ مَشْهُورَانِ، مَحْكِيَّانِ فِي الحَاوِي وَالشَّامِل وَالمُسْتَظْهَرَيْ وَالبَيَانِ وَغَيْرِهِمْ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ، أحدهما: ليْسَ لهُ الرُّجُوعُ؛ وَيَكُونُ مُتَطَوِّعًا؛ لأَنَّهُ أَخْرَجَ المَعِيبَ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالى، فَلمْ يَكُنْ لهُ اسْتِرْجَاعُهُ، كَمَا لوْ لزِمَهُ عِتْقُ رَقَبَةٍ سَليمَةٍ فَأَعْتَقَ مَعِيبَةً، فَإِنَّهَا تُعْتَقُ وَلا تُجْزِيهِ؛ وَلا رُجُوعَ لهُ بِلا خِلافٍ، والثاني: لهُ الرُّجُوعُ وَهُوَ الصَّحِيحُ

 

ج / 5 ص -349-       بِاتِّفَاقِ الأَصْحَابِ؛ لأَنَّهُ لمْ يُجْزِئْهُ عَنْ الزَّكَاةِ، فَجَازَ لهُ الرُّجُوعُ كَمَا لوْ عَجَّل الزَّكَاةَ فَتَلفَ مَالهُ قَبْل الحَوْل، قَال صَاحِبُ الشَّامِل: وَهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إذَا بَيَّنَ عِنْدَ الدَّفْعِ كَوْنَهَا زَكَاةَ هَذَا المَال بِعَيْنِهِ، فَإِنْ أَطْلقَ لمْ يَتَوَجَّهْ الرُّجُوعُ، وَجَزَمَ صَاحِبُ المُسْتَظْهِرِيِّ بِهَذَا الوَجْهِ الذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الشَّامِل، فَإِنْ قُلنَا بِالصَّحِيحِ: إنَّ لهُ اسْتِرْجَاعَهَا فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً أَخَذَهَا، فَإِنْ اسْتَهْلكَهَا المَسَاكِينُ أَخْرَجَ التَّفَاوُتَ. قَال ابْنُ سُرَيْجٍ: وَكَيْفِيَّةُ مَعْرِفَةِ ذَلكَ أَنْ يُقَوَّمَ المُخْرَجُ بِجِنْسٍ آخَرَ، فَيُعْرَفُ التَّفَاوُتُ، مِثَالهُ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ جَيِّدَةٍ، فَأَخْرَجَ عَنْهَا خَمْسَةً مَعِيبَةً، فَقَوَّمْنَا الخَمْسَةَ الجَيِّدَةَ بِذَهَبٍ، فَسَاوَتْ نِصْفَ دِينَارٍ، وَسَاوَتْ المَعِيبَةُ خُمُسَيْ دِينَارٍ، فَعَلمْنَا أَنَّهُ بَقِيَ عَليْهِ دِرْهَمٌ جَيِّدٌ.
هَذَا كُلهُ إذَا كَانَ كُل مَالهِ جَيِّدًا، فَإِنْ كَانَ كُلهُ رَدِيئًا كَفَاهُ الإِخْرَاجُ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ رَدِيءٍ مِثْلهِ، وَهَذَا لا خِلافَ فِيهِ، وَإِنْ تَبَرَّعَ، فَأَخْرَجَ أَجْوَدَ مِنْهُ أَجْزَأَهُ وَكَانَ خَيْرًا وَأَفْضَل، وَإِنْ كَانَتْ الفِضَّةُ أَوْ الذَّهَبُ أَنْوَاعًا بَعْضُهَا جَيِّدٌ وَبَعْضُهَا رَدِيءٌ أَوْ بَعْضُهَا أَجْوَدُ مِنْ بَعْضٍ. فَإِنْ قَلتْ الأَنْوَاعُ وَجَبَ مِنْ كُل نَوْعٍ بِقِسْطِهِ وَإِنْ كَثُرَتْ وَشَقَّ اعْتِبَارُ الجَمِيعِ أَخْرَجَ مِنْ أَوْسَطِهَا لا مِنْ الأَجْوَدِ وَلا مِنْ الأَرْدَأِ، كَمَا سَبَقَ فِي الثِّمَارِ. وَيَجُوزُ إخْرَاجُ الصَّحِيحِ عَنْ المَكْسُورِ، وَقَدْ زَادَ خَيْرًا، وَلا يَجُوزُ عَكْسُهُ. بَل إذَا لزِمَهُ دِينَارٌ جَمَعَ المُسْتَحَقِّينَ وَسَلمَهُ إليْهِمْ كُلهِمْ بِأَنْ يُسَلمَهُ إلى وَاحِدٍ بِإِذْنِ البَاقِينَ، وَإِنْ وَجَبَ نِصْفُ دِينَارٍ وَسَلمَ إليْهِمْ دِينَارًا كَامِلًا نِصْفُهُ عَنْ الزَّكَاةِ وَنِصْفُهُ يَبْقَى لهُ مَعَهُمْ أَمَانَةً، فَإِذَا تَسَلمُوهُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْ الزَّكَاةِ، ثُمَّ يَتَفَاصَل هُوَ وَهُمْ فِي الدِّينَارِ بِأَنْ يَبِيعُوهُ لأَجْنَبِيٍّ، وَيَتَقَاسَمُوا ثَمَنَهُ أَوْ يَشْتَرُوا مِنْهُ نَصِيبَهُ أَوْ يَشْتَرِي نَصِيبَهُمْ لكِنْ يُكْرَهُ لهُ شِرَى صَدَقَتِهِ مِمَّنْ تَصَدَّقَ عَليْهِ، سَوَاءٌ الزَّكَاةُ وَصَدَقَةُ التَّطَوُّعِ. كَمَا سَنُوَضِّحُهُ فِي آخِرِ قِسْمِ الصَّدَقَاتِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى، وَهَذَا الذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لا يُجْزِئُ المُكَسَّرُ عَنْ الصَّحِيحِ هُوَ المَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الأَصْحَابِ. قَال الرَّافِعِيُّ: وَحُكِيَ وَجْهٌ ثَانٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَصْرِفَ إلى كُل مِسْكِينٍ حِصَّتَهُ مُكَسَّرًا وَوَجْهٌ ثَالثٌ: أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلكَ لكِنْ مَعَ التَّفَاوُتِ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالمُكَسَّرِ، وَوَجْهٌ رَابِعٌ: أَنَّهُ يَجُوزُ إذَا لمْ يَكُنْ بَيْنَ الصَّحِيحِ وَالمُكَسَّرِ فَرْقٌ فِي المُعَامَلةِ وَالصَّوَابُ الأَوَّل.
الثامنة: إذَا كَانَ لهُ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ مَغْشُوشَةٌ، فَلا زَكَاةَ فِيهَا حَتَّى يَبْلغَ خَالصُهَا نِصَابًا، هَكَذَا نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَالمُصَنِّفُ وَجَمِيعُ الأَصْحَابِ فِي كُل الطُّرُقِ إلا السَّرَخْسِيَّ، فَقَال فِي الأَمَالي: لا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي مِائَتَيْنِ مِنْ الفِضَّةِ المَغْشُوشَةِ، وَمَتَى تَجِبُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: إذَا بَلغَتْ قَدْرًا تَكُونُ الفِضَّةُ الخَالصَةُ فِيهَا مِائَتَيْنِ، وَلا تَجِبُ فِيمَا دُونَ ذَلكَ، والثاني: إذَا بَلغَتْ قَدْرًا لوْ ضُمَّتْ إليْهِ قِيمَةُ الغِشِّ مِنْ النُّحَاسِ أَوْ غَيْرِهِ لبَلغَ نِصَابًا تَجِبُ، وَهَذَا الوَجْهُ الذِي انْفَرَدَ بِهِ السَّرَخْسِيُّ غَلطٌ مَرْدُودٌ بِقَوْلهِ صلى الله عليه وسلم
"وَليْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الوَرِقِ صَدَقَةٌ"وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَلوْ كَانَ مَعَهُ أَلفُ دِرْهَمٍ مَغْشُوشَةٌ. فَأَخْرَجَ عَنْهَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ خَالصَةً قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالى: أَجْزَأَهُ وَقَدْ زَادَ خَيْرًا، وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ بِالزِّيَادَةِ، وَلوْ أَخْرَجَ عَلى مِائَتَيْنِ خَالصَةٍ خَمْسَةً مَغْشُوشَةً فَقَدْ سَبَقَ فِي المَسْأَلةِ السَّابِعَةِ أَنَّهُ لا يُجْزِيه وَأَنَّ لهُ اسْتِرْدَادَهَا عَلى الصَّحِيحِ، وَلوْ أَخْرَجَ عَنْ الأَلفِ المَغْشُوشَةِ مَغْشُوشَةً يَعْلمُ أَنَّ فِيهَا مِنْ الفِضَّةِ رُبْعَ العُشْرِ أَجْزَأَهُ، بِأَنْ كَانَ الغِشُّ فِيهَا سَوَاءً، فَأَخْرَجَ مِنْهَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ، فَإِنْ جَهِل قَدْرَ الفِضَّةِ فِيهَا مَعَ عِلمِهِ بِبُلوغِهَا نِصَابًا، فَهُوَ

 

ج / 5 ص -350-       بِالخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَسْبِكَهَا وَيُخْرِجَ رُبْعَ عُشْرِ خَالصِهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَحْتَاطَ وَيُخْرِجَ مَا يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ فِيهِ رُبْعُ عُشْرِ خَالصِهَا، فَإِنْ سَبَكَهَا فَفِي مُؤْنَةِ السَّبْكِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ الحَاوِي وَالمُسْتَظْهَرَيْ (الصَّحِيحُ) مِنْهُمَا أَنَّهَا عَلى المَالكِ؛ لأَنَّهَا للتَّمَكُّنِ مِنْ الأَدَاءِ، فَكَانَتْ عَلى المَالكِ كَمُؤْنَةِ الحَصَادِ، والثاني: تَكُونُ مِنْ المَسْبُوكِ؛ لأَنَّهُ لتَخْليصِ المُشْتَرَكِ.
قَال أَصْحَابُنَا: وَمَتَى ادَّعَى رَبُّ المَال أَنَّ قَدْرَ الخَالصِ فِي المَغْشُوشِ كَذَا وَكَذَا، فَالقَوْل قَوْلهُ، فَإِنْ اتَّهَمَهُ السَّاعِي حَلفَهُ اسْتِحْبَابًا بِلا خِلافٍ؛ لأَنَّ قَوْلهُ لا يُخَالفُ الظَّاهِرَ، قَال البَنْدَنِيجِيُّ: فَإِنْ قَال رَبُّ المَال: لا أَعْلمُ قَدْرَ الفِضَّةِ عِلمًا لكِنِّي اجْتَهَدْتُ فَأَدَّى اجْتِهَادِي إلى كَذَا لمْ يَكُنْ للسَّاعِي أَنْ يَقْبَل مِنْهُ حَتَّى يَشْهَدَ بِهِ شَاهِدَانِ مِنْ أَهْل الخِبْرَةِ بِذَلكَ.
فرع: لوْ كَانَ لهُ إنَاءٌ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَزْنُهُ أَلفٌ، مِنْ أَحَدِهِمَا سِتُّمِائَةٌ وَمَنْ الآخَرِ أَرْبَعُمِائَةٍ وَلا يَعْرِفُ أَيُّهُمَا الذَّهَبُ، قَال أَصْحَابُنَا: إنْ احْتَاطَ فَزَكَّى سِتَّمِائَةَ ذَهَبًا وَسِتَّمِائَةَ فِضَّةً أَجْزَأَهُ، فَإِنْ لمْ يَحْتَطْ، فَطَرِيقُهُ أَنْ يُمَيِّزَهُ بِالنَّارِ، قَال أَصْحَابُنَا الخُرَاسَانِيُّونَ: وَيَقُومُ مَقَامَ النَّارِ الامْتِحَانُ بِالمَاءِ بِأَنْ يُوضَعَ قَدْرُ المَخْلوطِ مِنْ الذَّهَبِ الخَالصِ فِي مَاءٍ، وَيُعَلمَ عَلى المَوْضِعِ الذِي يَرْتَفِعُ إليْهِ المَاءُ، ثُمَّ يُخْرَج وَيُوضَع مِثْلهُ مِنْ الفِضَّةِ الخَالصَةِ، وَيُعَلمُ عَلى مَوْضِعِ الارْتِفَاعِ، وَهَذَا يَقَعُ فَوْقَ الأَوْلى؛ لأَنَّ أَجْزَاءَ الذَّهَبِ أَكْثَرُ اكْتِنَازًا، ثُمَّ يُوضَعَ فِيهِ المَخْلوطُ وَيُنْظَرَ ارْتِفَاعُ المَاءِ بِهِ، أَهُوَ إلى عَلامَةِ الذَّهَبِ أَقْرَبُ أَمْ إلى عَلامَةِ الفِضَّةِ؟ وَيُزَكَّى كَذَلكَ وَلوْ غَلبَ عَلى ظَنِّهِ الأَكْثَرُ مِنْهُمَا. قَال الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالعِرَاقِيُّونَ: إنْ كَانَ يُخْرِجُ الزَّكَاةَ بِنَفْسِهِ فَلهُ اعْتِمَادُ ظَنِّهِ وَإِنْ دَفَعَهُ إلى السَّاعِي لمْ يُقْبَل ظَنُّهُ، بَل يَلزَمُهُ الاحْتِيَاطُ أَوْ التَّمْيِيزُ. وَقَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: الذِي قَطَعَ بِهِ أَئِمَّتُنَا أَنَّهُ لا يَجُوزُ اعْتِمَادُ ظَنِّهِ، قَال: وَيُحْتَمَل أَنْ يَجُوزَ الأَخْذُ مِمَّا شَاءَ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ؛ لأَنَّ اشْتِغَال ذِمَّتِهِ بِغَيْرِ ذَلكَ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَجَعَل الغَزَاليُّ فِي الوَسِيطِ هَذَا الاحْتِمَال وَجْهًا.
فرع: قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ رحمهم الله: يُكْرَهُ للإِمَامِ ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ المَغْشُوشَةِ، للحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال:
"مَنْ غَشَّنَا فَليْسَ مِنَّا"رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَلأَنَّ فِيهِ إفْسَادًا للنُّقُودِ وَإِضْرَارًا بِذَوِي الحُقُوقِ وَغَلاءَ الأَسْعَارِ، وَانْقِطَاعَ الأَجْلابِ، وَغَيْرَ ذَلكَ مِنْ المَفَاسِدِ. قَال أَصْحَابُنَا: وَيُكْرَهُ لغَيْرِ الإِمَامِ ضَرْبُ المَغْشُوشِ لمَا ذَكَرْنَا فِي الإِمَامِ؛ وَلأَنَّ فِيهِ افْتِئَاتًا عَلى الإِمَامِ، وَلأَنَّهُ يَخْفَى فَيَغْتَرُّ بِهِ النَّاسُ بِخِلافِ ضَرْبِ الإِمَامِ، قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي المُجَرَّدِ وَغَيْرُهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يقول محمد نجيب المطيعي محققه وصاحب تكملته:
هذا بانسبة للنقود الحقيقية أعني الت تقوم بوزنها, أما النقود في عصرنا هذا فإنها رمزية حيث أصبحت النقود نظاما معقدا اختلف حول مناهجه الباحثون في علوم الاقتصاد وتبعا لاختلاف النظم الاقتصادية والسياسية بين أمم الأرض, إذ تتوقف النظرة إلى النقود على رأي كل باحث في المشكلات الاقتصادية ووسائل علاجها,ثم ينتقل الباحث بشيء من الإسهاب إلى المقايضة واهتداء الناس وسيط مقبول في المبادلات ومن هنا اهتدوا إلى==

 

ج / 5 ص -351-       مِنْ الأَصْحَابِ: قَال أَصْحَابُنَا: وَيُكْرَهُ أَيْضًا لغَيْرِ الإِمَامِ ضَرْبُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ1 إنْ كَانَتْ خَالصَةً؛

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
== النقود وما يقوم بدلها ولذلك يقول الاقتصاديون:
1- النقود أدوات معتمدة لقياس القيم واستيداعها وللوفاء بالالتزامات.
2- النقود هي الأشياء التي لاتطلب لذاتها وإنما تطلب لما تقدر على إنجازه.
3- النقود أدوات لتحريك الموارد والطاقات.
4- النقود هي كل مايستعمل مقياسا للقيم وواسطة للتبادل وأداة إدخار, فأي شيء يؤدي هذه الوظيفة يسمى نقدا دون اعتبار للمادة التى صنع منها.
ويجب أن نفرق بين الأموال والنقود, فالأموال أعم و النقود أخص فالأموال يقال لها في عصرنا الحاضر الثروة أو رأس المال أو كل شيء ملموس له قيمة اقتصادية سواء كان هذا الشيء ثابتا أم منقولا قصير الأجل كالطعام أم ممتدا كالدار.
وكان التعامل قديما يعتمد على المقايضة يتناول مالك السلعة عنها مقابل تنازل مالك أخر لسلعة أخرى ولا يتسنى هذا إلا إذا اتفق الطرفان على حاجة كل منهما لما عند الآخر واستغنائه إلى حد ما عما في يده وقد تضمنت طريقة المقايضة هذه متاعب كثيرة مثل:
1- توقفها على توافق الرغبات
2- تفاوت القيمة بين السلعتين مع استحالة تجزئة الكبيرة منها لتساوي بديلها كالفرق بين البقرة والشاة.
3- صعوبة تقدير لالقيم بالنسبة للسلع لتنوع الحاجات واختلاف المقادير المستخرجة والمنتجات المصنعة.
4- عدم تحقق فكرة الإدخار من طريق المقايضة, لأن الأساس الذي يقوم عليه تحقيق هذا الغرض أن يبقى الشيء المدخر بحيث لا تضيع قيمته أو تنقص مع مضي الأيام ولما كانت السلعة قابلة للتلف كانت فكرة إدخارها صعبة أو مستحيلة, ولمثل هذه الصعوبات أباح الشرع الحنيف التفاضل بين ما اختلفت أجناسه حتى لا تتعطل مصالح الناس وحرم التفاضل في المثلى لأجل هذا اهتدى الناس الى نظام النقود التى يجب أن يتوفر لها كوسيط أو وسيلة لقضاء الحاجات ما يأتي:
1- أن يكون مقبولا عند أفراد المجتمع قبولا عاما
2- أن يكون متين التركيب بحيث يتصف بالاحتمال كما يتصف أيضا بإمكان تجزئته.
3- أن يكون قابلا للحفظ حتى لا يشق مقله ولا يؤود الناس حفظه.
4- أن يتصف بالندرة النسبية. وهذه النقود قد مرت أول الأمر بدور مختلف باختلاف الأماكن والأزمان فقديما كانت بعض البلاد تتعامل بالبقر أوالغنم ولا تزال بقاياها إلى اليوم في السودان وقبائل إفريقيا وكانت في التبت (الشاي) وفي الهند الغرقبية (السكر) وفي أمريكا (الصدف) ثم التمس الناس مادة أخرى تكون أقوى على البقاء وتحقيق منفعة ثابتة فكانت النقود بمعناها الحقيقي وهي المعادن, فقد اتخذوها لسهولة نقلها وحفظها وتجزئتها, وكانت أول الأمر على شكل قضبان وصفائح وحلقات وقد استخدم الحديد أولا ثم أمكن استخدام السبائك من النحاس والبرونز في صنع قطع نقدية فتداولها الناس بضمان أصحابها لأنها كانت تحمل أسماءهم أو توسم بعلامات وسمات تدل عليها ولذلك كانت النقود دولة بين الأغنياء والصيارفة ثم انتشرت التجارة واتسعت معاملات الناس ومبادلاتهم فظهرت المعادن النفيسة تقوم بها الكميات الضخمة وكانت الفضة أكثر أنواع النقود استخداما أما ما كان مصنوعا من النحاس والبرونز فكان لتبادل الأشياء الصغيره, وكان الذهب نادرالاستعمال لايكاد يستعمل إلآ في المعاوضات الكبرى وكانت النقود الرومية مصنوعة على شكل أقراص مسطحة ثم صنعت نقود العرب على شكل سميك مستدير, وكان خالد بن الوليد على متا حققنا ذلك في كتاب "تاريخ النقود الإسلامية" وكتابنا "خالد والدعوة المحمدية" هو أول من ضرب الدرهم ونقش عليه(أبو سليمان) بالرومية ثم تلاه عبد الله بن الزبير فوضع على أحد وجهي الدرهم "محمد رسول الله"وعلى الوجه==

 

ج / 5 ص -352-       لأَنَّهُ مِنْ شَأْنِ الإِمَامِ؛ وَلأَنَّهُ لا يُؤْمَنُ فِيهِ الغِشُّ وَالإِفْسَادُ قَال القَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: قَال أَصْحَابُنَا: وَمَنْ مَلكَ دَرَاهِمَ مَغْشُوشَةً كُرِهَ لهُ إمْسَاكُهَا [بَل يَسْبِكُهَا وَيُصَفِّيهَا قَال القَاضِي: إلا إذَا كَانَتْ دَرَاهِمَ البَلدِ مَغْشُوشَةً، فَلا يُكْرَهُ إمْسَاكُهَا] وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه عَلى كَرَاهَةِ إمْسَاكِ المَغْشُوشِ وَاتَّفَقَ الأَصْحَابُ عَليْهِ؛ لأَنَّهُ يَغُرُّ بِهِ وَرَثَتَهُ إذَا مَاتَ وَغَيْرَهُمْ فِي الحَيَاةِ، كَذَا عَللهُ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
وَأَمَّا المُعَامَلةُ بِالدَّرَاهِمِ المَغْشُوشَةِ، فَإِنْ كَانَ الغِشُّ فِيهَا مُسْتَهْلكًا بِحَيْثُ لوْ صُفِّيَتْ لمْ يَكُنْ لهُ صُورَةٌ كَالدَّرَاهِمِ المَطْليَّةِ بِزِرْنِيخٍ وَنَحْوِهِ صَحَّتْ المُعَامَلةُ عَليْهَا بِالاتِّفَاقِ؛ لأَنَّ وُجُودَ هَذَا الغِشِّ كَالعَدَمِ، وَإِنْ لمْ يَكُنْ مُسْتَهْلكًا كَالمَغْشُوشِ بِنُحَاسٍ وَرَصَاصٍ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنْ كَانَتْ الفِضَّةُ فِيهَا مَعْلومَةً لا تَخْتَلفُ صَحَّتْ المُعَامَلةُ عَلى عَيْنِهَا الحَاضِرَةِ وَفِي الذِّمَّةِ أَيْضًا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَليْهِ، صَرَّحَ بِهِ المَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ العِرَاقِيِّينَ، وَإِمَامُ الحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ مِنْ الخُرَاسَانِيِّينَ، وَإِنْ كَانَتْ الفِضَّةُ التِي فِيهَا مَجْهُولةً فَفِي صِحَّةِ المُعَامَلةِ بِهَا مُعِينَةٌ، وَفِي الذِّمَّةِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ أصحها: الجَوَازُ فِيهَا؛ لأَنَّ المَقْصُودَ رَوَاجُهَا وَلا يَضُرُّ اخْتِلاطُهَا بِالنُّحَاسِ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ المَعْجُونَاتِ بِالاتِّفَاقِ، وَإِنْ كَانَتْ أَفْرَادُهَا مَجْهُولةَ المِقْدَارِ.
والثاني: لا يَصِحُّ؛ لأَنَّ المَقْصُودَ الفِضَّةُ وَهِيَ مَجْهُولةٌ، كَمَا نَصَّ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ أَنَّهُ لا يَجُوزُ بَيْعُ تُرَابِ المَعْدِنِ؛ لأَنَّ مَقْصُودَهُ الفِضَّةُ وَهِيَ مَجْهُولةٌ، كَمَا لا يَجُوزُ بَيْعُ اللبَنِ المَخْلوطِ بِالمَاءِ بِاتِّفَاقِ الأَصْحَابِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
== الآخر "أمر الله بالوفاء والعدل".
وكان سبب اصطلاح الناس جميعا واصطفاقهم على استعمال الذهب والفضة ما أودعه الله تبارك وتعالى من خصائص في هذين        المعدنين نجملها فيما يأتي:
1- ثباتهما وعدم تغيرهما بملامسة الماء او الهواء لما فيهما من خواص تكسبهما مناعة ضد التآكل والصدأ وانطفاء البريق وقلة الجودة كالمعدن الأخرى.
2- ثبات القيمة نسبيا لأن النقد إذا كان منقلبا غير مستقر فإنه يؤثر على الرخاء العام وعلى الحياة الإقتصادية فلا يكون معيارا دقيقا ثابتا تقدر به الأشياء
3- تجانسهما في كل أنحاء العالم إذ لايستطيع الإنسان بالغا مابلغ حدقه أن يميز بين الذهب الذي يستخرج من قارة استرالبا والذي يستخرج من نيجيريا أو غيرهما ولذا كان السعر واحد في جميع أسواق العالم.
4- إمكان تجزئتهما مع بقاء قيمتهما.
5- التنويع بهما وإمكان صنعهما على أشكال ونقوش يتزين بها النساء.
6- صعوبة الغش فيهما بسهولة تمييز بنقوش أو صور وعبارات تحدد قيمة التعامل بهذه القراطيس وهي مستندات يقابلها في العادة رصيد معدني من الذهب والفضة, وصارت كتعهد بدفع قدر محدد من الذهب أو الفضة وتنحصر النقود الورقية في ثلاثة أنواع: نائبة ووثيقة والزامية.
ولكل نوع من هذه الأنواع شرح ليس هذا مكانه, والمهم هنا أن نسوق ما سقناه ليتبين لنا أصل الناقدين وسنزيد البحث إضافة أخرى في الجزء العاشر إن شاء الله تعالى في بحث أبواب الربا هدانا الله سواء السبيل.

 

ج / 5 ص -353-       والثالث: تَصِحُّ المُعَامَلةُ بِأَعْيَانِهَا وَلا يَصِحُّ التِزَامُهَا فِي الذِّمَّةِ، كَمَا لا يَصِحُّ بَيْعُ الجَوَاهِرِ وَالحِنْطَةِ المُخْتَلطَةِ بِالشَّعِيرِ مَعِيبَةً وَلا يَصِحُّ السَّلمُ فِيهَا وَلا قَرْضُهَا.
والرابع: إنْ كَانَ الغِشُّ فِيهَا غَالبًا لمْ يَجُزْ وَإِلا فَيَجُوزُ. قَال أَصْحَابُنَا: فَإِنْ قُلنَا بِالأَصَحِّ، فَبَاعَهُ بِدَرَاهِمَ مُطْلقًا وَنَقْدُ البَلدِ مَغْشُوشٌ صَحَّ العَقْدُ وَوَجَبَ مِنْ ذَلكَ النَّقْدِ، وَإِنْ قُلنَا بِالآخَرِينَ لمْ يَصِحَّ هَكَذَا ذَكَرَ الخُرَاسَانِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ المَسْأَلةَ. قَال الصَّيْمَرِيُّ وَصَاحِبُهُ صَاحِبُ الحَاوِي: إذَا كَانَ قَدْرُ الفِضَّةِ فِي المَغْشُوشَةِ مَجْهُولًا، فَلهُ حَالانِ: أحدهما: أَنْ يَكُونَ الغِشُّ بِشَيْءٍ مَقْصُودٍ لهُ قِيمَةٌ كَالنُّحَاسِ. وَهَذَا لهُ صُورَتَانِ: إحداهما: أَنْ تَكُونَ الفِضَّةُ غَيْرَ مُمَازِجَةٍ للغِشِّ، كَالفِضَّةِ عَلى النُّحَاسِ، فَلا تَصِحُّ المُعَامَلةُ بِهَا لا فِي الذِّمَّةِ وَلا بِعَيْنِهِ؛ لأَنَّ المَقْصُودَ الآخَرَ غَيْرُ مَعْلومٍ وَلا مُشَاهَدٍ، فَلا تَصِحُّ المُعَامَلةُ بِهَا، كَالفِضَّةِ المَطْليَّةِ بِذَهَبٍ، الثانية: أَنْ تَكُونَ الفِضَّةُ مُمَازِجَةً للنُّحَاسِ، فَلا تَجُوزُ المُعَامَلةُ بِهَا فِي الذِّمَّةِ للجَهْل بِهَا، كَمَا لا يَجُوزُ السَّلمُ فِي المَعْجُونَاتِ، وَفِي جَوَازِهَا عَلى أَعْيَانِهَا وَجْهَانِ: أصحهما: وَبِهِ قَال أَبُو سَعِيدٍ الإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو عَليٍّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: يَصِحُّ كَمَا يَصِحُّ بَيْعُ حِنْطَةٍ مَخْلوطَةٍ بِشَعِيرٍ، وَكَالمَعْجُونَاتِ وَإِنْ لمْ يَجُزْ السَّلمُ بِخِلافِ تُرَابِ المَعَادِنِ؛ لأَنَّ التُّرَابَ غَيْرُ مَقْصُودٍ.
 الحال الثاني: أَنْ يَكُونَ الغِشُّ بِشَيْءٍ مُسْتَهْلكٍ لا قِيمَةَ لهُ حِينَئِذٍ كَالزِّئْبَقِ وَالزِّرْنِيخِ، فَإِنْ كَانَا مُمْتَزِجِينَ لمْ تَجُزْ المُعَامَلةُ بِهَا فِي الذِّمَّةِ وَلا مُعَيَّنَةٍ؛ لأَنَّ المَقْصُودَ مَجْهُولٌ مُمْتَزِجٌ كَتُرَابِ المَعْدِنِ. وَإِنْ لمْ يَكُونَا مُمْتَزِجَيْنِ بَل كَانَتْ الفِضَّةُ عَلى ظَاهِرِ الزِّرْنِيخِ وَالزِّئْبَقِ صَارَتْ المُعَامَلةُ بِأَعْيَانِهَا؛ لأَنَّ المَقْصُودَ مُشَاهَدٌ وَلا يَجُوزُ فِي الذِّمَّةِ؛ لأَنَّ المَقْصُودَ مَجْهُولٌ. هَذَا كُلهُ لفْظُ صَاحِبِ الحَاوِي قَال صَاحِبُ الحَاوِي وَغَيْرُهُ: وَالحُكْمُ فِي الدَّنَانِيرِ المَغْشُوشَةِ كَهُوَ فِي الدَّرَاهِمِ المَغْشُوشَةِ كَمَا سَبَقَ، وَلا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَلا بِالدَّنَانِيرِ الخَاصَّةِ، وَكَذَا لا يَجُوزُ بَيْعُ دَرَاهِمَ مَغْشُوشَةٍ بِمَغْشُوشَةٍ وَلا بِخَالصَةٍ وَسَتَأْتِي المَسْأَلةُ وَاضِحَةً فِي بَابِ الرِّبَا إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى. قَال صَاحِبُ الحَاوِي: وَلوْ أَتْلفَ وَسَتَأْتِي المَسْأَلةُ وَاضِحَةً فِي بَابِ الرِّبَا إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى. قَال صَاحِبُ الحَاوِي: وَلوْ أَتْلفَ الدَّرَاهِمَ المَغْشُوشَةَ إنْسَانٌ لزِمَهُ قِيمَتُهَا ذَهَبًا؛ لأَنَّهُ لا مِثْل لهَا: هَذَا كَلامُهُ وَهُوَ تَفْرِيعٌ عَلى طَرِيقَتِهِ، وَإِلا فَالأَصَحُّ ثُبُوتُهَا فِي الذِّمَّةِ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ مَضْبُوطَةً فَيَجِبُ مِثْلهَا، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
فرع: جَرَتْ عَادَةُ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا المَوْضِعِ بِتَفْسِيرِ الكَنْزِ المَذْكُورِ فِي قَوْلهِ تَبَارَكَ وَتَعَالى:
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[التوبة: 34] وَجَاءَ الوَعِيدُ عَلى الكَنْزِ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، قَال أَصْحَابُنَا وَجُمْهُورُ العُلمَاءِ: المُرَادُ بِالكَنْزِ المَال الذِي لا تُؤَدَّى زَكَاتُهُ؛ سَوَاءٌ كَانَ مَدْفُونًا أَمْ ظَاهِرًا. فَأَمَّا مَا أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ فَليْسَ بِكَنْزٍ، سَوَاءٌ كَانَ مَدْفُونًا أَمْ بَارِزًا. وَمِمَّنْ قَال بِهِ مِنْ أَعْلامِ المُحَدِّثِينَ البُخَارِيُّ فَقَال فِي صَحِيحِهِ: مَا أُدِّيَتْ زَكَاتُهُ فَليْسَ بِكَنْزٍ لقَوْل النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "ليْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ". ثُمَّ رَوَى البُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا قَال لابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما "الذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالفِضَّةَ" فَقَال ابْنُ عُمَرَ: "مَنْ كَنَزَهَا فَلمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهَا فَوَيْلٌ لهُ، إنَّمَا كَانَ هَذَا قَبْل أَنْ تَنْزِل الزَّكَاةُ، فَلمَّا نَزَلتْ جَعَلهَا اللهُ تَعَالى طُهْرًا للأَمْوَال "وَهَذَا الحَدِيثُ فِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ مُسْنَدٌ مُتَّصِل الإِسْنَادِ.
وَقَدْ غَلطَ بَعْضُ المُصَنَّفِينَ فِي أَحْكَامِ الحَدِيثِ فِي قَوْلهِ: ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ تَعْليقًا وَسَبَبُ غَلطِهِ أَنَّ

 

ج / 5 ص -354-       البُخَارِيَّ قَال: قَال أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ، وَذَكَرَ إسْنَادَهُ، وَأَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ أَحَدُ شُيُوخِ البُخَارِيِّ المَشْهُورِينَ، وَقَدْ عَلمَ أَهْل العِنَايَةِ بِصِيغَةِ الحَدِيثِ أَنَّ مِثْل هَذِهِ الصِّيغَةِ إذَا اسْتَعْمَلهَا البُخَارِيُّ فِي شَيْخِهِ كَانَ الحَدِيثُ مُتَّصِلًا، وَإِنَّمَا المُعَلقُ مَا أُسْقِطَ فِي أَوَّل إسْنَادِهِ وَاحِدٌ فَأَكْثَرُ. وَكُل هَذَا مُوضَعٌ فِي عُلومِ الحَدِيثِ1، وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ دِينَارٍ قَال: سَمِعْت ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما وَهُوَ يَسْأَل عَنْ الكَنْزِ مَا هُوَ؟ فَقَال: "هُوَ المَال الذِي لا تُؤَدَّى مِنْهُ الزَّكَاةُ "رَوَاهُ مَالكٌ فِي المُوَطَّأِ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال "إذَا أَدَّيْت زَكَاةَ مَالكَ فَقَدْ قَضَيْت مَا عَليْك"رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَال: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال: "لمَّا نَزَلتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}كَبُرَ ذَلكَ عَلى المُسْلمِينَ، فَقَال عُمَرُ رضي الله عنه: أَنَا أُفَرِّجُ عَنْكُمْ، فَانْطَلقُوا فَقَالوا: يَا نَبِيَّ اللهِ إنَّهُ كَبُرَ عَلى أَصْحَابِك هَذِهِ الآيَةُ، فَقَال صلى الله عليه وسلم إنَّ اللهَ تَعَالى لمْ يَفْرِضْ الزَّكَاةَ إلا ليُطَيِّبَ بِهَا مَا بَقِيَ مِنْ أَمْوَالكُمْ، وَإِنَّمَا فَرَضَ المَوَارِيثَ لتَكُونَ لمَنْ بَعْدَكُمْ، فَكَبَّرَ عُمَرُ رضي الله عنه ثُمَّ قَال: أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ مَا يُكْنَزُ؟ المَرْأَةُ الصَّالحَةُ، إذَا نَظَرَ إليْهَا سَرَّتْهُ، وَإِذَا أَمَرَهَا أَطَاعَتْهُ، وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي أَوَاخِرِ كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ سُنَنِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلى شَرْطِ مُسْلمٍ.
وَعَنْ أُمِّ سَلمَةَ رضي الله عنها قَالتْ:
"كُنْت أَلبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَقُلت: يَا رَسُول اللهِ أَكَنْزٌ هُوَ؟ فَقَال: مَا بَلغَ أَنْ تُؤَدِّيَ زَكَاتَهُ فَزُكِّيَ فَليْسَ بِكَنْزٍ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي أَوَّل كِتَابِ الزَّكَاةِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. قَال صَاحِبُ الحَاوِي: قَال الشَّافِعِيُّ: الكَنْزُ مَا لمْ تُؤَدِّ زَكَاتَهُ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا، وَمَا أَدَّيْت زَكَاتَهُ فَليْسَ بِكَنْزٍ وَإِنْ كَانَ مَدْفُونًا. قَال: وَاعْتَرَضَ عَليْهِ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ دَاوُد، فَقَال ابْنُ دَاوُد: الكَنْزُ فِي اللغَةِ المَال المَدْفُونُ، سَوَاءٌ أَدَّيْت زَكَاتَهُ أَمْ لا، وَزَعَمَ أَنَّهُ المُرَادُ بِالآيَةِ. وَقَال ابْنُ جَرِيرٍ: الكَنْزُ المُحَرَّمُ فِي الآيَةِ هُوَ مَا لمْ تُنْفِقْ مِنْهُ فِي سَبِيل اللهِ فِي الغَزْوِ، قَال: وَكُلٌّ مِنْ الاعْتِرَاضَيْنِ غَلطٌ، وَالصَّوَابُ قَوْل الشَّافِعِيِّ يَدُل عَليْهِ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأَقْوَال الصَّحَابَةِ، وَاَللهُ أَعْلمُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وقد أسهمنا في كتابنا "تبسيط علوم الحديث وأدب الرواية" في هذا الباب ومثله ماتقر به أعين المحدثين (ط).

فَصْلٌ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ
وَمَبْدَأُ أَمْرِهِمَا فِي الإِسْلامِ وَضَبْطُ مِقْدَارِهِمَا
قَال الإِمَامُ أَبُو سُليْمَانَ الخَطَّابِيُّ فِي مَعَالمِ السُّنَنِ فِي أَوَّل كِتَابِ البَيْعِ فِي بَابِ المِكْيَال: مِكْيَال أَهْل المَدِينَةِ، وَالمِيزَانُ مِيزَانُ أَهْل مَكَّةَ. قَال: مَعْنَى الحَدِيثِ أَنَّ الوَزْنَ الذِي يَتَعَلقُ بِهِ حَقُّ الزَّكَاةِ وَزْنُ أَهْل مَكَّةَ، وَهِيَ دَرَاهِمُ الإِسْلامِ المُعَدَّلةِ مِنْهَا العَشَرَةُ بِسَبْعَةِ مَثَاقِيل، لأَنَّ الدَّرَاهِمَ مُخْتَلفَةُ الأَوْزَانِ فِي البُلدَانِ، فَمِنْهَا البَغْليُّ وَهُوَ ثَمَانِيَةُ دَوَانِيقَ، وَالطَّبَرِيُّ أَرْبَعَةُ دَوَانِيقَ، وَمِنْهَا الخُوَارِزْمِيُّ وَغَيْرُهَا مِنْ

 

ج / 5 ص -355-       الأَنْوَاعِ، وَدَرَاهِمُ الإِسْلامِ فِي جَمِيعِ البُلدَانِ سِتَّةُ دَوَانِيقَ وَهُوَ وَزْنُ أَهْل مَكَّةَ الجَارِي بَيْنَهُمْ. وَكَانَ أَهْل المَدِينَةِ يَتَعَامَلونَ بِالدَّرَاهِمِ عَدَدًا وَقْتَ قُدُومِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَيَدُل عَليْهِ قَوْل عَائِشَةَ رضي الله عنها فِي قِصَّةِ شِرَاهَا بَرِيرَةَ "إنْ شَاءَ أَهْلك أَنْ أَعُدَّهَا لهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً فَعَلت "تُرِيدُ الدَّرَاهِمَ، فَأَرْشَدَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى الوَزْنِ، وَجَعَل المِعْيَارَ وَزْنَ أَهْل مَكَّةَ.
قَال: وَاخْتَلفُوا فِي حَال الدَّرَاهِمِ فَقَال بَعْضُهُمْ: لمْ تَزَل الدَّرَاهِمُ عَلى هَذَا العِيَارِ فِي الجَاهِليَّةِ وَالإِسْلامِ، وَإِنَّمَا غَيَّرُوا السِّكَكَ وَنَقَشُوهَا بِسِكَّةِ الإِسْلامِ، وَالأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَلهَذَا قَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:
"ليْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الوَرِقِ صَدَقَةٌ وَهِيَ مِائَتَا دِرْهَمٍ"قَال: وَهَذَا قَوْل أَبِي العَبَّاسِ بْنِ سُرَيْجٍ. وَقَال أَبُو عُبَيْدٍ: حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْل العِلمِ وَالعِنَايَةِ بِأَمْرِ النَّاسِ مِمَّنْ يَعْنِي بِهَذَا الشَّأْنِ أَنَّ الدَّرَاهِمَ كَانَتْ فِي الجَاهِليَّةِ ضَرْبَيْنِ: البَغْليَّةُ السَّوْدَاءُ ثَمَانِيَةُ دَوَانِيقَ، وَالطَّبَرِيَّةُ أَرْبَعَةٌ وَكَانُوا يَسْتَعْمِلونَهَا مُنَاصَفَةً مِائَةٌ بَغْليَّةٌ وَمِائَةٌ طَبَرِيَّةٌ، فَكَانَ فِي المِائَتَيْنِ مِنْهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ زَكَاةً، فَلمَّا كَانَ زَمَنُ بَنِي أُمَيَّةَ قَالوا: إنْ ضَرَبْنَا البَغْليَّةَ ظَنَّ النَّاسُ أَنَّهَا التِي تُعْتَبَرُ فِيهَا الزَّكَاةُ فَيَضُرُّ الفُقَرَاءَ، وَإِنْ ضَرَبْنَا الطَّبَرِيَّةَ ضُرَّ أَرْبَابُ الأَمْوَال، فَجَمَعُوا الدِّرْهَمَ البَغْليَّ وَالطَّبَرِيَّ وَجَعَلوهُمَا دِرْهَمَيْنِ كُل دِرْهَمٍ سِتَّةُ دَوَانِيقَ، وَأَمَّا الدِّينَارُ فَكَانَ يُحْمَل إليْهِمْ مِنْ بِلادِ الرُّومِ، فَلمَّا أَرَادَ عَبْدُ المَلكِ بْنُ مَرْوَانَ ضَرْبَ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ، سَأَل عَنْ أَوْزَانِ الجَاهِليَّةِ، فَأَجْمَعُوا لهُ عَلى أَنَّ المِثْقَال اثْنَانِ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا إلا حَبَّةً بِالشَّامِيِّ، وَأَنَّ عَشَرَةً مِنْ الدَّرَاهِمِ سَبْعَةُ مَثَاقِيل فَضَرَبَهَا كَذَلكَ، هَذَا آخِرُ كَلامِ الخَطَّابِيِّ.
وَقَال المَاوَرْدِيُّ فِي الأَحْكَامِ السُّلطَانِيَّةِ: اسْتَقَرَّ فِي الإِسْلامِ وَزْنُ الدِّرْهَمِ سِتَّةَ دَوَانِيقَ وَكُل عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سَبْعَةُ مَثَاقِيل. وَاخْتُلفَ فِي سَبَبِ اسْتِقْرَارِهَا عَلى هَذَا الوَزْنِ، فَقِيل: كَانَتْ فِي الفُرْسِ ثَلاثَةُ أَوْزَانٍ، مِنْهَا دِرْهَمٌ عَلى وَزْنِ المِثْقَال عِشْرُونَ قِيرَاطًا، وَدِرْهَمٌ اثْنَا عَشَرَ، وَدِرْهَمٌ عَشَرَةٌ، فَلمَّا اُحْتِيجَ فِي الإِسْلامِ إلى تَقْدِيرِهِ أُخِذَ الوَسَطُ مِنْ جَمِيعِ الأَوْزَانِ الثَّلاثَةِ وَهُوَ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ قِيرَاطًا، فَكَانَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا مِنْ قَرَارِيطِ المِثْقَال؛ وَقِيل: إنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه رَأَى الدَّرَاهِمَ مُخْتَلفَةً، مِنْهَا البَغْليُّ ثَمَانِيَةُ دَوَانِيقَ، وَالطَّبَرِيُّ أَرْبَعَةٌ، وَالمَغْرِبِيُّ ثَلاثَةُ دَوَانِيقَ، وَاليَمَنِيُّ دَانِقٌ وَاحِدٌ، فَقَال: اُنْظُرُوا أَغْلبَ مَا يَتَعَامَل النَّاسُ بِهِ مِنْ أَعْلاهَا وَأَدْنَاهَا؛ فَكَانَ البَغْليُّ وَالطَّبَرِيُّ، فَجَمَعَهُمَا فَكَانَا اثْنَيْ عَشَرَ دَانِقًا فَأَخَذَ نِصْفَهُمَا فَكَانَ سِتَّةَ دَوَانِيقَ فَجَعَلهُ دَرَاهِمَ الإِسْلامِ.
قَال: وَاخْتُلفَ فِي أَوَّل مَنْ ضَرَبَهَا فِي الإِسْلامِ فَحُكِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ أَنَّ أَوَّل مَنْ ضَرَبَهَا فِي الإِسْلامِ عَبْدُ المَلكِ بْنِ مَرْوَانَ، قَال أَبُو الزِّنَادِ: أَمَرَ عَبْدُ المَلكِ بِضَرْبِهَا فِي العِرَاقِ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ، وَقَال المَدَائِنِيُّ: بَل ضَرَبَهَا فِي آخِرِ سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِضَرْبِهَا فِي النَّوَاحِي سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ، قَال: وَقِيل: أَوَّل مَنْ ضَرَبَهَا مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ بِأَمْرِ أَخِيهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ. سَنَةَ سَبْعِينَ عَلى ضَرْبِ الأَكَاسِرَةِ ثُمَّ غَيَّرَهَا الحَجَّاجُ. هَذَا آخِرُ كَلامِ المَاوَرْدِيُّ
وَقَال القَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله تعالى: لا يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ الأُوقِيَّةُ وَالدَّرَاهِمُ مَجْهُولةً فِي زَمَنِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُوجِبُ الزَّكَاةَ فِي أَعْدَادٍ مِنْهَا وَتَقَعُ بِهَا البِيَاعَاتُ وَالأَنْكِحَةُ كَمَا ثَبَتَ فِي الأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. قَال: وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ قَوْل مَنْ زَعَمَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ لمْ تَكُنْ مَعْلومَةً إلى زَمَنِ عَبْدِ المَلكِ بْنِ

 

ج / 5 ص -356-       مَرْوَانَ وَأَنَّهُ جَمَعَهَا بِرَأْيِ العُلمَاءِ وَجَعَل كُل عَشَرَةٍ وَزْنَ سَبْعَةِ مَثَاقِيل، وَوَزْنُ الدِّرْهَمِ سِتَّةُ دَوَانِيقَ قَوْلٌ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَى مَا نُقِل مِنْ ذَلكَ أَنَّهُ لمْ يَكُنْ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ ضَرْب الإِسْلامِ وَعَلى صِفَةٍ لا تَخْتَلفُ، بَل كَانَتْ مَجْمُوعَاتٍ مِنْ ضَرْبِ فَارِسٍ وَالرُّومِ، وَصِغَارًا وَكِبَارًا وَقِطَعَ فِضَّةٍ غَيْرَ مَضْرُوبَةٍ وَلا مَنْقُوشَةٍ، وَيَمَنِيَّةً وَمَغْرِبِيَّةً، فَرَأَوْا صَرْفَهَا إلى ضَرْبِ الإِسْلامِ وَنَقْشِهِ وَتَصْيِيرَهَا وَزْنًا وَاحِدًا لا يَخْتَلفُ وَأَحْيَانًا يُسْتَغْنَى فِيهَا عَنْ المَوَازِينِ فَجَمَعُوا أَكْبَرَهَا وَأَصْغَرَهَا وَضَرَبُوهُ عَلى وَزْنِهِمْ. قَال القَاضِي: وَلا شَكَّ أَنَّ الدَّرَاهِمَ كَانَتْ حِينَئِذٍ مَعْلومَةً، وَإِلا فَكَيْفَ كَانَتْ تُعَلقُ بِهَا حُقُوقُ اللهِ تَعَالى فِي الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا وَحُقُوقُ العِبَادِ؟ وَهَذَا كَمَا كَانَتْ الأُوقِيَّةُ مَعْلومَةً أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا. هَذَا كَلامُ القَاضِي
وَقَال الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا: أَجْمَعَ أَهْل العَصْرِ الأَوَّل عَلى التَّقْدِيرِ بِهَذَا الوَزْنِ، وَهُوَ أَنَّ الدِّرْهَمَ سِتَّةُ دَوَانِيقَ كُل عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سَبْعَةُ مَثَاقِيل، وَلمْ يَتَغَيَّرْ المِثْقَال فِي الجَاهِليَّةِ وَلا الإِسْلامِ. هَذَا مَا ذَكَرَهُ العُلمَاءُ فِي ذَلكَ، وَالصَّحِيحُ الذِي يَتَعَيَّنُ اعْتِمَادُهُ أَنَّ الدَّرَاهِمَ المُطْلقَةَ فِي زَمَنِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَتْ مَعْلومَةَ الوَزْنِ مَعْرُوفَةَ المِقْدَارِ، وَهِيَ السَّابِقَةُ إلى الأَفْهَامِ عِنْدَ الإِطْلاقِ، وَبِهَا تَتَعَلقُ الزَّكَاةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الحُقُوقِ وَالمَقَادِيرِ الشَّرْعِيَّةِ، وَلا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا كَوْنُهُ كَانَ هُنَاكَ دَرَاهِمُ أُخْرَى أَقَل أَوْ أَكْثَرُ مِنْ هَذَا القَدْرِ، فَإِطْلاقُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الدَّرَاهِمَ مَحْمُولٌ عَلى المَفْهُومِ عِنْدَ الإِطْلاقِ، وَهُوَ كُل دِرْهَمٍ سِتَّةُ دَوَانِيقَ، وَكُل عَشَرَةٍ سَبْعَةُ مَثَاقِيل. وَأَجْمَعَ أَهْل العَصْرِ الأَوَّل فَمَنْ بَعْدَهُمْ إلى يَوْمِنَا عَلى هَذَا، وَلا يَجُوزُ أَنْ يُجْمِعُوا عَلى خِلافِ مَا كَانَ فِي زَمَنِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَخُلفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
وَأَمَّا مِقْدَارُ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ فَقَال الحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الحَقِّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَزْدِيُّ فِي كِتَابِهِ الأَحْكَامِ: قَال أَبُو مُحَمَّدٍ عَليُّ بْنُ أَحْمَدَ يَعْنِي ابْنَ حَزْمٍ بَحَثْت غَايَةَ البَحْثِ عَنْ كُل مَنْ وَثِقْت بِتَمْيِيزِهِ، فَكُلٌّ اتَّفَقَ عَلى أَنَّ دِينَارَ الذَّهَبِ بِمَكَّةَ وَزْنُهُ اثْنَتَانِ وَثَمَانُونَ حَبَّةً وَثَلاثَةُ أَعْشَارِ حَبَّةٍ مِنْ حَبِّ الشَّعِيرِ وَعُشْرُ عُشْرُ حَبَّةٍ، فَالرِّطْل مِائَةُ دِرْهَمٍ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةُ أَسْبَاعِ دِرْهَمٍ وَهُوَ تِسْعُونَ مِثْقَالًا، وَقِيل مِائَةٌ وَثَلاثُونَ دِرْهَمًا وَبِهِ قَطَعَ الغَزَاليُّ وَالرَّافِعِيُّ وَهُوَ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي نِصَابِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، وَضَمِّ أَحَدِهِمَا إلى الآخَرِ وَغَيْرِ ذَلكَ، وَفِيهِ مَسَائِل:
إحداها: قَال ابْنُ المُنْذِرِ: أَجْمَعَ أَهْل العِلمِ عَلى أَنَّ نِصَابَ الفِضَّةِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَأَنَّ فِيهِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ، وَاخْتَلفُوا فِيمَا زَادَ عَلى المِائَتَيْنِ، فَقَال الجُمْهُورُ: يُخْرِجُ مِمَّا زَادَ بِحِسَابِهِ رُبْعَ العُشْرِ، قلت الزيادة أم كثرت، ممن قال به علي بن أبي طالب وابن عمر النخعي ومالك وابن أبي ليلى والثوري والشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد وابو ثور وأبو عبيد قال: وقال سعيد بن المسيب وطاوس وعطاء والحسن البصري والشعبي ومكحول وعمرو بن دينار والزهري وأبو حنيفة: لاشيء في الزيادة على مائتين حتى تبلغ أربعين ففيها درهم قال ابن المنذر: وبالأول أقول. ودليل الوجوب في القليل والكثير قوله صلى الله عليه وسلم
:"في الرقة ربع العشر" وهو صحيح كما سبق.
وأما الذهب فقد ذكرنا أن مذهبنا أن نصابه عشرون مثقالا ويجب فيما زاد بحسابه ربع العشر.

 

ج / 5 ص -357-       قَلتْ الزِّيَادَةُ أَمْ كَثُرَتْ، وَبِهِ قَال الجُمْهُورُ مِنْ السَّلفِ وَالخَلفِ وَقَال ابْنُ المُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلى أَنَّ الذَّهَبَ إذَا كَانَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا وَقِيمَتُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، إلا مَا اُخْتُلفَ فِيهِ عَنْ الحَسَنِ، فَرُوِيَ عَنْهُ هَذَا وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ لا زَكَاةَ فِيمَا هُوَ دُونَ أَرْبَعِينَ مِثْقَالًا لا تُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ1 وَفِي دُونِ عِشْرِينَ إذَا سَاوَى مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، فَقَال كَثِيرٌ مِنْهُمْ: لا زَكَاةَ فِيمَا دُونَ عِشْرِينَ، وَإِنْ بَلغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَتَجِبُ فِي عِشْرِينَ وَإِنْ لمْ تَبْلغْهَا، مِمَّنْ قَال بِهِ عَليُّ بْنُ أَبِي طَالبٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ وَابْنُ سِيرِينَ وَعُرْوَةُ وَالنَّخَعِيُّ وَالحَكَمُ وَمَالكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَالأَوْزَاعِيُّ وَالليْثُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ. قَال طَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَالزُّهْرِيُّ وَأَيُّوبُ وَسُليْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: يَجِبُ رُبْعُ العُشْرِ فِي الذَّهَبِ إذَا بَلغَتْ قِيمَتُهُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَإِنْ كَانَ دُونَ عِشْرِينَ مِثْقَالًا فَلا شَيْءَ فِي الزِّيَادَةِ حَتَّى تَبْلغَ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الفِضَّةُ تَنْقُصُ عَنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَالذَّهَبُ يَنْقُصُ عَنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا نَقْصًا يَسِيرًا جِدًّا بِحَيْثُ يَرُوجُ رَوَاجَ الوَازِنَةِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لا زَكَاةَ، وَبِهِ قَال إِسْحَاقُ وَابْنُ المُنْذِرِ وَالجُمْهُورُ، وَقَال مَالكٌ: تَجِبُ.
المسألة الثانية: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لا يُكْمَل نِصَابُ الدَّرَاهِمِ بِالذَّهَبِ وَلا عَكْسُهُ حَتَّى لوْ مَلكَ مِائَتَيْنِ إلا دِرْهَمًا وَعِشْرِينَ مِثْقَالًا إلا نِصْفًا أَوْ غَيْرَهُ، فَلا زَكَاةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَبِهِ قَال جُمْهُورُ العُلمَاءِ، حَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ ابْنِ أَبِي ليْلى وَالحَسَنِ بْنِ صَالحٍ وَشَرِيكٍ وَأَحْمَدَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي عُبَيْدٍ. قَال ابْنُ المُنْذِرِ: وَقَال الحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسَائِرُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ: يَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلى الآخَرِ، وَاخْتَلفُوا فِي كَيْفِيَّةِ الضَّمِّ فَقَال الأَوْزَاعِيُّ: يُخْرِجُ رُبْعَ عُشْرِ كُل وَاحِدٍ فَإِذَا كَانَتْ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةَ دَنَانِيرَ، أَخْرَجَ رُبْعَ عُشْرِ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَقَال الثَّوْرِيُّ: يَضُمُّ القَليل إلى الكَثِيرِ وَنَقَل العَبْدَرِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَضُمُّ الذَّهَبَ إلى الفِضَّةِ بِالقِيمَةِ، فَإِذَا كَانَتْ لهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَلهُ ذَهَبَ قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ قَال وَقَال مَالكٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ: يَضُمُّ أَحَدَهُمَا إلى الآخَرِ بِالأَجْزَاءِ، فَإِذَا كَانَ مَعَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ، أَوْ خَمْسُونَ دِرْهَمًا وَخَمْسَةَ عَشَرَ دِينَارًا ضَمَّ أَحَدَهُمَا إلى الآخَرِ، وَلوْ كَانَ لهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ دَنَانِيرَ قِيمَتُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَلا ضَمَّ، دَليلنَا قَوْلهُ صلى الله عليه وسلم:
"ليْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الوَرِقِ صَدَقَةٌ".
الثالثة مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ العُلمَاءِ كَافَّةً أَنَّ الاعْتِبَارَ فِي نِصَابِ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ بِالوَزْنِ لا بِالعَدَدِ. وَحَكَى صَاحِبُ الحَاوِي وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ المُنْقِرِيِّ وَبِشْرٍ المَرِيسِيِّ المُعْتَزِليِّ أَنَّ الاعْتِبَارَ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ عَدَدًا لا وَزْنًا حَتَّى لوْ كَانَ مَعَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَدَدًا وَزْنُهَا مِائَتَانِ فَلا شَيْءَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِائَتَانِ عَدَدًا وَزْنُهَا مِائَةٌ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ، قَال أَصْحَابُنَا: وَهَذَا غَلطٌ مِنْهُمَا لمُخَالفَتِهِ النُّصُوصَ وَالإِجْمَاعَ فَهُوَ مَرْدُودٌ.
الرَّابِعَةُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لا زَكَاةَ فِي المَغْشُوشِ مِنْ ذَهَبٍ وَلا فِضَّةٍ حَتَّى يَبْلغَ خَالصُهُ نِصَابًا؛ وَبِهِ قَال جُمْهُورُ العُلمَاءِ. وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ الغِشُّ مِثْل نِصْفِ الفِضَّةِ أَوْ الذَّهَبِ أَوْ أَكْثَرَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ولعل الصواب واختلفوا في دون عشرين الخ.

 

ج / 5 ص -358-       فَلا زَكَاةَ حَتَّى يَبْلغَ الخَالصُ نِصَابًا، وَإِنْ كَانَ أَقَل وَجَبَتْ الزَّكَاةُ إذَا بَلغَ بِغِشِّهِ نِصَابًا، بِنَاءً عَلى أَصْلهِ أَنَّ الغِشَّ إذَا نَقَصَ عَنْ النِّصْفِ سَقَطَ حُكْمُهُ حَتَّى لوْ اقْتَرَضَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ لا غِشَّ فِيهَا فَرَدَّ عَشَرَةً فِيهَا سِتَّةٌ فِضَّةً، وَالبَاقِي غُشَّ لزِمَ المُقْرِضَ قَبُولهَا وَيَبْرَأُ المُقْتَرِضُ بِهَا، وَلوْ مَلكَ مِائَتَيْنِ خَالصَةً فَأَخْرَجَ زَكَاتَهَا خَمْسَةً مَغْشُوشَةً، قَال: تَجْزِيهِ. قَال المَاوَرْدِيُّ: فَسَادُ هَذَا القَوْل ظَاهِرٌ وَالاحْتِجَاجُ عَليْهِ تَكَلفٌ وَيَكْفِي فِي رَدِّهِ قَوْلهُ صلى الله عليه وسلم: "ليْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الوَرِقِ صَدَقَةٌ".
الخامسة: مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ مَالكٍ وَأَحْمَدَ وَالجُمْهُورِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي المَال الذِي تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ وَيُعْتَبَرُ فِيهِ الحَوْل كَالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالمَاشِيَةِ وُجُودُ النِّصَابِ فِي جَمِيعِ الحَوْل. فَإِنْ نَقَصَ النِّصَابُ فِي لحْظَةٍ مِنْ الحَوْل انْقَطَعَ الحَوْل، فَإِنْ كَمُل بَعْدَ ذَلكَ اُسْتُؤْنِفَ الحَوْل مِنْ حِينِ يَكْمُل النِّصَابُ وَقَال أَبُو حَنِيفَةَ: المُعْتَبَرُ وُجُودُ النِّصَابِ فِي أَوَّل الحَوْل وَآخِرِهِ، وَلا يَضُرُّ نَقْصُهُ بَيْنَهُمَا، حَتَّى لوْ كَانَ مَعَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ، فَتَلفَتْ كُلهَا فِي أَثْنَاءِ الحَوْل إلا دِرْهَمًا، أَوْ أَرْبَعُونَ شَاةً فَتَلفَتْ فِي أَثْنَاءِ الحَوْل إلا شَاةً ثُمَّ مَلكَ فِي آخِرِ الحَوْل تَمَامَ المِائَتَيْنِ وَتَمَامَ الأَرْبَعِينَ وَجَبَتْ زَكَاةُ الجَمِيعِ وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ كَانَ لهُ دَيْنٌ نَظَرْت فَإِنْ كَانَ دَيْنًا غَيْرَ لازِمٍ كَمَال الكِتَابَةِ لمْ يَلزَمْهُ زَكَاتُهُ؛ لأَنَّ مِلكَهُ غَيْرُ تَامٍّ عَليْهِ، فَإِنَّ العَبْدَ يَقْدِرُ أَنْ يُسْقِطَهُ، وَإِنْ كَانَ لازِمًا نَظَرْت - فَإِنْ كَانَ عَلى مُقِرٍّ مَليءٍ - لزِمَهُ زَكَاتُهُ، لأَنَّهُ مَقْدُورٌ عَلى قَبْضِهِ فَهُوَ كَالوَدِيعَةِ، وَإِنْ كَانَ عَلى مَليءٍ جَاحِدٍ، أَوْ مُقِرٍّ مُعْسِرٍ فَهُوَ كَالمَال المَغْصُوبِ وَفِيهِ قَوْلانِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي زَكَاةِ المَاشِيَةِ، وَإِنْ كَانَ لهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ، فَفِيهِ وَجْهَانِ قَال أَبُو إِسْحَاقَ: هُوَ كَالدَّيْنِ الحَال عَلى فَقِيرٍ أَوْ مَليءٍ جَاحِدٍ فَيَكُونُ عَلى قَوْليْنِ وَقَال أَبُو عَليِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، فَإِذَا قَبَضَهُ اسْتَقْبَل بِهِ الحَوْل؛ لأَنَّهُ لا يَسْتَحِقُّهُ. وَلوْ حَلفَ أَنَّهُ لا يَسْتَحِقُّهُ كَانَ بَارًّا، وَالأَوَّل أَصَحُّ، لأَنَّهُ لوْ لمْ يَسْتَحِقَّهُ لمْ يَنْفُذْ فِيهِ إبْرَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ لهُ مَالٌ غَائِبٌ - فَإِنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلى قَبْضِهِ - وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ إلا أَنَّهُ لا يَلزَمُهُ إخْرَاجُهَا حَتَّى يَرْجِعَ إليْهِ وَإِنْ لمْ يَقْدِرْ عَليْهِ فَهُوَ كَالمَغْصُوبِ".
الشَّرْحُ: قَال أَصْحَابُنَا: الدَّيْنُ ثَلاثَةُ أَقْسَامٍ:
 أحدها: غَيْرُ لازِمٍ كَمَال الكِتَابَةِ، فَلا زَكَاةَ فِيهِ بِلا خِلافٍ لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ.
 الثاني: أَنْ يَكُونَ لازِمًا وَهُوَ مَاشِيَةٌ بِأَنْ كَانَ لهُ فِي ذِمَّةِ إنْسَانٍ أَرْبَعُونَ شَاةً سَلمًا أَوْ قَرْضًا، فَلا زَكَاةَ فِيهَا أَيْضًا بِلا خِلافٍ، لأَنَّ شَرْطَ زَكَاةِ المَاشِيَةِ السَّوْمُ، وَلا تُوصَفُ التِي فِي الذِّمَّةِ بِأَنَّهَا سَائِمَةٌ.
الثَّالثُ: أَنْ يَكُونَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ أَوْ عَرْضَ تِجَارَةٍ، وَهُوَ مُسْتَقَرٌّ، فَفِيهِ قَوْلانِ مَشْهُورَانِ، "القَدِيمُ ": لا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الدَّيْنِ بِحَالٍ لأَنَّهُ غَيْرُ مُعَيَّنٍ "، وَالجَدِيدُ "الصَّحِيحُ بِاتِّفَاقِ الأَصْحَابِ: وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِي الدَّيْنِ عَلى الجُمْلةِ، وَتَفْصِيلهُ أَنَّهُ إنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ لإِعْسَارِ مَنْ عَليْهِ أَوْ جُحُودِهِ وَلا بَيِّنَةَ أَوْ مَطْلهِ أَوْ غَيْبَتِهِ فَهُوَ كَالمَغْصُوبِ وَفِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ طُرُقٌ تَقَدَّمَتْ فِي بَابِ زَكَاةِ المَاشِيَةِ، وَالصَّحِيحُ وُجُوبُهَا. وَقِيل: تَجِبُ فِي المَمْطُول. وَالدَّيْنُ عَلى مَليءٍ غَائِبٍ بِلا خِلافٍ. وَإِنَّمَا الخِلافُ فِيمَا سِوَاهُمَا، وَبِهَذَا

 

ج / 5 ص -359-       الطَّرِيقِ قَطَعَ صَاحِبُ الحَاوِي وَغَيْرُهُ وَليْسَ كَذَلكَ بَل المَذْهَبُ طَرْدُ الخِلافِ. فَإِنْ قُلنَا بِالصَّحِيحِ وَهُوَ الوُجُوبُ لمْ يَجِبْ الإِخْرَاجُ قَبْل حُصُولهِ بِلا خِلافٍ وَلكِنْ1 فِي يَدِهِ أَخْرَجَ عَنْ المُدَّةِ المَاضِيَةِ. هَذَا مَعْنَى الخِلافِ. وَأَمَّا إذَا لمْ يَتَعَذَّرْ اسْتِيفَاؤُهُ بِأَنْ كَانَ عَلى مَليءٍ بَاذِلٍ أَوْ جَاحِدٍ عَليْهِ بَيِّنَةٌ أَوْ كَانَ القَاضِي يَعْلمُهُ وَقُلنَا: القَاضِي يَقْضِي بِعِلمِهِ فَإِنْ كَانَ حَالًّا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ بِلا شَكٍّ وَوَجَبَ إخْرَاجُهَا فِي الحَال، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَطَرِيقَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا المُصَنِّفُ بِدَليليْهِمَا أصحهما: عِنْدَ المُصَنِّفِ وَالأَصْحَابِ أَنَّهُ عَلى القَوْليْنِ فِي المَغْصُوبِ، أصحهما: تَجِبُ الزَّكَاةُ، والثاني: لا تَجِبُ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أَبِي إِسْحَاقَ المَرْوَزِيِّ. والطريق الثاني طَرِيقَةُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ لا زَكَاةَ فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا، كَالمَال الغَائِبِ الذِي يَسْهُل إحْضَارُهُ؛ فَإِنْ قُلنَا بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، فَهَل يَجِبُ إخْرَاجُهَا فِي الحَال؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ أصحهما: لا يَجِبُ، وَبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ كَالمَغْصُوبِ. قَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: وَلأَنَّ الخَمْسَةَ نَقْدًا تُسَاوِي سِتَّةً مُؤَجَّلةً، وَيَسْتَحِيل أَنْ يُسَلمَ أَرْبَعَةً نَقْدًا تُسَاوِي خَمْسَةً مُؤَجَّلةً، فَوَجَبَ تَأْخِيرُ الإِخْرَاجِ إلى القَبْضِ، قَال: وَلا شَكَّ أَنَّهُ لوْ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَ فَقِيرًا عَنْ دَيْنٍ لهُ عَليْهِ، ليُوقِعَهُ عَنْ الزَّكَاةِ لمْ يَقَعْ عَنْهَا؛ لأَنَّ شَرْطَ أَدَاءِ الزَّكَاةِ أَنْ يَتَضَمَّنَ تَمْليكًا مُحَقَّقًا، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
وَأَمَّا المَال الغَائِبُ فَإِنْ لمْ يَكُنْ مَقْدُورًا عَليْهِ لانْقِطَاعِ الطَّرِيقِ أَوْ انْقِطَاعِ خَبَرِهِ فَهُوَ كَالمَغْصُوبِ، هَكَذَا قَال المُصَنِّفُ وَالجُمْهُورُ، وَقِيل: تَجِبُ الزَّكَاةُ قَطْعًا؛ لأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِيهِ نَافِذٌ بِخِلافِ المَغْصُوبِ، وَلا خِلافَ أَنَّهُ لا يَجِبُ الإِخْرَاجُ عَنْهُ قَبْل عَوْدِهِ وَقَبْضِهِ، وَإِنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلى قَبْضِهِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ مِنْهُ بِلا خِلافٍ، وَوَجَبَ إخْرَاجُهَا فِي الحَال بِلا خِلافٍ وَيُخْرِجُهَا فِي بَلدِ المَال، فَإِنْ أَخْرَجَهَا فِي غَيْرِهِ فَفِيهِ خِلافُ نَقْل الزَّكَاةِ. هَذَا إذَا كَانَ المَال مُسْتَقِرًّا فَإِنْ كَانَ سَائِرًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ لمْ يَجِبْ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْل أَنْ يَصِل إليْهِ، فَإِذَا وَصَل أَخْرَجَ عَنْ المَاضِي بِلا خِلافٍ، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ فِي مَسْأَلةِ الغَائِبِ، وَمَا وَجَدْته خِلافُهُ فِي بَعْضِ الكُتُبِ فَنَزِّلهُ عَليْهِ، وَمِمَّا يُظَنُّ مُخَالفًا قَوْل المُصَنِّفِ (فَإِنْ كَانَ مَقْدُورًا عَلى قَبْضِهِ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ، إلا أَنَّهُ لا يَلزَمُهُ إخْرَاجُهَا حَتَّى يَرْجِعَ إليْهِ) وَهَكَذَا قَالهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ، وَكَلامُهُمَا مَحْمُولٌ عَلى مَا ذَكَرْنَا إذَا كَانَ سَائِرًا غَيْرَ مُسْتَقِرٍّ، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ أَبُو المَكَارِمِ فِي العِدَّةِ وَغَيْرُهُ، وَجَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ بِأَنَّهُ يُخْرِجُهَا فِي الحَال، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلى مَا إذَا كَانَ المَال مُسْتَقِرًّا فِي بَلدٍ، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
قَال أَصْحَابُنَا: كُل دَيْنٍ وَجَبَ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْل قَبْضِهِ، وَجَبَ ضَمُّهُ إلى مَا مَعَهُ مِنْ جِنْسِهِ لإِكْمَال النِّصَابِ، وَيَلزَمُهُ إخْرَاجُ زَكَاتِهِمَا فِي الحَال، وَكُل دَيْنٍ لا يَجِبُ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ قَبْل قَبْضِهِ، وَيَجِبُ بَعْدَ قَبْضِهِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ جِنْسِهِ مَالًا يَبْلغُ وَحْدَهُ نِصَابًا، وَيَبْلغُ بِالدَّيْنِ نِصَابًا فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أحدهما: وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ البَيَانِ: لا يَلزَمُهُ زَكَاةُ مَا مَعَهُ فِي الحَال، فَإِذَا قَبَضَ الدَّيْنَ لزِمَهُ زَكَاتُهُمَا عَنْ المَاضِي وأصحهما: عِنْدَ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ يَجِبُ إخْرَاجُ قِسْطِ مَا مَعَهُ. قَالوا: وَهُمَا مَبْنِيَّانِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في الأصل ولعل الصواب ولكن إذا حصل إلخ (ط).

 

ج / 5 ص -360-       عَلى أَنَّ التَّمَكُّنَ شَرْطٌ فِي الوُجُوبِ أَوْ فِي الضَّمَانِ إنْ قُلنَا بِالأَوَّل لا يَلزَمُهُ لاحْتِمَال أَنْ لا يَحْصُل الدَّيْنُ وَإِنْ قُلنَا بِالثَّانِي لزِمَهُ. وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
وَكُل دَيْنٍ لا زَكَاةَ فِيهِ فِي الحَال وَلا بَعْدَ عَوْدِهِ عَنْ المَاضِي، بَل يَسْتَأْنِفُ لهُ الحَوْل إذَا قَبَضَ، فَهَذَا لا يَتِمُّ بِهِ نِصَابُ مَا مَعَهُ، وَإِذَا قَبَضَهُ لا يُزَكِّيهَا عَنْ المَاضِي بِلا خِلافٍ، بَل يَسْتَأْنِفُ لهُمَا الحَوْل، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ. أَمَّا إذَا كَانَ لهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ حَاضِرَةٌ وَمِائَةٌ غَائِبَةٌ، فَإِنْ كَانَتْ الغَائِبَةُ مَقْدُورًا عَليْهَا لزِمَهُ زَكَاةُ الحَاضِرِ فِي الحَال فِي مَوْضِعِهَا وَإِنْ لمْ يَكُنْ مَقْدُورًا عَليْهِ، فَإِنْ قُلنَا: لا زَكَاةَ فِيهِ إذَا عَادَ فَلا زَكَاةَ فِي الحَاضِرِ لنَقْصِهِ عَنْ النِّصَابِ. وَإِنْ قُلنَا: يَجِبُ زَكَاتُهُ فَهَل يَلزَمُهُ زَكَاةُ الحَاضِرِ فِي الحَال؟ فِيهِ الوَجْهَانِ السَّابِقَانِ فِي الدَّيْنِ بِنَاءً عَلى أَنَّ التَّمَكُّنَ شَرْطٌ فِي الوُجُوبِ، أَمَّا الضَّمَانُ فَإِنْ لمْ نُوجِبْهَا فِي الحَال أَوْجَبْنَاهَا فِيهِ، وَفِي الغَائِبِ إنْ عَادَ وَإِلا فَلا.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أُجْرَةُ [دَارٌ] لمْ يَسْتَوْفِ المُسْتَأْجِرُ مَنْفَعَتَهَا وَحَال عَليْهَا الحَوْل وَجَبَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ؛ لأَنَّهُ يَمْلكُهَا مِلكًا تَامًّا. وَفِي وُجُوبِ الإِخْرَاجِ قَوْلانِ. قَال فِي البُوَيْطِيِّ: يَجِبُ لأَنَّهُ يَمْلكُهَا مِلكًا تَامًّا فَأَشْبَهَ مَهْرَ المَرْأَةِ، وَقَال فِي الأُمِّ: لا يَجِبُ؛ لأَنَّ مِلكَهُ قَبْل اسْتِيفَاءِ المَنْفَعَةِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ، لأَنَّهُ قَدْ تَنْهَدِمُ الدَّارُ فَتَسْقُطُ الأُجْرَةُ فَلمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ فِيهِ كَدَيْنِ الكِتَابَةِ، وَالأَوَّل أَصَحُّ؛ لأَنَّ هَذَا يَبْطُل بِالصَّدَاقِ قَبْل الدُّخُول، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ بِالرِّدَّةِ، وَيَسْقُطُ نِصْفُهُ بِالطَّلاقِ ثُمَّ يَجِبُ إخْرَاجُ زَكَاتِهِ".
الشرح:
اتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَالأَصْحَابِ رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالى عَلى أَنَّ المَرْأَةَ يَلزَمُهَا زَكَاةُ الصَّدَاقِ إذَا حَال عَليْهِ الحَوْل، وَيَلزَمُهَا الإِخْرَاجُ عَنْ جَمِيعِهِ فِي آخِرِ الحَوْل بِلا خِلافٍ وَإِنْ كَانَ قَبْل الدُّخُول، وَلا يُؤَثِّرُ كَوْنُهُ مُعَرَّضًا للسُّقُوطِ بِالفَسْخِ بِرِدَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا أَوْ نِصْفِهِ بِالطَّلاقِ، وَأَمَّا إذَا أَجَّرَ دَارِهِ أَوْ غَيْرَهَا بِأُجْرَةٍ حَالةٍ وَقَبَضَهَا فَيَجِبُ عَليْهِ زَكَاتُهَا بِلا خِلافٍ لمَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ وَفِي كَيْفِيَّةِ إخْرَاجِهَا قَوْلانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا المُصَنِّفُ بِدَليليْهِمَا.
مِثَالهُ: آجَرَهَا أَرْبَعَ سِنِينَ بِمِائَةٍ وَسِتِّينَ دِينَارًا، كُل سَنَةٍ بِأَرْبَعِينَ، أَحَدُ القَوْليْنِ: يَلزَمُهُ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ الأُولى مِنْ حِينِ مِلكِ المِائَةِ وَقَبْضِهَا زَكَاةُ جَمِيعِ المِائَةِ وَهَذَا نَصُّهُ فِي البُوَيْطِيِّ قَالهُ صَاحِبُ الحَاوِي وَغَيْرُهُ، وَهُوَ الأَصَحُّ عِنْدَ ابْنِ سُرَيْجٍ وَالمُصَنَّفِ وَابْنِ الصَّبَّاغِ. والثاني: لا يَلزَمُهُ عِنْدَ تَمَامِ كُل سَنَةٍ إلا إخْرَاجُ زَكَاةِ القَدْرِ الذِي اسْتَقَرَّ مِلكُهُ عَليْهِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ نَصُّهُ فِي الأُمِّ وَمُخْتَصَرِ المُزَنِيِّ قَال صَاحِبُ الحَاوِي: هُوَ نَصُّهُ فِي الأُمِّ وَفِي غَيْرِهِ. وَصَحَّحَهُ جُمْهُورُ الأَصْحَابِ. مِمَّنْ صَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالمَحَامِليُّ فِي المَجْمُوعِ وَصَاحِبُ الحَاوِي وَالبَغَوِيُّ وَخَلائِقُ، وَنَقَل السَّرَخْسِيُّ فِي الأَمَالي وَالرَّافِعِيُّ أَنَّهُ الأَصَحُّ عِنْدَ جُمْهُورِ الأَصْحَابِ، فَعَلى هَذَا يُخْرِجُ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ الأُولى زَكَاةَ حِصَّةِ السَّنَةِ وَهُوَ دِينَارٌ عَنْ أَرْبَعِينَ، فَإِذَا مَضَتْ السَّنَةُ الثَّانِيَةُ فَقَدْ اسْتَقَرَّ مِلكُهُ عَلى ثَمَانِينَ سَنَتَيْنِ، فَعَليْهِ زَكَاتُهَا السَّنَتَيْنِ وَهِيَ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ، لكُل سَنَةٍ دِينَارَانِ، وَقَدْ أَخْرَجَ فِي السَّنَةِ الأُولى دِينَارًا فَيَسْقُطُ عَنْهُ وَيُخْرِجُ البَاقِي وَهُوَ ثَلاثَةُ دَنَانِيرَ، فَإِذَا مَضَتْ السَّنَةُ الثَّالثَةُ فَقَدْ اسْتَقَرَّ مِلكُهُ عَلى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ ثَلاثَ سِنِينَ وَوَاجِبُهَا تِسْعَةُ دَنَانِيرَ لكُل سَنَةٍ، وَقَدْ أَخْرَجَ مِنْهَا فِي السَّنَتَيْنِ السَّابِقَتَيْنِ أَرْبَعَةً فَيُخْرِجُ البَاقِي

 

ج / 5 ص -361-       وَهُوَ خَمْسَةُ دَنَانِيرَ، فَإِذَا مَضَتْ السَّنَةُ الرَّابِعَةُ فَقَدْ اسْتَقَرَّ مِلكُهُ عَلى مِائَةٍ وَسِتِّينَ دِينَارًا فِي السِّنِينَ المَاضِيَةِ وَفِيهَا تِسْعَةُ دَنَانِيرَ، فَيَجِبُ إخْرَاجُ البَاقِي وَهُوَ سَبْعَةُ دَنَانِيرَ.
قَال أَصْحَابُنَا: هَذَا إذَا أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِ الأُجْرَةِ، فَإِنْ أَخْرَجَ مِنْهَا وَاجِبَ السَّنَةِ الأُولى فَعِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ يُخْرِجُ زَكَاةَ الأَرْبَعِينَ الأُولى سِوَى مَا أَخْرَجَ مِنْهَا فِي السَّنَةِ الأُولى وَزَكَاةَ الأَرْبَعِينَ الثَّانِيَةَ لسَنَتَيْنِ، وَعِنْدَ السَّنَةِ الثَّالثَةِ وَالرَّابِعَةِ يُقَاسُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ، أَمَّا إذَا قُلنَا بِالقَوْل الأَوَّل فَإِنَّهُ يُخْرِجُ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ الأُولى زَكَاةَ المِائَةِ وَالسِّتِّينَ، وَكَذَا فِي كُل سَنَةٍ يُخْرِجُ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ إنْ أَخْرَجَ مِنْ غَيْرِهَا، فَإِنْ أَخْرَجَ مِنْهَا زَكَّى كُل سَنَةٍ مَا بَقِيَ. وَاعْلمْ أَنَّ الشَّيْخَ أَبَا حَامِدٍ وَالمُصَنِّفَ وَالجُمْهُورَ قَالوا: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الجَمِيعِ بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا القَوْلانِ فِي كَيْفِيَّةِ الإِخْرَاجِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَال القَاضِي أَبُو الطِّيبِ وَطَائِفَةٌ قَليلةٌ: القَوْلانِ فِي نَفْسِ الوُجُوبِ، وَالإِخْرَاجُ مَبْنِيٌّ عَليْهِمَا إنْ قُلنَا بِالوُجُوبِ وَجَبَ الإِخْرَاجُ وَإِلا فَلا، هَذَا كُلهُ إذَا كَانَتْ الأُجْرَةُ مُتَسَاوِيَةً فِي كُل السِّنِينَ كَمَا مَثَّلنَاهُ أَوَّلًا، فَإِنْ تَفَاوَتَتْ زَادَ القَدْرُ المُسْتَقِرُّ فِي بَعْضِ السِّنِينَ عَلى أَرْبَعٍ، وَنَقَصَ فِي بَعْضِهَا.
قَال الرَّافِعِيُّ رحمه الله تعالى: فَإِنْ قِيل: هَل صُورَةُ المَسْأَلةِ مَا إذَا كَانَتْ الأُجْرَةُ فِي الذِّمَّةِ ثُمَّ نَقَدَهَا؟ أَوْ كَانَتْ مُعِينَةً؟ أَمْ لا فَرْقَ؟ فالجواب:  أَنَّ كَلامَ نَقَلةِ المَذْهَبِ يَشْمَل الصُّورَتَيْنِ، وَلمْ أَرَ فِيهَا نَصًّا وَتَفْصِيلًا إلا فِي فَتَاوَى القَاضِي حُسَيْنٍ فَإِنَّهُ قَال: فِي الحَالةِ الأُولى الظَّاهِرُ أَنَّهُ تَجِبُ زَكَاةُ كُل المِائَةِ إذَا حَال الحَوْل لأَنَّ مِلكَهُ مُسْتَقِرٌّ عَلى مَا أَخَذَ، حَتَّى لوْ انْهَدَمَتْ لا يَلزَمُهُ رَدُّ المَقْبُوضِ بِعَيْنِهِ، بَل لهُ رَدُّ مِثْلهِ. وَفِي الحَالةِ الثَّانِيَةِ قَال: حُكْمُ الزَّكَاةِ حُكْمُهَا فِي المَبِيعِ قَبْل القَبْضِ؛ لأَنَّهُ مُعَرَّضٌ لأَنْ يَعُودَ إلى المُسْتَأْجِرِ بِانْفِسَاخِ الإِجَارَةِ، وَبِالجُمْلةِ الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ أَحَقُّ بِالخِلافِ مِنْ الأُولى وَمَا ذَكَرَهُ القَاضِي اخْتِيَارًا مِنْهُ للوُجُوبِ فِي الحَالتَيْنِ جَمِيعًا. هَذَا آخِرُ كَلامِ الرَّافِعِيِّ رحمه الله تعالى.
وَقَال صَاحِبُ الحَاوِي: لا خِلافَ فِي المَذْهَبِ أَنَّهُ مَلكَ جَمِيعَ الأُجْرَةِ الحَالةِ بِنَفْسِ العَقْدِ لكِنْ فِي مِلكِهِ قَوْلانِ، نُصَّ فِي البُوَيْطِيِّ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ مَلكَهَا مِلكًا مُسْتَقِرًّا كَثَمَنِ المَبِيعِ وَكَالصَّدَاقِ، لأَنَّهُ جَائِزُ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِحَيْثُ لوْ كَانَتْ الأُجْرَةُ أَمَةً جَازَ لهُ وَطْؤُهَا فَدَل عَلى أَنَّ مِلكَهُ مُسْتَقِرٌّ، وَنُصَّ فِي الأُمِّ وَغَيْرِهِ وَهُوَ الأَظْهَرُ أَنَّهُ مَلكَهَا بِالعَقْدِ مِلكًا مَوْقُوفًا، فَإِذَا مَضَى زَمَانٌ مِنْ المُدَّةِ اسْتَقَرَّ مِلكُهُ عَلى مَا قَابَلهُ مِنْ الأُجْرَةِ لأَنَّ الأُجْرَةَ فِي مُقَابَلةِ المَنْفَعَةِ وَمِلكُ المُسْتَأْجِرِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ عَلى المَنَافِعِ؛ لأَنَّهَا لوْ فَاتَتْ بِالانْهِدَامِ رَجَعَ بِمَا قَابَلهَا مِنْ الأُجْرَةِ، وَلوْ اسْتَقَرَّ مِلكُهُ لمْ يَرْجِعْ بِمَا قَابَلهَا، كَمَا لا يَرْجِعُ المُشْتَرِي إذَا اسْتَقَرَّ مِلكُهُ بِالقَبْضِ. وَالفَرْقُ بَيْنَ الأُجْرَةِ وَالصَّدَاقِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما أَنَّ مِلكَ الزَّوْجِ عَلى الصَّدَاقِ مُسْتَقِرٌّ؛ لأَنَّ مِلكَ الزَّوْجِ لبِضْعِهَا مُسْتَقِرٌّ بِخِلافِ الأُجْرَةِ وَلهَذَا لوْ مَاتَتْ لمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ مِنْ صَدَاقِهَا، وَلوْ انْهَدَمَتْ الدَّارُ رَجَعَ بِقِسْطِ مَا بَقِيَ مِنْ الأُجْرَةِ، والثاني: أَنَّ رُجُوعَ الزَّوْجِ بِالصَّدَاقِ إذَا عَرَضَ فَسْخٌ، أَوْ بِنِصْفِهِ إذَا عَرَضَ طَلاقٌ قَبْل الدُّخُول إنَّمَا هُوَ ابْتِدَاءُ جَلبِ مِلكٍ فَلا يَمْنَعُ اسْتِقْرَارَ مِلكِ الزَّوْجَةِ عَلى الصَّدَاقِ قَبْل الفِرَاقِ، وَأَمَّا رُجُوعُ المُسْتَأْجِرِ بِقِسْطِ الأُجْرَةِ إذَا انْهَدَمَتْ الدَّارُ، فَإِنَّمَا هُوَ بِالعَقْدِ السَّابِقِ. وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.

 

ج / 5 ص -362-       فرع: لوْ انْهَدَمَتْ الدَّارُ فِي أَثْنَاءِ المُدَّةِ انْفَسَخَتْ الإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ وَلا يَنْفَسِخُ فِي المَاضِي عَلى المَذْهَبِ، وَبَيَّنَّا اسْتِقْرَارَ مِلكِهِ عَلى قِسْطِ المَاضِي، وَالحُكْمُ فِي الزَّكَاةِ كَمَا سَبَقَ قَال صَاحِبُ الحَاوِي وَالأَصْحَابُ: فَلوْ كَانَ أَخْرَجَ زَكَاةَ الجَمِيعِ قَبْل الانْهِدَامِ لمْ يَرْجِعْ بِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ الزَّكَاةِ عِنْدَ اسْتِرْجَاعِ قِسْطِ مَا بَقِيَ. لأَنَّ ذَلكَ حَقٌّ لزِمَهُ فِي مِلكِهِ. فَلمْ يَكُنْ لهُ الرُّجُوعُ بِهِ عَلى غَيْرِهِ.
فرع: قَال صَاحِبُ الحَاوِي: لوْ أَجَّرَ الدَّارَ أَرْبَعَ سِنِينَ مَثَلًا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَقَبَضَهَا وَلمْ يُسَلمْ الدَّارَ حَتَّى مَضَتْ المُدَّةُ بَطَلتْ الإِجَارَةُ، وَلزِمَهُ رَدُّ الأُجْرَةِ قَال: وَأَمَّا زَكَاتُهَا فَإِنْ قُلنَا بِنَصِّهِ فِي الأُمِّ: إنَّ مِلكَهُ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ إلا بِمُضِيِّ المُدَّةِ فَلا زَكَاةَ؛ لأَنَّهُ كُل مَا مَضَى مِنْ مُدَّةٍ قَبْل التَّسْليمِ زَال مِلكُهُ عَمَّا يُقَابِلهُ، فَلا يَلزَمُهُ زَكَاتُهُ وَإِنْ قُلنَا بِنَصِّهِ فِي البُوَيْطِيِّ: إنَّ مِلكَهُ مُسْتَقِرٌّ فَحُكْمُهُ عَكْسُ مَا سَبَقَ، فَإِذَا مَضَتْ السَّنَةُ الأُولى قَبْل التَّسْليمِ فَقَدْ كَانَ مِلكُهُ مُسْتَقِرًّا عَلى مِائَةِ دِينَارٍ، وَزَال عَنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ فَيُزَكِّي البَاقِي، وَهَكَذَا فِي كُل سَنَةٍ بِحِصَّتِهَا، فَإِذَا مَضَتْ السَّنَةُ الرَّابِعَةُ زَال مِلكُهُ عَمَّا بَقِيَ مِنْ المِائَةِ فَلا يُزَكِّيه وَلا رُجُوعَ بِمَا أَخْرَجَ مِنْ زَكَاتِهَا قَبْل ذَلكَ، لأَنَّهُ حَقٌّ لزِمَهُ فِي مِلكِهِ فَلمْ يَكُنْ لهُ الرُّجُوعُ بِهِ.
فرع: إذَا بَاعَ سِلعَةً بِنِصَابٍ مِنْ النَّقْدِ وَقَبَضَهُ، وَلمْ يُسَلمْ السِّلعَةَ حَتَّى حَال حَوْلٌ عَلى الثَّمَنِ فِي يَدِهِ فَهَل يَلزَمُ البَائِعَ إخْرَاجُ زَكَاةِ النَّقْدِ قَبْل تَسْليمِ المَبِيعِ؟ قَال أَصْحَابُنَا: فِيهِ القَوْلانِ فِي الأُجْرَةِ؛ لأَنَّ الثَّمَنَ قَبْل قَبْضِ المَبِيعِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ. قَال صَاحِبُ الحَاوِي: وَهَل يَلزَمُ المُشْتَرِي إذَا كَانَ شِرَاءُ السِّلعَةِ للتِّجَارَةِ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ عَنْهَا قَبْل قَبْضِهَا؟ فِيهِ القَوْلانِ، إنْ قُلنَا: إنَّ مِلكَ الأُجْرَةِ مُسْتَقِرٌّ، وَلا يُنْظَرُ إلى احْتِمَال الفَسْخِ فَمِلكُ الثَّمَنِ وَالسِّلعَةِ مُسْتَقِرٌّ فَيَجِبُ زَكَاتُهَا وَإِنْ احْتَمَل الفَسْخَ، وَإِنْ قُلنَا: إنَّ المِلكَ فِي الأُجْرَةِ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فَكَذَا الثَّمَنُ وَالسِّلعَةُ، قَال أَصْحَابُنَا: وَلوْ أَسْلمَ نِصَابًا فِي ثَمَرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا للتِّجَارَةِ أَوْ غَيْرِهَا، وَحَال الحَوْل قَبْل قَبْضِ المُسْلمِ فِيهِ فَإِنْ قُلنَا: إنَّ تَعَذُّرَ المُسْلمِ فِيهِ لا يَنْفَسِخُ بِهِ العَقْدُ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ الخِيَارَ وَجَبَتْ عَلى المُسْلمِ إليْهِ زَكَاةُ النِّصَابِ الذِي قَبَضَهُ بِلا خِلافٍ، لاسْتِقْرَارِ مِلكِهِ، وَإِنْ قُلنَا يَنْفَسِخُ العَقْدُ، فَفِي وُجُوبِ زَكَاتِهِ القَوْلانِ كَالأُجْرَةِ، فَأَمَّا المُسْلمُ فَلا تَلزَمُهُ زَكَاةُ الثَّمَرَةِ المُسْلمِ فِيهَا قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ كَانَتْ للتِّجَارَةِ، قَال صَاحِبُ الحَاوِي وَغَيْرُهُ: لأَنَّ تَأْجِيل الثَّمَرِ يَمْنَعُ وُجُوبَ زَكَاتِهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ اسْتَقْبَل بِهِ الحَوْل وَاَللهُ أَعْلمُ.
فرع: إذَا أَوْصَى لإِنْسَانٍ بِنِصَابٍ، وَمَاتَ المُوصِي، وَمَضَى حَوْلٌ مِنْ حِينِ مَوْتِهِ قَبْل القَبُول، قَال أَصْحَابُنَا: إنْ قُلنَا: المِلكُ يَحْصُل فِي الوَصِيَّةِ بِالمَوْتِ فَعَلى المُوصَى لهُ الزَّكَاةُ، وَلا يَضُرُّ كَوْنُهُ يَبْطُل بِرِدَّةٍ، وَإِنْ قُلنَا: يَحْصُل بِالقَبُول فَلا زَكَاةَ عَليْهِ، ثُمَّ إنْ أَبْقَيْنَاهُ عَلى مِلكِ المُوصِي فَلا زَكَاةَ عَلى أَحَدٍ، لأَنَّ المَيِّتَ ليْسَ مُكَلفًا بِزَكَاةٍ وَلا غَيْرِهَا، وَإِنْ قُلنَا إنَّهُ للوَارِثِ فَهَل يَلزَمُهُ الزَّكَاةُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: نَعَمْ، لأَنَّهُ مِلكُهُ، وأصحهما: لا، لضَعْفِهِ بِتَسَلطِ المُوصَى لهُ عَليْهِ، وَإِنْ قُلنَا: إنَّهُ مَوْقُوفٌ فَقَبِل، بَانَ أَنَّهُ مَلكَ بِالمَوْتِ، وَلا زَكَاةَ عَليْهِ فِي أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ لعَدَمِ اسْتِقْرَارِ مِلكِهِ وَعَلى الثَّانِي يَجِبُ لوُجُودِ المِلكِ.
فرع: إذَا أَصَدَقَ امْرَأَتَهُ أَرْبَعِينَ شَاةً سَائِمَةً بِأَعْيَانِهَا لزِمَهَا الزَّكَاةُ إذَا تَمَّ حَوْلهَا مِنْ يَوْمِ الإِصْدَاقِ، سَوَاءٌ أَدَخَل بِهَا أَمْ لا، وَسَوَاءٌ قَبَضَتْهَا أَمْ لا، هَذَا هُوَ المَذْهَبُ، وَقَدْ سَبَقَتْ الإِشَارَةُ إليْهَا، وَقَدْ صَرَّحَ

 

ج / 5 ص -363-       بِهِ المُصَنِّفُ فِي قِيَاسِهِ، وَفِيهِ قَوْلٌ مُخْرِجٌ مِنْ الأُجْرَةِ أَنَّهُ إذَا لمْ يَدْخُل بِهَا فَهُوَ كَالأُجْرَةِ عَلى مَا سَبَقَ وَحُكِيَ وَجْهٌ أَنَّهُ مَا لمْ يَقْبِضْهَا لا زَكَاةَ عَليْهَا وَلا عَلى الزَّوْجِ، تَفْرِيعًا عَلى أَنَّ الصَّدَاقَ مَضْمُونٌ ضَمَانَ العَقْدِ، فَيَكُونُ عَلى الخِلافِ فِي المَبِيعِ قَبْل القَبْضِ، وَبِهَذَا قَال أَبُو حَنِيفَةَ: وَالمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الذِي قَطَعَ بِهِ الجُمْهُورُ القَطْعُ بِالوُجُوبِ عَليْهَا مُطْلقًا، وَلوْ طَلقَهَا قَبْل الدُّخُول نَظَرَ إنْ طَلقَهَا قَبْل الحَوْل عَادَ نِصْفُ المَاشِيَةِ إلى الزَّوْجِ، فَإِنْ لمْ يُمَيِّزْ فَهُمَا خَليطَانِ فَعَليْهَا عِنْدَ تَمَامِ الحَوْل مِنْ يَوْمِ الإِصْدَاقِ نِصْفُ شَاةٍ. وَإِنْ طَلقَ بَعْدَ تَمَامِ الحَوْل فَلهَا ثَلاثَةُ أَحْوَالٍ.
أحدها: أَنْ تَكُونَ قَدْ أَخْرَجَتْ الزَّكَاةَ مِنْ نَفْسِ المَاشِيَةِ فَفِيمَا يَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ ثَلاثَةُ أَقْوَالٍ: أحدها: نِصْفُ الجُمْلةِ فَإِنْ تَسَاوَتْ قِيمَةُ الغَنَمِ أَخَذَ مِنْهَا عِشْرِينَ، وَإِنْ اخْتَلفَتْ أَخَذَ النِّصْفَ بِالقِيمَةِ وَهَذَا نَصُّهُ فِي المُخْتَصَرِ، والثاني: نِصْفُ الغَنَمِ البَاقِيَةِ، وَنِصْفُ قِيمَةِ الشَّاةِ المُخْرَجَةِ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ مِنْ الأُمِّ وَهُوَ الأَصَحُّ، قَال ابْنُ الصَّبَّاغِ: هُوَ الأَقْيَسُ لأَنَّ حَقَّهُ يَتَعَلقُ بِنِصْفِ عَيْنِ الصَّدَاقِ؛ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ العَيْنِ، فَيَرْجِعُ فِي نِصْفِ مَا بَقِيَ، والثالث: أَنَّهُ بِالخِيَارِ بَيْنَ مَا ذَكَرْنَا فِي القَوْل الثَّانِي، وَبَيْنَ أَنْ يَتْرُكَ الجَمِيعَ وَيَرْجِعَ بِنِصْفِ القِيمَةِ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي كِتَابِ الصَّدَاقِ، هَذَا إذَا كَانَ المُخْرَجُ مِنْ جِنْسِ مَال الصَّدَاقِ، فَلوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ بِأَنْ أَصْدَقهَا خَمْسًا مِنْ الإِبِل، فَحَال الحَوْل فَبَاعَتْ بَعِيرًا، وَاشْتَرَتْ مِنْ ثَمَنِهِ شَاةً أَخْرَجَتْهَا زَكَاةً فَنَقَل السَّرَخْسِيُّ عَنْ الأَصْحَابِ أَنَّهُ إنْ قُلنَا: إذَا كَانَ الوَاجِبُ مِنْ جِنْسِهِ يَنْصَرِفُ المُخْرَجُ إلى حِصَّتِهَا وَيَرْجِعُ الزَّوْجُ بِعَشْرَيْنِ شَاةً فَهُنَا أَوْلى، وَإِلا فَقَوْلانِ: أحدهما: الحُكْمُ كَمَا سَبَقَ مِنْ القَوْليْنِ البَاقِيَيْنِ مِنْ الثَّلاثَةِ، والثاني: أَنَّهُ يَنْصَرِفُ هُنَا إلى نَصِيبِهَا وَإِنْ لمْ يَنْصَرِفْ هُنَاكَ فَيَرْجِعَ الزَّوْجُ بِعِشْرِينَ كَامِلةً؛ لأَنَّهَا بِاخْتِيَارِهَا صَرَفَتْ المُخْرَجَ فِي هَذِهِ الجِهَةِ، فَوَجَبَ اخْتِصَاصُهُ بِهَا.
الحال الثاني:أَنْ تَكُونَ أَخْرَجَتْ الزَّكَاةَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَالمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ العِرَاقِيُّونَ وَغَيْرُهُمْ، يَأْخُذُ نِصْفَ الأَرْبَعِينَ، وَقَال الصَّيْدَلانِيُّ وَجَمَاعَةٌ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: هَذَا، وَالثَّانِي: يَرْجِعُ إلى نِصْفِ القِيمَةِ.
الحَال الثَّالثُ: أَنْ لا تَخْرُجُ الزَّكَاةُ أَصْلًا، فَالمَذْهَبُ أَنَّ نِصْفَ الأَرْبَعِينَ تَعُودُ إلى الزَّوْجِ شَائِعًا، فَإِذَا جَاءَ السَّاعِي وَأَخَذَ مِنْ عَيْنِهَا شَاةً رَجَعَ الزَّوْجُ عَليْهَا بِنِصْفِ قِيمَتِهَا. قَال صَاحِبُ الحَاوِي: فَلوْ اقْتَسَمَاهَا قَبْل إخْرَاجِ زَكَاتِهَا فَفِي صِحَّةِ القِسْمَةِ وَجْهَانِ مُخْرَجَانِ مِنْ القَوْليْنِ فِي تَعَلقِ الزَّكَاةِ بِالعَيْنِ أَوْ الذِّمَّةِ، إنْ قُلنَا تَتَعَلقُ بِالعَيْنِ فَالقِسْمَةُ بَاطِلةٌ، وَإِنْ قُلنَا بِالذِّمَّةِ فَصَحِيحَةٌ، فَعَلى هَذَا لهُمَا عِنْدَ مُطَالبَةِ السَّاعِي بِالزَّكَاةِ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: أحدها: أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ كُل وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَاقِيًا فِي يَدِهِ، فَيَأْخُذُ السَّاعِي الزَّكَاةَ مِمَّا فِي يَدِهَا دُونَ مَا فِي يَدِ الزَّوْجِ، لأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا وَجَبَتْ عَليْهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا مِنْهَا اسْتَقَرَّ مِلكُ الزَّوْجِ عَلى مَا فِي يَدِهِ.
الثاني: أَنْ يَكُونَ نَصِيبَاهُمَا تَالفَيْنِ، فَأَيُّهُمَا يُطَالبُ بِالزَّكَاةِ؟ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: الزَّوْجَةُ لأَنَّ الوُجُوبَ عَليْهَا، وَالثَّانِي: للسَّاعِي مُطَالبَةُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمَا، لأَنَّ الزَّكَاةَ وَجَبَتْ فِيمَا كَانَ بِأَيْدِيهِمَا، فَإِنْ

 

ج / 5 ص -364-       طَالبَ الزَّوْجَةَ لمْ يَرْجِعْ عَلى الزَّوْجِ، وَإِنْ طَالبَهُ وَأَخَذَ مِنْهُ رَجَعَ عَلى الزَّوْجَةِ. الثَّالثُ: أَنْ يَكُونَ مَا فِي يَدِهَا بَاقِيًا دُونَ مَا فِي يَدِهِ فَيَأْخُذُ السَّاعِي مِنْهَا وَلا رُجُوعَ لهَا.
الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَا فِي يَدِ الزَّوْجِ بَاقِيًا، دُونَ مَا فِي يَدِهَا، فَيَأْخُذُ السَّاعِي الزَّكَاةَ مِمَّا فِي يَدِ الزَّوْجِ، لأَنَّ الزَّكَاةَ تَعَلقَتْ بِمَا فِي يَدِهِ، فَإِذَا أَخَذَهَا فَفِي بُطْلانِ القِسْمَةِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: تَبْطُل لأَنَّهُ أَخَذَهَا بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ، فَصَارَ قَدْرُ الزَّكَاةِ كَالمُسْتَحَقِّ حَال القِسْمَةِ.
فَفي هَذَا بُطْلانُ القِسْمَةِ يَكُونُ لوُجُودِ بَعْضِ الصَّدَاقِ للزَّوْجِ دُونَ بَعْضِهِ، فَيَكُونُ عَلى الأَقْوَال الثَّلاثَةِ، وَالوَجْهُ الثَّانِي لا تَبْطُل القِسْمَةُ، لأَنَّ الوُجُوبَ فِي ذِمَّتِهَا وَأَخْذُ السَّاعِي كَانَ بَعْدَ صِحَّةِ القِسْمَةِ فَلمْ يُبْطِلهَا، كَمَا لوْ أَتْلفَتْ المَرْأَةُ شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِ الزَّوْجِ بِقِسْمَةٍ، فَعَلى هَذَا للزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عَلى الزَّوْجَةِ بِقِيمَةِ الشَّاةِ المَأْخُوذَة وَإِنْ كَانَتْ مِثْل مَا وَجَبَ عَليْهَا، فَإِنْ أَخَذَ السَّاعِي مِنْهُ زِيَادَةً لمْ يَرْجِعْ بِالزِّيَادَةِ؛ لأَنَّ السَّاعِيَ ظَلمَهُ بِهَا فَلا يَجُوزُ رُجُوعُهُ عَلى غَيْرِهِ. هَذَا آخِرُ كَلامِ صَاحِبِ الحَاوِي قَال القَاضِي أَبُو الطِّيبِ فِي المُجَرَّدِ وَالأَصْحَابُ فِي هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ الأَخِيرَيْنِ: الصَّحِيحُ أَنَّهُ لا تَبْطُل القِسْمَةُ. وَقَال السَّرَخْسِيُّ: إذَا طَلقَهَا بَعْدَ الحَوْل وَقَبْل إخْرَاجِ الزَّكَاةِ فَتَقَاسَمَا قَبْل إخْرَاجِ الزَّكَاةِ صَحَّتْ المُقَاسَمَةُ عَلى ظَاهِرِ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَعَليْهِ فَرَّعَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه. لكِنْ قَال أَصْحَابُنَا: إنْ قُلنَا: القِسْمَةُ إفْرَازٌ صَحَّتْ كَمَا نُصَّ عَليْهِ. فَإِنْ قُلنَا: إنَّهَا بَيْعٌ فَحُكْمُهُ مَا سَبَقَ فِي بَيْعِ مَال الزَّكَاةِ، فَإِنْ قُلنَا: بِصِحَّةِ القِسْمَةِ فَجَاءَ السَّاعِي لأَخْذِ الزَّكَاةِ فَإِنْ وَجَدَ فِي مِلكِ المَرْأَةِ مِنْ عَيْنِ الصَّدَاقِ أَوْ غَيْرِهِ قَدْرَ الزَّكَاةِ أَخَذَهَا مِنْهَا وَإِلا فَمِمَّا أَخَذَهُ الزَّوْجُ، ثُمَّ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَليْهَا بِقِيمَةِ المَأْخُوذِ.
قَال القَاضِي أَبُو الطِّيبِ وَغَيْرُهُ: وَهَذَا الحُكْمُ فِي كُل صَدَاقٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي عَيْنِهِ قَال الشَّافِعِيُّ فِي الأُمِّ وَالأَصْحَابُ: وَلوْ أَصْدَقهَا أَرْبَعِينَ شَاةً فِي الذِّمَّةِ فَلا زَكَاةَ، وَإِنْ مَضَتْ أَحْوَالٌ، وَهَذَا لا خِلافَ فِيهِ، لأَنَّ الحَيَوَانَ يُشْتَرَطُ فِي زَكَاتِهِ السَّوْمُ وَلا يُتَصَوَّرُ ذَلكَ فِيمَا فِي الذِّمَّةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَتْ هَذِهِ المَسْأَلةُ، وَكَذَا لوْ أَسْلمَ إليْهِ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً فَلا زَكَاةَ فِيهَا بِلا خِلافٍ لمَا ذَكَرْنَاهُ. وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
قَال المُصَنِّفُ رحمه الله تعالى:"وَمَنْ مَلكَ مَصُوغًا مِنْ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ، فَإِنْ كَانَ مُعَدًّا للقُنْيَةِ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ لأَنَّهُ مُرْصَدٌ للنَّمَاءِ فَهُوَ كَغَيْرِ المَصُوغِ، وَإِنْ كَانَ مُعَدًّا للاسْتِعْمَال نَظَرْت - فَإِنْ كَانَ لاسْتِعْمَالٍ مُحَرَّمٍ كَأَوَانِي الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَمَا يَتَّخِذُهُ الرَّجُل لنَفْسِهِ مِنْ سِوَارٍ أَوْ صُوفِ أَوْ خَاتَمِ ذَهَبٍ، أَوْ مَا يُحَلى بِهِ المُصْحَفُ أَوْ يُؤَزَّرُ بِهِ المَسْجِدُ أَوْ يُمَوَّهُ بِهِ السَّقْفُ أَوْ كَانَ مَكْرُوهًا كَالتَّضْبِيبِ القَليل للزِّينَةِ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ؛ لأَنَّهُ عَدَل بِهِ عَنْ أَصْلهِ بِفِعْلٍ غَيْرِ مُبَاحٍ، فَسَقَطَ حُكْمُ فِعْلهِ وَبَقِيَ عَلى حُكْمِ الأَصْل، وَإِنْ كَانَ لاسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ كَحُليِّ النِّسَاءِ وَمَا أُعِدَّ لهُنَّ وَخَاتَمِ الفِضَّةِ للرِّجَال فَفِيهِ قولان: أحدهما: لا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَال:
"ليْسَ فِي الحُليِّ زَكَاةٌ"وَلأَنَّهُ مُعَدٌّ لاسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ فَلمْ تَجِبْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَالعَوَامِل مِنْ الإِبِل وَالبَقَرِ، والثاني: تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَاسْتَخَارَ اللهَ فِيهِ الشَّافِعِيُّ وَاخْتَارَهُ لمَا رُوِيَ "أَنَّ امْرَأَةً مِنْ اليَمَنِ جَاءَتْ إلى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهَا ابْنَتُهَا فِي يَدِهَا مُسْكَتَانِ غَليظَتَانِ مِنْ الذَّهَبِ، فَقَال لهَا

 

ج / 5 ص -365-       رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا؟ فَقَالتْ: لا، فَقَال رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم: أَيَسُرُّك أَنْ يُسَوِّرَك اللهُ بِهِمَا سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟ فَخَلعَتْهُمَا وَأَلقَتْهُمَا إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالتْ: هُمَا للهِ وَلرَسُولهِ"وَلأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الأَثْمَانِ فَأَشْبَهَ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ، وَفِيمَا لطِّخَ بِهِ اللجَامُ وَجْهَانِ. قَال أَبُو الطِّيبِ بْنُ سَلمَةَ: هُوَ مُبَاحٌ كَاَلذِي حُليَ بِهِ المِنْطَقَةُ وَالسَّيْفُ فَيَكُونُ عَلى قَوْليْنِ. وَقَال أَبُو إِسْحَاقَ لا يَحِل وَهُوَ المَنْصُوصُ لأَنَّهُ هَذَا حِليَةٌ للدَّابَّةِ بِخِلافِ السَّيْفِ وَالمِنْطَقَةِ، فَإِنَّ ذَلكَ حِليَةٌ فِي الحَرْبِ فَحَل. وَإِنْ كَانَ للمَرْأَةِ حُليٌّ فَانْكَسَرَ بِحَيْثُ لا يُمْكِنُ لبْسُهُ إلا أَنَّهُ يُمْكِنُ إصْلاحُهُ للبْسِ فَفِيهِ قَوْلانِ: أحدهما: تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لأَنَّهُ لا يُمْكِنُ لبْسُهُ فَوَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ كَمَا لوْ تَفَتَّتَ، والثاني: لا تَجِبُ لأَنَّهُ للإِصْلاحِ وَاللبْسُ أَقْرَبُ، وَإِنْ كَانَ لهَا حُليٌّ مُعَدٌّ للإِجَارَةِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ: أحدهما: أَنَّهُ تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لأَنَّهُ مُعَدٌّ لطَلبِ النَّمَاءِ فَأَشْبَهَ إذَا اشْتَرَاهُ للتِّجَارَةِ، والثاني: أَنَّهُ عَلى قَوْليْنِ؛ لأَنَّ النَّمَاءَ المَقْصُودَ قَدْ فُقِدَ لأَنَّ مَا يَحْصُل مِنْ الأُجْرَةِ قَليلٌ فَلمْ يُؤَثِّرْ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ كَأُجْرَةِ العَوَامِل مِنْ الإِبِل وَالبَقَرِ. وَإِذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي حُليٍّ تَنْقُصُ قِيمَتُهُ بِالكَسْرِ مَلكَ الفُقَرَاءُ رُبْعَ العُشْرِ مِنْهُ وَيُسَلمُهُ إليْهِمْ بِتَسْليمِ مِثْلهِ ليَسْتَقِرَّ مِلكُهُمْ عَليْهِ كَمَا قُلنَا فِي الرُّطَبِ الذِي لا يَجِيءُ مِنْهُ تَمْرٌ. وَقَال أَبُو العَبَّاسِ: يُخْرِجُ زَكَاتَهُ بِالقِيمَةِ؛ لأَنَّهُ يَشُقُّ تَسْليمُ بَعْضِهِ، وَالأَوَّل أَظْهَرُ".
الشَّرْحُ:
أَمَّا الأَحَادِيثُ وَالآثَارُ الوَارِدَةُ فِي زَكَاةِ الحُليِّ وَعَدَمِهَا، فَمِنْهَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ "أَنَّ امْرَأَةً أَتَتْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهَا ابْنَةٌ لهَا وَفِي يَدِ ابْنَتِهَا مُسْكَتَانِ غَليظَتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَال لهَا: أَتُعْطِينَ زَكَاةَ هَذَا؟ قَالتْ: لا. قَال: أَيَسُرُّك أَنْ يُسَوِّرَك اللهُ بِهِمَا يَوْمَ القِيَامَةِ سِوَارَيْنِ مِنْ نَارٍ؟ فَخَلعَتْهُمَا فَأَلقَتْهُمَا إلى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالتْ: هُمَا للهِ وَلرَسُولهِ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي كَامِلٍ الجَحْدَرِيِّ عَنْ خَالدِ بْنِ الحَارِثِ عَنْ حُسَيْنِ المُعَلمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَهَذَا إسْنَادٌ حَسَنٌ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ لهِيعَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ، فَذَكَرَهُ بِنَحْوِهِ. ثُمَّ قَال التِّرْمِذِيُّ: هَذَا رَوَاهُ المُثَنَّى بْنُ صَبَاحٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، وَالمُثَنَّى وَابْنُ لهِيعَةَ ضَعِيفَانِ. قَال: وَلا يَصِحُّ فِي هَذَا البَابِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ. هَذَا آخِرُ كَلامِ التِّرْمِذِيِّ، وَهَذَا التَّضْعِيفُ الذِي ضَعَّفَهُ التِّرْمِذِيُّ بِنَاءً عَلى انْفِرَادِ ابْنِ لهِيعَةَ وَالمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ بِهِ، وَليْسَ هُوَ مُفْرَدًا بَل رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ حُسَيْنٍ المُعَلمِ كَمَا ذَكَرْنَا عَنْ عَمْرِو1 بْنِ شُعَيْبٍ، وَحُسَيْنٌ ثِقَةٌ بِلا خِلافٍ؛ رَوَى لهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلمٌ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ خَالدِ بْنِ الحَارِثِ مَرْفُوعًا كَمَا سَبَقَ، وَمِنْ رِوَايَةِ مُعْتَمِرِ بْنِ سُليْمَانَ مُرْسَلًا، ثُمَّ قَال: خَالدُ بْنُ الحَارِثِ أَثْبَتُ عِنْدَنَا مِنْ مُعْتَمِرٍ، وَحَدِيثُ مُعْتَمِرٍ أَوْلى بِالصَّوَابِ، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالتْ:
"دَخَل عَليَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم فَرَأَى فِي يَدَيَّ فَتَخَاتٍ مِنْ وَرِقٍ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال في عون المعبود: وأخرجه الترمذي بنحوه وقال: لايصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم وأخرجه النسائي مسندا ومرسلا وذكر أن المرسل أولى بالصواب ا 2/15 قال الزيلعي: قال ابن القطان: إسناده صحيح. وقال المنذري: إسناده لامقال فيه فإن أبا داود رواه عن أبي كامل الجحدري وحميد بن مسعد وهما من الثقات واحتف بهما مسلم وخالد ابن الحارث إمام فقيه احتج به البخاري ومسلم وكذلك حسين بن ذكوان المعلم احتجا به في الصحيح ووثقه ابن المديني وابن معين وأبو حاتم (ط).

 

ج / 5 ص -366-       فَقَال: مَا هَذَا يَا عَائِشَةُ؟ فَقُلت: صُغْتهنَّ أَتَزَيَّنُ لك يَا رَسُول اللهِ، قَال: أَتُؤَدِّينَ زَكَاتَهُنَّ؟ قُلت: لا أَوْ مَا شَاءَ اللهُ، قَال: هُوَ حَسْبُك مِنْ النَّارِ"وَعَنْ أُمِّ سَلمَةَ قَالتْ: "كُنْت أَلبَسُ أَوْضَاحًا مِنْ ذَهَبٍ فَقُلت: يَا رَسُول اللهِ أَكَنْزٌ هُوَ؟ فَقَال: مَا بَلغَ أَنْ يُؤَدَّى زَكَاتُهُ فَزُكِّيَ فَليْسَ بِكَنْزٍ"رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَقَدْ سَبَقَ ذِكْرُهُ فِي هَذَا البَابِ عَنْ نَافِعٍ، وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ وَرَوَى مَالكٌ فِي المُوَطَّأِ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ القَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "أَنَّهَا كَانَتْ تُحَلي بَنَاتَ أَخِيهَا يَتَامَى فِي حِجْرِهَا لهُنَّ الحُليُّ فَلا تُخْرِجُ مِنْهُ الزَّكَاةَ "وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنها: "أَنَّهَا كَانَتْ تُحَلي بَنَاتَهَا الذَّهَبَ وَلا تُزَكِّيه نَحْوًا مِنْ خَمْسِينَ أَلفًا ".
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه هَذِهِ الأَحَادِيثَ وَالآثَارَ فِي الأُمِّ، وَرَوَاهَا عَنْهُ البَيْهَقِيُّ فِي مَعْرِفَةِ السُّنَنِ وَالآثَارِ. ثُمَّ رَوَى البَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَال: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَال: "سَمِعْت رَجُلًا يَسْأَل جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ عَنْ الحُليِّ أَفِيه زَكَاةٌ؟ فَقَال جَابِرٌ: لا فَقَال: وَإِنْ كَانَ يَبْلغُ أَلفَ دِينَارٍ؟ فَقَال جَابِرٌ: كَثِيرٌ "قَال الشَّافِعِيُّ وَيُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالكٍ وَلا أَدْرِي أَثَبَتَ عَنْهُمَا مَعْنَى قَوْل هَؤُلاءِ: ليْسَ فِي الحُليِّ زَكَاةٌ. قَال الشَّافِعِيُّ: وَيُرْوَى عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ أَنَّ فِي الحُليِّ زَكَاةً. قَال البَيْهَقِيُّ: قَدْ رَوَيْنَاهُ عَنْهُمَا وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَال: وَحَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْهُمْ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَال الشَّافِعِيُّ: وَهَذَا مِمَّا أَسْتَخِيرُ اللهَ تَعَالى فِيهِ.
قَال الشَّافِعِيُّ فِي القَدِيمِ: وَقَال بَعْضُ النَّاسِ: فِي الحُليِّ زَكَاةٌ وَرَوَى فِيهِ شَيْئًا ضَعِيفًا. قَال البَيْهَقِيُّ: وَكَأَنَّهُ أَرَادَ حَدِيثَ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ السَّابِقَ ثُمَّ رَوَاهُ البَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حُسَيْنِ المُعَلمِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ كَمَا سَبَقَ، وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ الحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ بِبَعْضِهِ قَال البَيْهَقِيُّ: حُسَيْنُ أَوْثَقُ مِنْ الحَجَّاجِ غَيْرَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ كَانَ كَالمُتَوَقِّفِ فِي رِوَايَاتِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ إذَا لمْ يَنْضَمَّ إليْهَا مَا يُؤَكِّدُهَا لأَنَّهُ قِيل: إنَّ رِوَايَاتِهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّهَا صَحِيفَةٌ كَتَبَهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرٍو1. قَال البَيْهَقِيُّ: وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الحَجِّ وَغَيْرِهِ مَا يَدُل عَلى صِحَّةِ سَمَاعِ عَمْرِو مِنْ أَبِيهِ، وَسَمَاعِ أَبِيهِ مِنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو، قَال: وَقَدْ انْضَمَّ إلى حَدِيثِهِ هَذَا حَدِيثُ أُمِّ سَلمَةَ وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الفَتَخَاتِ قَال البَيْهَقِيُّ: مَنْ قَال: لا زَكَاةَ فِي الحُليِّ زَعَمَ أَنَّ الأَحَادِيثَ وَالآثَارَ الوَارِدَةَ فِي وُجُوبِ زَكَاتِهِ كَانَتْ حِين كَانَ التَّحَلي بِالذَّهَبِ حَرَامًا عَلى النِّسَاءِ، فَلمَّا أُبِيحَ لهُنَّ سَقَطَتْ زَكَاتُهُ قَال البَيْهَقِيُّ: وَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا القَوْل مَعَ حَدِيثِ عَائِشَةَ إنْ كَانَ ذِكْرُ الوَرِقِ فِيهِ مَحْفُوظًا؟ غَيْرَ أَنَّ رِوَايَةَ القَاسِمِ وَابْنِ أَبِي مُليْكَةَ عَنْ عَائِشَةَ فِي تَرْكِهَا إخْرَاجَ زَكَاةِ الحُليِّ مَعَ مَا ثَبَتَ مِنْ مَذْهَبِهَا مِنْ إخْرَاجِ زَكَاةِ أَمْوَال اليَتَامَى يُوقِعُ رِيبَةً فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ المَرْفُوعَةِ؛ فَهِيَ لا تُخَالفُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَتْهُ عَنْهُ إلا فِيمَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الصواب الذي انتهى إليه بحثنا إن إسناد عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده يعد من أعلا الأسانيد فهو من أسانيد أصح الصحيح إن شاء الله (ط).

 

ج / 5 ص -367-       عَلمَتْهُ مَنْسُوخًا. قَال البَيْهَقِيُّ: وَمِنْ العُلمَاءِ مَنْ قَال: زَكَاةُ الحُليِّ عَارِيَّتُهُ، رُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ.
قَال البَيْهَقِيُّ: وَاَلذِي يَرْوِيه فُقَهَاؤُنَا عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
"ليْسَ فِي الحُليِّ زَكَاةٌ"لا أَصْل لهُ إنَّمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ مِنْ قَوْلهِ غَيْرَ مَرْفُوعٍ؛ وَاَلذِي يُرْوَى عَنْ عَافِيَةَ بْنِ أَيُّوبَ عَنْ الليْثِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ مَرْفُوعًا لا أَصْل لهُ وَعَافِيَةُ بْنُ أَيُّوبَ مَجْهُولٌ، فَمَنْ احْتَجَّ بِهِ مَرْفُوعًا كَانَ مُغَرَّرًا بِدِينِهِ دَاخِلًا فِيمَا نَعِيبُ بِهِ المُخَالفِينَ مِنْ الاحْتِجَاجِ بِرِوَايَةِ الكَذَّابِينَ وَاَللهُ يَعْصِمُنَا مِنْ أَمْثَالهِ. هَذَا آخِرُ كَلامِ البَيْهَقِيّ، فَهَذَا مُخْتَصَرُ مَا يَتَعَلقُ بِأَحَادِيثِ البَابِ، وَحَصَل فِي ضِمْنِهِ بَيَانُ الحَدِيثَيْنِ اللذَيْنِ ذَكَرَهُمَا المُصَنِّفُ، وَهُمَا حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ وَحَدِيثُ جَابِرٍ، وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
أَمَّا أَحْكَامُ الفَصْل: فَمَقْصُودُهُ بَيَانُ مَا يَجُوزُ لبْسُهُ مِنْ الحُليِّ للرِّجَال وَالنِّسَاءِ، وَمَا يَجُوزُ للرِّجَال خَاصَّةً أَوْ للنِّسَاءِ خَاصَّةً. وَمَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ مِنْهُ قَدْ سَبَقَ بَيَانُ جُمَلٍ مِنْهُ فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ لبْسُهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ رَحِمهمْ اللهُ تَعَالى مَا يَحِل مِنْ الحُليِّ وَيَحْرُمُ فِي هَذَا البَابِ ليُعْلمَ حُكْمُ الزَّكَاةِ فِيهِ. قَال الشَّافِعِيُّ وَالأَصْحَابُ: فَكُل مُتَّخِذٍ مِنْ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ مِنْ حُليٍّ وَغَيْرِهِ إذَا حَكَمَ بِتَحْرِيمِ اسْتِعْمَالهِ أَوْ كَرَاهَتِهِ وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ بِلا خِلافٍ، وَنَقَلوا فِيهِ إجْمَاعَ المُسْلمِينَ.
وَإِنْ كَانَ اسْتِعْمَالهُ مُبَاحًا كَحُليِّ النِّسَاءِ وَخَاتَمِ الفِضَّةِ للرَّجُل وَالمِنْطَقَةِ وَغَيْرِ ذَلكَ مِمَّا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى فَفِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ قَوْلانِ مَشْهُورَانِ أصحهما: عِنْدَ الأَصْحَابِ: لا، كَمَا لا تَجِبُ فِي ثِيَابِ البَدَنِ وَالأَثَاثِ وَعَوَامِل الإِبِل وَالبَقَرِ، وَهَذَا مَعَ الآثَارِ السَّابِقَةِ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم، وَهَذَا نَصُّهُ فِي البُوَيْطِيِّ وَالقَدِيمِ؛ وَقَال السَّرَخْسِيُّ وَغَيْرُهُ: وَبِهِ قَال أَكْثَرُ أَهْل العِلمِ؛ وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا المُزَنِيّ وَابْنُ القَاصِّ فِي المِفْتَاحِ وَالبَنْدَنِيجِيّ وَالمَاوَرْدِيُّ وَالمَحَامِليُّ وَالقَاضِي أَبُو الطِّيبِ فِي المُجَرَّدِ وَالدَّارِمِيُّ فِي الاسْتِذْكَارِ، وَالغَزَاليُّ فِي الخُلاصَةِ؛ وَالرَّافِعِيُّ فِي كِتَابَيْهِ وَآخَرُونَ لا يُحْصَوْنَ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَاتٌ مِنْهُمْ المَحَامِليُّ فِي المُقْنِعِ وَسُليْمٌ الرَّازِيّ فِي الكِفَايَةِ، وَالمُصَنِّفُ فِي عُيُونِ المَسَائِل وَالجُرْجَانِيُّ فِي كِتَابَيْهِ التَّحْرِيرِ وَالبُلغَةِ، وَالشَّيْخُ نَصْرُ المَقْدِسِيُّ فِي الكَافِي وَآخَرُونَ.
وَأَمَّا قَوْل الفُورَانِيِّ: إنَّ القَدِيمَ وُجُوبُ الزَّكَاةِ وَالجَدِيدَ لا تَجِبُ، فَغَلطٌ صَرِيحٌ مُخَالفٌ لمَا قَالهُ الأَصْحَابُ، بَل الصَّوَابُ المَشْهُورُ نَصُّهُ فِي القَدِيمِ: لا تَجِبُ وَفِي الجَدِيدِ قَوْلانِ نُصَّ عَليْهِمَا فِي الأُمِّ، وَنُصَّ فِي البُوَيْطِيِّ أَنَّهُ لا تَجِبُ كَمَا نُصَّ فِي القَدِيمِ، وَالمَذْهَبُ لا تَجِبُ كَمَا ذَكَرْنَا، هَذَا إذَا كَانَ مُعَدًّا لاسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ كَمَا سَبَقَ. قَال أَصْحَابُنَا: وَلوْ اتَّخَذَ حُليًّا وَلمْ يَقْصِدْ بِهِ اسْتِعْمَالًا مُحَرَّمًا وَلا مَكْرُوهًا وَلا مُبَاحًا بَل قَصَدَ كَنْزًا وَاقْتِنَاءً، فَالمَذْهَبُ الصَّحِيحُ المَشْهُورُ الذِي قَطَعَ بِهِ المُصَنِّفُ وَالجُمْهُورُ وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهِ، قَال الرَّافِعِيُّ: وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَى فِيهِ خِلافًا، وَلوْ اتَّخَذَ حُليًّا مُبَاحًا فِي عَيْنِهِ لكِنْ لمْ يَقْصِدْ بِهِ اسْتِعْمَالًا وَلا كَنْزًا وَاقْتِنَاءً، أَوْ اتَّخَذَ ليُؤَجِّرَهُ فَإِنْ قُلنَا: تَجِبُ الزَّكَاةُ فِي الحُليِّ المُتَّخَذِ للاسْتِعْمَال المُبَاحِ فَهُنَا أَوْلى، وَإِلا فَوَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لا زَكَاةَ فِيهِ، كَمَا لوْ اتَّخَذَهُ ليُعِيرَهُ وَلا أَثَرَ للأُجْرَةِ كَأُجْرَةِ المَاشِيَةِ العَوَامِل وَالثَّانِي تَجِبُ قَوْلًا وَاحِدًا، لأَنَّهُ مُعَدٌّ للنَّمَاءِ. قَال المَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا

 

ج / 5 ص -368-       قَوْل أَبِي عَبْدِ اللهِ الزُّبَيْرِيِّ، وَصَحَّحَهُ الجُرْجَانِيُّ فِي التَّحْرِيرِ لكِنَّ المَذْهَبَ أَنَّهُ عَلى القَوْليْنِ، وَالأَصَحُّ لا زَكَاةَ فِيهِ صَحَّحَهُ المَاوَرْدِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ، وَقَطَعَ القَاضِي أَبُو الطِّيبِ فِي المُجَرَّدِ وَآخَرُونَ بِأَنَّ المُتَّخَذَ للإِجَارَةِ مُبَاحٌ وَفِي زَكَاتِهِ القَوْلانِ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ المُتَّخَذَ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ إنْ كَانَ اسْتِعْمَالهُ مُحَرَّمًا وَجَبَتْ فِيهِ الزَّكَاةُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ كَانَ مُبَاحًا فَلا زَكَاةَ فِي الأَصَحِّ، قَال أَصْحَابُنَا: المُحَرَّمُ نَوْعَانِ: مُحَرَّمٌ لعَيْنِهِ كَالأَوَانِي وَالمَلاعِقِ وَالمَجَامِرِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَمُحَرَّمٌ بِالقَصْدِ بِأَنْ يَقْصِدَ الرَّجُل بِحُليِّ النِّسَاءِ الذِي يَمْلكُهُ كَالسِّوَارِ وَالخَلخَال أَنْ يَلبَسَهُ أَوْ يُلبِسَهُ غِلمَانَهُ، أَوْ قَصَدَتْ المَرْأَةُ بِحُليِّ الرِّجَال كَالسَّيْفِ وَالمِنْطَقَةِ أَنْ تَلبَسَهُ أَوْ تُلبِسَهُ جَوَارِيهَا أَوْ غَيْرَهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ. أَوْ أَعَدَّ الرَّجُل حُليَّ الرِّجَال لنِسَائِهِ وَجَوَارِيه، أَوْ أَعَدَّتْ المَرْأَةُ حُليَّ النِّسَاءِ لزَوْجِهَا وَغِلمَانِهَا، فَكُلهُ حَرَامٌ بِلا خِلافٍ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ بِالاتِّفَاقِ.
وَلوْ اتَّخَذَ حُليًّا وَلمْ يَقْصِدْ بِهِ اسْتِعْمَالًا، بَل قَصَدَ كَنْزَهُ وَاقْتِنَاءَهُ أَوْ إيجَارَهُ فَفِيهِ خِلافٌ قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا، قَال أَصْحَابُنَا: وَحُكْمُ القَصْدِ الطَّارِئِ بَعْدَ الصِّيَاغَةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا حُكْمُ المُقَارَنِ، فَلوْ اتَّخَذَهُ بِقَصْدِ اسْتِعْمَالٍ مُحَرَّمٍ ثُمَّ قَصَدَ مُبَاحًا بَطَل الحَوْل إذَا قُلنَا لا زَكَاةَ فِي الحُليِّ، فَلوْ عَادَ القَصْدُ المُحَرَّمُ ابْتَدَأَ الحَوْل، وَكَذَا لوْ قَصَدَ الاسْتِعْمَال، ثُمَّ قَصَدَ كَنْزَهُ ابْتَدَأَ الحَوْل، وَكَذَا نَظَائِرُهُ، وَلوْ اتَّخَذَ الرَّجُل حُليَّ النِّسَاءِ وَالمَرْأَةُ حُليَّ الرِّجَال بِلا قَصْدٍ، وَقُلنَا: لا زَكَاةَ فِي الحُليِّ فَقَدْ سَبَقَ قَرِيبًا أَنَّهُ لا زَكَاةَ فِيهِ فِي أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ، وَاحْتَجَّ البَغَوِيّ بِأَنَّ الاتِّخَاذَ مُبَاحٌ فَلا يَجُوزُ إيجَابُ الزَّكَاةِ بِالشَّكِّ.
فرع: إذَا قُلنَا بِالمَذْهَبِ أَنَّهُ لا زَكَاةَ فِي الحُليِّ فَانْكَسَرَ. فَلهُ أَحْوَالٌ: أحدها: أَنْ يَنْكَسِرَ بِحَيْثُ يُمْنَعُ الاسْتِعْمَال فَلا تَأْثِيرَ لانْكِسَارِهِ بِلا خِلافٍ؛ وَيَبْقَى فِي زَكَاتِهِ القَوْلانِ، والثاني: يَنْكَسِرُ بِحَيْثُ يَمْتَنِعُ الاسْتِعْمَال، وَيَحُوجُ إلى سَبْكٍ وَصَوْغٍ فَتَجِبُ الزَّكَاةُ وَأَوَّل الحَوْل وَقْتَ الانْكِسَارِ؛ هَذَا هُوَ المَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الجُمْهُورُ وَحَكَى البَنْدَنِيجِيُّ فِيهِ طَرِيقَيْنِ. أحدهما: هَذَا، والثاني: أَنَّهُ عَلى التَّفْصِيل الذِي سَنَذْكُرُهُ فِي الحَال الثَّالثِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى، والثالث: يَنْكَسِرُ بِحَيْثُ يُمْنَعُ الاسْتِعْمَال، وَلكِنْ لا يَحْتَاجُ إلى صَوْغٍ، وَيَقْبَل الإِصْلاحَ بِالإِلحَامِ، فَإِنْ قَصَدَ جَعْلهُ تِبْرًا أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ كَنْزَهُ انْعَقَدَ الحَوْل عَليْهِ مِنْ يَوْمِ الانْكِسَارِ، وَإِنْ قَصَدَ إصْلاحَهُ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أَصَحُّهُمَا لا زَكَاةَ وَإِنْ تَمَادَتْ عَليْهِ أَحْوَالٌ لدَوَامِ صُورَةِ الحُليِّ، وَقَصَدَ الإِصْلاحَ، وَبِهَذَا قَطَعَ صَاحِبُ الحَاوِي، وَإِنْ لمْ يَقْصِدْ ذَا وَلا ذَاكَ فَفِيهِ خِلافٌ، قِيل: وَجْهَانِ، وَقِيل: قَوْلانِ أصحهما: الوُجُوبُ وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
فَصْلٌ: فِيمَا يَحِل وَيَحْرُمُ مِنْ الحُليِّ، فَالذَّهَبُ أَصْلهُ عَلى التَّحْرِيمِ فِي حَقِّ الرِّجَال، وَعَلى الإِبَاحَةِ للنِّسَاءِ، وَيُسْتَثْنَى عَنْ التَّحْرِيمِ عَلى الرِّجَال مَوْضِعَانِ: أحدهما: يَجُوزُ لمَنْ قُطِعَ أَنْفُهُ اتِّخَاذُ أَنْفٍ مِنْ ذَهَبٍ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ اتِّخَاذُهُ مِنْ فِضَّةٍ، وَفِي مَعْنَى الأَنْفِ السِّنُّ وَالأُنْمُلةُ، فَيَجُوزُ اتِّخَاذُهُمَا ذَهَبًا بِلا خِلافٍ، وَلا يَجُوزُ لمَنْ قُطِعَتْ رِجْلهُ أَوْ يَدُهُ فِي أَصَحِّ الوَجْهَيْنِ، وَمَا جَازَ مِنْ هَذَا مِنْ الذَّهَبِ فَمِنْ الفِضَّةِ أَوْلى، وَقَدْ سَبَقَتْ هَذِهِ المَسْأَلةُ مَبْسُوطَةً فِي بَابِ الآنِيَةِ، وَبَابِ مَا يُكْرَهُ لبْسُهُ.

 

ج / 5 ص -369-       المَوْضِعُ الثَّانِي: تَمْوِيهُ الخَاتَمِ وَالسَّيْفِ وَغَيْرِهِمَا للرَّجُل، إنْ كَانَ يَحْصُل مِنْهُ شَيْءٌ بِالعَرْضِ عَلى النَّارِ فَهُوَ حَرَامٌ بِلا خِلافٍ، وَإِلا فَطَرِيقَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ العِرَاقِيُّونَ التَّحْرِيمُ، والثاني: حَكَاهُ الخُرَاسَانِيُّونَ فِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: التَّحْرِيمُ لعُمُومِ قَوْلهِ صلى الله عليه وسلم فِي الذَّهَبِ وَالحَرِيرِ: "هَذَانِ حَرَامٌ عَلى ذُكُورِ أُمَّتِي"وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا الحَدِيثِ وَأَشْبَاهِهِ فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ لبْسُهُ. والثاني: الإِبَاحَةُ لأَنَّهُ مُسْتَهْلكٌ، وَأَمَّا اتِّخَاذُ سِنٍّ أَوْ أَسْنَانٍ للخَاتَمِ فَقَطَعَ الأَصْحَابُ بِتَحْرِيمِهِ، وَنَقَلهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الأَصْحَابِ كُلهِمْ. وَقَال إمَامُ الحَرَمَيْنِ: لا يَبْعُدُ تَشْبِيهُهُ بِالضَّبَّةِ الصَّغِيرَةِ فِي الإِنَاءِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ بَل بَاطِلٌ مَرْدُودٌ بِالحَدِيثِ المَذْكُورِ.
وَأَمَّا الفِضَّةُ فَيَجُوزُ للرَّجُل التَّخَتُّمُ بِهَا. وَهَل لهُ مَا سِوَى الخَاتَمِ مِنْ حُليِّ الفِضَّةِ؟ كَالدُّمْلجِ وَالسِّوَارِ وَالطَّوْقِ وَالتَّاجِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ قَطَعَ الجُمْهُورُ بِالتَّحْرِيمِ وَقَال المُتَوَلي وَالغَزَاليُّ فِي فَتَاوِيه: يَجُوزُ لأَنَّهُ لمْ يَثْبُتْ فِي الفِضَّةِ إلا تَحْرِيمُ الأَوَانِي وَتَحْرِيمُ الحُليِّ عَلى وَجْهٍ يَتَضَمَّنُ التَّشَبُّهَ بِالنِّسَاءِ. وَيَجُوزُ للرَّجُل تَحْليَةُ آلاتِ الحَرْبِ بِالفِضَّةِ بِلا خِلافٍ لمَا فِيهِ مِنْ إرْعَابِ العَدُوِّ وَإِظْهَارِ القُوَّةِ، وَذَلكَ كَتَحْليَةِ السَّيْفِ وَالرُّمْحِ وَأَطْرَافِ السِّهَامِ وَالدِّرْعِ وَالمِنْطَقَةِ وَالجَوْشَنِ وَالخُفِّ وَالرَّانِينَ وَغَيْرِهَا مِمَّا فِي مَعْنَاهَا. وَفِي تَحْليَةِ السَّرْجِ وَاللجَامِ وَالثُّفْرِ للدَّابَّةِ بِالفِضَّةِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ: أحدهما: وَبِهِ قَال أَبُو الطِّيبِ بْنُ سَلمَةَ: مُبَاحٌ كَحِليَةِ السَّيْفِ وَالمِنْطَقَةِ وَأَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الأَصْحَابِ التَّحْرِيمُ، وَبِهِ قَال ابْنُ سُرَيْجٍ وَأَبُو إِسْحَاقَ المَرْوَزِيُّ، وَنَقَلهُ المُصَنِّفُ وَالأَصْحَابُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه وَقَدْ نُصَّ عَليْهِ فِي ثَلاثَةِ كُتُبٍ فِي رِوَايَةِ البُوَيْطِيِّ وَالرَّبِيعِ وَمُوسَى بْنِ أَبِي الجَارُودِ، لأَنَّ هَذَا حِليَةٌ للدَّابَّةِ لا للرَّجُل بِخِلافِ المِنْطَقَةِ.
قَال أَصْحَابُنَا: وَيَجْرِي الوَجْهَانِ فِي الرِّكَابِ وَبَرَّةِ النَّاقَةِ مِنْ الفِضَّةِ، وَالأَصَحُّ التَّحْرِيمُ ثُمَّ قَال القَاضِي أَبُو الطِّيبِ: وَيَجْرِيَانِ فِي تَحْليَةِ أَطْرَافِ السُّيُورِ، وَالمَذْهَبُ تَحْرِيمُ القِلادَةِ للدَّابَّةِ مِنْ الفِضَّةِ، وَبِهِ قَطَعَ كَثِيرُونَ، وَلا يَجُوزُ للنِّسَاءِ تَحْليَةُ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ المَذْكُورَاتِ بِالذَّهَبِ، وَكَذَا بِالفِضَّةِ بِلا خِلافٍ، لأَنَّ فِي اسْتِعْمَالهِنَّ ذَلكَ تَشَبُّهًا بِالرِّجَال وَالتَّشَبُّهُ حَرَامٌ عَليْهِنَّ، هَكَذَا قَالهُ الأَصْحَابُ، وَاعْتَرَضَ عَليْهِمْ الشَّاشِيُّ فِي المُعْتَمَدِ، وَقَال: آلاتُ الحَرْبِ إمَّا أَنْ يُقَال: يَجُوزُ للنِّسَاءِ لبْسُهَا وَاسْتِعْمَالهَا فِي غَيْرِ الحَرْبِ، وَإِمَّا أَنْ يُقَال: لا يَجُوزُ، وَالقَوْل بِالتَّحْرِيمِ بَاطِلٌ، لأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ مَلابِسِ الرَّجُل إنَّمَا يَقْتَضِي الكَرَاهَةَ دُونَ التَّحْرِيمِ، أَلا يُرَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه قَال فِي الأُمِّ: وَلا أَكْرَهُ للرَّجُل لبْسَ اللؤْلؤِ إلا للأَدَبِ وَأَنَّهُ مِنْ زِيِّ النِّسَاءِ لا للتَّحْرِيمِ؟ فَلمْ يُحَرِّمْ زِيَّ النِّسَاءِ عَلى الرَّجُل، وَإِنَّمَا كَرِهَهُ وَكَذَا عَكْسُهُ.
قَال الشَّاشِيُّ: وَلأَنَّ المُحَارَبَةَ جَائِزَةٌ للنِّسَاءِ فِي الجُمْلةِ، وَفِي جَوَازِهَا جَوَازُ لبْسِ آلاتِهَا، وَإِذَا جَازَ اسْتِعْمَالهَا غَيْرَ مُحَلاةٍ جَازَ مَعَ الحِليَةِ، لأَنَّ التَّحَليَ للنِّسَاءِ أَوْلى بِالجَوَازِ مِنْ الرِّجَال. قَال الرَّافِعِيُّ: هَذَا الذِي قَالهُ الشَّاشِيُّ هُوَ الحَقُّ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى، قُلت: وَليْسَ الحُكْمُ كَمَا قَالهُ الشَّاشِيُّ وَالرَّافِعِيُّ، بَل الصَّوَابُ مَا قَالهُ الأَصْحَابُ أَنَّ تَشَبُّهَ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ حَرَامٌ وَعَكْسُهُ كَذَلكَ، للحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال:
"لعَنَ اللهُ المُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ مِنْ الرِّجَال وَالمُتَشَبِّهَات مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَال"وَاللعْنُ لا

 

ج / 5 ص -370-       يَكُونُ عَلى مَكْرُوهٍ. وَأَمَّا نَصُّهُ فِي الأُمِّ فَليْسَ مُخَالفًا لهَذَا؛ لأَنَّ مُرَادَهُ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ زِيِّ النِّسَاءِ وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
فرع: أَجْمَعَ المُسْلمُونَ عَلى أَنَّهُ يَجُوزُ للنِّسَاءِ لبْسُ أَنْوَاعِ الحُليِّ مِنْ الفِضَّةِ وَالذَّهَبِ جَمِيعًا. كَالطَّوْقِ وَالعِقْدِ وَالخَاتَمِ وَالسِّوَارِ وَالخَلخَال وَالتَّعَاوِيذِ وَالدَّمَالجِ وَالقَلائِدِ وَالمَخَانِقِ. وَكُل مَا يُتَّخَذُ فِي العُنُقِ وَغَيْرِهِ. وَكُل مَا يَعْتَدْنَ لبْسَهُ وَلا خِلافَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا، وَأَمَّا لبْسُهَا نِعَال الفِضَّةِ وَالذَّهَبِ فَفِيهِ وَجْهَانِ: أحدهما: وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ الحَاوِي التَّحْرِيمُ، لمَا فِيهِ مِنْ السَّرَفِ الظَّاهِرِ وَالخُيَلاءِ. أَصَحُّهُمَا عِنْدَ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ الإِبَاحَةُ كَسَائِرِ المَلبُوسَاتِ. وَأَمَّا التَّاجُ فَقَال صَاحِبُ الحَاوِي وَالأَصْحَابُ: إنْ جَرَتْ عَادَةُ النِّسَاءِ بِلبْسِهِ فَمُبَاحٌ لهُنَّ لبْسُهُ وَإِلا فَحَرَامٌ؛ لأَنَّهُ لبَاسُ عُظَمَاءِ الفُرْسِ. قَال الرَّافِعِيُّ: وَكَانَ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ يَخْتَلفُ بِعَادَةِ أَهْل النَّوَاحِي فَحَيْثُ جَرَتْ عَادَةُ النِّسَاءِ بِلبْسِهِ جَازَ لهُنَّ لبْسُهُ، وَحَيْثُ لمْ تَجْرِ لا يَجُوزُ لأَنَّهُ تَشَبُّهٌ بِالرِّجَال. وَفِي جَوَازِ لبْسِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ التِي تُجْعَل فِي القِلادَةِ للمَرْأَةِ وَجْهَانِ. قَال الرَّافِعِيُّ: أصحهما: التَّحْرِيمُ وَفِي لبْسِ الثِّيَابِ المَنْسُوجَةِ بِالذَّهَبِ أَوْ الفِضَّةِ للمَرْأَةِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي الحَاوِي وَغَيْرِهِ، قَال الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ: أصحهما: الإِبَاحَةُ كَالحُليِّ؛ لأَنَّهَا لبَاسٌ حَقِيقِيٌّ، والثاني: التَّحْرِيمُ لمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ السَّرَفِ وَالخُيَلاءِ. قَال الرَّافِعِيُّ: وَذَكَرَ أَبُو الفَضْل بْنُ عَبْدَانَ أَنَّهُ ليْسَ لهَا اتِّخَاذُ زِرِّ القَمِيصِ وَالجُبَّةِ وَالفَرْجِيَّةِ مِنْ ذَهَبِ وَلا فِضَّةٍ. قَال الرَّافِعِيُّ: وَلعَلهُ فَرَّعَهُ عَلى الوَجْهِ الثَّانِي وَهُوَ تَحْرِيمُ لبَاسِ الثِّيَابِ المَنْسُوجَةِ بِهَا قُلت: إنْ تَكُنْ تَفْرِيعًا عَليْهِ وَإِلا فَإِذَا جَازَ الثَّوْبُ المَنْسُوجُ فَالزِّرُّ أَوْلى. وَاَللهُ أَعْلمُ.
فرع: قَال أَصْحَابُنَا: كُل حُليٍّ أُبِيحَ للنِّسَاءِ فَإِنَّمَا يُبَاحُ إذَا لمْ يَكُنْ فِيهِ سَرَفٌ ظَاهِرٌ. فَإِنْ كَانَ كَخَلخَالٍ وَزْنُهُ مِائَتَا دِينَارٍ فَالصَّحِيحُ الذِي قَطَعَ بِهِ مُعْظَمُ العِرَاقِيِّينَ تَحْرِيمُهُ، كَذَا نَقَلهُ الرَّافِعِيُّ وَقَال: فِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ مُبَاحٌ.
فرع: لوْ اتَّخَذَ الرَّجُل خَوَاتِيمَ كَثِيرَةً أَوْ المَرْأَةُ خَلاخِل كَثِيرَةً ليَلبَسَ الوَاحِدَ بَعْدَ الوَاحِدِ فَطَرِيقَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، المَذْهَبُ: القَطْعُ بِالجَوَازِ لعُمُومِ النُّصُوصِ المُطْلقَةِ، والثاني: فِي وَجْهَانِ كَالخَلخَال الذِي فِيهِ سَرَفٌ ظَاهِرٌ.
فرع: جَمِيعُ مَا سَبَقَ هُوَ فِيمَا يَتَحَلى بِهِ لبْسًا؛ فَأَمَّا غَيْر اللبْسِ فَمِنْهُ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَهِيَ حَرَامٌ عَلى الرِّجَال وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا، فَيَحْرُمُ اسْتِعْمَالهَا، وَكَذَا اتِّخَاذُهَا عَلى الأَصَحِّ، كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ الآنِيَةِ، وَسَبَقَ هُنَاكَ بَيَانُ حُكْمِ المُضَبَّبِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ، وَأَمَّا تَحْليَةُ سَكَاكِينِ المِهْنَةِ وَسِكِّينِ المِقْلمَةِ وَالمِقْرَاضِ وَالدَّوَاةِ وَالمِرْآةِ وَنَحْوِهَا فَحَرَامٌ عَلى الرِّجَال بِالذَّهَبِ بِلا خِلافٍ. وَفِي الفِضَّةِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أَصَحُّهُمَا التَّحْرِيمُ، وَبِهِ قَطَعَ البَنْدَنِيجِيُّ. قَال الرَّافِعِيُّ: وَالمَذْهَبُ تَحْرِيمُ هَذِهِ كُلهَا عَلى المَرْأَةِ. وَقِيل: هِيَ كَالرَّجُل فَيَكُونُ فِيهَا الوَجْهَانِ إلا المَرْأَةَ فَهِيَ فِي حَقِّهَا وَحَقِّ الرَّجُل سَوَاءٌ، وَالأَصَحُّ تَحْرِيمُهَا عَليْهِمَا وَلا خِلافَ فِي تَحْرِيمِهَا عَليْهِمَا جَمِيعًا إذَا حُليَتْ بِذَهَبٍ.
فرع: لوْ اتَّخَذَ مُدْهِنًا أَوْ مُسْعِطًا أَوْ مُكْحُلةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَهُوَ حَرَامٌ عَلى الرِّجَال وَالنِّسَاءِ،

 

ج / 5 ص -371-       وَكَذَا ظَرْفُ الغَاليَةِ1 اللطِيفِ حَرَامٌ أَيْضًا. هَكَذَا قَطَعَ بِهِ المَاوَرْدِيُّ وَالجُمْهُورُ هُنَا، وَسَبَقَ فِي بَابِ الآنِيَةِ وَجْهٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يَجُوزُ اتِّخَاذُ الصَّغِيرِ مِنْ الفِضَّةِ كَمُكْحُلةٍ وَظَرْفِ غَاليَةٍ وَنَحْوِهَا، وَلا خِلافَ فِي تَحْرِيمِهِ مِنْ الذَّهَبِ، وَلا خِلافَ فِي اسْتِوَاءِ المَرْأَةِ وَالرَّجُل فِي هَذَا. قَال صَاحِبُ البَيَانِ وَغَيْرُهُ: وَلا يَجُوزُ لهَا تَحْليَةُ رُبْعِهَا2 بِذَهَبٍ وَلا فِضَّةٍ قَطْعًا.
فرع: قَال صَاحِبُ الحَاوِي: لوْ اتَّخَذَ الرَّجُل أَوْ المَرْأَةُ مِيلًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَهُوَ حَرَامٌ وَتَجِبُ زَكَاتُهُ إلا أَنْ يُسْتَعْمَل عَلى وَجْهِ التَّدَاوِي لجَلاءِ عَيْنِهِ فَيَكُونُ مُبَاحًا كَاسْتِعْمَال الذَّهَبِ فِي رَبْطِ سِنِّهِ، وَيَكُونُ فِي زَكَاتِهِ القَوْلانِ فِي الحُليِّ المُبَاحِ، وَمِمَّنْ جَزَمَ بِتَحْرِيمِ المِيل البَنْدَنِيجِيُّ.
فرع: فِي تَحْليَةِ المُصْحَفِ بِالفِضَّةِ وَجْهَانِ أَوْ قَوْلانِ أَصَحُّهُمَا وَأَشْهُرُهُمَا الجَوَازُ وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالمَاوَرْدِيُّ وَجَمَاهِيرُ العِرَاقِيِّينَ. وَهُوَ نَصُّهُ فِي القَدِيمِ وَالأُمِّ وَحَرْمَلةَ. وَنُصَّ فِي سِيَرِ3 الوَاقِدِيِّ وَهُوَ أَحَدُ كُتُبِ الأُمِّ عَلى التَّحْرِيمِ وَقَدْ أَشَارَ صَاحِبُ الكِتَابِ إلى القَطْعِ بِهَذَا، فَإِنَّهُ جَزَمَ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ. وَهَذَا شُذُوذٌ مِنْهُ فَليُعْرَفْ. وَأَمَّا تَحْليَتُهُ بِالذَّهَبِ فَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ، قَال الرَّافِعِيُّ أصحها: عِنْدَ الأَكْثَرِينَ إنْ كَانَ لامْرَأَةٍ جَازَ، وَإِنْ كَانَ لرَجُلٍ فَحَرَامٌ، والثاني: يَحِل مُطْلقًا وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ الحَاوِي تَعْظِيمًا للقُرْآنِ، والثالث: يَحْرُمُ مُطْلقًا، وَالرَّابِعُ: يَجُوزُ تَحْليَةُ نَفْسِ المُصْحَفِ دُونَ غِلافِهِ المُنْفَصِل عَنْهُ. قَال الرَّافِعِيُّ: وَهَذَا ضَعِيفٌ. وَأَمَّا تَحْليَةُ غِلافِهِ بِالذَّهَبِ فَحَرَامٌ بِلا خِلافٍ وَنَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ وَصَرَّحَ بِهِ أَبُو عَليٍّ الطَّبَرِيُّ فِي الإِفْصَاحِ وَالقَاضِي أَبُو الطِّيبِ فِي المُجَرَّدِ وَالمَاوَرْدِيُّ وَالدَّارِمِيُّ؛ لأَنَّهُ ليْسَ حِليَةً للمُصْحَفِ، وَأَمَّا تَحْليَةُ بَاقِي الكُتُبِ غَيْرِ القُرْآنِ فَحَرَامٌ بِاتِّفَاقِ الأَصْحَابِ، وَمِمَّنْ نَقَل الاتِّفَاقَ عَليْهِ الرَّافِعِيُّ قَال: وَأَشَارَ الغَزَاليُّ إلى طَرْدِ الوَجْهَيْنِ السَّابِقَيْنِ فِي الدَّوَاةِ وَالمِقْلمَةِ هُنَا، وَالمَعْرُوفُ فِي المَذْهَبِ مَا سَبَقَ.
وَأَمَّا تَحْليَةُ الكَعْبَةِ وَسَائِرِ المَسَاجِدِ بِالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَتَمْوِيهُ سَقْفِهِ وَتَعْليقُ قَنَادِيلهَا فِيهَا فَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ: أصحهما: التَّحْرِيمُ. وَبِهِ قَال أَبُو إِسْحَاقَ المَرْوَزِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ المُتَقَدِّمِينَ. وَنَقَلهُ المَاوَرْدِيُّ عَنْ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِنَا المُتَقَدِّمِينَ، وَقَطَعَ بِهِ القَاضِي أَبُو الطِّيبِ وَالبَغَوِيُّ وَآخَرُونَ. وَاسْتَدَلوا لهُ بِأَنَّهُ لمْ يَرِدْ فِيهِ سُنَّةٌ وَلا عَمِلهُ أَحَدٌ مِنْ الخُلفَاءِ الرَّاشِدِينَ، فَهُوَ بِدْعَةٌ وَكُل بِدْعَةٍ ضَلالةٌ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال:
"مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِنَا مَا ليْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ"وَفِي رِوَايَةٍ لهُمَا "مَنْ عَمِل عَمَلًا ليْسَ عَليْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَد".
والوجه الثاني: الجَوَازُ تَعْظِيمًا للكَعْبَةِ وَالمَسَاجِدِ. وَإِعْظَامًا للدِّينِ كَمَا أَجْمَعُوا عَلى سَتْرِ الكَعْبَةِ بِالحَرِيرِ. قَال أَصْحَابُنَا فَإِنْ قُلنَا حَرَامٌ وَجَبَتْ زَكَاتُهُ بِلا خِلافٍ وَإِلا فَعَلى القَوْليْنِ الحُليُّ المُبَاحُ. هَذَا إذَا كَانَ التَّمْوِيهُ وَالقَنَادِيل وَنَحْوُهَا بَاقِيَةً عَلى مِلكِ فَاعِلهَا، فَإِنْ كَانَتْ وَقْفًا عَليْهِ إمَّا مِنْ غَلبَةٍ وَإِمَّا بِأَنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الغالية أخلاط من الطيب يقال: تغليت بالغالية إذا تطيبت (ط).
2 الربع صندوق أجزاء المصحف هكذا أفاده في القاموس (ط).
3 في ش و ق سنن وهو خطأ (ط).

 

ج / 5 ص -372-       وَقَفَهَا الفَاعِل فَلا زَكَاةَ بِلا خِلافٍ لعَدَمِ المَالكِ المُعَيَّنِ. هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الأَصْحَابُ. وَفِي صِحَّةِ وَقْفِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلى هَذِهِ الجِهَةِ مَعَ تَحْرِيمِهَا نَظَرٌ فَليُتَأَمَّل. قَال أَصْحَابُنَا: وَإِذَا أَرَادَ الفَاعِل إخْرَاجَ زَكَاتِهِ أَخْرَجَهَا بِالاسْتِظْهَارِ إنْ لمْ يَعْلمْ مِقْدَارَهُ وَإِلا فَليُمَيِّزْهُ بِالنَّارِ، فَإِنْ كَانَ لوْ مَيَّزَ لمْ يَجْتَمِعْ مِنْهُ شَيْءٌ فَلا زَكَاةَ فِيهِ. قَال صَاحِبُ الشَّامِل: وَذَكَرَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ أَنَّهُ إذَا كَانَ لا يَجْتَمِعُ مِنْهُ شَيْءٌ وَصَارَ مُسْتَهْلكًا فَلا يَحْرُمُ اسْتِدَامَتُهُ. وَاَللهُ أَعْلمُ.
وَأَمَّا تَمْوِيهُ سَقْفِ بَيْتِهِ وَجِدَارِهِ بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَحَرَامٌ بِلا خِلافٍ. نَصَّ عَليْهِ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه وَصَرَّحَ بِهِ الأَصْحَابُ. وَنَقَل القَاضِي أَبُو الطِّيبِ فِي المُجَرَّدِ وَغَيْرِهِ الاتِّفَاقَ عَليْهِ قَالوا: وَلا يَجِيءُ فِيهِ الوَجْهُ الذِي فِي المَسْجِدِ؛ لأَنَّ ذَلكَ الوَجْهَ لإِعْظَامِ المَسْجِدِ كَمَا جَازَتْ تَحْليَةُ المُصْحَفِ، حَيْثُ جَوَّزْنَاهُ دُونَ سَائِرِ الكُتُبِ. قَال البَنْدَنِيجِيُّ: فَإِنْ كَانَ المُمَوَّهُ مُسْتَهْلكًا لا يَحْصُل مِنْهُ شَيْءٌ بِالسَّكِّ لمْ يَحْرُمْ اسْتِدَامَتُهُ وَلمْ يَجِبْ فِيهِ زَكَاةٌ، وَإِلا حَرُمَتْ وَوَجَبَتْ زَكَاتُهُ إنْ بَلغَ وَحْدَهُ نِصَابًا أَوْ بِانْضِمَامِ مَالٍ آخَرَ لهُ.
فرع: لوْ وَقَفَ حُليًّا عَلى قَوْمٍ يَلبَسُونَهُ لبْسًا مُبَاحًا، أَوْ يَنْتَفِعُونَ بِأُجْرَتِهِ المُبَاحَةِ فَلا زَكَاةَ فِيهِ قَطْعًا لعَدَمِ المَالكِ الحَقِيقِيِّ المُعَيَّنِ.
فرع: لوْ حَلى شَاةً أَوْ غَزَالًا أَوْ غَيْرَهُمَا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةِ وَجَبَتْ زَكَاتُهُ بِلا خِلافٍ، وَقَال الدَّارِمِيُّ: لأَنَّ ذَلكَ مُحَرَّمٌ وَهُوَ كَمَا قَال.
فرع: حَاصِل المَنْقُول فِي تَحْليَةِ وَليِّ الصِّبْيَانِ الصِّبْيَانَ بِالذَّهَبِ وَالفِضَّةِ ثَلاثَةُ أَوْجُهٍ كَمَا سَبَقَ فِي إلبَاسِهِمْ الحَرِيرَ فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ لبْسُهُ، وَقَدْ جَزَمَ المُصَنِّفُ بِالجَوَازِ. ذَكَرَهُ فِي بَابِ صَلاةِ العِيدِ. وَكَذَا جَزَمَ بِهِ البَغَوِيّ وَآخَرُونَ، وَسَبَقَ فِي بَابِ مَا يُكْرَهُ لبْسُهُ دَليل الأَوْجُهِ، وأصحهما: جَوَازُ تَحْليَتِهِمْ مَا دَامُوا صِبْيَانًا، وَنَقَلهُ البَغَوِيّ وَالأَصْحَابُ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه والثاني: تَحْرِيمُهُ، والثالث: يَجُوزُ قَبْل سَبْعِ سِنِينَ.
فرع: الخُنْثَى المُشْكِل يَحْرُمُ عَليْهِ لبْسُ حُليِّ الرِّجَال، وَيَحْرُمُ عَليْهِ أَيْضًا لبْسُ حُليِّ النِّسَاءِ، لأَنَّهُ إنَّمَا أُبِيحَ لهُنَّ لكَوْنِهِنَّ مُرْصَدَاتٍ للتَّزَيُّنِ للأَزْوَاجِ وَالسَّادَةِ، هَكَذَا قَطَعَ بِتَحْرِيمِهِ القَاضِي أَبُو الفُتُوحِ وَالبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ البَيَانِ وَآخَرُونَ، وَهُوَ مُبَاحٌ لهُ فِي صِغَرِهِ وَلمْ يَتَحَقَّقْ تَحْرِيمُهُ، وَالصَّوَابُ الأَوَّل؛ لأَنَّهُ إنَّمَا أُبِيحَ لهُ فِي الصِّغَرِ لعَدَمِ التَّكْليفِ، وَقَدْ زَادَ ذَلكَ بِالبُلوغِ.
فَإِذَا قُلنَا بِالمَذْهَبِ وَهُوَ تَحْرِيمُهُ فَفِي زَكَاتِهِ طَرِيقَانِ حَكَاهُمَا البَغَوِيّ، أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ القَاضِي أَبُو الفُتُوحِ وَصَاحِبُ البَيَانِ، وَرَجَّحَ الرَّافِعِيُّ وُجُوبَهَا بِلا خِلافٍ؛ لأَنَّهُ حُليٌّ مُحَرَّمٌ، والثاني: فِي وُجُوبِهَا القَوْلانِ فِي الحُليِّ المُبَاحُ؛ لأَنَّا لا نَتَيَقَّنُ تَحْرِيمَهُ فِي نَفْسِ الأَمْرِ لاحْتِمَال أَنَّهُ مُبَاحٌ لهُ، وَإِنَّمَا حَرَّمْنَاهُ للاحْتِيَاطِ، وَاَللهُ أَعْلمُ.
فرع: قَال أَصْحَابُنَا: أَوَانِي الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ المُعَدَّةِ للاسْتِعْمَال يَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ قَوْلًا وَاحِدًا،

 

ج / 5 ص -373-       لأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ، وَأَمَّا المُتَّخَذَةُ لا للاسْتِعْمَال فَقَدْ سَبَقَ فِي بَابِ الآنِيَةِ أَنَّ الصَّحِيحَ تَحْرِيمُ اتِّخَاذِهَا لغَيْرِ اسْتِعْمَال. وَفِي وَجْهٍ أَوْ قَوْلٍ أَنَّهُ يَجُوزُ.
قَال أَصْحَابُنَا: وَيَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ بِلا خِلافٍ، وَسَوَاءٌ جَوَّزْنَا اتِّخَاذَهُ أَمْ لا، لأَنَّهُ وَإِنْ جَازَ اتِّخَاذُهُ عَلى وَجْهٍ ضَعِيفٍ فَهُوَ للقُنْيَةِ وَمَكْرُوهٌ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ المَكْرُوهَ وَالمُتَّخَذَ للقُنْيَةِ يَجِبُ فِيهِمَا الزَّكَاةُ.
هَكَذَا ذَكَرَ المَسْأَلةَ الأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِمْ، إلا صَاحِبَ الحَاوِي فَقَال: إذَا جَوَّزْنَا اتِّخَاذَهُ فَفِي زَكَاتِهِ القَوْلانِ كَالحُليِّ، وَهَذَا غَلطٌ مَرْدُودٌ لا يُعَدُّ وَجْهًا، وَإِنَّمَا نَبَّهْت عَليْهِ لئَلا يُغْتَرَّ بِهِ، وَليْسَ كَالحُليِّ؛ لأَنَّهُ لا يَجِبُ الزَّكَاةُ لكَوْنِهِ مُعَدًّا لاسْتِعْمَالٍ مُبَاحٍ بِخِلافِ الأَوَانِي،، فَالصَّوَابُ الجَزْمُ بِوُجُوبِ زَكَاتِهِ، سَوَاءٌ جَوَّزْنَا اتِّخَاذَهُ أَمْ لا، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فَائِدَةُ الخِلافِ فِي جَوَازِ اتِّخَاذِهِ فِي ثُبُوتِ الأُجْرَةِ لصَانِعِهِ وَالأَرْشِ عَلى كَاسِرِهِ، وَكَمَا سَبَقَ فِي بَابِ الآنِيَةِ وَاضِحًا، وَيَظْهَرُ فِي كَيْفِيَّةِ إخْرَاجِ زَكَاتِهِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ فِي الفَرْعِ الآتِي إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالى.
فرع: إذَا أَوْجَبْنَا الزَّكَاةَ فِي الحُليِّ المُبَاحِ، فَاخْتَلفَتْ قِيمَتُهُ وَوَزْنُهُ، بِأَنْ كَانَ لهَا خَلاخِل، وَزْنُهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهَا ثَلاثُمِائَةٍ، أَوْ فُرِضَ مِثْلهُ فِي المَنَاطِقِ المُحَلاةِ للرِّجَال. قَال أَصْحَابُنَا: المَالكُ بِالخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخْرَجَ رُبْعَ عُشْرِ الحُليِّ مَتَاعًا، بِأَنْ سَلمَهُ كُلهُ إلى السَّاعِي أَوْ المَسَاكِينِ أَوْ نَائِبِهِمْ، فَإِذَا تَسَلمَهُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْ الزَّكَاةِ، ثُمَّ يَبِيعُ السَّاعِي نَصِيبَ المَسَاكِينِ إمَّا للمَالكِ وَإِمَّا لغَيْرِهِ. أَوْ يَبِيعُونَهُ هُمْ إنْ قَبَضُوهُ هُمْ أَوْ وَكِيلهُمْ وَإِنْ شَاءَ أَخْرَجَ مَصُوغًا كَخَاتَمٍ وَسِوَارٍ لطِيفٍ وَغَيْرِهِمَا، وَزْنُهُ خَمْسَةٌ وَقِيمَتُهُ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ، وَلا يَجُوزُ أَنْ يَكْسِرَهُ وَيُخْرِجَ خَمْسَةً مِنْ نَفْسِ المَكْسُورِ، وَلا يَجُوزُ للسَّاعِي وَلا للمَسَاكِينِ طَلبُ ذَلكَ، لأَنَّ فِيهِ إضْرَارًا بِهِ وَبِهِمْ، وَلوْ أَخْرَجَ عَنْهُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ جَيِّدَةً، لجُودَةِ سِكَّتِهَا وَلينِهَا، بِحَيْثُ تُسَاوِي سَبْعَةً وَنِصْفًا أَجْزَأَهُ؛ لأَنَّهُ يُقَدِّرُ الوَاجِبَ عَليْهِ بِقِيمَتِهِ وَلوْ أَخْرَجَ عَنْهُ ذَهَبًا يُسَاوِي سَبْعَةَ دَرَاهِمَ وَنِصْفًا لمْ يَجُزْ عَلى الصَّحِيحِ، وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا، وَجَوَّزَهُ ابْنُ سُرَيْجٍ للحَاجَةِ، حَكَاهُ المُصَنِّفُ عَنْهُ وَالأَصْحَابُ، وَالمَذْهَبُ الأَوَّل وَتَنْدَفِعُ الحَاجَةُ بِمَا ذَكَرْنَا.
قَال أَصْحَابُنَا: وَلوْ كَانَ لهُ إنَاءٌ وَزْنُهُ مِائَتَانِ، وَيُسَاوِي ثَلاثَمِائَةٍ، فَإِنْ جَوَّزْنَا اتِّخَاذَ الإِنَاءِ فَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ قَوْلًا وَاحِدًا، كَمَا سَبَقَ فِي الفَرْعِ، وَكَيْفِيَّةُ إخْرَاجِهَا كَمَا سَبَقَ فِي الحُليِّ، وَإِنْ حَرَمْنَاهُ وَهُوَ الأَصَحُّ وَلا قِيمَةَ لصَنْعَتِهِ شَرْعًا فَلهُ إخْرَاجُ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ لمْ تَكُنْ نَفِيسَةً، وَلهُ كَسْرُهُ وَإِخْرَاجُ خَمْسَةٍ مِنْهُ، وَلهُ إخْرَاجُ رُبْعِ عُشْرِهِ مُشَاعًا، وَلا يَجُوزُ إخْرَاجُ الذَّهَبِ بَدَلًا عَنْهُ بِلا خِلافٍ، لعَدَمِ الحَاجَةِ، قَال أَصْحَابُنَا: وَكُل حُليٍّ حَرَّمْنَاهُ عَلى كُل النَّاسِ فَحُكْمُ صَنْعَتِهِ حُكْمُ صَنْعَةِ الإِنَاءِ، وَفِي وُجُوبِ ضَمَانِهَا عَلى كَاسِرِهَا وَجْهَانِ؛ بِنَاءً عَلى جَوَازِ اتِّخَاذِ الإِنَاءِ إنْ جَوَّزْنَا وَجَبَ، وَإِلا فَلا وَهُوَ الأَصَحُّ.
وَمَا يَحِل لبَعْضِ النَّاسِ كَالرِّجَال دُونَ النِّسَاءِ وَعَكْسُهُ يَجِبُ عَلى كَاسِرِهِ ضَمَانُ صَنْعَتِهِ بِلا خِلافٍ، قَال أَصْحَابُنَا: وَأَمَّا الضَّبَّةُ التِي عَلى الإِنَاءِ إذَا حَكَمْنَا بِكَرَاهَتِهَا فَلهَا حُكْمُ الحَرَامِ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ بِلا خِلافٍ، وَقَال البَغَوِيّ احْتِمَالًا لنَفْسِهِ: يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَالمُبَاحِ وَإِذَا حَكَمْنَا بِإِبَاحَتِهَا وَأَنَّهَا غَيْرُ

 

ج / 5 ص -374-       مَكْرُوهَةٍ فَفِي وُجُوبِ زَكَاتِهَا القَوْلانِ فِي الحُليِّ المُبَاحِ وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
فرع: ذَكَرَ الصَّيْمَرِيُّ ثُمَّ المَاوَرْدِيُّ وَمُتَابِعُوهُمَا هُنَا أَنَّ الأَفْضَل إذَا أَكْرَى حُليَّ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَنْ لا يُكْرِيَهُ بِجِنْسِهِ بَل يُكْرِيَ الذَّهَبَ بِالفِضَّةِ وَالفِضَّةَ بِالذَّهَبِ فَلوْ أَكُرَى الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ أَوْ الفِضَّةَ بِالفِضَّةِ فَوَجْهَانِ: أحدهما: بُطْلانُهُ حَذَرًا مِنْ الرِّبَا، وَالصَّحِيحُ الجَوَازُ كَسَائِرِ الإِجَارَاتِ، قَال المَاوَرْدِيُّ: وَقَوْل الأَوَّل بَاطِلٌ؛ لأَنَّ عَقْدَ الإِجَارَةِ لا يَدْخُلهُ الرِّبَا، وَلهَذَا يَجُوزُ إجَارَةُ حُليِّ الذَّهَبِ بِدَرَاهِمَ مُؤَجَّلةٍ بِإِجْمَاعِ المُسْلمِينَ، وَلوْ كَانَ للرِّبَا هُنَا مَدْخَلٌ لمْ يَجُزْ هَذَا.
فرع: إذَا اتَّخَذَ أَنْفًا أَوْ سِنًّا أَوْ أُنْمُلةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ شَدَّ سِنَّهُ بِهِ فَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ حَلالٌ بِلا خِلافٍ، قَال المَاوَرْدِيُّ: وَأَمَّا زَكَاتُهُ فَإِنْ ثَبَتَ فِيهِ العُضْوُ وَتَرَاكَبَ عَليْهِ، صَارَ مُسْتَهْلكًا، وَلا زَكَاةَ فِيهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِلا فَعَلى القَوْليْنِ فِي الحُليِّ المُبَاحِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ العُلمَاءِ فِي زَكَاةِ الحُليِّ المُبَاحِ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الأَصَحَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ لا زَكَاةَ فِيهِ، وَبِهِ قَال عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنُ الخَطَّابِ، وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَأَنَسُ بْنُ مَالكٍ وَعَائِشَةُ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهم، وَسَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَليٍّ وَالقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَابْنُ سِيرِينَ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ وَابْنُ المُنْذِرِ وَقَال عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالحَسَنُ بْنُ صَالحٍ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُد: يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَحَكَاهُ ابْنُ المُنْذِرِ أَيْضًا عَنْ ابْنِ المُسَيِّبِ وَابْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَابْنِ سِيرِينَ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادٍ وَالزُّهَرِيِّ، وَاحْتَجَّ كُل فَرِيقٍ بِمَا سَبَقَ مِنْ الأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ فِي أَوَّل الفَصْل وَالآثَارِ، وَرَوَى البَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ المُسَيِّبِ أَنَّ زَكَاةَ الحُليِّ عَارِيَّتُهُ وَاَللهُ تَعَالى أَعْلمُ.
تم الجزء الخامس ويليه الجزء السادس إن شاء الله تعالى وأوله:
باب زكاة التجارة