المجموع شرح المهذب ط عالم الكتب

ج / 8 ص -5-            بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
بَابُ صِفَةِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ1
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: "وَإِذَا أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ اغْتَسَلَ بِذِي طَوًى، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَاءَ وَادِيَ طَوًى بَاتَ حَتَّى صَلَّى الصُّبْحَ فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ، وَيَدْخُلُ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ وَيَخْرُجُ مِنْ السُّفْلَى، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْخُلُ مَكَّةَ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا وَيَخْرُجُ مِنْ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الثَّانِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ، وَرَوَيَاهُ أَيْضًا بِلَفْظِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَائِشَةَ أَيْضًا وأما: حَدِيثُهُ الْأَوَّلُ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ، وَلَفْظُهُمَا: عَنْ نَافِعٍ قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا دَخَلَ أَدْنَى الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنْ التَّلْبِيَةِ ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طَوًى ثُمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْحَ وَيَغْتَسِلُ، وَيُحَدِّثَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وأما: طَوًى فَبِفَتْحِ الطَّاءِ وَضَمِّهَا وَكَسْرِهَا ثَلَاثُ لُغَاتٍ الْفَتْحُ أَجْوَدُ2.
وَمِمَّنْ حَكَى اللُّغَاتِ الثَّلَاثَ صَاحِبُ "الْمَطَالِعِ" وَجَمَاعَاتٌ قَالُوا: وَالْفَتْحُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ. وَاقْتَصَرَ الْحَازِمِيُّ فِي "الْمُؤْتَلِفِ" عَلَى ضَمِّهِ، وَاقْتَصَرَ آخَرُونَ عَلَى الْفَتْحِ، وَهُوَ مُنَوَّنٌ مَصْرُوفٌ مَقْصُورٌ لَا يَجُوزُ مَدُّهُ. قَالَ صَاحِبُ "الْمَطَالِعِ": وَوَقَعَ فِي "لُبَابِ الْمُسْتَمْلِي" ذُو الطِّوَاءِ مَمْدُودٌ، وَهُوَ وَادٍ بِبَابِ مَكَّةَ.
وأما: الثَّنِيَّةُ فَهِيَ الطَّرِيقُ بَيْنَ جَبَلَيْنِ وأما: كَدَاءٍ الْعُلْيَا فَبِفَتْحِ الْكَافِ وَبِالْمَدِّ مَصْرُوفٌ وأما: السُّفْلَى فَيُقَالُ لَهَا ثَنِيَّةُ كُدًى - بِالضَّمِّ - مَقْصُورٌ.
وَأَمَّا مَكَّةُ فَلَهَا أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ، وَقَدْ قَالُوا: كَثْرَةُ الْأَسْمَاءِ تَدُلُّ عَلَى شَرَفِ الْمُسَمَّى؛ لِهَذَا كَثُرَتْ أَسْمَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قَالَ بَعْضُهُمْ: لِلَّهِ تَعَالَى أَلْفُ اسْمٍ، وَلِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَلْفُ اسْمٍ وَقَدْ أَشَرْت إلَى هَذَا فِي أَوَّلِ "تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ وَاللُّغَاتِ" فِي: أَوَّلًا تَرْجَمَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَمَا حَضَرَنِي مِنْ أَسْمَاءِ مَكَّةَ سِتَّةَ عَشَرَ اسْمًا: أَحَدُهَا مَكَّةُ، وَالثَّانِي: بَكَّةُ، وَالثَّالِثُ: أُمُّ الْقُرَى، وَالرَّابِعُ: الْبَلَدُ الْأَمِينُ، وَالْخَامِسُ: رُحْمٌ - بِضَمِّ الرَّاءِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ - لِأَنَّ النَّاسَ يَتَرَاحَمُونَ فِيهَا وَيَتَوَادَعُونَ. السَّادِسُ: صَلَاحِ، بِكَسْرِ الْحَاءِ - مَبْنِيٌّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في النسخة المطبوعة من "المهذب" بحذف العمرة في الترجمة (ط).
2 ينارع الشيخ في هذا فإن القرآن الكريم استعمل الضم في قوله تعالى:
{إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} [طه: 12] وعندنا أنه إذا كان هناك صوابان استعمل القرآن أحدهما كان الصواب الآخر خطأ وكلام صاحب "المطالع" أقيس من حيث اللغة لن الفتح يلزمه المد والضم يلزمه القصر كحلواء بفتح الحاء وحلوى بضمها مع القصر والله تعالى أعلم (ط).

 

ج / 8 ص -6-            عَلَى الْكَسْرِ كَقَطَاعِ وَنَظَائِرِهَا، سُمِّيَتْ بِهِ لِأَمْنِهَا. السَّابِعُ: الْبَاسَّةُ - بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ - لِأَنَّهَا تَبُسُّ مَنْ أَلْحَدَ فِيهَا أَيْ تُحَطِّمُهُ. وَمِنْهُ قوله تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ} [الواقعة: 4] الثَّامِنُ: النَّاسَّةُ بِالنُّونِ. التَّاسِعُ: النَّسَّاسَةُ قِيلَ: لِأَنَّهَا تَنُسُّ الْمُلْحِدَ، أَيْ تَطْرُدُهُ، وَقِيلَ لِقِلَّةِ مَائِهَا، وَالنَّسُّ الْيُبْسُ. الْعَاشِرُ: الْحَاطِمَةُ، لِحَطْمِهَا الْمُلْحِدِينَ فِيهَا. الْحَادِيَ عَشَرَ: الرَّأْسُ كَرَأْسِ الْإِنْسَانِ. الثَّانِي عَشَرَ: كُوثَى - بِضَمِّ الْكَافِ وَفَتْح الْمُثَلَّثَةِ - بِاسْمِ مَوْضِعٍ بِهَا. الثَّالِثَ عَشَرَ: الْعَرْشُ الرَّابِعَ عَشَرَ: الْقَادِسُ. الْخَامِسَ عَشَرَ: الْمُقَدَّسَةُ مِنْ التَّقْدِيسِ. السَّادِسَ عَشَرَ: الْبَلْدَةُ.
وَأَمَّا مَكَّةُ وَبَكَّةُ فَقِيلَ: هُمَا اسْمَانِ لِلْبَلْدَةِ، وَقِيلَ: مَكَّةُ الْحَرَمُ كُلُّهُ، وَمَكَّةُ الْمَسْجِدُ خَاصَّةً، وَهِيَ مَحْكِيٌّ عَنْ الزُّهْرِيِّ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَقِيلَ: مَكَّةُ اسْمٌ لِلْبَلَدِ، وَبَكَّةُ اسْمُ الْبَيْتِ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَغَيْرِهِ. وَقِيلَ: مَكَّةُ الْبَلَدُ وَبَكَّةُ الْبَيْتُ وَمَوْضِعُ الطَّوَافِ، سُمِّيَتْ بَكَّةَ لِازْدِحَامِ النَّاسِ فِيهَا، يَبُكُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، أَيْ يَدْفَعُهُ فِي زَحْمَةِ الطَّوَافِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تَبُكُّ أَعْنَاقَ الْجَبَابِرَةِ أَيْ تَدُقُّهَا، وَالْبَكُّ الدَّقُّ. وَسُمِّيَتْ مَكَّةَ لِقِلَّةِ مَائِهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: امْتَكَّ الْفَصِيلُ ضَرْعَ أُمِّهِ إذَا امْتَصَّهُ. وَقِيلَ: لِأَنَّهَا تَمُكُّ الذُّنُوبَ أَيْ تَذْهَبُ بِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا مَدِينَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَهَا أَسْمَاءٌ: الْمَدِينَةُ وَطَيْبَةُ وَطَابَةُ وَالدَّارُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ} [التوبة: 120] وَ {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} [المنافقين: 8] وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمَدِينَةَ طَابَةَ"قَالَ الْعُلَمَاءُ: سُمِّيَتْ طَابَةَ وَطَيِّبَةَ مِنْ الطَّيِّبِ وَهُوَ الطَّاهِرُ لِخُلُوصِهَا مِنْ الشِّرْكِ وَطَهَارَتِهَا. وَقِيلَ: مِنْ طِيبِ الْعَيْشِ. وَقِيلَ مِنْ الطِّيبِ وَهُوَ الرَّائِحَةُ الْحَسَنَةُ. وَسُمِّيَتْ الدَّارُ لِأَمْنِهَا وَلِلِاسْتِقْرَارِ بِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أما الأحكام: فَفِيهَا مَسَائِلُ:
إحداها: يُسْتَحَبُّ الْغُسْلُ لِدُخُولِ الْمُحْرِمِ مَكَّةَ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ أَغْسَالِ الْحَجِّ فِي أَوَّلِ بَابِ الْإِحْرَامِ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ إنْ عَجَزَ عَنْ الْغُسْلِ تَيَمَّمَ. وَذَكَرْنَا فِيهِ فُرُوعًا كَثِيرَةً. وَيُسْتَحَبُّ هَذَا الْغُسْلُ بِذِي طَوًى إنْ كَانَتْ فِي طَرِيقِهِ وَإِلَّا اغْتَسَلَ فِي غَيْرِ طَرِيقِهَا، كَنَحْوِ مَسَافَتِهَا وَيَنْوِي بِهِ غُسْلَ دُخُولِ مَكَّةَ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ لِكُلِّ مُحْرِمٍ حَتَّى الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَالصَّبِيِّ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي بَابِ الْإِحْرَامِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَوْ خَرَجَ إنْسَانٌ مِنْ مَكَّةَ فَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْحِلِّ وَاغْتَسَلَ لِلْإِحْرَامِ ثُمَّ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ، فَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعٍ بَعِيدٍ عَنْ مَكَّةَ، كَالْجِعْرَانَةِ وَالْحُدَيْبِيَةِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَغْتَسِلَ أَيْضًا لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَإِنْ أَحْرَمَ مِنْ مَوْضِعٍ قَرِيبٍ مِنْ مَكَّةَ كَالتَّنْعِيمِ أَوْ مِنْ أَدْنَى الْحِلِّ لَمْ يَغْتَسِلْ لِدُخُولِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا الْغُسْلِ النَّظَافَةُ وَإِزَالَةُ الْوَسَخِ عِنْدَ دُخُولِهِ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِغُسْلِهِ السَّابِقِ.
وَهَذَا الْغُسْلُ مُسْتَحَبٌّ لِكُلِّ دَاخِلٍ مُحْرِمٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ قِرَانٍ بِلَا خِلَافٍ، وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ قَوْلُهُ: وَهُوَ مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ، فَأَوْهَمَ اخْتِصَاصَهُ بِهِ (وَالصَّوَابُ) حَذْفُ لَفْظَةِ الْحَجِّ كَمَا حَذَفَهَا فِي "التَّنْبِيهِ" وَالْأَصْحَابُ.

 

ج / 8 ص -7-            الثَّانِيَةُ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ وَسَائِرُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ حَجِيجُ الْعِرَاقِ مِنْ قُدُومِهِمْ إلَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ دُخُولِ مَكَّةَ فَخَطَأٌ مِنْهُمْ وَجَهَالَةٌ. وَفِيهِ ارْتِكَابُ بِدْعَةٍ وَتَفْوِيتُ سُنَنٍ مِنْهَا: دُخُولُ مَكَّةَ أَوَّلًا وَمِنْهَا: تَفْوِيتُ طَوَافِ الْقُدُومِ وَتَفْوِيتُ تَعْجِيلِ السَّعْيِ وَزِيَارَةِ الْكَعْبَةِ، وَكَثْرَةُ الصَّلَاةِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحُضُورُ خُطْبَةِ الْإِمَامِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ بِمَكَّةَ، وَالْمَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَةَ عَرَفَةَ وَالصَّلَاةُ بِهَا وَالنُّزُولُ بِنَمِرَةَ، وَحُضُورُ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الثَّالِثَةُ: يُسْتَحَبُّ إذَا وَصَلَ الْحَرَمَ أَنْ يَسْتَحْضِرَ فِي قَلْبِهِ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ الْخُشُوعِ وَالْخُضُوعِ بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَيَتَذَكَّرُ جَلَالَةَ الْحَرَمِ وَمَزِيَّتَهُ عَلَى غَيْرِهِ. قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنَّ هَذَا حَرَمُك وَأَمْنُك فَحَرِّمْنِي عَلَى النَّارِ، وَآمِنِّي مِنْ عَذَابِك يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَك، وَاجْعَلْنِي مِنْ أَوْلِيَائِك وَأَهْلِ طَاعَتِك.
الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى: يُسْتَحَبُّ لَهُ دُخُولُ مَكَّةَ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَهِيَ بِفَتْحِ الْكَافِ، وَالْمَدِّ كَمَا سَبَقَ وَمِنْهَا يَتَجَرَّدُ إلَى مَقَابِرِ مَكَّةَ، وَإِذَا خَرَجَ رَاجِعًا إلَى بَلَدِهِ خَرَجَ مِنْ ثَنِيَّةِ كُدًى - بِضَمِّ الْكَافِ - وَبِالْقَصْرِ، وَهِيَ بِأَسْفَلِ مَكَّةَ قُرْبَ جَبَلِ قُعَيْقِعَانَ وَإِلَى صَوْبِ ذِي طَوًى. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: إنَّ الْخُرُوجَ إلَى عَرَفَاتٍ يُسْتَحَبُّ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مِنْ هَذِهِ السُّفْلَى.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَذْهَبَ الصَّحِيحَ الْمُخْتَارَ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الدُّخُولَ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا مُسْتَحَبٌّ لِكُلِّ مُحْرِمٍ دَاخِلٍ مَكَّةَ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي صَوْبِ طَرِيقِهِ أَمْ لَمْ تَكُنْ، وَيَعْتَدِلُ إلَيْهَا مَنْ لَمْ تَكُنْ فِي طَرِيقِهِ.
وَقَالَ الصَّيْدَلَانِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْفُورَانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي: إنَّمَا يُسْتَحَبُّ الدُّخُولُ مِنْهَا لِمَنْ كَانَتْ فِي طَرِيقِهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَكُنْ فِي طَرِيقِهِ فَقَالُوا: لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ الْعُدُولُ إلَيْهَا. قَالُوا: وَإِنَّمَا دَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اتِّفَاقًا لِكَوْنِهَا كَانَتْ فِي طَرِيقِهِ. هَذَا كَلَامُ الصَّيْدَلَانِيِّ وَمُوَافِقِيهِ، وَاخْتَارَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: لَيْسَتْ الْعُلْيَا عَلَى طَرِيقِ الْمَدِينَةِ، بَلْ عَدَلَ إلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مُتَعَمِّدًا لَهَا، قَالَ: فَيُسْتَحَبُّ الدُّخُولُ مِنْهَا لِكُلِّ أَحَدٍ، قَالَ: وَوَافَقَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجُمْهُورَ فِي الْحُكْمِ، وَوَافَقَ أَبَا مُحَمَّدٍ فِي أَنَّ مَوْضِعَ الثَّنِيَّةِ كَمَا ذَكَرَهُ وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ مِنْ كَوْنِ الثَّنِيَّةِ لَيْسَتْ عَلَى نَهْجِ الطَّرِيقِ، بَلْ عَدَلَ إلَيْهَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي يَقْضِي بِهِ الْحِسُّ وَالْعِيَانُ، فَالصَّحِيحُ اسْتِحْبَابُ الدُّخُولِ مِنْ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا لِكُلِّ مُحْرِمٍ قَصَدَ مَكَّةَ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي صَوْبِ طَرِيقِهِ أَمْ لَا، وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ، الشَّافِعِيِّ فِي "الْمُخْتَصَرِ" وَمُقْتَضَى إطْلَاقِهِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَيَدْخُلُ الْمُحْرِمُ مِنْ ثَنِيَّةِ كَدَاءٍ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ "الْبَيَانُ" عَنْ عَامَّةِ الْأَصْحَابِ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَهُ دُخُولُ مَكَّةَ رَاكِبًا وَمَاشِيًا، وَأَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ أَصَحُّهُمَا: مَاشِيًا أَفْضَلُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالتَّوَاضُعِ وَالْأَدَبِ وَلَيْسَ فِيهِ مَشَقَّةٌ وَلَا فَوَاتُ

 

ج / 8 ص -8-            مُهِمٍّ، بِخِلَافِ الرُّكُوبِ فِي الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ أَفْضَلُ1 عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَاكَ، وَلِأَنَّ الرَّاكِبَ فِي الدُّخُولِ مُتَعَرِّضٌ لَأَنْ يُؤْذِيَ النَّاسَ بِدَابَّتِهِ فِي الزَّحْمَةِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَإِذَا دَخَلَ مَاشِيًا فَالْأَفْضَلُ كَوْنُهُ حَافِيًا لَوْ لَمْ يَلْحَقْهُ مَشَقَّةٌ، وَلَا خَافَ نَجَاسَةَ رِجْلِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَهُ دُخُولُ مَكَّةَ لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا كَرَاهَةَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَدْ ثَبَتَتْ الْأَحَادِيثُ فِيهَا كَمَا سَأَذْكُرُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَفِي الْفَضِيلَةِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: دُخُولُهَا نَهَارًا أَفْضَلُ، حَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَرَجَّحَهُ الْبَغَوِيّ وَصَاحِبُ "الْعُدَّةِ" وَغَيْرُهُمَا، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْعَبْدَرِيُّ: هُمَا سَوَاءٌ فِي الْفَضِيلَةِ لَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِأَنَّهُ قَدْ صَحَّ الْأَمْرَانِ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَرِدْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم تَرْجِيحٌ لِأَحَدِهِمَا وَلَا نَهْيٌ فَكَانَا سَوَاءً، وَاحْتَجَّ مَنْ رَجَّحَ النَّهَارَ بِأَنَّهُ الَّذِي اخْتَارَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّتِهِ وَحَجَّةِ الْوَدَاعِ وَقَالَ فِي آخِرِهَا: "لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" فَهَذَا تَرْجِيحٌ ظَاهِرٌ لِلنَّهَارِ؛ وَلِأَنَّهُ أَعْوَنُ لِلدَّاخِلِ وَأَرْفَقُ بِهِ وَأَقْرَبُ إلَى مُرَاعَاتِهِ لِلْوَظَائِفِ الْمَشْرُوعَةِ لَهُ عَلَى أَكْمَلِ وُجُوهِهَا وَأَسْلَمُ لَهُ مِنْ التَّأَذِّي وَالْإِيذَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْحَدِيثَانِ الْوَارِدَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ فأحدهما: حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ:
"بَاتَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِذِي طَوًى حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ نَافِعٍ: "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ لَا يَقْدَمُ مَكَّةَ إلَّا بَاتَ بِذِي طَوًى حَتَّى يُصْبِحَ وَيَغْتَسِلَ ثُمَّ يَدْخُلَ مَكَّةَ نَهَارًا، وَيَذْكُرُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ فَعَلَهُ" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَنْزِلُ بِذِي طَوًى وَيَبِيتُ فِيهِ حَتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ".
وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ فَعَنْ مُحَرِّشٍ الْكَعْبِيِّ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَرَجَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ لَيْلًا مُعْتَمِرًا فَدَخَلَ لَيْلًا فَقَضَى عُمْرَتَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ بِالْجِعْرَانَةِ كَبَائِتٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، قَالَ: وَلَا يُعْرَفُ لِمُحَرِّشٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم غَيْرُ هَذَا الْحَدِيثِ وَثَبَتَ فِي ضَبْطِ مُحَرِّشٍ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ حَكَاهَا أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي "الِاسْتِيعَابِ" أَصَحُّهَا: وَأَشْهُرُهَا وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ أَبُو نَصْرِ بْنُ مَاكُولَا. مُحَرِّشٌ - بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ - والثاني: مِحْرَشٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَالثَّالِثُ: مِخْرَشٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ وَادَّعَى أَنَّهُ الصَّوَابُ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَمَنْ اسْتَحَبَّ دُخُولَهَا نَهَارًا ابْنُ عُمَرَ وَعَطَاءٌ وَالنَّخَعِيُّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المقصود بالركوب في الطريق هو السفر إلى مكة من موطنه فالركوب أفضل على المذهب وأما عند الدخول إلى مكة فالمشي أفضل (ط).

 

ج / 8 ص -9-            وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَمِمَّنْ اسْتَحَبَّهُ لَيْلًا عَائِشَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَمِمَّنْ قَالَ: هُمَا سَوَاءٌ: طَاوُسٌ وَالثَّوْرِيُّ.
فرع: يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَفَّظَ فِي دُخُولِهِ مِنْ إيذَاءِ النَّاسِ فِي الزَّحْمَةِ، وَيَتَلَطَّفَ بِمَنْ يُزَاحِمُهُ وَيَلْحَظَ بِقَلْبِهِ جَلَالَةَ الْبُقْعَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَالْكَعْبَةِ الَّتِي هُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَيْهَا، وَيُمَهِّدَ عُذْرَ مَنْ زَاحَمَهُ.
فرع: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: يُسْتَحَبُّ دُخُولُ مَكَّةَ بِخُشُوعِ قَلْبِهِ وَخُضُوعِ جَوَارِحِهِ دَاعِيًا مُتَضَرِّعًا. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيَكُونُ مِنْ دُعَائِهِ مَا رَوَاهُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ دُخُولِهِ
"اللَّهُمَّ الْبَلَدُ بَلَدُك وَالْبَيْتُ بَيْتُك، جِئْت أَطْلُبُ رَحْمَتَك وَأَؤُمُّ طَاعَتَك، مُتَّبِعًا لِأَمْرِك رَاضِيًا بِقَدَرِك مُبَلِّغًا لِأَمْرِك، أَسْأَلُك مَسْأَلَةَ الْمُضْطَرِّ إلَيْك الْمُشْفِقِ مِنْ عَذَابِك أَنْ تَسْتَقْبِلَنِي وَأَنْ تَتَجَاوَزَ عَنِّي بِرَحْمَتِك وَأَنْ تُدْخِلَنِي جَنَّتَك1".
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِذَا رَأَى الْبَيْتَ دَعَا لِمَا رَوَى أَبُو أُمَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"تُفْتَحُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَتُسْتَجَابُ دَعْوَةُ الْمُسْلِمِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ" وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ الْيَدَ فِي الدُّعَاءِ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "تُرْفَعُ الْأَيْدِي فِي الدُّعَاءِ لِاسْتِقْبَالِ الْبَيْتِ" وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ زِدْ هَذَا الْبَيْتَ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَمَهَابَةً، وَزِدْ مِنْ شَرَفِهِ وَكَرَمِهِ مِمَّنْ حَجَّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَكْرِيمًا وَتَعْظِيمًا وَبِرًّا؛ لِمَا رَوَى ابْنُ جُرَيْجٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله علي ه وسلم: "كَانَ إذَا رَأَى الْبَيْتَ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ ذَلِكَ" وَيُضِيفُ إلَيْهِ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ فَحَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ كَانَ إذَا نَظَرَ إلَى الْبَيْتِ قَالَ ذَلِكَ.
الشرح
: أَمَّا حَدِيثُ أَبِي أُمَامَةَ فَغَرِيبٌ لَيْسَ بِثَابِتٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَرَوَاهُ الْإِمَامُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ ضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِهِمْ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى الْإِمَامِ الْمَشْهُورِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ2 عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ جُرَيْجٍ فَكَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُرْسَلٌ مُعْضَلٌ. وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَلَيْسَ إسْنَادُهُ بِقَوِيٍّ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الحديث أخرجه الطبراني في "الكبير".
2 هكذا في جميع النسخ وليس لعبد الله هذا ذكر في كتب الرجال وإنما الذي عرفناه من ولد عبد الرحمن هو محمد بن عبد الرحمن بن ليلى الأنصاري أبو عبد الرحمن الكوفي الفقيه قاضي الكوفة، روى عن أخيه عيسى وابن أخيه عبد الله بن عيسى ونافع مولى بن عمر قال فيه أحمد: كان يحيى بن سعيد القطان يضعفه وعن عبد الله بن أحمد عن أبيه: كان سيء الحفظ مضطرب الحديث، كان فقه ابن ليلى أحب إلينا من حديثه، وقال مرة: ابن أبي ليلى ضعيف وفي عطاء أكثر خطأ وقال أبو داود الطيالسي عن شعبة: ما رأيت: أحداً أسوأ حفظأ من ابن أبي ليلى وقال أبو حاتم عن أحمد بن يونس ذكر زائدة فقال: كان أفقه أهل الدنيا وقال العجلي: كان فقيهاً صاحب سنة صدوق جائز الحديث وكان عالماً بالقرآن وكان من أحب الناس وكان جميلاً نبيلاً وأول من استقضاه على الكوفة يوسف بن عمر الثقفي. (ط).

 

ج / 8 ص -10-         أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَاعْلَمْ أَنَّ بِنَاءَ الْبَيْتِ زَادَهُ اللَّهُ فَضْلًا وَشَرَفًا رَفِيعًا، يُرَى قَبْلَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ فِي مَكَان يُقَالُ لَهُ رَأْسُ الرَّدْمِ إذَا دَخَلَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ، وَهُنَاكَ يَقِفُ وَيَدْعُو، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إذَا رَأَى الْبَيْتَ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ وَيَقُولُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَيَدْعُو مَعَ ذَلِكَ بِمَا أَحَبَّ مِنْ مُهِمَّاتِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَأَهَمُّهَا سُؤَالُ الْمَغْفِرَةِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ وَالْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ فِي "جَامِعِه"ِ، وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ"، وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي "جَامِعِهِ"، وَالدَّارِمِيُّ فِي "الِاسْتِذْكَارِ"، وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي "الْحَاوِي"، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "الْمُجَرَّدِ"، وَالْمَحَامِلِيُّ فِي كِتَابَيْهِ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ "الْعُدَّةِ" وَآخَرُونَ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "الْمُجَرَّدِ": نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي "الْجَامِعِ الْكَبِير"ِ.
وَقَالَ صَاحِبُ "الشَّامِلِ": يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ مَعَ هَذَا الدُّعَاءِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْإِمْلَاءِ: لَا أَكْرَهُهُ وَلَا أَسْتَحِبُّهُ، وَلَكِنْ إنْ رَفْعَ كَانَ حَسَنًا. هَذَا نَصُّهُ وَلَيْسَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا النَّصَّ مَحْمُولٌ عَلَى وَفْقِ النَّصِّ الَّذِي نَقَلَهُ أَبُو الطَّيِّبِ وَجَزَمَ بِهِ الْأَصْحَابُ. وَقَدْ قَدَّمْت فِي آخِرِ بَابِ صِفَةِ الصَّلَاةِ فَصْلًا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الثَّابِتَةِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الدُّعَاءِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هَكَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ"، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ طُرُقِهِمْ، وَنَقَلَهُ الْمُزَنِيّ فِي "الْمُخْتَصَرِ" فَغَيَّرَهُ فَقَالَ: "وَزِدْ مِنْ شَرَفِهِ وَعِظَمِهِ مِمَّنْ حَجَّهُ أَوْ اعْتَمَرَهُ تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَمَهَابَةً1" وَقَدْ كَرَّرَ الْمَهَابَةَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ. قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الطَّرِيقِينَ: هَذَا غَلَطٌ مِنْ الْمُزَنِيِّ، وَإِنَّمَا يُقَالُ فِي الثَّانِي: وَبِرًّا، لِأَنَّ الْمَهَابَةَ تَلِيقُ بِالْبَيْتِ وَالْبِرُّ يَلِيقُ بِالْإِنْسَانِ. وَهَكَذَا هُوَ فِي الْحَدِيثِ، وَفِي نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي "الْأُمِّ". وَمِمَّنْ نَقَلَ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَى تَغْلِيطِ الْمُزَنِيِّ صَاحِبُ الْبَيَانِ. وَكَذَا هُوَ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي كُتُبِ الْأَصْحَابِ. وَوَقَعَ فِي "الْوَجِيز"ِ ذِكْرُ الْمَهَابَةِ وَالْبِرِّ جَمِيعًا فِي الْأَوَّلِ، وَذُكِرَ الْبِرُّ وَحْدَهُ ثَانِيًا، وَهَذَا أَيْضًا مَرْدُودٌ، وَالْإِنْكَارُ فِي ذِكْرِهِ الْبِرَّ فِي الْأَوَّلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ "الْمُجَرَّدِ": التَّكْبِيرُ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ لَا يُعْرَفُ لِلشَّافِعِيِّ أَصْلًا، قَالَ وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إذَا رَآهَا كَبَّرَ. قَالَ الْقَاضِي: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ.
فرع: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ "الْمُجَرَّدِ" قَوْلُهُ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ" الْمُرَادُ بِهِ أَنَّ السَّلَامَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ: وَقَوْلُهُ: "وَمِنْك السَّلَامُ" أَيْ السَّلَامَةُ مِنْ الْآفَاتِ، وَقَوْلُهُ: "حَيِّنَا رَبَّنَا بِالسَّلَامِ" أَيْ اجْعَلْ تَحِيَّتَنَا فِي وُفُودِنَا عَلَيْك السَّلَامَةَ مِنْ الْآفَاتِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُهُ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ، قَالَ: وَبِهِ أَقُولُ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَرْفَعُ، وَقَدْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق (زود من شرفه وعظمته) (ط).

 

ج / 8 ص -11-         يُحْتَجُّ لَهُ بِحَدِيثِ الْمُهَاجِرِ الْمَكِّيِّ قَالَ: "سُئِلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ الرَّجُلِ الَّذِي يَرَى الْبَيْتَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فَقَالَ: مَا كُنْت أَرَى أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا إلَّا الْيَهُودَ، قَدْ حَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَكُنْ يَفْعَلُهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ الْمُهَاجِرِ الْمَكِّيِّ أَيْضًا قَالَ: "سُئِلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَيَرْفَعُ الرَّجُلُ يَدَيْهِ إذَا رَأَى الْبَيْتَ؟ فَقَالَ: حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكُنَّا نَفْعَلُهُ" هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، قَالَ أَصْحَابُنَا: رِوَايَةُ الْمُثْبِتِ لِلرَّفْعِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةَ عِلْمٍ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: رِوَايَةُ غَيْرِ جَابِرٍ فِي إثْبَاتِ الرَّفْعِ أَشْهَرُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ رِوَايَةِ الْمُهَاجِرِ الْمَكِّيِّ. قَالَ: وَالْقَوْلُ فِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُ مَنْ رَأَى وَأَثْبَتَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي صَوْبِ طَرِيقِهِ أَمْ لَا، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْدِلَ إلَيْهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى طَرِيقِهِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. قَالَ الْخُرَاسَانِيُّونَ: وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا عَلَى اخْتِيَارِ الْخُرَاسَانِيِّينَ حَيْثُ قَالُوا: لَا يُسْتَحَبُّ الْعُدُولُ إلَيْهَا كَمَا سَبَقَ أَنَّهُ لَا مَشَقَّةَ فِي الْعُدُولِ إلَى بَابِ بَنِي شَيْبَةَ بِخِلَافِ الثَّنِيَّةِ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَغَيْرُهُ: وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "عَدَلَ إلَى بَابِ بَنِي شَيْبَةَ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى طَرِيقِهِ".
وَاحْتَجَّ الْبَيْهَقِيُّ لِلدُّخُولِ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ بِمَا رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا قَدِمَ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ هَذَا الْبَابِ الْأَعْظَمِ، وَقَدْ جَلَسَتْ قُرَيْشٌ مِمَّا يَلِي الْحَجَرَ" ثُمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا فِي دُخُولِهِ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، وَخُرُوجِهِ مِنْ بَابِ الْحَنَّاطِينَ. قَالَ: وَإِسْنَادُهُ عَنْهُ قَوِيٌّ. قَالَ: وَرَوَيْنَا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "يَدْخُلَ الْمُحْرِمُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ وَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ، وَخَرَجَ مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ إلَى الصَّفَا" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا مُرْسَلٌ جَيِّدٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَدِّمَ فِي دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى، وَفِي خُرُوجِهِ الْيُسْرَى، وَيَقُولَ الْأَذْكَارَ الْمَشْرُوعَةَ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ وَالْخُرُوجِ مِنْهَا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهَا فِي آخِرِ بَابِ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ. وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَحْضِرَ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ مَا أَمْكَنَهُ مِنْ الْخُشُوعِ وَالتَّذَلُّلِ وَالْخُضُوعِ وَالْمَهَابَةِ وَالْإِجْلَالِ، فَهَذِهِ عَادَةُ الصَّالِحِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ الْبَيْتِ تُشَوِّقُ إلَى رَبِّ الْبَيْتِ. وَقَدْ حَكَوْا أَنَّ امْرَأَةً دَخَلَتْ مَكَّةَ فَجَعَلَتْ تَقُولُ: أَيْنَ بَيْتُ رَبِّي؟ فَقِيلَ: الْآنَ تَرَيْنَهُ، فَلَمَّا لَاحَ الْبَيْتُ قِيلَ لَهَا: هَذَا بَيْتُ رَبِّكِ: فَاشْتَدَّتْ نَحْوَهُ فَأَلْصَقَتْ جَبِينَهَا بِحَائِطِ الْبَيْتِ فَمَا رُفِعَتْ إلَّا مَيِّتَةً. وَأَنَّ الشِّبْلِيَّ رضي الله عنه غُشِيَ عَلَيْهِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْكَعْبَةِ ثُمَّ أَفَاقَ فَأَنْشَدَ:

هَذِهِ دَارُهَمٍّ وَأَنْتَ مُحِبٌّ                     مَا بَقَاءُ الدُّمُوعِ فِي الْآمَاقِ


قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَبْتَدِئُ بِطَوَافِ الْقُدُومِ؛ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها:
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ" فَإِنْ خَافَ فَوْتَ مَكْتُوبَةٍ أَوْ سُنَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ أَتَى بِهَا قَبْلَ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّهَا تَفُوتُ وَالطَّوَافُ لَا يَفُوتُ، وَهَذَا الطَّوَافُ سُنَّةٌ

 

ج / 8 ص -12-         لِأَنَّهُ تَحِيَّةٌ فَلَمْ يَجِبْ كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ.
الشرح
: حَدِيثُ عَائِشَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. قَالَ أَصْحَابُنَا. فَإِذَا فَرَغَ مِنْ أَوَّلِ دُخُولِهِ مَكَّةَ أَنْ لَا يُعَرِّجَ عَلَى اسْتِئْجَارِ مَنْزِلٍ وَحَطِّ قُمَاشٍ وَتَغْيِيرِ ثِيَابِهِ وَلَا شَيْءَ آخَرَ غَيْرَ الطَّوَافِ، بَلْ يَقِفُ بَعْضُ الرُّفْقَةِ عِنْدَ مَتَاعِهِمْ وَرَوَاحِلِهِمْ حَتَّى يَطُوفُوا ثُمَّ يَرْجِعُوا إلَى رَوَاحِلِهِمْ وَمَتَاعِهِمْ وَاسْتِئْجَارِ الْمَنْزِلِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الدُّعَاءِ عِنْدَ رَأْسِ الرَّدْمِ قَصَدَ الْمَسْجِدَ فَدَخَلَهُ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ كَمَا ذَكَرْنَا، فَأَوَّلُ شَيْءٍ يَفْعَلُهُ طَوَافُ الْقُدُومِ. وَاسْتَثْنَى الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ مِنْ هَذَا الْمَرْأَةَ الْجَمِيلَةَ وَالشَّرِيفَةَ الَّتِي لَا تَبْرُزُ لِلرِّجَالِ، قَالُوا: فَيُسْتَحَبُّ لَهَا تَأْخِيرُ الطَّوَافِ وَدُخُولُ الْمَسْجِدِ إلَى اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ لَهَا وَأَسْلَمُ لَهَا وَلِغَيْرِهَا مِنْ الْفِتْنَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: فَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ لَا يَشْتَغِلُ بِصَلَاةِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ وَلَا غَيْرِهَا، بَلْ يَبْدَأُ بِالطَّوَافِ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، فَيَقْصِدُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَيَبْدَأُ بِطَوَافِ الْقُدُومِ، وَهُوَ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالِابْتِدَاءُ بِالطَّوَافِ مُسْتَحَبٌّ لِكُلِّ دَاخِلٍ، سَوَاءٌ كَانَ مُحْرِمًا أَوْ غَيْرَهُ إلَّا إذَا خَافَ فَوْتَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ أَوْ سُنَّةٍ رَاتِبَةٍ أَوْ مُؤَكَّدَةٍ أَوْ فَوْتَ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَكْتُوبَةِ، وَإِنْ كَانَ وَقْتُهَا وَاسِعًا أَوْ كَانَ عَلَيْهِ فَائِتَةٌ مَكْتُوبَةٌ، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ كُلَّ هَذَا عَلَى الطَّوَافِ ثُمَّ يَطُوفُ، وَلَوْ دَخَلَ وَقَدْ مُنِعَ النَّاسُ مِنْ الطَّوَافِ صَلَّى تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُمْرَةَ لَيْسَ فِيهَا طَوَافُ قُدُومٍ وَإِنَّمَا فِيهَا طَوَافٌ وَاحِدٌ، يُقَالُ لَهُ: طَوَافُ الْفَرْضِ وَطَوَافُ الرُّكْنِ.
وَأَمَّا الْحَجُّ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَطْوِفَةٍ: طَوَافُ الْقُدُومِ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ - وَيُشْرَعُ لَهُ وَلِلْعُمْرَةِ طَوَافٌ رَابِعٌ وَهُوَ الْمُتَطَوَّعُ بِهِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِكْثَارُ مِنْ الطَّوَافِ، فَأَمَّا طَوَافُ الْقُدُومِ فَلَهُ خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: طَوَافُ الْقُدُومِ - وَالْقَادِمِ وَالْوُرُودِ وَالْوَارِدِ - وَطَوَافُ التَّحِيَّةِ، وَأَمَّا طَوَافُ الْإِفَاضَةِ فَلَهُ أَيْضًا خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: طَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ وَطَوَافُ الْفَرْضِ وَطَوَافُ الرُّكْنِ وَطَوَافُ الصَّدَرِ بِفَتْحِ الصَّادِ وَالدَّالِ، وَأَمَّا طَوَافُ الْوَدَاعِ فَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا طَوَافُ الصَّدَرِ. وَمَحَلُّ طَوَافِ الْقُدُومِ أَوَّلُ قُدُومِهِ، وَمَحَلُّ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَنِصْفَ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَمَحَلُّ طَوَافِ الْوَدَاعِ عِنْدَ إرَادَةِ السَّفَرِ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ مَنَاسِكِهِ كُلِّهَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ رُكْنٌ لَا يَصِحُّ الْحَجُّ إلَّا بِهِ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا: أَنَّهُ وَاجِبٌ والثاني: سُنَّةٌ، فَإِنْ تَرَكَهُ أَرَاقَ دَمًا، إنْ قُلْنَا: هُوَ وَاجِبٌ فَالدَّمُ وَاجِبٌ، وَإِنْ قُلْنَا: سُنَّةٌ - فَالدَّمُ سُنَّةٌ. وَأَمَّا طَوَافُ الْقُدُومِ فَسُنَّةٌ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَلَوْ تَرَكَهُ فَحَجُّهُ صَحِيحٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لَكِنَّهُ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ جَمَاهِيرُ الْعِرَاقِيِّينَ الْخُرَاسَانِيِّينَ. وَذَكَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ وَغَيْرُهُمْ فِي وُجُوبِهِ وَجْهًا ضَعِيفًا شَاذًّا وَأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُ لَزِمَهُ دَمٌ مِمَّنْ قَالَهُ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ "التَّقْرِيبِ" وَالدَّارِمِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي آخِرِ صِفَةِ الْحَجِّ مِنْ تَعْلِيقِهِ، وَأَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ - بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ - وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَصَاحِبُ "الْبَيَانِ" وَآخَرُونَ.

 

ج / 8 ص -13-         فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُؤْمَرُ أَنْ يَأْتِيَ بِطَوَافِ الْقُدُومِ أَوَّلَ قُدُومِهِ، فَلَوْ أَخَّرَهُ فَفِي فَوَاتِهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ.
فرع: اعْلَمْ أَنَّ طَوَافَ الْقُدُومِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّ مُفْرِدِ الْحَجِّ، وَفِي حَقِّ الْقَارِنِ إذَا كَانَا قَدْ أَحْرَمَا مِنْ غَيْرِ مَكَّةَ وَدَخَلَاهَا قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، فَأَمَّا الْمَكِّيُّ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ طَوَافُ الْقُدُومِ، إذْ لَا قُدُومَ لَهُ. وَأَمَّا الْمُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ فَلَا يُتَصَوَّرُ فِي حَقِّهِ طَوَافُ قُدُومٍ، بَلْ إذَا طَافَ لِلْعُمْرَةِ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا، وَيَتَضَمَّنُ الْقُدُومَ كَمَا تُجْزِئُ الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ عَنْ الْفَرْضِ وَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: حَتَّى لَوْ طَافَ الْمُعْتَمِرُ بِنِيَّةِ طَوَافِ الْقُدُومِ وَقَعَ عَنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةِ تَطَوُّعٍ فَإِنَّهَا تَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا وَلَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ إلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ فَلَيْسَ فِي حَقِّهِ طَوَافُ قُدُومٍ، بَلْ الطَّوَافُ الَّذِي يَفْعَلُهُ بَعْدَ الْوُقُوفِ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، فَلَوْ نَوَى بِهِ طَوَافَ الْقُدُومِ وَقَعَ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ إنْ كَانَ دَخَلَ وَقْتُهُ وَهُوَ نِصْفُ لَيْلَةِ النَّحْرِ، كَمَا قُلْنَا فِي الْمُعْتَمِرِ إذَا نَوَى طَوَافَ الْقُدُومِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسَنُّ طَوَافُ الْقُدُومِ لِكُلِّ قَادِمٍ إلَى مَكَّةَ، سَوَاءٌ كَانَ حَاجًّا أَوْ تَاجِرًا أَوْ زَائِرًا أَوْ غَيْرَهُمْ مِمَّنْ دَخَلَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ أَوْ بِحَجٍّ بَعْدَ الْوُقُوفِ كَمَا سَبَقَ.
فرع: فِي صِفَةِ الطَّوَافِ الْكَامِلَةِ
وَإِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلْيَقْصِدْ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَهُوَ فِي الرُّكْنِ الَّذِي يَلِي بَابَ الْبَيْتِ مِنْ جَانِبِ الْمَشْرِقِ، وَيُسَمَّى الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ، وَيُقَالُ لَهُ وَلِلرُّكْنِ الْيَمَانِي: الرُّكْنَانِ الْيَمَانِيَانِ، وَارْتِفَاعُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مِنْ الْأَرْضِ ثَلَاثُ أَذْرُعٍ إلَّا سَبْعَ أَصَابِعَ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ بِوَجْهِهِ وَيَدْنُوَ مِنْهُ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤْذِيَ أَحَدًا بِالْمُزَاحَمَةِ فَيَسْتَلِمَهُ، ثُمَّ يُقَبِّلَهُ مِنْ غَيْرِ صَوْتٍ يَظْهَرُ فِي الْقُبْلَةِ وَيَسْجُدَ عَلَيْهِ، وَيُكَرِّرَ التَّقْبِيلَ وَالسُّجُودَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا ثُمَّ يَبْتَدِئَ الطَّوَافَ وَيَقْطَعَ التَّلْبِيَةَ فِي الطَّوَافِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مَسَائِلِ التَّلْبِيَةِ، وَيَضْطَبِعَ مَعَ دُخُولِهِ فِي الطَّوَافِ، فَإِنْ اضْطَبَعَ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ فَلَا بَأْسَ، وَالِاضْطِبَاعُ أَنْ يَجْعَلَ وَسَطَ رِدَائِهِ تَحْتَ مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ عِنْدَ إبْطِهِ وَيَطْرَحَ طَرَفَيْهِ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ وَيَكُونَ مَنْكِبُهُ الْأَيْمَنُ مَكْشُوفًا.
وَصِفَةُ الطَّوَافِ أَنْ يُحَاذِيَ جَمِيعُهُ جَمِيعَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَيَمُرَّ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ عَلَى جَمِيعِ الْحَجَرِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَسْتَقْبِلَ الْبَيْتَ وَيَقِفَ عَلَى جَانِبِ الْحَجَرِ الَّذِي إلَى جِهَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِي، بِحَيْثُ يَصِيرُ جَمِيعُ الْحَجَرِ عَنْ يَمِينِهِ، وَيَصِيرُ مَنْكِبُهُ الْأَيْمَنُ عِنْدَ طَرَفِ الْحَجَرِ ثُمَّ يَنْوِي الطَّوَافَ لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يَمْشِي مُسْتَقْبِلَ الْحَجَرِ مَارًّا إلَى جِهَةِ يَمِينِهِ حَتَّى يُجَاوِزَ الْحَجَرَ، فَإِذَا جَاوَزَهُ انْفَتَلَ وَجَعَلَ يَسَارَهُ إلَى الْبَيْتِ وَيَمِينَهُ إلَى خَارِجٍ، وَلَوْ فَعَلَ هَذَا مِنْ الْأَوَّلِ وَتَرَكَ اسْتِقْبَالَ الْحَجَرِ جَازَ لَكِنَّهُ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ، ثُمَّ يَمْشِي هَكَذَا تِلْقَاءَ وَجْهِهِ طَائِفًا حَوْلَ الْبَيْتِ كُلِّهِ، فَيَمُرُّ عَلَى الْمُلْتَزَمِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَالْبَابُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ النَّاسَ يَلْزَمُونَهُ عِنْدَ الدُّعَاءِ. ثُمَّ يَمُرُّ إلَى الرُّكْنِ الثَّانِي بَعْدَ الْأَسْوَدِ، ثُمَّ يَمُرُّ وَرَاءَ الْحِجْرِ، بِكَسْرِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ - وَهُوَ فِي صَوْبِ الشَّامِ وَالْمَغْرِبِ فَيَمْشِي حَوْلَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الرُّكْنِ الثَّالِثِ، وَيُقَالُ لِهَذَا الرُّكْنِ مَعَ الَّذِي قَبْلَهُ الرُّكْنَانِ الشَّامِيَّانِ. وَرُبَّمَا قِيلَ: الْمَغْرِبِيَّانِ، ثُمَّ يَدُورُ

 

ج / 8 ص -14-         حَوْلَ الْكَعْبَةِ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الرُّكْنِ الرَّابِعِ، الْمُسَمَّى بِالرُّكْنِ الْيَمَانِي ثُمَّ يَمُرُّ مِنْهُ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَيَصِلُ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ فَيَكْمُلُ لَهُ حِينَئِذٍ طَوْفَةٌ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ يَطُوفُ كَذَلِكَ ثَانِيَةً وَثَالِثَةً حَتَّى يُكْمِلَ سَبْعَ طَوْفَاتٍ، فَكُلُّ مَرَّةٍ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَيْهِ طَوْفَةٌ، وَالسَّبْعُ طَوَافٌ كَامِلٌ.
هَذِهِ صِفَةُ الطَّوَافِ الَّتِي إذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهَا صَحَّ طَوَافُهُ، وَبَقِيَتْ مِنْ صِفَاتِهِ الْمُكَمِّلَةِ أَفْعَالٌ وَأَقْوَالٌ نَذْكُرُهَا بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، حَيْثُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ وَاعْلَمْ: أَنَّ الطَّوَافَ يَشْتَمِلُ عَلَى شُرُوطٍ وَوَاجِبَاتٍ لَا يَصِحُّ بِدُونِهَا، وَعَلَى سُنَنٍ يَصِحُّ بِدُونِهَا فَأَمَّا: الشُّرُوطُ الْوَاجِبَاتُ فَثَمَانِيَةٌ مُخْتَلَفٌ فِي بَعْضِهَا.
أحدها: الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَدَثِ وَعَنْ النَّجَسِ فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْمَكَانِ الَّذِي يَطَؤُهُ فِي مَشْيِهَا.
الثَّانِي: كَوْنُ الطَّوَافِ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ.
الثَّالِثُ: إكْمَالُ سَبْعِ طَوْفَاتٍ.
الرَّابِعُ: التَّرْتِيبُ، وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَأَنْ يَمُرَّ عَلَى يَسَارِهِ.
الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ بَدَنِهِ خَارِجًا عَنْ جَمِيعِ الْبَيْتِ، فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ وَاجِبَةٌ بِلَا خِلَافٍ.
السَّادِسُ: وَالسَّابِعُ وَالثَّامِنُ: نِيَّةُ الطَّوَافِ وَصَلَاتُهُ وَمُوَالَاتُهُ، وَفِي الثَّلَاثَةِ خِلَافٌ الْأَصَحُّ: أَنَّهَا سُنَّةٌ والثاني: وَاجِبَةٌ.
وَأَمَّا السُّنَنُ فَثَمَانِيَةٌ أَيْضًا أحدها: أَنْ يَكُونَ مَاشِيًا والثاني: الِاضْطِبَاعُ الثَّالِثُ: الرَّمَلُ الرَّابِعُ: اسْتِلَامُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَتَقْبِيلُهُ وَوَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَيْهِ الْخَامِسُ: الْمُسْتَحَبَّةُ فِي الطَّوَافِ وَسَنَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى السَّادِسُ: الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الطَّوْفَاتِ السَّابِعُ: صَلَاةُ الطَّوَافِ الثَّامِنُ: أَنْ يَكُونَ فِي طَوَافِهِ خَاشِعًا خَاضِعًا مُتَذَلِّلًا. حَاضِرَ الْقَلْبِ مُلَازِمَ الْأَدَبِ بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ، وَفِي حَرَكَتِهِ وَنَظَرِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَهَذَا خُلَاصَةُ الْقَوْلِ فِي الطَّوَافِ وَبَيَانِ صِفَتِهِ وَوَاجِبَاتِهِ وَمَنْدُوبَاتِهِ، وَسَنُوَضِّحُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى تَرْتِيبِ الْمُصَنِّفِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَمِنْ شَرْطِ الطَّوَافِ الطَّهَارَةُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ" وَمِنْ شَرْطِهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ، لِمَا رُوِيَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه إلَى مَكَّةَ فَنَادَى أَلَا لَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ مُشْرِكٌ وَلَا عُرْيَانٌ" وَهَلْ يُفْتَقَرُ إلَى النِّيَّةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
أحدهما: يُفْتَقَرُ إلَى النِّيَّةِ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى الْبَيْتِ فَافْتَقَرَتْ إلَى النِّيَّةِ كَرَكْعَتَيْ الْمَقَامِ.
والثاني: لَا يُفْتَقَرُ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْحَجِّ تَأْتِي عَلَى ذَلِكَ كَمَا تَأْتِي عَلَى الْوُقُوفِ.

الشرح: أَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَمَرْوِيٌّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَالصَّحِيحُ: أَنَّهُ

 

ج / 8 ص -15-         مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، كَذَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْحُفَّاظِ، وَيُغْنِي عَنْهُ مَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي فَرْعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ "بَعْثِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه" فَهُوَ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" و"مُسْلِمٍ"، لَكِنْ غَيَّرَ الْمُصَنِّفُ لَفْظَهُ، وَإِنَّمَا لَفْظُ رِوَايَتِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ، أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ" هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ قَوْلُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ رُوِيَ، فَأَتَى بِهِ بِصِيغَةِ تَمْرِيضٍ مَعَ أَنَّهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَتَى بِهِ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ، مَعَ أَنَّهُ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ وَالصَّوَابُ: الْعَكْسُ فِيهِمَا.
وَقَوْلُهُ "عِبَادَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى الْبَيْتِ" احْتِرَازٌ مِنْ الْوُقُوفِ وَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ وَالْحَلْقِ وَأَمَّا قَوْلُهُ "فَافْتَقَرَتْ إلَى النِّيَّةِ كَرَكْعَتَيْ الْمَقَامِ" فَيُوهَمُ أَنَّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ تَخْتَصَّانِ بِالْمَقَامِ وَتَفْتَقِرَانِ إلَى فِعْلِهِمَا عِنْدَ الْبَيْتِ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُمَا تَصِحَّانِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ بَيْنَ أَقْطَارِ الْأَرْضِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ قَرِيبًا فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَلَكِنْ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِافْتِقَارِهِمَا إلَى الْبَيْتِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ صَلَاتُهُمَا إلَّا إلَى الْبَيْتِ حَيْثُ كَانَ الْمُصَلَّى.
أما الأحكام: فَفِي الْفَصْلِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
إحداها: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ الطَّهَارَةُ مِنْ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ، فِي الثَّوْبِ وَالْبَدَنِ وَالْمَكَانِ الَّذِي يَطَؤُهُ فِي طَوَافِهِ، فَإِنْ كَانَ مُحْدِثًا أَوْ مُبَاشِرًا لِنَجَاسَةٍ غَيْرِ مَعْفُوٍّ عَنْهَا لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَالْمُرَادُ لِلْأَئِمَّةِ تَشْبِيهُ مَكَانِ الطَّوَافِ بِالطَّرِيقِ فِي حَقِّ الْمُتَنَفِّلِ. وَهُوَ تَشْبِيهٌ لَا بَأْسَ بِهِ. هَذَا كَلَامُهُ.
قلت: وَاَلَّذِي أَطْلَقَهُ الْأَصْحَابُ أَنَّهُ لَوْ لَاقَى النَّجَاسَةَ بِبَدَنِهِ أَوْ ثَوْبِهِ، أَوْ مَشَى عَلَيْهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ. وَمِمَّا عَمَّتْ بِهِ الْبَلْوَى غَلَبَةُ النَّجَاسَةِ فِي مَوْضِعِ الطَّوَافِ مِنْ جِهَةِ الطَّيْرِ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ اخْتَارَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُحَقِّقِينَ الْمُطَّلِعِينَ الْعَفْوَ عَنْهَا. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: يُعْفَى عَمَّا يَشُقُّ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا عُفِيَ عَنْ دَمِ الْقَمْلِ وَالْبَرَاغِيثِ وَالْبَقِّ وَوَنِيمِ الذُّبَابِ، وَهُوَ رَوْثُهُ، وَكَمَا عُفِيَ عَنْ أَثَرِ اسْتِنْجَاءٍ بِالْأَحْجَارِ، وَكَمَا عُفِيَ عَنْ الْقَلِيلِ مِنْ طِينِ الشَّوَارِعِ الَّذِي تَيَقَّنَّا نَجَاسَتَهُ، وَكَمَا عُفِيَ عَنْ النَّجَاسَةِ الَّتِي لَا يُدْرِكُهَا الطَّرْفُ فِي الْمَاءِ وَالثَّوْبِ عَلَى الْأَصَحِّ وَنَظَائِرُ مَا ذَكَرْتُهُ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهَا وَاضِحَةً فِي مَوَاضِعِهَا.
وَقَدْ سُئِلَ الشَّيْخُ أَبُو زَيْدٍ الْمَرْوَزِيُّ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنْ نَحْوِ هَذَا فَقَالَ بِالْعَفْوِ، ثُمَّ قَالَ: الْأَمْرُ إذَا ضَاقَ اتَّسَعَ، كَأَنَّهُ يَسْتَمِدُّ مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وَلِأَنَّ مَحَلَّ الطَّوَافِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ رضي الله عنهم وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا لَمْ يَزَلْ عَلَى هَذَا الْحَالِ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْ الْمَطَافِ لِذَلِكَ، وَلَا أَلْزَمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَحَدٌ بَعْدَهُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ بِتَطْهِيرِ الطَّوَافِ عَنْ ذَلِكَ وَلَا أَلْزَمُوا إعَادَةَ الطَّوَافِ بِسَبَبِ ذَلِكَ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

ج / 8 ص -16-         وَمِمَّا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى فِي الطَّوَافِ مُلَامَسَةُ النِّسَاءِ لِلزَّحْمَةِ، فَيَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ لَا يُزَاحِمَهُنَّ وَيَنْبَغِي لَهُنَّ أَنْ لَا يُزَاحِمْنَ، بَلْ يَطُفْنَ مِنْ وَرَاءِ الرِّجَالِ، فَإِنْ حَصَلَ لَمْسٌ، فَقَدْ سَبَقَ تَفْصِيلُهُ فِي بَابِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: سَتْرُ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي بَابِهِ، فَمَتَى انْكَشَفَ جُزْءٌ مِنْ عَوْرَةِ أَحَدِهِمَا بِتَفْرِيطِهِ بَطَلَ مَا يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الطَّوَافِ. وَأَمَّا مَا سَبَقَ مِنْهُ فَحُكْمُهُ فِي الْبِنَاءِ حُكْمُ مَنْ أَحْدَثَ فِي أَثْنَاءِ طَوَافِهِ، وَسَنُوَضِّحُهُ فِي آخِرِ أَحْكَامِ الطَّوَافِ، حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَبْنِي وَإِنْ انْكَشَفَ بِلَا تَفْرِيطٍ وَسَتَرَ فِي الْحَالِ لَمْ يَبْطُلْ طَوَافُهُ كَمَا لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ فِي نِيَّةِ الطَّوَافِ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَ الطَّوَافُ فِي غَيْرِ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ لَمْ يَصِحَّ بِغَيْرِ نِيَّةٍ بِلَا خِلَافٍ، كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا، وَإِنْ كَانَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ الطَّوَافَ، فَإِنْ طَافَ بِلَا نِيَّةٍ فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أَصَحُّهُمَا: صِحَّتُهُ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ والثاني: بُطْلَانُهُ، فَإِنْ قُلْنَا بِالصِّحَّةِ فَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَصْرِفَهُ إلَى غَرَضٍ آخَرَ مِنْ طَلَبِ غَرِيمٍ وَنَحْوِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي كُتُبِ الْخُرَاسَانِيِّينَ أَصَحُّهُمَا: يُشْتَرَطُ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَرُبَّمَا كَانَ شَيْخِي يَقْطَعُ بِهِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الدَّارِمِيُّ، فَإِنْ صَرَفَهُ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ وَلَا يُعَدُّ طَائِفًا.
والثاني: لَا يُشْتَرَطُ، وَلَوْ صَرَفَهُ صَحَّ طَوَافُهُ، كَمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ فَنَوَى غَيْرَهَا، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ عَنْهَا، فَحَصَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أحدها: لَا يَصِحُّ طَوَافُهُ لَا بِنِيَّةٍ والثاني: يَصِحُّ بِلَا نِيَّةٍ وَلَا يَضُرُّ صَرْفُهُ إلَى غَيْرِهِ وَأَصَحُّهَا: يَصِحُّ بِلَا نِيَّةٍ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يَصْرِفَهُ إلَى غَيْرِهِ.
وَلَوْ نَامَ فِي الطَّوَافِ أَوْ بَعْضِهِ عَلَى هَيْئَةٍ لَا تَنْقُضُ الْوُضُوءَ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هَذَا يَقْرُبُ مِنْ صَرْفِ النِّيَّةِ إلَى طَلَبِ الْغَرِيمِ، قَالَ: وَنَحْوُهُ أَنْ يَقْطَعَ بِصِحَّةِ الطَّوَافِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْرِفْ الطَّوَافَ إلَى غَيْرِ النُّسُكِ، فَلَا يَضُرُّ كَوْنُهُ غَيْرَ ذَاكِرٍ. هَذَا كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ. ذَكَرَهُ فِي مَسَائِلِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَالْأَصَحُّ: صِحَّةُ طَوَافِهِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ كَانَ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِعُمْرَةٍ، أَجْزَأَهُ عَنْ الْحَجِّ كَمَا لَوْ طَافَ عَنْ غَيْرِهِ وَعَلَيْهِ طَوَافٌ عَنْ نَفْسِهِ، ذَكَرَهُ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ.
فرع: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ" فِي أَعْمَالِ يَوْمِ النَّحْرِ فِي مَسَائِلِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ: أَفْعَالُ الْحَجِّ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَبِمُزْدَلِفَةَ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ، هَلْ يَفْتَقِرُ كُلُّ فِعْلٍ مِنْهَا إلَى نِيَّةٍ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ.
أحدها: لَا يَفْتَقِرُ شَيْءٌ مِنْهَا إلَى نِيَّةٍ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْحَجِّ تَشْمَلُهَا كُلَّهَا، كَمَا أَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ تَشْمَلُ جَمِيعَ أَفْعَالِهَا، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ فِي رُكُوعٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلِأَنَّهُ لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ نَاسِيًا أَجْزَأَهُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَفْتَقِرُ شَيْءٌ مِنْهَا إلَى النِّيَّةِ إلَّا الطَّوَافَ لِأَنَّهُ صَلَاةٌ، وَالصَّلَاةُ تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ.

 

ج / 8 ص -17-         وَالثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، مَا كَانَ مِنْهَا مُخْتَصًّا بِفِعْلٍ كَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالرَّمْيِ افْتَقَرَ، وَمَا لَا يَخْتَصُّ وَإِنَّمَا هُوَ لُبْثٌ مُجَرَّدٌ، كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَبِمُزْدَلِفَةَ وَالْمَبِيتِ لَا يَفْتَقِرُ، هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي وَالصَّحِيحُ: مِنْ هَذِهِ الْأَوْجُهِ هُوَ الْأَوَّلُ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْجُمْهُورُ غَيْرَهُ، إلَّا الْوَجْهَ الضَّعِيفَ فِي إيجَابِ نِيَّةِ الطَّوَافِ، وَالصَّحِيحُ أَيْضًا عِنْدَهُ ذِكْرُ الْخِلَافِ فِيهَا أَنَّهَا لَا تَجِبُ كَمَا سَبَقَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الطَّوَافُ إلَّا بِطَهَارَةٍ، سَوَاءٌ فِيهِ جَمِيعُ أَنْوَاعِ الطَّوَافِ، هَكَذَا جَزَمَ بِهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ إلَّا وَجْهًا ضَعِيفًا بَاطِلًا حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ عَنْ أَبِي يَعْقُوبَ الْأَبِيوَرْدِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ يَصِحُّ طَوَافُ الْوَدَاعِ بِلَا طَهَارَةٍ، وَتُجْبَرُ الطَّهَارَةُ بِالدَّمِ، قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا غَلَطٌ؛ لِأَنَّ الدَّمَ إنَّمَا وَجَبَ جَبْرًا لِلطَّوَافِ لَا لِلطَّهَارَةِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ.
 قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ. وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ عَنْ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ، وَانْفَرَدَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ: الطَّهَارَةُ مِنْ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ لِلطَّوَافِ، فَلَوْ طَافَ وَعَلَيْهِ نَجَاسَةٌ أَوْ مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا صَحَّ طَوَافُهُ، وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي كَوْنِ الطَّهَارَةِ وَاجِبَةً مَعَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ، فَمَنْ أَوْجَبَهَا مِنْهُمْ قَالَ: إنْ طَافَ مُحْدِثًا لَزِمَهُ شَاةٌ، وَإِنْ طَافَ جُنُبًا لَزِمَهُ بَدَنَةٌ. قَالُوا: وَيُعِيدُهُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ.
وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا: كَمَذْهَبِنَا وَالثَّانِيَةُ: إنْ أَقَامَ بِمَكَّةَ أَعَادَهُ وَإِنْ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ جَبَرَهُ بِدَمٍ. وَقَالَ دَاوُد: الطَّهَارَةُ لِلطَّوَافِ وَاجِبَةٌ، فَإِنْ طَافَ مُحْدِثًا أَجْزَأَهُ إلَّا الْحَائِضَ. وَقَالَ الْمَنْصُورِيُّ مِنْ أَصْحَابِ دَاوُد: الطَّهَارَةُ شَرْطٌ كَمَذْهَبِنَا وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُوَافِقُوهُ بِعُمُومِ قوله تعالى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ} [الحج: 29] وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الطَّوَافَ بِلَا طَهَارَةٍ قِيَاسًا عَلَى الْوُقُوفِ وَسَائِرِ أَرْكَانِ الْحَجِّ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عَائِشَةَ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوَّلُ شَيْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ أَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي آخِرِ حَجَّتِهِ: "لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ".
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلَانِ أحدهما: أَنَّ طَوَافَهُ صلى الله عليه وسلم بَيَانٌ لِلطَّوَافِ الْمُجْمَلِ فِي الْقُرْآنِ والثاني: قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" يَقْتَضِي وُجُوبَ كُلِّ مَا فَعَلَهُ، إلَّا مَا قَامَ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ. وَعَنْ عَائِشَةَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا حِينَ حَاضَتْ وَهِيَ مُحْرِمَةٌ: "اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَلَّا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَغْتَسِلِي" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَفِيهِ تَصْرِيحٌ بِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم نَهَاهَا عَنْ الطَّوَافِ حَتَّى تَغْتَسِلَ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي الْفَسَادَ فِي الْعِبَادَاتِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا نَهَاهَا لِأَنَّ الْحَائِضَ لَا تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قُلْنَا: هَذَا فَاسِدٌ لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "حَتَّى تَغْتَسِلِي" وَلَمْ يَقُلْ حَتَّى يَنْقَطِعَ دَمُك. وَبِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقُ: "الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ" وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، وَتَحْصُلُ مِنْهُ الدَّلَالَةُ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ اشْتَهَرَ، وَلَمْ يُخَالِفْهُ

 

ج / 8 ص -18-         أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، فَكَانَ حُجَّةً كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ فِي مُقَدِّمَةِ هَذَا الشَّرْحِ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ أَيْضًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا عَنْ عُمُومِ الْآيَةِ الَّتِي احْتَجَّ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ بِجَوَابَيْنِ أحدهما: أَنَّهَا عَامَّةٌ فَيَجِبُ تَخْصِيصُهَا بِمَا ذَكَرْنَاهُ والثاني: أَنَّ الطَّوَافَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى طَوَافٍ مَكْرُوهٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِالْمَكْرُوهِ وَالْجَوَابُ: عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْوُقُوفِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الطَّهَارَةَ لَيْسَتْ وَاجِبَةً فِي غَيْرِ الطَّوَافِ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَلَمْ تَكُنْ شَرْطًا، بِخِلَافِ الطَّوَافِ فَإِنَّهُمْ سَلَّمُوا وُجُوبَهَا فِيهِ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي النِّيَّةِ فِي طَوَافِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ. قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَنَا أَنَّهَا لَا تُشْتَرَطُ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَة. وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْقَاسِمِ الْمَالِكِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَصِحُّ إلَّا بِالنِّيَّةِ وَدَلِيلُ الْمَذْهَبَيْنِ فِي الْكِتَابِ.
فرع: سَتْرُ الْعَوْرَةِ شَرْطٌ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَيْسَ بِشَرْطٍ. دَلِيلُنَا الْحَدِيثُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ:
"لَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ" وَهُوَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" كَمَا سَبَقَ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَهِيَ عُرْيَانَةٌ وَتَقُولُ: الْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ فَمَا بَدَا مِنْهُ فَلَا أُحِلُّهُ" فَنَزَلَتْ: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي حُكْمِ طَوَافِ الْقُدُومِ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ عِنْدَنَا، لَوْ تَرَكَهُ لَمْ يَأْثَمْ وَلَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ عَلَيْهِ دَمٌ. وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ كَمَذْهَبِنَا، وَرِوَايَةٌ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُضَايِقًا لِلْوُقُوفِ فَلَا دَمَ فِي تَرْكِهِ وَإِلَّا فَعَلَيْهِ دَمٌ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَضْطَبِعَ فَيَجْعَلَ وَسَطَ رِدَائِهِ تَحْتَ مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ، وَيَطْرَحَ طَرَفَيْهِ عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْسَرِ، وَيَكْشِفَ الْأَيْمَنَ. لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَاضْطَبَعُوا فَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ، وَقَذَفُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمْ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَلَفْظُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنْ الْجِعْرَانَةِ فَرَمَلُوا بِالْبَيْتِ، فَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ ثُمَّ قَذَفُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمْ الْيُسْرَى" وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "اضْطَبَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَرَمَلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَمَشَوْا أَرْبَعًا" وَعَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ بِالْبَيْتِ مُضْطَبِعًا بِبُرْدٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ: "رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ بِالْبَيْتِ مُضْطَبِعًا" إسْنَادُهُ صَحِيحٌ.

 

ج / 8 ص -19-         وَعَنْ أَسْلَمَ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْت عُمَرَ يَقُولُ: "فِيمَ الرَّمَلَانُ الْآنَ وَالْكَشْفُ عَنْ الْمَنَاكِبِ؟ وَقَدْ وَطَّدَ اللَّهُ الْإِسْلَامَ وَنَفَى الْكُفْرَ وَأَهْلَهُ وَمَعَ ذَلِكَ لَا نَتْرُكُ شَيْئًا كُنَّا نَصْنَعُهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الِاضْطِبَاعُ مُشْتَقٌّ مِنْ الضَّبُعِ، بِفَتْحِ الضَّادِ وَإِسْكَانِ الْبَاءِ، وَهُوَ الْعَضُدُ، وَقِيلَ النِّصْفُ الْأَعْلَى مِنْ الْعَضُدِ، وَقِيلَ مُنْتَصَفُ الْعَضُدِ، وَقِيلَ هُوَ الْإِبْطُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَيُقَالُ لِلِاضْطِبَاعِ أَيْضًا التَّوَشُّحُ وَالتَّأَبُّطُ وَقَوْلُهُ: "وَسَطَ رِدَائِهِ" هُوَ - بِفَتْحِ السِّينِ - وَيَجُوزُ إسْكَانُهَا، وَسَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي بَابِ مَوْقِفِ الْإِمَامِ.
وَاتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ عَلَى اسْتِحْبَابِ الِاضْطِبَاعِ فِي الطَّوَافِ وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَنُّ فِي غَيْرِ طَوَافِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَأَنَّهُ يُسَنُّ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ وَفِي طَوَافٍ وَاحِدٍ فِي الْحَجِّ، وَهُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ أَوْ الْإِفَاضَةِ، وَلَا يُسَنُّ إلَّا فِي أَحَدِهِمَا، وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ يُسَنُّ فِي طَوَافٍ يُسَنُّ فِيهِ الرَّمَلُ، وَلَا يُسَنُّ فِيمَا لَا يُسَنُّ فِيهِ الرَّمَلُ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بَيَانُ الطَّوَافِ الَّذِي يُسَنُّ فِيهِ الرَّمَلُ. وَمُخْتَصَرُهُ أَنَّ الْأَصَحَّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُ إنَّمَا يُسَنُّ الرَّمَلُ وَالِاضْطِبَاعُ فِي طَوَافٍ يَعْقُبُهُ سَعْيٌ، وَهُوَ إمَّا الْقُدُومُ وَإِمَّا الْإِفَاضَةُ وَلَا يُتَصَوَّرَانِ فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ.
والثاني: أَنَّهُمَا يُسَنَّانِ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ مُطْلَقًا، سَوَاءٌ سَعَى بَعْدَهُ أَمْ لَا. قَالَ أَصْحَابُنَا: لَكِنْ يَفْتَرِقُ الرَّمَلُ وَالِاضْطِبَاعُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الِاضْطِبَاعَ مَسْنُونٌ فِي جَمِيعِ الطَّوْفَاتِ السَّبْعِ، وَأَمَّا الرَّمَلُ إنَّمَا يُسَنُّ فِي الثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَيَمْشِي فِي الْأَرْبَعِ الْأَوَاخِرِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسَنُّ الِاضْطِبَاعُ أَيْضًا فِي السَّعْيِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّهُ لَا يُسَنُّ فِيهِ، مِمَّنْ حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ. وَهَلْ يُسَنُّ الِاضْطِبَاعُ فِي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ الْأَصَحُّ: لَا يُسَنُّ؛ لِأَنَّ صُورَةَ الِاضْطِبَاعِ مَكْرُوهَةٌ فِي الصَّلَاةِ، فَإِنْ قُلْنَا لَا يُسَنُّ فِي الصَّلَاةِ طَافَ مُضْطَبِعًا، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الطَّوَافِ أَزَالَ الِاضْطِبَاعَ وَصَلَّى ثُمَّ اضْطَبَعَ فَسَعَى. وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يَضْطَبِعُ فِي الصَّلَاةِ اضْطَبَعَ فِي أَوَّلِ الطَّوَافِ، ثُمَّ أَدَامَهُ فِي الطَّوَافِ ثُمَّ فِي الصَّلَاةِ، ثُمَّ فِي السَّعْيِ، وَلَا يُزِيلُهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ السَّعْيِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فِي اسْتِحْبَابِ الِاضْطِبَاعِ فِي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ مَشْهُورَانِ فِي كُتُبِ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَقَطَعَ جُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ بِعَدَمِ الِاسْتِحْبَابِ. وَاتَّفَقَ الْخُرَاسَانِيُّونَ عَلَى أَنَّهُ الْأَصَحُّ قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُمَا: سَبَبُ الْخِلَافِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: وَيُدِيمُ الِاضْطِبَاعَ حَتَّى يُكْمِلَ سَعْيَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَعْيُهُ، بِيَاءٍ مُثَنَّاةٍ بَعْدَ الْعَيْنِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَبْعَةٌ، بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ قَبْلَ الْعَيْنِ إلَى الطَّوْفَاتِ السَّبْعِ. ثُمَّ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَضْطَبِعُ فِي جَمِيعِ مَسَافَةِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَمِنْ أَوَّلِ السَّعْيِ إلَى آخِرِهِ. وَحَكَى الدَّارِمِيُّ وَجْهًا عَنْ ابْنِ الْقَطَّانِ أَنَّهُ إنَّمَا يَضْطَبِعُ فِي مَوْضِعِ سَعْيِهِ دُونَ مَوْضِعِ مَشْيِهِ. وَهَذَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: الِاضْطِبَاعُ مَسْنُونٌ لِلرَّجُلِ وَلَا يُ

شْرَعُ لِلْمَرْأَةِ بِلَا خِلَافٍ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَا يُشْرَعُ أَيْضًا لِلْخُنْثَى. وَفِي الصَّبِيِّ طَرِيقَانِ أَصَحُّهُمَا: وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: يُسَنُّ لَهُ فَيَفْعَلُهُ بِنَفْسِهِ، وَإِلَّا فَيَفْعَلُهُ بِهِ

 

ج / 8 ص -20-         وَلِيُّهُ كَسَائِرِ أَعْمَالِ الْحَجِّ والثاني: فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: هَذَا والثاني: لَا يُشْرَعُ لَهُ، قَالَهُ أَبُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا الطَّرِيقَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ" وَالدَّارِمِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالدَّارِمِيُّ: قَالَ أَبُو عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ: لَا يَضْطَبِعُ الصَّبِيُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجَلَدِ.
فرع: قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَصْحَابِ: وَلَوْ تَرَكَ الِاضْطِبَاعَ فِي بَعْضِ الطَّوَافِ أَتَى بِهِ فِيمَا بَقِيَ، وَلَوْ تَرَكَهُ فِي الطَّوَافِ أَتَى بِهِ فِي السَّعْيِ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُ الِاضْطِبَاعِ. وَقَالَ مَالِكٌ لَا يُشْرَعُ الِاضْطِبَاعُ لِزَوَالِ سَبَبِهِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا مُنْتَقِضٌ بِالرَّمَلِ بِمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَطُوفُ سَبْعًا؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ:
"خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ثُمَّ صَلَّى" فَإِنْ تَرَكَ بَعْضَ السَّبْعَةِ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "طَافَ سَبْعًا وَقَالَ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ".
الشرح: حَدِيثُ جَابِرٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ، قَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حَتَّى إذَا أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلَاثًا، وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ نَفَرَ إلَى مَقَامِ إبْرَاهِيمَ فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] وَثَبَتَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّفَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ:
"خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" فَرَوَاهُ جَابِرٌ قَالَ: "رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْمِي عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ وَيَقُولُ: لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" بِهَذَا اللَّفْظِ فِي أَبْوَابِ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي "سُنَنِهِ" فِي بَابِ الْإِسْرَاعِ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ، بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ لَعَلِّي لَا أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا حُكْمُ الْمَسْأَلَةِ فَشَرْطُ الطَّوَافِ أَنْ يَكُونَ سَبْعَ طَوْفَاتٍ، كُلُّ مَرَّةٍ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَلَوْ بَقِيَتْ خُطْوَةٌ مِنْ السَّبْعِ لَمْ يُحْسَبْ طَوَافُهُ، سَوَاءٌ كَانَ بَاقِيًا فِي مَكَّةَ أَوْ انْصَرَفَ عَنْهَا وَصَارَ فِي وَطَنِهِ، وَلَا يَنْجَبِرُ شَيْءٌ مِنْهُ بِالدَّمِ، وَلَا بِغَيْرِهِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَلَوْ شَكَّ فِي عَدَدِ الطَّوَافِ أَوْ السَّعْيِ لَزِمَهُ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ، وَلَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْأَكْثَرُ لَزِمَهُ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ الْمُتَيَقَّنِ كَمَا سَبَقَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَوْ أَخْبَرَهُ عَدْلٌ أَوْ عَدْلَانِ بِأَنَّهُ إنَّمَا طَافَ أَوْ سَعَى سِتًّا وَكَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ أَكْمَلَ السَّبْعَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَمَلُ بِقَوْلِهِمَا، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ. هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الشَّكُّ وَهُوَ فِي الطَّوَافِ، أَمَّا إذَا شَكَّ بَعْدَ فَرَاغِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجِيءَ فِيهِ الْقَوْلُ الضَّعِيفُ فِي نَظِيرِهِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ مُوَالَاةُ الطَّوْفَاتِ السَّبْعِ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَنَذْكُرُهُ مَبْسُوطًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَاخِرِ أَحْكَامِ الطَّوَافِ حَيْثُ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا لَا تُشْتَرَطُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الطَّوْفَاتِ السَّبْعِ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ، سَوَاءٌ قَلَّتْ الْبَقِيَّةُ أَمْ كَثُرَتْ،

 

ج / 8 ص -21-         وَسَوَاءٌ كَانَ بِمَكَّةَ أَمْ فِي وَطَنِهِ، وَلَا يُجْبَرُ بِالدَّمِ. هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَهَذَا مَذْهَبُ عَطَاءٍ وَمَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَابْنِ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ بِمَكَّةَ لَزِمَ الْإِتْمَامُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ. وَإِنْ كَانَ قَدْ انْصَرَفَ مِنْهَا وَقَدْ طَافَ ثَلَاثَ طَوْفَاتٍ لَزِمَهُ الرُّجُوعُ لِلْإِتْمَامِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ طَافَ أَرْبَعًا لَمْ يَلْزَمْهُ الْعَوْدُ بَلْ أَجْزَأَهُ طَوَافُهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ. دَلِيلُنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ الطَّوَافَ الْمَأْمُورَ بِهِ سَبْعًا، فَلَا يَجُوزُ النَّقْصُ مِنْهُ كَالصَّلَاةِ.

فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي الشَّاكِّ فِي الطَّوَافِ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي عَدَدِ طَوَافِهِ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ، قَالَ وَلَوْ اخْتَلَفَ الطَّائِفَانِ فِي عَدَدِ الطَّوَافِ، قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ: يَأْخُذُ بِقَوْلِ صَاحِبِهِ الَّذِي لَا يَشُكُّ. وَقَالَ مَالِكٌ: أَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِيهِ سَعَةٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَمَذْهَبُهُ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ إلَّا عِلْمُ نَفْسِهِ لَا يَقْبَلُ قَوْلَ غَيْرِهِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَبِهِ أَقُولُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَلَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَطُوفَ حَوْلَ جَمِيعِ الْبَيْتِ فَإِنْ طَافَ عَلَى جِدَارِ الْحَجَرِ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ الْحَجَرَ مِنْ الْبَيْتِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"الْحَجَرُ مِنْ الْبَيْتِ" وَإِنْ طَافَ عَلَى شَاذَرْوَانِ [الْكَعْبَةِ1] لَمْ يُجْزِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ الْبَيْتِ.
الشرح:
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "سَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْت فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَ: إنَّ قَوْمَك قَصُرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ. قُلْت: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: فَعَلَ ذَلِكَ قَوْمُك لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدِهِمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالْأَرْضِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، الْجَدْرُ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ هُوَ الْحِجْرُ وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "آهًا يَا عَائِشَةُ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْت بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأُدْخِلُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ وَجَعَلْت لَهُ بَابَيْنِ. بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلَغْت بِهِ أَسَاسَ إبْرَاهِيمَ".
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَوْلَا أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، أَوْ قَالَ بِكُفْرٍ، لَأَنْفَقْت كَنْزَ الْكَعْبَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَجَعَلْت بَابَهَا بِالْأَرْضِ وَلَأَدْخَلْت فِيهَا مِنْ الْحِجْرِ".
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا: "يَا عَائِشَةُ لَوْلَا أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدٍ بِشِرْكٍ لَنَقَضْت الْكَعْبَةَ فَأَلْزَقْتُهَا بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْت لَهَا بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا، وَرَدَدْت فِيهَا سِتَّةَ أَذْرُعٍ مِنْ الْحِجْرِ، فَإِنَّ قُرَيْشًا اقْتَصَرَتْهَا حِينَ بَنَتْ الْكَعْبَةَ" وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ خَمْسُ أَذْرُعٍ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ قَالَتْ عَائِشَةُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ قَوْمَك اسْتَقْصَرُوا مِنْ بُنْيَانِ الْبَيْتِ، وَلَوْلَا حَدَاثَةُ عَهْدِهِمْ بِالشِّرْكِ أَعَدْت مَا تَرَكُوا مِنْهُ، فَإِنْ بَدَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق (البيت) وفي نسخة ابن بطال الركبي ( الكعبة) (ط)

 

ج / 8 ص -22-         لِقَوْمِك مِنْ بَعْدِي أَنْ يَبْنُوهُ فَهَلُمِّي لِأُرِيَكِ مَا تَرَكُوا مِنْهُ، فَأَرَاهَا قَرِيبًا مِنْ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ"هَذِهِ رِوَايَاتُ الْحَدِيثِ فِي الْحِجْرِ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْحَاءِ وَإِسْكَانِ الْجِيمِ، وَهُوَ مُحَوَّطٌ مُدَوَّرٌ عَلَى نِصْفِ دَائِرَةٍ، وَهُوَ خَارِجٌ عَنْ جِدَارِ الْبَيْتِ فِي صَوْبِ الشَّامِ، تَرَكَتْهُ قُرَيْشٌ حِينَ بَنَتْ الْبَيْتَ فَأَخْرَجَتْهُ عَنْ بِنَاءِ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَبَقَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَحَوَّطَ عَلَيْهِ جِدَارٌ قَصِيرٌ، وَقَدْ وَصَفَهُ الْإِمَامُ أَبُو الْوَلِيدِ الْأَزْرَقِيُّ فِي "تَارِيخِ مَكَّةَ": فَأَحْسَنَ وَأَجَادَ، فَقَالَ هُوَ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الشَّامِيِّ وَالْغَرْبِيِّ، وَأَرْضُهُ مَفْرُوشَةٌ بِرُخَامٍ، وَهُوَ مُسْتَوٍ بِالشَّاذَرْوَانِ، قَالَ وَعَرْضُ الْحِجْرِ مِنْ جِدَارِ الْكَعْبَةِ الَّذِي تَحْتَ الْمِيزَابِ إلَى جِدَارِ الْحِجْرِ سَبْعَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا وَثَمَانِ أَصَابِعَ، وَلِلْحِجْرِ بَابَانِ مُلْتَصِقَانِ بِرُكْنَيْ الْكَعْبَةِ الشَّامِيَّيْنِ.
قَالَ الْأَزْرَقِيُّ: بَيْنَ هَذَيْنِ الْبَابَيْنِ عِشْرُونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا وَذَرْعُ جِدَارِهِ مِنْ دَاخِلِهِ فِي السَّمَاءِ ذِرَاعٌ وَأَرْبَعَ عَشْرَةَ أُصْبُعًا، وَذَرْعُ جِدَارِهِ الْغَرْبِيِّ فِي السَّمَاءِ ذِرَاعٌ وَعِشْرُونَ أُصْبُعًا، وَذَرْعُ جِدَارِ الْحِجْرِ مِنْ خَارِجِ، مَا يَلِي الرُّكْنَ الشَّامِّي ذِرَاعٌ وَسِتَّ عَشْرَةَ أُصْبُعًا، وَطُولُهُ مِنْ وَسَطِهِ فِي السَّمَاءِ ذِرَاعٌ وَثَلَاثُونَ أُصْبُعًا، وَعَرْضُ الْجِدَارِ ذِرَاعَانِ إلَّا أُصْبُعَيْنِ، وَذَرْعُ تَدْوِيرِ الْحِجْرِ مِنْ دَاخِلِهِ ثَمَانٍ وَثَلَاثُونَ ذِرَاعًا، وَذَرْعُ تَدْوِيرِهِ مِنْ خَارِجِهِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا وَسِتُّ أَصَابِعَ، وَذَرْعُ طَوْفَةٍ وَاحِدَةٍ حَوْلَ الْكَعْبَةِ وَالْحِجْرِ مِائَةُ ذِرَاعٍ وَثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا وَاثْنَتَا عَشْرَةَ أُصْبُعًا. هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْأَزْرَقِيِّ.
وَأَمَّا الشَّاذَرْوَانُ فَبِشِينٍ مُعْجَمَةٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ رَاءٍ سَاكِنَةٍ، وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي تَرَكُوهُ مِنْ عَرْضِ الْأَسَاسِ خَارِجًا عَنْ عَرْضِ الْجِدَارِ مُرْتَفِعًا عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ قَدْرَ ثُلُثَيْ ذِرَاعٍ. قَالَ الْأَزْرَقِيُّ: طُولُهُ فِي السَّمَاءِ سِتَّ عَشْرَةَ أُصْبُعًا وَعُشْرُ ذِرَاعٍ. قَالَ وَالذِّرَاعُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أُصْبُعًا. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَا الشَّاذَرْوَانُ جُزْءٌ مِنْ الْبَيْتِ، نَقَضَتْهُ قُرَيْشٌ مِنْ أَصْلِ الْجِدَارِ حِينَ بَنَوْا الْبَيْتَ. وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي جَوَانِبِ الْبَيْتِ لَكِنْ لَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَقَدْ أُحْدِثَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ عِنْدَهُ شَاذَرْوَانُ. هَذَا بَيَانُ حَقِيقَتَيْ الْحِجْرِ وَالشَّاذَرْوَانُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أما الأحكام: فَقَالَ أَصْحَابُنَا: يُشْتَرَطُ كَوْنُ الطَّائِفِ خَارِجًا عَنْ الشَّاذَرْوَانِ، فَإِنْ طَافَ مَاشِيًا عَلَيْهِ وَلَوْ فِي خُطْوَةٍ لَمْ تَصِحَّ طَوْفَتُهُ تِلْكَ؛ لِأَنَّهُ طَافَ فِي الْبَيْتِ لَا بِالْبَيْتِ. وَلَوْ طَافَ خَارِجَ الشَّاذَرْوَانُ، وَكَانَ يَضَعُ إحْدَى رِجْلَيْهِ أَحْيَانًا عَلَى الشَّاذَرْوَانِ وَيَثِبُ بِالْأُخْرَى لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ بِالِاتِّفَاقِ، وَلَوْ طَافَ خَارِجَ الشَّاذَرْوَانِ وَكَانَ يَمَسُّ الْجِدَارَ بِيَدِهِ فِي مُوَازَاةِ الشَّاذَرْوَانِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْبَيْتِ فَفِي صِحَّةِ طَوَافِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ أَصَحُّهُمَا: لَا يَصِحُّ، صَحَّحَهُ الْإِمَامُ وَالْأَصْحَابُ وَقَطَعَ بِهِ الْأَكْثَرُونَ، وَنَقَلَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ. وَقَالَ الرَّافِعِيُّ الصَّحِيحُ: بِاتِّفَاقِ فِرَقِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ طَافَ وَبَعْضُهُ فِي الْبَيْتِ والثاني: يَصِحُّ، وَاسْتَبْعَدَهُ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِجُمْلَةِ الْبَدَنِ وَلَا نَظَرَ إلَى عُضْوٍ مِنْهُ، وَلِأَنَّهُ يُسَمَّى طَائِفًا بِالْبَيْتِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَفَطَّنَ لِدَقِيقَةٍ، وَهِيَ أَنَّ مَنْ قَبَّلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فَرَأْسُهُ فِي حَالِ التَّقْبِيلِ فِي جُزْءٍ مِنْ الْبَيْتِ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُقِرَّ قَدَمَيْهِ فِي مَوْضِعِهِمَا حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ التَّقْبِيلِ وَيَعْتَدِلَ قَائِمًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ زَلَّتْ قَدَمَاهُ عَنْ مَوْضِعِهِمَا إلَى جِهَةِ الْبَابِ قَلِيلًا وَلَوْ قَدْرَ شِبْرٍ أَوْ أَقَلَّ، ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنْ التَّقْبِيلِ اعْتَدَلَ عَلَيْهِمَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي زَلَّتَا إلَيْهِ وَمَضَى مِنْ هُنَاكَ فِي طَوَافِهِ لَكَانَ قَدْ قَطَعَ جُزْءًا مِنْ مَطَافِهِ وَيَدُهُ فِي هَوَاءِ

 

ج / 8 ص -23-         الشَّاذَرْوَانِ فَتَبْطُلُ طَوْفَتُهُ تِلْكَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَمَتَى فَعَلَ فِي مُرُورِهِ مَا يَقْتَضِي بُطْلَانَ طَوْفَتِهِ فَإِنَّمَا يَبْطُلُ مَا يَأْتِي بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ تِلْكَ الطَّوْفَةِ لَا مَا مَضَى، فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَيَطُوفَ خَارِجًا عَنْ الْبَيْتِ وَتُحْسَبُ طَوْفَتُهُ حِينَئِذٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطُوفَ خَارِجَ الْحِجْرِ. وَهَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي كُتُبِهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْمُخْتَصَرِ": وَإِنْ طَافَ فَسَلَكَ الْحَجَرَ أَوْ عَلَى جِدَارِ الْحَجَرِ أَوْ عَلَى شَاذَرْوَانِ الْكَعْبَةِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ. هَذَا نَصُّهُ. وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ أَحَدَ بَابَيْ الْحِجْرِ وَخَرَجَ مِنْ الْآخَرِ لَمْ يُحْسَبْ لَهُ ذَلِكَ وَلَا مَا بَعْدَهُ حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْبَابِ الَّذِي دَخَلَ مِنْهُ فِي طَوْفَتِهِ الْأُخْرَى. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي حُكْمِ الْحِجْرِ عَلَى وَجْهَيْنِ أحدهما: أَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ الْبَيْتِ فَيُشْتَرَطُ الطَّوَافُ خَارِجَهُ كُلَّهُ والثاني: أَنَّ بَعْضَهُ مِنْ الْبَيْتِ وَمَا زَادَ لَيْسَ مِنْ الْبَيْتِ. وَفِي هَذَا الْبَعْضِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ أحدها: وَهُوَ الْأَشْهَرُ عِنْدَ الْمُفَرِّعِينَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ سِتُّ أَذْرُعٍ، وَبِهَذَا قَطَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ والثاني: سَبْعُ أَذْرُعٍ، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَالثَّالِثُ: سِتُّ أَذْرُعٍ أَوْ سَبْعٌ1، وَبِهِ جَزَمَ الْمُتَوَلِّي وَحَكَاهُ غَيْرُهُ.

ــــــــــــــــــــــــ
1 قال في "الفتح": كتب الحجاج إلى عبد الملك: (إنا ابن الزبير قد وضعه على أسس نطر العدول من أهل مكة إليه) فكتب إليه عبد الملك (أنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاد في طوله فأقره وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه، وسد بابه الذي فتحه). فنقضه وأعاده إلى بنائه وقال أبو أويس: إن عبد الملك ندم على أذنه للحجاج في هدمها ولعن الحجاج وقال: وددنا أنا أبا خبيب – كنية ابن الزبير – وما تولى من ذلك. ومن طريق أبي قزعة قال: (بينما عبد الملك يطوف بالبيت إذ قال: قاتل الله ابن الزبير حيث يكذب على أم المؤمنين – فذكر الحديث. فقال له الحارث: لا تقل هذا يا أمير المؤمنين فأنا سمعت أم المؤمنين تحدث بهذا فقال: (لو كنت سمعته قبل أن أهدمه لتركته على بناء ابن الزبير).
قلت: والخلاصة من هذا: إن قريشا ًقصروا عن بناء إبراهيم وأن ابن الزبير أعاده على بناء إبراهيم وأن الحجاج أعاده على بناء قريش، ولما تأت رواية صريحة قط أن جميع الحجر من بناء إبراهيم في البيت.
قال المحب الطبري في "شرح التنبيه" له: والأصح أن القدر الذي في الحجر من البيت قدر سبع أذرع، والرواية التي جاء فيها: أن الحجر من البيت مطلقة فيحمل المطلق على المقيد، فإن إطلاق اسم الكل على البعض سائغ مجازاً، وإنما قال النووي ذلك نصرة لما رجحه من أن جميع الحجر من البيت، وهذا متعقب فإن إيجاب الطواف من ورائه أن يكون كله من البيت، فقد نص الشافعي أيضاً كما ذكره البيهقي في "المعرفة" أن الذي في الحجر من البيت نحو ستة أذرع. فعلى هذا فلعله رأى إيجاب الطواف من وراء الحجر احتياطاً، وأما العمل فلا حجة فيه على الإيجاب، فلعل النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده فلوه استحباباً للراحة من تسور الحجر لا سيما والرجال والنساء يطوفون جميعاً فلا يؤمن من المرأة التكشف، نعم في الكم بفساد طواف من دخل الحجر وخلى بينه وبين البيت سبعة أذرع نظر، وقد قال بصحته جماعة من أصحابنا كإمام الحرمين ومن المالكية كأبي الحسن اللخمي. وذكر الأرزق أن غرض ما بين الميزاب ومنتهى الحجر سبعة عشر ذراعاً وثلث ذراع منها عرض جدار الحجر ذراعان وثلث، وفي بطن الحجر خمسة عشر ذراعاً، فعلى هذا فنصف الحجر ليس من البيت فلا يفسد طواف من طاف دونه والله أعلم.
وأما قول المهلب: إن الفضاء لا يسمى بيتاً وإنما البيت البنيان، لأن شخصاً لو حلفت لا يدخل بيناً فانهدم ذلك البيت فلا يحنث بدخوله فليس بواضح، فإن المشروع من الطواف ما شرع من الطواف ما شرع للخليل بالاتفاق. فعلينا أن =

 

ج / 8 ص -24-         قَالَ الرَّافِعِيُّ: مُقْتَضَى كَلَامِ كَثِيرِينَ مِنْ الْأَصْحَابِ أَنَّ الْحِجْرَ كُلَّهُ مِنْ الْبَيْتِ. قَالَ: وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّهِ فِي "الْمُخْتَصَرِ"، قَالَ لَكِنْ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الَّذِي مِنْ الْبَيْتِ قَدْرُ سِتِّ أَذْرُعٍ يَتَّصِلُ بِالْبَيْتِ وَقِيلَ: سِتٌّ أَوْ سَبْعٌ. قَالَ: وَنَصُّ "الْمُخْتَصَرِ" مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا. قَالَ فَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ مِنْ بَابِ الْحِجْرِ بَلْ اقْتَحَمَ جِدَارَهُ وَخَلَفَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ الْقَدْرَ الَّذِي هُوَ مِنْ الْبَيْتِ وَقَطَعَ مَسَافَةَ الْحِجْرِ عَلَى السَّمْتِ صَحَّ طَوَافُهُ هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ.
وَهَذَا الَّذِي صَحَّحَهُ الرَّافِعِيُّ، جَزَمَ بِهِ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ الْمُتَوَلِّي وَجَمَاهِيرُ الْخُرَاسَانِيِّينَ وَصَاحِبُ "الْبَيَانِ"، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ "الْبَيَانِ" عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ، وَلَيْسَ هُوَ فِي تَعْلِيقِ أَبِي حَامِدٍ هَكَذَا، بَلْ الَّذِي فِي "تَعْلِيقِهِ" أَنَّهُ لَوْ طَافَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحِجْرِ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي "تَعْلِيقِهِ" غَيْرَهُ، فَحَصَلَ خِلَافٌ فِي أَنَّهُ هَلْ يُشْتَرَطُ الطَّوَافُ خَارِجَ الْحِجْرِ أَمْ يَجُوزُ دَاخِلَهُ فَوْقَ الْأَذْرُعِ الْمَذْكُورَةِ؟ وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَطَعَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَأَكْثَرُ الْأَصْحَابِ، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ فِي "الْمُخْتَصَرِ" اشْتِرَاطُ الطَّوَافِ خَارِجَ جَمِيعِ الْحِجْرِ وَخَارِجَ جِدَارِهِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي النَّصِّ الَّذِي قَدَّمْتُهُ

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= نطوف حيث طاف، ولا يسقط ذلك بانهدام حرم البيت، لأن العبادات لا يسقط المقدور عليه منها بفوات المعجوز عنه.
تتميم للفائدة
ترميمات الكعبة بعد ما فعله الحجاج.
سنة هجرية عن ابن جرير أن أول من فرشها بالرخام الوليد بن عبد الملك
270 وقع ترميم في جدارها الشامي.
540 وقع ترميم في جدارها الشامي.
619 وقع ترميم في جدارها الشامي.
680 وقع رميم في جدارها الشامي.
814 وقع ترميم في جدارها الشامي.
822 اهتم الملك المؤيد ودعا الحافظ ابن حجر له أن يسهل الله له ذلك أي بأمر الميزاب قال: وقد حججت في سنة 824 وتأملت المكان الذي قيل عنه فلم أجده في تلك الشفاعة.
825 رمم ما تشعث من الحرم في أثناء هذه السنة.
827 نقض سقفها على يدي بعض الجند فجدد لها سقفها ورخم السطح.
843 صار المطر إذا نزل ينزل إلى داخل الكعبة أشد مما كان أولاً فأداه رأيه الفاسد إلى نقض السقف (بعض الجند) مرة أخرى وسد ما كان في السطح من الطاقات التي كان يدخل منها الضوء إلى الكعبة ولزم من ذلك امتهان الكعبة، بل كان العمال يصعدون فيها بغير أدب فغار بعض المجاورين فكتب إلى القاهرة يشكو فبلغ السلطان الظاهر فأنكر أن يكون أمر بذلك وجهز بعض الجند للكشف عن ذلك فتعصب للأول بعض من جاور وأجتمع الباقون رغبة ورهبة وكتبوا محضراً بأنه ما فعل شيئاً إلا عن ملا منهم وأن كل ما فعله مصلحة فسكن غضب السلطان وغطى عنه الأمر.
عن ابن عباس بن أبي ربيعة المخزومي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
(إن هذه الأمة لا تزال بخير ما عظموا هذه الحرمة - يعني الكعبة - حق تعظيمها فإذا ضيعوا ذلك هلكوا) أخرجه أحمد وابن ماجه وعمر بن شبة.

 

ج / 8 ص -25-         عَنْ "الْمُخْتَصَرِ"، وَدَلِيلُهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَافَ خَارِجَ الْحِجْرِ. وَهَكَذَا الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الطَّوَافِ خَارِجَ الْحِجْرِ، سَوَاءٌ كَانَ كُلُّهُ مِنْ الْبَيْتِ أَمْ بَعْضُهُ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ مِنْ الْبَيْتِ، فَالْمُعْتَمَدُ فِي بَابِ الْحَجِّ الِاقْتِدَاءُ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَوَجَبَ الطَّوَافُ بِجَمِيعِهِ. وَفِي "صَحِيحِهِ" فِي كِتَابِ أَيَّامِ الْجَاهِلِيَّةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْمَعُوا مِنِّي مَا أَقُولُ لَكُمْ، وَأَسْمِعُونِي مَا تَقُولُونَ، وَلَا تَذْهَبُوا فَتَقُولُوا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ فَلْيَطُفْ مِنْ وَرَاءِ الْحِجْرِ".
أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَمْرِو بْنِ الصَّلَاحِ: الرِّوَايَاتُ قَدْ اضْطَرَبَتْ فِيهِ فَرُوِيَ الْحِجْرُ مِنْ الْبَيْتِ. وَرُوِيَ سِتُّ أَذْرُعٍ. وَرُوِيَ سِتٌّ أَوْ نَحْوُهَا وَرُوِيَ خَمْسُ أَذْرُعٍ، وَرُوِيَ قَرِيبًا مِنْ سَبْعِ أَذْرُعٍ. قَالَ: وَإِذَا اضْطَرَبَتْ تَعَيَّنَ الْأَخْذُ بِأَكْثَرِهَا لِيَسْقُطَ الْفَرْضُ بِيَقِينٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِمَّنْ قَطَعَ بِمَا ذَكَرَتْهُ مِنْ اشْتِرَاطِ الطَّوَافِ خَارِجَ الْحِجْرِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالدَّارِمِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ الْمَحَامِلِيُّ وَصَاحِبُ "الشَّامِلِ" وَالْمُصَنِّفُ وَآخَرُونَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَوْ طَافَ عَلَى شَاذَرْوَانِ الْكَعْبَةِ أَوْ سَلَكَ فِي الْحِجْرِ أَوْ عَلَى جِدَارِ الْحِجْرِ لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد، كَذَا حَكَاهُ الْعَبْدَرِيُّ عَنْهُمْ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ. كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: "الْحِجْرُ مِنْ الْبَيْتِ" قَالَ وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ سَلَكَ الْحِجْرَ فِي طَوَافِهِ، فَقَالَ عَطَاءٌ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا يَصِحُّ مَا أَتَى بِهِ فِي الْحِجْرِ فَيُعِيدُ ذَلِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يُعِيدُ طَوَافَهُ كُلَّهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَحَلَّلَ لَزِمَهُ دَمٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ بِمَكَّةَ لَزِمَهُ قَضَاءُ الْمَتْرُوكِ فَقَطْ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ لَزِمَهُ دَمٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: بِقَوْلِ عَطَاءٍ أَقُولُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَطُوفَ رَاجِلًا لِأَنَّهُ إذَا طَافَ رَاكِبًا زَاحَمَ النَّاسَ وَآذَاهُمْ، وَإِنْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ يَشُقُّ مَعَهُ الطَّوَافُ رَاجِلًا لَمْ يُكْرَهْ الطَّوَافُ رَاكِبًا، لِمَا رَوَتْ أُمُّ سَلَمَةَ
"رضي الله عنها" أَنَّهَا قَدِمَتْ مَرِيضَةً، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "طُوفِي وَرَاءَ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ" وَإِنْ كَانَ رَاكِبًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ جَازَ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَافَ رَاكِبًا لِيَرَاهُ النَّاسُ وَيَسْأَلُوهُ.
الشرح: حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَثَبَتَ طَوَافُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَثَبَتَ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِ هَؤُلَاءِ. وَلَفْظُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِي حَدِيثٍ: "طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنِهِ لَأَنْ يَرَاهُ النَّاسُ، وَلِيُشْرِفَ فَيَسْأَلُوهُ، فَإِنَّ النَّاسَ غَشُّوهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حَوْلَ الْكَعْبَةِ عَلَى بَعِيرٍ، يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ كَرَاهَةَ أَنْ يُضْرِبَ عَنْهُ النَّاسُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
أما الأحكام: فَقَالَ أَصْحَابُنَا: الْأَفْضَلُ أَنْ يَطُوفَ مَاشِيًا وَلَا يَرْكَبَ إلَّا لِعُذْرِ مَرَضٍ أَوْ نَحْوِهِ، أَوْ كَانَ مِمَّنْ يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى ظُهُورِهِ لِيُسْتَفْتَى وَيُقْتَدَى بِفِعْلِهِ. فَإِنْ طَافَ رَاكِبًا بِلَا عُذْرٍ جَازَ بِلَا كَرَاهَةٍ

 

ج / 8 ص -26-         لَكِنَّهُ خَالَفَ الْأَوْلَى. كَذَا قَالَهُ جُمْهُورُ أَصْحَابِنَا، وَكَذَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْأَصْحَابِ.
وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: فِي الْقَلْبِ مِنْ إدْخَالِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي لَا يُؤْمَنُ تَلْوِيثُهَا الْمَسْجِدَ شَيْءٌ، فَإِنْ أَمْكَنَ الِاسْتِيثَاقُ فَذَلِكَ، وَإِلَّا فَإِدْخَالُهَا الْمَسْجِدَ مَكْرُوهٌ. هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ، وَجَزَمَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا بِكَرَاهَةِ الطَّوَافِ رَاكِبًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، مِنْهُمْ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي "الْحَاوِي" وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْعَبْدَرِيُّ وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَغَيْرُهُ: وَالْمَرْأَةُ وَالرَّجُلُ فِي الرُّكُوبِ سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَحُكْمُ طَوَافِ الْمَحْمُولِ عَلَى أَكْتَافِ الرِّجَالِ كَالرَّاكِبِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ، قَالَ: وَإِذَا كَانَ مَعْذُورًا فَطَوَافُهُ مَحْمُولًا أَوْلَى مِنْهُ رَاكِبًا صِيَانَةً لِلْمَسْجِدِ مِنْ الدَّابَّةِ، قَالَ وَرُكُوبُ الْإِبِلِ أَيْسَرُ مِنْ رُكُوبِ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا مَذْهَبَنَا فِي طَوَافِ الرَّاكِبِ، وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ طَوَافَ الْمَاشِي أَوْلَى مِنْ طَوَافِ الرَّاكِبِ، فَلَوْ طَافَ رَاكِبًا لِعُذْرٍ أَوْ غَيْرِهِ صَحَّ طَوَافُهُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا فِي الْحَالَيْنِ. وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ. وَبِهِ قَالَ دَاوُد وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: إنْ طَافَ رَاكِبًا لِعُذْرٍ أَجْزَأَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنْ طَافَ رَاكِبًا لِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَإِنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَعَادَ الطَّوَافَ وَاحْتَجَّا بِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ فَلَا يُجْزِئُ فِعْلُهَا عَلَى الرَّاحِلَةِ كَالصَّلَاةِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِالْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، قَالُوا: إنَّمَا: "طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَاكِبًا لِشَكْوَى عَرَضَتْ لَهُ". كَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي "سُنَنِهِ" بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الثَّابِتَةَ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ وَعَائِشَةَ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ طَوَافَهُ صلى الله عليه وسلم رَاكِبًا لَمْ يَكُنْ لِمَرَضٍ، بَلْ كَانَ لِيَرَاهُ النَّاسُ وَيَسْأَلُوهُ وَلَا يُزَاحِمُوا عَلَيْهِ كَمَا سَبَقَ ذِكْرُهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا فَضَعِيفٌ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ. قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَفَرَّدَ بِهَا يَزِيدُ هَذَا أَمَّا قِيَاسُهُمْ عَلَى الصَّلَاةِ فَفَاسِدٌ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ رَاكِبًا إذَا كَانَتْ فَرِيضَةً، وَقَدْ سَلَّمُوا صِحَّةَ الطَّوَافِ، وَلَكِنْ ادَّعَوْا وُجُوبَ الدَّمِ، وَلَا دَلِيلَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ طَافَ زَحْفًا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْمَشْيِ فَطَوَافُهُ صَحِيحٌ لَكِنْ يُكْرَهُ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِصِحَّتِهِ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ فِي أَثْنَاءِ دَلَائِلِ مَسْأَلَةِ طَوَافِ الرَّاكِبِ فَقَالَ: طَوَافُهُ زَحْفًا كَطَوَافِهِ مَاشِيًا مُنْتَصِبًا، لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ حَمَلَ مُحْرِمٌ مُحْرِمًا وَطَافَ بِهِ وَنَوَيَا لَمْ يُجْزِ عَنْهُمَا جَمِيعًا لِأَنَّهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ طَوَافَانِ، وَلِمَنْ يَكُونُ الطَّوَافُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: لِلْمَحْمُولِ؛ لِأَنَّ الْحَامِلَ كَالرَّاحِلَةِ والثاني: أَنَّهُ لِلْحَامِلِ لِأَنَّ الْمَحْمُولَ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلٌ وَإِنَّمَا الْفِعْلُ لِلْحَامِلِ فَكَانَ الطَّوَافُ لَهُ.
الشرح:
هَذَانِ الْقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي كُتُبِ الْعِرَاقِيِّينَ وَذَكَرَهُمَا بَعْضُ الْخُرَاسَانِيِّينَ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ "التَّعْلِيقِ": نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي "الْإِمْلَاءِ" أَنَّ الطَّوَافَ لِلْحَامِلِ، وَنَصَّ فِي "مُخْتَصَرِ الْحَجِّ" أَنَّهُ لِلْمَحْمُولِ وَالْأَصَحُّ: أَنَّهُ لِلْحَامِلِ مِمَّنْ صَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابَيْهِ وَصَاحِبُ

 

ج / 8 ص -27-         "الشَّامِلِ" وَالْجُرْجَانِيُّ فِي "التَّجْرِيدِ" وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ وَالْعَبْدَرِيُّ وَآخَرُونَ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ يَقَعُ الطَّوَافُ عَنْهُمَا، هَكَذَا حَكَاهُ صَاحِبُ "الْعُدَّةِ" وَغَيْرُهُ قَوْلًا، وَحَكَاهُ الْمُتَوَلِّي1 .
وَغَيْرُهُمَا وَجْهًا، قَالَ صَاحِبُ "الْعُدَّةِ": رَأَيْت لِلشَّافِعِيِّ قَوْلًا أَنَّهُ يَقَعُ الطَّوَافُ عَنْهُمَا قَالَ: رَأَيْت فِي "مُخْتَصَرٍ" لِبَعْضِ أَصْحَابِ الْمُزَنِيِّ سَمَّاهُ "كِتَابَ الْمُسَافِرِ"، وَهَذَا الْقَوْلُ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَاحْتَجُّوا لَهُ بِأَنَّهُ وُجِدَ الطَّوَافُ مِنْهُمَا مَعَ نِيَّتِهِمَا فَوَقَعَ عَنْ كُلٍّ مِنْهُمَا كَمَا لَوْ وَقَفَا بِعَرَفَاتٍ كَذَلِكَ.
وَأَجَابَ الْأَصْحَابُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْوُقُوفَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ فِعْلٌ، إنَّمَا يُشْتَرَطُ السُّكُونُ فِيهَا، فَأَجْزَأَهُمَا بِخِلَافِ الطَّوَافِ، فَحَصَلَ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَصَحُّهَا: وُقُوعُ الطَّوَافِ عَنْ الْحَامِلِ فَقَطْ والثاني: عَنْ الْمَحْمُولِ فَقَطْ وَالثَّالِثُ: عَنْهُمَا، هَذَا كُلُّهُ إذَا نَوَى الْحَامِلُ وَالْمَحْمُولُ الطَّوَافَ، فَأَمَّا إذَا نَوَى الْمَحْمُولُ دُونَ الْحَامِلِ وَلَمْ يَكُنْ الْحَامِلُ مُحْرِمًا فَيَقَعُ عَنْ الْمَحْمُولِ بِلَا خِلَافٍ، وَسَلَكَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ طَرِيقَةً أُخْرَى اخْتَصَرَهَا الرَّافِعِيُّ وَجَمَعَ مُتَفَرِّقَهَا فَقَالَ: لَوْ حَمَلَ رَجُلٌ مُحْرِمًا مِنْ صَبِيٍّ أَوْ مَرِيضٍ أَوْ غَيْرِهِمَا وَطَافَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ الْحَامِلُ حَلَالًا أَوْ مُحْرِمًا قَدْ طَافَ عَنْ نَفْسِهِ حُسِبَ الطَّوَافُ لِلْمَحْمُولِ بِشَرْطِهِ، وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا وَلَمْ يَطُفْ عَنْ نَفْسِهِ نُظِرَ إنْ قَصْدَ الطَّوَافَ عَنْ الْمَحْمُولِ فَثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ:
أحدها: يَقَعُ لِلْمَحْمُولِ فَقَطْ تَخْرِيجًا عَلَى قَوْلِنَا: يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يُصْرَفَ إلَى غَرَضٍ آخَرَ، وَهُوَ الْأَصَحُّ.
والثاني: يَقَعُ عَنْ الْحَامِلِ فَقَطْ تَخْرِيجًا عَلَى قَوْلِنَا: لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، فَإِنَّ الطَّوَافَ حِينَئِذٍ يَكُونُ مَحْسُوبًا لَهُ فَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا حَمَلَ مُحْرِمَيْنِ وَطَافَ بِهِمَا وَهُوَ حَلَالٌ أَوْ مُحْرِمٌ قَدْ طَافَ عَنْ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُمَا جَمِيعًا لِأَنَّ الطَّوَاف غَيْرُ مَحْسُوبٍ لِلْحَامِلِ، فَيَكُونُ الْمَحْمُولَانِ كَرَاكِبَيْ دَابَّةٍ.
وَالثَّالِثُ: يَقَعُ عَنْهُمَا جَمِيعًا.
وَإِنْ قَصَدَ الطَّوَافَ عَنْ نَفْسِهِ وَقَعَ عَنْهُ، وَلَا يُحْسَبُ عَنْ الْمَحْمُولِ. قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَنَقَلَ اتِّفَاقَ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ، قَالَ وَكَذَا لَوْ قَصَدَ الطَّوَافَ لِنَفْسِهِ وَلِلْمَحْمُولِ، وَحَكَى الْبَغَوِيّ وَجْهَيْنِ فِي حُصُولِهِ لِلْحَمْلِ مَعَ الْحَامِلِ. وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا مِنْ الْأَقْسَامِ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَصَدَ نَفْسَهُ أَوْ كِلَيْهِمَا، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ فِي الصَّبِيِّ الْمَحْمُولُ حَمَلَهُ وَلِيُّهُ الَّذِي أَحْرَمَ عَنْهُ أَوْ غَيْرِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَبْتَدِئُ الطَّوَافَ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:
"اسْتَقْبَلَهُ وَوَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ"فَإِنْ لَمْ يَسْتَقْبِلْهُ جَازَ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْبَيْتِ، فَلَا يَجِبُ اسْتِقْبَالُهُ كَسَائِرِ أَجْزَاءِ الْبَيْتِ، وَيُحَاذِيهِ بِبَدَنِهِ لَا يُجْزِئُهُ غَيْرُهُ، وَهَلْ تُجْزِئُهُ الْمُحَاذَاةُ بِبَعْضِ الْبَدَنِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: قَالَ فِي "الْقَدِيمِ": تُجْزِئُهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل فحرر ولعله القاضي حسين فقد عده في "تعليقته" وقول المتولي في "تتمة الإبانة" يطابق قول القاضي حسين وكلاهما من أصحابنا الخراسانيين (ط).

 

ج / 8 ص -28-         مُحَاذَاتُهُ بِبَعْضِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ مُحَاذَاةُ بَعْضِ الْحَجَرِ جَازَتْ مُحَاذَاتُهُ بِبَعْضِ الْبَدَنِ. وَقَالَ فِي "الْجَدِيدِ": يَجِبُ أَنْ يُحَاذِيَهُ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ فِيهِ مُحَاذَاةُ الْبَيْتِ وَجَبَتْ مُحَاذَاتُهُ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ كَالِاسْتِقْبَالِ فِي الصَّلَاةِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: "رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ" وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَفْتِحَ الِاسْتِلَامَ بِالتَّكْبِيرِ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ يَطُوفُ عَلَى رَاحِلَتِهِ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ وَكَبَّرَ وَقَبَّلَهُ" وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَبِّلَهُ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ: "أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَبَّلَ الْحَجَرَ ثُمَّ قَالَ: "وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمْت أَنَّك حَجَرٌ وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُك مَا قَبَّلْتُك" فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَنْ يَسْتَلِمَ أَوْ يُقَبِّلَ مِنْ الزِّحَامِ أَشَارَ إلَيْهِ بِيَدِهِ، لِمَا رَوَى أَبُو مَالِكٍ سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَطُوفُ حَوْلَ الْبَيْتِ فَإِذَا ازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى الطَّوَافِ اسْتَلَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِحْجَنٍ فِي يَدِهِ" وَلَا يُشِيرُ إلَى الْقِبْلَةِ بِالْفَمِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الِاسْتِلَامِ وَابْتِدَاءِ الطَّوَافِ: بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ إيمَانًا بِك، وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِك، وَوَفَاءً بِعَهْدِك وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّك صلى الله عليه وسلم لِمَا رَوَى جَابِرٌ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ وَكَبَّرَ ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ وَفَاءً بِعَهْدِك وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِك" وَعَنْ عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ "اللَّهُمَّ إيمَانًا بِك. وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِك وَوَفَاءً بِعَهْدِك، وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّك مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم" وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما مِثْلُهُ. ثُمَّ يَطُوفُ فَيَجْعَلُ الْبَيْتَ عَلَى يَسَارِهِ وَيَطُوفُ عَلَى يَمِينِهِ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَخَذَ فِي الطَّوَافِ أَخَذَ عَنْ يَمِينِهِ" فَإِنْ طَافَ عَنْ يَسَارِهِ لَمْ يُجْزِهِ، لِأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم "طَافَ عَلَى يَمِينِهِ وَقَالَ: خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" وَلِأَنَّهُ عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ فَاسْتُحِقَّ فِيهَا التَّرْتِيبُ كَالصَّلَاةِ.
الشرح:
أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ، أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلَاثَةَ أَطَوَافً مِنْ السَّبْعِ"، فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ اسْتِلَامَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْحَجَرَ فِي طَوَافِهِ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مَعَ ابْنِ عُمَرَ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ"، وَلَفْظُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إلَيْهِ بِشَيْءٍ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ".
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَبَّلَ الْحَجَرَ وَقَالَ: لَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَك مَا قَبَّلْتُك" فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَهَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "قَبَّلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الْحَجَرَ ثُمَّ قَالَ: أَمَا وَاَللَّهِ لَقَدْ عَلِمْت أَنَّك حَجَرٌ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُك مَا قَبَّلْتُك" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَرْجِسَ الصَّحَابِيِّ قَالَ: "رَأَيْت الْأَصْلَعَ يَعْنِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه يُقَبِّلُ الْحَجَرَ وَيَقُولُ: "وَاَللَّهِ إنِّي لَأُقَبِّلُك وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ وَأَنَّك لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبَّلَك مَا قَبَّلْتُك".
وَفِي رِوَايَةِ لِلْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ عَنْ عَابِسٍ - بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ - ابْنِ رَبِيعَةَ التَّابِعِيِّ قَالَ: "رَأَيْت عُمَرَ يُقَبِّلُ الْحَجَرَ وَيَقُولُ: إنِّي لَأُقَبِّلُك وَإِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُك لَمْ أُقَبِّلْك" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ - بِفَتْحِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ - قَالَ: "رَأَيْت عُمَرَ قَبَّلَ

 

ج / 8 ص -29-         الْحَجَرَ وَالْتَزَمَهُ وَقَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِك حَفِيًّا" وَإِنَّمَا قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: إنَّك حَجَرٌ وَإِنَّك لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ لِيَسْمَعَ النَّاسُ هَذَا الْكَلَامَ وَيَشِيعَ بَيْنَهُمْ، وَقَدْ كَانَ عَهْدُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ قَرِيبًا بِعِبَادَةِ الْأَحْجَارِ وَتَعْظِيمِهَا وَاعْتِقَادِ ضُرِّهَا وَنَفْعِهَا، فَخَافَ أَنْ يَغْتَرَّ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ فَقَالَ مَا قَالَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ عَنْ أَبِيهِ فَغَرِيبٌ1 فَيُغْنِي فِي الدَّلَالَةِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي سَبَقَ الْآنَ مِنْ رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَتَى الْحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ مَشَى عَلَى يَمِينِهِ، فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا" فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَأَمَّا حَدِيثُ: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا فِي مَسْأَلَةِ الطَّوَافِ سَبْعًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِنْ رِوَايَةِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ، وَكَانَ كَذَّابًا. وَأَمَّا اسْتِحْبَابُ: بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ فَاسْتَدَلَّ لَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالْبَيْهَقِيُّ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: "كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَدْخُلُ مَكَّةَ ضُحًى فَيَأْتِي الْبَيْتَ فَيَسْتَلِمُ الْحَجَرَ وَيَقُولُ: بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ" وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. (وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْفَصْلِ) فَفِيهِ الِاسْتِلَامُ، بِكَسْرِ التَّاءِ، قَالَ الْهَرَوِيُّ: قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: هُوَ افْتِعَالٌ مِنْ السَّلَامِ وَهُوَ التَّحِيَّةُ، كَمَا يُقَالُ: اقْتَرَأْتُ السَّلَامَ، قَالَ: وَلِذَلِكَ يُسَمِّي أَهْلُ الْيُمْنِ الرُّكْنَ الْأَسْوَدَ، الْمُحَيَّا: مَعْنَاهُ أَنَّ النَّاسَ يُحْيُونَهُ. قَالَ الْهَرَوِيُّ: وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هُوَ افْتِعَالٌ مِنْ السِّلَامِ - بِكَسْرِ السِّينِ - وَهِيَ الْحِجَارَةُ وَاحِدَتُهَا سَلِمَةٌ بِكَسْرِ اللَّامِ. تَقُولُ اسْتَلَمْت الْحَجَرَ إذَا لَمَسْته كَمَا تَقُولُ: اكْتَحَلْت مِنْ الْكُحْلِ، هَذَا كَلَامُ الْهَرَوِيِّ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: اسْتَلَمَ الْحَجَرَ بِالْقُبْلَةِ أَوْ بِالْيَدِ، قَالَ وَلَا يُهْمَزُ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ السِّلَامِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ، قَالَ: وَهَمَزَهُ بَعْضُهُمْ. وَقَالَ صَاحِبُ "الْمُحْكَمِ": اسْتَلَمَ الْحَجَرَ وَاسْتِلَامُهُ بِالْهَمْزِ أَيْ قَبَّلَهُ أَوْ اعْتَنَقَهُ قَالَ: وَلَيْسَ أَصْلُهُ الْهَمْزُ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْغَزَالِيِّ فِي "الْوَسِيطِ": الِاسْتِلَامُ هُوَ أَنْ يُقَبِّلَ الْحَجَرَ فِي أَوَّلِ الطَّوَافِ وَفِي آخِرِهِ، بَلْ فِي كُلِّ نَوْبَةٍ، فَإِنْ عَجَزَ بِالزَّحْمَةِ مَسَّهُ بِالْيَدِ، فَقَدْ أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ، وَغَلَّطُوهُ فِي تَفْسِيرِهِ الِاسْتِلَامَ بِالتَّقْبِيلِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِلَامَ هُوَ اللَّمْسُ بِالْيَدِ وَالتَّقْبِيلُ سُنَّةٌ أُخْرَى مُسْتَحَبَّةٌ، وَقَدْ يُتَأَوَّلُ كَلَامُ الْغَزَالِيِّ وَيَسْتَمِرُّ تَصْحِيحُهُ، مِمَّا نَقَلَهُ عَنْ الْجَوْهَرِيِّ وَصَاحِبِ "الْمُحْكَمِ".
قَوْلُهُ: "اسْتَلَمَهُ بِمِحْجَنٍ" فَهُوَ بِمِيمٍ مَكْسُورَةٍ ثُمَّ حَاءٍ مُهْمَلَةٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ جِيمٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ نُونٍ وَهِيَ عَصَا مُعَقَّفَةُ الرَّأْسِ كَالصَّوْلَجَانِ وَجَمْعُهُ مَحَاجِنُ. قَوْلُهُ: "إيمَانًا بِك" أَيْ أَفْعَلُ هَذَا لِلْإِيمَانِ بِك. قَوْلُهُ: "عَلَى يَسَارِهِ" بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِهَا لُغَتَانِ مَشْهُورَتَانِ أَفْصَحُهُمَا: عِنْدَ الْجُمْهُورِ الْفَتْحُ، وَعَكَسَهُ ابْنُ دُرَيْدٍ. قَوْلُهُ: "عِبَادَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْبَيْتِ فَاسْتُحِقَّ فِيهَا التَّرْتِيبُ" احْتِرَازٌ مِنْ تَفْرِقَةِ الزَّكَاةِ وَقَضَاءِ الصَّوْمِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 فإنه أبو مالك سعد بن طارق بن أشيم بإسكان الشين المعجمة الأشجعي التابعي الكوفي سمع أباه وهو صحابي وأنساً وعبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهم وسمع جماعات من التابعين. روى عنه الثوري وشعبة وأبو عوانة وعبد الواحد بن زياد ويزيد بن هارون وآخرون واتفقوا على توثيقه، روى له مسلم في "صحيحه" حديثين.

 

ج / 8 ص -30-         أما الأحكام: فَفِي الْفَصْلِ مَسَائِلُ إحداها: يَجِبُ ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنْ ابْتَدَأَ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يُعْتَدَّ بِمَا فَعَلَهُ، حَتَّى يَصِلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، فَإِذَا وَصَلَهُ كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ طَوَافِهِ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا. الثَّانِيَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فِي أَوَّلِ طَوَافِهِ بِوَجْهِهِ وَيَدْنُوَ مِنْهُ، بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤْذِيَ أَحَدًا، وَإِذَا أَرَادَ هَذَا الِاسْتِقْبَالَ فَطَرِيقُهُ أَنْ يَقِفَ عَلَى جَانِبِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مِنْ جِهَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِي بِحَيْثُ يَصِيرُ جَمِيعُ الْحَجَرِ عَنْ يَمِينِهِ، وَيَصِيرُ مَنْكِبُهُ الْأَيْمَنُ عِنْدَ طَرَفِ الْحَجَرِ، ثُمَّ يَنْوِي الطَّوَافَ، ثُمَّ يَمْشِي مُسْتَقْبِلَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مَارًّا إلَى جِهَةِ يَمِينِهِ حَتَّى يُجَاوِزَ الْحَجَرَ فَإِذَا جَاوَزَهُ تَرَكَ الِاسْتِقْبَالَ وَانْفَتَلَ وَجَعَلَ يَسَارَهُ إلَى الْبَيْتِ وَيَمِينَهُ إلَى خَارِجٍ، وَلَوْ فَعَلَ هَذَا مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ وَتَرَكَ الِاسْتِقْبَالَ جَازَ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
الثَّالِثَةُ: يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحَاذِيَ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ جَمِيعَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، فَطَرِيقُهُ مَا سَبَقَ بَيَانُهُ الْآنَ فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ أَنْ يَقِفَ قِبَلَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مِنْ جِهَةِ الرُّكْنِ الْيَمَانِي، ثُمَّ يَمُرُّ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ طَائِفًا حَوْلَ الْبَيْتِ، فَيَمُرُّ جَمِيعُهُ بِجَمِيعِ الْحَجَرِ وَلَا يُقَدِّمُ جُزْءًا مِنْ بَدَنِهِ عَلَى جُزْءٍ مِنْ الْحَجَرِ، فَلَوْ حَاذَاهُ بِبَعْضِ بَدَنِهِ وَكَانَ بَعْضُهُ مُجَاوِزًا إلَى جِهَةِ بَابِ الْكَعْبَةِ، فَفِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا وَكَذَا ذَكَرَهُمَا الْأَصْحَابُ قَوْلَيْنِ إلَّا إمَامَ الْحَرَمَيْنِ الْغَزَالِيِّ فَحَكَوْهُمَا وَجْهَيْنِ. وَالصَّوَابُ قَوْلَانِ "الْجَدِيدُ" لَا يُجْزِئُهُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ "وَالْقَدِيمُ" يُجْزِئُهُ، وَلَوْ حَاذَى بِجَمِيعِ الْبَدَنِ بَعْضَ الْحَجَرِ - إنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ - صَحَّ طَوَافُهُ بِلَا خِلَافٍ. صَرَّحَ بِهِ جَمِيعُ أَصْحَابِنَا الْعِرَاقِيِّينَ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ، قَالُوا: كَمَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ فِي الصَّلَاةِ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ بَعْضَ الْكَعْبَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ مُحَاذَاةُ بَعْضِ الْحَجَرِ جَازَتْ مُحَاذَاتُهُ بِبَعْضِ الْبَدَنِ، أَيْ لَمَّا جَازَتْ مُحَاذَاةُ بَعْضِ الْحَجَرِ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ بِلَا خِلَافٍ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ مُحَاذَاةُ كُلِّ الْحَجَرِ بِبَعْضِ الْبَدَنِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ "الْعُدَّةِ" وَغَيْرُهُ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ قَوْلَيْنِ وَالْمَذْهَبُ: مَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الرَّابِعَةُ: يَنْبَغِي لَهُ فِي طَوَافِهِ أَنْ يَجْعَلَ الْبَيْتَ عَلَى يَسَارِهِ، وَيَمِينُهُ إلَى خَارِجٍ وَيَدُورَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ كَذَلِكَ، فَلَوْ خَالَفَ فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَمِينِهِ، وَمَرَّ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِي لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ الْبَيْتَ عَلَى يَمِينِهِ وَلَا يَسَارِهِ، بَلْ اسْتَقْبَلَهُ بِوَجْهِهِ مُعْتَرِضًا وَطَافَ كَذَلِكَ، أَوْ جَعَلَ الْبَيْتَ عَلَى يَمِينِهِ وَمَشَى قَهْقَرَى إلَى جِهَةِ الْبَابِ، فَفِي صِحَّةِ طَوَافِهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الرَّافِعِيُّ، قَالَ الرَّافِعِيُّ أَصَحُّهُمَا: لَا يَصِحُّ، قَالَ: وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِعِبَارَةِ الْأَكْثَرِينَ، وَجَزَمَ الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي فِي صُورَةِ مَنْ جَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَمِينِهِ وَمَشَى قَهْقَرَى بِأَنَّهُ يَصِحُّ، لَكِنْ يُكْرَهُ وَالْأَصَحُّ: الْبُطْلَانُ كَمَا سَبَقَ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَكَانَ الْقِيَاسُ جَرَيَانَ هَذَا الْخِلَافِ فِيمَا لَوْ مَرَّ مُعْتَرِضًا مُسْتَدْبِرًا هَذَا كَلَامُهُ وَالصَّوَابُ: فِي هَذِهِ الصُّورَةِ الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ، فَإِنَّهُ مُنَابِذٌ لِمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْخَامِسَةُ: يُسْتَحَبُّ اسْتِلَامُ الْحَجَرِ بِيَدِهِ فِي أَوَّلِ الطَّوَافِ وَتَقْبِيلِ الْحَجَرِ، وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيُسْتَحَبُّ السُّجُودُ عَلَيْهِ أَيْضًا مَعَ الِاسْتِلَامِ وَالتَّقْبِيلِ بِأَنْ يَضَعَ الْجَبْهَةَ عَلَيْهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَرِّرَ السُّجُودَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الثَّلَاثِ فَعَلَ الْمُمْكِنَ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَصَاحِبُ "الْعُدَّةِ" و"الْبَيَانِ". وَاحْتَجَّ لَهُ الْبَيْهَقِيُّ بِمَا رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ

 

ج / 8 ص -31-         "أَنَّهُ قَبَّلَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ وَقَالَ: رَأَيْت عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَبَّلَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ هَكَذَا فَفَعَلْت".
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِمَا الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: "رَأَيْت ابْنَ عَبَّاسٍ جَاءَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ مُلَبِّدًا رَأْسَهُ فَقَبَّلَ الرُّكْنَ ثُمَّ سَجَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَبَّلَهُ ثُمَّ سَجَدَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ" وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْجُدُ عَلَى الْحَجَرِ" قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يُشِيرَ إلَى الْقُبْلَةِ بِالْفَمِ إذَا تَعَذَّرَتْ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُخَفِّفَ الْقُبْلَةَ بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ لَهَا صَوْتٌ.
فرع: إذَا مَنَعَتْهُ الزَّحْمَةُ وَنَحْوُهَا مِنْ التَّقْبِيلِ وَالسُّجُودِ عَلَيْهِ، وَأَمْكَنَهُ الِاسْتِلَامُ اسْتَلَمَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْهُ أَشَارَ بِالْيَدِ إلَى الِاسْتِلَامِ، وَلَا يُشِيرُ بِالْفَمِ إلَى التَّقْبِيلِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، ثُمَّ يُقَبِّلُ الْيَدَ بَعْدَ الِاسْتِلَامِ إذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِزَحْمَةٍ وَنَحْوِهَا، هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْأَصْحَابُ. وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَسْتَلِمَ ثُمَّ يُقَبِّلَ الْيَدَ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَبِّلَ الْيَدَ ثُمَّ يَسْتَلِمَ بِهَا، وَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِاسْتِحْبَابِ تَقْدِيمِ الِاسْتِلَامِ ثُمَّ يُقَبِّلُهَا، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الِاسْتِلَامِ بِالْيَدِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَسْتَلِمَ بِعَصَا وَنَحْوِهَا، لِلْأَحَادِيثِ السَّابِقَةِ، اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُنَا، فَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ أَشَارَ بِيَدِهِ، أَوْ بِشَيْءٍ فِي يَدِهِ إلَى الِاسْتِلَامِ ثُمَّ قَبَّلَ مَا أَشَارَ بِهِ.
وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِمَا ذَكَرْته فِي هَذَا الْفَرْعِ مَعَ مَا سَبَقَ مِنْ الْأَدِلَّةِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "وَإِذَا أَمَرَتْكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَعَنْ نَافِعٍ قَالَ:
"رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بِيَدِهِ ثُمَّ قَبَّلَ يَدَهُ وَقَالَ: مَا تَرَكْته مُنْذُ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ"، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى تَعَذُّرِ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْأَحَادِيثُ فِي اسْتِلَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْحَجَرَ بِالْمِحْجَنِ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ تَقْبِيلُ الْحَجَرِ وَلَا اسْتِلَامُهُ إلَّا عِنْدَ خُلُوِّ الْمَطَافِ فِي اللَّيْلِ أَوْ غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَرَرِهِنَّ وَضَرَرِ الرِّجَالِ بِهِنَّ.
فرع: لِلْكَعْبَةِ الْكَرِيمَةِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ: الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ، ثُمَّ الرُّكْنَانِ الشَّامِيَّانِ ثُمَّ الرُّكْنُ الْيَمَانِي، وَيُقَالُ لِلْأَسْوَدِ وَالْيَمَانِي: الْيَمَانِيَانِ - بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ - وَيَجُوزُ تَشْدِيدُهَا عَلَى لُغَةٍ قَلِيلَةٍ، فَالْأَسْوَدُ وَالْيَمَانِي مَبْنِيَّانِ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم وَالشَّامِيَّانِ لَيْسَا عَلَى قَوَاعِدِهِ، بَلْ مُغَيَّرَانِ؛ لِأَنَّ الْحِجْرَ يَلِيهِمَا، وَكُلُّهُ أَوْ بَعْضُهُ مِنْ الْبَيْتِ كَمَا سَبَقَ وَلِلرُّكْنِ الْأَسْوَدِ فَضِيلَتَانِ: كَوْنُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِيهِ، وَكَوْنُهُ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم وَلِلرُّكْنِ الْيَمَانِي فَضِيلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ كَوْنُهُ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم وَلَيْسَ لِلشَّامِيِّينَ شَيْءٌ مِنْ الْفَضِيلَتَيْنِ، فَإِذَا عَرَفْت هَذَا فَالسُّنَّةُ فِي الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ اسْتِلَامُهُ وَتَقْبِيلُهُ، وَالسُّنَّةُ فِي الرُّكْنِ الْيَمَانِي اسْتِلَامُهُ وَلَا يُقَبَّلُ، وَالسُّنَّةُ لَا يُقَبَّلُ الشَّامِيَّانِ وَلَا يُسْتَلَمَانِ، فَخَصَّ الْأَسْوَدَ بِالتَّقْبِيلِ مَعَ الِاسْتِلَامِ؛ لِأَنَّ فِيهِ فَضِيلَتَيْنِ، وَالْيَمَانِيَ بِالِاسْتِلَامِ لِأَنَّ فِيهِ فَضِيلَةً وَاحِدَةً، وَانْتَفَتْ الْفَضِيلَتَانِ فِي الشَّامِيَّيْنِ.
وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا لِمَا ذَكَرْته بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "
مَا تَرَكْت اسْتِلَامَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِي وَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مُنْذُ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُهُمَا فِي شِدَّةٍ وَلَا رَخَاءٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"كَانَ لَا يَسْتَلِمُ إلَّا الْحَجَرَ وَالرُّكْنَ الْيَمَانِيَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ

 

ج / 8 ص -32-         وَمُسْلِمٌ وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَلَفْظُ الْبُخَارِيِّ قَالَ: "لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَلِمُ مِنْ الْبَيْتِ إلَّا الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ حِينَ بَلَغَهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ السَّابِقُ: "لَوْلَا أَنَّ قَوْمَك حَدِيثُو عَهْدٍ بِكُفْرٍ" الْحَدِيثَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ اسْتِلَامَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إلَّا أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الشَّعْثَاءِ قَالَ كَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّهُ لَا يُسْتَلَمُ هَذَا الرُّكْنَانِ فَقَالَ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْبَيْتِ مَهْجُورًا، وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَسْتَلِمُهُنَّ كُلُّهُنَّ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ"، فَهَذَا مَذْهَبُ مُعَاوِيَةَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ لَمْ يَرْوِيَاهُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَلْ أَخَذَاهُ بِاجْتِهَادِهِمَا، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ. وَقَدْ خَالَفَهُمَا فِيهِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ، فَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يُسَنُّ اسْتِلَامُ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ وَأَمَّا قَوْلُ مُعَاوِيَةَ "لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ الْبَيْتِ مَهْجُورًا" فَقَدْ أَجَابَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ: لَمْ يَدَّعِ أَحَدٌ أَنَّ عَدَمَ اسْتِلَامِهِمَا هَجْرٌ لِلْبَيْتِ، لَكِنَّهُ اسْتَلَمَ مَا اسْتَلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَمْسَكَ مَا أَمْسَكَ عَنْهُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ اسْتِلَامُ الْيَمَانِي دُونَ تَقْبِيلِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: فَإِذَا اسْتَلَمَهُ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُقَبِّلَ يَدَهُ بَعْدَ اسْتِلَامِهِ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْمُتَوَلِّي: إنْ شَاءَ قَبَّلَهَا قَبْلَ الِاسْتِلَامِ، وَإِنْ شَاءَ بَعْدَهُ، وَلَا فَضِيلَةَ فِي تَقْدِيمِ الِاسْتِلَامِ. وَذَكَرَ الْفُورَانِيُّ وَجْهَيْنِ، وَحَكَاهُمَا أَيْضًا عَنْ صَاحِبِ "الْبَيَانِ" أحدهما: يُقَبِّلُ يَدَهُ وَيَسْتَلِمُهُ كَأَنَّهُ يَنْقُلُ الْقُبْلَةَ إلَيْهِ والثاني: يَسْتَلِمُهُ ثُمَّ يُقَبِّلُ يَدَهُ كَأَنَّهُ يَنْقُلُ بَرَكَتَهُ إلَى نَفْسِهِ وَالْمَذْهَبُ: اسْتِحْبَابُ تَقْدِيمِ الِاسْتِلَامِ. وَجَاءَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَدِيثَانِ ضَعِيفَانِ أحدهما: يُوَافِقُ الْمَذْهَبَ وَالْآخَرُ يُخَالِفُهُ، فَالْمُوَافِقُ عَنْ جَابِرٍ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَلَمَ الْحَجَرَ فَقَبَّلَهُ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ فَقَبَّلَ يَدَهُ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَضَعَّفَهُ. وَالْمُخَالِفُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمِ بْنِ هُرْمُزَ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ قَبَّلَهُ وَوَضَعَ خَدَّهُ الْأَيْمَنَ عَلَيْهِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ لَا يَثْبُتُ مِثْلُهُ. قَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمِ بْنِ هُرْمُزَ وَهُوَ ضَعِيفٌ، قَالَ: وَالْأَخْبَارُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَقْبِيلِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالسُّجُودِ عَلَيْهِ1 قَالَ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالرُّكْنِ الْيَمَانِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فَإِنَّهُ أَيْضًا يُسَمَّى بِذَلِكَ فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِغَيْرِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْمَعَ فِي الِاسْتِلَامِ وَالتَّقْبِيلِ بَيْنَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَالرُّكْنِ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَظَاهِرُ كَلَامِ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يُقْتَصَرُ عَلَى الْحَجَرِ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ اسْتِلَامُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَتَقْبِيلُهُ، وَاسْتِلَامُ الرُّكْنِ الْيَمَانِي وَتَقْبِيلُ الْيَدِ بَعْدَهُ، عِنْدَ مُحَاذَاتِهِمَا فِي كُلِّ طَوْفَةٍ مِنْ السَّبْعِ، وَهُوَ فِي الْأَوْتَارِ آكَدُ لِأَنَّهَا أَفْضَلُ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ أَوَّلًا،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل ويمكن أن يكون السقط: ثابتة صحيحة. المطيعي.

 

ج / 8 ص -33-         وَعِنْدَ ابْتِدَائِهِ بِالْمَشْيِ فِي الطَّوَافِ أَيْضًا: بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ إيمَانًا بِك وَتَصْدِيقًا بِكِتَابِك، وَوَفَاءً بِعَهْدِك وَاتِّبَاعًا لِسُنَّةِ نَبِيِّك صلى الله عليه وسلم وَيَأْتِي بِهَذَا الذِّكْرِ أَيْضًا عَنْدَ مُحَاذَاةِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ، وَهُوَ فِي الْأَوَّلِ آكَدُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَقُولُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، قَالَ وَمَا ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى بِهِ وَمَا صَلَّى عَلَى النَّبِيِّ بِهِ صلى الله عليه وسلم1 فَحَسَنٌ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ولعل النص: وما صلى على النبي صلى الله عليه وسلم به فحسن.

 

فرع: فِي فَضِيلَةِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ
عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:
"قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَزَلَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنْ اللَّبَنِ، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الرُّكْنُ وَالْمَقَامُ يَاقُوتُتَانِ مِنْ يَوَاقِيتِ الْجَنَّةِ طَمَسَ اللَّهُ نُورَهُمَا، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَأَضَاءَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: "الرُّكْنُ وَالْمَقَامُ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ، وَلَوْلَا مَا مَسَّهُمَا مِنْ خَطَايَا بَنِي آدَمَ لَأَضَاءَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَمَا مَسَّهُمَا مِنْ ذِي عَاهَةٍ وَلَا سَقِيمٍ إلَّا شُفِيَ" وَإِسْنَادُهَا صَحِيحٌ وَفِي رِوَايَةٍ: "لَوْلَا مَا مَسَّهُ مِنْ أَنْجَاسِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا مَسَّهُ ذُو عَاهَةٍ إلَّا شُفِيَ، وَمَا عَلَى الْأَرْضِ شَيْءٌ مِنْ الْجَنَّةِ غَيْرُهُ" إسْنَادُهَا صَحِيحٌ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"لِيَبْعَثْنَ اللَّهُ الْحَجَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ عَلَى مَنْ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. قَالَ هَكَذَا رَوَاهُ جَمَاعَةٌ، وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ: "لِمَنْ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ" وَعَنْ عَائِشَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اسْتَمْتِعُوا مِنْ هَذَا الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ قَبْلَ أَنْ يُرْفَعَ فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْجَنَّةِ، وَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِشَيْءٍ يَخْرُجُ مِنْ الْجَنَّةِ إلَّا رَجَعَ إلَيْهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ" رَوَاهُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي آخِرِ بَابِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ أَنَّ الْكَعْبَةَ الْكَرِيمَةَ بُنِيَتْ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَقِيلَ سَبْعًا، وَفَصَّلْنَاهُنَّ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الشَّافِعِيَّ رضي الله عنه قَالَ: أُحِبُّ أَنْ لَا تُهْدَمَ الْكَعْبَةُ وَتُبْنَى لِئَلَّا تَذْهَبَ حُرْمَتُهَا، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ جُمَلًا مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْحَرَمِ، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فرع: قَالَ الدَّارِمِيُّ: لَوْ مُحِيَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - مِنْ مَوْضِعِهِ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الَّذِي كَانَ فِيهِ وَقَبَّلَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْنُوَ مِنْ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ فَكَانَ الْقُرْبُ مِنْهُ أَفْضَلَ فَإِذَا بَلَغَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَلِمَهُ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:
"كَانَ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ وَالْأَسْوَدَ وَلَا يَسْتَلِمُ الْآخَرَيْنِ" وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ بُنِيَ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ عليه السلام فَيَسُنُّ فِيهِ الِاسْتِلَامُ كَالرُّكْنِ الْأَسْوَدِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَيْنِ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَيْنِ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ" وَيُسْتَحَبُّ كُلَّمَا حَاذَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ

 

ج / 8 ص -34-         أَنْ يُكَبِّرَ وَيُقَبِّلَهُ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي مَحَلٍّ فَتَكَرَّرَ بِتَكَرُّرِهِ كَالِاسْتِلَامِ. وَيُسْتَحَبُّ إذَا اسْتَلَمَ أَنْ يُقَبِّلَ يَدَهُ، لِمَا رَوَى نَافِعٌ قَالَ: "رَأَيْت ابْنَ عُمَرَ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ بِيَدِهِ وَقَبَّلَ يَدَهُ وَقَالَ: مَا تَرَكَتْهُ مُنْذُ رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ" وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِي وَالرُّكْنِ الْأَسْوَدِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: "عِنْدَ الرُّكْنِ الْيَمَانِي مَلَكٌ قَائِمٌ يَقُولُ آمِينَ آمِينَ. فَإِذَا مَرَرْتُمْ بِهِ فَقُولُوا: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً. وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ".
الشرح:
جَمِيعُ الْأَحْكَامِ الَّتِي فِي هَذِهِ الْقِطْعَةِ سَبَقَ بَيَانُهَا وَاضِحَةً فِي الْقِطْعَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، إلَّا مَسْأَلَةَ الدُّنُوِّ مِنْ الْبَيْتِ، وَسَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَبْسُوطَةً مَعَ مَسْأَلَةِ الدُّعَاءِ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَسَبَقَ بَيَانُ حَدِيثَيْ ابْنِ عُمَرَ الْأَوَّلِ وَالثَّالِثِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَحَدِيثٌ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ جَمِيعًا، وَلَفْظُهُمَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَا يَدَعُ أَنْ يَسْتَلِمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ وَالْحَجَرَ فِي كُلِّ طَوْفَةٍ. قَالَ نَافِعٌ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ".
وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَغَرِيبٌ، لَكِنْ يُغْنِي عَنْهُ أَجْوَدُ مِنْهُ وَهُوَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ رضي الله عنه قَالَ:
"سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ رَجُلَانِ لَمْ يَتَكَلَّمْ الْعُلَمَاءُ فِيهِمَا بِجَرْحٍ وَلَا تَعْدِيلٍ، وَلَمْ يُضَعِّفْهُ أَبُو دَاوُد، فَيَقْتَضِي أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ عِنْدَهُ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ "الرُّكْنُ الْيَمَانِي" هُوَ بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَكَذَا الرُّكْنَانِ الْيَمَانِيَانِ - بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ - قَالَ الْجُمْهُورُ: لَا يَجُوزُ تَشْدِيدُهَا لِأَنَّهَا نِسْبَةٌ إلَى الْيَمَنِ، فَجُعِلَتْ الْأَلِفُ عِوَضًا مِنْ إحْدَى يَاءَيْ النَّسَبِ، فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعِوَضِ وَالْمُعَوَّضِ. وَحَكَى سِيبَوَيْهِ وَالْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُمَا تَشْدِيدَهَا فِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ، وَتَكُونُ الْأَلِفُ زَائِدَةً، كَمَا زِيدَتْ الْأَلِفُ وَالنُّونُ فِي رَقَبَانِي مَنْسُوبٌ إلَى الرَّقَبَةِ وَنَظَائِرُهُ. قَوْلُهُ: "وَلِأَنَّهُ رُكْنٌ بُنِيَ عَلَى قَوَاعِدِ إبْرَاهِيمَ" احْتِرَازٌ مِنْ الرُّكْنَيْنِ الشَّامِيَّيْنِ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ يُسْتَحَبُّ إذَا اسْتَلَمَ أَنْ يُقَبِّلَ يَدَهُ فَكَلَامٌ نَاقِصٌ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يَسْتَلِمَ وَيُقَبِّلَ، فَإِذَا قَبَّلَهُ لَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُقَبِّلَ الْيَدَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ تَعَذَّرَ التَّقْبِيلُ اسْتَلَمَ ثُمَّ قَبَّلَ يَدَهُ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، هَكَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ وَهُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ، لَكِنْ عِبَارَتُهُ نَاقِصَةٌ.
أما الأحكام: فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا سَبَقَتْ وَاضِحَةً إلَّا مَسْأَلَتَيْ الدُّنُوِّ مِنْ الْبَيْتِ، وَالدُّعَاءِ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ فَأَمَّا: الدُّعَاءُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَهُمَا الْأَسْوَدُ وَالْيَمَانِي، فَاتَّفَقَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ وَبِأَيِّ شَيْءٍ حَصَلَ الِاسْتِحْبَابُ، وَأَفْضَلُهُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ؛ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ؛ وَلِحَدِيثِ أَنَسٍ:
"أَنَّ هَذَا كَانَ أَكْثَرَ دُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَأَمَّا الدُّنُوُّ مِنْ الْبَيْتِ فَمُتَّفَقٌ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ أَيْضًا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ": الدُّنُوُّ مُسْتَحَبٌّ لِثَلَاثَةِ مَعَانٍ "أحدها": أَنَّ الْبَيْتَ أَشْرَفُ الْبِقَاعِ، فَالدُّنُوُّ مِنْهُ أَفْضَلُ والثاني: أَنَّهُ أَيْسَرُ فِي اسْتِلَامِ الرُّكْنَيْنِ وَتَقْبِيلِ الْحَجَرِ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْقُرْبَ مِنْ الْبَيْتِ فِي الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ الْبُعْدِ. فَكَذَا فِي الطَّوَافِ.

 

ج / 8 ص -35-         قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَا بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤْذِيَ وَلَا يَتَأَذَّى بِالزَّحْمَةِ، فَإِنْ تَأَذَّى أَوْ آذَى بِالْقُرْبِ لِلزَّحْمَةِ فَالْبُعْدُ إلَى حَيْثُ يَزُولُ التَّأَذِّي وَالْأَذَى أَوْلَى، هَكَذَا أَطْلَقُوهُ. وَقَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ": أُحِبُّ الِاسْتِلَامَ مَا لَمْ يُؤْذِ غَيْرَهُ بِالزِّحَامِ، أَوْ يُؤْذِهِ غَيْرُهُ، إلَّا فِي ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ فَاسْتُحِبَّ لَهُ الِاسْتِلَامُ، وَإِنْ كَانَ فِي الزِّحَامِ أَوْ فِي آخِرِ الطَّوَافِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالْقُرْبُ مُسْتَحَبٌّ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى كَثْرَةِ الْخُطَى فِي الْبُعْدِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إكْرَامُ الْبَيْتِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ اسْتِحْبَابِ الْقُرْبِ هُوَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ، أَمَّا الْمَرْأَةُ فَيُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ لَا تَدْنُوَ فِي حَالِ طَوَافِ الرِّجَالِ، بَلْ تَكُونُ فِي حَاشِيَةِ الْمَطَافِ بِحَيْثُ لَا تُخَالِطُ الرِّجَالَ، وَيُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَطُوفَ فِي اللَّيْلِ فَإِنَّهُ أَصُونُ لَهَا وَلِغَيْرِهَا مِنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْفِتْنَةِ، فَإِنْ كَانَ الْمَطَافُ خَالِيًا مِنْ الرِّجَالِ اُسْتُحِبَّ لَهَا الْقُرْبُ كَالرَّجُلِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَى الرَّجُلِ الْقُرْبُ مِنْ الْكَعْبَةِ مَعَ الرَّمَلِ لِلزَّحْمَةِ، فَإِنْ رَجَا فُرْجَةً اُسْتُحِبَّ أَنْ يَنْتَظِرَهَا لِيَرْمُلَ، إنْ لَمْ يُؤْذِ بِوُقُوفِهِ أَحَدًا، وَإِنْ لَمْ يَرْجُهَا فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الرَّمَلِ مَعَ الْبُعْدِ عَنْ الْبَيْتِ أَفْضَلُ مِنْ الْقُرْبِ بِلَا رَمَلٍ. هَكَذَا قَالَهُ أَصْحَابُنَا وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ، قَالُوا: لِأَنَّ الرَّمَلَ شِعَارٌ مُسْتَقِلٌّ، وَلِأَنَّ الرَّمَلَ فَضِيلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْعِبَادَةِ، وَالْقُرْبُ فَضِيلَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَوْضُوعِ الْعِبَادَةِ. قَالُوا: وَالْمُتَعَلِّقُ بِنَفْسِ الْعِبَادَةِ أَفْضَلُ وَأَوْلَى بِالْمُحَافَظَةِ. قَالُوا: وَلِهَذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ بِالْجَمَاعَةِ فِي الْبَيْتِ أَفْضَلَ مِنْ الِانْفِرَادِ فِي الْمَسْجِدِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْقُرْبُ مِنْ الْكَعْبَةِ بِلَا خِلَافٍ. وَاتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ التَّبَاعُدُ مَا دَامَ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى هَذَا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ طَافَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَمْ يَصِحَّ. قَالَ أَصْحَابُنَا: شَرْطُ الطَّوَافِ وُقُوعُهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَا بَأْسَ بِالْحَائِلِ فِيهِ بَيْنَ الطَّائِفِ وَالْبَيْتِ كَالسِّقَايَةِ وَالسَّوَارِي وَغَيْرِهَا. قَالُوا: وَيَجُوزُ الطَّوَافُ فِي أُخْرَيَاتِ الْمَسْجِدِ وَأَرْوِقَتِهِ وَعِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ مِنْ دَاخِلِهِ. قَالُوا: وَيَجُوزُ عَلَى سُطُوحِ الْمَسْجِدِ إذَا كَانَ الْبَيْتُ أَرْفَعَ بِنَاءً مِنْ الْمَسْجِدِ كَمَا هُوَ الْيَوْمُ.
قَالَ الرَّافِعِيُّ: فَإِنْ جُعِلَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ أَعْلَى مِنْ سَطْحِ الْكَعْبَةِ فَقَدْ ذَكَرَ صَاحِبُ "الْعُدَّةِ" أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الطَّوَافُ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ، وَأَنْكَرَهُ عَلَيْهِ الرَّافِعِيُّ وَقَالَ: لَوْ صَحَّ قَوْلُهُ لَزِمَ مِنْهُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ انْهَدَمَتْ الْكَعْبَةُ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - لَمْ يَصِحَّ الطَّوَافِ حَوْلَ عَرْصَتِهَا، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الرَّافِعِيُّ هُوَ الصَّوَابُ، وَقَدْ جَزَمَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تَعْلِيقِهِ" بِأَنَّهُ لَوْ طَافَ عَلَى سَطْحِ الْمَسْجِدِ صَحَّ، وَإِنْ ارْتَفَعَ عَنْ مُحَاذَاةِ الْكَعْبَةِ قَالَ: كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ مَعَ ارْتِفَاعِهِ عَلَى الْكَعْبَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ وَسُعَ الْمَسْجِدُ اتَّسَعَ الْمَطَافُ وَصَحَّ الطَّوَافُ فِي جَمِيعِهِ وَهُوَ الْيَوْمَ أَوْسَعُ مِمَّا كَانَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِزِيَادَاتٍ كَثِيرَةٍ زِيدَتْ فِيهِ، فَأَوَّلُ مَنْ زَادَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه اشْتَرَى دُورًا فَزَادَهَا فِيهِ، وَاِتَّخَذَ لِلْمَسْجِدِ جِدَارًا قَصِيرًا دُونَ الْقَامَةِ، وَكَانَ عُمَرُ أَوَّلَ مَنْ اتَّخَذَ لَهُ الْجِدَارَ، ثُمَّ وَسَّعَهُ عُثْمَانُ وَاِتَّخَذَ لَهُ الْأَرْوِقَةَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ اتَّخَذَهَا، ثُمَّ وَسَّعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي

 

ج / 8 ص -36-         خِلَافَتِهِ، ثُمَّ وَسَّعَهُ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، ثُمَّ الْمَنْصُورُ، ثُمَّ الْمَهْدِيُّ، وَعَلَيْهِ اسْتَقَرَّ بِنَاؤُهُ إلَى وَقْتِنَا هَذَا، وَقَدْ أَوْضَحْتُ هَذَا مَعَ نَفَائِسَ تَتَعَلَّقُ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْكَعْبَةِ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَرْمُلَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُولَى وَيَمْشِيَ فِي الْأَرْبَعَةِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ:
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، فَإِنْ كَانَ رَاكِبًا حَرَّكَ دَابَّتَهُ فِي مَوْضِعِ الرَّمَلِ، وَإِنْ كَانَ مَحْمُولًا رَمَلَ بِهِ الْحَامِلُ" وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي رَمَلِهِ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا وَسَعْيًا مَشْكُورًا. وَيَدْعُو بِمَا أَحَبَّ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، قَالَ فِي "الْأُمِّ" وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ ذِكْرٍ. وَالْقُرْآنُ مِنْ أَعْظَمِ الذِّكْرِ، فَإِنْ تَرَكَ الرَّمَلَ فِي الثَّلَاثِ لَمْ يَقْضِ فِي الْأَرْبَعَةِ؛ لِأَنَّهُ هَيْئَةٌ فِي مَحَلٍّ فَلَا يُقْضَى فِي غَيْرِهِ كَالْجَهْرِ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْأُولَيَيْنِ، وَلِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الْأَرْبَعِ الْمَشْيُ، فَإِذَا قَضَى الرَّمَلَ فِي الْأَرْبَعَةِ أَخَلَّ بِالسُّنَّةِ فِي جَمِيعِ الطَّوَافِ وَإِذَا اضْطَبَعَ وَرَمَلَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ، نَظَرْتَ فَإِنْ سَعَى بَعْدَهُ لَمْ يُعِدْ الرَّمَلَ وَالِاضْطِبَاعَ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا طَافَ الطَّوَافَ الْأَوَّلَ خَبَّ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا" فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُعِدْ فِي غَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْعَ بَعْدَهُ وَأَخَّرَ السَّعْيَ إلَى مَا بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ اضْطَبَعَ وَرَمَلَ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الِاضْطِبَاعِ لِلسَّعْيِ، فَكُرِهَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي السَّعْيِ وَلَا يَفْعَلَهُ فِي الطَّوَافِ، وَإِنْ طَافَ لِلْقُدُومِ وَسَعَى بَعْدَهُ وَنَسِيَ الرَّمَلَ وَالِاضْطِبَاعَ فِي الطَّوَافِ فَهَلْ يَقْضِيهِ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
أحدهما: أَنَّهُ يَقْضِي لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَقْضِ فَاتَتْهُ سُنَّةُ الرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ لَا يَقْضِي، وَهُوَ الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ أَنْ يَقْضِيَ الرَّمَلَ لَقَضَاهُ فِي الْأَشْوَاطِ الْأَرْبَعَةِ. فَإِنْ تَرَكَ الرَّمَلَ وَالِاضْطِبَاعَ وَالِاسْتِلَامَ وَالتَّقْبِيلَ وَالدُّعَاءَ فِي الطَّوَافِ جَازَ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الرَّمَلَ وَالِاضْطِبَاعَ هَيْئَةٌ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِتَرْكِهَا جُبْرَانٌ كَالْجَهْرِ وَالْإِسْرَارِ فِي الْقِرَاءَةِ، وَالتَّوَرُّكِ وَالِافْتِرَاشِ فِي التَّشَهُّدِ وَالِاسْتِلَامُ وَالتَّقْبِيلُ وَالدُّعَاءُ كَمَالٌ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ جُبْرَانٌ كَالتَّسْبِيحِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَلَا تَرْمُلُ الْمَرْأَةُ وَلَا تَضْطَبِعُ لِأَنَّ فِي الرَّمَلِ تَبِينُ أَعْضَاؤُهَا، وَفِي الِاضْطِبَاعِ يَنْكَشِفُ مَا هُوَ عَوْرَةٌ مِنْهَا.
الشرح:
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ هُنَا، وَمَعْنَى خَبَّ: رَمَلَ، وَالرَّمَلُ - بِفَتْحِ الرَّاءِ وَالْمِيمِ - وَهُوَ سُرْعَةِ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى وَهُوَ الْخَبَبُ، يُقَالُ: رَمَلَ يَرْمُلُ - بِضَمِّ الْمِيمِ - رَمَلًا وَرَمَلَانًا، قَوْلُهُ: "حَجًّا مَبْرُورًا" هُوَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُ إثْمٌ. وَقِيلَ: هُوَ الْمَقْبُولُ، وَسَبَقَ ذِكْرُهُ أَوَّلَ كِتَابِ الْحَجِّ. وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ قَوْلُ شِمْرٍ وَآخَرِينَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْبِرِّ، وَهُوَ الطَّاعَةُ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي قَوْلُ الْأَزْهَرِيِّ وَغَيْرِهِ وَأَصْلُهُ مِنْ الْبِرِّ، وَهُوَ اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ، وَمِنْهُ بَرَرْتُ فُلَانًا أَيْ وَصَلْتُهُ وَكُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ بِرٌّ، وَيُقَالُ: بَرَّ اللَّهُ حَجَّهُ وَأَبَرَّهُ. قَوْلُهُ: "وَذَنْبًا مَغْفُورًا" قَالَ الْعُلَمَاءُ: تَقْدِيرُهُ اجْعَلْ ذَنْبِي ذَنْبًا مَغْفُورًا، وَسَعْيًا مَشْكُورًا، قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَعْنَاهُ اجْعَلْهُ عَمَلًا مُتَقَبَّلًا يُذْكَرُ لِصَاحِبِهِ ثَوَابُهُ، فَهَذَا مَعْنَى الْمَشْكُورِ عِنْدَ الْأَزْهَرِيِّ وَقَالَ غَيْرُهُ: أَيْ عَمَلًا يُشْكَرُ صَاحِبُهُ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَمَسَاعِي الرَّجُلِ أَعْمَالُهُ، وَاحِدَتُهَا مَسْعَاةٌ، قَوْلُهُ: "وَالْقُرْآنُ مِنْ أَعْظَمِ الذِّكْرِ" وَهَكَذَا هُوَ فِي النُّسَخِ وَالْأَجْوَدُ حَذْفُ مِنْ: فَيُقَالُ أَعْظَمُ الذِّكْرِ.

 

ج / 8 ص -37-         قَوْلُهُ: "لِأَنَّهُ هَيْئَةٌ" احْتِرَازٌ مِمَّنْ تَرَكَ رَكْعَةً أَوْ سَجْدَةً مِنْ صَلَاتِهِ. قَوْلُهُ الْأَشْوَاطُ الْأَرْبَعَةُ خِلَافُ طَرِيقَةِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ، فَإِنَّهُمْ كَرِهُوا تَسْمِيَتَهُ أَشْوَاطًا، كَمَا سَأُوضِحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أما الأحكام: فَاتَّفَقَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الرَّمَلِ فِي الطَّوْفَاتِ الثَّلَاثِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ مَعَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ فِي الصَّحِيحِ مِثْلِهِ، قَالُوا: وَالرَّمَلُ هُوَ إسْرَاعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى، قَالُوا: وَلَا يَثِبُ وَلَا يَعْدُو عَدْوًا، قَالُوا: وَالرَّمَلُ هُوَ الْخَبَبُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ السَّابِقِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ "خَبَّ ثَلَاثًا" قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَغَلَّطَ الْأَئِمَّةُ مَنْ قَالَ دُونَ الْخَبَبِ وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: الرَّمَلُ فَوْقَ سَجِيَّةِ الْمَشْيِ وَدُونَ الْعَدْوِ، قَالَ: وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ يَعْنِي الصَّيْدَلَانِيُّ - هُوَ سُرْعَةٌ فِي الْمَشْيِ دُونَ الْخَبَبِ، قَالَ الْإِمَامُ وَهَذَا عِنْدِي زَلَلٌ، فَإِنَّ الرَّمَلَ فِي فِعْلِ النَّاسِ كَافَّةً كَأَنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ الْخَبَبِ، يُشِيرُ إلَى قَفَزَانٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسَنُّ الرَّمَلُ فِي الطَّوْفَاتِ الثَّلَاثِ الْأُولَى، وَيُسَنُّ الْمَشْيُ عَلَى الْهِينَةِ فِي الْآخِرَةِ، فَلَوْ فَاتَهُ فِي الثَّلَاثِ لَمْ يَقْضِهِ فِي الْأَرْبَعِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ قُطِعَتْ مُسَبَّحَتُهُ الْيُمْنَى لَا يُشِيرُ فِي التَّشَهُّدِ بِالْيُسْرَى، وَسَبَقَ إيضَاحُهُ مَعَ نَظَائِرِهِ، وَهَلْ يَسْتَوْعِبُ الْبَيْتَ بِالرَّمَلِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ الصَّحِيحُ: الْمَشْهُورُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: يَسْتَوْعِبُهُ فَيَرْمُلُ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَلَا يَقِفُ إلَّا فِي حَالِ الِاسْتِلَامِ وَالتَّقْبِيلِ وَالسُّجُودِ عَلَى الْحَجَرِ والثاني: حَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ، فِيهِ قَوْلَانِ، وَذَكَرَهُمَا الْغَزَالِيُّ وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا: هَذَا والثاني: لَا يَرْمُلُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ بَلْ يَمْشِي، وَجَاءَ الْأَمْرَانِ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" فَثَبَتَ الثَّانِي مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
"قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ مَكَّةَ، وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. قَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ غَدًا قَوْمٌ قَدْ وَهِنَتْهُمْ الْحُمَّى، فَلَقُوا مِنْهَا شِدَّةً، فَجَلَسُوا مِمَّا يَلِي الْحَجَرَ. وَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَيَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ. لِيَرَى الْمُشْرِكُونَ جَلَدَهُمْ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى قَدْ وَهَنَتْهُمْ هَؤُلَاءِ أَجْلَدُ مِنْ كَذَا وَكَذَا".
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ:
"هَؤُلَاءِ أَجْلَدُ مِنَّا".
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "رَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ حَتَّى انْتَهَى إلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَطْوَافٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ جَابِرٍ أَيْضًا: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَلَ الثَّلَاثَةَ أَطْوَافٍ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَكَذَا الرِّوَايَةُ "الثَّلَاثَةَ أَطْوَافٍ"، وَهُوَ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يُبْطِلُونَهُ، وَقَدْ جَاءَتْ لَهُ نَظَائِرُ فِي "الصَّحِيحِ" فَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ صَحِيحَتَانِ فِي اسْتِيعَابِ الرَّمَلِ بِالْبَيْتِ وَعَدَمِ اسْتِيعَابِهِ فَيَتَعَيَّنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَطَرِيقُ الْجَمْعِ أَنَّ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ كَانَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ سَنَةَ سَبْعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ وَكَانَ أَهْلُهَا مُشْرِكِينَ حِينَئِذٍ. وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ كَانَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ سَنَةَ عَشْرٍ، فَيَكُونُ مُتَأَخِّرًا، فَيَتَعَيَّنُ الْأَخْذُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 8 ص -38-         فرع: فِي بَيَانِ الطَّوَافِ الَّذِي يُشْرَعُ بِهِ الرَّمَلُ. وَقَدْ اضْطَرَبَتْ طُرُقُ الْأَصْحَابِ فِيهِ، وَلَخَصَّهَا الرَّافِعِيُّ مُتْقَنَةً فَقَالَ: لَا خِلَافَ أَنَّ الرَّمَلَ لَا يُسَنُّ فِي كُلِّ طَوَافٍ، بَلْ إنَّمَا يُسَنُّ فِي طَوَافٍ وَاحِدٍ، وَفِي ذَلِكَ الطَّوَافِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ أَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ أَنَّهُ يُسَنُّ فِي طَوَافٍ يَسْتَعْقِبُ السَّعْيَ والثاني: يُسَنُّ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ مُطْلَقًا، فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لَا رَمَلَ فِي طَوَافِ الْوَدَاعِ بِلَا خِلَافٍ. وَيَرْمُلُ مَنْ قَدِمَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ، لِوُقُوعِ طَوَافِهِ مُجْزِئًا عَنْ الْقُدُومِ مَعَ اسْتِعْقَابِهِ السَّعْيَ، وَيَرْمُلُ أَيْضًا الْحَاجُّ الْأُفُقِيُّ إذَا لَمْ يَدْخُلْ مَكَّةَ إلَّا بَعْدَ الْوُقُوفِ. أَمَّا مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ قَبْلَ الْوُقُوفِ وَأَرَادَ طَوَافَ الْوُقُوفِ فَهَلْ يَرْمُلُ؟ يُنْظَرُ إنْ كَانَ لَا يَسْعَى عَقِبَهُ فَفِيهِ الْقَوْلَانِ الْأَوَّلُ: الْأَصَحُّ لَا يَرْمُلُ والثاني: يَرْمُلُ وَعَلَى الْأَوَّلِ إنَّمَا يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ لِاسْتِعْقَابِهِ السَّعْيَ، فَأَمَّا إنْ كَانَ يَسْعَى عَقِبَ طَوَافِ الْقُدُومِ فَيَرْمُلُ فِيهِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِذَا رَمَلَ فِيهِ وَسَعَى بَعْدَهُ لَا يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بِلَا خِلَافٍ، إنْ لَمْ يُرِدْ السَّعْيَ بَعْدَهُ، وَإِنْ أَرَادَ إعَادَةَ السَّعْيِ بَعْدَهُ لَمْ يَرْمُلْ بَعْدَهُ أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَحَكَى الْبَغَوِيّ فِيهِ قَوْلَيْنِ وَالْأَوَّلُ أَشْهَرُ أَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالْبَغَوِيِّ وَالرَّافِعِيِّ وَآخَرِينَ: لَا يَرْمُلُ والثاني: يَرْمُلُ، وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ، وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ.
وَلَوْ طَافَ لِلْقُدُومِ وَنَوَى أَنْ لَا يَسْعَى بَعْدَهُ ثُمَّ بَدَا لَهُ وَسَعَى - وَلَمْ يَكُنْ رَمَلَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ - فَهَلْ يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ، ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ"، وَلَوْ طَافَ لِلْقُدُومِ فَرَمَلَ فِيهِ وَلَمْ يَسْعَ، قَالَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ لِبَقَاءِ السَّعْيِ، قَالَ الرَّافِعِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ فَرَّعُوهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الَّذِي يَعْتَبِرُ اسْتِعْقَابَ السَّعْيِ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ الثَّانِي لَا يَعْتَبِرُ اسْتِعْقَابَ السَّعْيِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَرْمُلَ فِي الْإِفَاضَةِ.
وَأَمَّا الْمَكِّيُّ الْمُنْشِئُ حَجَّةً مِنْ مَكَّةَ فَهَلْ يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ؟ فَإِنْ قُلْنَا: بِالْقَوْلِ الثَّانِي لَمْ يَرْمُلْ إذْ لَا قُدُومَ فِي حَقِّهِ وإن قلنا: بِالْأَوَّلِ رَمَلَ لِاسْتِعْقَابِهِ السَّعْيَ، وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ.
وَأَمَّا الطَّوَافُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ طَوَافَيْ الْقُدُومِ وَالْإِفَاضَةِ فَلَا يُسَنُّ فِيهِ الرَّمَلُ بِلَا خِلَافٍ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّائِفُ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، مُتَبَرِّعًا بِطَوَافٍ آخَرَ أَوْ غَيْرَ مُحْرِمٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَوَافِ قُدُومٍ وَلَا يَتَعَقَّبُ سَعْيًا، وَإِنَّمَا يَرْمُلُ فِي قُدُومٍ أَوْ مَا يَسْتَعْقِبُ سَعْيًا كَمَا سَبَقَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَالِاضْطِبَاعُ مُلَازِمٌ لِلرَّمَلِ، فَحَيْثُ اسْتَحْبَبْنَا الرَّمَلَ بِلَا خِلَافٍ فَكَذَا الِاضْطِبَاعُ، وَحَيْثُ لَمْ نَسْتَحِبَّهُ بِلَا خِلَافٍ، فَكَذَا الِاضْطِبَاعُ، وَحَيْثُ جَرَى خِلَافٌ جَرَى فِي الرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ جَمِيعًا، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي فَصْلِ الِاضْطِبَاعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْقُرْبَ مِنْ الْبَيْتِ مُسْتَحَبٌّ لِلطَّائِفِ، وَأَنَّهُ لَوْ تَعَذَّرَ الرَّمَلُ مَعَ الْقُرْبِ لِلزَّحْمَةِ، فَإِنْ رَجَا فُرْجَةً وَلَا يَتَأَذَّى أَحَدٌ بِوُقُوفِهِ وَلَا يُضَيِّقُ عَلَى النَّاسِ، وَقَفَ لِيَرْمُلَ، وَإِلَّا فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الرَّمَلِ مَعَ الْبُعْدِ أَوْلَى، فَلَوْ كَانَ فِي حَاشِيَةِ الْمَطَافِ نِسَاءٌ وَلَمْ يَأْمَنْ مُلَامَسَتَهُنَّ لَوْ تَبَاعَدَ فَالْقُرْبُ بِلَا رَمَلٍ أَوْلَى مِنْ الْبُعْدِ مَعَ الرَّمَلِ، حَذَرًا مِنْ انْتِقَاضِ الْوُضُوءِ. وَكَذَا لَوْ كَانَ بِالْقُرْبِ أَيْضًا نِسَاءٌ وَتَعَذَّرَ الرَّمَلُ فِي جَمِيعِ الْمَطَافِ لِخَوْفِ الْمُلَامَسَةِ فَتَرْكُ الرَّمَلَ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَفْضَلُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَمَتَى تَعَذَّرَ الرَّمَلُ

 

ج / 8 ص -39-         اُسْتُحِبَّ أَنْ يَتَحَرَّكَ فِي مَشْيِهِ، وَيَرَى مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَوْ أَمْكَنَهُ الرَّمَلُ لَرَمَلَ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: هُوَ كَمَا قُلْنَا: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَا شَعَرَ عَلَى رَأْسِهِ إمْرَارُ الْمُوسَى عَلَيْهِ.
فرع: لَوْ طَافَ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا فَهَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُحَرِّكَ الدَّابَّةَ لِيُسْرِعَ كَإِسْرَاعِ الرَّامِلِ وَيُسْرِعَ بِهِ الْحَامِلُ أَمْ لَا؟ فِيهِ أَرْبَعُ طُرُقٍ أَصَحُّهَا: وَبِهِ قَطَعَ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ فِيهِمَا قَوْلَانِ. وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَاهُمَا وَجْهَيْنِ أَصَحُّهُمَا: وَهُوَ الْجَدِيدُ يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّهُ كَحَرَكَةِ الرَّاكِبِ وَالْمَحْمُولِ والثاني: وَهُوَ الْقَدِيمُ لَا يُسْتَحَبُّ؛ لِأَنَّ الرَّمَلَ مُسْتَحَبٌّ لِلطَّائِفِ لِإِظْهَارِ الْجَلَدِ وَالْقُوَّةِ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَقْصُودٌ هُنَا، وَلِأَنَّ الدَّابَّةَ وَالْحَامِلَ قَدْ يُؤْذِيَانِ الطَّائِفَيْنِ بِالْحَرَكَةِ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ" وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي "الْجَامِعِ"، وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَآخَرُونَ: إنْ طَافَ رَاكِبًا حَرَّكَ دَابَّتَهُ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِنْ حُمِلَ فَقَوْلَانِ الْجَدِيدُ: يَرْمُلُ بِهِ الْحَامِلُ وَهُوَ الْأَصَحُّ وَالْقَدِيمُ: لَا يَرْمُلُ.
وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ: إنْ كَانَ الْمَحْمُولُ صَبِيًّا رَمَلَ حَامِلُهُ قَطْعًا، وَإِلَّا فَالْقَوْلَانِ.
وَالطَّرِيقُ الرَّابِعُ: يَرْمُلُ بِهِ الْحَامِلُ وَيُحَرِّكُ الدَّابَّةَ قَوْلًا وَاحِدًا، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ فِي رَمَلِهِ بِمَا أَحَبَّ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَآكَدُهُ "اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا وَسَعْيًا مَشْكُورًا" نَصَّ عَلَى هَذِهِ الْكَلِمَاتِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهَا. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ أَيْضًا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَخِيرَةِ الَّتِي يَمْشِيهَا، وَأَفْضَلُ دُعَائِهِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَاعْفُ عَمَّا تَعْلَمُ وَأَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ،
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] فَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي التَّنْبِيهِ، وَعَجَبٌ كَيْفَ أَهْمَلَهُ هُنَا؟ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الطَّوَافِ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ الدُّعَاءِ غَيْرِ الْمَأْثُورِ فِي الطَّوَافِ، قَالَ: وَأَمَّا الْمَأْثُورُ فِيهِ فَهُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِي وَجْهٍ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْهُ. وَأَمَّا فِي غَيْرِ الطَّوَافِ فَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ إلَّا الذِّكْرَ الْمَأْثُورَ فِي مَوَاضِعِهِ وَأَوْقَاتِهِ، فَإِنَّ فِعْلَ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَفْضَلُ، وَلِهَذَا أُمِرَ بِالذِّكْرِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَنُهِيَ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِيهِمَا. وَقَدْ نَقَلَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ" فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الشَّافِعِيَّ نَصَّ أَنَّ قِرَاءَةَ الْقُرْآنِ أَفْضَلُ الذِّكْرِ.
وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِتَفْضِيلِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "
يَقُولُ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: "مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ مَا أُعْطِي السَّائِلِينَ، وَفَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى سَائِرِ الْكَلَامِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِه" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَالْأَحَادِيثُ فِي تَرْجِيحِ الْقِرَاءَةِ عَلَى الذِّكْرِ كَثِيرَةٌ.

 

ج / 8 ص -40-         فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلَامِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ إنَّ أَحَبَّ الْكَلَامِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ:
"سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: مَا اصْطَفَى اللَّهُ لِمَلَائِكَتِهِ أَوْ لِعِبَادِهِ [أَفْضَلُ مِنْ] سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ" وَعَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الْكَلَامِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَرْبَعٌ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّ هَذَا أَحَبُّ كَلَامِ الْآدَمِيِّينَ وَأَفْضَلُهُ، لَا أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الْمُتَوَلِّي: تُكْرَهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْإِسْرَاعِ فِي الرَّمَلِ، بَلْ يَرْمُلُ عَلَى الْعَادَةِ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ السَّابِقِ عَنْ "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ".
فرع: لَوْ تَرَكَ الِاضْطِبَاعَ وَالرَّمَلَ وَالِاسْتِلَامَ وَالتَّقْبِيلَ وَالدُّعَاءَ فِي الطَّوَافِ فَطَوَافُهُ صَحِيحٌ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، لَكِنْ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَهُوَ مُسِيءٌ، يَعْنُونَ إسَاءَةً لَا إثْمَ فِيهَا، وَدَلِيلُ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
فَرْعٌ: اتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَرْمُلُ وَلَا تَضْطَبِعُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ. قَالَ الدَّارِمِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَغَيْرُهُمَا: وَلَوْ رَكِبَتْ دَابَّةً أَوْ حُمِلَتْ فِي الطَّوَافِ لِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ لَمْ تَضْطَبِعْ وَلَا يَرْمُلُ حَامِلُهَا. قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: سَوَاءٌ فِي هَذَا الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ وَالصَّحِيحَةُ وَالْمَرِيضَةُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفُتُوحِ وَصَاحِبُ "الْبَيَانِ": وَالْخُنْثَى فِي هَذَا كَالْمَرْأَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ ثُمَّ الْبَيْهَقِيُّ بِمَا رَوَيَاهُ فِي "الصَّحِيحِ" عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ "لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ سَعْيٌ1 بِالْبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ".
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَجُوزُ الْكَلَامُ فِي الطَّوَافِ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ فِيهِ الْكَلَامَ" وَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ إلَّا بِسُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمَحَا عَنْهُ عَشْرَ سَيِّئَاتٍ وَرَفَعَ لَهُ عَشْرَ دَرَجَاتٍ".
الشرح: حَدِيثُ "الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ" سَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَائِلِ أَحْكَامِ الطَّوَافِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ لَا مَرْفُوعٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ فَغَرِيبٌ لَا أَعْلَمُ مَنْ رَوَاهُ. وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِمَا الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "أَقِلُّوا الْكَلَامَ فِي الطَّوَافِ إنَّمَا أَنْتُمْ فِي صَلَاةٍ"

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المقصود أن النساء ليس عليهن سعي ولكن عليهن المشي رمل ولا هرولة وإنما هو السير هوينا (ط).

 

ج / 8 ص -41-         وَبِإِسْنَادِهِمَا الصَّحِيحِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: "طُفْتُ خَلْفَ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ فَمَا سَمِعْتُ وَاحِدًا مِنْهُمَا مُتَكَلِّمًا حَتَّى فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ".
أما الأحكام: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يَجُوزُ الْكَلَامُ فِي الطَّوَافِ وَلَا يَبْطُلُ بِهِ وَلَا يُكْرَهُ، لَكِنَّ الْأَوْلَى تَرْكُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَلَامًا فِي خَيْرٍ، كَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ أَوْ تَعْلِيمِ جَاهِلٍ أَوْ جَوَابِ فَتْوَى وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِإِنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إلَى إنْسَانٍ بِسَيْرٍ أَوْ بِخَيْطٍ أَوْ شَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ، فَقَطَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: قُدْ بِيَدِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَهَذَا الْقَطْعُ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكْرَهْ إزَالَةَ هَذَا الْمُنْكَرِ إلَّا بِقَطْعِهِ، أَوْ أَنَّهُ أَدَلُّ عَلَى صَاحِبِهِ فَتَصَرَّفَ فِيهِ. قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ فِي طَوَافِهِ خَاشِعًا مُتَخَشِّعًا حَاضِرَ الْقَلْبِ مُلَازِمَ الْأَدَبِ بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَفِي هَيْئَتِهِ وَحَرَكَتِهِ وَنَظَرِهِ، فَإِنَّ الطَّوَافَ صَلَاةٌ فَيَتَأَدَّبُ بِآدَابِهَا وَيَسْتَشْعِرُ بِقَلْبِهِ عَظَمَةَ مَنْ يَطُوفُ بِبَيْتِهِ.
وَيُكْرَهُ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ فِي الطَّوَافِ، وَكَرَاهَةُ الشُّرْبِ أَخَفُّ، وَلَا يَبْطُلُ الطَّوَافُ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا بِهِمَا جَمِيعًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا بَأْسَ بِشُرْبِ الْمَاءِ فِي الطَّوَافِ وَلَا أَكْرَهُهُ، بِمَعْنَى الْمَأْثَمِ، لَكِنِّي أُحِبُّ تَرْكَهُ لِأَنَّ تَرْكَهُ أَحْسَنُ فِي الْأَدَبِ. وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى كَرَاهَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَأَنَّ الشُّرْبَ أَخَفُّ صَاحِبُ "الْحَاوِي"، قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْإِمْلَاءِ": رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ شَرِبَ وَهُوَ يَطُوفُ. قَالَ وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ لَا يَثْبُتُ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ وَهُوَ يَطُوفُ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَعَلَّهُ أَرَادَ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ مَاءً فِي الطَّوَافِ" وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ بِهَذَا اللَّفْظِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: يُكْرَهُ لِلطَّائِفِ وَضْعُ يَدِهِ عَلَى فِيهِ، كَمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ إلَيْهِ أَوْ يَتَثَاءَبَ، فَإِنَّ السُّنَّةَ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ عِنْدَ التَّثَاؤُبِ، لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"إذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ عَلَى فِيهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فرع: يُكْرَهُ أَنْ يُشَبِّكَ أَصَابِعَهُ أَوْ يُفَرْقِعَ بِهَا، كَمَا يُكْرَهُ
فِي الصَّلَاةِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَطُوفَ وَهُوَ يُدَافِعُ الْبَوْلَ أَوْ الْغَائِطَ أَوْ الرِّيحَ، أَوْ وَهُوَ شَدِيدُ التَّوَقَانِ إلَى الْأَكْلِ، وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، كَمَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ.
فرع: يَلْزَمُهُ أَنْ يَصُونَ نَظَرَهُ عَمَّنْ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ، مِنْ امْرَأَةٍ أَوْ أَمْرَدَ حَسَنِ الصُّورَةِ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَى الْأَمْرَدِ وَالْحَسَنِ بِكُلِّ حَالٍ إلَّا لِحَاجَةٍ شَرْعِيَّةٍ كَمَا جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ، وَسَنُوَضِّحُهُ هُنَاكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، لَا سِيَّمَا فِي هَذَا الْمَوْطِنِ الشَّرِيفِ، وَيَصُونُ نَظَرَهُ وَقَلْبَهُ عَنْ احْتِقَارِ مَنْ يَرَاهُ مِنْ الضُّعَفَاءِ وَغَيْرِهِمْ، كَمَنْ فِي بَدَنِهِ نَقْصٌ، وَكَمَنْ جَهِلَ شَيْئًا مِنْ الْمَنَاسِكِ أَوْ غَلِطَ فِيهِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُعَلِّمَ الصَّوَابَ بِرِفْقٍ. وَقَدْ جَاءَتْ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ فِي تَعْجِيلِ عُقُوبَةِ كَثِيرٍ مِمَّنْ أَسَاءَ الْأَدَبَ فِي الطَّوَافِ كَمَنْ نَظَرَ امْرَأَةً وَنَحْوَهَا. وَذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ مِنْ ذَلِكَ جُمَلًا فِي "تَارِيخِ مَكَّةَ"، وَهَذَا الْأَمْرُ مِمَّا يَتَأَكَّدُ الِاعْتِنَاءُ بِهِ لِأَنَّهُ فِي أَشْرَفِ الْأَرْضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ وَهُوَ فِي الطَّوَافِ أَوْ عَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا قَطَعَ الطَّوَافَ فَإِنْ فَرَغَ بَنَى، لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما
"كَانَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ،

 

ج / 8 ص -42-         فَلَمَّا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ بَنَى عَلَى طَوَافِهِ" وَإِنْ أَحْدَثَ وَهُوَ فِي الطَّوَافِ تَوَضَّأَ وَبَنَى لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إفْرَادُ بَعْضِهِ عَنْ بَعْضٍ فَإِذَا بَطَلَ مَا صَادَفَهُ الْحَدَثُ مِنْهُ لَمْ يَبْطُلْ الْبَاقِي فَجَازَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَيْهِ.
الشرح: قَالَ أَصْحَابُنَا: يَنْبَغِي لِلطَّائِفِ أَنْ يُوَالِيَ طَوَافَهُ، فَلَا يُفَرِّقَ بَيْنَ الطَّوْفَاتِ السَّبْعِ، وَفِي هَذِهِ الْمُوَالَاةِ قَوْلَانِ الصَّحِيحُ: الْجَدِيدُ أَنَّهَا سُنَّةٌ، فَلَوْ فَرَّقَ تَفْرِيقًا كَثِيرًا بِغَيْرِ عُذْرٍ لَا يَبْطُلُ طَوَافُهُ، بَلْ يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْهُ، وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ بَيْنَهُمَا، وَبِهَذَا قَطَعَ كَثِيرُونَ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ والثاني: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَيَبْطُلُ الطَّوَافُ بِالتَّفْرِيقِ الْكَثِيرِ بِلَا عُذْرٍ، فَعَلَى هَذَا إنْ فَرَّقَ يَسِيرًا لَمْ يَضُرَّ. وَإِنْ فَرَّقَ كَثِيرًا لِعُذْرٍ فَفِيهِ طَرِيقَانِ كَمَا سَبَقَ فِي الْوُضُوءِ وَالْمَذْهَبُ: جَوَازُ التَّفْرِيقِ مُطْلَقًا قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: التَّفْرِيقُ الْكَثِيرُ هُوَ مَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ تَرْكُهُ الطَّوَافَ.
وَلَوْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ، إنْ كَانَ طَوَافَ نَفْلٍ اُسْتُحِبَّ قَطْعُهُ لِيُصَلِّيَهَا ثُمَّ يَبْنِيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ طَوَافًا مَفْرُوضًا كُرِهَ قَطْعُهُ لَهَا. قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ: إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ أَوْ عَرَضَتْ لَهُ حَاجَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ قَطَعَهُ، فَإِذَا فَرَغَ بَنَى إنْ لَمْ يَطُلْ الْفَصْلُ، وَكَذَا إنْ طَالَ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ.
قَالَ الْبَغَوِيّ وَآخَرُونَ: إذَا كَانَ الطَّوَافُ فَرْضًا كُرِهَ قَطْعُهُ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَلِسُنَّةِ الضُّحَى وَالْوِتْرِ وَغَيْرِهَا مِنْ الرَّوَاتِبِ، لِأَنَّ الطَّوَافَ فَرْضُ عَيْنٍ وَلَا يُقْطَعُ لِنَفْلٍ وَلَا لِفَرْضِ كِفَايَةٍ، قَالُوا: وَكَذَا حُكْمُ السَّعْيِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي "الْأُمِّ" عَلَى هَذَا كُلِّهِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ" عَنْ الْأُمِّ فَقَالَ " قَالَ فِي "الْأُمِّ": إنْ كَانَ فِي طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَأُقِيمَتْ الصَّلَاةُ أَحْبَبْتُ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ ثُمَّ يَعُودَ إلَى طَوَافِهِ وَيَبْنِيَ عَلَيْهِ، وَإِنْ خَشِيَ فَوَاتَ الْوِتْرِ أَوْ سُنَّةِ الضُّحَى أَوْ حَضَرَتْ جِنَازَةٌ فَلَا أُحِبُّ تَرْكَ الطَّوَافِ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِئَلَّا يَقْطَعَ فَرْضًا لِنَفْلٍ أَوْ فَرْضِ كِفَايَةٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا إذَا أَحْدَثَ فِي طَوَافِهِ - فَإِنْ كَانَ عَمْدًا - فَطَرِيقَانِ أحدهما: وَهُوَ الْمَشْهُورُ فِي كُتُبِ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ، فِيهِ قَوْلَانِ أَصَحُّهُمَا: وَهُوَ الْجَدِيدُ: لَا يَبْطُلُ مَا مَضَى مِنْ طَوَافِهِ، فَيَتَوَضَّأُ وَيَبْنِي عَلَيْهِ والثاني: وَهُوَ الْقَدِيمُ يَبْطُلُ فَيَجِبُ الِاسْتِئْنَافُ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: وَبِهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ" وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَآخَرُونَ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ إنْ قَرُبَ الْفَصْلُ بِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِنْ طَالَ فَقَوْلَانِ الْأَصَحُّ: الْجَدِيدُ يَبْنِي "وَالْقَدِيمُ" يَجِبُ الِاسْتِئْنَافُ. وَاحْتَجَّ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الْبِنَاءِ عَلَى قُرْبٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْقُعُودَ الْيَسِيرَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ لِلِاسْتِرَاحَةِ لَا يَضُرُّ. وَهَذَا الِاسْتِدْلَال ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمُحْدِثَ عَمْدًا مُقَصِّرٌ، وَمَعَ مُنَافَاةِ1 الْحَدَثِ فُحْشُهُ. هَذَا كُلُّهُ فِي الْحَدَثِ عَمْدًا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَحُكْمُ الْحَدَثِ سَهْوًا كَالْعَمْدِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يعني الشيخ بأن الطواف مناف للحدث فضلاً عن فحشه (ط).

 

ج / 8 ص -43-         وَأَمَّا سَبْقُ الْحَدَثِ فَإِنْ قُلْنَا يَبْنِي الْعَامِدُ فَهَذَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَقَوْلَانِ كَسَبْقِ الْحَدَثِ فِي الصَّلَاةِ أحدهما: يَبْنِي والثاني: يَسْتَأْنِفُ، وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُمَا: إنْ قُلْنَا سَبْقُ الْحَدَثِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَالطَّوَافُ أَوْلَى أَنْ لَا يُبْطِلَ. وَإِنْ قُلْنَا يُبْطِلُهَا: فَهُوَ كَالْحَدَثِ فِي الطَّوَافِ عَمْدًا. وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ نَحْوَ هَذَا فَقَالَ: إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الطَّوَافِ.
قَالَ الْأَصْحَابُ: إنْ قُلْنَا: سَبْقُ الْحَدَثِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ فَالطَّوَافُ أَوْلَى، وَإِنْ قُلْنَا يُبْطِلُهَا فَفِي إبْطَالِهِ الطَّوَافَ قَوْلَانِ. قَالَ وَالْفَرْقُ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي حُكْمِ خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ الطَّوَافِ وَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ بِالْكَلَامِ عَمْدًا وَكَثْرَةِ الْأَفْعَالِ. وَقَطَعَ الْبَغَوِيّ بِأَنَّ مَنْ سَبَقَهُ الْحَدَثُ يَبْنِي عَلَى طَوَافِهِ. وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: إنْ أَحْدَثَ الطَّائِفُ فَتَوَضَّأَ وَعَادَ قَرِيبًا بَنَى، نَصَّ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَالْقَيْصَرِيُّ: فِيهِ قَوْلَانِ كَالصَّلَاةِ، قَالَ: فَعَلَى هَذَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالسَّبْقِ كَالصَّلَاةِ. قَالَ: وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ قَوْلًا وَاحِدًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ. فَهَذِهِ طُرُقُ الْأَصْحَابِ وَهِيَ مُتَقَارِبَةٌ وَمُتَّفِقَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ جَوَازُ الْبِنَاءِ مُطْلَقًا فِي الْعَمْدِ وَالسَّهْوِ وَقُرْبِ الزَّمَانِ وَطُولِهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَحَيْثُ لَا نُوجِبُ الِاسْتِئْنَافَ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ فَنَسْتَحِبُّهُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: حَيْثُ قَطَعَ الطَّوَافَ فِي أَثْنَائِهِ بِحَدَثٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَقُلْنَا: يَبْنِي عَلَى الْمَاضِي فَظَاهِرُ عِبَارَةِ جُمْهُورِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ يَبْنِي مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ وَصَلَ إلَيْهِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي "الْحَاوِي": إنْ كَانَ خُرُوجُهُ مِنْ الطَّوَافِ عِنْدَ إكْمَالِ طَوْفَةٍ بِوُصُولِهِ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ عَادَ فَابْتَدَأَ الطَّوْفَةَ الَّتِي تَلِيهَا مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُ فِي أَثْنَاءِ طَوْفَةٍ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَوَجْهَانِ أحدهما: يَسْتَأْنِفُ هَذِهِ الطَّوْفَةَ مِنْ أَوَّلِهَا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ طَوْفَةٍ حُكْمَ نَفْسِهَا وَأَصَحُّهُمَا: يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى مِنْهَا وَيَبْتَدِئُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ وَصَلَهُ. وَحَكَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَيْضًا الدَّارِمِيُّ وَصَحَّحَ الْبِنَاءَ، كَمَا صَحَّحَهُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الطَّوَافِ صَلَّى رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَهَلْ يَجِبُ ذَلِكَ [أَمْ لَا]؟ فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ والثاني: لَا يَجِبُ، لِأَنَّهَا صَلَاةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَلَمْ تَجِبْ بِالشَّرْعِ عَلَى الْأَعْيَانِ كَسَائِرِ النَّوَافِلِ. وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا عِنْدَ الْمَقَامِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ" فَإِنْ صَلَّاهُمَا فِي مَكَان آخَرَ جَازَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه "طَافَ بَعْدَ الصُّبْحِ، وَلَمْ يَرَ أَنَّ الشَّمْسَ قَدْ طَلَعَتْ فَرَكِبَ، فَلَمَّا أَتَى ذَا طُوًى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما "يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي الْبَيْتِ".
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَفِي الثَّانِيَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الأخلاص: 1] لِمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "قَرَأَ فِي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ثُمَّ يَعُودُ إلَى الرُّكْنِ فَيَسْتَلِمُهُ وَيَخْرُجُ مِنْ بَابِ الصَّفَا لِمَا رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَافَ سَبْعًا وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا".

 

ج / 8 ص -44-         الشرح: أَحَادِيثُ جَابِرٍ الثَّلَاثَةُ رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" بِمَعْنَاهُ، وَهِيَ كُلُّهَا بَعْضٌ مِنْ حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي صِفَةِ حَجِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهَذَا لَفْظُهُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "دَخَلْنَا عَلَى جَابِرٍ فَقَالَ جَابِرٌ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا ثُمَّ نَفَرَ إلَى مَقَامِ إبْرَاهِيمَ فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَكَانَ أَبِي يَقُولُ، وَلَا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إلَّا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} ثُمَّ رَجَعَ إلَى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ الْبَابِ إلَى الصَّفَا" هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"فَلَمَّا طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ إلَى الْمَقَامِ وَقَالَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ" وَإِسْنَادُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا فِي "صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ" و"مُسْلِمٍ" عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
"قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ثُمَّ صَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ" وَفِي رِوَايَةٍ: "ثُمَّ خَرَجَ إلَى الصَّفَا" وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَافَ بِالْبَيْتِ فَرَمَلَ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ثَلَاثًا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ قَرَأَ فِيهِمَا: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}. و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: كَذَا وَجَدْتُهُ، وَإِسْنَادُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه وَصَلَاتُهُ بِذِي طُوًى فَصَحِيحٌ، رَوَاهُ مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ" بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، بِلَفْظِهِ الَّذِي فِي "الْمُهَذَّبِ"، وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه تَعْلِيقًا أَنَّهُ صَلَّى رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ خَارِجَ الْحَرَمِ فَقَالَ فَصَلَّى عُمَرُ خَارِجًا مِنْ الْحَرَمِ.
وَاسْتَدَلَّ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا فِي الْمَسْأَلَةِ بِمَا رَوَاهُ فِي "صَحِيحِهِ" بِإِسْنَادِهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ:
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا حِينَ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ "إذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ فَطُوفِي عَلَى بَعِيرِكِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْفَصْلِ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] قُرِئَ فِي السَّبْعِ بِوَجْهَيْنِ - فَتْحِ الْخَاءِ وَكَسْرِهَا - عَلَى الْخَبَرِ وَعَلَى الْأَمْرِ. فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ اسْتِدْلَالُ الْمُصَنِّفِ بِهَذِهِ الْآيَةِ؟ مَعَ أَنَّ الَّذِي فِيهَا إنَّمَا هُوَ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ وَلَا يَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةَ الطَّوَافِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ غَيْرَ صَلَاةِ الطَّوَافِ لَا يَجِبُ عِنْدَ الْمَقَامِ بِالْإِجْمَاعِ فَتَعَيَّنَتْ هِيَ فَإِنْ قِيلَ: فَأَنْتُمْ لَا تَشْتَرِطُونَ وُقُوعَهَا خَلْفَ الْمَقَامِ، بَلْ تَجُوزُ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ قُلْنَا: مَعْنَى الْآيَةِ الْأَمْرُ بِصَلَاةٍ هُنَاكَ، وَقَامَتْ الدَّلَائِلُ السَّابِقَةُ عَلَى أَنَّهَا يَجُوزُ فِعْلُهَا فِي غَيْرِ الْمَقَامِ1، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الفخر الرازي في "مفاتيح الغيب" عند قوله تعالى:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125]: فيه مسائل الأولى: قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وعاصم والكسائي (واتخذوا) بكسر الخاء على صيغة الأمر، وقرأ نافع وابن عامر بفتح الخاء على صيغة الخبر (أما القراءة الأولى) فقوله: واتخذوا عطف على ماذا؟ وفيه أقوال الأول: أنه عطف على قوله: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ}، {وَاتَّخِذُوا =

 

ج / 8 ص -45-         وَقَوْلُهُ: "فَلَمْ تَجِبْ بِالشَّرْعِ" احْتِرَازٌ مِنْ النَّذْرِ. وَقَوْلُهُ: "عَلَى الْأَعْيَانِ" احْتِرَازٌ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَإِنَّهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
=
مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [الأعراف: 171] الثاني: أنه عطف على قوله: (إني جاعلك للناس إماماً) والمعنى أنه لما ابتلاه بكلمات واتهمن قال له: جزاء لما فعلته من ذلك: إني جاعلك للناس إماماً وقال: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}. ويجوز أن يكون أمر بهذا ولده إلا أنه تعالى أضمر قوله وقال: ونظيره قوله تعالى: {وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} [الأعراف: 171] الثالث: أن هذا أمر من الله تعالى لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، وهو كلام اعتراض في خلال ذكر قصة إبراهيم عليه السلام وكان وجهه: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} والتقدير أنا لما شرفناه ووصفناه بكونه مثابة للناس وأمناً فاتخذوه أنتم قبلة لأنفسكم والواو والفاء قد يذكر كل واحد منهما في هذا الموضوع وإن كانت الفاء أما من قرأ واتخذوا بالفتح فهو إخبار عن ولد إبراهيم أنهم اتخذوا من مقامه مصلى فيكون هذا عطفاً على جعلنا البيت واتخذوا مصلى، ويجوز أن يكون عطفاً على: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ} وإذ اتخذوا مصلى المسألة الثانية: ذكروا أقوالاً في أن مقام إبراهيم عليه السلام أي شي هو؟ القول الأول: أنه موضع الحجر الذي قام عليه إبراهيم عليه السلام ثم هؤلاء ذكروا وجهين:
أحدهما: أنه هو الحجر الذي كانت زوجة إسماعيل وضعته تحت قدم إبراهيم عليه السلام حين غسلت رأسه فوضع إبراهيم عليه السلام رجله عليه وهو راكب فغسلت أحد شقي رأسه ثم رفعته من تحته وقد غاصت رجله في الحجر فوضعته تحت الرجل الأخرى فغاصت رجله أيضاً فيه فجعله الله تعالى من معجزاته، وهذا قول قتادة والحسن والربيع من أنس.
وثانيهما: ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان:
{رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عليه الصلاة والسلام عن وضع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم عليه السلام.
القول الثاني: أن مقام إبراهيم الحرم كله، وهو قول مجاهد.
الثالث: أنه عرفة والمزدلفة والجمار. وهو قول عطاء.
الرابع: الحج كله مقام إبراهيم وهو قول ابن عباس واتفق المحققون على أن القول الأول أولى، ويدل عليه وجوه:
الأول: ما روى جابر أنه عليه السلام لما فرغ من الطواف أتى المقام وتلا قوله تعالى:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] فقراءة هذه اللفظة عند ذلك الموضع تدل على أن المراد من هذه اللفظة هو ذلك الموضع ظاهراً.
وثانيها: أن هذا الاسم في العرف مختص بذلك الموضع، والدليل عليه أن سائلاً لو سأل المكي بمكة عن مقام إبراهيم لم يجبه ولم يفهم منه إلا هذا الموضع.
وثالثهما: ما روي أنه عليه السلام مر بالمقام ومعه عمر فقال:
يا رسول الله أليس هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: بلى قال: أفلا تتخذه مصلى؟ قال: لم أمر تغب الشمس من يومهم حتى نزلت الآية.
ورابعها: أن الحجر صار تحت قدميه في رطوبة الطين حتى غاصت فيه رجلا إبراهيم عليه السلام وذلك من أظهر الدلائل على وحدانية الله تعالى ومعجزة إبراهيم عليه السلام، فكان اختصاصه بإبراهيم أولى من اختصاص غيره به فكان إطلاق هذا الاسم عليه أولى.
وخامسها: أنه تعالى قال:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] وليس للصلاة تعلق بالحرم ولا بسائر المواضع إلا بهذا الموضع فوجب أن يكون مقام إبراهيم هو هذا الموضع.
وسادسها: أن مقام إبراهيم هو موضع قيامه وثبت بالأخبار أنه قام على هذا الحجر عند المغتسل، ولم يثبت =

 

ج / 8 ص -46-         فَرْضُ كِفَايَةٍ وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ قَوْلُهُ: رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بِصِيغَةِ تَمْرِيضٍ، مَعَ أَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ، وَقَدْ سَبَقَ التَّنْبِيهُ عَلَى أَمْثَالِ هَذَا مَرَّاتٍ. وَفِي فِعْلِ عُمَرَ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَرَى كَرَاهَةَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ. وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهَا، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي بَابِهَا، وَسَأُعِيدُ بَعْضَهَا هُنَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَسَائِلِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ. وَقَوْلُهُ "ثُمَّ يَعُودُ إلَى الرُّكْنِ فَيَسْتَلِمُهُ" الْمُرَادُ بِهِ الرُّكْنُ الْأَسْوَدُ، وَهُوَ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ.
أما الأحكام: فَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ طَافَ أَنْ يُصَلِّيَ بَعْدَهُ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ الْمَقَامِ، لِمَا سَبَقَ مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَهَلْ هُمَا وَاجِبَتَانِ أَمْ سُنَّتَانِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أحدهما: بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ سُنَّةٌ.
والثاني: وَاجِبَتَانِ. ثُمَّ الْجُمْهُورُ أَطْلَقُوا الْقَوْلَيْنِ وَلَمْ يَذْكُرُوا أَيْنَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِمَا، مَعَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى أَنَّ الْأَصَحَّ كَوْنُهُمَا سُنَّةً.
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي "جَامِعِه"ِ: نَصَّ فِي "الْجَدِيدِ" أَنَّهُمَا سُنَّةٌ. قَالَ: وَظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي "الْقَدِيمِ" أَنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ.
وَشَذَّ الْمَاوَرْدِيُّ عَنْ الْأَصْحَابِ فَقَالَ: عَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ فَخَرَّجَهُمَا أَصْحَابُنَا عَلَى وَجْهَيْنِ أحدهما: وَاجِبَتَانِ والثاني: سُنَّتَانِ، وَكَذَا حَكَاهُمَا الدَّارِمِيُّ وَجْهَيْنِ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُمَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= قيامه على غيره فحمل هذا اللفظ أعني مقام إبراهيم عليه السلام على الحجر الذي يكون أولى قال القفال: ومن فسر مقام إبراهيم بالحجر خرج عن قوله:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} على مجاز قول الرجل: اتخذت من فلان صديقاً وقد أعطاني الله من فلان أخاً صالحاً ووهب الله لي منك ولياً مشفقاً، وإنما تدخل من البيان المتخذ الموصوف وتميزه في ذلك المعنى من غيره والله أعلم.
المسألة الثالثة: ذكروا في المراد بقوله
{مُصَلّىً} وجوهاً:
أحدها: المصلى المعي فجعله من الصلاة التي هي الدعاء قال تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] وهو قول مجاهد، وإنما ذهب إلى هذه التأويل ليتم له قوله: إن كل الحرم مقام إبراهيم.
وثانيها: قال الحسن: أراد به قبلة.
وثالثها: قال قتادة والسدي: أمروا أن يصلوا عنده قال أهل التحقيق: وهذا القول أولى لأن لفظ الصلاة إذا أطلق يعقل منه الصلاة المفعولة بركوع وسجود. ألا ترى أن مصلى المصر هو الموضع الذي يصلي فيه صلاة العيد. وقال عليه السلام لأسامة بن زيد: المصلى أمامك. يعني به موضع الصلاة المفعولة. وقد دل عليه أيضاً فعل النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة عنده بعد تلاوة الآية، ولأن حملها على الصلاة المعهودة أولى لأنها جامعة لسائر المعاني التي فسروا الآية بها، وههنا بحث فقهي، وهو أن ركعتي الطواف فرض أم سنة؟ ينظر إن كان الطواف فرضاً فللشافعي رضي الله عنه فيه قولان:
أحدهما: فرض لقوله تعالى:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة: 125] والأمر للوجوب.
والثاني: سنة لقوله عليه السلام للأعرابي حين قال: هل علي غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع. وإن كان الطواف نقلاً مثل طواف القدوم فركعتاه سنة والرواية عن أبي حنيفة مختلفة أيضاً في هذه المسألة والله أعلم.

 

ج / 8 ص -47-         قَوْلَانِ مَنْصُوصَانِ. هَذَا إذَا كَانَ الطَّوَافُ فَرْضًا، فَإِنْ كَانَ نَفْلًا كَطَوَافِ الْقُدُومِ وَغَيْرِهِ، فَطَرِيقَانِ مَشْهُورَانِ فِي كُتُبِ الْخُرَاسَانِيِّينَ حَكَاهُمَا الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ مِنْهُمْ، وَصَاحِبُ "الْبَيَانِ" وَغَيْرُهُ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ أَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الْقَاضِي وَالْإِمَامِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ الْقَطْعُ بِأَنَّهُمَا سُنَّةٌ والثاني: أَنَّ فِيهِمَا الْقَوْلَيْنِ، وَهَذَا ظَاهِرُ كَلَامِ جُمْهُورِ الْعِرَاقِيِّينَ، وَصَحَّحَهُ صَاحِبُ "الْبَيَانِ" وَنَقَلَهُ الْقَاضِي حُسَيْنٌ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُمَا عَنْ ابْنِ الْحَدَّادِ وَغَلَّطُوهُ فِيهِ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إذَا كَانَ الطَّوَافُ نَفْلًا فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بَعْدَهُ الرَّكْعَتَانِ قَالَ: وَنَقَلَ الْأَصْحَابُ عَنْ ابْنِ الْحَدَّادِ أَنَّهُ أَوْجَبَهُمَا، قَالَ: وَهَذَا بَعِيدٌ رَدَّهُ أَئِمَّةُ الْمَذْهَبِ قَالَ الْإِمَامُ: ثُمَّ مَا أَرَاهُ يَصِيرُ إلَى إيجَابِهِمَا عَلَى التَّحْقِيقِ، وَلَكِنَّهُ رَآهُمَا جُزْءًا مِنْ الطَّوَافِ، وَأَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ دُونَهُمَا، قَالَ: وَقَدْ قَالَ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِهِ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي النَّفْلِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْفَرْضِ كَالطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا. قَالَ الْإِمَامُ: وَقَدْ يَتَحَقَّقُ مِنْ مَعَانِي كَلَامِ الْأَصْحَابِ خِلَافٌ فِي أَنَّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ مَعْدُودَتَانِ مِنْ الطَّوَافِ؟ أَمْ لَهُمَا حُكْمُ الِانْفِصَالِ عَنْهُ؟ هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ. وَقَالَ الْبَغَوِيّ فِي تَوْجِيهِ قَوْلِ ابْنِ الْحَدَّادِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَيَقْتَضِي وَاجِبًا كَالنِّكَاحِ غَيْرَ وَاجِبٍ، وَيَقْتَضِي وُجُوبَ النَّفَقَةِ وَالْمَهْرِ.
فرع: قَالَ الرَّافِعِيُّ: رَكْعَتَا الطَّوَافِ وَإِنْ أَوْجَبْنَاهُمَا فَلَيْسَتَا بِشَرْطٍ فِي صِحَّتِهِ وَلَا رُكْنًا مِنْهُ، بَلْ يَصِحُّ الطَّوَافُ بِدُونِهِمَا، قَالَ وَفِي تَعْلِيلِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَصْحَابِ مَا يَقْتَضِي اشْتِرَاطُهُمَا، هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِأَنَّهُمَا شَرْطٌ فِيهِ صَاحِبُ "الْبَيَانِ"، وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْقَوْلَيْنِ فِي وُجُوبِهِمَا يَجْرِيَانِ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّوَافُ سُنَّةً أَمْ وَاجِبًا، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الطَّوَافُ حَتَّى يَأْتِيَ بِالرَّكْعَتَيْنِ. هَذَا كَلَامُهُ، هُوَ غَلَطٌ مِنْهُ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُمَا لَيْسَتَا بِشَرْطٍ وَلَا رُكْنًا لِلطَّوَافِ، بَلْ يَصِحُّ بِدُونِهِمَا.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَمِمَّا يَتَعَيَّنُ التَّنْبِيهُ لَهُ أَنَّا وَإِنْ فَرَّعْنَا عَلَى وُجُوبِ الرَّكْعَتَيْنِ وَحَكَمْنَا بِأَنَّهُمَا مَعْدُودَتَانِ مِنْ الطَّوَافِ فَلَا يَنْتَهِي الْأَمْرُ إلَى تَنْزِيلِهِمَا مَنْزِلَةَ شَوْطٍ مِنْ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ هَذَا يَتَضَمَّنُ الْحُكْمَ بِكَوْنِهِمَا رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الطَّوَافِ الْوَاقِعِ رُكْنًا، وَلَمْ يَصِلْ إلَى هَذَا أَحَدٌ. قَالَ: وَبِهَذَا يَبْعُدُ عَدُّهُمَا مِنْ الطَّوَافِ. هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا قُلْنَا: رَكْعَتَا الطَّوَافِ وَاجِبَتَانِ لَمْ تَسْقُطْ بِفِعْلِ فَرِيضَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، كَمَا لَا تَسْقُطُ صَلَاةُ الظُّهْرِ بِفِعْلِ الْعَصْرِ. وَإِذَا قُلْنَا هُمَا سُنَّةٌ فَصَلَّى فَرِيضَةً بَعْدَ الطَّوَافِ أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا كَتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي "الْقَدِيمِ" وَحَكَاهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يَذْكُرْ خِلَافَهُ، وَصَرَّحَ بِهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ مِنْهُمْ الصَّيْدَلَانِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْبَغَوِيُّ وَصَاحِبَا "الْعُدَّةِ" و"الْبَيَانِ" وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ. وَحَكَاهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ الصَّيْدَلَانِيِّ: ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ، قَالَ: وَالْأَصْحَابُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ لِأَنَّ الطَّوَافَ يَقْتَضِي صَلَاةً مَخْصُوصَةً بِخِلَافِ تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ حَقَّ الْمَسْجِدِ أَنْ لَا يَجْلِسَ فِيهِ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ. هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ وَهُوَ شَاذٌّ، وَالْمَذْهَبُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ وَنَقَلَهُ الْأَصْحَابُ، وَعَجَبٌ دَعْوَى إمَامِ الْحَرَمَيْنِ مَا ادَّعَاهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا قُلْنَا صَلَاةُ الطَّوَافِ سُنَّةٌ جَازَ فِعْلُهَا قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ كَسَائِرِ النَّوَافِلِ، وَإِنْ قُلْنَا

 

ج / 8 ص -48-         وَاجِبَةٌ فَهَلْ يَجُوزُ فِعْلُهَا قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الصَّيْمَرِيُّ وَصَاحِبُهُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي "الْحَاوِي" وَصَاحِبُ "الْبَيَانِ" أَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ كَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ والثاني: يَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ الطَّوَافُ رَاكِبًا وَمَحْمُولًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَشْيِ، وَالصَّلَاةُ تَابِعَةٌ لِلطَّوَافِ.
فرع: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي هَاتَيْنِ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ فِي الْأُولَى
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}. وفي الثَّانِيَةِ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وَيَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ لَيْلًا وَيُسِرُّ نَهَارًا، كَصَلَاةِ الْكُسُوفَ وَغَيْرِهَا.
فرع: يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا خَلْفَ الْمَقَامِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَفِي الْحِجْرِ تَحْتَ الْمِيزَابِ، وَإِلَّا فَفِي الْمَسْجِدِ، وَإِلَّا فَفِي الْحَرَمِ، فَإِنْ صَلَّاهُمَا خَارِجَ الْحَرَمِ فِي وَطَنِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ صَحَّتْ وَأَجْزَأَتْهُ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَعَ مَا أَضَفْتُهُ إلَيْهِ. وَذَكَرَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تَعْلِيقِهِ" أَنَّهُ إذَا لَمْ يُصَلِّهِمَا حَتَّى رَجَعَ إلَى وَطَنِهِ، فَإِنْ قُلْنَا هُمَا وَاجِبَتَانِ صَلَّاهُمَا، وَإِنْ قُلْنَا: سُنَّةٌ فَهَلْ يُصَلِّيهِمَا؟ فِيهِ الْخِلَافُ فِي قَضَاءِ النَّوَافِلِ إذَا فَاتَتْ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ شَاذٌّ وَغَلَطٌ، بَلْ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَأَطْبَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ الْجَزْمُ بِأَنَّهُ يُصَلِّيهِمَا حَيْثُ كَانَ وَمَتَى كَانَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُ هَذِهِ الصَّلَاةِ فِي وَطَنِهِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَرْضِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا تَفُوتُ هَذِهِ الصَّلَاةُ مَا دَامَ حَيًّا. قَالَ أَصْحَابُنَا وَلَا يُجْبَرُ تَأْخِيرُهَا بِدَمٍ. وَكَذَا لَوْ مَاتَ لَا يُجْبَرُ تَرْكُهَا بِدَمٍ. هَكَذَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ تَصْرِيحًا وَإِشَارَةً. وَقَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تَعْلِيقِهِ". قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ لَمْ يُصَلِّهِمَا حَتَّى رَجَعَ إلَى وَطَنِهِ صَلَّاهُمَا وَأَرَاقَ دَمًا. قَالَ: وَإِرَاقَةُ الدَّمِ مُسْتَحَبَّةٌ لَا وَاجِبَةٌ. قَالَ: وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: إنَّ اسْتِحْبَابَ الْإِرَاقَةِ عَلَى قَوْلِنَا: تَجِبُ الصَّلَاةُ، لَا عَلَى قَوْلِنَا سُنَّةٌ، قَالَ الْقَاضِي: وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ الْأَصَحُّ أَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ مُسْتَحَبَّةٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ. هَذَا كَلَامُهُ وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ تَرَكَ هَذِهِ الصَّلَاةَ حَتَّى رَجَعَ إلَى وَطَنِهِ. حُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُرِيقَ دَمًا. قَالَ وَهَذَا عَلَى قَوْلِنَا: إنَّهُمَا وَاجِبَتَانِ قَالَ: وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ لِلتَّأْخِيرِ.
وَقَالَ صَاحِبَا "الْعُدَّةِ" و"الْبَيَانِ": قَالَ الشَّافِعِيُّ: إذَا لَمْ يُصَلِّهِمَا حَتَّى رَجَعَ إلَى وَطَنِهِ صَلَّاهُمَا وَأَرَاقَ دَمًا. قَالَا: قَالَ أَصْحَابُنَا: الدَّمُ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: صَرَّحَ الْأَصْحَابُ بِأَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَوْ فُعِلَتْ بَعْدَ الرُّجُوعِ إلَى الْوَطَنِ وَتَخَلُّلِ مُدَّةٍ وَقَعَتْ الْمَوْقِعَ وَلَا تَنْتَهِي إلَى الْقَضَاءِ وَالْفَوَاتِ. قَالَ: وَلَمْ تَتَعَرَّضْ الْأَئِمَّةُ لِجُبْرَانِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي وُجُوبِهِمَا، وَالسَّبَبُ فِيهِ أَنَّهُمَا لَا تَفُوتَانِ، وَالْجُبْرَانُ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ الْفَوَاتِ، فَإِنْ قُدِّرَ فَوَاتُهُمَا بِالْمَوْتِ لَمْ يَمْتَنِعْ وُجُوبُ جَبْرِهِمَا بِالدَّمِ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْمَجْبُورَاتِ. هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ، وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا لَمْ يُصَلِّ الرَّكْعَتَيْنِ حَتَّى رَجَعَ إلَى وَطَنِهِ وَقُلْنَا: هُمَا وَاجِبَتَانِ، فَهَلْ يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ مِنْ الْإِحْرَامِ قَبْلَ فِعْلِهِمَا؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: لَا يَحْصُلُ وَيَبْقَى مُحْرِمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِهِمَا لِأَنَّهُمَا كَالْجُزْءِ مِنْ الطَّوَافِ، وَلَوْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الطَّوَافِ لَمْ يَحْصُلْ التَّحَلُّلُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ قَطَعَ الدَّارِمِيُّ فِي كِتَابِهِ "الِاسْتِذْكَارِ"، وَحَكَاهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ" عَنْ حِكَايَةِ ابْنِ الْمَرْزُبَانِ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ

 

ج / 8 ص -49-         أَصْحَابِنَا وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ، وَلَا تَعَلُّقَ لِلصَّلَاةِ بِالتَّحَلُّلِ، بَلْ هِيَ عِبَادَةٌ مُنْفَرِدَةٌ، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ بَلْ الصَّوَابُ، صَحَّحَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَقَطَعَ بِهِ سَائِرُ الْأَصْحَابِ، وَالْأَوَّلُ غَلَطٌ صَرِيحٌ، وَإِنَّمَا أَذْكُرُهُ لِأُبَيِّنَ بُطْلَانَهُ لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: اتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى صِحَّةِ السَّعْيِ قَبْلَ صَلَاةِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَوَافَقَ عَلَيْهِ الدَّارِمِيُّ وَوَافَقَهُ عَلَى الْوَجْهِ الضَّعِيفِ الْمَذْكُورِ فِي الْفَرْعِ قَبْلَهُ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالْمَسْأَلَةِ الْقَاضِي أَبُو حَامِدٍ الْمَرْوَزِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ" وَالدَّارِمِيُّ وَآخَرُونَ.
فرع: إذَا أَرَادَ أَنْ يَطُوفَ فِي الْحَالِ طَوَافَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُصَلِّيَ عَقِبَ كُلِّ طَوَافٍ رَكْعَتَيْنِ، فَإِنْ طَافَ طَوَافَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ بِلَا صَلَاةٍ ثُمَّ صَلَّى لِكُلِّ طَوَافٍ رَكْعَتَيْنِ جَازَ، لَكِنْ تَرَكَ الْأَفْضَلَ، صَرَّحَ بِهِ جَمَاعَاتٌ مِنْ أَصْحَابِنَا، مِنْهُمْ الصَّيْمَرِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَصَاحِبَا "الْعُدَّةِ" و"الْبَيَانِ" وَغَيْرُهُمْ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُكْرَهُ ذَلِكَ. وَرَوَوْهُ عَنْ عَائِشَةَ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ.
قَالَ صَاحِبُ "الْبَيَانِ": قَالَ الصَّيْمَرِيُّ: لَوْ طَافَ أَسَابِيعَ مُتَّصِلَةً ثُمَّ رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ جَازَ، قَالَ صَاحِبُ "الْبَيَانِ": فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ إذَا قُلْنَا: هُمَا سُنَّةٌ، وَهَذَا الِاحْتِمَالُ الَّذِي قَالَهُ مُتَعَيَّنٌ، فَإِنَّا إذَا قُلْنَا هُمَا وَاجِبَتَانِ لَمْ يَتَدَاخَلَا، وَلَا بُدَّ مِنْ رَكْعَتَيْنِ لِكُلِّ طَوَافٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: تَمْتَازُ هَذِهِ الصَّلَاةُ عَنْ غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ بِشَيْءٍ، وَهِيَ أَنَّهَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ، فَإِنَّ الْأَجِيرَ فِي الْحَجِّ يُصَلِّيهَا وَتَقَعُ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ عَلَى أَصَحِّ الْوَجْهَيْنِ وَأَشْهَرِهِمَا والثاني: أَنَّهَا تَقَعُ عَنْ الْأَجِيرِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ أَعْمَالِ الْحَجِّ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَيْسَ فِي الشَّرْعِ صَلَاةٌ تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ غَيْرُ هَذِهِ، هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ، وَيَلْتَحِقُ بِالْأَجِيرِ وَلِيُّ الصَّبِيِّ كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي الْفَرْعِ الْمُتَّصِلِ بِهَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا كَانَ الصَّبِيُّ مُحْرِمًا، فَإِنْ كَانَ مُمَيِّزًا طَافَ بِنَفْسِهِ وَصَلَّى رَكْعَتَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ طَافَ بِهِ وَلِيُّهُ وَصَلَّى الْوَلِيُّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ بِلَا خِلَافٍ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ، وَسَبَقَ إيضَاحُهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحَجِّ فِي مَسَائِلِ حَجِّ الصَّبِيِّ، وَهَلْ تَقَعُ صَلَاةُ الْوَلِيِّ هَذِهِ عَنْ نَفْسِهِ أَمْ عَنْ الصَّبِيِّ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ "الْبَيَانِ" وَغَيْرُهُ أحدهما: عَنْ الْوَلِيِّ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلنِّيَابَةِ فِي الصَّلَاةِ وَأَصَحُّهُمَا: عَنْ الصَّبِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاصِّ تَبَعًا لِلطَّوَافِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ عَقِبَ صَلَاتِهِ هَذِهِ خَلْفَ الْمَقَامِ مِمَّا أَحَبَّ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، قَالَ صَاحِبُ "الْحَاوِي": يُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ بِمَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ: "
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ هَذَا بَلَدُكَ الْحَرَامُ وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَبَيْتُكَ الْحَرَامُ، وَأَنَا عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَ ابْنُ أَمَتِكَ، أَتَيْتُكَ بِذُنُوبٍ كَثِيرَةٍ وَخَطَايَا جَمَّةٍ وَأَعْمَالٍ سَيِّئَةٍ، وَهَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ النَّارِ فَاغْفِرْ لِي إنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، اللَّهُمَّ إنَّكَ دَعَوْتَ عِبَادَكَ إلَى بَيْتِكِ الْحَرَامِ، وَقَدْ جِئْتُ طَالِبًا رَحْمَتَكَ مُبْتَغِيًا مَرْضَاتَكَ، وَأَنْتَ مَنَنْتَ عَلَيَّ بِذَلِكَ، فَاغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
فرع: وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَعُودَ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَيَسْتَلِمُهُ ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَابِ الصَّفَا

 

ج / 8 ص -50-         لِلسَّعْيِ. وَسَنُعِيدُ الْمَسْأَلَةَ وَاضِحَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوَّلِ فَصْلِ السَّعْيِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

فرع: فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالطَّوَافِ.
إحداها: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ" وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَسَائِرُ الْأَصْحَابِ: مَتَى كَانَ عَلَيْهِ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ فَنَوَى غَيْرَهُ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ تَطَوُّعًا أَوْ وَدَاعًا أَوْ قَدْرَ مَا وَقَعَ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِتَطَوُّعِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ فَرْضُهُمَا فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ الْفَرْضُ. وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَطُوفَ فَطَافَ عَنْ غَيْرِهِ، قَالَ الرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ": إنْ كَانَ زَمَانُ النَّذْرِ مُعَيَّنًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَطُوفَ فِيهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ أَوْ مُعَيَّنًا وَطَافَ فِي غَيْرِهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِلنَّذْرِ. فَهَلْ يَصِحُّ أَنْ يَطُوفَ عَنْ غَيْرِهِ وَالنَّذْرُ فِي ذِمَّتِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: لَا يَجُوزُ كَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي "الْأُمِّ"، وَفِي "الْإِمْلَاءِ" وَجَمِيعُ الْأَصْحَابِ: لَوْ طَافَ الْمُحْرِمُ وَهُوَ لَابِسٌ الْمَخِيطَ وَنَحْوَهُ صَحَّ طَوَافُهُ وَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ اللُّبْسِ لَا يَخْتَصُّ بِالطَّوَافِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: هُوَ كَالصَّلَاةِ فِي ثَوْبِ حَرِيرٍ يَأْثَمُ وَتَصِحُّ.
الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ" وَالْأَصْحَابُ: يُكْرَهُ أَنْ يُسَمَّى الطَّوَافُ شَوْطًا وَكَرِهَهُ مُجَاهِدٌ أَيْضًا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ: كَرِهَ مُجَاهِدٌ أَنْ يُقَالَ شَوْطٌ أَوْ دَوْرٌ، وَلَكِنْ يَقُولُ طَوَافٌ وَطَوَافَانِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَكْرَهُ مَا كَرِهَ مُجَاهِدٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ طَوَافًا فَقَالَ تَعَالَى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" و"مُسْلِمٍ" عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ:
"أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْمُلُوا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الْأَشْوَاطَ كُلَّهَا إلَّا الْإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ" وَهَذَا الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مُقَدَّمٌ عَلَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ: ثُمَّ إنَّ الْكَرَاهَةَ إنَّمَا ثَبَتَتْ بِنَهْيِ الشَّرْعِ، وَلَمْ يَثْبُتْ فِي تَسْمِيَتِهِ شَوْطًا نَهْيٌ فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّابِعَةُ: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي التَّطَوُّعِ فِي الْمَسْجِدِ بِالصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فَقَالَ صَاحِبُ "الْحَاوِي": الطَّوَافُ أَفْضَلُ، وَظَاهِرُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ فِي قَوْلِهِ فِي بَابِ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ "أَفْضَلُ عِبَادَاتِ الْبَدَنِ الصَّلَاةُ" أَنَّ الصَّلَاةَ أَفْضَلُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: الصَّلَاةُ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَفْضَلُ، وَالطَّوَافُ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْخَامِسَةُ: قَالَ أَبُو دَاوُد فِي "سُنَنِهِ"، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"إنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْيُ الْجِمَارُ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ" هَذَا الْإِسْنَادُ كُلُّهُ صَحِيحٌ إلَّا عُبَيْدَ اللَّهِ فَضَعَّفَهُ أَكْثَرُهُمْ ضَعْفًا يَسِيرًا، وَلَمْ يُضَعِّفْ أَبُو دَاوُد هَذَا الْحَدِيثَ، فَهُوَ حَسَنٌ عِنْدَهُ كَمَا سَبَقَ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رِوَايَةِ عُبَيْدِ اللَّهِ هَذَا وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ حَسَنٌ صَحِيحٌ، فَلَعَلَّهُ اعْتَضَدَ بِرِوَايَةٍ أُخْرَى بِحَدِيثٍ اتَّصَفَ بِذَلِكَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

 

ج / 8 ص -51-         السَّادِسَةُ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ خَمْسِينَ مَرَّةً خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ هُوَ غَرِيبٌ، قَالَ: وَسَأَلْتُ الْبُخَارِيَّ عَنْهُ فَقَالَ إنَّمَا يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالطَّوَافِ.
قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا جَائِزٌ. وَأَمَّا صَلَاةُ الطَّوَافِ فَمَذْهَبُنَا جَوَازُهَا فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ بِلَا كَرَاهَةٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ ابْنَيْ عَلِيٍّ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَالْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَعُرْوَةَ وَمُجَاهِدٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ. وَكَرِهَهُمَا مَالِكٌ، ذَكَرَهُ فِي "الْمُوَطَّأِ"، وَذَكَرَ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه طَافَ بَعْدَ الصُّبْحِ فَنَظَرَ الشَّمْسَ فَلَمْ يَرَهَا طَلَعَتْ، فَرَكِبَ حَتَّى أَنَاخَ بِذِي طُوًى فَصَلَّى".
فرع: أَجْمَع الْمُسْلِمُونَ عَلَى اسْتِحْبَابِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا مَعَ ذَلِكَ تَقْبِيلُهُ وَالسُّجُودُ عَلَيْهِ بِوَضْعِ الْجَبْهَةِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ تَقْبِيلِهِ قَبَّلَ الْيَدَ بَعْدَهُ، وَمِمَّنْ قَالَ بِتَقْبِيلِ الْيَدِ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ وَعُرْوَةُ وَأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، حَكَاهُ عَنْهُمْ ابْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمَالِكٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَبِالْأَوَّلِ أَقُولُ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَعَلُوهُ، وَتَبِعَهُمْ جُمْلَةُ النَّاسِ عَلَيْهِ. وَرَوَيْنَاهُ أَيْضًا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
وَأَمَّا السُّجُودُ عَلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَبِهِ أَقُولُ، قَالَ وَقَدْ رَوَيْنَا فِيهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ مَالِكٌ هُوَ بِدْعَةٌ. وَاعْتَرَضَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْمَالِكِيُّ بِشُذُوذِ مَالِكٍ عَنْ الْجُمْهُورِ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، فَقَالَ: جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَقْبِيلُ الْيَدِ إلَّا مَالِكًا فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَالْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ فَقَالَا: لَا يُقَبِّلُهَا. قَالَ وَقَالَ جَمِيعُهُمْ: يَسْجُدُ عَلَيْهِ إلَّا مَالِكًا وَحْدَهُ فَقَالَ: بِدْعَةٌ.
فرع: أَمَّا الرُّكْنُ الْيَمَانِي فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ اسْتِلَامُهُ وَلَا يُقَبِّلُهُ، بَلْ يُقَبِّلُ الْيَدَ بَعْدَ اسْتِلَامِهِ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ جَابِرٍ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَسْتَلِمُهُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ يَسْتَلِمُهُ وَلَا يُقَبِّلُ الْيَدَ بَعْدَهُ، بَلْ يَضَعُهَا عَلَى فِيهِ، وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ يُقَبِّلُ يَدَهُ بَعْدَهُ. قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّهُ يُقَبِّلُهُ.
فرع: أَمَّا الرُّكْنَانِ الشَّامِيَّانِ، وَهُمَا اللَّذَانِ يَلِيَانِ الْحَجَرَ، فَلَا يُقَبَّلَانِ وَلَا يُسْتَلَمَانِ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: هُوَ إجْمَاعُ أَئِمَّةِ الْأَمْصَارِ وَالْفُقَهَاءِ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ فِيهِ خِلَافٌ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَانْقَرَضَ الْخِلَافُ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُمَا لَا يُسْتَلَمَانِ، وَمِمَّنْ كَانَ يَقُولُ بِاسْتِلَامِهِمَا الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ أَبْنَاءُ عَلِيٍّ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَأَبُو الشَّعْثَاءِ، وَدَلِيلُنَا مَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
فَرْعٌ: الِاضْطِبَاعُ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَنَا وَأَنْكَرَهُ مَالِكٌ، وَقَدْ سَبَقَ دَلِيلُنَا.

 

ج / 8 ص -52-         فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ عَنْ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ، وَذَكَرْنَا خِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ وَدَاوُد فِيهِ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ عِنْدَنَا أَنَّ الرَّمَلَ فِي الطَّوْفَاتِ الثَّلَاثَةِ يُسْتَحَبُّ فِي جَمِيعِ الْمَطَافِ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَالنَّخَعِيِّ وَمَالِكٍ وَالثَّوْرِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَأَبِي ثَوْرٍ - قَالَ: وَبِهِ أَقُولُ - وَقَالَ طَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لَا يَرْمُلُ بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ، وَسَبَقَ دَلِيلُ الْمَذْهَبَيْنِ.
فرع: مَذْهَبُنَا أَنَّ الرَّمَلَ مُسْتَحَبٌّ فِي الطَّوْفَاتِ الثَّلَاثِ الْأُولَى مِنْ السَّبْعِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْجُمْهُورُ، وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَرْمُلُ فِي السَّبْعِ كُلِّهَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَرْمُلُ فِي شَيْءٍ مِنْ الطَّوَافِ. وَثَبَتَ عَنْهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَنَّهُ قَالَ:
"إنَّمَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ" دَلِيلُنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ، وَثَبَتَ عَنْ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم الرَّمَلُ بَعْدَهُ صلى الله عليه وسلم وَفِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: "مَا لَنَا وَلِلرَّمَلِ إنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ أَهْلَكَهُمْ اللَّهُ، ثُمَّ قَالَ: شَيْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَلَا نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ".
فرع: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الرَّمَلَ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ وَأَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ أَقُولُ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَعَبْدُ الْمَلِكِ الْمَاجِشُونُ الْمَالِكِيُّ: "عَلَيْهِ دَمٌ" وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ: "عَلَيْهِ دَمٌ" ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ: وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ عَنْ ابْنِ الْمَرْزُبَانِ أَنَّهُ حَكَى عَنْ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّهُ قَالَ "مَنْ تَرَكَ الرَّمَلَ أَوْ الِاضْطِبَاعَ أَوْ الِاسْتِلَامَ لَزِمَهُ دَمٌ" لِحَدِيثِ: "مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ".
فرع: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَرْمُلُ وَلَا تَسْعَى بَلْ تَمْشِي.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الطَّوَافِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ الْمُبَارَكِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي ثَوْرٍ، قَالَ: وَبِهِ أَقُولُ، وَكَرِهَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَالِكٌ الْقِرَاءَةَ فِي الطَّوَافِ. وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الطَّوَافَ مَاشِيًا أَفْضَلُ، فَإِنْ طَافَ رَاكِبًا بِلَا عُذْرٍ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَذَكَرْنَا الْمَذَاهِبَ فِيهِ فِيمَا سَبَقَ.
فرع: التَّرْتِيبُ عِنْدَنَا شَرْطٌ لِصِحَّةِ الطَّوَافِ بِأَنْ يَجْعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَيَطُوفَ عَلَى يَمِينِهِ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ فَإِنْ عَكَسَهُ لَمْ يَصِحَّ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يُعِيدُهُ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ، فَإِنْ رَجَعَ إلَى وَطَنِهِ وَلَمْ يُعِدْهُ لَزِمَهُ دَمٌ وَأَجْزَأَهُ طَوَافُهُ، دَلِيلُنَا الْأَحَادِيثُ السَّابِقَةُ.

 

ج / 8 ص -53-         فرع: لَوْ طَافَ فِي الْحِجْرِ لَمْ يَصِحَّ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ: عَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عَنْ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً سِوَى أَبِي حَنِيفَةَ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَعَادَهُ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى وَطَنِهِ بِلَا إعَادَةٍ أَرَاقَ دَمًا وَأَجْزَأَهُ طَوَافُهُ.
فَرْعٌ: إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ فَقَطَعَهُ لِيُصَلِّيَهَا فَصَلَّاهَا جَازَ لَهُ الْبِنَاءُ عَلَى مَا مَضَى مِنْهُ، كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ: ابْنُ عُمَرَ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ. قَالَ وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا خَالَفَ ذَلِكَ إلَّا الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ فَقَالَ: يَسْتَأْنِفُ.
فرع: إذَا حَضَرَتْ جِنَازَةٌ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ الطَّوَافِ فَمَذْهَبُنَا أَنَّ إتْمَامَ الطَّوَافِ أَوْلَى، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَمَالِكٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَخْرُجُ لَهَا. وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يَخْرُجُ، فَإِنْ خَرَجَ اسْتَأْنَفَ.
فرع: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يُطَافُ بِالصَّبِيِّ وَيُجْزِئُهُ، قَالَ وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يُطَافُ بِالْمَرِيضِ وَيُجْزِئُهُ إلَّا عَطَاءً فَعَنْهُ قَوْلَانِ أحدهما: هَذَا والثاني: يَسْتَأْجِرُ مَنْ يَطُوفُ عَنْهُ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ الشُّرْبَ فِي الطَّوَافِ مَكْرُوهٌ أَوْ خِلَافُ الْأَوْلَى فَإِنْ خَالَفَ وَشَرِبَ لَمْ يَبْطُلْ طَوَافُهُ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: رَخَّصَ فِيهِ طَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَبِهِ أَقُولُ، قَالَ: وَلَا أَعْلَمُ أَنَّ أَحَدًا مَنَعَهُ.
فرع: لَوْ طَافَتْ الْمَرْأَةُ مُنْتَقِبَةً وَهِيَ غَيْرُ مُحْرِمَةٍ فَمُقْتَضَى مَذْهَبِنَا كَرَاهَتُهُ، كَمَا يُكْرَهُ صَلَاتُهَا مُنْتَقِبَةً. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَطُوفُ مُنْتَقِبَةً، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَكَرِهَهُ طَاوُسٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ.
فرع: لَوْ حَمَلَ مُحْرِمٌ مُحْرِمًا وَطَافَ بِهِ وَنَوَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الطَّوَافَ بِنَفْسِهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ عِنْدَنَا أَصَحُّهَا: يَقَعُ الطَّوَافُ لِلْحَامِلِ والثاني: لِلْمَحْمُولِ وَالثَّالِثُ: لَهُمَا، وَمِمَّنْ قَالَ لَهُمَا أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَقَالَ مَالِكٌ لِلْحَامِلِ، وَعَنْ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ رِوَايَةٌ لِلْحَامِلِ وَرِوَايَةٌ لَهُمَا.
فرع: لَوْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الطَّوَافِ الْمَفْرُوضِ وَلَوْ طَوْفَةً أَوْ بَعْضَهَا، لَمْ يَصِحَّ حَتَّى يُتِمَّهُ وَلَا يَتَحَلَّلُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ. هَذَا مَذْهَبُنَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَسَبَقَ خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِ فِيهِ.
فرع: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ يَكْفِي لِلْقَارِنِ لِحَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ طَوَافٌ وَاحِدٌ عَنْ الْإِفَاضَةِ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ: ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَائِشَةُ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَمَالِكٌ وَالْمَاجِشُونُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَدَاوُد. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ طَوَافَانِ وَسَعْيَانِ. وَحُكِيَ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يَصِحُّ هَذَا عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه وَأَقْرَبُ مَا اُحْتُجَّ بِهِ لِأَبِي حَنِيفَةَ مَا جَاءَ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي ذَلِكَ، وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

 

ج / 8 ص -54-         وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهْلِلْ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ لَا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا، قَالَتْ: فَطَافَ الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا أَطْوَافًا أُخَرَ بَعْدَمَا رَجَعُوا مِنْ مِنًى بِحَجِّهِمْ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَانُوا جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: "لَمْ يَطُفْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلَا أَصْحَابُهُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا طَوَافَهُ الْأَوَّلَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَارِنًا.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَجْزَأَهُ طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ، قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ جَمَاعَةٌ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وَالْمَوْقُوفُ أَصَحُّ، هَذَا كَلَامُ التِّرْمِذِيِّ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مَرْفُوعًا. وَأَمَّا الْمَرْوِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ فَضَعِيفٌ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ، كَمَا سَبَقَ عَنْ حِكَايَةِ ابْنِ الْمُنْذِرِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: احْتَجَّ بَعْضُ النَّاسِ فِي طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ بِرِوَايَةٍ ضَعِيفَةٍ عَنْ عَلِيٍّ وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ هَذَا الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِي نَصْرٍ قَالَ:
"لَقِيتُ عَلِيًّا رضي الله عنه وَقَدْ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ، وَأَهَلَّ هُوَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَقُلْت: هَلْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْعَلَ كَمَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: ذَلِكَ لَوْ كُنْتَ بَدَأْتَ بِالْعُمْرَةِ، قُلْتُ: كَيْفَ أَفْعَلُ لَوْ أَرَدْتُ ذَلِكَ، قَالَ: تُهِلُّ بِهِمَا جَمِيعًا ثُمَّ تَطُوفُ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَتَسْعَى لَهُمَا سَعْيَيْنِ".
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَبُو نَصْرٍ هَذَا مَجْهُولٌ، قَالَ وَقَدْ رُوِيَ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا قَالَ وَقَدْ ذَكَرْتُهُ فِي "الْخِلَافِيَّاتِ"، قَالَ: وَمَدَارُهُ عَلَى [الْحَسَنِ بْنِ1 عُمَارَةَ] وَحَفْصِ بْنِ أَبِي دَاوُد وَعِيسَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَحَمَّادِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَكُلُّهُمْ ضُعَفَاءُ لَا يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِمْ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ طَوَافُ فَرْضٍ، فَنَوَى بِطَوَافِهِ غَيْرَهُ انْصَرَفَ إلَى الْفَرْضِ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ، هَذَا مَذْهَبُنَا، وَقَالَ أَحْمَدُ: لَا يَقَعُ عَنْ فَرْضِهِ إلَّا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ قِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ، وَقِيَاسُ أَصْحَابِنَا عَلَى الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، وَعَلَى الْوُقُوفِ وَغَيْرِهِ.
فرع: رَكْعَتَا الطَّوَافِ سُنَّةٌ عَلَى الْأَصَحِّ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَاجِبَتَانِ.
فَرْعٌ: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ تَصِحَّانِ حَيْثُ صَلَّاهُمَا إلَّا مَالِكًا فَإِنَّهُ كَرِهَ فِعْلَهُمَا فِي الْحِجْرِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: يَجُوزُ فِعْلُهَا فِي الْحِجْرِ كَغَيْرِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ إذَا صَلَّاهُمَا فِي الْحِجْرِ أَعَادَ الطَّوَافَ وَالسَّعْيَ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ، فَإِنْ لَمْ يُصَلِّهِمَا حَتَّى رَجَعَ إلَى بِلَادِهِ أَرَاقَ دَمًا وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا حُجَّةَ لِمَالِكٍ عَلَى هَذَا لِأَنَّهُ إنْ كَانَتْ صَلَاتُهُ فِي الْحِجْرِ صَحِيحَةً فَلَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في ش و ق الحارث عمارة وصوابه الحسن بن عمارة (ط).

 

ج / 8 ص -55-         إعَادَةَ، سَوَاءٌ كَانَ بِمَكَّةَ أَوْ غَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَتْ بَاطِلَةً فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ إعَادَتُهَا وَإِنْ رَجَعَ إلَى1 فَأَمَّا وُجُوبُ الدَّمِ فَلَا أَعْلَمُهُ يَجِبُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَبْوَابِ الصَّلَاةِ، هَذَا كَلَامُ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَنَقَلَ أَصْحَابُنَا عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ إلَّا خَلْفَ الْمَقَامِ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا حَيْثُ شَاءَ مِنْ الْحَرَمِ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَنَا أَنَّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ سُنَّةٌ. وَفِي قَوْلٍ وَاجِبَةٌ، فَإِنْ صَلَّى فَرِيضَةً عَقِبَ الطَّوَافِ أَجْزَأَتْهُ عَنْ صَلَاةِ الطَّوَافِ إنْ قُلْنَا هِيَ سُنَّةٌ وَإِلَّا فَلَا، وَمِمَّنْ قَالَ يُجْزِئُهُ عَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ وَإِسْحَاقُ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَرَوَيْنَاهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَلَا أَظُنُّهُ يَثْبُتُ عَنْهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ: أَرْجُو أَنْ يُجْزِئَهُ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يُجْزِئُهُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَلِيَّ يُصَلِّي صَلَاةَ الطَّوَافِ عَنْ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَمَالِكٌ لَا يُصَلِّي عَنْهُ.
فرع: فِيمَنْ طَافَ أَطْوِفَةً وَلَمْ يُصَلِّ لَهَا، ثُمَّ صَلَّى لِكُلِّ طَوَافٍ رَكْعَتَيْنِ، قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ جَائِزٌ بِلَا كَرَاهَةٍ وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَقِبَ كُلِّ طَوَافٍ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْمِسْوَرِ وَعَائِشَةَ وَطَاوُسٍ وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي يُوسُفَ، قَالَ وَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ، وَوَافَقَهُمْ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ جَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ.
دَلِيلُنَا أَنَّ الْكَرَاهَةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِنَهْيِ الشَّارِعِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي هَذَا نَهْيٌ، فَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي الدَّلِيلِ وأما: الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
"طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثَةَ أَسْبَاعٍ جَمِيعًا ثُمَّ أَتَى الْمَقَامَ فَصَلَّى خَلْفَهُ سِتَّ رَكَعَاتٍ، يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ يَمِينًا وَشِمَالًا، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَنَا"فَهَذَا الْحَدِيثُ إسْنَادُهُ ضَعِيفٌ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ، وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَحْوُهُ، فَهُوَ ضَعِيفٌ أَيْضًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ السَّعْيُ وَهُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"أَيُّهَا النَّاسُ اسْعَوْا فَإِنَّ السَّعْيَ قَدْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ" فَلَا يَصِحُّ السَّعْيُ إلَّا بَعْدَ طَوَافٍ، فَإِنْ سَعَى ثُمَّ طَافَ لَمْ يُعْتَدَّ بِالسَّعْيِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] فَنَحْنُ نَصْنَعُ مَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" وَالسَّعْيُ أَنْ يَمُرَّ سَبْعَ مَرَّاتٍ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَبْدَأُ بِاَلَّذِي بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، وَبَدَأَ بِالصَّفَا حَتَّى فَرَغَ مِنْ آخِرِ سَعْيِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ فَإِنْ مَرَّ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ حَسَبَ ذَلِكَ مَرَّةً، وَإِذَا رَجَعَ مِنْ الْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا حَسَبَ ذَلِكَ مَرَّةً أُخْرَى، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ: لَا يَحْسُبُ رُجُوعَهُ مِنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض الأصل، والسقط "بلاده" المطيعي.

 

ج / 8 ص -56-         الْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا مَرَّةً، وَهَذَا خَطَأٌ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَا بَيْنَهُمَا بِالسَّعْيِ فَحُسِبَ مَرَّةً، كَمَا لَوْ بَدَأَ مِنْ الصَّفَا وَجَاءَ إلَى الْمَرْوَةِ. فَإِنْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ وَسَعَى إلَى الصَّفَا لَمْ يَجْزِهِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" وَيَرْقَى عَلَى الصَّفَا حَتَّى يَرَى الْبَيْتَ فَيَسْتَقْبِلَهُ وَيَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ؛ لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَى الصَّفَا فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ حَتَّى إذَا رَأَى الْبَيْتَ تَوَجَّهَ إلَيْهِ وَكَبَّرَ ثُمَّ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ دَعَا ثُمَّ قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثًا ثُمَّ نَزَلَ".
ثُمَّ يَدْعُو لِنَفْسِهِ بِمَا أَحَبَّ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ يَدْعُو بَعْدَ التَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الدُّعَاءِ نَزَلَ مِنْ الصَّفَا وَيَمْشِي حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِيلِ الْأَخْضَرِ الْمُعَلَّقِ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ نَحْوٌ مِنْ سِتَّةِ أَذْرُعٍ، فَيَسْعَى سَعْيًا شَدِيدًا حَتَّى يُحَاذِيَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ اللَّذَيْنِ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَحِذَاءَ دَارِ الْعَبَّاسِ ثُمَّ يَمْشِي حَتَّى يَصْعَدَ الْمَرْوَةَ، لِمَا رَوَى حَابِرٌ رضي الله عنه
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا نَزَلَ مِنْ الصَّفَا مَشَى حَتَّى إذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعَى حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ فَإِذَا وَصَلَ مَشَى حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْوَةَ وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ: رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ إنَّك أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ لِمَا رَوَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ عَنْ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي نَوْفَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ فَإِنْ تَرَكَ السَّعْيَ وَمَشَى فِي الْجَمِيعِ جَازَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه: "كَانَ يَمْشِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَالَ: إنْ أَمْشِي فَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي وَأَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ" وَإِنْ سَعَى رَاكِبًا جَازَ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ قَالَ: "طَافَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي طَوَافِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيَرَاهُ النَّاسُ، وَيَسْأَلُوهُ".
وَالْمُسْتَحَبُّ إذَا صَعِدَ الْمَرْوَةَ أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا، لِمَا رَوَى جَابِرٌ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ مِثْلَ مَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا" قَالَ فِي "الْأُمِّ": فَإِنْ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَمْ يَرْقَ عَلَيْهِمَا أَجْزَأَهُ. وَقَالَ أَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ: لَا يُجْزِئُهُ حَتَّى يَرْقَى عَلَيْهِمَا، لِيَتَيَقَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى السَّعْيَ بَيْنَهُمَا. وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ السَّعْيُ بَيْنَهُمَا وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً ذَاتَ جَمَالٍ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ تَطُوفَ وَتَسْعَى لَيْلًا، فَإِنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ نَهَارًا مَشَتْ فِي مَوْضِعِ السَّعْيِ وَإِنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ أَوْ عَرَضَ عَارِضٌ قَطَعَ السَّعْيَ فَإِذَا فَرَغَ بَنَى، لِمَا رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما "كَانَ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ" فَأَعْجَلَهُ الْبَوْلُ فَتَنَحَّى، وَدَعَا بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ ثُمَّ قَامَ فَأَتَمَّ عَلَى مَا مَضَى.
الشَّرْحُ: أَمَّا حَدِيثُ:
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْعَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ" فَرَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ" وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ حَبِيبَةَ بِنْتِ تَجْرَاةَ - بِتَاءٍ مُثَنَّاةٍ فَوْقُ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ جِيمٍ سَاكِنَةٍ ثُمَّ رَاءٍ - وَحَبِيبَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَتَخْفِيفِ الْبَاءِ - هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَيُقَالُ حَبِيبَةُ - بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ - وَحَدِيثُهَا هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ. فِي إسْنَادِهِ ضَعْفٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي "الِاسْتِيعَابِ": فِيهِ اضْطِرَابٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْأَوَّلُ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ إلَى قَوْلِهِ: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ الْأَوَّلُ فَرَوَاهُ

 

ج / 8 ص -57-         مُسْلِمٌ فِي جُمْلَةِ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ. وَأَمَّا حَدِيثُ: "ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ لَكِنَّ لَفْظَهُ "أَبْدَأُ" عَلَى الْخَبَرِ وَاَلَّذِي فِي نُسَخِ "الْمُهَذَّبِ" "ابْدَءُوا" بِوَاوِ الْجَمْعِ عَلَى الْأَمْرِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ "فَابْدَءُوا" بِلَفْظِ الْأَمْرِ، وَإِسْنَادُهَا صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ الثَّانِي فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ لَكِنَّ فِي لَفْظِهِ مُخَالَفَةً، وَهَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ قَالَ: "فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقَى عَلَيْهِ حَتَّى رَأَى الْبَيْتَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَوَحَّدَ اللَّهَ تَعَالَى وَكَبَّرَهُ، وَقَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، قَالَ مِثْلَ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ نَزَلَ إلَى الْمَرْوَةِ" هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَتَيْنِ لِلنَّسَائِيِّ بِإِسْنَادَيْنِ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ قَالَ: "لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" زَادَ: يُحْيِي وَيُمِيتُ كَمَا وَقَعَ فِي "الْمُهَذَّبِ".
وَأَمَّا دُعَاءُ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورُ بَعْدَ التَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ لِنَفْسِهِ فَصَحِيحٌ، رَوَاهُ مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ" عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ.
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الْمَشْيِ وَالسَّعْيِ فَصَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ، وَهَذَا لَفْظُهُ قَالَ: "
ثُمَّ نَزَلَ إلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي، حَتَّى إذَا صَعِدَ مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كُلَّ فِعْلٍ عَلَى الصَّفَا" هَذَا لَفْظُ مُسْلِمٍ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد: "ثُمَّ نَزَلَ إلَى الْمَرْوَةِ حَتَّى إذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ رَمَلَ فِي بَطْنِ الْوَادِي حَتَّى إذَا صَعِدَ مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ".
وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ: "ثُمَّ نَزَلَ حَتَّى إذَا تَصَوَّبَتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْمَسِيلِ فَسَعَى حَتَّى صَعِدَتْ قَدَمَاهُ ثُمَّ مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ فَصَعِدَ عَلَيْهَا ثُمَّ بَدَا لَهُ الْبَيْتُ" وَأَمَّا حَدِيثُ: "رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ" فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ مِنْ قَوْلِهِمَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ:
"أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ" إلَى آخِرِهِ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِلَفْظِهِ هَذَا الْمَذْكُورِ فِي "الْمُهَذَّبِ"، قَالَ التِّرْمِذِيُّ هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ طُرُقِهِ تَدُورُ عَلَى عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ كَثِيرِ بْنِ جُمْهَانَ - بِضَمِّ الْجِيمِ - عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَفِي هَذَا نَظَرٌ؛ لِأَنَّ عَطَاءً اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ وَتَرَكُوا الِاحْتِجَاجَ بِرِوَايَاتِ مَنْ سَمِعَ مِنْهُ آخِرًا، وَالرَّاوِي عَنْهُ فِي التِّرْمِذِيِّ مِمَّنْ سَمِعَ مِنْهُ آخِرًا وَلَكِنْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَطَاءٍ، وَسُفْيَانُ مِمَّنْ سُمِعَ مِنْهُ قَدِيمًا، وَكَثِيرُ بْنُ جُمْهَانَ مَسْتُورٌ. وَقَدْ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَمْ يُضَعِّفْهُ فَهُوَ أَيْضًا حَسَنٌ عِنْدَهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم طَافَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيَرَاهُ النَّاسُ وَلِيُشْرِفَ وَلِيَسْأَلُوهُ" فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى الْمَرْوَةَ فَفَعَلَ عَلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ عَلَى الصَّفَا" فرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ. وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْفَصْلِ فَقَوْلُهُ: وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، أَيْ الطَّوَائِفَ الَّتِي تَحَزَّبَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَصَرُوا الْمَدِينَةَ.
وَقَوْلُهُ: "وَحْدَهُ" مَعْنَاهُ هَزَمَهُمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ مِنْكُمْ، بَلْ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا. قَوْلُهُ: "فَبَدَأَ بِالصَّفَا" فَرَقَى عَلَيْهِ، هُوَ - بِكَسْرِ الْقَافِ، يُقَالُ رَقِيَ يَرْقَى كَعَلِمَ يَعْلَمُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{أَوْ تَرْقَى فِي

 

ج / 8 ص -58-         السَّمَاءِ} [الإسراء: 93] وَقَوْلُهُ: "الْمِيلِ الْأَخْضَرِ" هُوَ الْعَمُودُ، قَوْلُهُ: "مُعَلَّقٌ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ" - بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالْمَدِّ - وَالْمُرَادُ رُكْنُ الْمَسْجِدِ، وَعِبَارَةُ الشَّافِعِيِّ. الْمُعَلَّقُ فِي رُكْنِ الْمَسْجِدِ وَمَعْنَاهُ الْمَبْنِيُّ فِيهِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ قَوْلُهُ: "وَحِذَاءَ دَارِ الْعَبَّاسِ" هَكَذَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُنَا. وَفِي "التَّنْبِيهِ". وَكَذَا ذَكَرَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْأَصْحَابِ وَهُوَ غَلَطٌ فِي اللَّفْظِ، وَصَوَابُهُ حَذْفُ لَفْظَةِ حِذَاءَ، بَلْ يُقَالُ الْمُعَلَّقَيْنِ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَدَارِ الْعَبَّاسِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي "مُخْتَصَرِ الْمُزَنِيِّ" وَالدَّارِمِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَأَبُو عَلِيٍّ وَالْمَسْعُودِيُّ وَصَاحِبُ "الْعُدَّةِ" وَآخَرُونَ بِحَذْفِ لَفْظَةِ حِذَاءَ، وَهُوَ الصَّوَابُ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِ حَائِطِ دَارِ الْعَبَّاسِ.
وَقَالَ صَاحِبُ "التَّتِمَّةِ": وَجِدَارُ دَارِ الْعَبَّاسِ - بِجِيمٍ وَبِرَاءٍ بَعْدَ الْأَلِفِ - وَهَذَا حَسَنٌ، وَالْمُرَادُ بِالْجِدَارِ الْحَائِطُ، وَالْعَبَّاسُ صَاحِبُ هَذِهِ الدَّارِ، وَهُوَ أَبُو الْفَضْلِ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهُ وَأَمَّا صَفِيَّةُ بِنْتُ شَيْبَةَ فَصَحَابِيَّةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَقِيلَ تَابِعِيَّةٌ. وَسَبَقَ ذِكْرُهَا فِي آخِرِ بَابِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ.
أما الأحكام: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إذَا فَرَغَ مِنْ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَيَسْتَلِمَهُ، ثُمَّ يَخْرُجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا إلَى الْمَسْعَى، ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَبَيَّنَّاهُ فِي آخِرِ فَصْلِ الطَّوَافِ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي "الْحَاوِي": إذَا اسْتَلَمَ الْحَجَرَ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَأْتِيَ الْمُلْتَزَمُ وَيَدْعُوَ فِيهِ وَيَدْخُلَ الْحِجْرَ وَيَدْعُوَ تَحْتَ الْمِيزَابِ. وَذَكَرَ الْغَزَالِيُّ فِي "الْإِحْيَاءِ" أَنَّهُ يَأْتِي الْمُلْتَزَمَ إذَا فَرَغَ مِنْ الطَّوَافِ قَبْلَ رَكْعَتَيْهِ ثُمَّ يُصَلِّيهِمَا.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: يَطُوفُ ثُمَّ يُصَلِّي رَكْعَتَيْهِ ثُمَّ يَأْتِي الْمُلْتَزَمُ ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَيَسْتَلِمُهُ ثُمَّ يَخْرُجُ إلَى الصَّفَا، وَكُلُّ هَذَا شَاذٌّ مَرْدُودٌ عَلَى قَائِلِهِ لِمُخَالَفَتِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ، بَلْ الصَّوَابُ الَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ ثُمَّ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَجَمَاهِيرِ الْأَصْحَابِ وَجَمَاهِيرِ الْعُلَمَاءِ مِنْ غَيْرِ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ عَقِبَ صَلَاةِ الطَّوَافِ بِشَيْءٍ، إلَّا اسْتِلَامَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، ثُمَّ الْخُرُوجَ إلَى الصَّفَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
ثُمَّ إذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ لِلسَّعْيِ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَابِ الصَّفَا، فَيَأْتِيَ سَفْحَ جَبَلِ الصَّفَا فَيَرْقَى عَلَيْهِ قَدْرَ قَامَةٍ حَتَّى يَرَى الْبَيْتَ وَهُوَ يَتَرَاءَى لَهُ مِنْ بَابِ الْمَسْجِدِ بَابِ الصَّفَا. لَا مِنْ فَوْقِ جِدَارِ الْمَسْجِدِ، بِخِلَافِ الْمَرْوَةِ، فَإِذَا صَعِدَهُ اسْتَقْبَلَ الْكَعْبَةَ وَهَلَّلَ وَكَبَّرَ فَيَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، اللَّهُ أَكْبَرُ عَلَى مَا هَدَانَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا أَوْلَانَا، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، ثُمَّ يَدْعُو بِمَا أَحَبَّ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِنَفْسِهِ وَلِمَنْ شَاءَ.
وَاسْتَحَبُّوا أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنَّكَ قُلْتَ
{ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] وَإِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ، وَإِنِّي أَسْأَلُكَ كَمَا هَدَيْتَنِي إلَى الْإِسْلَامِ أَنْ لَا تَنْزِعَهُ مِنِّي. حَتَّى تَتَوَفَّانِي وَأَنَا مُسْلِمٌ، لِمَا رَوَى مَالِكٌ في

 

ج / 8 ص -59-         "الْمُوَطَّأِ" عَنْ نَافِعٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ هَذَا عَلَى الصَّفَا وَهَذَا إسْنَادٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَلَى الصَّفَا "اللَّهُمَّ اعْصِمْنَا بِدِينِكَ وَطَوَاعِيَتِكَ وَطَوَاعِيَةِ رَسُولِكَ، وَجَنِّبْنَا حُدُودَكَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا نُحِبُّكَ، وَنُحِبُّ مَلَائِكَتَكَ وَأَنْبِيَاءَكَ وَرُسُلَكَ، وَنُحِبُّ عِبَادَكَ الصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ حَبِّبْنَا إلَيْكَ وَإِلَى مَلَائِكَتِكَ وَإِلَى أَنْبِيَائِكَ وَرُسُلِكَ وَإِلَى عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، اللَّهُمَّ يَسِّرْنَا لِلْيُسْرَى وَجَنِّبْنَا الْعُسْرَى، وَاغْفِرْ لَنَا فِي الْآخِرَةِ وَالْأُولَى وَاجْعَلْنَا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ" وَبِإِسْنَادِهِ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الصَّفَا "اللَّهُمَّ أَحْيِنِي عَلَى سُنَّةِ نَبِيِّك صلى الله عليه وسلم وَتَوَفَّنِي عَلَى مِلَّتِهِ وَأَعِذْنِي مِنْ مُضِلَّاتِ الْفِتَنِ" قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُلَبِّي عَلَى الصَّفَا. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يُلَبِّي إنْ كَانَ حَاجًّا وَهُوَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ، وَبِهِ جَزَمَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ "الْعُدَّةِ".
قَالَ أَصْحَابُنَا: ثُمَّ يُعِيدُ هَذَا الذِّكْرَ وَالدُّعَاءَ ثَانِيًا وَيُعِيدُ الذِّكْرَ ثَالِثًا، وَهَلْ يُعِيدُ الدُّعَاءَ ثَالِثًا؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: لَا يُعِيدُهُ، وَبِهِ قَطَعَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَصَاحِبُ "الْعُدَّةِ" وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ وَأَصَحُّهُمَا: يُعِيدُهُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْمُصَنِّفُ فِي "التَّنْبِيهِ" وَالرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ" وَآخَرُونَ، وَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ لِحَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي ذَكَرْنَا قَرِيبًا عَنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي الدُّعَاءِ ثَلَاثًا، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ نَزَلَ مِنْ الصَّفَا مُتَوَجِّهًا إلَى الْمَرْوَةِ فَيَمْشِي عَلَى سَجِيَّةِ مَشْيِهِ الْمُعْتَادِ، حَتَّى يَبْقَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمِيلِ الْأَخْضَرِ الْمُعَلَّقِ بِرُكْنِ الْمَسْجِدِ عَلَى يَسَارِهِ قَدْرُ سِتِّ أَذْرُعٍ ثُمَّ يَسْعَى سَعْيًا شَدِيدًا حَتَّى يَتَوَسَّطَ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي رُكْنِ الْمَسْجِدِ وَالْآخَرُ مُتَّصِلٌ بِدَارِ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه ثُمَّ يَتْرُكُ شِدَّةَ السَّعْيِ وَيَمْشِي عَلَى عَادَتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَرْوَةَ فَيَصْعَدَ عَلَيْهَا حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ الْبَيْتُ إنْ ظَهَرَ، فَيَأْتِيَ بِالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ الَّذِي قَالَهُ عَلَى الصَّفَا، فَهَذِهِ مَرَّةٌ مِنْ سَعْيِهِ ثُمَّ يَعُودُ مِنْ الْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا، فَيَمْشِي فِي مَوْضِعِ مَشْيِهِ وَيَسْعَى فِي مَوْضِعِ سَعْيِهِ، فَإِذَا وَصَلَ إلَى الصَّفَا صَعِدَهُ وَفَعَلَ مِنْ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ مَا فَعَلَهُ أَوَّلًا. وَهَذَا مَرَّةٌ ثَانِيَةٌ مِنْ سَعْيِهِ، ثُمَّ يَعُودُ إلَى الْمَرْوَةِ كَمَا فَعَلَ أَوَّلًا ثُمَّ يَعُودُ إلَى الصَّفَا، وَهَكَذَا حَتَّى يُكْمِلَ سَبْعَ مَرَّاتٍ يَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْعُوَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي مَشْيِهِ وَسَعْيِهِ. وَيُسْتَحَبُّ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِيهِ، فَهَذِهِ صِفَةُ السَّعْيِ.
فَرْعٌ: فِي بَيَانِ وَاجِبَاتِ السَّعْيِ وَشُرُوطِهِ وَسُنَنِهِ وَآدَابِهِ.
أَمَّا الْوَاجِبَاتُ فَأَرْبَعَةٌ أحدها: أَنْ يَقْطَعَ جَمِيعَ الْمَسَافَةِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَوْ بَقِيَ مِنْهَا بَعْضُ خُطْوَةٍ لَمْ يَصِحَّ سَعْيُهُ، حَتَّى لَوْ كَانَ رَاكِبًا اُشْتُرِطَ أَنْ يُسَيِّرَ دَابَّتَهُ حَتَّى تَضَعَ حَافِرَهَا عَلَى الْجَبَلِ أَوْ إلَيْهِ، حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ الْمَسَافَةِ شَيْءٌ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَاشِي أَنْ يُلْصِقَ فِي الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ رِجْلَهُ بِالْجَبَلِ، بِحَيْثُ لَا يَبْقَى بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يُلْصِقَ الْعَقِبَ بِأَصْلِ مَا يَذْهَبُ مِنْهُ، وَيُلْصِقَ رُءُوسَ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ بِمَا يَذْهَبُ إلَيْهِ. هَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَصْعَدْ عَلَى الصَّفَا وَعَلَى الْمَرْوَةِ، فَإِنْ صَعِدَ فَهُوَ الْأَكْمَلُ وَقَدْ زَادَ

 

ج / 8 ص -60-         خَيْرًا. وَهَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ. وَهَكَذَا عَمِلَتْ الصَّحَابَةُ فَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَيْسَ هَذَا الصُّعُودُ شَرْطًا وَاجِبًا بَلْ هُوَ سُنَّةٌ مُتَأَكِّدَةٌ، وَلَكِنَّ بَعْضَ الدَّرَجِ مُسْتَحْدَثٌ فَلْيَحْذَرْ مِنْ أَنْ يُخَلِّفَهَا وَرَاءَهُ، فَلَا يَصِحَّ سَعْيُهُ حِينَئِذٍ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَصْعَدَ فِي الدَّرَجِ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ.
هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ. وَلَنَا وَجْهٌ أَنَّهُ يَجِبُ الصُّعُودُ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَدْرًا يَسِيرًا وَلَا يَصِحُّ سَعْيُهُ إلَّا بِذَلِكَ لِيَسْتَيْقِنَ قَطْعَ جَمِيعِ الْمَسَافَةِ كَمَا يَلْزَمُهُ غَسْلُ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ فِي غَسْلِ الْوَجْهِ لِيَسْتَيْقِنَ إكْمَالَ الْوَجْهِ، حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ عَنْ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَاتَّفَقُوا عَلَى تَضْعِيفِهِ. وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الصُّعُودُ، وَهُوَ نَصُّ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَصْحَابُ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ السَّابِقِ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَعَى رَاكِبًا" وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّاكِبَ لَا يَصْعَدُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَأَمَّا اسْتِيقَانُ قَطْعِ جَمِيعِ الْمَسَافَةِ فَيَحْصُلُ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إلْصَاقِ الْعَقِبِ وَالْأَصَابِعِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ ابْنِ الْوَكِيلِ أَنَّ مَذْهَبَهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ صُعُودُ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِشَيْءٍ قَلِيلٍ هُوَ الْمَشْهُورُ عَنْهُ، الَّذِي نَقَلَهُ عَنْهُ الْجُمْهُورُ. وَنَقَلَ الْبَغَوِيّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ صُعُودُهُمَا قَدْرَ قَامَةِ رَجُلٍ، وَالصَّحِيحُ عَنْهُ الْأَوَّلُ. وَالْوَاجِبُ الثَّانِي: التَّرْتِيبُ، وَهُوَ أَنْ يَبْدَأَ مِنْ الصَّفَا، فَإِنْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ لَمْ يُحْسَبْ مُرُورُهُ مِنْهَا إلَى الصَّفَا، فَإِذَا عَادَ مِنْ الصَّفَا كَانَ هَذَا أَوَّلَ سَعْيِهِ، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الْمَرْوَةِ، وَفِي الثَّالِثَةِ مِنْ الصَّفَا، وَالرَّابِعَةِ مِنْ الْمَرْوَةِ، وَالْخَامِسَةِ مِنْ الصَّفَا، وَالسَّادِسَةِ مِنْ الْمَرْوَةِ، وَالسَّابِعَةِ مِنْ الصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ، فَلَوْ أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ الْعَوْدَةَ مِنْ الْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا لِلْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ عَدَلَ عَنْ مَوْضِعِ السَّعْيِ، وَجَعَلَ طَرِيقَهُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ غَيْرِهِ، وَابْتَدَأَ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ مِنْ الصَّفَا أَيْضًا لَمْ يُحْسَبْ لَهُ تِلْكَ الْمَرَّةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الْقَطَّانِ وَابْنُ الْمَرْزُبَانِ وَالدَّارِمِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْجُمْهُورُ. وَحَكَى الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ وَجْهًا شَاذًّا أَنَّهَا تُحْسَبُ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَعَى هَكَذَا وَقَالَ:
"لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ".
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَوْ نَكَسَ السَّعْيَ فَبَدَأَ أَوَّلًا بِالْمَرْوَةِ، وَخَتَمَ السَّابِعَةَ بِالصَّفَا لَمْ تَجْزِهِ الْمَرَّةُ الْأُولَى الَّتِي بَدَأَهَا مِنْ الْمَرْوَةِ، وَتَصِيرُ الثَّانِيَةُ الَّتِي بَدَأَهَا مِنْ الصَّفَا أُولَى، وَيُحْسَبُ مَا بَعْدَهَا فَيَحْصُلُ لَهُ سِتُّ مَرَّاتٍ وَيَبْقَى عَلَيْهِ سَابِعَةٌ فَيَبْدَؤُهَا مِنْ الصَّفَا فَإِذَا وَصَلَ الْمَرْوَةَ تَمَّ سَعْيُهُ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَكَذَا الْحُكْمُ فِيمَا لَوْ نَسِيَ بَعْضَ السَّبْعِ، فَإِنْ نَسِيَ السَّابِعَةَ أَتَى بِهَا يَبْدَؤُهَا مِنْ الصَّفَا، وَلَوْ نَسِيَ السَّادِسَةَ وَسَعَى السَّابِعَةَ حُسِبَتْ لَهُ الْخَمْسُ الْأُوَلُ وَلَا تُحْسَبُ السَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ شَرْطٌ، فَلَا تَصِحُّ السَّابِعَةُ حَتَّى يَأْتِيَ بِالسَّادِسَةِ، فَيَلْزَمُهُ سَادِسَةٌ يَبْدَؤُهَا مِنْ الْمَرْوَةِ، ثُمَّ سَابِعَةٌ يَبْدَؤُهَا مِنْ الصَّفَا، فَيَتِمُّ سَعْيُهُ بِوُصُولِهِ الْمَرْوَةَ، وَقَالَ: لَوْ نَسِيَ الْخَامِسَ لَمْ يَعْتَدَّ بِالسَّادِسِ وَجَعَلَ السَّابِعَ خَامِسًا ثُمَّ أَتَى بِالسَّادِسِ ثُمَّ السَّابِعِ.
قَالَ: وَكَذَا الْحُكْمُ لَوْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الْمَسْعَى لَمْ يَسْتَوْفِهِ فِي سَعْيِهِ، فَلَوْ تَرَكَ ذِرَاعًا مِنْ الْمَرَّةِ السَّابِعَةِ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ أحدها: أَنْ يَتْرُكَهُ مِنْ آخِرِ السَّابِعَةِ، فَيَعُودَ وَيَأْتِيَ بِالذِّرَاعِ وَيُجْزِئَهُ، فَإِنْ رَجَعَ

 

ج / 8 ص -61-         إلَى بَلَدِهِ قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِهِ كَانَ عَلَى إحْرَامِهِ. الثَّانِي: أَنْ يَتْرُكَهُ مِنْ أَوَّلِ السَّابِعَةِ فَيَلْزَمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالسَّابِعَةِ بِكَمَالِهَا مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا، كَمَنْ تَرَكَ الْآيَةَ الْأُولَى مِنْ الْفَاتِحَةِ يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الْفَاتِحَةِ بِكَمَالِهَا. الثَّالِثُ: أَنْ يَتْرُكَهُ مِنْ وَسَطِ السَّابِعَةِ فَيَحْسُبَ مَا مَضَى مِنْهَا وَيَلْزَمَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا تَرَكَهُ وَمَا بَعْدَهُ إلَى آخِرِ السَّابِعَةِ.
وَلَوْ تَرَكَ ذِرَاعًا مِنْ السَّادِسَةِ لَمْ تُحْسَبْ السَّابِعَةُ، لِأَنَّهَا لَا تُحْسَبُ حَتَّى تَصِحَّ السَّادِسَةُ. وَأَمَّا السَّادِسَةُ فَحُكْمُهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي السَّابِعَةِ إذَا تَرَكَ مِنْهَا ذِرَاعًا، وَيَجِيءُ فِيهَا الْأَحْوَالُ الثَّلَاثَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْوَاجِبُ الثَّالِثُ: إكْمَالُ سَبْعِ مَرَّاتٍ يَحْسُبُ الذَّهَابَ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ مَرَّةً، وَالرُّجُوعَ مِنْ الْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا مَرَّةً ثَانِيَةً، وَالْعَوْدَ إلَى الْمَرْوَةِ ثَالِثَةً، وَالْعَوْدَ إلَى الصَّفَا رَابِعَةً، وَإِلَى الْمَرْوَةِ خَامِسَةً وَإِلَى الصَّفَا سَادِسَةً، وَمِنْهُ إلَى الْمَرْوَةِ سَابِعَةً، فَيَبْدَأُ بِالصَّفَا وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ. وَعَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ، وَبِهِ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: يَحْسُبُ الذَّهَابَ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ، وَالْعَوْدَ مِنْهَا إلَى الصَّفَا مَرَّةً وَاحِدَةً، فَتَكُونُ الْمَرَّةُ مِنْ الصَّفَا إلَى الصَّفَا، كَمَا أَنَّ الطَّوَافَ تَكُونُ الْمَرَّةُ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَكَمَا أَنَّ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ يُحْسَبُ الذَّهَابُ مِنْ مُقَدَّمِهِ إلَى مُؤَخَّرِهِ وَالرُّجُوعُ مَرَّةً وَاحِدَةً. وَمِمَّنْ قَالَ هَذَا مِنْ أَصْحَابِنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ خَيْرَانَ، وَأَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ وَأَبُو حَفْصِ بْنُ الْوَكِيلِ وَأَبُو بَكْرٍ الصَّيْرَفِيُّ. وَقَالَ بِهِ أَيْضًا مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَهَذَا غَلَطٌ ظَاهِرٌ.
دَلِيلُنَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، مِنْهَا حَدِيثُ جَابِرٍ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ": أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"سَعَى سَبْعًا، بَدَأَ بِالصَّفَا وَفَرَغَ عَلَى الْمَرْوَةِ" وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّوَافِ الَّذِي قَاسُوا عَلَيْهِ أَنَّ الطَّوَافَ لَا يَحْصُلُ فِيهِ قَطْعُ الْمَسَافَةِ كُلِّهَا إلَّا بِالْمُرُورِ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، وَأَمَّا هُنَا فَيَحْصُلُ قَطْعُ الْمَسَافَةِ كُلِّهَا بِالْمُرُورِ إلَى الْمَرْوَةِ، وَإِذَا رَجَعَ إلَى الصَّفَا حَصَلَ قَطْعُهَا مَرَّةً أُخْرَى، فَحَسَبَ ذَلِكَ مَرَّتَيْنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي حِكَايَةِ قَوْلِ الصَّيْرَفِيِّ، فَحَكَى الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْجُمْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ يَقُولُ: يُحْسَبُ الذَّهَابُ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ وَالْعَوْدَةُ إلَى الصَّفَا، كِلَاهُمَا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَا يُحْسَبُ أَحَدُهُمَا مَرَّةً. وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ" أَنَّهُ قَالَ: إذَا وَصَلَ الْمَرْوَةَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى حَصَلَ لَهُ مَرَّةٌ مِنْ السَّبْعِ، قَالَ: وَعَوْدُهُ إلَى الصَّفَا لَيْسَ بِشَيْءٍ فَلَا يُحْسَبُ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوَصُّلٌ إلَى السَّعْيِ، قَالَ: حَتَّى لَوْ عَادَ مَارًّا فِي الْمَسْجِدِ لَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ جَازَ، وَحُسِبَ كُلُّ مَرَّةٍ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي حَامِدٍ وَالْجُمْهُورِ، وَالرِّوَايَتَانِ عَنْهُ بَاطِلَتَانِ، وَالصَّوَابُ فِي حُكْمِ الْمَسْأَلَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْجُمْهُورِ أَنَّ الذَّهَابَ مَرَّةٌ وَالْعَوْدَ أُخْرَى، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: لَوْ سَعَى أَوْ طَافَ وَشَكَّ فِي الْعَدَدِ قَبْلَ الْفَرَاغِ لَزِمَهُ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ، فَلَوْ اعْتَقَدَ إتْمَامَ سَعْيِهِ فَأَخْبَرَهُ عَدْلٌ أَوْ عَدْلَانِ بِبَقَاءِ شَيْءٍ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: لَا يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ بِهِ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 8 ص -62-         الْوَاجِبُ الرَّابِعُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُشْتَرَطُ كَوْنُ السَّعْيِ بَعْدَ طَوَافٍ صَحِيحٍ سَوَاءٌ كَانَ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ أَوْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ بَعْدَ طَوَافِ الْوَدَاعِ؛ لِأَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ هُوَ الْوَاقِعُ بَعْدَ فَرَاغِ الْمَنَاسِكِ، فَإِذَا بَقِيَ السَّعْيُ لَمْ يَكُنْ الْمَفْعُولُ طَوَافَ الْوَدَاعِ. وَاسْتَدَلَّ الْمَاوَرْدِيُّ لِاشْتِرَاطِ كَوْنِ السَّعْيِ بَعْدَ طَوَافٍ صَحِيحٍ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ - أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "سَعَى بَعْدَ الطَّوَافِ وَقَالَ صلى الله عليه وسلم لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. وَنَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ فِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ وَشَذَّ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ "الْأَسَالِيبِ": قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا: لَوْ قَدَّمَ السَّعْيَ عَلَى الطَّوَافِ اعْتَدَّ بِالسَّعْيِ، وَهَذَا النَّقْلُ غَلَطٌ ظَاهِرٌ مَرْدُودٌ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَبِالْإِجْمَاعِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ عَنْ نَقْلِ الْمَاوَرْدِيُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ صَاحِبُ "الْبَيَانِ": قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ: يَجُوزُ لِمَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ إذَا طَافَ لِلْوَدَاعِ لِخُرُوجِهِ إلَى مِنًى أَنْ يُقَدِّمَ السَّعْيَ بَعْدَ هَذَا الطَّوَافِ، قَالَ وَبِمَذْهَبِنَا هَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لَهُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلْقَادِمِ. دَلِيلُنَا أَنَّهُ إذَا جَازَ ذَلِكَ لِمَنْ أَحْرَمَ مِنْ خَارِجِ مَكَّةَ جَازَ لِلْمُحْرِمِ مِنْهَا. هَذَا نَقْلُ صَاحِبِ "الْبَيَانِ"، وَلَمْ أَرَ لِغَيْرِهِ مَا يُوَافِقُهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّعْيُ إلَّا بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ أَوْ الْإِفَاضَةِ كَمَا سَبَقَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ سَعَى ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الطَّوَافِ لَمْ يَصِحَّ سَعْيُهُ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَقِيَّةِ الطَّوَافِ إنْ قُلْنَا يَجُوزُ تَفْرِيقُهُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَإِلَّا فَيَسْتَأْنِفُ، فَإِذَا أَتَى بِبَقِيَّتِهِ أَوْ اسْتَأْنَفَهُ أَعَادَ السَّعْيَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: الْمُوَالَاةُ بَيْنَ مَرَاتِبِ السَّعْيِ سُنَّةٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، فَلَوْ تَخَلَّلَ فَصْلٌ يَسِيرٌ أَوْ طَوِيلٌ بَيْنَهُنَّ لَمْ يَضُرَّ، وَإِنْ كَانَ شَهْرًا أَوْ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إنْ فَرَّقَ يَسِيرًا جَازَ، وَإِنْ فَرَّقَ كَثِيرًا، فَإِنْ جَوَّزْنَا التَّفْرِيقَ الْكَثِيرَ بَيْنَ مَرَّاتِ الطَّوَافِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، فَهَهُنَا أَوْلَى، وَإِلَّا فَفِي السَّعْيِ وَجْهَانِ أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ: لَا يَجُوزُ والثاني: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ: يَجُوزُ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ أَخَفُّ مِنْ الطَّوَافِ، وَلِهَذَا يَجُوزُ مَعَ الْحَدَثِ وَكَشْفِ الْعَوْرَةِ، هَذَا نَقْلُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ إنْ فَرَّقَ يَسِيرًا لَمْ يَضُرَّ وَجَازَ الْبِنَاءُ، وَكَذَا إنْ فَرَّقَ كَثِيرًا لِعُذْرٍ، كَالْخُرُوجِ لِلصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ وَالطَّهَارَةِ وَغَيْرِهِمَا، وَإِنْ فَرَّقَ كَثِيرًا بِلَا عُذْرٍ فَقَوْلَانِ. قَالَ فِي "الْأُمِّ": يَبْنِي، وَفِي "الْقَدِيمِ" يَسْتَأْنِفُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فَسُنَّةٌ، فَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا جَازَ وَصَحَّ سَعْيُهُ مَا لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُمَا الْوُقُوفُ، فَإِنْ تَخَلَّلَ الْوُقُوفُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْعَى بَعْدَهُ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، بَلْ يَتَعَيَّنُ حِينَئِذٍ السَّعْيُ بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بِالِاتِّفَاقِ صَرَّحَ بِهِ الْقَفَّالُ وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ "الْعُدَّةِ" وَآخَرُونَ وَلَا نَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا إلَّا أَنَّ الْغَزَالِيَّ قَالَ فِي "الْوَسِيطِ" فِيهِ تَرَدُّدٌ وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْخُهُ التَّرَدُّدَ، بَلْ حَكَى قَوْلَ الْبَنْدَنِيجِيِّ وَسَكَتَ عَلَيْهِ. وَاحْتَجَّ لَهُ الْمُتَوَلِّي بِأَنَّهُ دَخَلَ وَقْتَ الطَّوَافِ الْمَفْرُوضِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْعَى سَعْيًا تَابِعًا لِطَوَافِ نَفْلٍ مَعَ إمْكَانِ طَوَافِ فَرْضٍ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ سُنَّةٌ، وَأَنَّهُ لَوْ تَخَلَّلَ زَمَانٌ طَوِيلٌ كَسَنَةٍ وَسَنَتَيْنِ وَأَكْثَرَ جَازَ أَنْ يَسْعَى

 

ج / 8 ص -63-         وَيَصِحُّ سَعْيُهُ وَيَكُونُ مَضْمُومًا إلَى السَّعْيِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ فِي طَرِيقَتَيْ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ، وَكُلُّهُمْ يُمَثِّلُونَ بِمَا لَوْ أَخَّرَهُ سَنَتَيْنِ جَازَ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِذَلِكَ وَقَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَفَّالُ، وَالْقَاضِيَانِ أَبُو الطَّيِّبِ وَحُسَيْنٌ فِي "تَعْلِيقِهِمَا" وَأَبُو عَلِيٍّ السِّنْجِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْفُورَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَصَاحِبُ "الْعُدَّةِ" و"الْبَيَانِ" وَخَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هَلْ تُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ لَا تُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ، بَلْ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ يَوْمًا وَشَهْرًا وَأَكْثَرَ لِأَنَّهُمَا رُكْنَانِ فَلَا تُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا كَالْوُقُوفِ وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ والثاني: تُشْتَرَطُ الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ فَرَّقَ كَثِيرًا لَمْ يَصِحَّ السَّعْيُ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ لَمَّا افْتَقَرَ إلَى تَقَدُّمِ الطَّوَافِ لِيَمْتَازَ عَمَّا لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى افْتَقَرَ إلَى الْمُوَالَاةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ لِيَقَعَ الْمَيْزُ بِهِ، وَلَا يَحْصُلُ الْمَيْزُ إذْ أَخَّرَهُ. هَذَا نَقْلُ الْمَاوَرْدِيُّ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: فِي اشْتِرَاطِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ قَوْلَانِ مَبْنِيَّانِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ فِي الْمُوَالَاةِ فِي الْوُضُوءِ. قَالَ وَوَجْهُ الشَّبَهِ أَنَّهُمَا رُكْنَانِ فِي عِبَادَةٍ، وَأَمْكَنَ الْمُوَالَاةُ بَيْنَهُمَا فَصَارَ كَالْيَدِ مَعَ الْوَجْهِ فِي الْوُضُوءِ، وَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الْجُمْهُورِ قِيَاسًا عَلَى تَأْخِيرِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ عَنْ الْوُقُوفِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ سِنِينَ كَثِيرَةً، وَلَا آخِرَ لَهُ مَا دَامَ حَيًّا بِلَا خِلَافٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي سُنَنِ السَّعْيِ.
وَهِيَ جَمِيعُ مَا سَبَقَ فِي كَيْفِيَّةِ السَّعْيِ سِوَى الْوَاجِبَاتِ الْمَذْكُورَةِ، وَهِيَ سُنَنٌ كَثِيرَةٌ إحداها: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ عَقِبَ الطَّوَافِ وَأَنْ يُوَالِيَهُ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْ الطَّوَافِ أَوْ فَرَّقَ بَيْنَ مَرَّاتِهِ جَازَ عَلَى الْمَذْهَبِ مَا لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهُمَا الْوُقُوفُ كَمَا سَبَقَ، وَفِيهِ خِلَافٌ ضَعِيفٌ سَبَقَ الْآنَ.
الثَّانِيَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْعَى عَلَى طَهَارَةٍ مِنْ الْحَدَثِ وَالنَّجَسِ سَاتِرًا عَوْرَتَهُ، فَلَوْ سَعَى مُحْدِثًا أَوْ جُنُبًا أَوْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ أَوْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ أَوْ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ، جَازَ وَصَحَّ سَعْيُهُ بِلَا خِلَافٍ، لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَقَدْ حَاضَتْ: (
اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَسَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ.
الثَّالِثَةُ: الْأَفْضَلُ أَنْ يَتَحَرَّى زَمَانَ الْخَلْوَةِ لِسَعْيِهِ وَطَوَافِهِ، وَإِذَا كَثُرَتْ الزَّحْمَةُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَفَّظَ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ، وَتَرْكُ هَيْئَةٍ مِنْ هَيْئَاتِ السَّعْيِ أَهْوَنُ مِنْ إيذَاءِ مُسْلِمٍ وَمِنْ تَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِلْأَذَى، وَإِذَا عَجَزَ عَنْ السَّعْيِ فِي مَوْضِعِهِ لِلزَّحْمَةِ تَشَبَّهَ فِي حَرَكَتِهِ بِالسَّاعِي كَمَا قُلْنَا فِي الرَّمَلِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "الْأُمِّ" وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَسْعَى فِي اللَّيْلِ لِأَنَّهُ أَسْتَرُ وَأَسْلَمُ لَهَا وَلِغَيْرِهَا مِنْ الْفِتْنَةِ، فَإِنْ طَافَتْ نَهَارًا جَازَ وَتَسْدُلُ عَلَى وَجْهِهَا مَا يَسْتُرُهُ مِنْ غَيْرِ مُمَاسَّتِهِ الْبَشَرَةَ.
الرَّابِعَةُ: الْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَرْكَبَ فِي سَعْيِهِ إلَّا لِعُذْرٍ كَمَا سَبَقَ فِي الطَّوَافِ، لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالتَّوَاضُعِ. لَكِنْ سَبَقَ هُنَاكَ خِلَافٌ فِي تَسْمِيَةِ الطَّوَافِ رَاكِبًا مَكْرُوهًا، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ السَّعْيَ رَاكِبًا لَيْسَ بِمَكْرُوهٍ، لَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَفْضَلِ لِأَنَّ سَبَبَ الْكَرَاهَةِ هُنَاكَ عِنْدَ مَنْ أَثْبَتَهَا خَوْفُ تَنَجُّسِ الْمَسْجِدِ بِالدَّابَّةِ، وَصِيَانَتُهُ مِنْ امْتِهَانِهِ بِهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى مُنْتَصَفٌ فِي السَّعْيِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ صَاحِبِ "الْحَاوِي" الرُّكُوبُ فِي السَّعْيِ أَخَفُّ مِنْ الرُّكُوبِ فِي الطَّوَافِ.

 

ج / 8 ص -64-         وَلَوْ سَعَى بِهِ غَيْرُهُ مَحْمُولًا جَازَ لَكِنَّ الْأَوْلَى سَعْيُهُ بِنَفْسِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ صَبِيًّا صَغِيرًا أَوْ لَهُ عُذْرٌ كَمَرَضٍ وَنَحْوِهِ.
الْخَامِسَةُ: أَنْ يَكُونَ الْخُرُوجُ إلَى السَّعْيِ مِنْ بَابِ الصَّفَا السَّادِسَةُ: أَنْ يَرْقَى عَلَى الصَّفَا وَعَلَى الْمَرْوَةِ قَدْرَ قَامَةٍ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. السَّابِعَةُ: الذِّكْرُ وَالدُّعَاءُ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي مُرُورِهِ بَيْنَهُمَا رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ وَأَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ، اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَأَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَسَبَقَ بَيَانُ أَدِلَّةِ كُلِّ هَذَا.
الثَّامِنَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ سَعْيُهُ فِي مَوْضِعِ السَّعْيِ الَّذِي سَبَقَ بَيَانُهُ سَعْيًا شَدِيدًا فَوْقَ الرَّمَلِ. وَالسَّعْيُ مُسْتَحَبٌّ فِي كُلِّ مَرَّةٍ مِنْ السَّبْعِ، بِخِلَافِ الرَّمَلِ فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالثَّلَاثِ الْأُوَلِ، كَمَا أَنَّ السَّعْيَ الشَّدِيدَ فِي مَوْضِعِهِ سُنَّةٌ، فَكَذَلِكَ الْمَشْيُ عَلَى عَادَتِهِ فِي بَاقِي الْمَسَافَةِ سُنَّةٌ، وَلَوْ سَعَى فِي جَمِيعِ الْمَسَافَةِ أَوْ مَشَى فِيهَا صَحَّ وَفَاتَهُ الْفَضِيلَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: أَمَّا الْمَرْأَةُ فَفِيهَا وَجْهَانِ الصَّحِيحُ: الْمَشْهُورُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ أَنَّهَا لَا تَسْعَى فِي مَوْضِعِ السَّعْيِ، بَلْ تَمْشِي جَمِيعَ الْمَسَافَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ نَهَارًا أَوْ لَيْلًا فِي الْخَلْوَةِ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ، وَأَمْرُهَا مَبْنِيٌّ عَلَى السَّتْرِ، وَلِهَذَا لَا تَرْمُلُ فِي الطَّوَافِ والثاني: أَنَّهَا إنْ سَعَتْ فِي اللَّيْلِ - حَالَ خُلُوِّ الْمَسْعَى - اُسْتُحِبَّ لَهَا السَّعْيُ فِي مَوْضِعِ السَّعْيِ كَالرَّجُلِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ: رَأَيْتُ النَّاسَ إذَا فَرَغُوا مِنْ السَّعْيِ صَلَّوْا رَكْعَتَيْنِ عَلَى الْمَرْوَةِ، قَالَ: وَذَلِكَ حَسَنٌ وَزِيَادَةُ طَاعَةٍ، وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. هَذَا كَلَامُ أَبِي مُحَمَّدٍ، وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ: يَنْبَغِي أَنْ يُكْرَهَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ شِعَارٍ، وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله لَيْسَ فِي السَّعْيِ صَلَاةٌ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ أَبُو عَمْرٍو أَظْهَرُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: لَا يَجُوزُ السَّعْيُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ السَّعْيِ، فَلَوْ مَرَّ وَرَاءَ مَوْضِعِ السَّعْيِ فِي زُقَاقِ الْعَطَّارِينَ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَصِحَّ سَعْيُهُ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ مُخْتَصٌّ بِمَكَانٍ فَلَا يَجُوزُ فِعْلُهُ فِي غَيْرِهِ كَالطَّوَافِ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي كِتَابِهِ "الْجَامِعِ": مَوْضِعُ السَّعْيِ بَطْنُ الْوَادِي. قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ: فَإِنْ الْتَوَى شَيْئًا يَسِيرًا أَجْزَأَهُ. وَإِنْ عَدَلَ حَتَّى يُفَارِقَ الْوَادِيَ الْمُؤَدِّيَ إلَى زُقَاقِ الْعَطَّارِينَ لَمْ يَجْزِ وَكَذَا قَالَ الدَّارِمِيُّ: إنْ الْتَوَى فِي السَّعْيِ يَسِيرًا جَازَ، وَإِنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ أَوْ زُقَاقَ الْعَطَّارِينَ فَلَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الدَّارِمِيُّ: يُكْرَهُ أَنْ يَقِفَ فِي سَعْيِهِ لِحَدِيثٍ1 وَنَحْوِهِ، فَإِنْ فَعَلَهُ أَجْزَأَهُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ولعل الحديث المراد هنا حديث جابر في وصف سعي رسول الله الذي رواه مسلم، وحديث ابن عمرو ووردا في قول المصنف بمعناهما، كما أشار إليه الشارح في مطلع هذا الفصل. ويحتمل أن يكون قصد الشارح يكره الوقوف لحديث أي لكلام مع أحد أو غيره وبذلك لا يكون ثم سقط كما توهم الشيوخ (المطيعي).

 

ج / 8 ص -65-         فرع: قَدْ سَبَقَ فِي فَصْلِ الطَّوَافِ أَنَّهُ يُسَنُّ الِاضْطِبَاعُ فِي جَمِيعِ الْمَسْعَى، وَذَكَرْنَا وَجْهًا شَاذًّا عَنْ حِكَايَةِ الدَّارِمِيِّ عَنْ ابْنِ الْقَطَّانِ أَنَّهُ إنَّمَا يَضْطَبِعُ فِي مَوْضِعِ السَّعْيِ الشَّدِيدِ دُونَ مَوْضِعِ الْمَشْيِ. وَهَذَا غَلَطٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: السَّعْيُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إلَّا بِهِ، وَلَا يُجْبَرُ بِدَمٍ وَلَا يَفُوتُ مَا دَامَ صَاحِبُهُ حَيًّا، فَلَوْ بَقِيَ مِنْهُ مَرَّةٌ مِنْ السَّعْيِ أَوْ خُطْوَةٌ لَمْ يَصِحَّ حَجُّهُ، وَلَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ إحْرَامِهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِمَا بَقِيَ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ النِّسَاءُ وَإِنْ طَالَ ذَلِكَ سِنِينَ، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا عِنْدَنَا إلَّا مَا شَذَّ بِهِ الدَّارِمِيُّ فَقَالَ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ تَرَكَ السَّعْيَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا لَزِمَهُ فِي كُلِّ شَوْطٍ إطْعَامُ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ فَفِيهَا الدَّمُ. قَالَ: وَحَكَى ابْنُ الْقَطَّانِ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ قَوْلًا آخَرَ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهَذَا الْقَوْلُ شَاذٌّ وَغَلَطٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إذَا أَتَى بِالسَّعْيِ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ وَقَعَ رُكْنًا وَلَا يُعَادُ بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، فَإِنْ أَعَادَهُ كَانَ خِلَافَ الْأَوْلَى. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَوَلَدُهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُمَا: يُكْرَهُ إعَادَتُهُ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَدَلِيلُ الْمَسْأَلَةِ حَدِيثُ جَابِرٍ: "
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ إلَّا طَوَافًا وَاحِدًا طَوَافَهُ الْأَوَّلَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، يَعْنِي بِالطَّوَافِ السَّعْيَ لقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158].
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَوْ سَعَى رَاكِبًا جَازَ، وَلَا يُقَالُ مَكْرُوهٌ، لَكِنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَكَرِهَ الرُّكُوبَ عَائِشَةُ وَعُرْوَةُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: لَا يُجْزِئُهُ وَيَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَا يَرْكَبُ إلَّا لِضَرُورَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ كَانَ بِمَكَّةَ أَعَادَهُ وَلَا دَمَ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى وَطَنِهِ بِلَا إعَادَةٍ لَزِمَهُ دَمٌ. دَلِيلُنَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ السَّابِقُ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"سَعَى رَاكِبًا".
فَرْعٌ: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي حُكْمِ السَّعْيِ.
مَذْهَبُنَا أَنَّهُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ لَا يَتِمُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِهِ، وَلَا يُجْبَرُ بِدَمٍ، وَلَوْ بَقِيَ مِنْهُ خُطْوَةٌ لَمْ يَتِمَّ حَجُّهُ وَلَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ إحْرَامِهِ. وَبِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ وَمَالِكٌ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَدَاوُد وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ وَاجِبٌ لَيْسَ بِرُكْنٍ بَلْ يَنُوبُ عَنْهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ: لَيْسَ هُوَ بِرُكْنٍ وَلَا دَمَ فِي تَرْكِهِ، وَالْأَصَحُّ عَنْهُ أَنَّهُ وَاجِبٌ لَيْسَ بِرُكْنٍ فَيُجْبَرُ بِالدَّمِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَنَسٌ وَابْنُ سِيرِينَ: هُوَ تَطَوُّعٌ لَيْسَ بِرُكْنٍ وَلَا وَاجِبٍ وَلَا دَمَ فِي تَرْكِهِ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالثَّوْرِيِّ أَنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الدَّمُ، وَعَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ تَرَكَ مِنْ السَّعْيِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لَزِمَهُ دَمٌ، وَإِنْ تَرَكَ دُونَهَا لَزِمَهُ لِكُلِّ شَوْطٍ نِصْفُ صَاعٍ وَلَيْسَ هُوَ بِرُكْنٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ، وَعَنْ عَطَاءٍ رِوَايَةٌ أَنَّهُ تَطَوُّعٌ لَا شَيْءَ فِي تَرْكِهِ، وَرِوَايَةٌ فِيهِ الدَّمُ.
قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: إنْ ثَبَتَ حَدِيثُ بِنْتِ أَبِي تَجْرَاةَ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ أَنَّهَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ يَقُولُ: "اسْعَوْا فَإِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ" فَهُوَ رُكْنٌ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِلَّا فَهُوَ تَطَوُّعٌ قَالَ: وَحَدِيثُهَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ

 

ج / 8 ص -66-         الْمُؤَمِّلِ وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ. وَاحْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ تَطَوُّعٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] وَفِي الشَّوَاذِّ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَطَّوَّفَ بِهِمَا) وَرَفْعُ الْجُنَاحِ فِي الطَّوَافِ بِهِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُبَاحٌ لَا وَاجِبٌ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ أَنَّهُنَّ سَمِعْنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ اسْتَقْبَلَ النَّاسَ فِي الْمَسْعَى وَقَالَ:
"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اسْعَوْا فَإِنَّ السَّعْيَ قَدْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ" رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَالْجَوَابُ عَنْ الْآيَةِ مَا أَجَابَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها لَمَّا سَأَلَهَا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ هَذَا فَقَالَتْ " إنَّمَا نَزَلَتْ الْآيَةُ هَكَذَا؛ لِأَنَّ الْأَنْصَارَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ مِنْ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، أَيْ يَخَافُونَ الْحَرَجَ فِيهِ، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْآيَةَ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
فرع: لَوْ سَعَى قَبْلَ الطَّوَافِ لَمْ يَصِحَّ سَعْيُهُ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَقَدَّمْنَا عَنْ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ نَقَلَ الْإِجْمَاعَ فِيهِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ وَبَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَصِحُّ، حَكَاهُ أَصْحَابُنَا عَنْ عَطَاءٍ وَدَاوُد. دَلِيلُنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "سَعَى بَعْدَ الطَّوَافِ، وَقَالَ صلى الله عليه وسلم:
لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ".
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ شَرِيكٍ الصَّحَابِيِّ رضي الله عنه قَالَ:
"خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجًّا فَكَانَ النَّاسُ يَأْتُونَهُ، فَمِنْ قَائِلٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ، أَوْ أَخَّرْتُ شَيْئًا، أَوْ قَدَّمْتُ شَيْئًا، فَكَانَ يَقُولُ: لَا حَرَجَ إلَّا عَلَى رَجُلٍ اقْتَرَضَ عِرْضَ رَجُلٍ مُسْلِمٍ وَهُوَ ظَالِمٌ، فَذَلِكَ الَّذِي هَلَكَ وَحَرِجَ" فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ كُلُّ رِجَالِهِ رِجَالُ الصَّحِيحَيْنِ إلَّا أُسَامَةَ بْنَ شَرِيكٍ الصَّحَابِيَّ وَهَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا حَمَلَهُ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: سَعَيْتُ قَبْلَ أَنْ أَطُوفَ، أَيْ سَعَيْتُ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ وَقَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: مَذْهَبُنَا أَنَّ التَّرْتِيبَ فِي السَّعْيِ شَرْطٌ، فَيَبْدَأُ بِالصَّفَا، فَلَوْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِ، وَبِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ. قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا، وَالْمَشْهُورُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَيَصِحُّ الِابْتِدَاءُ بِالْمَرْوَةِ. وَعَنْ عَطَاءٍ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا: كَمَذْهَبِنَا وَالثَّانِيَةُ: يَجْزِي الْجَاهِلَ. دَلِيلُنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:
"ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ" وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: لَوْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ الْمَكْتُوبَةُ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ السَّعْيِ قَطَعَهُ وَصَلَّاهَا ثُمَّ بَنَى عَلَيْهِ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُهُ سَالِمٌ وَعَطَاءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَقْطَعُهُ لِلصَّلَاةِ إلَّا أَنْ يَضِيقَ وَقْتُهَا.
فرع: مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ السَّعْيَ يَصِحُّ مِنْ الْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ وَالْحَائِضِ، وَعَنْ الْحَسَنِ أَنَّهُ إنْ كَانَ قَبْلَ التَّحَلُّلِ أَعَادَ السَّعْيَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، دَلِيلُنَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ رضي الله عنها وَقَدْ حَاضَتْ:
"اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.

 

ج / 8 ص -67-         قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَخْطُبُ الْإِمَامُ الْيَوْمَ السَّابِعَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بَعْدَ الظُّهْرِ بِمَكَّةَ، وَيَأْمُرُ النَّاسَ بِالْغُدُوِّ مِنْ الْغَدِ إلَى مِنًى، وَهِيَ إحْدَى الْخُطَبِ الْأَرْبَعِ الْمَسْنُونَةِ فِي الْحَجِّ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا كَانَ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ خَطَبَ النَّاسَ وَأَخْبَرَهُمْ بِمَنَاسِكِهِمْ" وَيَخْرُجُ إلَى مِنًى فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ وَيُصَلِّي بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَيَبِيتُ بِهَا إلَى أَنْ يُصَلِّيَ الصُّبْحَ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمِنًى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْغَدَاةَ" فَإِذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ سَارَ إلَى الْمَوْقِفِ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه قَالَ: "ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ ثُمَّ رَكِبَ فَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ أَنْ تُضْرَبَ لَهُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا" فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ خَطَبَ الْإِمَامُ، وَهِيَ الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ الْخُطَبِ الْأَرْبَعِ، فَيَخْطُبُ خُطْبَةً خَفِيفَةً وَيَجْلِسُ ثُمَّ يَقُومُ إلَى الثَّانِيَةِ، وَيَبْتَدِئُ الْمُؤَذِّنُ بِالْأَذَانِ حَتَّى يَكُونَ فَرَاغُ الْإِمَامِ مَعَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لِلْحَجَّاجِ "إنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُصِيبَ السُّنَّةَ فَأَقْصِرْ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلْ الْوُقُوفَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما: صَدَقَ" ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
الشرح: أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ الْأَوَّلُ فِي الْخُطْبَةِ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِلَفْظِهِ الْمَذْكُورِ فِي "الْمُهَذَّبِ" وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَصَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ بِمَعْنَاهُ وَهَذَا لَفْظُهُ: عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "الظُّهْرُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَالْفَجْرُ يَوْمَ عَرَفَةَ بِمِنًى" وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ قَالَ: "فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلَى مِنًى وَأَهَلُّوا بِالْحَجِّ وَرَكِبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ تُضْرَبُ لَهُ بِنَمِرَةَ" وَرَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أَنَسٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمِنًى" وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ "الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ" وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ وَقَوْلُهُ: "ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلًا" فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ كَمَا ذَكَرْنَا الْآنَ عَنْهُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ سَالِمٍ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" بِلَفْظِهِ هُنَا. وَأَمَّا حَدِيثُ الْجَمْعِ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: "يَوْمَ التَّرْوِيَةِ" هُوَ بِفَتْحِ التَّاءِ الْمُثَنَّاةِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَرَوَّوْنَ بِحَمْلِ الْمَاءِ مَعَهُمْ مِنْ مَكَّةَ إلَى عَرَفَاتٍ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ، وَيُسَمَّى يَوْمُ التَّرْوِيَةِ يَوْمَ النُّقْلَةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَنْتَقِلُونَ فِيهِ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى. وَأَمَّا "نَمِرَةُ" فَبِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْمِيمِ، وَيَجُوزُ إسْكَانُ الْمِيمِ مَعَ فَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِهَا، فَتَصِيرُ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ كَمَا سَبَقَ مَرَّاتٍ فِي نَظَائِرِهَا، وَنَمِرَةُ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ بِقُرْبِ عَرَفَاتٍ خَارِجَ الْحَرَمِ بَيْنَ طَرَفِ الْحَرَمِ وَطَرَفِ عَرَفَاتٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أما الأحكام: فَفِيهَا مَسَائِلُ إحداها: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا فَرَغَ الْمُحْرِمُ مِنْ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا مُتَمَتِّعًا أَوْ غَيْرَ مُتَمَتِّعٍ، فَلْيَحْلِقْ رَأْسَهُ أَوْ يُقَصِّرْهُ، فَإِذَا فَعَلَ صَارَ حَلَالًا تَحِلُّ لَهُ النِّسَاءُ وَكُلُّ شَيْءٍ كَانَ حُرِّمَ عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ، سَوَاءٌ كَانَ مُتَمَتِّعًا أَوْ مُعْتَمِرًا غَيْرَ مُتَمَتِّعٍ، سَوَاءٌ سَاقَ هَدْيًا

 

ج / 8 ص -68-         أَمْ لَا، وَلَا خِلَافَ فِي هَذَا كُلِّهِ عِنْدَنَا، وَقَدْ قَدَّمْتُ مَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ فَإِنْ كَانَ الْمُعْتَمِرُ مُتَمَتِّعًا أَقَامَ بِمَكَّةَ حَلَالًا يَفْعَلُ مَا أَرَادَ مِنْ الْجِمَاعِ وَغَيْرِهِ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ تَطَوُّعًا كَانَ لَهُ ذَلِكَ، بَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ.
وَيُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِكْثَارُ مِنْ الِاعْتِمَارِ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ بِدَلَائِلِهَا، وَمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ. فَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ بِالْحَجِّ، وَكَذَا مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ يُحْرِمُ بِهِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْمُسْتَوْطِنِينَ بِهَا أَمْ الْغُرَبَاءِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا وَاضِحًا فِي بَابِ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي فَرَغَ مِنْ السَّعْيِ حَاجًّا مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا، فَإِنْ وَقَعَ سَعْيُهُ بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَقَدْ فَرَغَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ كُلِّهَا، وَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَيْهِ الْمَبِيتُ بِمِنًى وَرَمْيُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَإِنْ وَقَعَ سَعْيُهُ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ فَلْيَمْكُثْ بِمَكَّةَ إلَى وَقْتِ خُرُوجِهِمْ إلَى مِنًى فَإِذَا كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ خَطَبَ الْإِمَامُ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ خُطْبَةً فَرْدَةً، وَهِيَ أَوَّلُ الْخُطَبِ الْأَرْبَعِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْحَجِّ، وَيَأْمُرُ النَّاسَ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ بِأَنْ يَتَأَهَّبُوا إلَى الذَّهَابِ إلَى مِنًى فِي الْغَدِ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّامِنُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ الْمُسَمَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، وَيُعَلِّمُهُمْ الْمَنَاسِكَ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إلَى الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ الْمَشْرُوعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ بِنَمِرَةَ، فَيَذْكُرُ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يَخْرُجُوا غَدًا قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ، كَمَا سَنُوَضِّحُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى مِنًى، وَأَنْ يُصَلُّوا بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَيَبِيتُوا بِهَا وَيُصَلُّوا بِهَا الصُّبْحَ وَيَمْكُثُوا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ عَلَى ثَبِيرٍ، ثُمَّ يَسِيرُوا إلَى نَمِرَةَ وَيَغْتَسِلُوا لِلْوُقُوفِ وَلَا يَصُومُوا وَلَا يَدْخُلُوا عَرَفَاتٍ قَبْلَ صَلَاتَيْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمْعًا، وَأَنْ يَحْضُرُوا الصَّلَاتَيْنِ وَالْخُطْبَتَيْنِ مَعَ الْإِمَامِ وَيَذْكُرَ لَهُمْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ وَيَأْمُرَ الْمُتَمَتِّعِينَ أَنْ يَطُوفُوا قَبْلَ الْخُرُوجِ، وَهَذَا الطَّوَافُ مُسْتَحَبٌّ لَهُمْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْأَصْحَابُ: فَلَوْ كَانَ الْيَوْمُ السَّابِعُ يَوْمَ جُمُعَةٍ خَطَبَ لِلْجُمُعَةِ وَصَلَّاهَا، ثُمَّ خَطَبَ هَذِهِ الْخُطْبَةَ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ التَّأْخِيرُ عَنْ الصَّلَاةِ. وَشَرْطُ خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ تَقَدُّمُهَا عَلَى الصَّلَاةِ. فَلَا تَدْخُلُ إحْدَاهَا فِي الْأُخْرَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إنْ كَانَ الْإِمَامُ الَّذِي خَطَبَ هَذِهِ الْخُطْبَةَ يَوْمَ السَّابِعِ مُحْرِمًا افْتَتَحَ الْخُطْبَةَ بِالتَّلْبِيَةِ، وَإِنْ كَانَ حَلَالًا افْتَتَحَهَا بِالتَّكْبِيرِ. قَالَ: وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مُقِيمًا بِمَكَّةَ اُسْتُحِبَّ أَنْ يُحْرِمَ وَيَصْعَدَ الْمِنْبَرَ مُحْرِمًا ثُمَّ يَخْطُبَ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ إحْرَامِ الْإِمَامِ غَرِيبٌ مُحْتَمَلٌ.
فرع: الْخُطَبُ الْمَشْرُوعَةُ فِي الْحَجِّ أَرْبَعَةٌ إحْدَاهُنَّ: يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ بِمَكَّةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهَا قَرِيبًا وَاضِحَةً الثَّانِيَةُ: يَوْمَ عَرَفَةَ بِقُرْبِ عَرَفَاتٍ الثَّالِثَةُ: بِمِنًى الرَّابِعَةُ: يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ بِمِنًى أَيْضًا، وَهُوَ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَذْكُرُ لَهُمْ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْخُطَبِ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مِنْ الْمَنَاسِكِ وَأَحْكَامِهَا، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا إلَى الْخُطْبَةِ الْأُخْرَى. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَخْطُبُ فَقِيهًا قَالَ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكُلُّ هَذِهِ الْخُطَبِ الْأَرْبَعِ أَفْرَادٌ وَبَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَّا الَّتِي بِعَرَفَاتٍ، فَإِنَّهُمَا خُطْبَتَانِ وَقَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَبَعْدَ الزَّوَالِ، وَسَيَأْتِي إيضَاحُهُنَّ فِي مَوْضِعِهِنَّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

 

ج / 8 ص -69-         فرع: أَيَّامُ الْمَنَاسِكِ سَبْعَةٌ أَوَّلُهَا: بَعْدَ الزَّوَالِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَآخِرُهَا بَعْدَ الزَّوَالِ الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْهُ وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَالسَّابِعُ لَا يُعْرَفُ لَهُ اسْمٌ مَخْصُوصٌ، وَالثَّامِنُ يُسَمَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ كَمَا سَبَقَ، وَالتَّاسِعُ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْعَاشِرُ يَوْمُ النَّحْرِ، وَالْحَادِيَ عَشَرَ يَوْمُ الْقَرِّ - بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ - سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَقِرُّونَ فِيهِ بِمِنًى أَوْ يُقِيمُونَ مُطْمَئِنِّينَ، وَالثَّانِيَ عَشَرَ يَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ، وَالثَّالِثَ عَشَرَ يَوْمُ النَّفْرِ الثَّانِي وَأَمَّا قَوْلُ الصَّيْمَرِيِّ وَالْمَاوَرْدِيِّ وَصَاحِبِ "الْبَيَانِ": إنَّ النَّاسَ اخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَةِ الثَّامِنِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَقِيلَ لِأَنَّهُمْ يَتَرَوَّوْنَ الْمَاءَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَقِيلَ لِأَنَّ آدَمَ رَأَى فِيهِ حَوَّاءَ، وَقِيلَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ أَرَى فِيهِ إبْرَاهِيمَ الْمَنَاسِكَ فَكَلَامٌ فَاسِدٌ وَنَقْلٌ عَجِيبٌ، وَالصَّوَابُ مَا قَدَّمْنَاهُ.
فرع: السُّنَّةُ لِلْخَلِيفَةِ إذَا لَمْ يَحْضُرْ الْحَجَّ بِنَفْسِهِ أَنْ يُنَصِّبَ أَمِيرًا عَلَى الْحَجِيجِ يُقِيمُ لَهُمْ الْمَنَاسِكَ وَيُطِيعُونَهُ فِيمَا يَنُوبُهُمْ. وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَصْلٌ حَسَنٌ فِي صِفَاتِ هَذَا الْأَمْرِ وَشُرُوطِهِ وَأَحْكَامِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِوِلَايَتِهِ، وَدَلِيلُ مَا ذَكَرْنَاهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ، فَقَدْ فُتِحَتْ مَكَّةُ سَنَةَ ثَمَانٍ مِنْ الْهِجْرَةِ فِي رَمَضَانَ
"فَوَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ مَكَّةَ، وَأَقَامَ الْمَنَاسِكَ لِلنَّاسِ تِلْكَ السَّنَةَ، ثُمَّ أَمَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي السَّنَةِ التَّاسِعَةِ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رضي الله عنه عَلَى الْحَجِّ، فَحَجَّ بِالنَّاسِ وَحَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ حَجَّةَ الْوَدَاعِ، ثُمَّ اسْتَمَرَّ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ عَلَى الْحَجِّ بِالنَّاسِ". وَإِذَا لَمْ يَحْضُرُوا اسْتَنَابُوا أَمِيرًا، وَوَلِيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه الْخِلَافَةَ عَشْرَ سِنِينَ حَجَّهُنَّ كُلَّهُنَّ، وَقِيلَ حَجَّ تِسْعَ سِنِينَ مِنْهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: السُّنَّةُ أَنْ يَخْرُجَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ وَالْحَجِيجُ إلَى مِنًى فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيَكُونُ خُرُوجُهُمْ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ بِمَكَّةَ بِحَيْثُ يُصَلُّونَ الظُّهْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا بِمِنًى. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ مِنْ نُصُوصِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ. وَفِيهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الظُّهْرَ بِمَكَّةَ ثُمَّ يَخْرُجُونَ. وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ": قَالَ الشَّافِعِيُّ: يَأْمُرُهُمْ بِالْغُدُوِّ إلَى مِنًى وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: يَأْمُرُهُمْ بِالرَّوَاحِ. قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: وَكُلُّ هَذَا قَرِيبٌ إلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ الظُّهْرَ بِمِنًى، وَذَكَرَ صَاحِبُ "الْبَيَانِ" هَذَيْنِ النَّصَّيْنِ لِلشَّافِعِيِّ ثُمَّ قَالَ: وَلَيْسَتْ عَلَى قَوْلَيْنِ، بَلْ هُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يَغْدُوا بُكْرَةً وَبَيْنَ أَنْ يَرُوحُوا بَعْدَ الزَّوَالِ، قَالَ: وَهَذَا الثَّانِي أَوْلَى. هَذَا كَلَامُهُ وَلَيْسَ كَمَا قَالَ.
وَقَالَ صَاحِبُ "الْحَاوِي": إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ خَرَجَ إلَى مِنًى وَلَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ بِمَكَّةَ وَإِنْ خَرَجَ قَبْلَ الزَّوَالِ جَازَ، فَحَصَلَ خِلَافٌ فِي وَقْتِ اسْتِحْبَابِ الْخُرُوجِ الْمَذْهَبُ: أَنَّهُ بَعْدَ الصُّبْحِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ كَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ خَرَجُوا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الْفَجْرِ وَقَبْلَ الزَّوَالِ إلَى حَيْثُ لَا تُصَلَّى الْجُمُعَةُ حَرَامٌ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَمَكْرُوهٌ فِي الْآخَرِ، فَيَنْبَغِي الِاحْتِرَازُ مِنْهُ بِالْخُرُوجِ قَبْلَ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ بِمِنًى وَلَا بِعَرَفَاتٍ" لِأَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْجُمُعَةِ دَارَ الْإِقَامَةِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: فَإِنْ بُنِيَ بِهَا قَرْيَةٌ وَاسْتَوْطَنَهَا أَرْبَعُونَ مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ أَقَامُوا الْجُمُعَةَ وَصَلَّاهَا مَعَهُمْ الْحَجِيجُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِه": وَإِذَا كَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ اسْتَخْلَفَ الْإِمَامُ مَنْ

 

ج / 8 ص -70-         يُصَلِّي الْجُمُعَةَ بِالنَّاسِ بِمَكَّةَ، وَسَارَ هُوَ إلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ. هَذَا كَلَامُ الْقَاضِي. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: وَلَوْ تَرَكُوا الْخُرُوجَ أَوَّلَ النَّهَارِ، وَصَلَّوْا الْجُمُعَةَ فِي وَقْتِهَا بِمَكَّةَ كَانَ أَوْلَى لِأَنَّهَا فَرْضٌ وَالْخُرُوجُ إلَى مِنًى مُسْتَحَبٌّ، وَهَذَا خِلَافُ مَا قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ، وَخِلَافُ مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ إلَى عَرَفَاتٍ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَيُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ يَخْرُجَ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي "الْبُوَيْطِيِّ"، وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَيْهِ، وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ عَنْ نَصِّهِ فِي "الْبُوَيْطِيِّ" ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا يُتَصَوَّرُ فِي صُورَتَيْنِ، وَهُمَا الْمُتَمَتِّعُ وَالْمَكِّيُّ إذَا أَحْرَمَا بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ الثَّالِثَةُ: إذَا خَرَجُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إلَى مِنًى فَالسُّنَّةُ أَنْ يُصَلُّوا بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ وَالسُّنَّةُ أَنْ يَبِيتُوا بِمِنًى لَيْلَةَ التَّاسِعِ، وَهَذَا الْمَبِيتُ سُنَّةٌ لَيْسَ بِرُكْنٍ وَلَا وَاجِبٍ فَلَوْ تَرَكَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لَكِنْ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ كَوْنِهِ سُنَّةً لَا خِلَافَ فِيهِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ وَصَاحِبِ "الشَّامِلِ" وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيِّ وَالْمُتَوَلِّي إنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ فَمُرَادُهُمْ لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَمْ يُرِيدُوا أَنَّهُ لَا فَضِيلَةَ فِيهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الرَّابِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: فَإِذَا بَاتَ بِمِنًى لَيْلَةَ التَّاسِعِ وَصَلَّى بِهَا الصُّبْحَ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَمْكُثَ بِهَا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ عَلَى ثَبِيرٍ بِفَتْحِ الثَّاءِ الْمُثَلَّثَةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ - وَهُوَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ هُنَاكَ، فَإِذَا طَلَعَتْ عَلَيْهِ سَارَ مُتَوَجِّهًا إلَى عَرَفَاتٍ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ فِي مَسِيرِهِ هَذَا (اللَّهُمَّ إلَيْكَ تَوَجَّهْتُ وَلِوَجْهِكَ الْكَرِيمِ أَرَدْتُ، فَاجْعَلْ ذَنْبِي مَغْفُورًا، وَحَجِّي مَبْرُورًا، وَارْحَمْنِي وَلَا تُخَيِّبْنِي، إنَّكَ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ التَّلْبِيَةِ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي كِتَابِهِ الْحَاوِي. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَاخْتَارَ أَنْ يَسْلُكَ الطَّرِيقَ الَّتِي سَلَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غُدُوِّهِ إلَى عَرَفَاتٍ، وَهِيَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ فِي أَصْلِ الْمَأْزِمَيْنِ عَلَى يَمِينِ الذَّاهِبِ إلَى عَرَفَاتٍ، يُقَالُ لَهُ طَرِيقُ ضَبٍّ. هَذَا كَلَامُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي "الْحَاوِي". وَقَالَ فِي كِتَابِهِ "الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ": يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسِيرَ عَلَى طَرِيقِ ضَبٍّ وَيَعُودَ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلِيَكُونَ عَائِدًا فِي طَرِيقٍ غَيْرِ الَّتِي ذَهَبَ فِيهَا كَالْعِيدِ. وَذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ نَحْوَ هَذَا. قَالَ الْأَزْرَقِيُّ: وَطَرِيقُ ضَبٍّ طَرِيقٌ مُخْتَصَرٌ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ إلَى عَرَفَةَ وَهُوَ فِي أَصْلِ الْمَأْزِمَيْنِ عَنْ يَمِينِكَ وَأَنْتَ ذَاهِبٌ إلَى عَرَفَةَ. وَأَمَّا قَوْلُ الْقَاضِي حُسَيْنٍ فِي "تَعْلِيقِهِ": يُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْلُكَ فِي ذَهَابِهِ مِنْ مِنًى إلَى عَرَفَاتٍ طَرِيقَ الْمَأْزِمَيْنِ لِأَنَّهُ طَرِيقُ الْأَئِمَّةِ فَهُوَ مُتَأَوَّلٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْأَزْرَقِيُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: 1وَيَسِيرُونَ مُلَبِّينَ ذَاكِرِينَ اللَّهَ لِحَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ: "سَأَلَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الحافظ ابن حجر في "الفتح" عند (باب التلبية): لم يعترض المصنف - يعني البخاري - لحكم التلبية وفيها مذاهب أربعة يمكن توصيلها إلى عشرة: الأول: إنها سنة من السنن لا يجب بتركها شيء وهو قول الشافعي وأحمد. وثانيها: واجبة يجب بتركها دم حكاه الماوردي عن ابن أبي هريرة من الشافعية وقال: أنه وجد =

 

ج / 8 ص -71-         أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إلَى عَرَفَةَ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: كَانَ يُهِلُّ الْمُهِلُّ مِنَّا فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ مِنَّا فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ وَذَكَرَهَا فِي صَلَاةِ الْعِيدِ: "كَانَ يُلَبِّي الْمُلَبِّي لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ وَيُكَبِّرُ الْمُكَبِّرُ لَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ" وَهُوَ بِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "غَدَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مِنًى إلَى عَرَفَاتٍ مِنَّا الْمُلَبِّي وَمِنَّا الْمُكَبِّرُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
الْخَامِسَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ إذَا وَصَلُوا نَمِرَةَ أَنْ تُضْرَبَ بِهَا قُبَّةُ الْإِمَامِ وَمَنْ كَانَ لَهُ قُبَّةٌ ضَرَبَهَا اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَنْزِلَ بِنَمِرَةَ حَيْثُ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَنْزِلُ الْخُلَفَاءِ الْيَوْمَ، وَهُوَ إلَى الصَّخْرَةِ السَّاقِطَةِ بِأَصْلِ الْجَبَلِ عَلَى يَمِينِ الذَّاهِبِ، إلَى عَرَفَاتٍ، وَكَذَا رَوَى الْأَرْزَقِيُّ فِي هَذَا التَّقْيِيدِ عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ الْأَرْزَقِيُّ وَغَيْرُهُ: نَمِرَةُ عِنْدَ الْجَبَلِ الَّذِي عَلَيْهِ أَنْصَافُ الْحَرَمِ عَنْ يَمِينِكَ إذَا خَرَجْتَ مِنْ مَأْزِمَيْ عَرَفَاتٍ تُرِيدُ الْمَوْقِفَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَدْخُلُ عَرَفَاتٍ إلَّا فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ مَجْمُوعَتَيْنِ، كَمَا سَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ مُعْظَمُ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ مِنْ دُخُولِهِمْ أَرْضَ عَرَفَاتٍ قَبْلَ وَقْتِ الْوُقُوفِ فَخَطَأٌ وَبِدْعَةٌ وَمُنَابَذَةٌ لِلسُّنَّةِ. وَالصَّوَابُ أَنْ يَمْكُثُوا بِنَمِرَةَ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ وَيَغْتَسِلُوا بِهَا لِلْوُقُوفِ، فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ ذَهَبَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ إلَى الْمَسْجِدِ الْمُسَمَّى مَسْجِدَ إبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم وَيَخْطُبُ الْإِمَامُ فِيهِ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ خُطْبَتَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ، يُبَيِّنُ لَهُمْ فِي الْأُولَى مِنْهُمَا كَيْفِيَّةَ الْوُقُوفِ وَشَرْطَهُ وَآدَابَهُ، وَمَتَى الدَّفْعُ مِنْ عَرَفَاتٍ إلَى مُزْدَلِفَةَ؟ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَاسِكِ الَّتِي بَيْنَ أَيْدِيهِمْ إلَى الْخُطْبَةِ الَّتِي تَكُونُ بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَهَذِهِ الْمَنَاسِكُ الَّتِي يَذْكُرُهَا فِي خُطْبَةِ عَرَفَةَ هِيَ مُعْظَمُ الْمَنَاسِكِ، وَيُحَرِّضُهُمْ فِيهَا عَلَى إكْثَارِ الدُّعَاءِ وَالتَّهْلِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَذْكَارِ وَالتَّلْبِيَةِ فِي الْمَوْقِفِ، وَيُخَفِّفُ هَذِهِ الْخُطْبَةَ، لَكِنْ لَا يَبْلُغُ تَخْفِيفُهَا تَخْفِيفَ الثَّانِيَةِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= للشافعي نصاً يدل عليه وحكاه ابن قدامة عن بعض المالكية والخطابي عن مالك وأبي حنيفة، وأغرب النووي فحكى عن مالك أنها سنة ويجب بتركها دم - يعني بذلك ما مضى في الجزء السابع - ولا يعرف ذلك عندهم إلا أن الجلاب قال: التلبية في الحج مسنونة غير مفروضة، وقال ابن التين: يريد أنها ليست من أركان الحج وإلا فهي واجبة ولذلك يجب بتركها الدم ولو لم تكن واجبة لم يجب. وحكى ابن العربي أنه يجب عندهم بترك تكرارها دم وهذا قدر زائد على أصل الوجوب. ثالثها: واجبة لكن يقوم مقامها فعل يتعلق بالحج كالتوجه على الطريق وبهذا صدر ابن شاس من المالكية كلامه في "الجواهر" له وحكى صاحب "الهداية" من الحنفية مثله لكن زاد القول الذي يقوم مقام التلبية من الذكر كما في مذهبهم من أنه لا يجب لفظ معين. وقال ابن المنذر: قال أصحاب الرأي: إن كبر أو هلل أو سبح ينوي بذلك الإحرام فهو محرم رابعها: إنها ركن في الإحرام لا ينعقد بدونها حكاه ابن عبد البر عن الثوري وأبي حنيفة وابن حبيب من المالكية والزبيري من الشافعية وأهل الظاهر. قالوا: هي نظير تكبيرة الإحرام للصلاة ويقويه ما تقدم من بحث ابن عبد السلام عن حقيقة الإحرام وهو قول عطا أخرجه سعيد بن منصور بإسناد صحيح عنه قال: التلبية فرض الحج وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وطاوس وعكرمة وحكى النووي عن داود أنه لا بد من رفع الصوت بها، وهذا قدر زائد على كونها. اهـ "الفتح" ج3 ص411.

 

ج / 8 ص -72-         قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَقَلُّ مَا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ هَذِهِ الْخُطْبَةِ إلَى الْخُطْبَةِ الْآتِيَةِ، قَالَ: فَإِنْ كَانَ فَقِيهًا قَالَ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ؟ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِلسُّؤَالِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا فَرَغَ مِنْ هَذِهِ الْخُطْبَةِ جَلَسَ لِلِاسْتِرَاحَةِ قَدْرَ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ، ثُمَّ يَقُومُ إلَى الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ وَيُخَفِّفُهَا جِدًّا، وَيَأْخُذُ الْمُؤَذِّنُ فِي الْأَذَانِ مَعَ شُرُوعِ الْإِمَامِ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، بِحَيْثُ يَفْرُغُ مِنْهَا مَعَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ مِنْ الْأَذَانِ. هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَالْمُصَنِّفُ فِي "التَّنْبِيهِ" وَالْبَغَوِيُّ. وَقَالَ الْفُورَانِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَطَائِفَةٌ قَلِيلَةٌ: يَفْرُغُ مَعَ فَرَاغِهِ مِنْ الْإِقَامَةِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى مِنْبَرٍ إنْ وُجِدَ، وَإِلَّا فَعَلَى مُرْتَفِعٍ مِنْ الْأَرْضِ أَوْ عَلَى بَعِيرٍ، وَاسْتَدَلُّوا لَهُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:
"ضُرِبَتْ لَهُ الْقُبَّةُ بِنَمِرَةَ فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. قَوْلُهُ "فَرُحِلَتْ" بِتَخْفِيفِ الْحَاءِ، أَيْ جُعِلَ الرَّحْلُ عَلَيْهَا
السَّادِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: السُّنَّةُ إذَا فَرَغَ مِنْ الْخُطْبَتَيْنِ أَنْ يَنْزِلَ فَيُصَلِّيَ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ ثُمَّ الْعَصْرَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ صِفَةِ الْجَمْعِ وَشُرُوطِهِ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِينَ، وَدَلِيلُ اسْتِحْبَابِ الْجَمْعِ مَا قَدَّمْتُهُ قَرِيبًا فِي أَوَّلِ هَذَا الْفَصْلِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، وَيَكُونُ هَذَا الْجَمْعُ بِأَذَانٍ لِلْأُولَى، وَإِقَامَتَيْنِ، لِكُلِّ صَلَاةٍ إقَامَةٌ، كَمَا قَرَرْنَاهُ فِي بَابِ الْأَذَانِ إذَا جَمَعَ فِي وَقْتِ الْأُولَى.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيُسِرُّ الْقِرَاءَةَ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَجْهَرُ كَالْجُمُعَةِ.
دَلِيلُنَا أَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجَهْرُ، فَظَاهِرُ الْحَالِ الْإِسْرَارُ، وَهَلْ هَذَا الْجَمْعُ بِسَبَبِ النُّسُكِ أَمْ بِسَبَبِ السَّفَرِ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ فِي كُتُبِ الْخُرَاسَانِيِّينَ أحدهما: بِسَبَبِ النُّسُكِ، فَيَجُوزُ الْجَمْعُ لِكُلِّ أَحَدٍ هُنَاكَ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ عَرَفَاتٍ أَوْ الْمُزْدَلِفَةِ أَوْ غَيْرِهِمْ أَوْ مُسَافِرًا، وَبِهَذَا قَطَعَ الصَّيْمَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ فِي "الْحَاوِي". وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ بِسَبَبِ السَّفَرِ، فَعَلَى هَذَا مَنْ كَانَ سَفَرُهُ طَوِيلًا جَمَعَ وَمَنْ كَانَ قَصِيرًا كَالْمَكِّيِّ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ، فَفِي جَوَازِ الْجَمْعِ لَهُ الْقَوْلَانِ الْمَشْهُورَانِ فِي الْجَمْعِ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ الْأَصَحُّ: الْجَدِيدُ لَا يَجُوزُ (وَالْقَدِيمُ) جَوَازُهُ. وَبِهَذَا الْوَجْهِ قَطَعَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَآخَرُونَ. وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالْجَوَازِ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِنَمِرَةَ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَمَعَهُ حِينَئِذٍ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ" وَأَجَابَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ بِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ جَمَعُوا: وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْقَصْرُ فَلَا يَجُوزُ إلَّا لِمَنْ كَانَ سَفَرُهُ طَوِيلًا، وَهُوَ مَرْحَلَتَانِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا اُسْتُحِبَّ لَهُ الْقَصْرُ بِالنَّاسِ، فَإِذَا سَلَّمَ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ وَمَنْ سَفَرُهُ

 

ج / 8 ص -73-         قَصِيرٌ أَتِمُّوا فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَصَرَ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَيَجُوزُ لِلْإِمَامِ الْمُسَافِرِ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاتَيْنِ وَيَجْمَعَهُمَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْصُرَهُمَا وَيَجْمَعَهُمَا فِي وَقْتِ الْعَصْرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْصُرَهُمَا وَلَا يَجْمَعَهُمَا، بَلْ يُصَلِّي كُلَّ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَجْمَعَهُمَا وَلَا يَقْصُرَهُمَا بَلْ يُتِمَّهُمَا، وَيَجُوزُ أَنْ يُتِمَّ إحْدَاهُمَا وَيَقْصُرَ الْأُخْرَى. هَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا كَسَائِرِ صَلَوَاتِ السَّفَرِ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ وَالسُّنَّةَ جَمْعُهُمَا فِي أَوَّلِ وَقْتِ الظُّهْرِ مَقْصُورَتَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: فَلَوْ فَاتَ إنْسَانًا مِنْ الْحَجِيجِ الصَّلَاةُ مَعَ الْإِمَامِ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ وَالْقَصْرُ فِي صَلَاتِهِ وَحْدَهُ، إنْ كَانَ مُسَافِرًا كَسَائِرِ صَلَوَاتِ السَّفَرِ، وَسَنَذْكُرُ فِيهِ مَذْهَبَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ كَانَ مَكِّيًّا وَنَحْوَهُ مِمَّنْ سَفَرُهُ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْقَصْرُ وَلَا الْجَمْعُ إلَّا إذَا قُلْنَا بِالضَّعِيفِ إنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ جَمَعَ بَعْضُ النَّاسِ قَبْلَ الْإِمَامِ مُنْفَرِدًا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ أُخْرَى، أَوْ صَلَّى إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ مَعَ الْإِمَامِ وَالْأُخْرَى مُنْفَرِدًا جَمْعًا وَقَصْرًا جَازَ بِشَرْطِهِ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ صَلَاتُهُمَا مَعَ الْإِمَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا وَصَلَّى بِهِمْ قَصْرًا وَجَمْعًا لَزِمَهُ نِيَّةُ الْقَصْرِ وَالْجَمْعِ، كَمَا سَبَقَ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ.
وَأَمَّا الْمَأْمُومُونَ فَيَلْزَمُهُمْ نِيَّةُ الْقَصْرِ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَهَلْ يَلْزَمُهُمْ نِيَّةُ الْجَمْعِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ "الْحَاوِي" أَصَحُّهُمَا: يَلْزَمُهُمْ نِيَّةُ الْجَمْعِ، كَمَا يَلْزَمُهُمْ نِيَّةُ الْجَمْعِ فِي غَيْرِ عَرَفَاتٍ. فَعَلَى هَذَا يُوصِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِذَلِكَ، وَيُعْلِمُ عَالِمُهُمْ بِذَلِكَ جَاهِلَهُمْ والثاني: لَا يَلْزَمُهُمْ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ1. وَلِلْمَشَقَّةِ فِي إعْلَامِ جَمِيعِهِمْ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ هُنَاكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنَادِيَ بِالْجَمْعِ، وَلَا أَخْبَرَهُمْ بِأَنَّ نِيَّتَهُ وَاجِبَةٌ، وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ قَرِيبُ الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ وَمَنْ لَا يَعْلَمُ وُجُوبَ هَذِهِ النِّيَّةِ. وَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ قَالَ: هَذَا كُلُّهُ يَنْتَقِضُ بِنِيَّةِ الْقَصْرِ، قَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى وُجُوبِهَا مَعَ وُجُودِ هَذِهِ الْأُمُورِ فِيهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إذَا دَخَلَ الْحُجَّاجُ مَكَّةَ وَنَوَوْا أَنْ يُقِيمُوا بِهَا أَرْبَعًا، لَزِمَهُمْ إتْمَامُ الصَّلَاةِ، فَإِذَا خَرَجُوا يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إلَى مِنًى، وَنَوَوْا الذَّهَابَ إلَى أَوْطَانِهِمْ عِنْدَ فَرَاغِ مَنَاسِكِهِمْ، كَانَ لَهُمْ الْقَصْرُ مِنْ حِينِ خَرَجُوا لِأَنَّهُمْ أَنْشَئُوا سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ.
فرع: وَيُسَنُّ لَهُ فِعْلُ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ لِلظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، كَمَا يُسَنُّ لِغَيْرِهِ مِنْ الْجَامِعِينَ الْقَاصِرِينَ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا فِي صَلَاةِ الْمُسَافِرِ وَفِي صَلَاةِ التَّطَوُّعِ، فَيُصَلِّي أَوَّلًا سُنَّةَ الظُّهْرِ الَّتِي قَبْلَهَا، ثُمَّ يُصَلِّي الظُّهْرَ، ثُمَّ الْعَصْرَ، ثُمَّ سُنَّةَ الظُّهْرِ الَّتِي بَعْدَهَا ثُمَّ سُنَّةَ الْعَصْرِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَلَا يَتَنَفَّلُونَ بَعْدَ الصَّلَاتَيْنِ بِغَيْرِ السُّنَنِ الرَّاتِبَةِ، بَلْ يُبَادِرُونَ بِتَعْجِيلِ الْوُقُوفِ. وَحَكَى ابْنُ كَجٍّ وَالرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّهُ لَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ولعله: موضع سفر وارتحال (ط).

 

ج / 8 ص -74-         بَأْسَ بِتَنَفُّلِ الْمَأْمُومِ بَعْدَ الصَّلَاتَيْنِ بِغَيْرِ السُّنَنِ الرَّوَاتِبِ، بِخِلَافِ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَفَّلُ بِغَيْرِ الرَّوَاتِبِ قَطْعًا لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: لَوْ وَافَقَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لَمْ يُصَلُّوا الْجُمُعَةَ هُنَاكَ؛ لِأَنَّ مِنْ شَرْطِهَا دَارَ الْإِقَامَةِ، وَأَنْ يُصَلِّيَهَا مُسْتَوْطِنُونَ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الشَّافِعِيَّ وَالْأَصْحَابَ قَالُوا: لَوْ بُنِيَ بِهَا قَرْيَةٌ وَاسْتَوْطَنَهَا أَرْبَعُونَ كَامِلُونَ صُلِّيَتْ بِهَا الْجُمُعَةُ وَلَمْ يُصَلِّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْجُمُعَةَ بِعَرَفَاتٍ مَعَ أَنَّهُ ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ الَّذِي وَقَفَ فِيهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَوْمَ جُمُعَةٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْفَصْلِ.
إحداها: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي الْحَجِّ أَرْبَعُ خُطَبٍ، وَهِيَ يَوْمُ السَّابِعِ بِمَكَّةَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ بِمَسْجِدِ إبْرَاهِيمَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ بِمِنًى، وَيَوْمُ النَّفْرِ الْأَوَّلِ بِمِنًى أَيْضًا، وَبِهِ قَالَ دَاوُد. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ: خُطَبُ الْحَجِّ ثَلَاثٌ. يَوْمُ السَّابِعِ وَالتَّاسِعِ، وَيَوْمُ النَّفْرِ الثَّانِي، قَالَا: وَلَا خُطْبَةَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ. وَقَالَ أَحْمَدُ "لَيْسَ فِي السَّابِعِ خُطْبَةٌ" وَقَالَ زُفَرُ خُطَبُ الْحَجِّ ثَلَاثٌ، يَوْمُ الثَّامِنِ، وَيَوْمُ عَرَفَةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ. وَلَقَدْ ذَكَرْنَا دَلِيلَنَا فِي خُطْبَةِ السَّابِعِ، وَخُطْبَةِ يَوْمِ عَرَفَةَ.
وَأَمَّا خُطْبَةُ يَوْمِ النَّحْرِ فَفِيهَا أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ مِنْهَا: حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَامَ إلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: كُنْتُ أَحْسِبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَذَا وَكَذَا قَبْلَ كَذَا وَكَذَا. ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ كَذَا وَكَذَا قَبْلَ كَذَا لِهَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ، قَالَ: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي "صَحِيحَيْهِمَا"، يَعْنِي بِالثَّلَاثِ الرَّمْيَ يَوْمَ النَّحْرِ وَالْحَلْقَ وَنَحْرَ الْهَدْيِ. وَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: "خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي خُطْبَتِهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى، وَبَيَانَهُ تَحْرِيمَ الدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَأَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ؟ قَالَ: فَأَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فَأَعَادَهَا مِرَارًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ قَدْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ قَدْ بَلَّغْتُ. وَذَكَرَ تَمَامَ الْحَدِيثِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى: "أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ فَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ حَرَامٌ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَعَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ قَالَتْ: "حَجَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ فَرَأَيْتُهُ حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَانْصَرَفَ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ وَمَعَهُ بِلَالٌ وَأُسَامَةُ أَحَدُهُمَا يَقُودُ بِهِ رَاحِلَتَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْلًا كَثِيرًا ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ إنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ مُجَدَّعٌ يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ الْهِرْمَاسِ بْنِ زِيَادٍ الصَّحَابِيِّ ابْنِ الصَّحَابِيِّ قَالَ:
"رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ عَلَى نَاقَتِهِ الْعَضْبَاءِ يَوْمَ الْأَضْحَى بِمِنًى" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا

 

ج / 8 ص -75-         بِإِسْنَادٍ آخَرَ صَحِيحٍ، وَلَفْظُهُ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا صَبِيٌّ أَرْدَفَنِي أَبِي، يَخْطُبُ النَّاسَ بِمِنًى يَوْمَ الْأَضْحَى عَلَى رَاحِلَتِهِ" وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: "سَمِعْتُ خُطْبَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى يَوْمَ النَّحْرِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ لَكِنَّ لَفْظَهُ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ" وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ رَافِعِ بْنِ عَمْرٍو الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه قَالَ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ النَّاسَ بِمِنًى حِينَ ارْتَفَعَ الضُّحَى عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ، وَعَلِيٌّ رضي الله عنه يَعْبُرُ عَنْهُ، وَالنَّاسُ بَيْنَ قَائِمٍ وَقَاعِدٍ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَالنَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَا ذَكَرْتُهُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا خُطْبَةُ الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَفِيهَا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي بَكْرٍ قَالَا:
"رَأَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَخْطُبُ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ وَنَحْنُ عِنْدَ رَاحِلَتِهِ، وَهِيَ خُطْبَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الَّتِي خَطَبَ بِمِنًى" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْ سُرَّاءَ بِنْتِ نَبْهَانَ الصَّحَابِيَّةِ رضي الله عنها وَهِيَ بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَبِالْإِمَالَةِ قَالَتْ: "خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الرُّءُوسِ فَقَالَ: أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: أَلَيْسَ أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَلَمْ يُضَعِّفْهُ.
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
"أُنْزِلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَعَرَفَ أَنَّهُ الْوَدَاعُ، فَأَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ الْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَرَكِبَ فَوَقَفَ بِالْعَقَبَةِ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ، فَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ فِي خُطْبَتِهِ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَمْ يُنْقَلْ فِي الْخُطْبَةِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ شَيْءٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الشرح: مَذْهَبُنَا أَنَّ فِي خُطْبَةِ عَرَفَاتٍ يَخْطُبُ الْخُطْبَةَ الْأُولَى قَبْلَ الْأَذَانِ ثُمَّ يَشْرَعُ الْإِمَامُ فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ مَعَ شُرُوعِ الْمُؤَذِّنِ فِي الْأَذَانِ كَمَا سَبَقَ، قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُؤَذِّنُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ كَالْجُمُعَةِ، وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ يَوْمَ عَرَفَةَ وَقَالَ:
"إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ إلَى آخِرِ خُطْبَتَيْهِ، قَالَ: ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذِهِ الْحُرُوفِ.
وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّافِعِيِّ وَالْبَيْهَقِيِّ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "
أَنَّهُ رَاحَ إلَى الْمَوْقِفِ فَخَطَبَ النَّاسَ الْخُطْبَةَ الْأُولَى ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ، ثُمَّ أَخَذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ. فَفَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ وَبِلَالٌ مِنْ الْأَذَانِ، ثُمَّ أَقَامَ بِلَالٌ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: تَفَرَّدَ بِهَذَا إبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَحْيَى قلت: وَهُوَ ضَعِيفٌ لَا يُحْتَجُّ بِهِ، إنَّمَا ذَكَرْتُهُ لِأُبَيِّنَ حَالَ حَدِيثِهِ هَذَا، وَالْمُعْتَمَدُ رِوَايَةُ مُسْلِمٍ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْإِمَامُ مُسَافِرًا فَصَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ قَاصِرًا قَصَرَ خَلْفَهُ الْمُسَافِرُونَ سَفَرًا طَوِيلًا وَلَزِمَ الْمُقِيمِينَ الْإِتْمَامُ وَقَالَ مَالِكٌ: يَجُوزُ لِلْجَمِيعِ الْقَصْرُ، وَاحْتَجَّ بِمَا نَقَلُوهُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ فَأَتَمَّ الصَّلَاةَ ثُمَّ قَصَرَ لَمَّا خَرَجَ إلَى مِنًى، دَلِيلُنَا مَا سَبَقَ فِي

 

ج / 8 ص -76-         اشْتِرَاطِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَكَانَ مُسَافِرًا، لَهُ الْقَصْرُ، فَقَصَرَ فِي مَوْضِعٍ وَأَتَمَّ فِي مَوْضِعٍ، وَذَلِكَ جَائِزٌ.
وَاحْتَجَّ مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ" بِمَا رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ الصَّحِيحِ (أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ صَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ أَتِمُّوا صَلَاتَكُمْ فَإِنَّا قَوْمٌ سَفْرٌ، ثُمَّ صَلَّى عُمَرُ رَكْعَتَيْنِ بِمِنًى، وَلَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّهُ قَالَ لَهُمْ شَيْئًا) هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي "الْمُوَطَّأِ"، وَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا لَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ قَالَهُ أَيْضًا فِي مِنًى، وَلَمْ يَبْلُغْ مَالِكًا وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَرَكَهُ اكْتِفَاءً بِقَوْلِهِ فِي مَكَّةَ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ أَهْلِ مَكَّةَ.
فرع: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلظُّهْرِ وَلَا يُؤَذِّنُ لِلْعَصْرِ إذَا جَمَعَهُمَا فِي وَقْتِ الظُّهْرِ عِنْدَ عَرَفَاتٍ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَنَقَلَ الطَّحَاوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى هَذَا لَكِنْ قَالَ مَالِكٌ: يُؤَذِّنُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَيُقِيمُ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ يُقِيمُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَلَا يُؤَذِّنُ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. دَلِيلُنَا حَدِيثُ جَابِرٍ السَّابِقُ قَرِيبًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّ لِلْحَاجِّ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ إذَا صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ، فَلَوْ فَاتَ بَعْضَهُمْ الصَّلَاةُ مَعَ الْإِمَامِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا مُنْفَرِدًا جَامِعًا بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ، وَوَافَقْنَا عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ حَضَرَ وَلَمْ يَحْضُرْ مَعَهُ لِلصَّلَاةِ أَحَدٌ جَازَ لَهُ الْجَمْعُ، وَعَلَى أَنَّ الْمَأْمُومَ لَوْ فَاتَهُ الصَّلَاتَانِ بِالْمُزْدَلِفَةِ مَعَ الْإِمَامِ جَازَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا مُنْفَرِدًا جَامِعًا، فَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِ بِمَا وَافَقَ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يُسَنُّ الْإِسْرَارُ بِالْقِرَاءَةِ فِي صَلَاتَيْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِعَرَفَاتٍ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ، قَالَ: وَمِمَّنْ حُفِظَ ذَلِكَ عَنْهُ طَاوُسٌ وَمُجَاهِدٌ وَالزُّهْرِيُّ وَمَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ هَذَا كَلَامُ ابْنِ الْمُنْذِرِ. وَنَقَلَ أَصْحَابُنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْجَهْرَ كَالْجُمُعَةِ، وَقَدْ سَبَقَ دَلِيلُنَا.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمِنًى، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ الثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ فَلْيَخْرُجْ إلَى مِنًى، قَالَ وَصَلَّى ابْنُ الزُّبَيْرِ الظُّهْرَ بِمَكَّةَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وَتَأَخَّرَتْ عَائِشَةُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ حَتَّى ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ بِمِنًى لَيْلَةَ عَرَفَةَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ يَنْزِلُ مِنْ مِنًى حَيْثُ شَاءَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ يَرُوحُ إلَى عَرَفَةَ وَيَقِفُ، وَالْوُقُوفُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ، لِمَا رَوَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ الدِّيلِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"الْحَجُّ عَرَفَاتٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ" وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ، لِمَا رَوَى نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنهما "كَانَ يَغْتَسِلُ إذَا رَاحَ إلَى عَرَفَةَ" وَلِأَنَّهُ قُرْبَةٌ يَجْتَمِعُ لَهَا الْخَلْقُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَشُرِعَ لَهَا الْغُسْلُ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدِ، وَيَصِحُّ الْوُقُوفُ فِي جَمِيعِ عَرَفَةَ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله

 

ج / 8 ص -77-         عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ" وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقِفَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَقَفَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ وَجَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ إلَى الصَّخَرَاتِ" وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ جِهَةٍ فَجِهَةُ الْقِبْلَةِ أَوْلَى؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ" وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ الدُّعَاءِ، وَأَفْضَلُهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لِمَا رَوَى طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَفْضَلُ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُهُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ".
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تُرْفَعُ الْأَيْدِي عِنْدَ الْمَوْقِفَيْنِ، يَعْنِي عَرَفَةَ وَالْمَشْعَرَ الْحَرَامَ" وَهَلْ الْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ رَاكِبًا أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ، قَالَ فِي "الْأُمِّ": النَّازِلُ وَالرَّاكِبُ سَوَاءٌ. وَقَالَ فِي "الْقَدِيمِ" و"الْإِمْلَاءِ": الْوُقُوفُ رَاكِبًا أَفْضَلُ، وَهُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "وَقَفَ رَاكِبًا" وَلِأَنَّ الرَّاكِبَ أَقْوَى عَلَى الدُّعَاءِ، فَكَانَ الرُّكُوبُ أَوْلَى، وَلِهَذَا كَانَ الْإِفْطَارُ بِعَرَفَةَ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّ الْمُفْطِرَ أَقْوَى عَلَى الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ.
وَأَوَّلُ وَقْتِهِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "
وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ" وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" وَأَخَّرَ وَقْتَهُ إلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ الثَّانِي لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّيلِيِّ، فَإِنْ حَصَلَ بِعَرَفَةَ فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا أَوْ مُجْتَازًا فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ مَعَنَا وَقَدْ قَامَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ" وَإِنْ وَقَفَ وَهُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ لَمْ يُدْرِكْ الْحَجَّ، وَإِنْ وَقَفَ وَهُوَ نَائِمٌ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ لِأَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ، وَالنَّائِمَ مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَاتِ، وَلِهَذَا لَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ نَهَارِ الصَّوْمِ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ، وَإِنْ نَامَ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ صَحَّ صَوْمُهُ، وَإِنْ وَقَفَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ عَرَفَةُ فَقَدْ أَدْرَكَ لِأَنَّهُ وَقَفَ بِهَا وَهُوَ مُكَلَّفٌ، فَأَشْبَهَ إذَا عَلِمَ أَنَّهَا عَرَفَةُ.
وَالسُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ بَعْدَ الزَّوَالِ إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ لِمَا رَوَى عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ قَالَ:
"وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ ثُمَّ أَفَاضَ حِينَ غَابَتْ الشَّمْسُ" فَإِنْ دَفَعَ مِنْهَا قَبْلَ الْغُرُوبِ؛ نَظَرْتَ فَإِنْ رَجَعَ إلَيْهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ: لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِي الْوُقُوفِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، فَأَشْبَهَ إذَا قَامَ بِهَا إلَى أَنْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَرَاقَ دَمًا. وَهَلْ يَجِبُ ذَلِكَ أَوْ يُسْتَحَبُّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: يَجِبُ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ" وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ فَجَازَ أَنْ يَجِبَ بِتَرْكِهِ الدَّمُ كَالْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ والثاني: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِأَنَّهُ وَقَفَ فِي أَحَدِ زَمَانَيْ الْوُقُوفِ فَلَا يَلْزَمُهُ دَمٌ لِلزَّمَانِ الْآخَرِ، كَمَا لَوْ وَقَفَ فِي اللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ.
الشرح: حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدِّيلِيِّ صَحِيحٌ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَآخَرُونَ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، وَهَذَا لَفْظُ التِّرْمِذِيِّ "عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ: أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِعَرَفَةَ فَسَأَلُوهُ، فَأَمَرَ مُنَادِيًا يُنَادِي: الْحَجُّ عَرَفَةَ، مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ حَجٍّ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ" وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد:
"فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا فَنَادَى: الْحَجُّ الْحَجُّ يَوْمُ

 

ج / 8 ص -78-         عَرَفَةَ. مَنْ جَاءَ لَيْلَةَ حَجٍّ فَيَتِمُّ حَجُّهُ". وَفِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ "عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْحَجُّ عَرَفَاتٌ، الْحَجُّ عَرَفَاتٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ" وَإِسْنَادُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ صَحِيحٌ وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، قُلْتُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لَيْسَ عِنْدَكُمْ بِالْكُوفَةِ حَدِيثٌ أَشْرَفُ وَلَا أَحْسَنُ مِنْ هَذَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَلَيْهِ، لَكِنْ يُغْنِي عَنْهُ حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"وَقَفْتُ هَهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ بَطْنَ نَاقَتِهِ إلَى الصَّخَرَاتِ، فَرَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ. أَمَّا قَوْلُهُ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ أَيْضًا. وَأَمَّا حَدِيثُ: "خَيْرُ الْمَجَالِسِ مَا اُسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ"1.
وَأَمَّا حَدِيثُ: "
أَفْضَلُ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ"فَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ" بِإِسْنَادِهِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ - بِفَتْحِ الْكَافِ وَآخِرُهُ زَايٌ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَفْضَلُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ" هَكَذَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي "الْمُوَطَّأِ" وَهُوَ آخِرُ حَدِيثٍ فِي كِتَابِ الْحَجِّ مِنْ "الْمُوَطَّأِ" وَهُوَ مُرْسَلٌ؛ لِأَنَّ طَلْحَةَ هَذَا تَابِعِيٌّ خُزَاعِيٌّ كُوفِيٌّ، وَكَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَقُولَ: لِمَا رَوَى طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ كَرِيزٍ، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ أَحَدُ الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ رضي الله عنهم.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ بِإِسْنَادٍ آخَرَ مَوْصُولًا قَالَ: وَوَصْلُهُ ضَعِيفٌ وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ أَطْوَلَ مِنْ هَذَا عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" فَضَعَّفَهُ التِّرْمِذِيُّ فِي إسْنَادِهِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَكْثَرُ دُعَائِي وَدُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ فِي قَلْبِي نُورًا" إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ، وَضَعَّفَهُ الْبَيْهَقِيُّ2 مِنْ وَجْهَيْنِ - لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ مُوسَى وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَخُوهُ لَمْ يُدْرِكْ عَلِيًّا.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"وَقَفَ رَاكِبًا" فَصَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ امْرَأَةِ الْعَبَّاسِ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ أَيْضًا: وَأَمَّا حَدِيثُ وُقُوفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ الزَّوَالِ فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ. وَأَمَّا حَدِيثُ: "لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ مَرَّاتٍ فِي هَذَا الْبَابِ، وَأَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَوَاهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" كَرِوَايَةِ الْمُصَنِّفِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل. رواه أحمد والحاكم ورواه البخاري في "الأدب المفرد" بلفظ "خير المجالس وأوسعها".
2 الوجه الأول هو تفرد موسى والثاني أن أخاه لم يدرك علياً (ط).

 

ج / 8 ص -79-         وَأَمَّا الْحَدِيثُ الْآخَرُ "مَنْ صَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ مَعَنَا" فَصَحِيحٌ، وَهُوَ مِنْ رِوَايَةِ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسِ بْنِ أَوْسٍ الطَّائِيِّ الصَّحَابِيِّ قَالَ: "أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْمُزْدَلِفَةِ حِينَ خَرَجَ لِلصَّلَاةِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي جِئْتُ مِنْ جَبَلِ طيئ أَكْلَلْت رَاحِلَتِي وَأَتْعَبْتُ نَفْسِي، وَاَللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ جَبَلٍ إلَّا وَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ فَوَقَفَ مَعَنَا حَتَّى نَدْفَعَ. وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَصَحِيحٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِلَفْظِهِ هُنَا، وَهُوَ بَعْضُ حَدِيثٍ طَوِيلٍ. قَالَ: وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ سَنَذْكُرُهُ بِطُولِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي فَصْلِ الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ. وَفِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ جَابِرٍ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ بِنَمِرَةَ حَتَّى إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ ثُمَّ أَذَّنَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأَمَّا حَدِيثُ:
"مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ" فَرَوَاهُ مَالِكٌ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ لَا مَرْفُوعًا، وَلَفْظُهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: "مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا أَوْ تَرَكَهُ فَلْيُهْرِقْ دَمًا" قَالَ مَالِكٌ: لَا أَدْرِي قَالَ تَرَكَ أَمْ نَسِيَ؟ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَكَذَا رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَيُّوبَ: "مَنْ تَرَكَ شَيْئًا فَلْيُهْرِقْ لَهُ دَمًا" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: فَكَأَنَّهُ قَالَهُمَا، يَعْنِي الْبَيْهَقِيَّ أَنَّ "أَوْ" لَيْسَتْ لِلشَّكِّ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ مَالِكٌ، بَلْ لِلتَّقْسِيمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ يُرِيقُ دَمًا" سَوَاءٌ تَرَكَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا أَلْفَاظُ الْفَصْلِ: فَفِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الدِّيلِيُّ الصَّحَابِيُّ - بِكَسْرِ الدَّالِ وَإِسْكَانِ الْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ - وَهُوَ مِنْ سَاكِنِي الْكُوفَةِ وَأَبُو يَعْمُرَ - بِفَتْحِ الْمِيمِ وَضَمِّهَا - وَقَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ قُرْبَةٌ يَجْتَمِعُ لَهَا الْخَلْقُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ احْتِرَازٌ مِنْ التَّلْبِيَةِ وَالْأَذْكَارِ وَلَكِنَّهُ يَنْتَقِضُ بِالْمَبِيتِ بِمِنًى لَيْلَةَ التَّاسِعِ. وَقَوْلُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَلَّى هَذِهِ الصَّلَاةَ مَعَنَا، وَقَدْ قَامَ قَبْلَ ذَلِكَ" هَكَذَا هُوَ فِي نُسَخِ الْمُهَذَّبِ، وَقَدْ قَامَ، وَقَدْ وَقَفَ، كَمَا سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ. قَوْلُهُ: "قَضَى تَفَثَهُ" هُوَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُحْرِمُ عِنْدَ تَحَلُّلِهِ مِنْ إزَالَةِ الشَّعَثِ وَالْوَسَخِ وَالْحَلْقِ وَقَلْمِ الْأَظْفَارِ وَنَحْوِهَا. قَوْلُهُ: "وَلِهَذَا لَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ جَمِيعَ النَّهَارِ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ، وَلَوْ نَامَ جَمِيعَهُ صَحَّ" هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ فِيهِمَا، وَفِيهِمَا مَا سَبَقَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ نُسُكٌ يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ احْتِرَازٌ مِنْ التَّلْبِيَةِ وَالْأَذْكَارِ وَنَحْوِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أما الأحكام: فَفِيهَا مَسَائِلُ إحداها: إذَا فَرَغُوا مِنْ صَلَاتَيْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَسِيرُوا فِي الْحَالِ إلَى الْمَوْقِفِ وَيُعَجِّلُوا الْمَسِيرَ وَهَذَا التَّعْجِيلُ مُسْتَحَبٌّ بِالْإِجْمَاعِ، لِحَدِيثِ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: "كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ إلَى الْحَجَّاجِ أَنْ يَأْتَمَّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الْحَجِّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ جَاءَ ابْنُ عُمَرَ، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ زَاغَتْ الشَّمْسُ فَصَاحَ عِنْدَ فُسْطَاطِهِ: أَيْنَ هَذَا؟ فَخَرَجَ إلَيْهِ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الرَّوَاحَ، فَقَالَ الْآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي، فَقُلْتُ لَهُ: إنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُصِيبَ السُّنَّةَ

 

ج / 8 ص -80-         الْيَوْمَ فَأَقْصِرْ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلْ الْوُقُوفَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ صَدَقَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ثُمَّ أَتَى الْمَوْقِفَ".
الثَّانِيَةُ: وَقْتُ الْوُقُوفِ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي يَوْمَ النَّحْرِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَقَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ وَحَكَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ وَجْهًا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْوُقُوفُ فِي لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَحَكَى الْفُورَانِيُّ قَوْلًا مِثْلَ هَذَا، وَفِيهِ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا.
وَحَكَى الدَّارِمِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَجْهًا آخَرَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ كَوْنُ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَبَعْدَ مُضِيِّ إمْكَانِ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ شَاذَّانِ ضَعِيفَانِ وَالصَّوَابُ مَا سَبَقَ عَنْ الْجُمْهُورِ، وَدَلِيلُهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ السَّابِقَةُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: فَمَنْ حَصَلَ بِعَرَفَاتٍ فِي لَحْظَةٍ لَطِيفَةٍ مِنْ هَذَا الْوَقْتِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْوُقُوفِ صَحَّ وُقُوفُهُ، وَأَدْرَكَ بِذَلِكَ الْحَجَّ، وَمَنْ فَاتَهُ هَذَا الزَّمَانُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَقِفَ مِنْ حِينِ يَفْرُغُ مِنْ صَلَاتَيْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ الْمَجْمُوعَتَيْنِ إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، ثُمَّ يَدْفَعُ عَقِبَ الْغُرُوبِ إلَى مُزْدَلِفَةَ فَلَوْ وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَحَجُّهُ صَحِيحٌ بِلَا خِلَافٍ كَمَا ذَكَرْنَا.
ثُمَّ إنْ عَادَ إلَى عَرَفَاتٍ وَبَقِيَ بِهَا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَلَا دَمَ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ أَرَاقَ دَمًا، وَهَلْ هَذَا الدَّمُ وَاجِبٌ؟ أَمْ مُسْتَحَبٌّ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ طُرُقٍ أَصَحُّهَا: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ فِيهِ قَوْلَانِ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُمَا أَصَحُّهُمَا: بِاتِّفَاقِهِمْ سُنَّةٌ وَهُوَ نَصُّهُ فِي "الْإِمْلَاءِ" والثاني: وَاجِبٌ وَهُوَ نَصُّهُ فِي "الْأُمِّ" و"الْقَدِيمِ" وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ وَالثَّالِثُ: إنْ أَفَاضَ مَعَ الْإِمَامِ فَمَعْذُورٌ فَيَكُونُ الدَّمُ مُسْتَحَبًّا قَطْعًا، وَإِلَّا فَعَلَى الْقَوْلَيْنِ فَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ فَعَادَ فِي اللَّيْلِ إلَى عَرَفَاتٍ فَفِي سُقُوطِ الدَّمِ عَنْهُ طَرِيقَانِ أَصَحُّهُمَا: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْعِرَاقِيُّونَ وَطَائِفَةٌ مِنْ غَيْرِهِمْ يَسْقُطُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
والثاني: حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ فِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: هَذَا والثاني: لَا يَسْقُطُ أَمَّا مَنْ لَمْ يَحْضُرْ عَرَفَاتٍ إلَّا فِي لَيْلَةِ النَّحْرِ فَحَصَلَ فِيهَا قَبْلَ الْفَجْرِ، وَقِيلَ بِالْمَذْهَبِ إنَّهُ يَصِحُّ وُقُوفُهُ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِيمَنْ وَقَفَ نَهَارًا ثُمَّ انْصَرَفَ قَبْلَ الْغُرُوبِ، لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ بِالْإِعْرَاضِ، وَقَطْعِ الْوُقُوفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّالِثَةُ: الْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَهُوَ أَشْهَرُ أَرْكَانِ الْحَجِّ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ: "الْحَجُّ عَرَفَةَ"وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى كَوْنِهِ رُكْنًا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْحُضُورُ فِي جُزْءٍ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَلَوْ فِي لَحْظَةٍ لَطِيفَةٍ، بِشَرْطِ كَوْنِهِ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ، سَوَاءٌ حَضَرَهَا عَمْدًا أَوْ وَقَفَ مَعَ الْغَفْلَةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالتَّحَدُّثِ وَاللَّهْوِ، أَوْ فِي حَالَةِ النَّوْمِ، أَوْ اجْتَازَ فِيهَا فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا عَرَفَاتٌ، وَلَمْ يَمْكُثْ أَصْلًا بَلْ مَرَّ مُسْرِعًا فِي طُرُقٍ مِنْ أَطْرَافِهَا أَوْ كَانَ نَائِمًا عَلَى بَعِيرٍ فَانْتَهَى الْبَعِيرُ إلَى عَرَفَاتٍ، فَمَرَّ بِهَا الْبَعِيرُ وَلَمْ يَسْتَيْقِظْ رَاكِبُهُ حَتَّى فَارَقَهَا أَوْ اجْتَازَهَا فِي طَلَبِ غَرِيمٍ هَارِبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ، أَوْ بَهِيمَةٍ شَارِدَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ فَيَصِحُّ وُقُوفُهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ وَنَحْوِهَا، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ

 

ج / 8 ص -81-         وَقَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ. وَفِي بَعْضِ هَذِهِ الصُّوَرِ وَجْهٌ شَاذٌّ ضَعِيفٌ سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ الله تعالى فَمِنْهَا: وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَكْفِي الْمُرُورُ الْمُجَرَّدُ بَلْ يُشْتَرَطُ لُبْثٌ يَسِيرٌ حَكَاهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَالدَّارِمِيُّ وَالرَّافِعِيُّ، قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَالْمَنْصُوصُ أَنَّهُ يَصِحُّ وَلَا يُشْتَرَطُ اللُّبْثُ.
وَمِنْهَا: وَجْهٌ أَنَّهُ إذَا مَرَّ بِهَا وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهَا عَرَفَاتٌ لَا يُجْزِئُهُ، حَكَاهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالدَّارِمِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي حَفْصِ بْنِ الْوَكِيلِ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَهَذَا شَاذٌّ ضَعِيفٌ.
وَمِنْهَا: وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وُقُوفُ النَّائِمِ حَكَاهُ ابْنُ الْقَطَّانِ وَالدَّارِمِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَهُوَ شَاذٌّ ضَعِيفٌ وَالْمَشْهُورُ الصِّحَّةُ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: هَذَا الْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةِ النَّائِمِ وَمَسْأَلَةِ الْجَاهِلِ بِكَوْنِهَا عَرَفَاتٍ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي كُلِّ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ النِّيَّةُ أَمْ لَا؟ وَفِيهِ وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا لَا يُشْتَرَطُ كَأَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَالطَّهَارَةِ والثاني: يُشْتَرَطُ لِكُلِّ رُكْنٍ نِيَّةٌ لِأَنَّ أَرْكَانَهُ يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، فَيَكُونُ كُلُّ رُكْنٍ كَعِبَادَةٍ مُنْفَرِدَةٍ فَإِنْ شَرَطْنَاهَا لَمْ يَصِحَّ مَعَ النَّوْمِ وَلَا مَعَ الْجَهْلِ بِالْمَكَانِ وَإِلَّا فَيَصِحُّ وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ.
أَمَّا: إذَا حَضَرَ فِي طَلَبِ غَرِيمٍ أَوْ دَابَّةٍ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُجْزِئُهُ. هَكَذَا قَطَعَ الْأَصْحَابُ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَالَ الْأَصْحَابُ: يُجْزِئُهُ قَالَ: وَظَاهِرُ النَّصِّ يُشِيرُ إلَيْهِ قَالَ: وَلَمْ يَذْكُرُوا فِيهِ الْخِلَافَ السَّابِقَ فِيمَنْ صَرَفَ الطَّوَافَ إلَى طَلَبِ غَرِيمٍ وَنَحْوِهِ، قَالَ وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ الطَّوَافَ قَدْ يَقَعُ قُرْبَةً مُسْتَقِلَّةً بِخِلَافِ الْوُقُوفِ قَالَ: وَلَا يَمْتَنِعُ طَرْدُ الْخِلَافِ.
أَمَّا: إذَا وَقَفَ وَهُوَ مُغْمًى عَلَيْهِ فَفِي صِحَّةِ وُقُوفِهِ وَجْهَانِ، حَكَاهُمَا ابْنُ الْمَرْزُبَانِ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِه"ِ وَالدَّارِمِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ "الْبَيَانِ" وَآخَرُونَ أَصَحُّهُمَا: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْأَكْثَرُونَ لَا يَصِحُّ، مِمَّنْ قَطَعَ بِهِ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالْمُصَنِّفُ هُنَا وَفِي "التَّنْبِيهِ" وَالرَّافِعِيُّ فِي "الْمُجَرَّدِ" وَآخَرُونَ وَصَحَّحَهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ وَالْمُتَوَلِّي.
قَالَ صَاحِبُ "الْبَيَانِ": هُوَ الْمَشْهُورُ والثاني: يَصِحُّ وَرَجَّحَهُ الْبَغَوِيّ وَالرَّافِعِيُّ فِي "الشَّرْحِ"، وَلَوْ وَقَفَ وَهُوَ مَجْنُونٌ فَطَرِيقَانِ الْمَذْهَبُ: الْقَطْعُ بِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ والثاني: فِيهِ الْوَجْهَانِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْخِلَافَ فِيهِ ابْنُ الْقَطَّانِ وَصَاحِبُ "الشَّامِلِ" وَصَاحِبُ "الْبَيَانِ" وَالرَّافِعِيُّ.
وَلَوْ وَقَفَ وَهُوَ سَكْرَانُ، قَالَ ابْنُ الْمَرْزُبَانِ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالدَّارِمِيُّ: فِيهِ الْوَجْهَانِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَقَالَ صَاحِبُ "الْبَيَانِ" إنْ كَانَ سُكْرُهُ بِغَيْرِ مَعْصِيَةٍ فَفِيهِ الْوَجْهَانِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْصِيَةٍ فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الصَّيْمَرِيُّ أَصَحُّهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ والثاني: يُجْزِئُهُ لِأَنَّهُ كَالصَّاحِي فِي الْأَحْكَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِذَا قُلْنَا فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ وُقُوفُهُ، قَالَ الْمُتَوَلِّي لَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجِّ الْفَرْضِ لَكِنْ يَقَعُ نَفْلًا كَحَجِّ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يُمَيِّزُ، وَحَكَاهُ أَيْضًا الرَّافِعِيُّ عَنْهُ وَسَكَتَ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ ارْتَضَاهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ الْجُنُونَ لَوْ تَخَلَّلَ بَيْنَ الْإِحْرَامِ وَالْوُقُوفِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّوَافِ أَوْ بَيْنَ

 

ج / 8 ص -82-         الطَّوَافِ وَالْوُقُوفِ، وَكَانَ عَاقِلًا فِي حَالِ فِعْلِ الْأَرْكَانِ لَا يَضُرُّ. بَلْ يَصِحُّ حَجُّهُ وَيَقَعُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِالْمَسْأَلَةِ الْمُتَوَلِّي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّابِعَةُ: يَصِحُّ الْوُقُوفُ فِي أَيِّ جُزْءٍ كَانَ مِنْ أَرْضِ عَرَفَاتٍ بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ السَّابِقِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ" قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ: وَأَفْضَلُهَا مَوْقِفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ الْكِبَارِ الْمُفْتَرِشَةِ فِي أَسْفَلِ جَبَلِ الرَّحْمَةِ. وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي بِوَسَطِ أَرْضِ عَرَفَاتٍ وَيُقَالُ لَهُ إلَالُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى وَزْنِ هِلَالٍ. وَذَكَرَ الْجَوْهَرِيُّ فِي "صِحَاحِهِ" أَنَّهُ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْمَشْهُورُ كَسْرُهَا.
وَأَمَّا حَدُّ عَرَفَاتٍ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: هِيَ مَا جَاوَزَ وَادِيَ عُرَنَةَ. بِعَيْنٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ رَاءٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ نُونٍ. إلَى الْجِبَالِ الْقَابِلَةِ مِمَّا يَلِي بَسَاتِينَ ابْنِ عَامِرٍ. هَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. وَنَقَلَ الْأَزْرَقِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: حَدُّ عَرَفَاتٍ مِنْ الْجَبَلِ الْمُشْرِفِ عَلَى بَطْنِ عُرَنَةَ إلَى جِبَالِ عَرَفَاتٍ إلَى وَصِيقٍ. بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَآخِرُهُ قَافٌ إلَى مُلْتَقَى وَصِيقٍ وَوَادِي عُرَنَةَ.
قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: لِعَرَفَاتٍ أَرْبَعَةُ حُدُودٍ أحدها: يَنْتَهِي إلَى جَادَّةِ طَرِيقِ الْمَشْرِقِ والثاني: إلَى حَافَاتِ الْجَبَلِ الَّذِي وَرَاءَ أَرْضِ عَرَفَاتٍ وَالثَّالِثُ: إلَى الْبَسَاتِينِ الَّتِي تَلِي قَرْيَةَ عَرَفَاتٍ. وَهَذِهِ الْقَرْيَةُ عَلَى يَسَارِ مُسْتَقْبِلِ الْكَعْبَةِ. إذَا وَقَفَ بِأَرْضِ عَرَفَاتٍ وَالرَّابِعُ: يَنْتَهِي إلَى وَادِي عُرَنَةَ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَيُطِيفُ بِمُنْعَرَجَاتِ عَرَفَاتٍ جِبَالِ وُجُوهِهَا الْمُقْبِلَةِ مِنْ عَرَفَاتٍ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَرَفَاتٍ وَادِي عُرَنَةَ وَلَا نَمِرَةُ وَلَا الْمَسْجِدُ الْمُسَمَّى مَسْجِدَ إبْرَاهِيمَ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا مَسْجِدُ عُرَنَةَ، بَلْ هَذِهِ الْمَوَاضِعُ خَارِجَةٌ عَنْ عَرَفَاتٍ عَلَى طَرَفِهَا الْغَرْبِيِّ مِمَّا يَلِي مُزْدَلِفَةَ وَمِنًى وَمَكَّةَ. هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ مِنْ كَوْنِ وَادِي عُرَنَةَ لَيْسَ مِنْ عَرَفَاتٍ لَا خِلَافَ فِيهِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ.
وَأَمَّا نَمِرَةُ فَلَيْسَتْ أَيْضًا مِنْ عَرَفَاتٍ بَلْ بِقُرْبِهَا، هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي "مُخْتَصَرِ الْحَجِّ الْأَوْسَطِ" وَفِي غَيْرِهِ، وَصَرَّحَ بِهِ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَنَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْأَكْثَرِينَ. قَالَ وَقَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَطَائِفَةٌ هِيَ مِنْ عَرَفَاتٍ. وَهَذَا الَّذِي نَقَلَهُ غَرِيبٌ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ وَلَا هُوَ فِي "الشَّامِلِ" وَلَا هُوَ صَحِيحٌ، بَلْ إنْكَارٌ لِلْحِسِّ، وَلِمَا تَطَابَقَتْ عَلَيْهِ كُتُبُ الْعُلَمَاءِ.
وَأَمَّا مَسْجِدُ إبْرَاهِيمَ فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَأَنَّ مَنْ وَقَفَ بِهِ لَمْ يَصِحَّ وُقُوفُهُ. هَذَا نَصُّهُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَصَاحِبُ "الْبَيَانِ" وَجُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ مِنْهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تَعْلِيقِه"ِ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالرَّافِعِيُّ: مُقَدَّمُ هَذَا الْمَسْجِدِ مِنْ طَرَفِ وَادِي عُرَنَةَ لَا فِي عَرَفَاتٍ وَآخِرُهُ فِي عَرَفَاتٍ، قَالُوا: فَمَنْ وَقَفَ فِي مُقَدَّمِهِ لَمْ يَصِحَّ وُقُوفُهُ، وَمَنْ وَقَفَ فِي آخِرِهِ صَحَّ وُقُوفُهُ، قَالُوا: وَيَتَمَيَّزُ ذَلِكَ بِصَخَرَاتٍ كِبَارٍ فُرِشَتْ هُنَاكَ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ كَلَامِهِمْ وَنَصِّ الشَّافِعِيِّ أَنْ يَكُونَ زِيدَ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ الشَّافِعِيِّ هَذَا الْقَدْرُ الَّذِي ذَكَرَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 8 ص -83-         قلت: قَالَ الْأَزْرَقِيُّ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ ذَرْعٌ سَعَتُهُ مِنْ مُقَدَّمِهِ إلَى مُؤَخَّرِهِ مِائَةُ ذِرَاعٍ وَثَلَاثٌ وَسِتُّونَ ذِرَاعًا، قَالَ وَمِنْ جَانِبِهِ الْأَيْمَنِ إلَى جَانِبِهِ الْأَيْسَرِ مِنْ عَرَفَةَ وَالطَّرِيقِ مِائَتَا ذِرَاعٍ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا، قَالَ: وَلَهُ مِائَةُ شُرْفَةٍ، وَثَلَاثُ شُرُفَاتٍ، وَلَهُ عَشَرَةُ أَبْوَابٍ، قَالَ: وَمِنْ حَدِّ الْحَرَمِ إلَى مَسْجِدِ عُرَنَةَ أَلْفُ ذِرَاعٍ وَسِتُّمِائَةٍ وَخَمْسُ أَذْرُعٍ. قَالَ: وَمِنْ مَسْجِدِ عَرَفَاتٍ1 هَذَا إلَى مَوْقِفِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِيلٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ عُرَنَةَ وَنَمِرَةَ بَيْنَ عَرَفَاتٍ وَالْحَرَمِ لَيْسَتَا مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وأما: جَبَلُ الرَّحْمَةِ فَفِي وَسَطِ عَرَفَاتٍ. فَإِذَا عُلِمَتْ عَرَفَاتٌ بِحُدُودِهَا فَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ حَيْثُ وَقَفَ النَّاسُ مِنْ عَرَفَاتٍ فِي جَوَانِبِهَا وَنَوَاحِيهَا وَجِبَالِهَا وَسَهْلِهَا وَبِطَاحِهَا وَأَوْدِيَتِهَا وَسُوقِهَا الْمَعْرُوفَةِ بِذِي الْمَجَازِ أَجْزَأَهُ، قَالَ: فَأَمَّا إنْ وَقَفَ بِغَيْرِ عَرَفَاتٍ مِنْ وَرَائِهَا أَوْ دُونَهَا عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا بِهَا فَلَا يُجْزِئُهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: يُجْزِئُهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: وَاجِبُ الْوُقُوفِ وَشَرْطُهُ شَيْئَانِ أحدهما: كَوْنُهُ فِي أَرْضِ عَرَفَاتٍ وَفِي وَقْتِ الْوُقُوفِ الَّذِي سَبَقَ بَيَانُهُ والثاني: كَوْنُ الْوَاقِفِ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ. وَأَمَّا سُنَنُهُ وَآدَابُهُ فَكَثِيرَةٌ أحدها: أَنْ يَغْتَسِلَ بِنَمِرَةَ بِنِيَّةِ الْغُسْلِ لِلْوُقُوفِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْغُسْلِ تَيَمَّمَ الثَّانِي: أَنْ لَا يَدْخُلَ أَرْضَ عَرَفَاتٍ إلَّا بَعْدَ صَلَاتَيْ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ الثَّالِثُ: الْخُطْبَتَانِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ الرَّابِعُ: تَعْجِيلُ الْوُقُوفِ عَقِبَ الصَّلَاتَيْنِ وَقَدْ سَبَقَ هَذَا كُلُّهُ مَبْسُوطًا بِأَدِلَّتِهِ الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ مُفْطِرًا سَوَاءٌ أَطَاقَ الصَّوْمَ أَمْ لَا؟، وَسَوَاءٌ ضَعُفَ بِهِ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ الْفِطْرَ أَعْوَنُ لَهُ عَلَى الدُّعَاءِ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ مَبْسُوطَةً فِي بَابِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ. وَثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ مُفْطِراً السَّادِسُ: أَنْ يَكُونَ مُتَطَهِّرًا لِأَنَّهُ أَكْمَلُ فَلَوْ وَقَفَ وَهُوَ مُحْدِثٌ أَوْ جُنُبٌ أَوْ حَائِضٌ أَوْ نُفَسَاءُ أَوْ عَلَيْهِ نَجَاسَةٌ أَوْ مَكْشُوفُ الْعَوْرَةِ صَحَّ وُقُوفُهُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ رضي الله عنها حِينَ حَاضَتْ: "اصْنَعِي مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ".
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إلَّا الطَّوَافَ وَرَكْعَتَيْهِ السَّابِعُ: السُّنَّةُ أَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ الثَّامِنُ: أَنْ يَطُوفَ حَاضِرَ الْقَلْبِ فَارِغًا مِنْ الْأُمُورِ الشَّاغِلَةِ عَنْ الدُّعَاءِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ قَضَاءَ أَشْغَالِهِ قَبْلَ الزَّوَالِ وَيَتَفَرَّغَ بِظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ عَنْ جَمِيعِ الْعَلَائِقِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَجَنَّبَ فِي مَوْقِفِهِ طُرُقَ الْقَوَافِلِ وَغَيْرِهِمْ، لِئَلَّا يَنْزَعِجَ بِهِمْ وَيَتَهَوَّشَ عَلَيْهِ حَالُهُ وَيَذْهَبَ خُشُوعُهُ. التَّاسِعُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: إنْ كَانَ يَشُقُّ عَلَيْهِ الْوُقُوفُ مَاشِيًا أَوْ كَانَ يَضْعُفُ بِهِ عَنْ الدُّعَاءِ أَوْ كَانَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ وَيَحْتَاجُ النَّاسُ إلَى ظُهُورِهِ لِيُسْتَفْتَى وَيُقْتَدَى بِهِ، فَالْأَفْضَلُ لَهُ وُقُوفُهُ رَاكِبًا، فَقَدْ ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "وَقَفَ رَاكِبًا" كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ وَالرُّكُوبُ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ وَالْحَالَةُ هَذِهِ.
وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَضْعُفُ بِالْوُقُوفِ مَاشِيًا وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَلَا هُوَ مِمَّنْ يُحْتَاجُ إلَى ظُهُورِهِ، فَفِي الْأَفْضَلِ فِي حَقِّهِ أَقْوَالٌ لِلشَّافِعِيِّ أَصَحُّهَا: عِنْدَ الْأَصْحَابِ: رَاكِبًا أَفْضَلُ لِلِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّهُ أَعْوَنُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا في ش و ق ولعله: مسجد عرنة

 

ج / 8 ص -84-         لَهُ عَلَى الدُّعَاءِ، وَهُوَ الْمُهِمُّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمَنْصُوصُ فِي "الْقَدِيمِ" و"الْإِمْلَاءِ" كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمَحَامِلِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَآخَرُونَ وَصَحَّحَهُ الْبَاقُونَ والثاني: تَرْكُ الرُّكُوبِ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالتَّوَاضُعِ وَالْخُضُوعِ "وَالثَّالِثُ" هُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي "الْأُمِّ" لِتَعَادُلِ الْفَضِيلَتَيْنِ فِيهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْعَاشِرُ: أَنْ يَحْرِصَ عَلَى الْوُقُوفِ بِمَوْقِفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنْ كَانَ رَاكِبًا جَعَلَ نَظَرَ رَاحِلَتِهِ إلَى الصَّخَرَاتِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ السَّابِقِ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ". وَإِنْ كَانَ رَاجِلًا وَقَفَ عَلَى الصَّخَرَاتِ أَوْ عِنْدَهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ بِحَيْثُ لَا يُؤْذِي وَلَا يَتَأَذَّى، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَيْهِ لِلزَّحْمَةِ تَقَرَّبَ مِنْهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَهَذَا هُوَ الصَّوَابُ.
وَأَمَّا مَا اشْتَهَرَ عِنْدَ الْعَوَامّ مِنْ الِاعْتِنَاءِ بِالْوُقُوفِ عَلَى جَبَلِ الرَّحْمَةِ الَّذِي هُوَ بِوَسَطِ عَرَفَاتٍ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَتَرْجِيحِهِمْ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَرْضِ عَرَفَاتٍ حَتَّى رُبَّمَا تُوُهِّمَ مِنْ جَهَلَتِهِمْ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْوُقُوفُ إلَّا فِيهِ، فَخَطَأٌ ظَاهِرٌ وَمُخَالِفٌ لِلسُّنَّةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِمَّنْ يُعْتَمَدُ فِي صُعُودِ هَذَا الْجَبَلِ فَضِيلَةً يَخْتَصُّ بِهَا، بَلْ لَهُ حُكْمُ سَائِرِ أَرْضِ عَرَفَاتٍ غَيْرِ مَوْقِفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلَّا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: يُسْتَحَبُّ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ، وَكَذَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي "الْحَاوِي" يُسْتَحَبُّ قَصْدُ هَذَا الْجَبَلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ جَبَلُ الدُّعَاءِ، قَالَ: وَهُوَ مَوْقِفُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَذَكَرَ الْبَنْدَنِيجِيُّ نَحْوَهُ. وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ لَا أَصْلَ لَهُ وَلَمْ يَرِدْ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ فَالصَّوَابُ الِاعْتِنَاءُ بِمَوْقِفِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي خَصَّهُ الْعُلَمَاءُ بِالذِّكْرِ وَحَثُّوا عَلَيْهِ وَفَضَّلُوهُ وَحَدِيثُهُ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" وَغَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ. هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَجَمِيعُ أَصْحَابِنَا وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَقَدْ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي وَسَطِ عَرَفَاتٍ جَبَلٌ يُسَمَّى جَبَلَ الرَّحْمَةِ لَا نُسُكَ فِي صُعُودِهِ وَإِنْ كَانَ يَعْتَادُهُ النَّاسُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَادِيَ عَشَرَ: السُّنَّةُ أَنْ يُكْثِرَ مِنْ الدُّعَاءِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّلْبِيَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّضَرُّعِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، فَهَذِهِ وَظِيفَةُ هَذَا الْيَوْمِ وَلَا يُقَصِّرَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ مُعْظَمُ الْحَجِّ وَمَطْلُوبُهُ، وَقَدْ سَبَقَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْحَجُّ عَرَفَةَ" فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُقَصِّرَ فِي الِاهْتِمَامِ بِذَلِكَ وَاسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ فِيهِ. وَيُكْثِرُ مِنْ هَذَا الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ قَائِمًا وَقَاعِدًا وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِمَا رَأْسَهُ. وَلَا يَتَكَلَّفُ السَّجْعَ فِي الدُّعَاءِ، وَلَا بَأْسَ بِالدُّعَاءِ الْمَسْجُوعِ إذَا كَانَ مَحْفُوظًا أَوْ قَالَهُ بِلَا تَكَلُّفٍ وَلَا فَكَّرَ فِيهِ، بَلْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ وَلَمْ يَقْصِدْ تَكَلُّفَ تَرْتِيبِهِ وَإِعْرَابِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَشْغَلُ قَلْبَهُ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْفِضَ صَوْتَهُ بِالدُّعَاءِ وَيُكْرَهُ الْإِفْرَاطُ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ:
"كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَكُنَّا إذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا، رُفِعَتْ أَصْوَاتُنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إنَّهُ مَعَكُمْ إنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. ارْبَعُوا - بِفَتْحِ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ - أَيْ اُرْفُقُوا بِأَنْفُسِكُمْ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكْثِرَ التَّضَرُّعَ وَالْخُشُوعَ، وَالتَّذَلُّلَ وَالْخُضُوعَ وَإِظْهَارَ الضَّعْفِ وَالِافْتِقَارِ، وَيُلِحُّ فِي الدُّعَاءِ وَلَا يَسْتَبْطِئُ

 

ج / 8 ص -85-         الْإِجَابَةَ، بَلْ يَكُونُ قَوِيَّ الرَّجَاءِ لِلْإِجَابَةِ. لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ فَيَقُولُ قَدْ دَعَوْتُ وَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَا عَلَى الْأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِدَعْوَةٍ إلَّا آتَاهُ اللَّهُ إيَّاهَا أَوْ صَرَفَ مِنْ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: إذَنْ نُكْثِرُ. قَالَ: اللَّهُ أَكْثَرُ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ وَزَادَ فِيهِ: "أَوْ يَدَّخِرُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلَهَا" وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَرِّرَ كُلَّ دُعَاءٍ ثَلَاثًا. وَيَفْتَتِحُ دُعَاءَهُ بِالتَّحْمِيدِ وَالتَّمْجِيدِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالتَّسْبِيحِ. وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَخْتِمُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ. وَلْيَكُنْ مُتَطَهِّرًا مُتَبَاعِدًا عَنْ الْحَرَامِ وَالشُّبْهَةِ فِي طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَلِبَاسِهِ وَمَرْكُوبِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا مَعَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ آدَابٌ لِجَمِيعِ الدَّعَوَاتِ. وَلْيَخْتِمْ دُعَاءَهُ بِآمِينَ. وَلْيُكْثِرْ مِنْ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْأَذْكَارِ. وَأَفْضَلُهُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "أَفْضَلُ الدُّعَاءِ يَوْمَ عَرَفَةَ. وَأَفْضَلُ مَا قُلْتُهُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ. وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ".
وَفِي "كِتَابِ التِّرْمِذِيِّ" عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: "أَكْثَرُ مَا دَعَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ عَرَفَةَ فِي الْمَوْقِفِ اللَّهُمَّ لَك الْحَمْدُ كَاَلَّذِي نَقُولُ وَخَيْرٍ مِمَّا نَقُولُ. اللَّهُمَّ لَك صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي. وَإِلَيْك مَآبِي، لَك رَبِّ قُرْآنِي. اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَوَسْوَسَةِ الصَّدْرِ وَشَتَاتِ الْأَمْرِ. اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا تَجِيءُ بِهِ الرِّيحُ" وَإِسْنَادُ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ ضَعِيفٌ. لَكِنْ مَعْنَاهُمَا صَحِيحٌ، وَأَحَادِيثُ الْفَضَائِلِ يُعْمَلُ فِيهَا بِالْأَضْعَفِ كَمَا سَبَقَ مَرَّاتٍ. وَيُكْثِرُ مِنْ التَّلْبِيَةِ رَافِعًا بِهَا صَوْتَهُ وَمِنْ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَأْتِيَ بِهَذِهِ الْأَذْكَارِ كُلِّهَا. فَتَارَةً يُهَلِّلُ وَتَارَةً يُكَبِّرُ وَتَارَةً يُسَبِّحُ وَتَارَةً يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. وَتَارَةً يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتَارَةً يَدْعُو وَتَارَةً يَسْتَغْفِرُ وَيَدْعُو مُفْرَدًا، وَفِي جَمَاعَةٍ وَلْيَدْعُ لِنَفْسِهِ وَلِوَالِدَيْهِ وَمَشَايِخِهِ وَأَقَارِبِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَصْدِقَائِهِ وَأَحِبَّائِهِ وَسَائِرِ مَنْ أَحْسَنَ إلَيْهِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلْيَحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ التَّقْصِيرِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا. فَإِنَّ هَذَا الْيَوْمَ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ بِخِلَافِ غَيْرِهِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُكَرِّرَ الِاسْتِغْفَارَ وَالتَّلَفُّظَ بِالتَّوْبَةِ مِنْ جَمِيعِ الْمُخَالَفَاتِ. مَعَ النَّدَمِ بِالْقَلْبِ. وَأَنْ يُكْثِرَ الْبُكَاءَ مَعَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ. فَهُنَاكَ تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ. وَتُسْتَقَالُ الْعَثَرَاتُ وَتُرْتَجَى الطَّلَبَاتُ. وَإِنَّهُ لَمَجْمَعٌ عَظِيمٌ وَمَوْقِفٌ جَسِيمٌ يَجْتَمِعُ فِيهِ خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ وَأَوْلِيَائِهِ الْمُخْلِصِينَ وَالْخَوَاصِّ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ. وَهُوَ أَعْظَمُ مَجَامِعِ الدُّنْيَا. وَقَدْ قِيلَ إذَا وَافَقَ يَوْمُ عَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ غُفِرَ لِكُلِّ أَهْلِ الْمَوْقِفِ.
وَثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ أَنْ يُعْتِقَ اللَّهُ فِيهِ عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ. وَإِنَّهُ لَيَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِهِمْ الْمَلَائِكَةَ. فَيَقُولُ مَا أَرَادَ هَؤُلَاءِ؟"وَرَوَيْنَا عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَحَدِ الْعَشَرَةِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا رُئِيَ الشَّيْطَانُ أَصْغَرَ وَلَا أَحْقَرَ وَلَا أَدْبَرَ وَلَا أَغْيَظَ مِنْهُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ. وَمَا ذَاكَ إلَّا أَنَّ الرَّحْمَةَ تُنَزَّلُ فِيهِ

 

ج / 8 ص -86-         فَيُتَجَاوَزُ عَنْ الذُّنُوبِ الْعِظَامِ" وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهم "أَنَّهُ رَأَى سَائِلًا يَسْأَلُ النَّاسَ يَوْمَ عَرَفَةَ. فَقَالَ: يَا عَاجِزُ. فِي هَذَا الْيَوْمِ يُسْأَلُ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى؟!".
وَعَنْ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ رحمه الله أَنَّهُ نَظَرَ إلَى بُكَاءِ النَّاسِ بِعَرَفَةَ فَقَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ صَارُوا إلَى رَجُلٍ فَسَأَلُوهُ دَانِقًا؟ أَكَانَ يَرُدُّهُمْ؟ قِيلَ: لَا. قَالَ: وَاَللَّهِ لَلْمَغْفِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ أَهْوَنُ مِنْ إجَابَةِ رَجُلٍ لَهُمْ بِدَانِقٍ" وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فرع: وَمِنْ الْأَدْعِيَةِ الْمُخْتَارَةِ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً. وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا كَبِيرًا. وَإِنَّهُ لَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ. فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِك. وَارْحَمْنِي رَحْمَةً أَسْعَدُ بِهَا فِي الدَّارَيْنِ وَتُبْ عَلَيَّ تَوْبَةً نَصُوحًا لَا أَنْكُثُهَا أَبَدًا وَأَلْزِمْنِي سَبِيلَ الِاسْتِقَامَةِ لَا أَزِيغُ عَنْهَا أَبَدًا. اللَّهُمَّ اُنْقُلْنِي مِنْ ذُلِّ الْمَعْصِيَةِ إلَى عِزِّ الطَّاعَةِ. وَاكْفِنِي بِحَلَالِك عَنْ حَرَامِك. وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ. وَنَوِّرْ قَلْبِي وَقَبْرِي. وَاغْفِرْ لِي مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ. وَاجْمَعْ لِي الْخَيْرَ. اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى. اللَّهُمَّ يَسِّرْنِي لِلْيُسْرَى وَجَنِّبْنِي الْعُسْرَى، وَارْزُقْنِي طَاعَتَك مَا أَبْقَيْتَنِي، أَسْتَوْدِعُك مِنِّي وَمِنْ أَحْبَابِي وَالْمُسْلِمِينَ أَدْيَانَنَا وَأَمَانَاتِنَا وَخَوَاتِيمَ أَعْمَالِنَا، وَأَقْوَالَنَا وَأَبْدَانَنَا، وَجَمِيعَ مَا أَنْعَمْتَ بِهِ عَلَيْنَا، وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فرع: لِيَحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ وَالْمُنَافَرَةِ وَالْكَلَامِ الْقَبِيحِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْ الْكَلَامِ الْمُبَاحِ مَا أَمْكَنَهُ، فَإِنَّهُ تَضْيِيعٌ لِلْوَقْتِ الْمُهِمِّ فِيمَا لَا يَعْنِي مَعَ أَنَّهُ يُخَافُ انْجِرَارُهُ إلَى حَرَامٍ مِنْ غِيبَةٍ وَنَحْوِهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَحْتَرِزَ غَايَةَ الِاحْتِرَازِ عَنْ احْتِقَارِ مَنْ يَرَاهُ رَثَّ الْهَيْئَةِ أَوْ مُقَصِّرًا فِي شَيْءٍ، وَيَحْتَرِزُ مِنْ انْتِهَارِ السَّائِلِ وَنَحْوِهِ، فَإِنْ خَاطَبَ ضَعِيفًا تَلَطَّفَ فِي مُخَاطَبَتِهِ، فَإِنْ رَأَى مُنْكَرًا مُحَقَّقًا لَزِمَهُ إنْكَارُهُ، وَيَتَلَطَّفُ فِي ذَلِكَ.
فرع: لِيَسْتَكْثِرْ مِنْ أَعْمَالِ الْخَيْرِ فِي يَوْمِ عَرَفَة وَسَائِرِ أَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَقَدْ ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامٍ أَفْضَلَ مِنْهُ فِي هَذِهِ، يَعْنِي أَيَّامَ الْعَشْرِ، قَالُوا: وَلَا الْجِهَادُ؟ قَالَ وَلَا الْجِهَادُ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ" وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: الْأَفْضَلُ لِلْوَاقِفِ أَنْ لَا يَسْتَظِلَّ، بَلْ يَبْرُزَ لِلشَّمْسِ إلَّا لِلْعُذْرِ بِأَنْ يَتَضَرَّرَ أَوْ يَنْقُصَ دُعَاؤُهُ أَوْ اجْتِهَادُهُ فِي الْأَذْكَارِ. وَلَمْ يُنْقَلْ
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَظَلَّ بِعَرَفَاتٍ مَعَ ثُبُوتِ الْحَدِيثِ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" وَغَيْرِهِ عَنْ أُمِّ الْحُصَيْنِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "ظُلِّلَ عَلَيْهِ بِثَوْبٍ وَهُوَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ" وَقَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ مَذْهَبِنَا غَيْرَ مَا فِي اسْتِظْلَالِ الْمُحْرِمِ بِغَيْرِ عَرَفَاتٍ فِي بَابِ الْإِحْرَامِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي التَّعْرِيفِ بِغَيْرِ عَرَفَاتٍ، وَهُوَ الِاجْتِمَاعُ الْمَعْرُوفُ فِي الْبُلْدَانِ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَفِيهِ خِلَافٌ لِلسَّلَفِ رَوَيْنَاهُ فِي "سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ" عَنْ أَبِي عَوَانَةَ قَالَ: "رَأَيْتُ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ يَوْمَ عَرَفَةَ بَعْدَ الْعَصْرِ جَلَسَ فَدَعَا وَذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ" وَفِي رِوَايَةٍ "رَأَيْت الْحَسَنَ خَرَجَ يَوْمَ عَرَفَةَ مِنْ الْمَقْصُورَةِ بَعْدَ الْعَصْرَ فَعُرِفَ. وَعَنْ شُعْبَةَ قَالَ: "سَأَلْتُ الْحَكَمَ وَحَمَّادًا عَنْ اجْتِمَاعِ النَّاسِ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي

 

ج / 8 ص -87-         الْمَسَاجِدِ فَقَالَا: هُوَ مُحْدَثٌ" وَعَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ هُوَ مُحْدَثٌ وَعَنْ قَتَادَةَ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ: أَوَّلُ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ، هَذَا مَا ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَقَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْهُ فَقَالَ: أَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ، قَدْ فَعَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ، الْحَسَنُ وَبَكْرٌ وَثَابِتٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ وَاسِعٍ كَانُوا يَشْهَدُونَ الْمَسْجِدَ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَكَرِهَهُ جَمَاعَاتٌ مِنْهُمْ نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ وَغَيْرُهُمْ، وَصَنَّفَ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ الْمَالِكِيُّ الزَّاهِدُ كِتَابًا فِي الْبِدَعِ الْمُنْكَرَةِ، جَعَلَ مِنْهَا هَذَا التَّعْرِيفَ، وَبَالَغَ فِي إنْكَارِهِ، وَنَقَلَ أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ جَعَلَهُ بِدْعَةً لَا يُلْحِقُهُ بِفَاحِشَاتِ الْبِدَعِ، بَلْ يُخَفِّفُ أَمْرَهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: مِنْ الْبِدَعِ الْقَبِيحَةِ مَا اعْتَادَهُ بَعْضُ الْعَوَامّ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ مِنْ إيقَادِ الشَّمْعِ بِجَبَلِ عَرَفَةَ لَيْلَةَ التَّاسِعِ أَوْ غَيْرِهَا, وَيَسْتَصْحِبُونَ الشَّمْعَ مِنْ بُلْدَانِهِمْ لِذَلِكَ وَيَعْتَنُونَ بِهِ, وَهَذِهِ ضَلَالَةٌ فَاحِشَةٌ جَمَعُوا فِيهَا أَنْوَاعًا مِنْ الْقَبَائِحِ مِنْهَا: إضَاعَةُ الْمَالِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ وَمِنْهَا: إظْهَارُ شِعَارِ الْمَجُوسِ فِي الِاعْتِنَاءِ بِالنَّارِ وَمِنْهَا: اخْتِلَاطُ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ, وَالشُّمُوعُ بَيْنَهُمْ, وَوُجُوهُهُمْ بَارِزَةٌ وَمِنْهَا: تَقْدِيمُ دُخُولِ عَرَفَاتٍ عَلَى وَقْتِهَا الْمَشْرُوعِ , وَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ - وَفَّقَهُ اللَّهُ - وَكُلِّ مُكَلَّفٍ تَمَكَّنَ مِنْ إزَالَةِ هَذِهِ الْبِدَعِ إنْكَارُهَا, وَاَللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْوُقُوفِ
إحداها: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَصِحُّ وُقُوفُ غَيْرِ الطَّاهِرِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَالْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَغَيْرِهِمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَذَاهِبَ فِيهِ فِي بَابِ صَوْمِ التَّطَوُّعِ.
الثَّانِيَةُ: ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ وُقُوفُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ وَأَبِي ثَوْرٍ قَالَ: وَبِهِ أَقُولُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَصِحُّ.
الثَّالِثَةُ: لَوْ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهَا عَرَفَاتٌ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا صِحَّةُ وُقُوفِهِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ.
الرَّابِعَةُ: إذَا وَقَفَ فِي النَّهَارِ وَدَفَعَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَمْ يَعُدْ فِي نَهَارِهِ إلَى عَرَفَاتٍ، هَلْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ؟ فِيهِ قَوْلَانِ سَبَقَا الْأَصَحُّ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ يَلْزَمُهُ، فَإِنْ قُلْنَا يَلْزَمُهُ فَعَادَ فِي اللَّيْلِ سَقَطَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ مَالِكٍ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ: لَا يَسْقُطُ، وَإِذَا دَفَعَ بِالنَّهَارِ وَلَمْ يَعُدْ، أَجْزَأَهُ وُقُوفُهُ وَحَجُّهُ صَحِيحٌ، سَوَاءٌ أَوْجَبْنَا الدَّمَ أَمْ لَا، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِ أَحْمَدَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهِ قَالَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ إلَّا مَالِكًا. وَقَالَ مَالِكٌ: الْمُعْتَمَدُ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ هُوَ اللَّيْلِ، فَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ شَيْئًا مِنْ اللَّيْلِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَحْمَدَ. وَاحْتَجَّ مَالِكٌ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:
"وَقَفَ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، وَقَالَ: لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ".
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ السَّابِقِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ شَهِدَ صَلَاتَنَا هَذِهِ -

 

ج / 8 ص -88-         يَعْنِي الصُّبْحَ - وَقَدْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ" وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ وَالْجَوَابُ: عَنْ حَدِيثِهِمْ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الِاسْتِحْبَابِ أَوْ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ يَجِبُ لَكِنْ يُجْبَرُ بِدَمٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ طَرِيقُ الْجَمْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْخَامِسَةُ: وَقْتُ الْوُقُوفِ بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةَ وَطُلُوعِ الْفَجْرِ لَيْلَةَ النَّحْرِ، وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالْجُمْهُورِ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْعَبْدَرِيُّ: هُوَ قَوْلُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً إلَّا أَحْمَدَ، فَإِنَّهُ قَالَ: وَقْتُهُ مَا بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وَطُلُوعِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عُرْوَةَ السَّابِقِ قَرِيبًا فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ. وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ إلَى الْيَوْمِ، وَمَا نُقِلَ أَنَّ أَحَدًا وَقَفَ قَبْلَ الزَّوَالِ. قَالُوا: وَحَدِيثُ عُرْوَةَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ.
السَّادِسَةُ: لَوْ وَقَفَ بِبَطْنِ عَرَفَةَ لَمْ يَصِحَّ وُقُوفُهُ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَصْحَابُنَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَصِحُّ وَيَلْزَمُهُ دَمٌ. وَقَالَ الْعَبْدَرِيُّ: هَذَا الَّذِي حَكَاهُ أَصْحَابُنَا مِنْ مَالِكٍ لَمْ أَرَهُ لَهُ، بَلْ مَذْهَبُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَذْهَبِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، قَالَ: وَقَدْ نَصَّ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقِفَ بِعُرَنَةَ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ عَرَفَةَ" وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ جِدًّا لِأَنَّ فِيهِ الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى تَضْعِيفِ الْقَاسِمِ هَذَا. قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: هُوَ كَذَّابٌ كَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ، فَتَرَكَ النَّاسُ حَدِيثَهُ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: هُوَ ضَعِيفٌ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ هُوَ مَتْرُوكٌ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَةَ هُوَ ضَعِيفٌ لَا يُسَاوِي شَيْئًا مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ، مُنْكَرُ الْحَدِيثِ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ لَكِنَّهُ مُرْسَلٌ. وَرَوَاهُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَبِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مَرْفُوعًا وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" مَرْفُوعًا بِالْإِسْنَادِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ هُوَ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ1، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، فَلَيْسَ هُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَا إسْنَادُهُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ كَثِيرٍ، وَلَمْ يَرْوِ لَهُ مُسْلِمٌ، وَقَدْ ضَعَّفَهُ جُمْهُورُ الْأَئِمَّةِ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قُلْتُ: فَتَحْصُلُ الدَّلَالَةُ عَلَى مَالِكٍ بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أحدها: الرِّوَايَةُ الْمُرْسَلَةُ، فَإِنَّ الْمُرْسَلَ عِنْدَهُ حُجَّةٌ والثاني: الْمَوْقُوفُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ حُجَّةٌ عِنْدَهُ وَالثَّالِثُ: أَنَّ الَّذِي قُلْنَا بِهِ مِنْ تَحْدِيدِ عَرَفَاتٍ مُجْمَعٌ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال الحاكم أخبرنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي بمرو ثنا أحمد بن محمد سيار ثنا محمد بن كثير ثنا سفيان بن عيينة عن زياد بن سعد عن أبي الزبير عن أبي معبد عن ابن عباس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ارفعوا عن بطن عرنة وارفعوا عن بطن محسر - ثم قال - هذا بإسناد صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وشاهده على شرط الشيخين صحيح إلا أن فيه تقصيراً في سنده. وساق الشاهد الموقوف على ابن عباس (ط).

 

ج / 8 ص -89-         عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي يَدَّعِيهِ مِنْ دُخُولِ عُرَنَةَ فِي الْحَدِّ لَا يُقْبَلُ إلَّا بِدَلِيلٍ، وَلَيْسَ لَهُمْ دَلِيلٌ صَحِيحٌ وَلَا ضَعِيفٌ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ دَفَعَ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ، لِحَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَيَمْشِي وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ لِمَا رَوَى الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلنَّاسِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَغَدَاةَ جَمْعٍ حِينَ دَفَعُوا: "عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ" فَإِذَا وَجَدَ فُرْجَةً أَسْرَعَ لِمَا رَوَى أُسَامَةُ رضي الله عنه "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ" فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ صَلَّى كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي وَقْتِهَا جَازَ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ رُخْصَةٌ لِأَجْلِ السَّفَرِ فَجَازَ لَهُ تَرْكُهُ. وَيَثْبُتُ بِهَا إلَى أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ الثَّانِي، لِمَا رَوَى جَابِرٌ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَاضْطَجَعَ حَتَّى إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى الْفَجْرَ" وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ بَاتَ أَجْزَأَهُ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ" وَهَلْ يَجِبُ الْمَبِيتُ بِمُزْدَلِفَةَ أَمْ لَا؟ فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: يَجِبُ لِأَنَّهُ نُسُكٌ مَقْصُودٌ فِي مَوْضِعٍ فَكَانَ وَاجِبًا كَالرَّمْيِ والثاني: أَنَّهُ سُنَّةٌ لِأَنَّهُ مَبِيتٌ فَكَانَ سُنَّةً كَالْمَبِيتِ بِمِنًى لَيْلَةَ عَرَفَةَ، فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يَجِبُ وَجَبَ بِتَرْكِهِ الدَّمُ وَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ سُنَّةٌ لَمْ يَجِبْ بِتَرْكِهِ الدَّمُ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا حَصَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ لِمَا رَوَى الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ غَدَاةَ يَوْمِ النَّحْرِ اُلْقُطْ لِي حَصًى، فَلَقَطْتُ لَهُ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ" وَلِأَنَّ السُّنَّةَ إذَا أَتَى مِنًى لَا يَعْرُجُ عَلَى غَيْرِ الرَّمْيِ، فَاسْتُحِبَّ أَنْ يَأْخُذَ الْحَصَى حَتَّى لَا يَشْتَغِلَ عَنْ الرَّمْيِ، وَإِنْ أَخَذَ الْحَصَى مِنْ غَيْرِهَا جَازَ لِأَنَّ الِاسْمَ يَقَعُ عَلَيْهِ.
وَيُصَلِّي الصُّبْحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَتَقْدِيمُهَا أَفْضَلُ، لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ قَالَ:
"مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةً إلَّا لِمِيقَاتِهَا إلَّا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِجَمْعٍ، وَصَلَاةُ الْفَجْرِ يَوْمَئِذٍ قَبْلَ مِيقَاتِهَا" وَلِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ بَعْدَهَا فَاسْتُحِبَّ تَقْدِيمُهَا لِيُكْثِرَ الدُّعَاءَ. فَإِذَا صَلَّى وَقَفَ عَلَى قُزَحَ وَهُوَ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى، لِمَا رَوَى جَابِرٌ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى رَقِيَ عَلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَوَحَّدَ وَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا ثُمَّ دَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ".
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ، فَإِنْ أَخَّرَ الدَّفْعَ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ كُرِهَ لِمَا رَوَى الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"كَانُوا يَدْفَعُونَ مِنْ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بَعْدَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ كَأَنَّهَا عَمَائِمُ الرِّجَالِ فِي وُجُوهِهِمْ، وَإِنَّا نَدْفَعُ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ لِيُخَالِفَ هَدْيُنَا هَدْيَ أَهْلِ الْأَوْثَانِ وَالشِّرْكِ" فَإِنْ قَدَّمَ الدَّفْعَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: "أَنَّ سَوْدَةَ رضي الله عنها كَانَتْ امْرَأَةً ثَبْطَةً، فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي تَعْجِيلِ الْإِفَاضَةِ لَيْلًا فِي لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ فَأَذِنَ لَهَا" وَالْمُسْتَحَبُّ إذَا دَفَعَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ أَنْ يَمْشِيَ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَإِذَا وَجَدَ فُرْجَةً أَسْرَعَ كَمَا يَفْعَلُ فِي الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَةَ. وَالْمُسْتَحَبُّ إذَا بَلَغَ وَادِيَ مُحَسِّرٍ أَنْ يُسْرِعَ إذَا كَانَ

 

ج / 8 ص -90-         مَاشِيًا أَوْ يُحَرِّكَ دَابَّتَهُ إذَا كَانَ رَاكِبًا بِقَدْرِ رَمْيَةِ حَجَرٍ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَرَّكَ قَلِيلًا فِي وَادِي مُحَسِّرٍ".
الشرح:
أَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رضي الله عنه فَسَبَقَ فِي فَصْلِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ أَنَّهُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ. وَمِمَّا فِي مَعْنَاهُ حَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ قَلِيلًا حَتَّى غَابَ الْقُرْصُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَحَدِيثُ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَحَدِيثُ أُسَامَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَحَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ" إلَى آخِرِهِ رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بِالْمُزْدَلِفَةِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَاتٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، مِنْهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَجَابِرٌ، وَكُلُّ رِوَايَاتِهِمْ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ" إلَّا جَابِرًا فَفِي مُسْلِمٍ خَاصَّةً.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"الْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ" فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ فِيهِ ضَعْفٌ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ قَرِيبًا فِي الْمَسْأَلَةِ السَّادِسَةِ فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ قبل هذا الفصل، ويغني عنه حديث جَابِر أن رسول الله صلى عليه وسلم قال: "نَحَرْتُ هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ. وَوَقَفْت هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَجَمْعٌ هِيَ الْمُزْدَلِفَةُ وَسَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي لَقْطِ الْحَصَيَاتِ فَصَحِيحٌ، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ أَوْ صَحِيحٍ، وَهُوَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أَخِيهِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادَيْنِ صَحِيحَيْنِ، إسْنَادِ النَّسَائِيّ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، لَكِنَّهُمَا رَوَيَاهُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُطْلَقًا، وَظَاهِرُ رِوَايَتِهِمَا أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ لَا الْفَضْلُ، وَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي الْأَطْرَافِ فِي مُسْنَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ فِي مُسْنَدِ الْفَضْلِ، وَالْجَمِيعُ صَحِيحٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فَيَكُونُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَصَلَهُ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيّ، وَأَرْسَلَهُ فِي رِوَايَتَيْ النَّسَائِيّ وَابْنِ مَاجَهْ، وَهُوَ مُرْسَلُ صَحَابِيٍّ وَهُوَ حُجَّةٌ لَوْ لَمْ يُعْرَفْ الْمُرْسَلُ عَنْهُ، فَإِذَا عُرِفَ فَأَوْلَى بِالِاحْتِجَاجِ وَالِاعْتِمَادِ، وَقَدْ عُرِفَ هُنَا أَنَّهُ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ مِنْ رِوَايَةِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ هُوَ ابْنُ مَسْعُودٍ:
"مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى صَلَاةً إلَّا لِمِيقَاتِهَا" إلَى آخِرِهِ، فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَقَوْلُهُ: "فِي الصُّبْحِ قَبْلَ مِيقَاتِهَا" أَيْ قَبْلَ مِيقَاتِهَا الْمُعْتَادِ فِي بَاقِي الْأَيَّامِ وَكَانَتْ هَذِهِ الصَّلَاةُ عَقِبَ طُلُوعِ الْفَجْرِ.
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بِلَفْظِهِ الْوَاقِعِ هُنَا، وَهُوَ بَعْضٌ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ الطَّوِيلِ. وَأَمَّا حَدِيثُ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِمَعْنَاهُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ سَوْدَةَ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ الَّذِي بَعْدَهُ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا لُغَاتُ الْفَصْلِ وَأَلْفَاظُهُ: فَالْمُزْدَلِفَةُ بِكَسْرِ اللَّامِ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: سُمِيَتْ بِذَلِكَ مِنْ التَّزَلُّفِ

 

ج / 8 ص -91-         وَالِازْدِلَافِ، وَهُوَ التَّقَرُّبُ؛ لِأَنَّ الْحُجَّاجَ إذَا أَفَاضُوا مِنْ عَرَفَاتٍ ازْدَلَفُوا إلَيْهَا أَيْ مَضَوْا إلَيْهَا وَتَقَرَّبُوا مِنْهَا.
وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِمَجِيءِ النَّاسِ إلَيْهَا فِي زُلَفٍ مِنْ اللَّيْلِ أَيْ سَاعَاتٍ، وَسُمِّيَتْ الْمُزْدَلِفَةُ جَمْعًا - بِفَتْحِ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ - سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ بِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُزْدَلِفَةَ كُلَّهَا مِنْ الْحَرَمِ. قَالَ الْأَزْرَقِيُّ فِي "تَارِيخِ مَكَّةَ" وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَاوَرْدِيُّ صَاحِبُ "الْحَاوِي" فِي كِتَابِهِ "الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ" وَغَيْرُهُمَا مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ: حَدُّ الْمُزْدَلِفَةِ مَا بَيْنَ وَادِي مُحَسِّرٍ وَمَأْزِمَيْ عَرَفَةَ، وَلَيْسَ الْحَدَّانِ مِنْهَا، وَيَدْخُلُ فِي الْمُزْدَلِفَةِ جَمِيعُ تِلْكَ الشِّعَابِ الْقَوَابِلِ وَالظَّوَاهِرِ، وَالْجِبَالِ الدَّاخِلَةِ فِي الْحَدِّ الْمَذْكُورِ.
وَأَمَّا وَادِي مُحَسِّرٍ فَبِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَبِالرَّاءِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ فِيلَ أَصْحَابِ الْفِيلِ حُسِّرَ فِيهِ، أَيْ أَعْيَا وَكَلَّ عَنْ السَّيْرِ، وَمِنْهُ قوله تعالى:
{يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] وَوَادِي مُحَسِّرٍ مَوْضِعٌ فَاصِلٌ بَيْنَ مِنًى وَمُزْدَلِفَةَ، وَلَيْسَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا. قَالَ الْأَزْرَقِيُّ: وَادِي مُحَسِّرٍ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَخَمْسٌ وَأَرْبَعُونَ ذِرَاعًا1.
وَأَمَّا مِنًى فَبِكَسْرِ الْمِيمِ، وَيَجُوزُ فِيهَا الصَّرْفُ وَعَدَمُهُ وَالتَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، وَالْأَجْوَدُ الصَّرْفُ. وَجَزَمَ ابْنُ قُتَيْبَةَ فِي "أَدَبِ الْكَاتِبِ" بِأَنَّهَا لَا تُصْرَفُ، وَجَزَمَ الْجَوْهَرِيُّ فِي "الصِّحَاحِ" بِأَنَّ مِنًى مُذَكَّرٌ مَصْرُوفٌ. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: سُمِّيَتْ مِنًى لِمَا يُمْنَى فِيهَا مِنْ الدِّمَاءِ، أَيْ يُرَاقُ وَيُصَبُّ. هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي جَزَمَ بِهِ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالتَّوَارِيخِ وَغَيْرِهِمْ وَنَقَلَ الْأَزْرَقِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ آدَمَ لَمَّا أَرَادَ مُفَارَقَةَ جِبْرِيلَ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: تَمَنَّ، قَالَ: أَتَمَنَّى الْجَنَّةَ. وَقِيلَ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَنَى اللَّهُ الشَّيْءَ أَيْ قَدَّرَهُ. فَسُمِّيَتْ مِنًى، لِمَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الشَّعَائِرِ فِيهَا. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: قَالَ يُونُسُ: يُقَال امْتَنَى الْقَوْمُ إذَا أَتَوْا مِنًى، وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ يُقَالُ أَمْنَى الْقَوْمُ أَتَوْا مِنًى.
وَاعْلَمْ أَنَّ مِنًى مِنْ الْحَرَمِ وَهِيَ شِعْبٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ جَبَلَيْنِ أحدهما: ثَبِيرٌ وَالْآخَرُ: الصَّانِعُ، قَالَ الْأَزْرَقِيُّ وَأَصْحَابُنَا فِي كُتُبِ الْمَذْهَبِ: حَدُّ مِنًى مَا بَيْنَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَوَادِي مُحَسِّرٍ، وَلَيْسَتْ الْجَمْرَةُ وَلَا وَادِي مُحَسِّرٍ مِنْ مِنًى. قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْأَصْحَابُ: مَا أَقْبَلَ عَلَى مِنًى مِنْ الْجِبَالِ فَهُوَ مِنْهَا، وَمَا أَدْبَرَ فَلَيْسَ مِنْهَا. قَالَ الْأَزْرَقِيُّ وَغَيْرُهُ: ذَرْعُ مَا بَيْنَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَمُحَسِّرٍ سَبْعَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ2 وَمِائَتَا ذِرَاعٍ، قَالَ الْأَزْرَقِيُّ: وَعَرْضُ مِنًى مِنْ مُؤَخَّرِ الْمَسْجِدِ الَّذِي يَلِي الْجِبَالَ إلَى الْجَبَلِ بِحِذَائِهِ أَلْفُ ذِرَاعٍ وَثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ3، وَمِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ إلَى الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى أَرْبَعُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَسَبْعٌ وَثَمَانُونَ ذِرَاعًا وَنِصْفُ ذِرَاعٍ، وَمِنْ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى إلَى الْجَمْرَةِ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ ثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَخَمْسَةُ أَذْرُعٍ، وَمِنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يبلغ الذراع واحداً وخمسين سنتيمتراً تقريباً، أي أنه نحو مائتين وسبعين متراً وسبعة أمتار. وقد ذكر أن الذراع يبلغ طوله ما بين الخمسين والسبعين سنتيمتراً. وعلى هذا فيكون حوالي ستين سنتيمتراً في الوسط، أي نحو ثلاثمائة وعشرين متراً وسبعة أمتار تقريباً.
2 أي نحو ثلاثة كيلو ونصف الكيلو أو يزيد قليلاً.
3 وذلك نحو ستمائة وستين متراً.

 

ج / 8 ص -92-         الْجَمْرَةِ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ إلَى أَوْسَطِ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ أَلْفُ ذِرَاعٍ وَثَلَاثُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَإِحْدَى وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى مَسَافَةَ فَرْسَخٍ، هُوَ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ1. وَمِنْ مِنًى إلَى مُزْدَلِفَةَ فَرْسَخٌ، وَمِنْ مُزْدَلِفَةَ إلَى عَرَفَاتٍ فَرْسَخٌ، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالرَّافِعِيُّ: بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى فَرْسَخَانِ، وَالصَّوَابُ فَرْسَخٌ فَقَطْ. كَذَا قَالَهُ الْأَزْرَقِيُّ وَالْمُحَقِّقُونَ فِي هَذَا الْفَنِّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ فَبِفَتْحِ الْمِيمِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ. وَبِهِ جَاءَ الْقُرْآنُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي رِوَايَةِ الْحَدِيثِ. قَالَ صَاحِبُ "الْمَطَالِعِ": وَيَجُوزُ كَسْرُ الْمِيمِ لَكِنْ لَمْ يَرِدْ إلَّا بِالْفَتْحِ. وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ الْكَسْرَ. وَمَعْنَى الْحَرَامِ الْمُحَرَّمُ أَيْ الَّذِي يَحْرُمُ فِيهِ الصَّيْدُ وَغَيْرُهُ. فَإِنَّهُ مِنْ الْحَرَمِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ ذَا الْحُرْمَةِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ. هَلْ هُوَ الْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا أَمْ بَعْضُهَا. وَهُوَ قُزَحُ خَاصَّةً. وَسَنُوَضِّحُ الْخِلَافَ فِيهِ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. قَالَ الْعُلَمَاءُ: سُمِّيَ مَشْعَرًا لِمَا فِيهِ مِنْ الشَّعَائِرِ، وَهِيَ مَعَالِمُ الدِّينِ وَطَاعَةُ اللَّهِ تَعَالَى. قَوْلُهُ: (فَإِذَا وَجَدَ فُرْجَةً) وَهِيَ بِضَمِّ الْفَاءِ وَفَتْحِهَا. وَيُقَالُ فُرْجٌ بِلَا هَاءٍ ثَلَاثُ لُغَاتٍ سَبَقَ بَيَانُهَا فِي مَوْقِفِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ. وَقَوْلُهُ: "يَسِيرُ الْعَنَقَ" بِفَتْحِ النُّونِ وَهُوَ ضَرْبٌ مَعْرُوفٌ مِنْ السَّيْرِ فِيهِ إسْرَاعٌ يَسِيرٌ، وَالنَّصُّ بِفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ، أَكْثَرُ مِنْ الْعَنَقِ.
قَوْلُهُ: "لِأَنَّهُ نُسُكٌ مَقْصُودٌ فِي مَوْضِعِهِ فَكَانَ وَاجِبًا كَالرَّمْيِ" احْتَرَزَ عَنْ الرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ فَإِنَّهُمَا تَابِعَانِ لِلطَّوَافِ، وَكَذَا صَلَاةُ الطَّوَافِ وَتَقْبِيلُ الْحَجَرِ وَنَحْوِهِ وَلَكِنَّهُ يَنْتَقِضُ بِالْمَبِيتِ بِمِنًى لَيْلَةَ التَّاسِعِ، وَبِطَوَافِ الْقُدُومِ، وَبِالْخُطَبِ وَالتَّلْبِيَةِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: "
اُلْقُطْ لِي حَصًى" هُوَ بِضَمِّ الْقَافِ قَوْلُهُ: "وَيُصَلِّي الصُّبْحَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ وَيُقَدِّمُهَا أَفْضَلَ تَقْدِيمٍ" أَيْ أَكْثَرَ مَا يُمْكِنُهُ مِنْ التَّقْدِيمِ، وَهُوَ أَنْ يُصَلِّيَهَا أَوَّلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، قَوْلُهُ: "وَقَفَ عَلَى قُزَحَ" هُوَ بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الزَّايِ وَهُوَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ بِالْمُزْدَلِفَةِ قَوْلُهُ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ الْقَصْوَاءَ، هِيَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الصَّادِ وَبِالْمَدِّ، قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: يُقَالُ شَاةٌ قَصْوَاءُ وَنَاقَةٌ قَصْوَاءُ إذَا قُطِعَ مِنْ أُذُنِهَا شَيْءٌ لَا يُجَاوِزُ الرُّبُعَ، فَإِنْ جَاوَزَ فَهِيَ عَضْبَاءُ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: لَمْ تَكُنْ نَاقَةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَقْطُوعًا مِنْ أُذُنِهَا شَيْءٌ، قَالَ صَاحِبُ "الْمَطَالِعِ": قَالَ الدَّرَاوَرْدِيُّ إنَّمَا قِيلَ لَهَا الْقَصْوَاءُ لِأَنَّهَا كَانَتْ لَا تَكَادُ تُسْبَقُ، قَالَ الْجَوْهَرِيُّ يُقَالُ شَاةٌ قَصْوَاءُ وَنَاقَةٌ قَصْوَاءُ، وَلَا يُقَالُ جَمَلٌ أَقْصَى، وَإِنَّمَا يُقَالُ مَقْصُوٌّ وَمَقْصِيٌّ، كَمَا يُقَالُ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ، وَلَا يُقَالُ رَجُلٌ أَحْسَنُ، وَكَانَ يُقَالُ لِهَذِهِ النَّاقَةِ: الْقَصْوَاءُ وَالْقَصِيُّ وَالْجَدْعَا قَالَ الْعُلَمَاءُ: هِيَ اسْمٌ لِنَاقَةٍ وَاحِدَةٍ وَقِيلَ: هُنَّ ثَلَاثٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: "رَقِيَ عَلَى الْمَشْعَرِ" هُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا. قَوْلُهُ: "حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا" هُوَ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ جُيِّدَ، وَمَعْنَاهُ إسْفَارًا ظَاهِرًا. قَوْلُهُ: "امْرَأَةً ثَبْطَةً" هِيَ بِثَاءٍ مُثَلَّثَةٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ سَاكِنَةٍ أَيْ ثَقِيلَةَ الْبَدَنِ جَسِيمَةً، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أما الأحكام: فَفِيهَا مَسَائِلُ إحداها: وَهِيَ مُقَدِّمَةٌ لِمَا بَعْدَهَا فِي بَيَانِ حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الميل ثلاثة كيلو فتكون المسافة من مكة إلى منى نحو تسعة كيلو مترات.

 

ج / 8 ص -93-         الَّذِي سَبَقَ الْوَعْدُ بِهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: "وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَرَفَةَ فَقَالَ: هَذِهِ عَرَفَةُ، وَهُوَ الْمَوْقِفُ، وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، ثُمَّ أَفَاضَ حِينَ غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَأَرْدَفَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَجَعَلَ يُشِيرُ بِيَدِهِ عَلَى هِينَتِهِ وَالنَّاسُ يَضْرِبُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِمْ وَيَقُولُ: أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ السَّكِينَةَ، ثُمَّ أَتَى جَمْعًا فَصَلَّى بِهِمْ الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى قُزَحَ وَوَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا قُزَحُ وَهُوَ الْمَوْقِفُ، وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، ثُمَّ أَفَاضَ حَتَّى انْتَهَى إلَى وَادِي مُحَسِّرٍ فَقَرَعَ نَاقَتَهُ فَخَبَّتْ حَتَّى جَازَ الْوَادِيَ فَوَقَفَ وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ ثُمَّ أَتَى الْجَمْرَةَ فَرَمَاهَا، ثُمَّ أَتَى الْمَنْحَرَ فَقَالَ هَذَا الْمَنْحَرُ وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَاسْتَفْتَتْهُ جَارِيَةٌ شَابَّةٌ مِنْ خَثْعَمَ فَقَالَتْ: إنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ وَقَدْ أَدْرَكَتْهُ فَرِيضَةُ اللَّهِ فِي الْحَجِّ أَفَيُجْزِئُ أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ، قَالَ: حُجِّي عَنْ أَبِيكِ، وَلَوَى عُنُقَ الْفَضْلِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ لَوَيْتَ عُنُقَ ابْنِ عَمِّكَ؟ قَالَ رَأَيْتُ شَابًّا وَشَابَّةً فَلَمْ آمَنْ الشَّيْطَانَ عَلَيْهِمَا. وَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي أَفَضْتُ قَبْلَ أَنْ أَحْلِقَ أَوْ أُقَصِّرَ. قَالَ احْلِقْ وَلَا حَرَجَ. قَالَ: وَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ ارْمِ وَلَا حَرَجَ، قَالَ ثُمَّ أَتَى الْبَيْتَ فَطَافَ بِهِ ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمْ عَلَيْهِ النَّاسُ لَنَزَعْتُهُ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ وَقَالَ هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُخْتَصَرًا وَفِي رِوَايَتِهِ: "وَالنَّاسُ يَضْرِبُونَ يَمِينًا وَشِمَالًا لَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِمْ".
الثَّانِيَةُ: السُّنَّةُ لِلْإِمَامِ إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَتَحَقَّقَ غُرُوبُهَا أَنْ يُفِيضَ مِنْ عَرَفَاتٍ، وَيُفِيضَ النَّاسُ مَعَهُ، وَأَنْ يُؤَخِّرَ صَلَاةَ الْمَغْرِبِ بِنِيَّةِ الْجَمْعِ إلَى الْعِشَاءِ، وَيُكْثِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّلْبِيَةِ لقوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198].
الثَّالِثَةُ: السُّنَّةُ أَنْ يَسْلُكَ فِي ذَهَابِهِ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ، وَهُوَ بَيْنَ الْعَلَمَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا حَدُّ الْحَرَمِ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ، وَالْمَأْزِمُ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ وَكَسْرِ الزَّايِ هُوَ الطَّرِيقُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، وَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ فِي "الْمُخْتَصَرِ" وَالْمُصَنِّفُ فِي "التَّنْبِيهِ" وَجَمِيعُ الْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّهُ يُسَنُّ الذَّهَابُ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ، لَا عَلَى طَرِيقِ ضَبٍّ. وَعَجَبٌ إهْمَالُ الْمُصَنِّفِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ هُنَا مَعَ شُهْرَتِهَا. وَذِكْرُهُ لَهَا فِي "التَّنْبِيهِ" مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا. وَقَدْ ثَبَتَ مَعْنَاهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ رِوَايَةِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما.
الرَّابِعَةُ: السُّنَّةُ أَنْ يَسِيرَ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ عَلَى عَادَةِ سَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا، وَيَحْتَرِزُ عَنْ إيذَاءِ النَّاسِ فِي الْمُزَاحَمَةِ، فَإِنْ وَجَدَ فُرْجَةً فَالسُّنَّةُ الْإِسْرَاعُ فِيهَا لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَقَدَّمَ النَّاسُ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ يَتَأَخَّرُوا عَنْهُ، لَكِنْ مَنْ أَرَادَ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا مِنْهُ.
الْخَامِسَةُ: السُّنَّةُ أَنْ يُؤَخِّرُوا صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَيَجْمَعُوا بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ فِي الْمُزْدَلِفَةِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ. هَكَذَا أَطْلَقَ اسْتِحْبَابَ تَأْخِيرِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: يُؤَخِّرُهُمَا إلَى الْمُزْدَلِفَةِ مَا لَمْ يَخْشَ فَوْتَ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ لِلْعِشَاءِ،

 

ج / 8 ص -94-         وَهُوَ ثُلُثُ اللَّيْلِ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ وَنِصْفُهُ فِي الْآخَرِ، فَإِنْ خَافَهُ لَمْ يُؤَخِّرْ بَلْ يَجْمَعُ بِالنَّاسِ فِي الطَّرِيقِ وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا التَّفْصِيلِ الدَّارِمِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ فِي كِتَابِهِ "الْجَامِعِ" وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابَيْهِ "التَّعْلِيقِ" و"الْمُجَرَّدِ" وَصَاحِبَا "الشَّامِلِ" و"الْعُدَّةِ" وَصَاحِبُ "الْبَيَانِ" وَآخَرُونَ، وَنَقَلَهُ أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ" عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَنَقَلَهُ صَاحِبَا "الشَّامِلِ" و"الْبَيَانِ" عَنْ نَصِّهِ فِي "الْإِمْلَاءِ"، وَلَعَلَّ إطْلَاقَ الْأَكْثَرِينَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَمْ يَخْشَ فَوْتَ وَقْتِ الِاخْتِيَارِ لِيَتَّفِقَ قَوْلُهُمْ مَعَ نَصِّ الشَّافِعِيِّ، وَهَذِهِ الطَّائِفَةُ الْكَثِيرَةُ الْكَبِيرَةُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: السُّنَّةُ إذَا وَصَلُوا مُزْدَلِفَةَ أَنْ يُصَلُّوا قَبْلَ حَطِّ رِحَالِهِمْ وَيُنِيخُ كُلُّ إنْسَانٍ جَمَلَهُ وَيَعْقِلُهُ ثُمَّ يُصَلُّونَ، لِحَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رضي الله عنهما:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ تَوَضَّأَ ثُمَّ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتْ الْعِشَاءُ فَصَلَّاهَا وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ حَتَّى جِئْنَا الْمُزْدَلِفَةَ فَأَقَامَ الْمَغْرِبَ ثُمَّ أَنَاخَ النَّاسُ فِي مَنَازِلِهِمْ وَلَمْ يَحُلُّوا حَتَّى أَقَامَ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ فَصَلَّى ثُمَّ حَلُّوا".
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ تَرَكَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَصَلَّى كُلَّ وَاحِدَةٍ فِي وَقْتِهَا أَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ أَوْ جَمَعَ وَحْدَهُ لَا مَعَ الْإِمَامِ أَوْ صَلَّى إحْدَاهُمَا مَعَ الْإِمَامِ وَالْأُخْرَى وَحْدَهُ جَامِعًا بَيْنَهُمَا، أَوْ صَلَّاهُمَا فِي عَرَفَاتٍ أَوْ فِي الطَّرِيقِ قَبْلَ الْمُزْدَلِفَةِ جَازَ وَفَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ. وَإِنْ جَمَعَ فِي الْمُزْدَلِفَةِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ أَقَامَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَا يُؤَذِّنُ لِلثَّانِيَةِ. وَفِي الْأَذَانِ لِلْأُولَى الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ فِيمَنْ جَمَعَ فِي سَائِرِ الْأَسْفَارِ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ وَالْأَصَحُّ أَنْ يُؤَذِّنَ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ وَاضِحَةً فِي بَابِ الْأَذَانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ ثَابِتٌ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَحَادِيثُهُ مَشْهُورَةٌ فِي "الصَّحِيحَيْنِ"، فَمِمَّنْ رَوَى فِي "صَحِيحَيْ الْبُخَارِيِّ" و"مُسْلِمٍ" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"جَمَعَ بِالْمُزْدَلِفَةِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ" عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ وَابْنُ عُمَرَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ. وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ فِي حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ رِوَايَةِ عَلِيٍّ وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
السَّادِسَةُ: إذَا وَصَلُوا مُزْدَلِفَةَ وَحَلُّوا بَاتُوا بِهَا، وَهَذَا الْمَبِيتُ نُسُكٌ بِالْإِجْمَاعِ، لَكِنْ هُوَ وَاجِبٌ أَوْ سُنَّةٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أَصَحُّهُمَا: وَاجِبٌ والثاني: سُنَّةٌ؟. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ فِيهِ ثَلَاثَةَ طُرُقٍ أَصَحُّهَا: قَوْلَانِ كَمَا ذَكَرْنَا والثاني: الْقَطْعُ بِالْإِيجَابِ وَالثَّالِثُ: بِالِاسْتِحْبَابِ، فَإِنْ تَرَكَهُ أَرَاقَ دَمًا، فَإِنْ قُلْنَا الْمَبِيتُ وَاجِبٌ فَالدَّمُ لِتَرْكِهِ وَاجِبٌ وَإِلَّا فَسُنَّةٌ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ بِرُكْنٍ، فَلَوْ تَرَكَهُ صَحَّ حَجُّهُ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَقَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ إمَامَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا: هُوَ رُكْنٌ لَا يَصِحُّ الْحَجُّ إلَّا بِهِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، قَالَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ وَأَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ، فَأَمَّا ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ فَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ، حَكَاهُ عَنْهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ"، وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَحَكَاهُ الرَّافِعِيُّ عَنْهُ وَعَنْ ابْنِ خُزَيْمَةَ، وَأَشَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إلَى تَرْجِيحِهِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ، وَأَنَّهُ وَاجِبٌ فَيَجِبُ الدَّمُ بِتَرْكِهِ ثم

 

ج / 8 ص -95-         الصَّحِيحُ الْمَنْصُوصُ فِي "الْأُمِّ" أَنَّ هَذَا الْمَبِيتَ يَحْصُلُ بِالْحُضُورِ فِي مُزْدَلِفَةَ فِي سَاعَةٍ مِنْ النِّصْفِ الثَّانِي مِنْ اللَّيْلِ، وَبِهَذَا قَطَعَ جُمْهُورُ الْعِرَاقِيِّينَ وَأَكْثَرُ الْخُرَاسَانِيِّينَ، وَفِي قَوْلٍ ضَعِيفٍ يَحْصُلُ أَيْضًا بِسَاعَةٍ فِي النِّصْفِ الثَّانِي أَوْ سَاعَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ حَكَاهُ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ عَنْ نَصِّهِ فِي "الْقَدِيمِ" و"الْإِمْلَاءِ".
وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ نَقْلِ شَيْخِهِ أَبِي مُحَمَّدٍ وَصَاحِبِ "التَّقْرِيبِ" فِي قَدْرِ الْوَاجِبِ مِنْ الْمَبِيتِ قَوْلَيْنِ أَظْهَرُهُمَا: مُعْظَمُ اللَّيْلِ والثاني: الْحُضُورُ حَالَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. وَهَذَا النَّقْلُ غَرِيبٌ وَضَعِيفٌ، وَقَطَعَ صَاحِبُ "الْحَاوِي" بِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَ مِنْ عَرَفَاتٍ وَلَمْ يَحْصُلْ بِمُزْدَلِفَةَ إلَّا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ لَزِمَهُ دَمٌ، قَالَ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ فِيهَا إلَّا أَقَلَّ اللَّيْلِ، وَهَذَا الْحُكْمُ وَالدَّلِيلُ ضَعِيفَانِ، وَالْمَذْهَبُ مَا سَبَقَ. وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا، وَنُصُوصُ الشَّافِعِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ مِنْ مُزْدَلِفَةَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ أَجْزَأَهُ، وَحَصَلَ الْمَبِيتُ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَهَذَا مِمَّا يَرُدُّ نَقْلَ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ بِمُزْدَلِفَةَ غَالِبًا إلَّا قُرْبَ رُبُعِ اللَّيْلِ أَوْ نَحْوِهِ، فَإِذَا دَفَعَ عَقِبَ نِصْفِ اللَّيْلِ لَمْ يَكُنْ قَدْ حَضَرَ مُعْظَمَ اللَّيْلِ بِمُزْدَلِفَةَ وَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَسَوَاءٌ كَانَ الدَّفْعُ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ لِعُذْرٍ أَمْ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ الْمَبِيتُ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ بِيَسِيرٍ وَلَمْ يَعُدْ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ، فَقَدْ تَرَكَ الْمَبِيتَ، فَلَوْ دَفَعَ قَبْلَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَعَادَ إلَيْهَا قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ الْمَبِيتُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِلَا خِلَافٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الدَّمِ بِتَرْكِ الْمَبِيتِ مِنْ أَصْلِهِ إذَا قُلْنَا. الْمَبِيتُ وَاجِبٌ هُوَ فِيمَنْ تَرَكَهُ بِلَا عُذْرٍ. أَمَّا مَنْ انْتَهَى إلَى عَرَفَاتٍ لَيْلَةَ النَّحْرِ، وَاشْتَغَلَ بِالْوُقُوفِ عَنْ الْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ. وَمِمَّنْ نَقَلَ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. وَلَوْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَاتٍ إلَى مَكَّةَ وَطَافَ الْإِفَاضَةَ بَعْدَ نِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ فَفَاتَهُ الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِسَبَبِ الطَّوَافِ: قَالَ صَاحِبُ "التَّقْرِيبِ" وَالْقَفَّالُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ اشْتَغَلَ بِرُكْنٍ فَأَشْبَهَ الْمُشْتَغِلَ بِالْوُقُوفِ. وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذَا ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا مُحْتَمَلٌ عِنْدِي لِأَنَّ الْمُنْتَهِيَ إلَى عَرَفَاتٍ فِي اللَّيْلِ مُضْطَرٌّ إلَى التَّخَلُّفِ عَنْ الْمَبِيتِ، وَأَمَّا الطَّوَافُ فَيُمْكِنُ تَأْخِيرُهُ فَإِنَّهُ لَا يَفُوتُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: يَحْصُلُ هَذَا الْمَبِيتُ بِالْحُضُورِ فِي أَيَّةِ بُقْعَةٍ كَانَتْ مِنْ مُزْدَلِفَةَ. وَالْعُمْدَةُ فِي دَلِيلِهِ أَنَّهُ يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُ مُزْدَلِفَةَ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي احْتَجَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ لِمَا ذَكَرَهُ. لِأَنَّهُ إنَّمَا وَرَدَ فِي الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بَعْدَ الصُّبْحِ لَا فِي الْمَبِيتِ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ. وَعَجَبٌ كَيْفَ اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَقَدْ سَبَقَ تَحْدِيدُ الْمُزْدَلِفَةِ فِي أَوَّلِ الْفَصْلِ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْقَى بِالْمُزْدَلِفَةِ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ فِي "الصَّحِيحِ" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "
بَاتَ بِهَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ".
السَّابِعَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ بِالْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ لِلْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَلِلْعِيدِ، وَلِمَا فِيهَا مِنْ الِاجْتِمَاعِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْمَاءِ تَيَمَّمَ كَمَا سَبَقَ وَهَذِهِ اللَّيْلَةُ لَيْلَةٌ عَظِيمَةٌ جَامِعَةٌ لِأَنْوَاعٍ مِنْ الْفَضْلِ مِنْهَا: شَرَفُ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ؛ فَإِنَّ الْمُزْدَلِفَةَ مِنْ الْحَرَمِ كَمَا سَبَقَ، وَانْضَمَّ إلَى هَذَا جَلَالَةُ أَهْلِ

 

ج / 8 ص -96-         الْمَجْمَعِ الْحَاضِرِينَ بِهَا وَهُمْ وَفْدُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَنْ لَا يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْنَى الْحَاضِرُ هُنَاكَ بِإِحْيَائِهَا بِالْعِبَادَةِ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ تِلَاوَةٍ وَذِكْرٍ وَدُعَاءٍ وَتَضَرُّعٍ، وَيَتَأَهَّبَ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ لِلِاغْتِسَالِ أَوْ الْوُضُوءِ، وَيُحَصِّلَ حَصَاةَ الْجِمَارِ وَتَهْيِئَةَ مَتَاعِهِ.
الثَّامِنَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ سَبْعَ حَصَيَاتٍ لِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَزِيدَ فَرُبَّمَا سَقَطَ مِنْهَا شَيْءٌ، وَهَلْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْخُذَ مَعَ ذَلِكَ لِرَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: يُسْتَحَبُّ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي "الْمُخْتَصَرِ"، وَبِهِ قَطَعَ ابْنُ الْقَاصِّ فِي "الْمِفْتَاحِ" وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تَعْلِيقِهِ" وَالْبَغَوِيُّ. فَعَلَى هَذَا يَأْخُذُ سَبْعِينَ حَصَاةً، سَبْعًا لِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَثَلَاثًا وَسِتِّينَ لِأَيَّامِ التَّشْرِيقِ والثاني: وَهُوَ الْمَشْهُورُ لَا يَأْخُذُ إلَّا سَبْعَ حَصَيَاتٍ لِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَبِهَذَا قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالصَّيْمَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابَيْهِ "التَّعْلِيقِ" و"الْمُجَرَّدِ" وَالْمَحَامِلِيُّ فِي كُتُبِهِ الثَّلَاثَةِ: "الْمَجْمُوعِ" و"التَّجْرِيدِ" و"الْمُقْنِعِ" وَصَاحِبَا "الشَّامِلِ" و"الْبَيَانِ" وَالْجُمْهُورُ، وَهُوَ الْمَنْصُوصُ فِي "الْأُمِّ"، وَنَقَلَهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَغَيْرُهُ عَنْ نَصِّهِ فِي الْأُمِّ. وَكَذَا نَقَلَهُ الرَّافِعِيُّ عَنْ الْجُمْهُورِ. قَالَ: وَنَقَلُوهُ عَنْ نَصِّهِ. قَالَ: وَجَعَلُوهُ بَيَانًا لِمَا أَطْلَقَهُ فِي "الْمُخْتَصَرِ". قَالَ وَجَمَعَ مَا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: يُسْتَحَبُّ الْأَخْذُ لِلْجَمِيعِ، لَكِنْ لِيَوْمِ النَّحْرِ أَشَدُّ اسْتِحْبَابًا هَذَا كَلَامُهُ. وَهَذَا الْوَجْهُ الْقَائِلُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ مُخَالِفٌ لِنَصِّهِ فِي "الْأُمِّ" وَلِصَرِيحِ كَلَامِ الْأَصْحَابِ. وَقَدْ صَرَّحَ الصَّيْمَرِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ بِأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ زِيَادَةً عَلَى سَبْعِ حَصَيَاتٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ: يَأْخُذُونَ الْحَصَى مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ فِي اللَّيْلِ لِئَلَّا يَشْتَغِلُوا بِالنَّهَارِ بِتَحْصِيلِهِ. وَخَالَفَهُمْ الْبَغَوِيّ فَقَالَ: يَأْخُذُونَهُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ. وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ أَخْذُ الْحَصَى مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ قَالَ قَوْمٌ يَأْخُذُهَا مِنْ الْمَأْزِمَيْنِ وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَمِنْ أَيْ مَوْضِعٍ أَخَذَهَا أَجْزَأَهُ. لَكِنْ يُكْرَهُ مِنْ أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ. الْمَسْجِدِ وَالْحِلِّ وَالْمَوْضِعِ النَّجِسِ وَمِنْ الْجِمَارِ الَّتِي رَمَاهَا هُوَ وَغَيْرُهُ. لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا، وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا:
"أَنَّ مَا تُقُبِّلَ مِنْهَا رُفِعَ وَمَا لَمْ يُقْبَلْ تُرِكَ. وَلَوْلَا ذَلِكَ لَسَدَّ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الْمَرْفُوعَانِ ضَعِيفَانِ. وَكَرِهَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَخْذَهَا مِنْ جَمِيعِ مِنًى لِانْتِشَارِ مَا رُمِيَ فِيهَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَلَوْ رَمَى بِكُلِّ مَا كَرِهْنَاهُ أَجْزَأَهُ. وَلَنَا وَجْهٌ ضَعِيفٌ شَاذٌّ أَنَّهُ إذَا رَمَى حَصَاةً ثُمَّ أَخَذَهَا وَرَمَاهَا هُوَ فِي تِلْكَ الْجَمْرَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَا يُجْزِئُهُ. وَوَافَقَ هَذَا الْقَائِلُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ اخْتَلَفَ الشَّخْصُ أَوْ الزَّمَانُ أَوْ الْمَكَانُ أَجْزَأَهُ الرَّمْيُ بِالْمَرْمِيِّ بِلَا خِلَافٍ. وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّهُ يُسَمَّى رَمْيًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: اتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَكْسِرَ الْحَصَى بَلْ يَلْتَقِطُهُ. وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"أَمَرَ بِالْتِقَاطِ الْحَصَيَاتِ لَهُ" وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا الْحَدِيثِ. وَقَدْ وَرَدَ نَهْيٌ فِي الْكَسْرِ هَاهُنَا. وَلِأَنَّهُ قَدْ يُفْضِي إلَى الْأَذَى.

 

ج / 8 ص -97-         فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا أَكْرَهُ غَسْلَ حَصَى الْجِمَارِ، بَلْ لَمْ أَزَلْ أَعْمَلُهُ وَأُحِبُّهُ. هَذَا نَصُّهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: غَسْلُهُ مُسْتَحَبٌّ حَتَّى قَالَ الْبَغَوِيّ يُسْتَحَبُّ غَسْلُهُ وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: السُّنَّةُ أَنْ يَكُونَ الْحَصَى صِغَارًا بِقَدْرِ حَصَى الْخَذْفِ لَا أَكْبَرَ وَلَا أَصْغَرَ، وَيُكْرَهُ بِأَكْبَرَ مِنْهُ وَسَنُوَضِّحُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي الْفَصْلِ الَّذِي بَعْدَ هَذَا.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: السُّنَّةُ تَقْدِيمُ الضُّعَفَاءِ مِنْ النِّسَاءِ وَغَيْرِهِنَّ مِنْ مُزْدَلِفَةَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ إلَى مِنًى لِيَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ قَبْلَ زَحْمَةِ النَّاسِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ:
"اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ تَدْفَعُ قَبْلَهُ وَقَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَكَانَتْ امْرَأَةً ثَبْطَةً فَأَذِنَ لَهَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُومُ بِمِنًى لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوْا الْجَمْرَةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: "أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ:
"أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ، فَقَامَتْ تُصَلِّي فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: لَا، فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ، نَعَمْ. قَالَتْ: فَارْتَحِلُوا، فَارْتَحَلْنَا فَمَضَيْنَا حَتَّى رَمَتْ الْجَمْرَةَ ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتْ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا، فَقُلْتُ لَهَا: مَا أُرَانَا إلَّا قَدْ غَلَّسْنَا قَالَتْ يَا بُنَيَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِلظُّعُنِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بِهَا مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ سِوَى مَا ذَكَرْتُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا حُكْمُ الضَّعَفَةِ فَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَيَمْكُثُونَ بِمُزْدَلِفَةَ حَتَّى يُصَلُّوا الصُّبْحَ بِهَا كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
التَّاسِعَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: السُّنَّةُ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ أَنْ يُبَادِرَ الْإِمَامُ وَالنَّاسُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، قَالُوا: وَالْمُبَالَغَةُ فِي التَّبْكِيرِ بِهَا فِي هَذَا الْيَوْمِ آكَدُ مِنْ بَاقِي الْأَيَّامِ، اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلِيَتَّسِعَ الْوَقْتُ لِوَظَائِفِ هَذَا الْيَوْمِ مِنْ الْمَنَاسِكِ، فَإِنَّهَا كَثِيرَةٌ فِي هَذَا الْيَوْمِ، فَلَيْسَ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ أَكْثَرُ عَمَلًا مِنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْعَاشِرَةُ: السُّنَّةُ أَنْ يَرْتَحِلُوا بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ مَوْضِعِ مَبِيتِهِمْ مُتَوَجِّهِينَ إلَى الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَهُوَ قُزَحُ بِضَمِّ الْقَافِ وَفَتْحِ الزَّايِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ - وَبِالْمُزْدَلِفَةِ، وَهُوَ آخِرُ الْمُزْدَلِفَةِ، وَهُوَ جَبَلٌ صَغِيرٌ، فَإِذَا وَصَلَهُ صَعِدَهُ إنْ أَمْكَنَهُ وَإِلَّا وَقَفَ عِنْدَهُ وَتَحْتَهُ. وَيَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ فَيَدْعُو وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُكَبِّرُهُ وَيُهَلِّلُهُ وَيُوَحِّدُهُ، وَيُكْثِرُ مِنْ التَّلْبِيَةِ. اسْتَحَبَّ أَصْحَابُنَا أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ كَمَا وَقَفْتَنَا فِيهِ وَأَرَيْتَنَا إيَّاهُ فَوَفِّقْنَا لِذِكْرِكَ كَمَا هَدَيْتَنَا. وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا كَمَا وَعَدْتَنَا بِقَوْلِكَ، وَقَوْلُك الْحَقُّ:
{فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ

 

ج / 8 ص -98-         قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 198-199] وَيُكْثِرُ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُمَّ آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً. وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. وَيَدْعُو بِمَا أَحَبَّ وَيَخْتَارُ الدَّعَوَاتِ الْجَامِعَةَ وَالْأُمُورَ الْمُهِمَّةَ، وَيُكَرِّرُ دَعَوَاتِهِ، وَدَلِيلُ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ.
وَقَدْ اسْتَبْدَلَ النَّاسُ بِالْوُقُوفِ عَلَى قُزَحَ الْوُقُوفَ عَلَى بِنَاءٍ مُسْتَحْدَثٍ فِي وَسَطِ الْمُزْدَلِفَةِ وَفِي حُصُولِ أَصْلِ هَذِهِ السُّنَّةِ بِالْوُقُوفِ فِي ذَلِكَ الْمُسْتَحْدَثِ وَغَيْرِهِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ مِمَّا سِوَى قُزَحَ وَجْهَانِ.
أحدهما: لَا يَحْصُلُ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَقَفَ عَلَى قُزَحَ وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم:
"لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ".
والثاني: وَهُوَ الصَّحِيحُ بَلْ الصَّوَابُ أَنَّهَا تَحْصُلُ، وَبِهِ جَزَمَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ "الْمُجَرَّدِ" وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ رضي الله عنه: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: نَحَرْتُ هَا هُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ فَانْحَرُوا فِي رِحَالِكُمْ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَجَمْعٌ هِيَ الْمُزْدَلِفَةُ، وَالْمُرَادُ وَقَفْتُ عَلَى قُزَحَ وَجَمِيعُ الْمُزْدَلِفَةِ مَوْقِفٌ. لَكِنَّ أَفْضَلَهَا قُزَحُ كَمَا أَنَّ عَرَفَاتٍ كُلَّهَا مَوْقِفٌ وَأَفْضَلَهَا مَوْقِفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الصَّخَرَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَبْقُوا وَاقِفِينَ عَلَى قُزَحَ لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ إلَى أَنْ يُسْفِرَ الصُّبْحُ إسْفَارًا جِدًّا، لِحَدِيثِ جَابِرٍ السَّابِقِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ثُمَّ بَعْدَ الْإِسْفَارِ يَدْفَعُونَ إلَى مِنًى. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَلَوْ تَرَكُوا هَذَا الْوُقُوفَ مِنْ أَصْلِهِ فَاتَهُمْ الْفَضِيلَةُ وَلَا إثْمَ عَلَيْهِمْ. وَلَا دَمَ كَسَائِرِ الْهَيْئَاتِ وَالسُّنَنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تَعْلِيقِهِ": وَيَكْفِي مِنْ أَصْلِ هَذَا الْوُقُوفِ بِقُزَحَ الْمَذْكُورِ كَمَا قُلْنَا فِي الْمَوْقِفِ بِعَرَفَاتٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْحَادِيَةَ عَشَرَ: إذَا أَسْفَرَ الْفَجْرُ فَالسُّنَّةُ أَنْ يَدْفَعَ مِنْ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ مُتَوَجِّهًا إلَى مِنًى وَيَكُونُ ذَلِكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. فَإِنْ دَفَعَ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، كَذَا جَزَمَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَشَيْخُهُ أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ "الْمُجَرَّدِ" وَآخَرُونَ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: هُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَكَذَا مُقْتَضَى عِبَارَةِ آخَرِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَدْفَعُ إلَى مِنًى وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ. قَالَ الْمُصَنِّفُ وَشَيْخُهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُمَا: فَإِذَا وَجَدَ فُرْجَةً أَسْرَعَ كَمَا سَبَقَ فِي الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ. وَيَكُونُ شِعَارُهُ فِي دَفْعِهِ التَّلْبِيَةَ وَالذِّكْرَ. وَلْيَتَجَنَّبْ الْإِيذَاءَ فِي الْمُزَاحَمَةِ. فَإِذَا بَلَغَ وَادِيَ مُحَسِّرٍ اُسْتُحِبَّ لِلرَّاكِبِ تَحْرِيكُ دَابَّتِهِ قَدْرَ رَمْيَةِ حَجَرٍ. وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَاشِي الْإِسْرَاعُ قَدْرَ رَمْيَةِ حَجَرٍ أَيْضًا حَتَّى يَقْطَعَا عَرْضَ الْوَادِي وَقَدْ سَبَقَ ضَبْطُ وَادِي مُحَسِّرٍ وَتَحْدِيدُهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا وَغَيْرُهُمْ: وَلَيْسَ وَادِي مُحَسِّرٍ مِنْ مُزْدَلِفَةَ وَلَا مِنْ مِنًى بَلْ هُوَ مَسِيلُ مَا بَيْنَهُمَا، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ اسْتِحْبَابِ الْإِسْرَاعِ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ إلَّا وَجْهًا شَاذًّا ضَعِيفًا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ الْإِسْرَاعُ لِلْمَاشِي وَلَيْسَ بِشَيْءٍ وَدَلِيلُ الْمَسْأَلَةِ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ.

 

ج / 8 ص -99-         قَالَ أَصْحَابُنَا: وَاسْتُحِبَّ الْإِسْرَاعُ فِيهِ لِلِاقْتِدَاءِ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّ وَادِيَ مُحَسِّرٍ كَانَ مَوْقِفَ النَّصَارَى فَاسْتُحِبَّتْ مُخَالَفَتُهُمْ وَاسْتَدَلُّوا بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَانَ يُوضِعُ وَيَقُولُ:


إلَيْك تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا
                    مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُهَا

قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: يَعْنِي الْإِيضَاعَ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ، وَمَعْنَى هَذَا الْبَيْتِ أَنَّ نَاقَتِي تَعْدُو إلَيْك يَا رَبِّ مُسْرِعَةً فِي طَاعَتِك قَلِقًا وَضِينُهَا، وَهُوَ الْحَبْلُ الَّذِي كَالْحِزَامِ، وَإِنَّمَا صَارَ قَلِقًا مِنْ كَثْرَةِ السَّيْرِ وَالْإِقْبَالِ التَّامِّ وَالِاجْتِهَادِ الْبَالِغِ فِي طَاعَتِك، وَالْمُرَادُ صَاحِبُ النَّاقَةِ. وَقَوْلُهُ: "مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُهَا" بِنَصْبِ دِينِ النَّصَارَى وَرَفْعِ دِينِهَا، أَيْ إنِّي لَا أَفْعَلُ فِعْلَ النَّصَارَى وَلَا أَعْتَقِدُ اعْتِقَادَهُمْ. قَالَ الْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تَعْلِيقِهِ": يُسْتَحَبُّ لِلْمَارِّ بِوَادِي مُحَسِّرٍ أَنْ يَقُولَ هَذَا الَّذِي قَالَهُ عُمَرُ رضي الله عنه وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا تَقْيِيدُ الْمُصَنِّفِ وَالْأَصْحَابِ مَسَافَةَ اسْتِحْبَابِ الْإِسْرَاعِ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ بِقَدْرِ رَمْيَةِ حَجَرٍ، فَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِمَا ثَبَتَ فِي "مُوَطَّأِ" مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ "كَانَ يُحَرِّكُ رَاحِلَتَهُ فِي بَطْنِ مُحَسِّرٍ قَدْرَ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ" وَقَدْ سَبَقَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"لَمَّا انْتَهَى إلَى وَادِي مُحَسِّرٍ قَرَعَ رَاحِلَتَهُ فَخَبَّتْ حَتَّى جَاوَزَ الْوَادِيَ" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ وَادِي مُحَسِّرٍ سَائِرًا إلَى مِنًى. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَسْلُكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تَخْرُجُ إلَى الْعَقَبَةِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلًا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الَّتِي تَخْرُجُ إلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِسْرَاعَ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ سُنَّةٌ، وَقَدْ تَظَاهَرَتْ الْأَحَادِيثُ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ مَا يَقْتَضِي خِلَافَهَا، فَمِنْ الْأَحَادِيثِ الْمُثْبِتَةِ لِلْإِسْرَاعِ حَدِيثُ جَابِرٍ:
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "دَفَعَ مِنْ الْمَشْعَرِ حَتَّى أَتَى بَطْنَ مُحَسِّرٍ فَحَرَّكَ قَلِيلًا" رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبَيْهَقِيِّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْضَعَ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ".
وَعَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "أَفَاضَ مِنْ قُزَحَ حَتَّى انْتَهَى إلَى وَادِي مُحَسِّرٍ، فَقَرَعَ نَاقَتَهُ فَخَبَّتْ حَتَّى جَاوَزَ الْوَادِيَ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَعَنْ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ مِنْ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ حَتَّى إذَا بَلَغَ مُحَسِّرًا أَوْضَعَ شَيْئًا" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. وَعَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه "كَانَ يُوضِعُ، قَالَ وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ يُوضِعُ أَشَدَّ الْإِيضَاعِ أَخَذَهُ عَنْ عُمَرَ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: يَعْنِي الْإِيضَاعَ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ. وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يُحَرِّكُ رَاحِلَتَهُ فِي بَطْنِ مُحَسِّرٍ قَدْرَ رَمْيَةٍ بِحَجَرٍ" وَهَذَا صَحِيحٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ أَيْضًا عَنْ عَائِشَةَ ثُمَّ قَالَ: وَرَوَيْنَاهُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهم.
وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الْمُعَارِضَةُ فَمِنْهَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إنَّمَا كَانَ بَدْءُ الْإِيضَاعِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ كَانُوا

 

ج / 8 ص -100-       يَقِفُونَ حَافَتَيْ النَّاسِ قَدْ عَلَّقُوا الْقِعَابَ وَالْعِصِيَّ، فَإِذَا أَفَاضُوا يُقَعْقِعُونَ فَأَنْفَرَتْ بِالنَّاسِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّ ذِفْرَيْ1 نَاقَتِهِ لَيَمَسُّ2 حَارِكَهَا وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ"رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي "الْمُسْتَدْرَكِ" وَقَالَ هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ [الْبُخَارِيِّ3 وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ].
وَعَنْ أُسَامَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
"أَرْدَفَهُ حِينَ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ فَأَفَاضَ بِالسَّكِينَةِ وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، وَقَالَ: لَيْسَ الْبِرُّ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ فَمَا رَأَيْتُ نَاقَتَهُ رَافِعَةً يَدَهَا حَتَّى أَتَى مِنًى" رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَقَالَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، فَهَذَانِ الْحَدِيثَانِ ظَاهِرُهُمَا مُخَالَفَةُ مَا سَبَقَ، وَالْجَوَابُ عَنْهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا تَصْرِيحٌ بِتَرْكِ الْإِسْرَاعِ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ فَلَا يُعَارِضَانِ الصَّرِيحَ بِإِثْبَاتِ الْإِسْرَاعِ والثاني: أَنَّهُ لَوْ صُرِّحَ فِيهِمَا بِتَرْكِ الْإِسْرَاعِ كَانَتْ رِوَايَةُ الْإِسْرَاعِ أَوْلَى لِوَجْهَيْنِ.
أحدهما: أَنَّهَا إثْبَاتٌ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّفْيِ والثاني: أَنَّهَا أَكْثَرُ رُوَاةً وَأَصَحُّ أَسَانِيدَ وَأَشْهَرُ فَهِيَ أَوْلَى، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ
أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِمُزْدَلِفَةَ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ لِلْمُسَافِرِ، فَلَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ أَوْ فِي غَيْرِ الْمُزْدَلِفَةِ جَازَ. هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ وَدَاوُد وَبَعْضُ أَصْحَابِ مَالِكٍ: لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَهُمَا قَبْلَ الْمُزْدَلِفَةِ وَلَا قَبْلَ وَقْتِ الْعِشَاءِ، وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ جَمْعَهُمْ بِالنُّسُكِ أَمْ بِالسَّفَرِ؟ فَعِنْدَنَا بِالسَّفَرِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِالنُّسُكِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي الْأَذَانِ إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فِي الْمُزْدَلِفَةِ
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّهُ يُؤَذِّنُ لِلْأُولَى وَيُقِيمُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ، وَأَبُو ثَوْرٍ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ الْمَالِكِيُّ وَالطَّحَاوِيُّ الْحَنَفِيُّ وَقَالَ مَالِكٌ: يُصَلِّيهِمَا بِأَذَانَيْنِ وَإِقَامَتَيْنِ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ مَسْعُودٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَرُوِيَ هَذَا عَنْ عُمَرَ، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَابْنُهُ سَالِمٌ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَإِسْحَاقُ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَةٍ يُصَلِّيهِمَا بِإِقَامَتَيْنِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ فِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ عَنْهُ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يُصَلِّيهِمَا بِإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
دَلِيلُنَا حَدِيثُ جَابِرٍ: "
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَسَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ بِأَدِلَّتِهَا مُسْتَوْفَاةً فِي بَابِ الْأَذَانِ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواية "المستدرك" (وإن ذفرى ظفرى ناقته).
2 في "المستدرك" ليمس الأرض حاركها (ط).
3 ما بين المعقوفين ساقط من ش و ق (ط).

 

 

ج / 8 ص -101-       فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي الْمَبِيتِ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَشْهُورَ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِرُكْنٍ، فَلَوْ تَرَكَهُ صَحَّ. حَجُّهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَأَصْحَابُنَا: وَبِهَذَا قَالَ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَقَالَ خَمْسَةٌ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ: هُوَ رُكْنٌ لَا يَصِحُّ الْحَجُّ إلَّا بِهِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، هَذَا قَوْلُ عَلْقَمَةَ وَالْأَسْوَدِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَبِهِ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا ابْنُ بِنْتِ الشَّافِعِيِّ وَأَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ. وَاحْتُجَّ لَهُمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] وَبِالْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ فَاتَهُ الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ".
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ السَّابِقِ فِي فَضْلِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ، وَأَجَابُوا عَنْ الْآيَةِ بِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِيهَا إنَّمَا هُوَ الذِّكْرُ وَلَيْسَ هُوَ بِرُكْنٍ بِالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: أَنَّهُ لَيْسَ بِثَابِتٍ وَلَا مَعْرُوفٍ والثاني: أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَحُمِلَ عَلَى فَوَاتِ كَمَالِ الْحَجِّ لَا فَوَاتِ أَصْلِهِ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَنَا أَنْ يَبْقَى بِمُزْدَلِفَةَ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ إلَّا الضَّعَفَةَ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُمْ الدَّفْعُ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَإِنْ دَفَعَ غَيْرُ الضَّعَفَةِ قَبْلَ الْفَجْرِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ جَازَ وَلَا دَمَ. هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجُوزُ الدَّفْعُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَإِنْ دَفَعَ قَبْلَ الْفَجْرِ لَزِمَهُ دَمٌ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَيْهِ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ فِي دَفْعِ النِّسَاءِ وَالضَّعَفَةِ فَإِنْ قِيلَ: إنَّمَا أُرْخِصَ فِي الدَّفْعِ قَبْلَ الْفَجْرِ لِلضَّعَفَةِ قُلْنَا: لَوْ كَانَ حَرَامًا لَمَا اخْتَلَفَ بِالضَّعَفَةِ وَغَيْرِهِمْ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ عَلَى قُزَحَ وَلَا يَزَالُ وَاقِفًا بِهِ يَدْعُو وَيَذْكُرُ حَتَّى يُسْفِرَ الصُّبْحُ جِدًّا، وَبِهِ قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عُمَرَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ غَيْرِ مَالِكٍ، فَإِنَّهُ كَانَ يَرَى أَنْ يَدْفَعَ مِنْهُ قَبْلَ الْإِسْفَارِ. دَلِيلُنَا حَدِيثُ جَابِرٍ السَّابِقِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَهُوَ صَحِيحٌ.
فَرْعٌ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُ الْإِسْرَاعِ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ، وَذَكَرْنَا الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ فِيهِ، وَقَدْ نَقَلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: وَتَبِعَهُمْ عَلَيْهِ أَهْلُ الْعِلْمِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ خِلَافَ هَذَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ الْمَذْكُورُ فِي الْقُرْآنِ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالْوُقُوفِ عَلَيْهِ هُوَ قُزَحُ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ بِالْمُزْدَلِفَةِ هَذَا مَذْهَبُنَا. وَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ: الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ جَمِيعُ الْمُزْدَلِفَةِ، وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ لِأَصْحَابِنَا مَا ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ" فِي بَابِ مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِلَيْلٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ، فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ، فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ".
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ غَسْلُ حَصَى الْجِمَارِ، وَيُسْتَحَبُّ الْتِقَاطُهَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَكْسِرَهَا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَاخْتَارَ قَوْمٌ كَسْرَهَا وَاخْتَارَ قَوْمٌ أَنْ لَا تُغْسَلَ بَلْ كَرِهُوا غَسْلَهَا، قَالَ ابْنُ

 

ج / 8 ص -102-       الْمُنْذِرِ: لَا يُعْلَمُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَحَادِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم غَسَلَهَا وَأَمَرَ بِغَسْلِهَا، قَالَ: وَلَا مَعْنَى لِغَسْلِهَا، قَالَ: وَكَانَ عَطَاءٌ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا يَرَوْنَ غَسْلَهَا، قَالَ: وَرَوَيْنَا عَنْ طَاوُسٍ أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُهَا.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِذَا أَتَى مِنًى بَدَأَ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَهُوَ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَمَى وَقَالَ:
"خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَرْمِيَ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "بَعَثَ بِضَعَفَةِ أَهْلِهِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ" وَإِنْ رَمَى بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "أَرْسَلَ أُمَّ سَلَمَةَ رضي الله عنها يَوْمَ النَّحْرِ فَرَمَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَفَاضَتْ، وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي يَكُونُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا" وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْمِيَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَأَنْ يَكُونَ رَاكِبًا وَأَنْ يُكَبِّرَ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ لِمَا رَوَتْ أَمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْمِي الْجَمْرَةَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَهُوَ رَاكِبٌ وَهُوَ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ" وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبْطِهِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَعْوَنُ عَلَى الرَّمْيِ وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ لِمَا رَوَى الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةَ" وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ لِلْإِحْرَامِ، فَإِذَا رَمَى فَقَدْ شَرَعَ فِي التَّحَلُّلِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّلْبِيَةِ وَلَا يَجُوزُ الرَّمْيُ إلَّا بِالْحَجَرِ، فَإِنْ رَمَى بِغَيْرِهِ مِنْ مَدَرٍ أَوْ خَزَفٍ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَجَرِ.
وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْمِيَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ، وَهُوَ بِقَدْرِ الْبَاقِلَّا، لِمَا رَوَى الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَغَدَاةَ جَمْعٍ لِلنَّاسِ حِينَ دَفَعُوا: عَلَيْكُمْ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ" فَإِنْ رَمَى بِحَجَرٍ كَبِيرٍ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَجَرِ وَلَا يَرْمِي بِحَجَرٍ قَدْ رُمِيَ بِهِ، لِأَنَّ مَا قُبِلَ مِنْهَا يُرْفَعُ وَمَا لَا يُقْبَلُ مِنْهَا يُتْرَكُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَى أَبُو سَعِيدٍ قَالَ: "قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ هَذِهِ الْجِمَارَ تُرْمَى كُلَّ عَامٍ فَنَحْسَبُ أَنَّهَا تَنْقُصُ. قَالَ: أَمَا إنَّهُ مَا يُقْبَلُ مِنْهَا يُرْفَعُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَرَأَيْتَهَا مِثْلَ الْجِبَالِ" فَإِنْ رَمَى بِمَا رَمَى بِهِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَيَجِبُ أَنْ يَرْمِيَ فَإِنْ أَخَذَ الْحَصَاةَ وَتَرَكَهَا فِي الْمَرْمَى لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْمِ وَيَجِبُ أَنْ يَرْمِيَهَا وَاحِدَةً وَاحِدَةً، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَمَى وَاحِدَةً وَاحِدَةً وَقَالَ: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" وَيَجِبُ أَنْ يَقْصِدَ بِالرَّمْيِ إلَى الْمَرْمَى فَإِنْ رَمَى حَصَاةً فِي الْهَوَاءِ فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الرَّمْيَ إلَى الْمَرْمَى، وَإِنْ رَمَى حَصَاةً فَوَقَعَتْ عَلَى أُخْرَى وَوَقَعَتْ الثَّانِيَةُ فِي الْمَرْمَى لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ رَمْيَ الثَّانِيَةِ. وَإِنْ رَمَى حَصَاةً فَوَقَعَتْ عَلَى مَحْمَلٍ أَوْ أَرْضٍ فَازْدَلَفَتْ وَوَقَعَتْ عَلَى الْمَرْمَى أَجْزَأَهُ، لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي الْمَرْمَى بِفِعْلِهِ، وَإِنْ رَمَى فَوْقَ الْمَرْمَى فَتَدَحْرَجَ لِتَصْوِيبِ الْمَكَانِ الَّذِي أَصَابَهُ فَوَقَعَ فِي الْمَرْمَى فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي حُصُولِهِ فِي الْمَرْمَى فِعْلٌ غَيْرُهُ والثاني: لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي الْمَرْمَى بِفِعْلِهِ، وَإِنَّمَا أَعَانَ عَلَيْهِ تَصْوِيبُ الْمَكَانِ، فَصَارَ كَمَا لَوْ وَقَعَ فِي ثَوْبِ رَجُلٍ فَنَفَضَهُ حَتَّى وَقَعَ فِي الْمَرْمَى.
الشَّرْحُ:
أَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَصَحِيحٌ، رَوَاهُ بِلَفْظِهِ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

 

ج / 8 ص -103-       وأما: حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي إرْسَالِ أَمِّ سَلَمَةَ فَصَحِيحٌ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِلَفْظِهِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وأما: قَوْلُهُ: لِمَا رَوَتْ أَمُّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي" إلَى آخِرِهِ، فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدِهِمْ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْأَحْوَصِ عَنْ أُمِّهِ قَالَتْ: "رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَرْمِي الْجَمْرَةَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَهُوَ رَاكِبٌ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ" هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ وَجَمِيعُ أَصْحَابِ كُتُبِ الْحَدِيثِ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أُمِّهِ، وَيُقَالُ لَهَا أُمُّ جُنْدُبٍ الْأَزْدِيَّةُ، وَوَقَعَ فِي نُسَخِ "الْمُهَذَّبِ" أُمُّ سَلَمَةَ، وَفِي بَعْضِهَا أُمُّ سُلَيْمٍ وَكِلَاهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ وَتَصْحِيفٌ ظَاهِرٌ.
وَالصَّوَابُ: أُمُّ سُلَيْمَانَ - بِالنُّونِ - أَوْ أُمُّ جُنْدُبٍ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَقَدْ أَوْضَحْتُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فِي "تَهْذِيبِ الْأَسْمَاءِ" و"اللُّغَاتِ"1 وَإِسْنَادُ حَدِيثِهَا هَذَا ضَعِيفٌ، لِأَنَّ مَدَارَهُ عَلَى يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ، لَكِنْ يُغْنِي عَنْهُ حَدِيثُ جَابِرٍ: "
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى الْجَمْرَةَ يَعْنِي يَوْمَ النَّحْرِ، فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ، وَهِيَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي ثُمَّ انْصَرَفَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا: الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَنْ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وأما: الْحَدِيثُ الثَّانِي عَنْ الْفَضْلِ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلنَّاسِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ وَغَدَاةَ جَمْعٍ حِينَ دَفَعُوا "عَلَيْكُمْ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ" فَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: "عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ" وَفِي "الْمُهَذَّبِ": "بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ". وأما: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ فِي رَفْعِ الْجِمَارِ. فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِنْ رِوَايَةِ يَزِيدَ بْنِ سِنَانٍ الرَّهَاوِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ ظَاهِرُ الضَّعْفِ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرُوِيَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ ضَعِيفٍ أَيْضًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ مَوْقُوفًا وَإِنَّمَا هُوَ مَشْهُورٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ. وأما: حَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "رَمَى وَاحِدَةً وَاحِدَةً" فَصَحِيحٌ ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" فِي حَدِيثِ جَابِرٍ الَّذِي ذَكَرْتُهُ قَبْلَ حَدِيثِ الْفَضْلِ، وَقَوْلُهُ فِيهِ: "يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ" صَرِيحٌ بِأَنَّهُ رَمَى وَاحِدَةً وَاحِدَةً. وأما: حَدِيثُ: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" فَصَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ، وَقَدْ سَبَقَ إيضَاحُهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَوَّلُهَا فَضْلُ الطَّوَافِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا لُغَاتُ الْفَصْلِ وَأَلْفَاظُهُ: فَمِنْهَا مِنًى، وَسَبَقَ بَيَانُ ضَبْطِهَا وَاشْتِقَاقِهَا فِي فَصْلِ الْمُزْدَلِفَةِ، وَسَبَقَ هُنَاكَ ذِكْرُ حَدِّهَا قوله: بِضَعَفَةِ أَهْلِهِ هُوَ - بِفَتْحِ الضَّادِ وَالْعَيْنِ - جَمْعُ ضَعِيفٍ، وَالْمُرَادُ النِّسَاءُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قال النووي في "الأسماء واللغات" (قوله في"المهذب" في رمي جمرة العقبة لما روت أم سليم قالت: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة من بطن الوادي. هكذا وقع في النسخ أم سليم آخره ميم وهو خطأ بلا شك فيه وصوابه أم سليمان بعد الميم ألف ثم نون وهذا متفق عليه عند أهل الحديث والأسماء والتواريخ والأنساب، وحديثها هذا في "سنن أبي داود" وابن ماجه والبيهقي وغيرهم وجميع كتب الحديث يقولون: عن سليمان بن عمرو الأحوص عن أمه قالت:
رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة إلى آخره وهي أم حندب الأزدية صحابية معروفة. ا هـ.

 

ج / 8 ص -104-       وَالصِّبْيَانُ وَنَحْوُهُ قوله: يُرَى بَيَاضُ إبْطِهِ هُوَ - بِضَمِّ أَوَّلِ يُرَى وَالْإِبْطُ - سَاكِنَةُ الْبَاءِ وَيُؤَنَّثُ وَيُذَكَّرُ لُغَتَانِ وَالتَّذْكِيرُ أَفْصَحُ - وَفِي الْبَاقِلَّا لُغَتَانِ سَبَقَتَا الْمَدُّ وَالْقَصْرُ، وَالْمَحْمِلُ - بِفَتْحِ الْمِيمِ الْأُولَى وَكَسْرِ الثَّانِيَةِ وَقَوْلُهُ: التَّصْوِيتُ الْمَكَانُ أَيْ لِكَوْنِهِ فِي حُدُورٍ وَنُزُولٍ.
أما الأحكام: فَفِي الْفَصْلِ مَسَائِلُ:
إحْدَاهَا: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا خَرَجَ مِنْ وَادِي مُحَسِّرٍ يَسْلُكُ إلَى مِنًى الطَّرِيقَ الْوُسْطَى وَشِعَارُهُ الذِّكْرُ وَالتَّلْبِيَةُ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، فَإِذَا وَجَدَ فُرْجَةً أَسْرَعَ فَإِذَا وَصَلَ مِنًى بَدَأَ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَتُسَمَّى الْجَمْرَةُ الْكُبْرَى، وَلَا يُعَرِّجُ عَلَى شَيْءٍ قَبْلَهَا، وَهِيَ تَحِيَّةُ مِنًى، فَلَا يَبْدَأ قَبْلَهَا بِشَيْءٍ، بَلْ يَرْمِيهَا قَبْلَ نُزُولِهِ وَحَطِّ رَحْلِهِ وَهِيَ عَلَى يَمِينِ مُسْتَقْبِلِ الْكَعْبَةِ إذَا وَقَفَ فِي الْجَادَّةِ، وَالْمَرْمَى مُرْتَفَعٌ قَلِيلٌ فِي سَفْحِ الْجَبَلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَعْمَالَ الْمَشْرُوعَةَ لِلْحَاجِّ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ وُصُولِهِ مِنًى أَرْبَعَةٌ، وَهِيَ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، ثُمَّ ذَبْحُ الْهَدْيِ، ثُمَّ الْحَلْقُ، ثُمَّ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَتَرْتِيبُ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ هَكَذَا سُنَّةٌ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ، فَلَوْ طَافَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ أَوْ ذَبَحَ فِي وَقْتِ الذَّبْحِ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ جَازَ، وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، لَكِنْ فَاتَهُ الْأَفْضَلُ، وَلَوْ حَلَقَ قَبْلَ الرَّمْيِ وَالطَّوَافِ، فَإِنْ قُلْنَا: الرَّمْيُ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ لَزِمَهُ الْفِدْيَةُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ نُسُكٌ لَمْ يَلْزَمْهُ الدَّمُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ، حَكَاهُ الدَّارِمِيُّ وَالرَّافِعِيُّ، وَسَأُعِيدُ الْمَسْأَلَةَ وَاضِحَةً إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي فَصْلِ الْحَلْقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالسُّنَّةُ أَنْ يَرْمِيَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ قَدْرَ رُمْحٍ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، ثُمَّ يَذْبَحُ ثُمَّ يَحْلِقُ ثُمَّ يَذْهَبُ إلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، فَيَقَعُ الطَّوَافُ ضَحْوَةً، وَيَدْخُلُ وَقْتُ الرَّمْيِ وَالطَّوَافِ بِنِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ، بِشَرْطِ تَقَدُّمِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا يُجْزِئُ الرَّمْيُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ بِحَالٍ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَدْخُلُ أَيْضًا وَقْتُ الْحَلْقِ بِنِصْفِ اللَّيْلَةِ، إنْ قُلْنَا: نُسُكٌ وَلَا آخِرَ لِوَقْتِ الطَّوَافِ وَالْحَلْقِ بَلْ يَمْتَدُّ وَقْتُهُمَا مَا دَامَ حَيًّا، وَإِنْ مَضَى سُنُونَ مُتَطَاوِلَةٌ. وَكَذَلِكَ السَّعْيُ، فَفِي آخِرِ وَقْتِهِ وَجْهَانِ سَنَذْكُرُهُمَا قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَاجِبٌ بِلَا خِلَافٍ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَيْسَ هُوَ بِرُكْنٍ. فَلَوْ تَرَكَهُ حَتَّى فَاتَ وَقْتُهُ صَحَّ حَجُّهُ وَلَزِمَهُ الدَّمُ، وَأَمَّا وَقْتُ الرَّمْيِ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: السُّنَّةُ أَنْ يَصِلُوا مِنًى بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَيَرْمُوا بَعْدَ ارْتِفَاعِهَا قَدْرَ رُمْحٍ. فَإِنْ قَدَّمُوا الرَّمْيَ عَلَى هَذَا جَازَ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ نِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ وَبَعْدَ الْوُقُوفِ. وَلَوْ أَخَّرُوهُ عَنْهُ جَازَ. وَيَكُونُ أَدَاءً إلَى آخِرِ نَهَارِ يَوْمِ النَّحْرِ بِلَا خِلَافٍ. وَهَلْ يَمْتَدُّ إلَى طُلُوعُ فَجْرِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ، وَمِمَّنْ حَكَاهُمَا صَاحِبُ "التَّقْرِيبِ" وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَوَلَدُهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ أَصَحُّهُمَا: لَا يَمْتَدُّ والثاني: يَمْتَدُّ.
الثَّالِثَةُ: الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ فِي كَيْفِيَّةِ وُقُوفِهِ لِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ أَنْ يَقِفَ تَحْتَهَا فِي بَطْنِ الْوَادِي، فَيَجْعَلَ مَكَّةَ عَنْ يَسَارِهِ وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ وَيَسْتَقْبِلَ الْعَقَبَةَ ثُمَّ يَرْمِي وَبِهَذَا جَزَمَ الدَّارِمِيُّ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَنَّهُ

 

ج / 8 ص -105-       يَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْجَمْرَةِ مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ وَمَكَّةَ، وَبِهَذَا جَزَمَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ فِي "تَعْلِيقِهِ"، وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَصَاحِبُ "الْبَيَانِ" وَالرَّافِعِيُّ وَآخَرُونَ. وَفِيهِ وَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّهُ يَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ وَتَكُونُ الْجَمْرَةُ عَنْ يَمِينِهِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ "انْتَهَى إلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ وَرَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ "رَمَى عَبْدُ اللَّهِ فِي بَطْنِ الْوَادِي فَقُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ إنَّ نَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا فَقَالَ: وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ" وَفِي رِوَايَةٍ لِلْبُخَارِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ كَانَ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ حِين رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَاسْتَبْطَنَ الْوَادِي حَتَّى إذَا حَاذَى الشَّجَرَةَ اعْتَرَضَهَا فَرَمَاهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ثُمَّ قَالَ: مِنْ هَهُنَا - وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ - قَامَ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ" قُلْتُ إنَّمَا خَصَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ مُعْظَمَ الْمَنَاسِكِ فِيهَا. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الرَّابِعَةُ: السُّنَّةُ أَنْ يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ رَاكِبًا، إنْ كَانَ قَدِمَ مِنًى رَاكِبًا، لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ السَّابِقِ.
الْخَامِسَةُ: السُّنَّةُ أَنْ يُكَبِّرَ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ وَيَقْطَعَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَقَالَ الْقَفَّالُ: إذَا رَحَلُوا مِنْ مُزْدَلِفَةَ خَلَطُوا التَّلْبِيَةَ بِالتَّكْبِيرِ فِي مَسِيرِهِمْ، فَإِذَا افْتَتَحُوا الرَّمْيَ مَحَّضُوا التَّكْبِيرَ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: وَلَمْ أَرَ هَذَا لِغَيْرِ الْقَفَّالِ. قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: يُسْتَحَبُّ فِي هَذَا التَّكْبِيرِ مَعَ الرَّمْيِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَثِيرًا، وَسُبْحَانَ اللَّهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ غَرِيبٌ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ، وَإِنَّمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَكُتُبِ الْفِقْهِ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، وَهَذَا مُقْتَضَاهُ مُطْلَقُ التَّكْبِيرِ. وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ طَوِيلٌ لَا يَحْسُنُ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْحَصَيَاتِ بِهِ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ فَيَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ قَدَّمَ الْحَلْقَ وَالطَّوَافَ عَلَى الرَّمْيِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ بِشُرُوعِهِ فِي أَوَّلِ الطَّوَافِ، وَكَذَا فِي أَوَّلِ الْحَلْقِ إذَا بَدَأَ بِهِ، وَقُلْنَا: هُوَ نُسُكٌ، لِأَنَّهُمَا مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَكَذَا الْمُعْتَمِرُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ بِشُرُوعِهِ فِي الطَّوَافِ، لِأَنَّهُ مِنْ أَسْبَابِ تَحَلُّلِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
السَّادِسَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ فِي الرَّمْيِ حَتَّى يُرَى بَيَاضُ إبْطِهِ، وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ الرَّمْيُ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، فَلَوْ رَمَى بِالْيُسْرَى أَجْزَأَهُ لِحُصُولِ الرَّمْيِ، وَدَلِيلُ اسْتِحْبَابِ الْيُمْنَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَغَيْرِهَا فِي بَابِ صِفَةِ الْوُضُوءِ فِي اسْتِحْبَابِ التَّيَمُّنِ فِي الطَّهُورِ وَالتَّنَعُّلِ وَاللِّبَاسِ وَنَحْوِهَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
السَّابِعَةُ: شَرْطُ الْمَرْمِيِّ بِهِ أَنْ يَكُونَ حَجَرًا. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: فَيَجُوزُ الرَّمْيُ بِالْمَرْمَرِ

 

ج / 8 ص -106-       وَالْبِرَامِ وَالْكَذَّانِ1 وَالرُّخَامِ وَالصَّوَّانِ. نَصَّ عَلَيْهِ فِي "الْأُمِّ" وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْحَجَرِ. وَيُجْزِئُ حَجَرُ النُّورَةِ قَبْلَ أَنْ يُطْبَخَ وَيَصِيرُ نُورَةً. وَأَمَّا حَجَرُ الْحَدِيدِ فَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِإِجْزَائِهِ لِأَنَّهُ حَجَرٌ فِي الْحَالِ إلَّا أَنَّ فِيهِ حَدِيدًا كَامِنًا يُسْتَخْرَجُ بِالْعِلَاجِ. وَتَرَدَّدَ فِيهِ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ.
وَفِيمَا يُتَّخَذُ مِنْهُ الْفُصُوصُ كَالْفَيْرُوزَجِ وَالْيَاقُوتِ وَالْعَقِيقِ وَالزُّمُرُّدِ وَالزَّبَرْجَدِ وَالْبَلُّورِ وَنَحْوِهَا وَجْهَانِ أَصَحُّهُمَا: الْإِجْزَاءُ لِأَنَّهَا أَحْجَارٌ. وَبِهَذَا قَطَعَ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي وَالْبَغَوِيُّ. وَأَمَّا مَا لَيْسَ بِحَجَرٍ كَالْمَاءِ وَالنُّورَةِ وَالزِّرْنِيخِ وَالْإِثْمِدِ وَالْمَدَرِ وَالْجِصِّ وَالْآجُرِّ وَالْخَزَفِ وَالْجَوَاهِرِ الْمُنْطَبِعَةِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَنَحْوِهَا، فَلَا يُجْزِئُ الرَّمْيُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا بِلَا خِلَافٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّامِنَةُ: السُّنَّةُ أَنْ يَرْمِيَ بِحَصًى مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ. وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ. وَدَلِيلُهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَعَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "
رَمَى بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْف، وَأَمَرَ أَنْ يُرْمَى بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ" قَالَ أَصْحَابُنَا: وَحَصَاةُ الْخَذْفِ دُونَ الْأُصْبُعِ طُولًا وَعَرْضًا، وَفِي قَدْرِ حَبَّةِ الْبَاقِلَّا. وَقِيلَ كَقَدْرِ النَّوَاةِ. قَالَ صَاحِبُ "الشَّامِلِ": قَالَ الشَّافِعِيُّ: حَصَاةُ الْخَذْفِ أَصْغَرُ مِنْ الْأُنْمُلَةِ طُولًا وَعَرْضًا. قَالَ: مِنْهُمْ مَنْ قَالَ كَقَدْرِ النَّوَاةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ كَالْبَاقِلَّا، قَالَ صَاحِبُ "الشَّامِلِ": وَهَذِهِ الْمَقَادِيرُ مُتَقَارِبَةٌ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ رَمَى بِأَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْبَرَ كُرِهَ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ وَأَجْزَأَهُ بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ، لِوُجُودِ الرَّمْيِ بِحَجَرٍ. وَاسْتَدَلَّ الْأَصْحَابُ لِكَرَاهَةِ أَكْبَرَ مِنْ حَصَى الْخَذْفِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
قَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم غَدَاةَ الْعَقَبَةِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ "هَاتِ اُلْقُطْ لِي" فَلَقَطْت لَهُ حَصَيَاتٍ مِنْ حَصَى الْخَذْفِ، فَلَمَّا وَضَعْتهنَّ فِي يَدِهِ قَالَ: بِأَمْثَالِ هَؤُلَاءِ وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ، فَإِنَّمَا أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ.
فرع: فِي كَيْفِيَّةِ الرَّمْيِ وَجْهَانِ أحدهما: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ كَصِفَةِ رَمْيِ الْخَاذِفِ فَيَضَعُ الْحَصَاةَ عَلَى بَطْنِ إبْهَامِهِ وَيَرْمِيهَا بِرَأْسِ السَّبَّابَةِ، وَبِهَذَا الْوَجْهِ قَطَعَ الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ والثاني: وَهُوَ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَرْمِيهِ عَلَى غَيْرِ صِفَةِ الْخَذْفِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحِ" عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
"نَهَى عَنْ الْخَذْفِ وَقَالَ: إنَّهُ لَا يَقْتُلُ الصَّيْدَ وَلَا يَنْكَأُ الْعَدُوَّ، وَإِنَّهُ يَفْقَأُ الْعَيْنَ وَيَكْسِرُ السِّنَّ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَهَذَا الْحَدِيثُ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْخَذْفَ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ وَغَيْرِهِ. فَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَلَمْ يَصِحَّ فِيمَا قَالَهُ صَاحِبُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ شَيْءٌ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَبَّهَ عَلَى الْعِلَّةِ فِي كَرَاهَةِ الْخَذْفِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَفْقَأَ الْعَيْنَ أَوْ يَكْسِرَ السِّنَّ. وَهَذِهِ الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
التَّاسِعَةُ: يَجُوزُ الرَّمْيُ بِكُلِّ أَنْوَاعِ الْحَجَرِ، لَكِنْ يُكْرَهُ بِأَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ أحدها: الْحَجَرُ الْمَأْخُوذُ مِنْ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الكذان ككتان حجارة رخوة كالمدر، وأكذ القوم صاروا فيها (ط).

 

ج / 8 ص -107-       الْحُلِيِّ والثاني: الْمَأْخُوذُ مِنْ مَسْجِدٍ فِي الْحَرَمِ وَالثَّالِثُ: الْحَجَرُ النَّجِسُ الرَّابِعُ: الْحَجَرُ الَّذِي رَمَى بِهِ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ مَرَّةً أُخْرَى فَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الْأَرْبَعَةُ مَكْرُوهَةٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ، فَإِنْ رَمَى بِهَا أَجْزَأَهُ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ إلَّا وَجْهًا شَاذًّا ضَعِيفًا حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيِّينَ فِيمَا إذَا اتَّحَدَ الزَّمَانُ وَالْمَكَانُ وَالشَّخْصُ، فَإِذَا رَمَى بِحَصَاةٍ فِي جَمْرَةٍ ثُمَّ أَخَذَهَا فِي الْحَالِ، وَرَمَى بِهَا فِي تِلْكَ الْجَمْرَةِ لَا يُجْزِئُهُ.
وَوَافَقَ صَاحِبُ هَذَا الْوَجْهِ عَلَى أَنَّهُ لَوْ اخْتَلَفَ الزَّمَانُ بِأَنْ رَمَى بِالْحَصَاةِ الْوَاحِدَةِ فِي جَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ لَكِنْ فِي يَوْمَيْنِ، أَوْ اخْتَلَفَ الْمَكَانُ بِأَنْ رَمَى الشَّخْصُ الْوَاحِدُ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ بِالْحَصَاةِ الْوَاحِدَةِ لَكِنْ فِي جَمْرَتَيْنِ، أَوْ اخْتَلَفَ الشَّخْصُ بِأَنْ رَمَى بِالْحَصَاةِ فَأَخَذَهَا آخَرُ فَرَمَاهَا فِي الْحَالِ فِي تِلْكَ الْجَمْرَةِ أَجْزَأَهُ، وَالْمَذْهَبُ الْإِجْزَاءُ مُطْلَقًا. وَعَلَى أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَرْمِيَ جَمِيعُ الْحُجَّاجِ بِحَصَاةٍ وَاحِدَةٍ جَمِيعَ الرَّمْيِ الْمَشْرُوعِ لَهُمْ إنْ اتَّسَعَ لَهُمْ الْوَقْتُ، وَقَاسَهُ أَصْحَابُنَا عَلَى مَا لَوْ دَفَعَ مُدَّ طَعَامٍ فِي كَفَّارَةٍ إلَى فَقِيرٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثُمَّ دَفَعَهُ إلَى آخَرَ، ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ ثَالِثًا وَرَابِعًا وَأَكْثَرَ حَتَّى بَلَغَ قَدْرَ الْكَفَّارَةِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ بِلَا خِلَافٍ، لَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ شِرَاءُ مَا أَخْرَجَهُ فِي كَفَّارَةٍ أَوْ زَكَاةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، كَمَا يُكْرَهُ الرَّمْيُ بِمَا رَمَى بِهِ.
وَحَكَى الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَصَاحِبُ "الشَّامِلِ" وَغَيْرُهُمَا عَنْ الْمُزَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَ مَا رَمَى بِهِ هُوَ، وَيَجُوزُ بِمَا رَمَى بِهِ غَيْرُهُ وَغَلَّطُوهُ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: لِمَ جَوَّزْتُمْ الرَّمْيَ بِحَجَرٍ قَدْ رُمِيَ بِهِ؟ وَلَمْ تُجَوِّزُوا الْوُضُوءَ بِمَا تُوُضِّئَ بِهِ قُلْنَا: قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُ: الْفَرْقُ أَنَّ الْوُضُوءَ بِالْمَاءِ إتْلَافٌ لَهُ فَأَشْبَهَ الْعِتْقَ فَلَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ عَنْ الْكَفَّارَةِ بِخِلَافِ الرَّمْيِ، وَنَظِيرُ الْحَصَاةِ الثَّوْبُ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ صَلَوَاتٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْعَاشِرَةُ: يُشْتَرَطُ فِي الرَّمْيِ أَنْ يَفْعَلَهُ عَلَى وَجْهٍ يُسَمَّى رَمْيًا لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالرَّمْيِ، فَاشْتُرِطَ فِيهِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّمْيِ، فَلَوْ وَضَعَ الْحَجَرَ فِي الْمَرْمَى لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ شَاذٌّ ضَعِيفٌ أَنَّهُ يُعْتَدُّ بِهِ، حَكَاهُ الدَّارِمِيُّ وَصَاحِبُ "التَّقْرِيبِ" وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ، وَهُوَ قَرِيبُ الشَّبَهِ مِنْ الْخِلَافِ السَّابِقِ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، هَلْ يَكْفِي فِيهِ وَضْعُ الْيَدِ عَلَيْهِ بِلَا مَرٍّ؟ وَكَذَا فِي الْمَضْمَضَةِ لَوْ وَضَعَ الْمَاءَ فِي فِيهِ وَلَمْ يُدِرْهُ؟ وَالْأَصَحُّ الْإِجْزَاءُ فِي الرَّأْسِ وَالْمَضْمَضَةِ، وَالصَّحِيحُ هُنَا عَدَمُ الْإِجْزَاءِ، وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: أَنَّ مَبْنَى الْحَجِّ عَلَى التَّعَبُّدِ بِخِلَافِهِمَا والثاني: أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ وَضْعِ الْحَجَرِ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الرَّمْيِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْوُضُوءِ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُشْتَرَطُ قَصْدُ الْمَرْمَى، فَلَوْ رَمَى فِي الْهَوَاءِ فَوَقَعَ الْحَجَرُ فِي الْمَرْمَى لَمْ يُجْزِهِ بِلَا خِلَافٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُشْتَرَطُ بَقَاءُ الْحَجَرِ فِي الْمَرْمَى، فَلَوْ رَمَاهُ فَوَقَعَ فِي الْمَرْمَى ثُمَّ تَدَحْرَجَ مِنْهُ وَخَرَجَ عَنْهُ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ وُجِدَ الرَّمْيُ إلَى الْمَرْمَى وَحُصُولُهُ فِيهِ وَلَوْ انْصَدَمَتْ الْحَصَاةُ الْمَرْمِيَّةُ بِالْأَرْضِ خَارِجَ الْجَمْرَةِ أَوْ بِمَحْمِلٍ فِي الطَّرِيقِ أَوْ عُنُقِ بَعِيرٍ أَوْ ثَوْبِ إنْسَانٍ ثُمَّ ارْتَدَّتْ

 

ج / 8 ص -108-       فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى أَجْزَأَتْهُ بِلَا خِلَافٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ حُصُولِهَا فِي الْمَرْمَى بِفِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ مُعَاوَنَةٍ، فَلَوْ حَرَّكَ صَاحِبُ الْمَحْمِلِ مَحْمِلَهُ أَوْ صَاحِبُ الثَّوْبِ ثَوْبَهُ فَنَفَضَهَا، أَوْ تَحَرَّكَ الْبَعِيرُ فَدَفَعَهَا فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا بِلَا خِلَافٍ لِأَنَّهَا لَمْ تَحْصُلْ فِي الْمَرْمَى بِمُجَرَّدِ فِعْلِهِ. وَلَوْ تَحَرَّكَ الْبَعِيرُ فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى وَلَمْ يَدْفَعْهَا فَوَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْبَنْدَنِيجِيُّ أَصَحُّهُمَا: لَا يُجْزِئُهُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ.
وَلَوْ وَقَعَتْ عَلَى الْمَحْمِلِ أَوْ عَلَى عُنُقِ الْبَعِيرِ ثُمَّ تَدَحْرَجَتْ إلَى الْمَرْمَى فَوَجْهَانِ أصحهما: لَا يُجْزِئُهُ لِاحْتِمَالِ تَأَثُّرِهَا بِهِ، وَلَوْ وَقَعَتْ فِي غَيْرِ الْمَرْمَى مِنْ الْأَرْضِ الْمُرْتَفِعَةِ ثُمَّ تَدَحْرَجَتْ إلَى الْمَرْمَى أَوْ رَدَّتْهَا الرِّيحُ فَوَجْهَانِ أصحهما: يُجْزِئُهُ لِحُصُولِهِ فِي الْمَرْمَى لَا بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَمِمَّنْ صَحَّحَهُ الْمَحَامِلِيُّ فِي "الْمَجْمُوعِ" وَالْبَغَوِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمْ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يُشْتَرَطُ وُقُوفُ الرَّامِي خَارِجَ الْمَرْمَى بَلْ لَوْ وَقَفَ فِي طَرَفِهِ وَرَمَى إلَى طَرَفِهِ الْآخَرِ أَوْ وَسَطِهِ أَجْزَأَهُ لِوُجُودِ الرَّمْيِ فِي الْمَرْمَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ رَمَى حَصَاةً فَوَقَعَتْ عَلَى حَصَاةٍ خَارِجَ الْمَرْمَى فَوَقَعَتْ هَذِهِ الْحَصَاةُ فِي الْمَرْمَى وَلَمْ تَقَعْ الْمُرْمَى بِهَا لَمْ تُجْزِهِ بِلَا خِلَافٍ، لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ رَمَى حَصَاةً إلَى الْمَرْمَى وَشَكَّ هَلْ وَقَعَتْ فِيهِ أَمْ لَا؟ فَقَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ، حَكَاهُمَا الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالدَّارِمِيُّ وَأَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْمَحَامِلِيُّ وَابْنُ الصَّبَّاغِ وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَآخَرُونَ مِنْ الْعِرَاقِيِّينَ، وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ، قَالُوا كُلُّهُمْ: هُمَا جَدِيدٌ وَقَدِيمٌ الْجَدِيدُ: الصَّحِيحُ لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْوُقُوعِ فِيهِ، وَالْأَصْلَ أَيْضًا بَقَاءُ الرَّمْيِ عَلَيْهِ والقديم: يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ وُقُوعُهُ فِي الْمَرْمَى قَالَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ" وَالْمَحَامِلِيُّ فِي "الْمَجْمُوعِ" وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تَعْلِيقِهِ". قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا الْقَوْلُ الْمَنْقُولُ عَنْ "الْقَدِيمِ" لَيْسَ مَذْهَبًا لِلشَّافِعِيِّ، بَلْ حَكَاهُ عَنْ غَيْرِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: لَا يُجْزِئُهُ الرَّمْيُ عَنْ الْقَوْسِ وَلَا الدَّفْعُ بِالرِّجْلِ، لِأَنَّهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الرَّمْيِ. قَالَ الْبَنْدَنِيجِيُّ: وَلَوْ رَمَى حَصَاةً إلَى فَوْقَ فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى لَمْ يُجْزِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْجَمْرَةُ مُجْتَمَعُ الْحَصَى لَا مَا سَالَ مِنْ الْحَصَى، فَمَنْ أَصَابَ مُجْتَمَعَ الْحَصَى بِالرَّمْيِ أَجْزَأَهُ، وَمَنْ أَصَابَ سَائِلَ الْحَصَى الَّذِي لَيْسَ بِمُجْتَمَعِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَالْمُرَادُ مُجْتَمَعُ الْحَصَى فِي مَوْضِعِهِ الْمَعْرُوفِ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَوْ حُوِّلَ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ وَرَمَى النَّاسُ فِي غَيْرِهِ وَاجْتَمَعَ الْحَصَى فِيهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَلَوْ نُحِّيَ الْحَصَى مِنْ مَوْضِعِهِ الشَّرْعِيِّ وَرَمَى إلَى نَفْسِ الْأَرْضِ أَجْزَأَهُ لِأَنَّهُ رَمَى فِي مَوْضِعِ الرَّمْيِ، هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَهُوَ الصَّوَابُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ" إذَا رَمَى حَصَاةً فَوَقَعَتْ فِي مَسِيلِ الْمَاءِ فِيهِ قَوْلَانِ. قَالَ فِي "الْأُمِّ": لَا يُجْزِئُهُ،: لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَمَى إلَى الْمَرْمَى مَعَ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم
"خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُجْزِئُهُ لِأَنَّ مَسِيلَ الْمَاءِ مُتَّصِلٌ بِالْمَرْمَى لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَائِلٌ فَهُوَ كَجُزْءٍ مِنْهُ، هَذَا نَقْلُ الْقَاضِي وَهُوَ غَرِيبٌ ضَعِيفٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 8 ص -109-       الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَرْمِيَ الْحَصَيَاتِ فِي دَفَعَاتٍ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، فَلَوْ رَمَى حَصَاتَيْنِ أَوْ سَبْعًا دَفْعَةً فَإِنْ وَقَعْنَ فِي الْمَرْمَى فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ حُسِبَتْ حَصَاةً وَاحِدَةً بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ تَرَتَّبْنَ فِي الْوُقُوعِ فَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْمَحْسُوبَ حَصَاةٌ وَاحِدَةٌ أَيْضًا. وَهَذَا نَصُّ الشَّافِعِيِّ وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَجَمَاهِيرُ الْخُرَاسَانِيِّينَ، لِأَنَّهَا رَمْيَةٌ وَاحِدَةٌ. وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَمَنْ تَابَعَهُ وَجْهًا شَاذًّا ضَعِيفًا أَنَّهُ يُحْسَبُ بِعَدَدِ الْحَصَيَاتِ الْمُتَرَتِّبَاتِ فِي الْوُقُوعِ. قَالَ الْإِمَامُ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ. وَلَوْ رَمَى حَصَاتَيْنِ أَحَدُهُمَا بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَالْأُخْرَى بِالْيُسْرَى دَفْعَةً وَاحِدَةً لَمْ يُحْسَبْ إلَّا وَاحِدَةٌ بِالِاتِّفَاقِ، ذَكَرَهُ الدَّارِمِيُّ. وَلَوْ رَمَى حَصَاةً ثُمَّ أَتْبَعَهَا أُخْرَى فَإِنْ وَقَعَتْ الْأُولَى فِي الْمَرْمَى قَبْلَ الثَّانِيَةِ فَهُمَا حَصَاتَانِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ وَقَعَتَا مَعًا أَوْ الثَّانِيَةُ قَبْلَ الْأُولَى فَوَجْهَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا الدَّارِمِيُّ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ وَالْفُورَانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْبَغَوِيُّ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمْ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ أَصَحَّهُمَا أَنَّهُ يُحْسَبُ حَصَاتَانِ اعْتِبَارًا بِالرَّمْيِ والثاني: حَصَاةٌ اعْتِبَارًا بِالْوُقُوعِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: الصَّوَابُ أَنَّهُمَا حَصَاتَانِ وَمَا سِوَاهُ خَبْطٌ. قَالَ الدَّارِمِيُّ: الْقَائِلُ حَصَاتَانِ أَبُو حَامِدٍ يَعْنِي الْمَرْوَزِيَّ، وَالْقَائِلُ حَصَاةٌ1، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: الْمُوَالَاةُ بَيْنَ الْحَصَيَاتِ وَالْمُوَالَاةُ بَيْنَ جَمَرَاتِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ هَلْ يُشْتَرَطُ فِيهَا الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي الطَّوَافِ؟ الصَّحِيحُ لَا يُشْتَرَطُ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ والثاني: يُشْتَرَطُ، هَذَا إذَا فَرَّقَ طَوِيلًا. فَأَمَّا التَّفْرِيقُ الْيَسِيرُ فَلَا يَضُرُّ بِلَا خِلَافٍ، وَمِمَّنْ ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ الْمُتَوَلِّي وَالرَّافِعِيُّ
فَرْعٌ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا رَمَى سَبْعَ حَصَيَاتٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً حُسِبَتْ حَصَاةً وَاحِدَةً وَلَوْ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَى إنْسَانٍ فَجُلِدَ بِمِائَةٍ مَشْدُودَةٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً حُسِبَتْ مِائَةً قَالَ أَصْحَابُنَا: الْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: أَنَّ الْحُدُودَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّخْفِيفِ والثاني: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا الْإِيقَاعُ وَقَدْ حَصَلَ. وَأَمَّا الرَّمْيُ فَتَعَبُّدٌ فَاتُّبِعَ فِيهِ التَّوْقِيفُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ وَاجِبٌ لَيْسَ بِرُكْنٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد قَالَ الْعَبْدَرِيُّ: وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْمَاجِشُونِ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ "هُوَ رُكْنٌ" دَلِيلُنَا الْقِيَاسُ عَلَى رَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
فرع: مَذْهَبُنَا جَوَازُ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ بَعْدَ نِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَالْأَفْضَلُ فِعْلُهُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ الشَّمْسِ، وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَأَحْمَدُ وَهُوَ مَذْهَبُ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ وَابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ وَعِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَإِسْحَاقُ: لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَاحْتَجَّ لَهُمْ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقِ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَرْمُوا إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ" وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِحَدِيثِ أَمِّ سَلَمَةَ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ فِي مَسْأَلَةِ تَعْجِيلِ دَفْعِ الضَّعَفَةِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ إلَى مِنًى وأما: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَحْمُولٌ عَلَى الْأَفْضَلِ جَمْعًا بَيْنَ الْأَحَادِيثِ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَجْزَأَهُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل ولعل السقط (الشافعي في القدم).

 

ج / 8 ص -110-       فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِي وَقْتِ قَطْعِ التَّلْبِيَةِ يَوْمَ النَّحْرِ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَقْطَعُهَا عِنْدَ أَوَّلِ شُرُوعِهِ فِي رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَطَائِفَةٌ: يُلَبِّي حَتَّى يَفْرَغَ مِنْ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَأَشَارَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إلَى اخْتِيَارِهِ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَقْطَعُهَا قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، وَحَكَاهُ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ، وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: يَقْطَعُهَا عَقِبَ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ عَرَفَةَ، دَلِيلُنَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَخْذُ حَصَاةِ الْجِمَارِ مِنْ مُزْدَلِفَةَ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٍ وَإِسْحَاقَ قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يَأْخُذُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَهُمْ أَنَّهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذَ أَجْزَأَهُ، لَكِنْ أُحِبُّ لَقْطَهُ وَأَكْرَهُ كَسْرَهُ. لِأَنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي1.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا اسْتِحْبَابُ كَوْنِ الْحَصَى قَدْرَ حَصَى الْخَذْفِ، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، مِنْهُمْ ابْنُ عُمَرَ وَجَابِرٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَطَاوُسٌ وَعَطَاءٌ وَسَعِيدُ بْنِ جُبَيْرٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَالِكٍ (أَعْجَبُ2 مِنْ ذَلِكَ أَكْبَرُ إلَيَّ) لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سَنَّ الرَّمْيَ بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ فَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى.
فرع: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَا يَرْمِي يَوْمَ النَّحْرِ إلَّا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ.
فرع: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ رَاكِبًا، إنْ كَانَ دَخَلَ مِنًى رَاكِبًا، وَيَرْمِي فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ مَاشِيًا إلَّا يَوْمَ النَّفْرِ فَرَاكِبًا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَسَالِمٌ يَرْمُونَ مُشَاةً، وَاسْتَحَبَّهُ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَكَرِهَ جَابِرٌ الرُّكُوبَ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْجِمَارِ إلَّا لِضَرُورَةٍ، قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الرَّمْيَ يُجْزِئُهُ عَلَى أَيِّ حَالٍ رَمَاهُ إذَا وَقَعَ فِي الْمَرْمَى، دَلِيلُنَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ السَّابِقَةُ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ رَاكِبًا" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا الصَّحِيحَ أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي مَوْقِفِ الرَّامِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ أَنْ يَقِفَ فِي بَطْنِ الْوَادِي، وَتَكُونُ مِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَمَكَّةُ عَنْ يَسَارِهِ، وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ ابْنُ مَسْعُودٍ وَجَابِرٌ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَسَالِمٌ وَعَطَاءٌ وَنَافِعٌ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَرَوَيْنَا أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه خَافَ الزِّحَامَ فَرَمَاهَا مِنْ فَوْقِهَا.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَوْ رَمَى بِمَا رَمَى بِهِ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَدَاوُد، قَالَ الْمُزَنِيّ: يَجُوزُ بِمَا رَمَى بِهِ غَيْرُهُ وَلَا يَجُوزُ بِمَا رَمَى هُوَ بِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَكَرِهَ ذَلِكَ عَطَاءٌ وَالْأَسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، قَالَ: وَرَخَّصَ فِيهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل: ولعل السقط لأنه قد يؤدي إلى احتسابها واحدة، والله أعلم؟ المطيعي.
2 كذا بالأصل ولعل فيها قلباً صوابه (وأكبر من ذلك أعجب إلي)؟ المطيعي.

 

ج / 8 ص -111-       الشَّعْبِيُّ، وَقَالَ إِسْحَاقُ يُجْزِئُهُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: يُكْرَهُ وَيُجْزِئُهُ، قَالَ: إذْ لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَوْجَبَ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إعَادَةً.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَوْ رَمَى سَبْعَ حَصَيَاتٍ رَمْيَةً وَاحِدَةً حُسِبَ لَهُ حَصَاةٌ وَاحِدَةٌ فَقَطْ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ وَقَعْنَ فِي الْمَرْمَى مُتَعَاقِبَاتٍ أَجْزَأَهُ وَإِلَّا فَلَا، وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ وَيُكَبِّرُ لِكُلِّ حَصَاةٍ تَكْبِيرَةً، قَالَ الْحَسَنُ: إنْ كَانَ جَاهِلًا أَجْزَأَهُ
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ يَجُوزُ الرَّمْيُ بِكُلِّ مَا يُسَمَّى حَجَرًا، وَلَا يَجُوزُ بِمَا لَا يُسَمَّى حَجَرًا، كَالرَّصَاصِ وَالْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالزِّرْنِيخِ وَالْكُحْلِ وَنَحْوِهَا، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ بِكُلِّ مَا كَانَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ كَالْكُحْلِ وَالزِّرْنِيخِ وَالْمَدَرِ وَلَا يَجُوزُ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا، وَاحْتَجَّ بِالْأَحَادِيثِ الْمُطْلَقَةِ فِي الرَّمْيِ، دَلِيلُنَا حَدِيثُ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فِي غَدَاةِ جَمْعٍ يَعْنِي يَوْمَ النَّحْرِ عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ الْجَمْرَةُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ فَأَمَرَ صلى الله عليه وسلم بِالْحَصَى، فَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ، وَالْأَحَادِيثُ الْمُطْلَقَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الرَّمْيِ يَذْبَحُ1 هَدْيَهُ إنْ كَانَ مَعَهُ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ:
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَمَى سَبْعَ حَصَيَاتٍ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى الْمَنْحَرِ فَنَحَرَ" وَيَجُوزُ النَّحْرُ فِي جَمِيعِ مِنًى، لِمَا رَوَى جَابِرٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ".
الشرح: حَدِيثَا جَابِرٍ رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ، قَالَ أَصْحَابُنَا فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الرَّمْيِ انْصَرَفَ فَنَزَلَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ مِنًى، وَحَيْثُ نَزَلَ مِنْهَا جَازَ، لَكِنَّ أَفْضَلَهَا مَنْزِلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا قَارَبَهُ، وَذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ أَنَّ مَنْزِلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى عَنْ يَسَارِ مُصَلَّى الْإِمَامِ، فَإِذَا نَزَلَ ذَبَحَ وَنَحَرَ الْهَدْيَ إنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ سَوْقَ الْهَدْيِ لِمَنْ قَصَدَ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَقَدْ أَعْرَضَ النَّاسُ أَوْ أَكْثَرُهُمْ عَنْهَا فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ هَدْيُهُ مَعَهُ مِنْ الْمِيقَاتِ مُشْعِرًا مُقَلِّدًا، وَلَا يَجِبُ الْهَدْيُ إلَّا بِالنَّذْرِ، وَالْأَفْضَلُ سَوْقُ الْهَدْيِ مِنْ بَلَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَمِنْ طَرِيقِهِ، وَإِلَّا فَمِنْ الْمِيقَاتِ أَوْ مَا بَعْدَهُ، وَإِلَّا فَمِنْ مِنًى.
وَيُسْتَحَبُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَوَلَّى ذَبْحَ هَدْيِهِ وَأُضْحِيَّتَهُ بِنَفْسِهِ، وَيَنْوِيَ عِنْدَ ذَبْحِهَا، فَإِنْ كَانَ مَنْذُورًا نَوَى الذَّبْحَ عَنْ هَدْيِهِ أَوْ أُضْحِيَّتِهِ الْمَنْذُورَةِ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا نَوَى التَّقَرُّبَ بِهِ، وَلَوْ اسْتَنَابَ فِي ذَبْحِهِ جَازَ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَخُصَّ عِنْدَ الذَّبْحِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ النَّائِبُ ذَكَرًا مُسْلِمًا، فَإِنْ اسْتَنَابَ امْرَأَةً أَوْ كِتَابِيًّا جَازَ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْعِبَادَةِ. وَالْمَرْأَةُ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ أَوْلَى مِنْ الْكِتَابِيِّ. وَيَنْوِي صَاحِبُ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ عِنْدَ الدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ أَوْ عِنْدَ ذَبْحِهِ. فَإِنْ فَوَّضَ النِّيَّةَ إلَى الْوَكِيلِ جَازَ إنْ كَانَ مُسْلِمًا. فَإِنْ كَانَ كَافِرًا لَمْ يَصِحَّ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ النِّيَّةِ فِي الْعِبَادَاتِ. بَلْ يَنْوِي صَاحِبُهَا عِنْدَ دَفْعِهَا إلَيْهِ أَوْ عِنْدَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في بعض النسخ (ذبح هديا) (ط).

 

ج / 8 ص -112-       ذَبْحِهِ. وَأَمَّا صِفَةُ الذَّبْحِ وَآدَابِهِ وَتَقْلِيدُ الْهَدْيِ وَإِشْعَارُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ فَسَنُوَضِّحُهَا فِي بَابِ الْهَدْيِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَمَّا وَقْتُ ذَبْحِ الْهَدْيِ فَفِيهِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْعِرَاقِيُّونَ وَجَمَاعَاتٌ مِنْ غَيْرِهِمْ أَنَّهُ كَوَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ يَخْتَصُّ بِيَوْمِ الْعِيدِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَيَدْخُلُ بَعْدَ طُلُوعِ شَمْسِ يَوْمِ النَّحْرِ وَمُضِيِّ قَدْرِ صَلَاةِ الْعِيدِ وَالْخُطْبَتَيْنِ وَيَخْرُجُ بِخُرُوجِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَإِنْ خَرَجَتْ وَلَمْ يَذْبَحْهُ فَإِنْ كَانَ نَذْرًا لَزِمَهُ ذَبْحُهُ وَيَكُونُ قَضَاءً، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا فَقَدْ فَاتَ الْهَدْيُ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَإِنْ ذَبَحَهُ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ كَانَ شَاةَ لَحْمٍ لَا هَدْيًا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ أَنَّهُ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ بَلْ يَجُوزُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَفِيهِ وَبَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، كَدِمَاءِ الْجُبْرَانَاتِ، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ.
وَاتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّ ذَبْحَ الْهَدْيِ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ، وَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهِ، وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْ الْحَرَمِ، وَلَا يَخْتَصُّ بِمِنًى قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: الْحَرَمُ كُلُّهُ مَنْحَرٌ حَيْثُ نَحَرَ مِنْهُ أَجْزَأَهُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، لَكِنَّ السُّنَّةَ فِي الْحَجِّ أَنْ يَنْحَرَ بِمِنًى لِأَنَّهَا مَوْضِعُ تَحَلُّلِهِ، وَفِي الْعُمْرَةِ بِمَكَّةَ وَأَفْضَلُهَا عِنْدَ الْمَرْوَةِ لِأَنَّهَا مَوْضِعُ تَحَلُّلِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: "يَجُوزُ النَّحْرُ فِي جَمِيعِ مِنًى، فَعِبَارَةٌ نَاقِصَةٌ لِأَنَّهُ يُوهِمُ الِاخْتِصَاصَ بِمِنًى دُونَ سَائِرِ الْحَرَمِ، وَهَذَا الْإِيهَامُ غَلَطٌ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: يَجُوزُ فِي كُلِّ الْحَرَمِ وَأَفْضَلُهُ مِنًى. وَأَفْضَلُهَا مَوْضِعُ نَحْرِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَا قَارَبَهُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ يَحْلِقُ لِمَا رَوَى أَنَسٌ قَالَ:
"لَمَّا رَمَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجَمْرَةَ وَفَرَغَ مِنْ نُسُكِهِ نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ ثُمَّ أَعْطَاهُ شِقَّهُ الْأَيْسَرَ فَحَلَقَهُ" فَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ وَقَصَّرَ جَازَ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَحْلِقُوا أَوْ يُقَصِّرُوا" وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ. قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: وَالْمُقَصِّرِينَ" وَأَقَلُّ مَا يُحْلَقُ ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ. لِأَنَّهُ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ فَأَشْبَهَ الْجَمْعَ. وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَحْلِقَ الْجَمِيعَ لِحَدِيثِ أَنَسٍ. وَإِنْ كَانَ أَصْلَعَ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُمِرَّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ. لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ "قَالَ فِي الْأَصْلَعِ: يُمِرُّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ" وَلَا يَجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَحَلٍّ فَسَقَطَتْ بِفَوَاتِهِ كَغَسْلِ الْيَدِ إذَا قُطِعَتْ
وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً قَصَّرَتْ وَلَمْ تَحْلِقْ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ إنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ تَقْصِيرٌ" وَلِأَنَّ الْحَلْقَ فِي النِّسَاءِ مُثْلَةٌ فَلَمْ يُفْعَلْ وَهَلْ الْحِلَاقُ نُسُكٌ أَوْ اسْتَبَاحَهُ مَحْظُورٍ فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: أَنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ فِي الْإِحْرَامِ فَلَمْ يَكُنْ نُسُكًا كَالطِّيبِ. والثاني: أَنَّهُ نُسُكٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ: "لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ" فَإِنْ حَلَقَ قَبْلَ الذَّبْحِ جَازَ؛ لِمَا رَوَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: "وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى

 

ج / 8 ص -113-       فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولُ اللَّهِ لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ رَأْسِي قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ فَقَالَ: اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ. فَجَاءَهُ آخَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَالَ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ. فَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ إلَّا قَالَ: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ" فَإِنْ حَلَقَ قَبْلَ الرَّمْيِ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ جَازَ؛ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: "سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلٍ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ فَكَانَ يَقُولُ: لَا حَرَجَ، لَا حَرَجَ" وإن قلنا: إنَّهُ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَحْظُورٌ فَلَمْ يَجُزْ قَبْلَ الرَّمْيِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ كَالطِّيبِ.
الشرح:
أَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ رضي الله عنه فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مِنْ طُرُقٍ مِنْهَا: عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "لَمَّا رَمَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْجَمْرَةَ وَنَحَرَ نُسُكَهُ وَحَلَقَ نَاوَلَ الْحَالِقَ شِقَّهُ الْأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ. ثُمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَةَ الْأَنْصَارِيَّ فَأَعْطَاهُ إيَّاهُ ثُمَّ نَاوَلَهُ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ فَقَالَ: احْلِقْ، فَحَلَقَهُ فَأَعْطَى أَبَا طَلْحَةَ فَقَالَ اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ" هَذَا لَفْظُ إحْدَى رِوَايَاتِ مُسْلِمٍ وَالْبَاقِي بِمَعْنَاهَا وَقَوْلُهُ فِي الرِّوَايَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ: "وَفَرَغَ مِنْ نُسُكِهِ"- يَعْنِي مِنْ ذَبْحِ هَدْيِهِ - كَمَا قَالَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: "وَنَحَرَ نُسُكَهُ".
وَأَمَّا حَدِيثُ جَابِرٍ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ، وَلَفْظُهُمَا عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ:
"حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا فَقَالَ لَهُمْ أَحِلُّوا مِنْ إحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَصِّرُوا" هَذَا لَفْظُهُمَا. وَقَدْ رَوَى التَّقْصِيرَ جَمَاعَاتٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" منها: عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "حَلَقَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَحَلَقَ طَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَعَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: "قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِشْقَصٍ عَلَى الْمَرْوَةِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: "قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي عُمْرَتِهِ عَلَى الْمَرْوَةِ بِمِشْقَصٍ".
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ" إلَى آخِرِهِ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَمَّا الْأَثَرُ عَنْ ابْنِ عُمَرَ فِي إمْرَارِ الْمُوسَى فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ فِيهِ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ الْجَادِيُّ بِالْجِيمِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ - وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ حَلْقٌ إنَّمَا عَلَى النِّسَاءِ التَّقْصِيرُ" فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ وَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي بَعْدَهُ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ بِنَحْوِ مَعْنَاهُ وَهَذَا لَفْظُهُمَا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ فِي الذَّبْحِ وَالْحَلْقِ وَالرَّمْيِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَقَالَ: لَا حَرَجَ" وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: "أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَهُمْ يَسْأَلُوهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، فَقَالَ اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ، فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، فَقَالَ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ. فَمَا سُئِلَ يَوْمئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلَا أُخِّرَ إلَّا قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَتَاهُ رَجُلٌ يَوْمَ النَّحْرِ وَهُوَ وَاقِفٌ عِنْدَ الْجَمْرَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ. فَقَالَ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ. وَأَتَاهُ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: إنِّي ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ. قَالَ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ. قَالَ فَمَا رَأَيْتُهُ سُئِلَ يَوْمئِذٍ عَنْ شَيْءٍ إلَّا قَالَ: افْعَلُوا وَلَا حَرَجَ" هَذَا لَفْظُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ لِمُسْلِمٍ. وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِيمَا اسْتَدَلَّ لَهُ

 

ج / 8 ص -114-       الْمُصَنِّفُ. وَفِيهَا التَّصْرِيحُ بِجَوَازِ تَقْدِيمِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ عَلَى الرَّمْيِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْفَصْلِ: فَقَوْلُهُ: "وَفَرَغَ مِنْ نُسُكِهِ" أَيْ مِنْ ذَبْحِ هَدْيِهِ. وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَقَوْلُهُ "نَاوَلَ الْحَالِقَ" هَذَا الَّذِي حَلَقَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَ "زَعَمُوا أَنَّهُ مَعْمَرُ بْنُ عَبْدِ الله" وَذَكَرَ ابْنُ الْأَثِيرِ فِي "مُخْتَصَرِ الْأَنْسَابِ" فِي تَرْجَمَةِ الْكُلَيْبِيِّ - بِضَمِّ الْكَافِ - خِرَاشُ بْنُ أُمَيَّةَ الْكُلَيْبِيُّ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: "يُمِرُّ الْمُوسَى" قَالَ أَهْلُ اللُّغَةُ: الْمُوسَى يُذَّكَرُ وَيُؤَنَّثُ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ فُعْلَى، وَقَالَ غَيْرُهُ: مُفْعَلُ مِنْ أَوْسَيْتُ رَأْسَهُ أَيْ حَلَقْتُهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ يَقُولَانِ: هِيَ فُعْلَى مُؤَنَّثَةٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ يَقُولُ مُفْعَلُ مُذَكَّرٌ. قَالَ أَبُو عَبْدُ اللَّهِ لَمْ نَسْمَعْ تَذْكِيرَهُ إلَّا مِنْ الْأُمَوِيِّ قَوْلُهُ: "لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِمَحَلٍّ فَسَقَطَتْ بِفَوَاتِهِ" احْتِرَازٌ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا قُرْبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِزَمَانٍ لَا بِمَحَلٍّ وَلَا تَسْقُطُ بِالْفَوَاتِ. وَقَوْلُهُ: "الْحِلَاقُ" هُوَ بِكَسْرِ الْحَاءِ بِمَعْنَى الْحَلْقِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أما الأحكام: فَفِيهَا مَسَائِلُ:
إحداها: إذَا فَرَغَ الْحَاجُّ مِنْ الرَّمْيِ وَالذَّبْحِ فَلْيَحْلِقْ رَأْسَهُ وَلْيُقَصِّرْ، وَالْحَلْقُ وَالتَّقْصِيرُ ثَابِتَانِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُجْزِئُ بِالْإِجْمَاعِ. وَالْحَلْقُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ أَفْضَلُ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ فِي قوله تعالى:
{مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] وَالْعَرَبُ تَبْدَأُ بِالْأَهَمِّ وَالْأَفْضَلِ، وَلِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ الْمَذْكُورِ: "اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ قَالَ فِي الرَّابِعَةِ: وَالْمُقَصِّرِينَ" وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "حَلَقَ فِي حَجَّتِه" وَالْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَحْلِقَ جَمِيعَ الرَّأْسِ إنْ أَرَادَ الْحَلْقَ أَوْ يُقَصِّرَ مِنْ جَمِيعِهِ إنْ أَرَادَ التَّقْصِيرَ؛ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ حَلْقًا أَوْ تَقْصِيرًا مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ فَتُجْزِئُ الثَّلَاثُ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا وَلَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْهَا، هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ. وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَمَنْ تَابَعَهُ وَجْهًا أَنَّهُ تُجْزِئُ شَعْرَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ غَلَطٌ، قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: قَدْ ذَكَرْنَا وَجْهًا بَعِيدًا فِي الشَّعْرَةِ الْوَاحِدَةِ أَنَّهُ إذَا أَزَالَهَا الْمُحْرِمُ فِي غَيْرِ وَقْتِهَا لَزِمَهُ فِدْيَةٌ كَامِلَةٌ كَحَلْقِ الرَّأْسِ، قَالَ: وَذَلِكَ الْوَجْهُ عَائِدٌ هُنَا فَتُجْزِئُ الشَّعْرَةُ وَلَكِنَّهُ مُزَيَّفٌ غَيْرُ مَعْدُودٍ مِنْ الْمَذْهَبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَيْسَ لِأَقَلِّ الْمُجْزِئِ مِنْ التَّقْصِيرِ حَدٌّ، بَلْ يُجْزِئُ مِنْهُ أَقَلُّ جُزْءٍ مِنْهُ لِأَنَّهُ يُسَمَّى تَقْصِيرًا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَنْقُصَ عَلَى قَدْرِ أُنْمُلَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّانِيَةُ: إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى رَأْسِهِ شَعْرٌ بِأَنْ كَانَ أَصْلَعَ أَوْ مَحْلُوقًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ فِدْيَةٌ وَلَا إمْرَارُ الْمُوسَى وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَلَوْ نَبَتَ شَعْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ حَلْقٌ وَلَا تَقْصِيرٌ بِلَا خِلَافٍ، لِأَنَّهُ حَالَةَ التَّكْلِيفِ لَمْ يَلْزَمْهُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ لَا شَعْرَ عَلَى رَأْسِهِ إمْرَارُ الْمُوسَى عَلَيْهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَوْ أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ أَوْ مِنْ شَعْرِ لِحْيَتِهِ شَيْئًا كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ؛ لِيَكُونَ قَدْ وَضَعَ مِنْ شَعْرِهِ شَيْئًا لِلَّهِ تَعَالَى. هَكَذَا ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ هَذَا النَّصَّ وَنَقَلَهُ الْأَصْحَابُ وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ. وَحَكَاهُ إمَامُ

 

ج / 8 ص -115-       الْحَرَمَيْنِ عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ ثُمَّ قَالَ: وَلَسْتُ أَرَى ذَلِكَ وَجْهًا إلَّا أَنْ يَكُونَ أَسْنَدَهُ إلَى أَثَرٍ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الشُّعُورِ الَّتِي يُؤْمَرُ بِإِزَالَتِهَا لِلْفِطْرَةِ كَالشَّارِبِ وَالْإِبْطِ وَالْعَانَةِ لِئَلَّا يَخْلُوَ نُسُكُهُ عَنْ حَلْقٍ. وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِالْإِسْنَادِ الصَّحِيحِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّهُ كَانَ إذَا حَلَقَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَخَذَ مِنْ لِحْيَتِهِ وَشَارِبِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ شَعْرٌ وَبِرَأْسِهِ عِلَّةٌ لَا يُمْكِنُهُ بِسَبَبِهَا التَّعَرُّضُ لِلشَّعْرِ لَزِمَهُ الصَّبْرُ إلَى الْإِمْكَانِ. وَلَا يَفْتَدِي وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَلْقُ بِلَا خِلَافٍ بِخِلَافِ مَنْ لَا شَعْرَ عَلَى رَأْسِهِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَرُ بِحَلْقِهِ بَعْدَ نَبَاتِهِ بِلَا خِلَافٍ كَمَا سَبَقَ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ: وَالْفَرْقُ أَنَّ النُّسُكَ هُوَ حَلْقُ شَعْرٍ يَشْتَمِلُ الْإِحْرَامُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
هَذَا كُلُّهُ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى رَأْسِهِ شَعْرٌ أَصْلًا. فَأَمَّا مَنْ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ أَوْ شَعْرَتَانِ أَوْ شَعْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَلْزَمُهُ إزَالَتُهَا بِلَا خِلَافٍ. صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ "الْبَيَانِ" وَغَيْرُهُ: "لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ" وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ زَغَبٌ يَسِيرٌ لَزِمَهُ أَنْ يُزِيلَ مِنْهُ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ. صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْبَيَانِ وَآخَرُونَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّالِثَةُ: اتَّفَقَتْ نُصُوصُ الشَّافِعِيِّ وَالْأَصْحَابِ عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ هُنَا لَا يَحْصُلُ إلَّا بِشَعْرِ الرَّأْسِ. فَلَا يَحْصُلُ بِشَعْرِ اللِّحْيَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ شُعُورِ الْبَدَنِ. وَلَا بِشَعْرِ الْعِذَارِ وَفِي الشَّعْرِ النَّابِتِ فِي مَوْضِعِ التَّحْذِيفِ وَشَعْرِ الصُّدْغِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي بَابِ صِفَةِ الْوُضُوءِ. هَلْ مِنْ الْوَجْهِ أَوْ مِنْ الرَّأْسِ؟ إنْ قُلْنَا: مِنْ الرَّأْسِ أَجْزَأَهُ حَلْقُهُ وَإِلَّا فَلَا. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَإِذَا قَصَّرَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فَأَكْثَرَ جَازَ تَقْصِيرُهُ مِمَّا يُحَاذِي الرَّأْسَ. وَمِمَّا نَزَلَ عَنْهُ، وَمِمَّا اسْتَرْسَلَ عَنْهُ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ.
وَحَكَى الدَّارِمِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَصَاحِبُ "الشَّامِلِ" وَالْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ وَجْهًا شَاذًّا أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْمُسْتَرْسِلُ كَمَا لَا يُجْزِئُ الْمَسْحُ عَلَى الْمُسْتَرْسِلِ عَنْ حَدِّهِ. قَالُوا: وَهَذَا الْوَجْهُ غَلَطٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمَسْحِ مَسْحُ الرَّأْسِ وَهَذَا خَارِجٌ عَنْهُ فَلَا يُجْزِئُ وَالْوَاجِبُ فِي الْحَلْقِ حَلْقُ شَعْرِ الرَّأْسِ أَوْ تَقْصِيرُهُ، وَهَذَا مِنْ شَعْرِ الرَّأْسِ.
الرَّابِعَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: الْمُرَادُ بِالْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ إزَالَةُ الشَّعْرِ فَيَقُومُ مَقَامَهُ النَّتْفُ وَالْإِحْرَاقُ وَالْأَخْذُ بِالنُّورَةِ أَوْ بِالْمِقَصِّ وَالْقَطْعُ بِالْأَسْنَانِ وَغَيْرِهَا. وَيَحْصُلُ الْحَلْقُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ بِلَا خِلَافٍ. وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله.
الْخَامِسَةُ: الْأَفْضَلُ أَنْ يَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ الْجَمِيعَ دَفْعَةً وَاحِدَةً. فَلَوْ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ أَجْزَأَهُ وَفَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: لَوْ حَلَقَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فِي دَفَعَاتٍ فَهُوَ مَقِيسٌ بِحَلْقِهَا الْمَحْظُورِ فَإِنْ كَمَّلْنَا الْفِدْيَةَ مَعَ التَّفْرِيقِ حَكَمْنَا بِكَمَالِ النُّسُكِ وَإِلَّا فَلَا. قَالَ: وَلَوْ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ عَادَ وَأَخَذَ مِنْهَا ثُمَّ عَادَ ثَالِثَةً وَأَخَذَ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ الزَّمَانُ مُتَوَاصِلًا لَمْ يُكْمِلْ الْفِدْيَةَ وَلَمْ يَحْصُلْ النُّسُكُ، وَإِنْ طَالَ الزَّمَانُ فَفِي الْمَسْأَلَتَيْنِ خِلَافٌ. هَذَا كَلَامُ إمَامِ

 

ج / 8 ص -116-       الْحَرَمَيْنِ وَاخْتَصَرَ الرَّافِعِيُّ فَقَالَ: لَوْ أَخَذَ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ فِي دَفَعَاتٍ أَوْ أَخَذَ مِنْ شَعْرَةٍ وَاحِدَةٍ فِي ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ. فَإِنْ كَمَّلْنَا الْفِدْيَةَ بِهِ لَوْ كَانَ مَحْظُورًا حَصَلَ النُّسُكُ، وَإِلَّا فَلَا.
السَّادِسَةُ: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ بِحَلْقِ شِقِّ رَأْسِهِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ ثُمَّ الْأَيْسَرِ. وَأَنْ يَسْتَقْبِلَ الْمَحْلُوقُ الْقِبْلَةَ. وَأَنْ يَدْفِنَ شَعْرَهُ وَيَبْلُغَ بِالْحَلْقِ إلَى الْعَظْمَاتِ اللَّذَيْنِ عِنْدَ مُنْتَهَى الصُّدْغَيْنِ وَهَذِهِ الْآدَابُ لَيْسَتْ مُخْتَصَّةً بِالْمُحْرِمِ. بَلْ كُلُّ حَالِقٍ يُسْتَحَبُّ لَهُ هَذَا، وَدَلِيلُ الشِّقِّ الْأَيْمَنِ حَدِيثُ أَنَسٍ الْمَذْكُورُ فِي كِتَابٍ1، قَالَ صَاحِبُ "الْحَاوِي": فِي الْحَلْقِ أَرْبَعُ سُنَنٍ: أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ، وَأَنْ يَبْدَأَ بِشِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَأَنْ يُكَبِّرَ عِنْدَ فَرَاغِهِ، وَأَنْ يَدْفِنَ شَعْرَهُ. قَالَ: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيَبْلُغُ بِالْحَلْقِ إلَى الْعَظْمَاتِ لِأَنَّهُمَا مُنْتَهَى نَبَاتِ شَعْرِ الرَّأْسِ، لِيَكُونَ مُسْتَوْعِبًا لِجَمِيعِ رَأْسِهِ، هَذَا كَلَامُهُ وَهُوَ حَسَنٌ إلَّا التَّكْبِيرَ عِنْدَ فَرَاغِهِ فَإِنَّهُ غَرِيبٌ. وَقَدْ اسْتَحَبَّ التَّكْبِيرَ أَيْضًا لِلْمَحْلُوقِ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ "الْبَحْرِ" عَنْ أَصْحَابِنَا.
السَّابِعَةُ: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَا تُؤْمَرُ الْمَرْأَةُ بِالْحَلْقِ بَلْ وَظِيفَتُهَا التَّقْصِيرُ مِنْ شَعْرِ رَأْسِهَا. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ وَالدَّارِمِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُمْ: يُكْرَهُ لَهَا الْحَلْقُ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْقَاضِي حُسَيْنٌ فِي "تَعْلِيقِهِمَا": لَا يَجُوزُ لَهَا الْحَلْقُ وَلَعَلَّهُمَا أَرَادَا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَقَدْ يُسْتَدَلُّ لِلْكَرَاهَةِ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رضي الله عنه:
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى أَنْ تَحْلِقَ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ فِيهِ اضْطِرَابٌ، وَلَا دَلَالَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ لِضَعْفِهِ لَكِنْ يُسْتَدَلُّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَبِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ السَّابِقِ مَرَّاتٍ فِي نَهْيِ النِّسَاءِ مِنْ التَّشَبُّهِ بِالرِّجَالِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُقَصِّرَ قَدْرَ أُنْمُلَةٍ مِنْ جَمِيعِ جَوَانِبِ رَأْسِهَا، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَلَا تَقْطَعُ مِنْ ذَوَائِبِهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشِينُهَا، لَكِنْ تَرْفَعُ الذَّوَائِبَ وَتَأْخُذُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي تَحْتَهُ، قَالَ أَصْحَابُنَا: فَلَوْ حَلَقَتْ أَجْزَأَهَا قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَتَكُونُ مُسِيئَةً، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفُتُوحِ فِي كِتَابِ الْخَنَاثَى وَظِيفَةُ الْخُنْثَى التَّقْصِيرُ دُونَ الْحَلْقِ، قَالَ: وَالتَّقْصِيرُ أَفْضَلُ كَالْمَرْأَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّامِنَةُ: هَلْ الْحَلْقُ نُسُكٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أصحهما: بِاتِّفَاقِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ نُسُكٌ يُثَابُ عَلَيْهِ، وَيَتَعَلَّقُ بِهِ التَّحَلُّلُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ والثاني: أَنَّهُ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ، وَلَيْسَ بِنُسُكٍ وَإِنَّمَا هُوَ شَيْءٌ أُبِيحَ لَهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ حَرَامًا كَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، وَعَلَى هَذَا لَا ثَوَابَ فِيهِ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالتَّحَلُّلِ، قَالُوا: وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ: "اللَّهُمَّ ارْحَمْ الْمُحَلِّقِينَ"إنَّمَا دَعَا لَهُمْ لِتَنَظُّفِهِمْ وَإِزَالَتِهِمْ التَّفَثَ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ نُسُكٌ يُثَابُ عَلَيْهِ وَيَتَحَلَّلُ بِهِ التَّحَلُّلَ الْأَوَّلَ فَعَلَى هَذَا هُوَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ " لَا يَصِحُّ الْحَجُّ وَلَا الْعُمْرَةُ إلَّا بِهِ، وَلَا يُجْبَرُ بِدَمٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا يَفُوتُ وَقْتُهُ مَا دَامَ حَيًّا، لَكِنَّ أَفْضَلَ أَوْقَاتِهِ ضَحْوَةُ النَّهَارِ يَوْمَ الْأَضْحَى، وَلَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ، لَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَفْعَلَهُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل ولعله المذكور في أول الكتاب أو بالأحرى في أول هذا الفصل أو هذا الباب المطيعي.

 

ج / 8 ص -117-       الْحَاجُّ بِمِنًى وَالْمُعْتَمِرُ بِالْمَرْوَةِ، فَلَوْ فَعَلَهُ فِي بَلَدٍ آخَرَ إمَّا وَطَنُهُ وَإِمَّا غَيْرُهُ جَازَ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَزَالُ حُكْمُ الْإِحْرَامِ جَارِيًا عَلَيْهِ حَتَّى يَحْلِقَ، وَكُلُّ هَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عَلَى قَوْلِنَا: الْحَلْقُ نُسُكٌ، إلَّا أَنَّ الْمُصَنِّفُ جَعَلَ الْحَلْقَ وَاجِبًا عَلَى قَوْلِنَا إنَّهُ نُسُكٌ وَلَمْ يَجْعَلْهُ رُكْنًا، هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ، وَكَذَا ذَكَرَهُ فِي "التَّنْبِيهِ"، وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ الصَّوَابُ أَنَّهُ رُكْنٌ عَلَى قَوْلِنَا إنَّهُ نُسُكٌ.
قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: إذَا حَكَمْنَا بِأَنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ فَهُوَ رُكْنٌ، وَلَيْسَ كَالرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ، ثُمَّ قَالَ: فَاعْلَمْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا تَقُومُ الْفِدْيَةُ مَقَامَهُ أَنَّهُ لَوْ فُرِضَ فِي الرَّأْسِ عِلَّةٌ تَمْنَعُ مِنْ الْحَلْقِ وَجَبَ الصَّبْرُ إلَى إمْكَانِ الْحَلْقِ وَلَا تَقُومُ الْفِدْيَةُ مَقَامَهُ، هَذَا كَلَامُ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: هَذَا الَّذِي سَبَقَ مِنْ أَحْكَامِ الْحَلْقِ هُوَ كُلُّهُ فِيمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ حَلْقَهُ، أَمَّا مَنْ نَذَرَ الْحَلْقَ فِي وَقْتِهِ فَيَلْزَمُهُ حَلْقُهُ كُلُّهُ، وَلَا يُجْزِئُهُ التَّقْصِيرُ وَلَا حَلْقُ بَعْضِ الرَّأْسِ وَلَا النَّتْفُ وَالْإِحْرَاقُ، وَلَا اسْتِئْصَالٌ بِالْمِقَصَّيْنِ، وَلَا أَخْذُهُ بِالنُّورَةِ، لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يُسَمَّى حَلْقًا.
وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِي اسْتِئْصَالِ الشَّعْرِ بِالْمِقَصَّيْنِ وَإِمْرَارِ الْمُوسَى مِنْ غَيْرِ اسْتِئْصَالٍ احْتِمَالًا، وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ، لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى حَلْقًا. قَالَ الْإِمَامُ: وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِمْعَانُ فِي الِاسْتِئْصَالِ بَلْ يَكْفِي مَا يُسَمَّى حَلْقًا قَالَ: وَيَقْرُبُ الرُّجُوعُ إلَى اعْتِبَارِ رُؤْيَةِ الشَّعْرِ، هَذَا كُلُّهُ فِيمَا إذَا صَرَّحَ بِنَذْرِ الْحَلْقِ، فَلَوْ لَبَّدَ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ فَهَذَا فِي الْعَادَةِ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَنْ أَرَادَ حَلْقَهُ يَوْمَ النَّحْرِ لِلنُّسُكِ. فَهَلْ يُنَزَّلُ هَذَا مَنْزِلَةَ نَذْرِ الْحَلْقِ فِيهِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ، ذَكَرَهُمَا الْمَاوَرْدِيُّ وَالْفُورَانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْأَصْحَابِ هُنَا. وَذَكَرَهُمَا الْأَصْحَابُ فِي كِتَابِ النَّذْرِ أصحهما: بِاتِّفَاقِهِمْ وَهُوَ الْجَدِيدُ لَا يَلْزَمُهُ حَلْقُهُ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ وَلَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى التَّقْصِيرُ والقديم: أَنَّهُ يَلْزَمهُ الْحَلْقُ كَمَا لَوْ نَذَرَهُ. وَنَظِيرُ الْمَسْأَلَةِ مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ هَلْ يَصِيرُ مَنْذُورًا؟ فِيهِ قَوْلَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ فِي كِتَابِ النَّذْرِ أصحهما: بِاتِّفَاقِهِمْ وَهُوَ الْجَدِيدُ لَا يَصِيرُ والثاني: يَصِيرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْحَلْقِ عَلَى مَنْ نَذَرَهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. سَوَاءٌ قُلْنَا الْحَلْقُ نُسُكٌ أَوْ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ. هَكَذَا قَطَعَ بِهِ الْجُمْهُورُ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا أَنَّا إذَا قُلْنَا لَيْسَ هُوَ بِنُسُكٍ لَا يُلْزَمُ بِالنَّذْرِ. لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
التَّاسِعَةُ: قَدْ سَبَقَ أَنَّ الْأَفْعَالَ الْمَشْرُوعَةَ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ وُصُولِهِ مِنًى أَرْبَعَةٌ وَهِيَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ ثُمَّ الذَّبْحُ ثُمَّ الْحَلْقُ ثُمَّ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ. وَالسُّنَّةُ تَرْتِيبُهَا هَكَذَا. فَإِنْ خَالَفَ تَرْتِيبَهَا نَظَرَ إنْ قَدَّمَ الطَّوَافَ عَلَى الْجَمِيعِ، أَوْ قَدَّمَ الذَّبْحَ عَلَى الْجَمِيعِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهِ، أَوْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى الذَّبْحِ، جَازَ بِلَا خِلَافٍ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَقَالَ لَا حَرَجَ" وَإِنْ طَافَ ثُمَّ حَلَقَ ثُمَّ رَمَى جَازَ بِلَا خِلَافٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَإِنْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى الرَّمْيِ وَالطَّوَافِ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ جَازَ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ. كَمَا لَوْ قَدَّمَ الطَّوَافَ وإن قلنا: لَيْسَ بِنُسُكٍ لَمْ يَجُزْ وَيَلْزَمُهُ بِهِ الدَّمُ، كَمَا لَوْ حَلَقَ قَبْلَ نِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَجَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ. وَحَكَى

 

ج / 8 ص -118-       الدَّارِمِيُّ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَجْهًا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَإِنْ قُلْنَا هُوَ نُسُكٌ، وَهَذَا شَاذٌّ بَاطِلٌ وَحَكَى صَاحِبُ "الْحَاوِي" وَالدَّارِمِيُّ عَلَى قَوْلِنَا: أَنَّ الْحَلْقَ اسْتِبَاحَةُ مَحْظُورٍ وَجْهَيْنِ أحدهما: قَالَ وَهُوَ قَوْلُ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَيْهِ الدَّمُ لِمَا ذَكَرْنَا والثاني: وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِنَا الْبَصْرِيِّينَ: لَا دَمَ عَلَيْهِ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ السَّابِقِ عَنْ "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "سُئِلَ عَمَّنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ فَقَالَ لَا حَرَجَ" فَحَصَلَ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ فِيمَنْ حَلَقَ قَبْلَ الرَّمْيِ وَالطَّوَافِ أحدها: لَا دَمَ والثاني: يَجِبُ وَأَصَحُّهَا: وَهُوَ الْمَذْهَبُ الْمَشْهُورُ إنْ قُلْنَا الْحَلْق لَيْسَ بِنُسُكِ وَجَبَ الدَّم وَإِلَّا فَلَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيَدْخُلُ وَقْتُ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ بِنِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ بِشَرْطِ تَقَدُّمِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، وَالْحَلْقُ إنْ قُلْنَا نُسُكٌ فَكَالرَّمْيِ وَالطَّوَافِ، وَإِلَّا فَلَا يَدْخُلُ وَقْتُهُ إلَّا بِفِعْلِ الرَّمْيِ أَوْ الطَّوَافِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: وَقْتُ الْحَلْقِ فِي حَقِّ الْمُعْتَمِرِ إذَا فَرَغَ مِنْ السَّعْيِ، فَلَوْ جَامَعَ بَعْدَ السَّعْيِ وَقَبْلَ الْحَلْقِ، فَإِنْ قُلْنَا الْحَلْقُ نُسُكٌ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ لِوُقُوعِ جِمَاعِهِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ وإن قلنا: لَيْسَ بِنُسُكٍ لَمْ تَفْسُدْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي الْحَلْقِ، هَلْ هُوَ نُسُكٌ؟ ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّهُ نُسُكٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ الْمُنْذِرِ وَالْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِنُسُكٍ - أَحَدٌ غَيْرَ الشَّافِعِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَلَكِنْ حَكَاهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي ثَوْرٍ وَأَبِي يُوسُفَ أَيْضًا.
فَرْعٌ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ مِنْ التَّقْصِيرِ، وَأَنَّ التَّقْصِيرَ يُجْزِئُ إلَّا مَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: يَلْزَمُهُ الْحَلْقُ فِي أَوَّلِ حَجَّةٍ وَلَا يُجْزِئُهُ التَّقْصِيرُ. وَهَذَا إنْ صَحَّ عَنْهُ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ بِالنُّصُوصِ وَإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ.
فرع: لَوْ أَخَّرَ الْحَلْقَ إلَى بَعْدِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ حَلَقَ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ. سَوَاءٌ طَالَ زَمَنُهُ أَمْ لَا. وَسَوَاءٌ رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ أَمْ لَا. هَذَا مَذْهَبُنَا وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَأَحْمَدُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إذَا خَرَجَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ لَزِمَهُ الْحَلْقُ وَدَمٌ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَإِسْحَاقُ وَمُحَمَّدٌ: عَلَيْهِ الْحَلْقُ وَدَمٌ، دَلِيلُنَا: الْأَصْلُ لَا دَمَ.
فرع: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: أَجْمَعُوا أَنْ لَا حَلْقَ عَلَى النِّسَاءِ، إنَّمَا عَلَيْهِنَّ التَّقْصِيرُ قَالُوا: وَيُكْرَهُ لَهُنَّ الْحَلْقُ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ فِي حَقِّهِنَّ، وَفِيهِ مُثْلَةٌ. وَاخْتَلَفُوا فِي قَدْرِ مَا تُقَصِّرُهُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ: تُقَصِّرُ مِنْ كُلِّ قَرْنٍ مِثْلَ الْأُنْمُلَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تُقَصِّرُ الثُّلُثَ أَوْ الرُّبُعَ، وَقَالَتْ حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ: إنْ كَانَتْ عَجُوزًا مِنْ الْقَوَاعِدِ أَخَذَتْ نَحْوَ الرُّبُعِ، وَإِنْ كَانَتْ شَابَّةً فَلْتُقَلِّلْ. وَقَالَ مَالِكٌ: تَأْخُذُ مِنْ جَمِيعِ قُرُونِهَا أَقَلَّ جُزْءٍ، وَلَا يَجُوزُ مِنْ بَعْضِ الْقُرُونِ. دَلِيلُنَا فِي إجْزَاءِ ثَلَاثِ شَعَرَاتٍ أَنَّهُنَّ مَأْمُورَاتٌ بِالتَّقْصِيرِ، وَهَذَا يُسَمَّى تَقْصِيرًا.
فرع: مَنْ لَا شَعْرَ عَلَى رَأْسِهِ لَا حَلْقَ عَلَيْهِ وَلَا فِدْيَةَ، وَيُسْتَحَبُّ إمْرَارُ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ وَلَا يَجِبُ، وَنَقَلَ ابْنُ الْمُنْذِرِ إجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَعَ يُمِرُّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ.

 

ج / 8 ص -119-       وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنْ أَبِي بَكْرِ1 بْنِ أَبِي دَاوُد أَنَّهُ قَالَ: لَا يُسْتَحَبُّ إمْرَارُهُ، وَهُوَ مَحْجُوجٌ بِإِجْمَاعِ مَنْ قَبْلَهُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هَذَا الْإِمْرَارُ وَاجِبٌ، وَوَافَقَنَا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ. وَاحْتُجَّ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِحَدِيثٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُحْرِمُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى رَأْسِهِ شَعْرٌ يُمِرُّ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ" قَالُوا وَلِأَنَّهُ حُكْمٌ تَعَلَّقَ بِالرَّأْسِ، فَإِذَا فُقِدَ الشَّعْرُ انْتَقَلَ الْوُجُوبُ إلَى نَفْسِ الرَّأْسِ كَالْمَسْحِ فِي الْوُضُوءِ، وَلِأَنَّهَا عِبَادَةٌ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِإِفْسَادِهَا فَوَجَبَ التَّشْبِيهُ فِي أَفْعَالِهَا، كَالصَّوْمِ فِيمَا إذَا قَامَتْ بَيِّنَةٌ فِي أَثْنَاءِ يَوْمِ الشَّكِّ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِأَنَّهُ فَرْضٌ تَعَلَّقَ بِجُزْءٍ مِنْ الْآدَمِيِّ فَسَقَطَ بِفَوَاتِ الْجُزْءِ، كَغَسْلِ الْيَدِ فِي الْوُضُوءِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ بِقَطْعِهَا. فَإِنْ قِيلَ الْفَرْضُ هُنَاكَ مُتَعَلِّقٌ بِالْيَدِ، وَقَدْ سَقَطَتْ، وَهُنَا مُتَعَلِّقٌ بِالرَّأْسِ وَهُوَ بَاقٍ قُلْنَا: بَلْ الْفَرْضُ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّعْرِ فَقَطْ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ عَلَى بَعْضِ رَأْسِهِ شَعْرٌ دُونَ بَعْضٍ لَزِمَهُ الْحَلْقُ فِي الشَّعْرِ وَلَا يَكْفِيهِ الِاقْتِصَارُ عَلَى إمْرَارِ الْمُوسَى عَلَى مَا لَا شَعْرَ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَعَلَّقَ الْفَرْضُ عَلَيْهِ لَأَجْزَأَهُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ ظَاهِرُ الضَّعْفِ، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيْرُهُ: لَا يَصِحُّ رَفْعُهُ إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا هُوَ مَرْوِيٌّ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عُمَرَ قلت: وَهُوَ مَوْقُوفٌ ضَعِيفٌ أَيْضًا كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ، وَلَوْ صَحَّ لَحُمِلَ عَلَى النَّدْبِ، وَالْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْمَسْحِ فِي الْوُضُوءِ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: أَنَّ الْفَرْضَ هُنَاكَ تَعَلَّقَ بِالرَّأْسِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] وَهُنَا تَعَلَّقَ بِالشَّعْرِ بِدَلِيلِ مَا قَدَّمْنَاهُ قَرِيبًا. والثاني: أَنَّهُ إذَا مَسَحَ بِشَعْرِ الرَّأْسِ سُمِّيَ مَاسِحًا فَلَزِمَهُ، وَإِذَا أَمَرَّ الْمُوسَى لَا يُسَمَّى حَالِقًا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الصَّوْمِ فَهُوَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِمْسَاكِ جَمِيعِ النَّهَارِ فَبَقِيَّتُهُ بَعْضُ مَا تَنَاوَلَهُ الْأَمْرُ، وَهُنَا إنَّمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِإِزَالَةِ الشَّعْرِ، وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْهُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فَرْعٌ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ عِنْدَنَا ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ: يَجِبُ أَكْثَرُ الرَّأْسِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجِبُ رُبْعُهُ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: نِصْفُهُ، احْتَجُّوا بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم
"لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ كَمَا سَبَقَ مَرَّاتٍ. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى حَالِقًا بِدُونِ أَكْثَرِهِ.
وَاحْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ} [الفتح: 27] وَالْمُرَادُ شُعُورَ رُءُوسِكُمْ، وَالشَّعْرُ أَقَلُّهُ ثَلَاثُ شَعَرَاتٍ، وَلِأَنَّهُ يُسَمَّى حَالِقًا، يُقَال حَلَقَ رَأْسَهُ وَرُبْعَهُ وَثَلَاثَ شَعَرَاتٍ مِنْهُ فَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا يُسَمَّى حَلْقَ شَعْرٍ، وَأَمَّا حَلْقُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم جَمِيعَ رَأْسِهِ فَقَدْ أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لِلِاسْتِحْبَابِ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِيعَابُ. وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: لَا يُسَمَّى حَلْقًا بِدُونِ أَكْثَرِهِ فَبَاطِلٌ، لِأَنَّهُ إنْكَارٌ لِلْحِسِّ وَاللُّغَةِ وَالْعُرْفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أثبتنا الألف على ما ذهب إليه النووي رحمه الله من أن ابن إذا وقعت بين كنيتين يلزم ثبوت الألف كما لو وقعت أيضا بين ذكر وأنثى كإسماعيل ابن علية وعبد الله ابن بحينه وعيسى ابن مريم ومحمد ابن الحنيفة.

 

ج / 8 ص -120-       فرع: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي الْحَلْقِ أَنْ يَبْدَأَ بِالشِّقِّ الْأَيْمَنِ مِنْ رَأْسِ الْمَحْلُوقِ وَإِنْ كَانَ عَلَى يَسَارِ الْحَالِقِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَبْدَأُ بِالشِّقِّ الْأَيْسَرِ لِيَكُونَ عَلَى يَمِينِ الْحَالِقِ، وَهَذَا مُنَابِذٌ لِحَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَبَيَّنَّاهُ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَوْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى الذَّبْحِ جَازَ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى الرَّمْيِ فَالْأَصَحُّ أَيْضًا أَنَّهُ يَجُوزُ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا قَدَّمَ الْحَلْقَ عَلَى الذَّبْحِ لَزِمَهُ دَمٌ إنْ كَانَ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُفْرِدِ، وَقَالَ مَالِكٌ إذَا قَدَّمَهُ عَلَى الذَّبْحِ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ، وَإِنْ قَدَّمَهُ عَلَى الرَّمْيِ لَزِمَهُ الدَّمُ.
وَقَالَ أَحْمَدُ: إنْ قَدَّمَهُ عَلَى الذَّبْحِ أَوْ الرَّمْيِ جَاهِلًا أَوْ نَاسِيًا فَلَا دَمَ، وَإِنْ تَعَمَّدَ فَفِي وُجُوبِ الدَّمِ رِوَايَتَانِ عَنْهُ، وَعَنْ مَالِكٍ رِوَايَتَانِ فِيمَنْ قَدَّمَ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ عَلَى الرَّمْيِ إحْدَاهُمَا: يُجْزِئُهُ الطَّوَافُ، وَعَلَيْهِ دَمٌ وَالثَّانِيَةُ: لَا يُجْزِئُهُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَقَتَادَةُ وَرِوَايَةٌ ضَعِيفَةٌ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَلَيْهِ الدَّمُ مَتَى قَدَّمَ شَيْئًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ، دَلِيلُنَا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ السَّابِقَةُ "لَا حَرَجَ" وَلَمْ يُفَرِّقْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ عَالِمٍ وَجَاهِلٍ "فَإِنْ قَالُوا" الْمُرَادُ لَا إثْمَ لِكَوْنِهِ نَاسِيًا قُلْنَا: ظَاهِرُهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَوْ نَحَرَ قَبْلَ الرَّمْيِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ وَلَمْ يَنْذُرَ حَلْقَهُ لَا يَلْزَمُهُ حَلْقُهُ، بَلْ يُجْزِئُهُ التَّقْصِيرُ كَمَا لَوْ لَمْ يُلَبِّدْ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ. وَأَوْجَبَ الْحَلْقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُهُ وَالثَّوْرِيُّ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَنَقَلَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
فرع: قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرُ:
ثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ قَلَّمَ أَظْفَارَهُ، قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَأْخُذُ مِنْ لِحْيَتِهِ وَشَارِبِهِ وَأَظْفَارِهِ إذَا رَمَى الْجَمْرَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى وَهِيَ إحْدَى الْخُطَبِ الْأَرْبَعِ، يُعَلِّمُ النَّاسَ الرَّمْيَ وَالْإِفَاضَةَ وَغَيْرَهُمَا مِنْ الْمَنَاسِكِ لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ قَالَ:
"خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ رَمْيَةِ الْجَمْرَةِ، فَكَانَ فِي خُطْبَتِهِ: إنَّ هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ" وَلِأَنَّ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَمَا بَعْدَهُ مَنَاسِكَ يُحْتَاجُ إلَى الْعِلْمِ بِهَا فَسُنَّ فِيهَا الْخُطْبَةُ لِذَلِكَ.
الشرح:
حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ بِمَعْنَاهُ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ مَعَ أَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ صَحِيحَةٍ فِي إثْبَاتِ خُطْبَةِ يَوْمَ النَّحْرَ، ذَكَرْنَاهَا عِنْدَ ذِكْرِ خُطْبَةِ الْيَوْمِ السَّابِعِ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَدِلَّةَ الْخُطَبِ الْأَرْبَعِ مَبْسُوطَةً وَفُرُوعَهَا وَمَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي هَذَا الْفَصْلِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلَمْ يُبَيِّنْ مَتَى تَكُونُ هَذِهِ الْخُطْبَةُ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ؟ وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهَا تَكُونُ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، هَكَذَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ، وَاتَّفَقُوا عَلَيْهِ، وَهُوَ مُشْكِلٌ لِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِي هَذِهِ الْخُطْبَةِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ فِيهَا، وَالْأَحَادِيثُ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ كَانَتْ ضَحْوَةَ يَوْمِ النَّحْرِ لَا بَعْدَ الظُّهْرِ وَجَوَابُهُ: 1قَالَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل فحرر قلت: ولعل المقصود بالضحوة على ما فسره الشافعي والأصحاب أول الهاجرة أي حين الزوال على الفور والله أعلم (ط).

 

ج / 8 ص -121-       أَصْحَابُنَا وَيُسْتَحَبُّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْحُجَّاجِ حُضُورُ هَذِهِ الْخُطْبَةِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُمْ وَلِلْإِمَامِ الِاغْتِسَالُ لَهَا، وَالتَّطَيُّبُ إنْ كَانَ قَدْ تَحَلَّلَ التَّحَلُّلَيْنِ أَوْ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ تَكُونُ بِمِنًى هَكَذَا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ، وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا شَاذًّا أَنَّ هَذِهِ الْخُطْبَةَ تَكُونُ بِمَكَّةَ، وَهَذَا فَاسِدٌ مُخَالِفٌ لِلنَّقْلِ وَالدَّلِيلِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: ثُمَّ يُفِيضُ إلَى مَكَّةَ وَيَطُوفُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ وَيُسَمَّى طَوَافَ الزِّيَارَةِ، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رضي الله عنه:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَمَى الْجَمْرَةَ ثُمَّ رَكِبَ وَأَفَاضَ إلَى الْبَيْتِ" وَهَذَا الطَّوَافُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إلَّا بِهِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] وَرَوَتْ عَائِشَةُ: "أَنَّ صَفِيَّةَ رضي الله عنهما حَاضَتْ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ، قَالَ: فَلَا إذًا" فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ، وَأَوَّلُ وَقْتِهِ إذَا انْتَصَفَتْ لَيْلَةُ النَّحْرِ، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ أُمَّ سَلَمَةَ رضي الله عنها يَوْمَ النَّحْرِ فَرَمَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَفَاضَتْ" وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَطُوفَ يَوْمَ النَّحْرِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم "طَافَ يَوْمَ النَّحْرِ" فَإِنْ أَخَّرَهُ إلَى مَا بَعْدَهُ وَطَافَ جَازَ، لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ.
الشرح:
حَدِيثُ جَابِرٍ رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ الْأَوَّلُ فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وأما: حَدِيثُهَا الْآخَرُ فِي قِصَّةِ أُمِّ سَلَمَةَ1 وأما: قَوْلُهُ: إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "طَافَ يَوْمَ النَّحْرِ" فَصَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، وَمِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ: فَالسُّنَّةُ إذَا رَمَى وَذَبَحَ وَحَلَقَ أَنْ يُفِيضَ إلَى مَكَّةَ وَيَطُوفَ بِالْبَيْتِ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ أَنَّ لَهُ خَمْسَةَ أَسْمَاءٍ وَقَدْ سَبَقَتْ كَيْفِيَّةُ الطَّوَافِ وَسَبَقَ بَيَانُ التَّفْصِيلِ، وَالْخِلَافُ فِي أَنَّهُ يَرْمُلُ وَيَضْطَبِعُ فِي هَذَا الطَّوَافِ أَمْ لَا؟ وَهَذَا الطَّوَافُ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ لَا يَصِحُّ الْحَجُّ إلَّا بِهِ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، قَالَ الْأَصْحَابُ: وَيَدْخُلُ وَقْتُ هَذَا الطَّوَافِ مِنْ نِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَيَبْقَى إلَى آخِرِ الْعُمْرِ، وَلَا يَزَالُ مُحْرِمًا حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ، وَالْأَفْضَلُ طَوَافُهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَنْ يَكُونَ قَبْلَ الزَّوَالِ فِي الضُّحَى بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ الرَّمْيُ وَالذَّبْحُ وَالْحَلْقُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعُودَ إلَى مِنًى قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فَيُصَلِّيَ الظُّهْرَ بِمِنًى قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ الطَّوَافِ عَنْ يَوْمِ النَّحْرِ، وَتَأْخِيرُهُ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَشَدُّ كَرَاهَةً، وَخُرُوجُهُ مِنْ مَكَّةَ بِلَا طَوَافٍ أَشَدُّ كَرَاهَةً، وَمَنْ لَمْ يَطُفْ لَا يَحِلُّ لَهُ النِّسَاءُ وَإِنْ مَضَتْ عَلَيْهِ سُنُونَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ طَافَ لِلْوَدَاعِ، وَلَمْ يَكُنْ طَافَ الْإِفَاضَةَ وَقَعَ عَنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَأَجْزَأَهُ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ وَاضِحَةً فِي فَصْلِ طَوَافِ الْقُدُومِ قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِذَا طَافَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ لَزِمَهُ السَّعْيُ بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَلَا يَزَالُ مُحْرِمًا حَتَّى يَسْعَى، وَلَا يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ الثَّانِي بِدُونِهِ وَإِنْ كَانَ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ لَمْ يُعِدْهُ بَلْ تُكْرَهُ إعَادَتُهُ كَمَا سَبَقَ فِي فَصْلِ السَّعْيِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل فحرر، قلت: فقد رواه الدرامي والنسائي.

 

ج / 8 ص -122-       فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا آخِرَ لِوَقْتِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، بَلْ يَصِحُّ مَا دَامَ حَيًّا لَكِنْ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ عَنْ يَوْمِ النَّحْرِ، فَإِذَا أَخَّرَهُ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، قَالَ الْمُتَوَلِّي: يَكُونُ قَضَاءً، قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ قَضَاءً، بَلْ يَقَعُ أَدَاءً لِأَنَّهُمْ قَالُوا: لَيْسَ هُوَ بِمُؤَقَّتٍ، وَهَذَا كَمَا قَالَهُ الرَّافِعِيُّ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَدْخُلُ وَقْتَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ بِنِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا، قَالَ الْقَاضِيَانِ أَبُو الطَّيِّبِ وَحُسَيْنٌ فِي "تَعْلِيقِهِمَا" وَصَاحِبُ الْبَيَانِ وَغَيْرُهُمْ: لَيْسَ لِلشَّافِعِيِّ فِي ذَلِكَ نَصٌّ إلَّا أَنَّ أَصْحَابَنَا أَلْحَقُوهُ بِالرَّمْيِ فِي ابْتِدَاءِ وَقْتِهِ وأما: وَقْتُ الْفَضِيلَةِ لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ ضَحْوَةُ يَوْمَ النَّحْرِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ الَّذِي تَظَاهَرَتْ بِهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ وَقَطَعَ بِهِ جُمْهُورُ الْأَصْحَابِ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ": فِي الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا أحدهما: مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يَوْمَ النَّحْرِ وَزَوَالِهَا، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ اللَّذَيْنِ سَنَذْكُرُهُمَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْفَرْعِ بَعْدَهُ والثاني: مَا بَيْنَ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا.
فرع: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ؛ لِحَدِيثِ جَابِرٍ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ إلَيْهِمْ وَهُمْ يَسْقُونَ عَلَى زَمْزَمَ فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَطُوفَ الْإِفَاضَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَيَرْجِعَ إلَى مِنًى فَيُصَلِّيَ بِهَا الظُّهْرَ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ الصَّحِيحُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ فِي "الْبَحْرِ" عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي "الْإِمْلَاءِ".
وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ" فِيهِ وَجْهَيْنِ أحدهما: هَذَا والثاني: الْأَفْضَلُ أَنْ يَمْكُثَ بِمِنًى حَتَّى يُصَلِّيَ بِهَا الظُّهْرَ مَعَ الْإِمَامِ، وَيَشْهَدَ الْخُطْبَةَ ثُمَّ يُفِيضَ إلَى مَكَّةَ فَيَطُوفَ، وَاسْتَدَلَّ هَذَا الْقَائِلُ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ بَعْدَ حِكَايَتِهِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَجْهًا ثَالِثًا أَنَّهُ إنْ كَانَ فِي الصَّيْفِ عَجَّلَ الْإِفَاضَةَ لِاتِّسَاعِ النَّهَارِ، وَإِنْ كَانَ شِتَاءً أَخَّرَهَا إلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ لِضِيقِهِ، هَذَا كَلَامُهُ، وَالصَّوَابُ الْأَوَّلُ.
وَقَدْ صَحَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَحَادِيثُ مُتَعَارِضَةٌ يُشْكِلُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ الْجَمْعُ بَيْنَهَا حَتَّى أَنَّ ابْنَ حَزْمٍ الظَّاهِرِيَّ صَنَّفَ كِتَابًا فِي حَجَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَتَى فِيهِ بِنَفَائِسَ وَاسْتَقْصَى وَجَمَعَ بَيْنَ طُرُقِ الْأَحَادِيثِ فِي جَمِيعِ الْحَجِّ، ثُمَّ قَالَ: وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ لَمْ يُبِنْ لِي وَجْهَهُ إلَّا الْجَمْعُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ، وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهَا وَأَنَا أَذْكُرُ طُرُقَهَا ثُمَّ أَجْمَعُ بَيْنَهَا إنْ شَاءَ الله تعالى: فَمِنْهَا: حَدِيثُ جَابِرٍ الطَّوِيلُ:
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ إلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ:
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَفَاضَ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ رَجَعَ فَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى. قَالَ نَافِعٌ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُفِيضُ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ يَرْجِعُ فَيُصَلِّي الظُّهْرَ بِمِنًى" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ: "حَدَّثَنَا سُفْيَانُ - يَعْنِي الثَّوْرِيَّ - عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ الطَّوَافَ يَوْمَ النَّحْرِ إلَى اللَّيْلِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ. وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي

 

ج / 8 ص -123-       "صَحِيحِهِ" تَعْلِيقًا بِصِيغَةِ جَزْمٍ فَقَالَ: وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ "أَخَّرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الطَّوَافَ إلَى اللَّيْلِ".
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ سَمِعَ أَبُو الزُّبَيْرِ مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي سَمَاعِهِ مِنْ عَائِشَةَ نَظَرٌ. قَالَهُ الْبُخَارِيُّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: "وَحَجَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ" قَالَ وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ يَوْمٍ حِينَ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى مِنًى" وَرَوَاهُ عُمَرُ بْنُ قَيْسٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَذِنَ لِأَصْحَابِهِ فَزَارُوا الْبَيْتَ ظَهِيرَةً وَزَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ نِسَائِهِ لَيْلًا" وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَافَ عَلَى نَاقَتِهِ لَيْلًا" قَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَأَصَحُّ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ وَحَدِيثُ جَابِرٍ وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ هَذَا كَلَامُ الْبَيْهَقِيّ.
قلت: فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَفَاضَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَطَافَ وَصَلَّى بِمَكَّةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا ثُمَّ رَجَعَ إلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ مَرَّةً أُخْرَى إمَامًا لِأَصْحَابِهِ كَمَا صَلَّى بِهِمْ فِي بَطْنِ نَخْلٍ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً بِطَائِفَةٍ وَمَرَّةً بِطَائِفَةٍ أُخْرَى، فَرَوَى جَابِرٌ صَلَاتَهُ بِمَكَّةَ وَابْنُ عُمَرَ بِمِنًى وَهُمَا صَادِقَانِ، وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا. وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِ فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أحدهما: أَنَّ رِوَايَاتِ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأُمِّ سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَصَحُّ وَأَشْهَرُ وَأَكْثَرُ رُوَاةً، فَوَجَبَ تَقْدِيمُهَا وَلِهَذَا رَوَاهَا مُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِه"ِ دُونَ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ وَغَيْرِهِ.
والثاني: أَنَّهُ يُتَأَوَّلُ قَوْلُهُ أَخَّرَ طَوَافَ يَوْمِ النَّحْرِ إلَى اللَّيْلِ، أَيْ طَوَافَ نِسَائِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ التَّأْوِيلِ لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأَحَادِيثِ فَإِنْ قِيلَ: هَذَا التَّأْوِيلُ يَرُدُّهُ رِوَايَةُ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ فِي قَوْلِهِ:
"وَزَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ نِسَائِهِ لَيْلًا" فَجَوَابُهُ لَعَلَّهُ عَادَ لِلزِّيَارَةِ لَا لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، فَزَارَ مَعَ نِسَائِهِ ثُمَّ عَادَ إلَى مِنًى فَبَاتَ بِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ خَمْسَةَ أَسْمَاءٍ منها: طَوَافُ الزِّيَارَةِ وَلَا كَرَاهَةَ فِي تَسْمِيَتِهِ طَوَافَ الزِّيَارَةِ. هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يُكْرَهُ. دَلِيلُنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" وَغَيْرِهِ
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرَادَ مِنْ امْرَأَتِهِ صَفِيَّةَ مِثْلَ مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ، فَقَالُوا إنَّهَا حَائِضٌ، فَقَالَ إنَّهَا لَحَابِسَتُنَا قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهَا قَدْ زَارَتْ يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَ: فَلْتَنْفِرْ مَعَكُنَّ" وَمَعْنَاهُ قَدْ طَافَتْ طَوَافَ الزِّيَارَةِ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخَّرَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ إلَى اللَّيْلِ" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَدَلَالَتُهُ ظَاهِرَةٌ، وَدَلَالَةُ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَمْ يُنْكِرْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَلِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ حَتَّى يَثْبُتَ دَلِيلُهَا الشَّرْعِيُّ.
فرع: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي يَوْمِ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ مَتَى هُوَ؟ فَقِيلَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالصَّحِيحُ الَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُنَا وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ وَتَظَاهَرَتْ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا قِيلَ

 

ج / 8 ص -124-       الْحَجُّ الْأَكْبَرُ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ الْحَجِّ الْأَصْغَرِ وَهُوَ الْعُمْرَةُ. هَكَذَا أُثْبِتَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ. وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ حَدِيثُ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: "بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحَجَّةِ - يَعْنِي حَجَّةَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه سَنَةَ تِسْعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ - فِي مُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذِّنُونَ بِمِنًى أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، ثُمَّ أَرْدَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِيَرَاهُ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ لِيَرَاهُ، وَأَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَكَانَ حُمَيْدٌ يَقُولُ: النَّحْرُ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ مِنْ أَجْلِ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي "صَحِيحَيْهِمَا"، وَمَعْنَى قَوْلِ حُمَيْدٍ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهَذَا الْأَذَانِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَأَذَّنُوا بِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ يَوْمُ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ الْمَأْمُورُ بِالْأَذَانِ فِيهِ فِي قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة: 3] الْآيَةَ وَلِأَنَّ مُعْظَمَ الْمَنَاسِكَ تُفْعَلُ فِيهِ وَمَنْ قَالَ يَوْمَ عَرَفَةَ احْتَجَّ بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ "الْحَجُّ عَرَفَةَ" وَلَكِنْ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرُدُّهُ. وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَنَّ مَذْهَبَ مَالِكٍ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ، وَأَنَّ مَذْهَبَ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ. وَلَيْسَ كَمَا قَالَ، بَلْ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ، كَمَا سَبَقَ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ لَا آخِرَ لِوَقْتِهِ، بَلْ يَبْقَى مَا دَامَ حَيًّا وَلَا يَلْزَمُهُ بِتَأْخِيرِهِ دَمٌ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَلَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَهُمْ فِي أَنَّ مَنْ أَخَّرَهُ وَفَعَلَهُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَجْزَأَهُ وَلَا دَمَ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَدْ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ كَمَذْهَبِنَا: لَا دَمَ. مِمَّنْ قَالَهُ عَطَاءٌ وَعَمْرُو بْنُ دِينَارٍ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ مَالِكٍ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ رَجَعَ إلَى وَطَنِهِ قَبْلَ الطَّوَافِ لَزِمَهُ الْعَوْدُ لِلطَّوَافِ، فَيَطُوفُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلتَّأْخِيرِ، وَهُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ مَالِكٍ، دَلِيلُنَا أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الدَّمِ حَتَّى يَرِدَ الشَّرْعُ بِهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي فَصْلِ طَوَافِ الْقُدُومِ أَنَّهُ لَوْ طَافَ الْإِفَاضَةَ وَتَرَكَ مِنْ الطَّوَافِ السَّبْعِ وَاحِدَةً أَوْ بَعْضَهَا لَا يَصِحُّ طَوَافُهُ، حَتَّى يُكْمِلَ السَّبْعَ بِلَا خِلَافٍ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، وَسَبَقَ فِيهِ بَيَانُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِذَا رَمَى وَحَلَقَ وَطَافَ حَصَلَ لَهُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي، وَبِأَيِّ شَيْءٍ حَصَلَ لَهُ التَّحَلُّلُ؟ إنْ قُلْنَا: إنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ حَصَلَ لَهُ [التَّحَلُّلُ] الْأَوَّلُ بِاثْنَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَهِيَ الرَّمْيُ وَالْحَلْقُ وَالطَّوَافُ, وَحَصَلَ لَهُ [التَّحَلُّلُ] الثَّانِي بِالثَّالِثِ. وَإِنْ قُلْنَا: إنَّ الْحَلْقَ لَيْسَ بِنُسُكٍ حَصَلَ لَهُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِوَاحِدٍ مِنْ اثْنَيْنِ - الرَّمْيِ وَالطَّوَافِ - وَحَصَلَ لَهُ التَّحَلُّلُ الثَّانِي بِالثَّانِي. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيُّ: إذَا دَخَلَ وَقْتُ الرَّمْيِ حَصَلَ لَهُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ وَإِنْ لَمْ يَرْمِ, كَمَا إذَا فَاتَ وَقْتُ الرَّمْيِ حَصَلَ لَهُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ وَإِنْ لَمْ يَرْمِ, وَالْمَذْهَبُ الْأَوَّلُ لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حُلَّ لَكُمْ الطِّيبُ وَاللِّبَاسُ وَكُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ" فَعَلَّقَ التَّحَلُّلَ بِفِعْلِ الرَّمْيِ, وَلِأَنَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ التَّحَلُّلُ يَتَعَلَّقُ بِدُخُولِ وَقْتِهِ كَالطَّوَافِ , وَيُخَالِفُ إذَا فَاتَ الْوَقْتُ , فَإِنَّ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ يَسْقُطُ فَرْضُ الرَّمْيِ كَمَا يَسْقُطُ بِفِعْلِهِ , وَبِدُخُولِ الْوَقْتِ لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ فَلَمْ يَحْصُلْ بِهِ التَّحَلُّلُ.

 

ج / 8 ص -125-       وَفِيمَا يَحِلُّ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ [أَنَّهُ] يَحِلُّ بِالْأَوَّلِ جَمِيعُ الْمَحْظُورَاتِ إلَّا الْوَطْءَ: وَبِالثَّانِي يَحِلُّ الْوَطْءُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها [وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّهُ] يَحِلُّ بِالْأَوَّلِ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا الطِّيبَ وَالنِّكَاحَ وَالِاسْتِمْتَاعَ بِالنِّسَاءِ وَقَتْلَ الصَّيْدِ لِمَا رَوَى مَكْحُولٌ عَنْ عُمَرَ رضي الله تعالى عنهما أَنَّهُ قَالَ: "إذَا رَمَيْتُمْ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ وَالصَّيْدَ" وَالصَّحِيحُ هُوَ الْأَوَّلُ, لِأَنَّ حَدِيثَ عُمَرَ مُرْسَلٌ, وَلِأَنَّ السُّنَّةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ. هَذَا إذَا كَانَ قَدْ سَعَى عَقِيبَ طَوَافِ الْقُدُومِ, فَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْعَ وَقَفَ التَّحَلُّلُ عَلَى الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ, لِأَنَّ السَّعْيَ رُكْنٌ كَالطَّوَافِ.
الشرح:
أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ جِدًّا مِنْ رِوَايَةِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ. وَقَدْ رَوَى النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادِهِ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْقَرَنِيِّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا رَمَيْتُمْ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ" هَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مَرْفُوعًا وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ إلَّا أَنَّ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ وَغَيْرَهُ قَالُوا: يُقَالُ إنَّ الْحَسَنَ الْقَرَنِيَّ لَمْ يَسْمَعْ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه فَهُوَ مُرْسَلٌ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ، لِأَنَّ مَكْحُولًا لَمْ يُدْرِكْ عُمَرَ، فَحَدِيثُهُ عَنْهُ مُنْقَطِعٌ وَمُرْسَلٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا أَحْكَامُ الْفَصْلِ: فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رحمهم الله: لِلْحَجِّ تَحَلُّلَانِ أَوَّلٌ وَثَانٍ يَتَعَلَّقَانِ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَالْحَلْقِ وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، هَذَا إنْ قُلْنَا الْحَلْقُ نُسُكٌ، وَإِلَّا فَيَتَعَلَّقَانِ بِالرَّمْيِ وَالطَّوَافِ. وَأَمَّا النَّحْرُ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي التَّحَلُّلِ فَإِنْ قُلْنَا: الْحَلْقُ نُسُكٌ حَصَلَ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِاثْنَيْنِ مِنْ الثَّلَاثَةِ، فَأَيُّ اثْنَيْنِ مِنْهَا أَتَى بِهِمَا حَصَلَ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ، سَوَاءٌ كَانَا رَمْيًا وَحَلْقًا، أَوْ رَمْيًا وَطَوَافًا، أَوْ طَوَافًا وَحَلْقًا، وَيَحْصُلُ التَّحَلُّلُ الثَّانِي بِالْعَمَلِ الْبَاقِي مِنْ الثَّلَاثَةِ.
وَإِنْ قُلْنَا: الْحَلْقُ لَيْسَ بِنُسُكٍ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ التَّحَلُّلُ بَلْ يَحْصُلُ التَّحَلُّلَانِ بِالرَّمْيِ وَالطَّوَافِ أَيَّهُمَا فَعَلَهُ حَصَلَ بِهِ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ، وَيَحْصُلُ الثَّانِي بِالثَّانِي. وَلَوْ لَمْ يَرْمِ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ حَتَّى خَرَجَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَقَدْ فَاتَ الرَّمْيُ وَلَزِمَهُ بِفَوَاتِهِ الدَّمُ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ رَمْيٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى حُصُولِ التَّحَلُّلِ بِهِ وَهَلْ يَتَوَقَّفُ تَحَلُّلُهُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِبَدَلِ الرَّمْيِ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ حَكَاهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ وَأَصَحُّهَا: نَعَمْ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ والثاني: لَا إذْ لَا رَمْيَ وَالثَّالِثُ: إنْ افْتَدَى بِالدَّمِ تَوَقَّفَ، وَإِنْ افْتَدَى بِالصَّوْمِ فَلَا لِطُولِ زَمَنِهِ. وَأَمَّا إذَا لَمْ يَرْمِ وَلَمْ تَخْرُجْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ فَلَا يُجْعَلُ دُخُولُ وَقْتِ الرَّمْيِ كَالرَّمْيِ فِي حُصُولِ التَّحَلُّلِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ، وَفِيهِ وَجْهٌ لِلْإِصْطَخْرِيِّ حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ أَنَّ دُخُولَ وَقْتِ الرَّمْيِ فِي حُصُولِ التَّحَلُّلِ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ دَلِيلَهُ مَعَ دَلِيلِ الْمَذْهَبِ. وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا شَاذًّا ضَعِيفًا لِلدَّارِكِيِّ أَنَّهُ إنْ قُلْنَا الْحَلْقُ نُسُكٌ حَصَلَ التَّحَلُّلَانِ جَمِيعًا بِالْحَلْقِ مَعَ الطَّوَافِ مِنْ غَيْرِ رَمْيٍ، أَوْ بِالطَّوَافِ وَالرَّمْيِ، وَلَا يَحْصُلُ بِالرَّمْيِ وَالْحَلْقِ إلَّا أَحَدُ التَّحَلُّلَيْنِ.
وَحَكَى الرَّافِعِيُّ وَجْهًا شَاذًّا ضَعِيفًا أَنَّهُ يَحْصُلُ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِالرَّمْيِ فَقَطْ أَوْ الطَّوَافِ فَقَطْ، وَإِنْ قُلْنَا الْحَلْقُ نُسُكٌ. وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ عَنْ حِكَايَةِ صَاحِبِ التَّقْرِيبِ وَجْهًا أَنَّا إذَا لَمْ نَجْعَلْ الْحَلْقَ

 

ج / 8 ص -126-       نُسُكًا حَصَلَ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ بِمُجَرَّدِ طُلُوعِ الْفَجْرِ يَوْمَ النَّحْرِ لِوُجُودِ اسْمِ الْيَوْمِ. وَهَذِهِ الْأَوْجُهُ كُلُّهَا شَاذَّةٌ ضَعِيفَةٌ وَالْمَذْهَبُ مَا قَدَّمْنَا أَوَّلًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَذْهَبَ الَّذِي يُفْتَى بِهِ أَنَّ التَّحَلُّلَ يَحْصُلُ بِاثْنَيْنِ مِنْ الثَّلَاثَةِ وَالثَّانِي بِالثَّالِثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا بُدَّ مِنْ السَّعْيِ مَعَ الطَّوَافِ إنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْأَصْحَابُ: فَيُعَدُّ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ سَبَبًا وَاحِدًا مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ، فَلَوْ لَمْ يَرْمِ وَلَكِنْ طَافَ وَحَلَقَ وَلَمْ يَسْعَ لَمْ يَحْصُلْ التَّحَلُّلُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ السَّعْيَ كَالْجُزْءِ فَكَأَنَّهُ تَرَكَ بَعْضَ الْمَرَّاتِ مِنْ الطَّوَافِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا تَحَلُّلٌ وَاحِدٌ بِلَا خِلَافٍ، وَهُوَ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَيُضَمُّ إلَيْهِمَا الْحَلْقُ إنْ قُلْنَا هُوَ نُسُكٌ، وَإِلَّا فَلَا.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَإِنَّمَا كَانَ فِي الْعُمْرَةِ تَحَلُّلٌ، وَفِي الْحَجِّ تَحَلُّلَانِ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يَطُولُ زَمَنُهُ وَتَكْثُرُ أَعْمَالُهُ، بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ فَأُبِيحَ بَعْضُ مُحَرَّمَاتِهِ فِي وَقْتٍ وَبَعْضُهَا فِي وَقْتٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ أَصْحَابُنَا. وَيَحِلُّ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ فِي الْحَجِّ اللُّبْسُ وَالْقَلْمُ وَسَتْرُ الرَّأْسِ وَالْحَلْقُ إنْ لَمْ نَجْعَلْهُ نُسُكًا بِلَا خِلَافٍ، وَلَا يَحِلُّ الْجِمَاعُ إلَّا بِالتَّحَلُّلَيْنِ بِلَا خِلَافٍ، وَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَطَأَ حَتَّى يَرْمِيَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ. وَفِي عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْمُبَاشَرَةِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ بِشَهْوَةٍ كَالْقُبْلَةِ وَالْمُلَامَسَةِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ: نَصَّ عَلَيْهِمَا الشَّافِعِيُّ فِي "الْجَدِيدِ" أصحهما: عِنْدَ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ لَا يَحِلُّ إلَّا بِالتَّحَلُّلَيْنِ وَأَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الْمُصَنِّفِ وَالرُّويَانِيِّ يَحِلُّ بِالْأَوَّلِ وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ لَا يَحِلُّ بِالْأَوَّلِ الْمُبَاشَرَةُ، وَيَحِلُّ الصَّيْدُ وَالنِّكَاحُ وَالطِّيبُ فِي أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، قَالَ: وَهُوَ الْجَدِيدُ، وَيَحِلُّ الصَّيْدُ بِالْأَوَّلِ عَلَى الْأَصَحِّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ بِاتِّفَاقِهِمْ وأما: الطِّيبُ فَالْمَذْهَبُ الْقَطْعُ بِحِلِّهِ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ، بَلْ قَالَ أَصْحَابُنَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ بَيْنَ التَّحَلُّلَيْنِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ" وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَالْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَآخَرُونَ فِيهِ طَرِيقِينَ أصحهما: حِلُّهُ والثاني: عَلَى قَوْلَيْنِ كَالصَّيْدِ وَعَقْدِ النِّكَاحِ. وَهَذَا بَاطِلٌ مُنَابِذٌ لِلسُّنَّةِ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:
"طَيَّبْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِحَرَمِهِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
فرع: فِي بَيَانِ حَدِيثٍ مُشْكِلٍ مُخَالِفٍ لِمَا ذَكَرْنَاهُ. وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي "سُنَنِهِ" قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَيَحْيَى بْن مَعِينٍ قَالَا: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ عَنْ أَبِيهِ، وَعَنْ أُمِّهِ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: "كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي يَصِيرُ إلَيَّ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ فَصَارَ إلَيَّ فَدَخَلَ عَلَيَّ وَهْبُ بْنُ زَمْعَةَ وَمَعَهُ رَجُلٌ مُتَقَمِّصَيْنِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِوَهْبٍ: أَفَضْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: انْزِعْ عَنْك الْقَمِيصَ، فَنَزَعَهُ مِنْ رَأْسِهِ، وَنَزَعَ صَاحِبُهُ قَمِيصَهُ مِنْ رَأْسِهِ، ثُمَّ قَالَ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إنَّ هَذَا يَوْمٌ رُخِّصَ فِيهِ لَكُمْ إذَا أَنْتُمْ رَمَيْتُمْ الْجَمْرَةَ أَنْ تَحِلُّوا، يَعْنِي مِنْ كُلِّ مَا حُرِمْتُمْ مِنْهُ إلَّا النِّسَاءَ، فَإِذَا

 

ج / 8 ص -127-       أَمْسَيْتُمْ قَبْلَ أَنْ تَطُوفُوا هَذَا الْبَيْتَ صِرْتُمْ حُرُمًا كَمَبِيتِكُمْ قَبْلَ أَنْ تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطُوفُوا بِهِ"هَذَا لَفْظُهُ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ صَحِيحٌ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ إذَا قَالَ: حَدَّثَنَا، وَإِنَّمَا عَابُوا عَلَيْهِ التَّدْلِيسَ، وَالْمُدَلِّسُ إذَا قَالَ: حَدَّثَنَا، اُحْتُجَّ بِهِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَدِيثَ صَحِيحٌ فَقَدْ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ الْفُقَهَاءِ قَالَ بِهِ، هَذَا كَلَامُ الْبَيْهَقِيّ قلت: فَيَكُونُ الْحَدِيثُ مَنْسُوخًا، دَلَّ الْإِجْمَاعُ عَلَى نَسْخِهِ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ لَا يُنْسَخُ وَلَا يَنْسَخُ، لَكِنْ يَدُلُّ عَلَى نَاسِخٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ فِي الْحَجِّ تَحَلُّلَيْنِ، هَكَذَا قَالَهُ الْأَصْحَابُ فِي جَمِيعِ الطُّرُقِ، قَالَ: الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ": قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: لَيْسَ فِيهِ إلَّا تَحَلُّلٌ وَاحِدٌ قَالَ. وَقَوْلُنَا تَحَلُّلَانِ مَجَازٌ، بَلْ إذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ زَالَ إحْرَامُهُ، وَبَقِيَ حُكْمُهُ، فَلَا يَجُوزُ حَتَّى يَحْلِقَ وَيَطُوفَ، كَمَا أَنَّ الْحَائِضَ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا زَالَ الْحَيْضُ وَبَقِيَ حُكْمُهُ وَهُوَ تَحْرِيمُ وَطْئِهَا حَتَّى تَغْتَسِلَ، قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ: هَذَا غَلَطٌ لِأَنَّ الطَّوَافَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْحَجِّ، فَكَيْفَ يَزُولُ الْإِحْرَامُ وَبَعْضُ الْأَرْكَانِ بَاقٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا تَحَلَّلَ التَّحَلُّلَيْنِ صَارَ حَلَالًا فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْحَجِّ وَهُوَ الرَّمْيُ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَالْمَبِيتِ لَيَالِيهَا بِمِنًى مَعَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْرِمٍ كَمَا يُسَلِّمُ التَّسْلِيمَةَ الثَّانِيَةَ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ بِالْأُولَى.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الطَّوَافِ رَجَعَ إلَى مِنًى، وَأَقَامَ بِهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ يَرْمِي فِي كُلِّ يَوْمٍ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ، كُلُّ جَمْرَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، فَيَرْمِي الْجَمْرَةَ الْأُولَى وَهِيَ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ، وَيَقِفُ قَدْرَ سُورَةٍ الْبَقَرَةِ يَدْعُو اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى وَيَقِفُ وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى كَمَا ذَكَرْنَا، ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الثَّالِثَةَ وَهِيَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ بِمَكَّةَ حَتَّى صَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى مِنًى فَأَقَامَ بِهَا أَيَّامَ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَ يَرْمِي الْجِمَارَ فَرَمَى الْجَمْرَةَ الْأُولَى إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَقِفُ فَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الثَّانِيَةَ فَيَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَأْتِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا".
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْمِيَ الْجِمَارَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ إلَّا مُرَتِّبًا يَبْدَأُ بِالْأُولَى ثُمَّ بِالْوُسْطَى ثُمَّ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَمَى هَكَذَا، وَقَالَ: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" فَإِنْ نَسِيَ حَصَاةً وَلَمْ يَعْلَمْ مِنْ أَيِّ الْجِمَارِ تَرَكَهَا جَعَلَهَا مِنْ الْجَمْرَةِ الْأُولَى، لِيُسْقِطَ الْفَرْضَ بِيَقِينٍ وَلَا يَجُوزُ الرَّمْيُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، لِأَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيَّامَ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةَ يَرْمِي الْجِمَارَ الثَّلَاثَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ" فَإِنْ تَرَكَ الرَّمْيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ سَقَطَ الرَّمْيُ، لِأَنَّهُ فَاتَ أَيَّامَ الرَّمْيِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ دَمٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ".
فَإِنْ تَرَكَ الرَّمْيَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إلَى الْيَوْمِ الثَّانِي أَوْ تَرَكَ الرَّمْيَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي إلَى الثَّالِثِ فَالْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ، فَمَا تَرَكَ فِي الْأَوَّلِ يَرْمِيهِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي، وَمَا تَرَكَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي يَرْمِيهِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِرُعَاةِ الْإِبِلِ أَنْ يُؤَخِّرُوا الرَّمْيَ إلَى يَوْمٍ بَعْدَهُ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْيَوْمُ الثَّانِي وَقْتًا لِرَمْيِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ لَمَا جَازَ الرَّمْيُ فِيهِ، وَقَالَ فِي الْإِمْلَاءِ رَمْيُ كُلِّ يَوْمٍ مُؤَقَّتٍ بِيَوْمِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ رَمْيٌ مَشْرُوعٌ فِي يَوْمٍ، فَفَاتَ بِفَوَاتِهِ كَرَمْيِ

 

ج / 8 ص -128-       الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَإِنْ تَدَارَكَ عَلَيْهِ رَمْيُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
فَإِنْ قُلْنَا: بِالْمَشْهُورِ بَدَأَ وَرَمَى عَنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ ثُمَّ عَنْ الْيَوْمِ الثَّانِي ثُمَّ عَنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ، فَإِنْ نَوَى بِالرَّمْيِ الْأَوَّلِ عَنْ الْيَوْمِ الثَّانِي فَفِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ، لِأَنَّهُ تَرَكَ التَّرْتِيبَ والثاني: أَنَّهُ يُجْزِئُهُ عَنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ مُسْتَحَقٌّ عَنْ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، فَانْصَرَفَ إلَيْهِ كَمَا لَوْ طَافَ بِنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَعَلَيْهِ طَوَافُ الْفَرْضِ فَإِنْ قُلْنَا: بِقَوْلِهِ فِي "الْإِمْلَاءِ": إنْ رَمَى كُلَّ يَوْمٍ مُؤَقَّتٍ بِيَوْمِهِ وَفَاتَ الْيَوْمُ وَلَمْ يَرْمِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ، أحدها: أَنَّ الرَّمْيَ يَسْقُطُ، وَيَنْتَقِلُ إلَى الدَّمِ كَالْيَوْمِ الْأَخِيرِ والثاني: أَنَّهُ يَرْمِي وَيُرِيقُ دَمًا لِلتَّأْخِيرِ، كَمَا لَوْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى أَدْرَكَهُ رَمَضَانُ آخَرُ، فَإِنَّهُ يَصُومُ وَيَفْدِي وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ يَرْمِي وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ تَرَكَ الْوُقُوفَ بِالنَّهَارِ فَإِنَّهُ يَقِفُ بِاللَّيْلِ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا إذَا رَمَى عَنْ الْيَوْمِ الثَّانِي قَبْلَ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ جَازَ، لِأَنَّهُ قَضَاءٌ فَلَا يَجِبُ فِيهِ التَّرْتِيبُ كَالصَّلَاةِ الْفَائِتَةِ.
فَأَمَّا: إذَا نَسِيَ رَمْيَ يَوْمِ النَّحْرِ فَفِيهِ طَرِيقَانِ مِنْ: أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: هُوَ كَرَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَيَرْمِي رَمْيَ يَوْمِ النَّحْرِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَتَكُونُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَقْتًا لَهُ، وَعَلَى قَوْلِهِ فِي "الْإِمْلَاءِ" يَكُونُ عَلَى الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ: يَسْقُطُ رَمْيُ يَوْمِ النَّحْرِ قَوْلًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا خَالَفَ رَمْيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فِي الْمِقْدَارِ وَالْمَحَلِّ خَالَفَهُ فِي الْوَقْتِ.
وَمَنْ تَرَكَ رَمْيَ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ فِي يَوْمٍ لَزِمَهُ دَمٌ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ" فَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَنَّهُ يَقَعُ اسْمُ الْجَمْعِ الْمُطْلَقِ عَلَيْهِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تَرَكَ الْجَمِيعَ وَإِنْ تَرَكَ حَصَاةً فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أحدها: يَجِبُ عَلَيْهِ ثُلُثُ دَمٍ والثاني: مُدٌّ وَالثَّالِثُ: دِرْهَمٌ، وَإِنْ تَرَكَ حَصَاتَيْنِ لَزِمَهُ فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ ثُلُثَا دَمٍ، وَفِي الثَّانِي مُدَّانِ، وَفِي الثَّالِثِ دِرْهَمَانِ.
وَإِنْ تَرَكَ الرَّمْيَ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَقُلْنَا بِالْقَوْلِ الْمَشْهُورِ: إنَّ الْأَيَّامَ الثَّلَاثَةَ كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ لَزِمَهُ دَمٌ كَالْيَوْمِ الْوَاحِدِ فَإِنْ قُلْنَا: بِقَوْلِهِ فِي "الْإِمْلَاءِ" إنْ رَمَى كُلَّ يَوْمٍ مُؤَقَّتٍ بِيَوْمِهِ لَزِمَهُ ثَلَاثَةُ دِمَاءٍ، وَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ رَمْيَ يَوْمِ النَّحْرِ كَرَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ لَزِمَهُ عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ دَمٌ وَاحِدٌ وإن قلنا: إنَّهُ يَنْفَرِدُ عَنْ رَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّ رَمْيَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ كَرَمْيِ الْيَوْمِ الْوَاحِدِ لَزِمَهُ دَمَانِ وإن قلنا: إنَّ رَمْيَ كُلِّ يَوْمٍ مُؤَقَّتٍ بِيَوْمِهِ لَزِمَهُ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ.

الشرح: حَدِيثُ عَائِشَةَ رضي الله عنها رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ، وَلَكِنَّهُ مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ صَاحِبِ "الْمَغَازِي" عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ بِلَفْظِهِ، وَلَكِنْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ مُدَلِّسٌ، وَالْمُدَلِّسُ إذَا قَالَ عَنْ: لَا يُحْتَجُّ بِرِوَايَتِهِ، وَيُغْنِي عَنْهُ حَدِيثُ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ:
"أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ عَلَى أَثَرِ كُلِّ حَصَاةٍ ثُمَّ يَتَقَدَّمُ ثُمَّ يَسْتَهِلُّ فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَيَقُومُ طَوِيلًا، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْوَسَطَ، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيَسْتَهِلُّ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فَيَقُومُ طَوِيلًا وَيَدْعُو، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ وَيَقُومُ طَوِيلًا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" فِي ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ مُتَوَالِيَةٍ، وَرَوَاهُ مَالِكٌ وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَفِي رِوَايَتِهِمْ: "فَيَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ طَوِيلًا يُكَبِّرُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُسَبِّحُهُ، وَيَحْمَدُهُ وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى".
وأما: حَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:
"رَمَى الْجِمَارَ مُرَتَّبًا" فَهُوَ صَحِيحٌ مَشْهُورٌ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ الَّتِي

 

ج / 8 ص -129-       ذَكَرْتهَا الْآنَ، وَمِنْ غَيْرِهَا، وَأَمَّا حَدِيثُ: "خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" فَصَحِيحٌ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي هَذَا الْبَابِ مَرَّاتٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَقَامَ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ يَرْمِي الْجِمَارَ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ" فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادِهِ الَّذِي فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَقَدْ بَيَّنْته الْآنَ، وَيُغْنِي عَنْهُ حَدِيثُ جَابِرٍ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَمَى الْجَمْرَةَ أَوَّلَ يَوْمٍ ضُحًى ثُمَّ لَمْ يَرْمِ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى زَالَتْ الشَّمْسُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ "كُنَّا نَتَحَيَّنُ، فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ رَمَيْنَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَمَّا حَدِيثُ: "مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ" فَسَبَقَ بَيَانُهُ.
وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْفَصْلِ: فَقَوْلُهُ: مَسْجِدُ الْخَيْفِ هُوَ - بِفَتْحِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَإِسْكَانِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ - قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْخَيْفُ مَا انْحَدَرَ عَنْ غِلَظِ الْجَبَلِ وَارْتَفَعَ عَنْ مَسِيلِ الْمَاءِ، وَبِهِ يُسَمَّى مَسْجِدُ الْخَيْفِ، وَهُوَ مَسْجِدٌ عَظِيمٌ وَاسِعٌ جِدًّا فِيهِ عِشْرُونَ بَابًا. وَذَكَرَ الْأَزْرَقِيُّ جُمَلًا تَتَعَلَّقُ بِهِ قوله: رَمْيٌ مَشْرُوعٌ فِي يَوْم احْتِرَاز مِنْ رَجْمِ الزَّانِي.
أما الأحكام: فَفِيهَا مَسَائِلُ إحداها: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: إذَا فَرَغَ الْحَاجُّ مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَالسَّعْيِ إنْ كَانَ لَمْ يَسْعَ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ، فَالسُّنَّةُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مِنًى عَقِبَ فَرَاغِهِ، فَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَحَضَرَ الْخُطْبَةَ ثُمَّ يُقِيمُ فِي مِنًى لِرَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَمَبِيتِ لَيَالِيهَا، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يُسَمَّى يَوْمَ الْقَرِّ - بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ - لِأَنَّهُمْ قَارُّونَ بِمِنًى، وَالْيَوْمُ الثَّانِي يُسَمَّى النَّفْرَ الْأَوَّلَ، وَالْيَوْمُ الثَّالِثُ يَوْمُ النَّفْرِ الثَّانِي.
وَمَجْمُوعُ حَصَى الرَّمْيِ سَبْعُونَ حَصَاةً، سَبْعٌ مِنْهَا لِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ وَالْبَاقِي لِرَمْيِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَيَرْمِي كُلَّ يَوْمٍ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثَ، كُلُّ جَمْرَةٍ سَبْعُ حَصَيَاتٍ كَمَا سَبَقَ وَصْفُهُ فِي رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَيَأْخُذُ كُلَّ يَوْمٍ إحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةً، فَيَأْتِي الْجَمْرَةَ الْأُولَى وَهِيَ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ الْخَيْفِ، وَهِيَ أَوَّلُهُنَّ مِنْ جِهَةِ عَرَفَاتٍ، وَهِيَ فِي نَفْسِ الطَّرِيقِ الْجَادَّةِ، فَيَأْتِيهَا مِنْ أَسْفَلَ مِنْهَا فَيَصْعَدُ إلَيْهَا وَيَعْلُوهَا حَتَّى يَكُونَ مَا عَنْ يَسَارِهِ أَقَلَّ مِمَّا عَنْ يَمِينِهِ، وَيَسْتَقْبِلُ الْكَعْبَةَ ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَاحِدَةً وَاحِدَةً، يُكَبِّرُ عَقِبَ كُلِّ حَصَاةٍ كَمَا سَبَقَ فِي رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ عَنْهَا، وَيَنْحَرِفُ قَلِيلًا وَيَجْعَلُهَا فِي قَفَاهُ، وَيَقِفُ فِي مَوْضِعٍ لَا يُصِيبُهُ الْمُتَطَايَرُ مِنْ الْحَصَى الَّذِي يُرْمَى، فَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُكَبِّرُ وَيُهَلَّلُ وَيُسَبِّحُ وَيَدْعُو مَعَ حُضُورِ الْقَلْبِ وَخُضُوعِ الْجَوَارِحِ، وَيَمْكُثُ كَذَلِكَ قَدْرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الثَّانِيَةَ وَهِيَ الْوُسْطَى، وَيَصْنَعُ فِيهَا كَمَا صَنَعَ فِي الْأُولَى، وَيَقِفُ لِلدُّعَاءِ كَمَا وَقَفَ فِي الْأُولَى إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ عَنْ يَسَارِهَا بِخِلَافِ مَا فَعَلَ فِي الْأُولَى، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ فِيهَا، بَلْ يَتْرُكُهَا عَنْ يَمِينِهِ وَيَقِفُ فِي بَطْنِ الْمَسِيلِ مُنْقَطِعًا عَنْ أَنْ يُصِيبَهُ الْحَصَى. ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الثَّالِثَةَ وَهِيَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ الَّتِي رَمَاهَا يَوْمَ النَّحْرِ فَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَلَا يَقِفُ عِنْدَهَا لِلذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ.
وَهَذِهِ الْكَيْفِيَّةُ هِيَ الْمَسْنُونَةُ وَالْوَاجِبُ مِنْهَا أَصْلُ الرَّمْيِ بِصِفَتِهِ السَّابِقَةِ فِي رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، وَهُوَ أَنْ يَرْمِيَ بِمَا يُسَمَّى حَجَرًا وَيُسَمَّى رَمْيًا.

 

ج / 8 ص -130-       وَأَمَّا الدُّعَاءُ وَالذِّكْرُ وَغَيْرُهُمَا مِمَّا زَادَ عَلَى أَصْلِ الرَّمْيِ فَمُسْتَحَبٌّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ لَكِنْ فَاتَتْهُ الْفَضِيلَةُ. وَيَرْمِي فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ كَمَا رَمَى فِي الْأَوَّلِ، وَيَرْمِي فِي الثَّالِثِ كَذَلِكَ إنْ لَمْ يَنْفِرُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَدَلِيلُ اسْتِحْبَابِ الْوُقُوفِ لِلدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مَذْكُورٌ فِي الْكِتَابِ وأما: كَوْنُهُ قَدْرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ فِعْلِ ابْنِ عُمَرَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَالثَّانِيَةُ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ كُلَّ يَوْمٍ لِلرَّمْيِ.
الثَّالِثَةُ: لَا يَجُوزُ الرَّمْيُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ إلَّا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ وَيَبْقَى وَقْتُهَا إلَى غُرُوبِهَا، وَفِيهِ وَجْهٌ مَشْهُورٌ أَنَّهُ يَبْقَى إلَى الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَالصَّحِيحُ هَذَا: فِيمَا سِوَى الْيَوْمِ الْآخِرِ. وَأَمَّا الْيَوْمُ الْآخِرُ فَيَفُوتُ رَمْيُهُ بِغُرُوبِ شَمْسِهِ بِلَا خِلَافٍ. وَكَذَا جَمِيعُ الرَّمْيِ يَفُوتُ بِغُرُوبِ شَمْسِ الثَّالِثِ مِنْ التَّشْرِيقِ لِفَوَاتِ زَمَنِ الرَّمْيِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ أَنْ يُقَدِّمَ الرَّمْيَ عَلَى صَلَاةِ الظُّهْرِ ثُمَّ يَرْجِعَ فَيُصَلِّيَ الظُّهْرَ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ رحمه الله. وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ أَصْحَابُهُ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ السَّابِقُ قَرِيبًا.
الرَّابِعَةُ: الْعَدَدُ شَرْطٌ فِي الرَّمْيِ، فَيَرْمِي فِي كُلِّ يَوْمٍ إحْدَى وَعِشْرِينَ حَصَاةً إلَى كُلِّ جَمْرَةٍ سَبْعَ حَصَيَاتٍ كَمَا ذَكَرْنَا، وَتَكُونُ كُلُّ حَصَاةٍ بِرَمْيَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، كَمَا سَبَقَ فِي جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ.
الْخَامِسَةُ: يُشْتَرَطُ فِي التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ، فَيَبْدَأُ بِالْجَمْرَةِ الْأُولَى ثُمَّ الْوُسْطَى ثُمَّ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَلَا خِلَافَ فِي اشْتِرَاطِهِ، فَلَوْ تَرَكَ حَصَاةً مِنْ الْأُولَى أَوْ جَهِلَ فَلَمْ يَدْرِ مِنْ أَيْنَ تَرَكَهَا؟ جَعَلَهَا مِنْ الْأُولَى، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَرْمِيَ إلَيْهَا حَصَاةً ثُمَّ يَرْمِيَ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ لِيَسْقُطَ الْفَرْضُ بِيَقِينٍ.
السَّادِسَةُ: يَنْبَغِي أَنْ يُوَالِيَ بَيْنَ الْحَصَيَاتِ فِي الْجَمْرَةِ الْوَاحِدَةِ وَأَنْ يُوَالِيَ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ، وَهَذِهِ الْمُوَالَاةُ سُنَّةٌ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَطَعَ الْأَكْثَرُونَ وَقِيلَ شَرْطٌ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ.
السَّابِعَةُ: إذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ رَمْيِ يَوْمِ الْقَرِّ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، هَلْ يَتَدَارَكُهُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ؟ أَوْ تَرَكَ رَمْيَ الْيَوْمِ الثَّانِي أَوْ رَمْيَ الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، هَلْ يُتَدَارَكُ فِي الثَّالِثِ مِنْهُ؟ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا الصَّحِيحُ: عِنْدَ الْأَصْحَابِ يُتَدَارَكُ والثاني: نَصُّهُ فِي "الْإِمْلَاءِ" لَا يُتَدَارَكُ فَإِنْ قُلْنَا: لَا يُتَدَارَكُ فِي بَقِيَّةِ الْأَيَّامِ فَهَلْ يُتَدَارَكُ فِي اللَّيْلَةِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَهُ مِنْ لَيَالِي التَّشْرِيقِ؟ إذَا قُلْنَا: بِالْأَصَحِّ إنَّ وَقْتَهُ لَا يَمْتَدُّ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، فِيهِ وَجْهَانِ حَكَاهُمَا الْمُتَوَلِّي وَآخَرُونَ وإن قلنا: بِالتَّدَارُكِ فَتَدَارَكَ فَهَلْ هُوَ أَدَاءٌ أَمْ قَضَاءٌ؟ بِهِ قَوْلَانِ أصحهما: أَدَاءٌ كَمَا فِي حَقِّ أَهْلِ السِّقَايَةِ وَالرُّعَاةِ.
فَإِنْ قُلْنَا: أَدَاءٌ فَجُمْلَةُ أَيَّامِ مِنًى فِي حُكْمِ الْوَقْتِ الْوَاحِدِ، فَكُلُّ يَوْمٍ لِلْقَدْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ وَقْتُ اخْتِيَارٍ، كَأَوْقَاتِ اخْتِيَارِ الصَّلَوَاتِ، وَيَجُوزُ تَقْدِيمُ رَمْيِ يَوْمِ التَّدَارُكِ عَلَى الزَّوَالِ. وَنَقَلَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ أَنَّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَمْتَنِعُ تَقْدِيمُ رَمْيِ يَوْمٍ إلَى يَوْمٍ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: لَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ وَقْتَهُ يَتَّسِعُ

 

ج / 8 ص -131-       مِنْ جِهَةِ الْآخِرِ دُونَ الْأَوَّلِ، وَلَا يَجُوزُ التَّقْدِيمُ عَلَى كَلَامِ الرَّافِعِيِّ وَهُوَ كَمَا قَالَ، فَالصَّوَابُ الْجَزْمُ بِمَنْعِ التَّقْدِيمِ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ تَصْرِيحًا وَمَفْهُومًا.
وَإِذَا قُلْنَا إنَّهُ قَضَاءٌ فَتَوْزِيعُ الْأَقْدَارِ الْمُعَيَّنَةِ عَلَى الْأَيَّامِ مُسْتَحَقٌّ وَلَا سَبِيلَ إلَى تَقْدِيمِ رَمْيِ يَوْمٍ إلَى يَوْمٍ وَلَا تَقْدِيمِهِ عَلَى الزَّوَالِ. وَهَلْ يَجُوزُ بِاللَّيْلِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: الْجَوَازُ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَا يَتَأَقَّتْ والثاني: لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الرَّمْيَ عِبَادَةُ النَّهَارِ كَالصَّوْمِ، وَهَلْ يَجِبُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الرَّمْيِ الْمَتْرُوكِ وَرَمْيِ يَوْمِ التَّدَارُكِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَكَاهُمَا وَجْهَيْنِ أصحهما: نَعَمْ كَالتَّرْتِيبِ فِي الْمَكَانِ، وَهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى أَنَّ التَّدَارُكَ قَضَاءٌ أَمْ أَدَاءٌ إنْ قُلْنَا: أَدَاءٌ وَجَبَ التَّرْتِيبُ وَإِلَّا فَلَا، فَإِنْ لَمْ نُوجِبْ التَّرْتِيبَ فَهَلْ يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْعُذْرِ كَالرُّعَاةِ وَأَهْلِ السِّقَايَةِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ. قَالَ الْمُتَوَلِّي: نَظِيرُهُ إنْ فَاتَتْهُ الظُّهْرُ لَا يَلْزَمُهُ التَّرْتِيبُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعَصْرِ، وَلَوْ أَخَّرَهَا لِلْجَمْعِ فَوَجْهَانِ، وَلَوْ رَمَى إلَى الْجَمَرَاتِ كُلِّهَا عَنْ يَوْمٍ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ إلَيْهَا عَنْ أَمْسِهِ أَجْزَأَهُ إنْ لَمْ نُوجِبْ التَّرْتِيبَ، فَإِنْ أَوْجَبْنَاهُ فَوَجْهَانِ أصحهما: يُجْزِئُهُ وَيَقَعُ عَنْ الْقَضَاءِ والثاني: لَا يُجْزِئُهُ أَصْلًا.
قَالَ الْإِمَامُ: وَلَوْ صُرِفَ الرَّمْيُ إلَى غَيْرِ النُّسُكِ بِأَنْ رَمَى إلَى شَخْصٍ أَوْ دَابَّةٍ فِي الْجَمْرَةِ فَفِي انْصِرَافِهِ عَنْ النُّسُكِ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي صَرْفِ الطَّوَافِ، وَالْأَصَحُّ الِانْصِرَافُ، فَإِنْ لَمْ يَنْصَرِفْ وَقَعَ عَنْ أَمْسِهِ وَلَغَا قَصْدُهُ، وَإِنْ انْصَرَفَ - فَإِنْ لَمْ يَنْصَرِفْ وَقَعَ عَنْ أَمْسِهِ وَلَغَا قَصْدُهُ، وَإِنْ انْصَرَفَ - فَإِنْ شَرْطَنَا التَّرْتِيبَ - لَمْ يُجْزِهِ أَصْلًا، وَإِنْ لَمْ نَشْتَرِطْ أَجْزَأَهُ عَنْ يَوْمِهِ. وَلَوْ رَمَى إلَى كُلِّ جَمْرَةٍ أَرْبَعَ عَشْرَةَ حَصَاةً سَبْعًا عَنْ يَوْمِهِ وَسَبْعًا عَنْ أَمْسِهِ جَازَ إنْ لَمْ نَشْتَرِطْ التَّرْتِيبَ، وَإِنْ شَرَطْنَاهُ لَمْ يَجُزْ، وَهُوَ نَصُّهُ فِي "الْمُخْتَصَرِ". هَذَا كُلُّهُ فِي رَمْيِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. أَمَّا إذَا تَرَكَ رَمْيَ يَوْمِ النَّحْرِ فَفِي تَدَارُكِهِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ طَرِيقَانِ أصحهما: أَنَّهُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ والثاني: الْقَطْعُ بِعَدَمِ التَّدَارُكِ لِلْمُغَايَرَةِ بَيْنَ الرَّمْيَيْنِ قَدْرًا وَوَقْتًا وَحُكْمًا. فَإِنَّ رَمْيَ يَوْمِ النَّحْرِ يُؤَثِّرُ فِي التَّحَلُّلِ بِخِلَافِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
فرع: لَوْ تَرَكَ رَمْيَ بَعْضِ الْأَيَّامِ وَقُلْنَا يَتَدَارَكُ فَتَدَارَكَ فَلَا دَمَ عَلَى الْمَذْهَبِ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَفِيهِ قَوْلٌ ضَعِيفٌ حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ أَنَّهُ يَجِبُ دَمٌ مَعَ التَّدَارُكِ كَمَنْ أَخَّرَ قَضَاءَ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ آخَرُ، فَإِنَّهُ يَقْضِيهِ وَيَفْدِي. وَلَوْ نَفَرَ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ يَوْمَ النَّفْرِ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ ثُمَّ عَادَ وَرَمَى قَبْلَ الْغُرُوبِ أَجْزَأَهُ وَلَا دَمَ، وَلَوْ فُرِضَ ذَلِكَ يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَكَذَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَفِيهِ وَجْهٍ ضَعِيفٍ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الدَّمُ، لِأَنَّ النَّفْرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ جَائِزٌ فِي الْجُمْلَةِ، فَإِذَا نَفَرَ فِيهِ خَرَجَ عَنْ الْحَجِّ فَلَا يَسْقُطُ الدَّمُ بِعَوْدِهِ، وَحَيْثُ قُلْنَا: لَا يَتَدَارَكُ أَوْ قُلْنَا بِهِ فَلَمْ يَتَدَارَكْ وَجَبَ الدَّمُ، وَكَمْ قَدْرُهُ؟ فِيهِ صُوَرٌ. فَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ - وَالصُّورَةُ فِيمَنْ تَوَجَّهَ عَلَيْهِ رَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ التَّشْرِيقِ - فَفِيمَا يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ.
أحدها: دَمٌ والثاني: دَمَانِ وَالثَّالِثُ: أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ، وَدَلِيلُهَا فِي الْكِتَابِ وَهَذَا الثَّالِثُ أَظْهَرُهَا عِنْدُ الْبَغَوِيِّ قَالَ الرَّافِعِيُّ: لَكِنَّ مُقْتَضَى كَلَامِ الْجُمْهُورِ تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ. وَحَكَى الدَّارِمِيُّ عَنْ حِكَايَةِ ابْنِ الْقَطَّانِ وَجْهًا أَنَّهُ يَجِبُ عَشَرَةُ دِمَاءٍ يَجْعَلُ كُلَّ جَمْرَةٍ مُفْرَدَةٍ، وَهَذَا شَاذٌّ بَاطِلٌ. وَلَوْ تَرَكَ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ رَمْيَ يَوْمٍ مِنْ التَّشْرِيقِ وَجَبَ دَمٌ.

 

ج / 8 ص -132-       وَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ بَعْضِ التَّشْرِيقِ فَطَرِيقَانِ أحدهما: الْجَمَرَاتُ الثَّلَاثُ كَالشَّعَرَاتِ الثَّلَاثِ فَلَا يُكْمِلُ الدَّمَ فِي بَعْضِهَا، بَلْ إنْ تَرَكَ جَمْرَةً فَفِيهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ الْمَشْهُورَةُ فِيمَنْ حَلَقَ شَعْرَةً أَظْهَرُهَا: مُدٌّ والثاني: دِرْهَمٌ وَالثَّالِثُ: ثُلُثُ دَمٍ. وَإِنْ تَرَكَ جَمْرَتَيْنِ فَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ. وَعَلَى هَذَا لَوْ تَرَكَ حَصَاةً مِنْ جَمْرَةٍ قَالَ صَاحِبُ "التَّقْرِيبِ" إنْ قُلْنَا: فِي الْجَمْرَةِ ثُلُثُ دَمٍ فَفِي الْحَصَاةِ جُزْءٌ مِنْ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا مِنْ دَمٍ وإن قلنا: فِي الْجَمْرَةِ مُدٌّ أَوْ دِرْهَمٌ قَالَ الرَّافِعِيُّ: فَيَحْتَمِلُ أَنْ نُوجِبَ سُبْعَ مُدٍّ أَوْ سُبْعَ دِرْهَمٍ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا نُبَعِّضَهُمَا.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: تَكْمِيلُ الدَّمِ فِي وَظِيفَةِ الْجَمْرَةِ الْوَاحِدَةِ، كَمَا يَكْمُلُ فِي جَمْرَةِ النَّحْرِ فِي الْحَصَاةِ وَالْحَصَاتَيْنِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ، هَذَا فِي الْحَصَاةِ وَالْحَصَاتَيْنِ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
فَأَمَّا إذَا تَرَكَهَا مِنْ الْجَمْرَةِ الْآخِرَةِ يَوْمَ الْقَرِّ أَوْ النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَنْفِرْ فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ بَيْنَ التَّدَارُكِ وَرَمْيِ الْوَقْتِ صَحَّ رَمْيُهُ. لَكِنْ تَرْكُ حَصَاةٍ فَفِيهِ الْخِلَافُ1 وَإِنْ أَوْجَبْنَا التَّرْتِيبَ فَفِيهِ الْخِلَافُ السَّابِقُ فِي أَنَّ الرَّمْيَ بِنِيَّةِ الْيَوْمِ هَلْ يَقَعُ عَنْ الْمَاضِي؟ إنْ قُلْنَا: نَعَمْ تَمَّ الْمَتْرُوكُ بِمَا أَتَى بِهِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي بَعْدَهُ، لَكِنْ يَكُونُ تَارِكًا لِلْجَمْرَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وإن قلنا: لَا، كَانَ تَارِكًا رَمْيَ حَصَاةٍ وَوَظِيفَةِ يَوْمٍ، فَعَلَيْهِ دَمٌ إنْ لَمْ نُفْرِدْ كُلَّ يَوْمٍ بِدَمٍ، وَإِنْ أَفْرَدْنَا فَعَلَيْهِ لِوَظِيفَةِ الْيَوْمِ دَمٌ، وَفِيمَا يَجِبُ لِتَرْكِ الْحَصَاةِ الْخِلَافُ، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ إحْدَى الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ أَيِّ يَوْمٍ كَانَ فَعَلَيْهِ دَمٌ، لِأَنَّ مَا بَعْدَهَا غَيْرُ صَحِيحٍ لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ فِي الْمَكَانِ، هَذَا كُلُّهُ إذَا تَرَكَ بَعْضَ يَوْمٍ مِنْ التَّشْرِيقِ، فَإِنْ تَرَكَ بَعْضَ رَمْيِ النَّحْرِ فَقَدْ أَلْحَقهُ الْبَغَوِيّ بِمَا إذَا تَرَكَ مِنْ الْجَمْرَةِ الْآخِرَةِ مِنْ الْيَوْمِ الْآخِرِ. وَقَالَ الْمُتَوَلِّي: يَلْزَمُهُ دَمٌ وَلَوْ تَرَكَ حَصَاةً فَقَطْ لِأَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ، فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْهَا لَمْ يَتَحَلَّلْ إلَّا بِبَدَلٍ كَامِلٍ. وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجْهًا غَرِيبًا ضَعِيفًا أَنَّ الدَّمَ يَكْمُلُ فِي حَصَاةٍ وَاحِدَةٍ مُطْلَقًا وَحَكَاهُ الدَّارِمِيُّ، وَهُوَ شَاذٌّ مَتْرُوكٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُتَوَلِّي: لَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ مِنْ جُمْلَةِ الْأَيَّامِ لَمْ يَعْلَمْ مَوْضِعَهَا أَخَذَ بِالْأَسْوَأِ، وَهُوَ أَنَّهُ تَرَكَ حَصَاةً مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ وَحَصَاةً مِنْ الْجَمْرَةِ الْأُولَى يَوْمَ الْقَرِّ وَحَصَاةً مِنْ الْجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ لَمْ يَحْسِبْ مَا يَرْمِيهِ بِنِيَّةِ وَظِيفَةِ الْيَوْمِ عَنْ الْفَائِتِ فَالْحَاصِلُ سِتُّ حَصَيَاتٍ مِنْ رَمْيِ يَوْمِ النَّحْرِ، سَوَاءٌ شَرَطْنَا التَّرْتِيبَ بَيْنَ التَّدَارُكِ وَرَمْيِ الْوَقْتِ أَمْ لَا، وَإِنْ حَسِبْنَاهُ فَالْحَاصِلُ رَمْيُ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَحَدِ أَيَّامٍ التَّشْرِيقِ لَا غَيْرُ، سَوَاءٌ شَرَطْنَا التَّرْتِيبَ أَمْ لَا، وَدَلِيلُهُ يُعْرَفُ مِمَّا سَبَقَ مِنْ الْأُصُولِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ رَمْيُهُ فِي الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ التَّشْرِيقِ مَاشِيًا، وَأَنْ يَكُونَ رَاكِبًا فِي الْيَوْمِ الْآخِرِ فَيَرْمِي بَعْدَ الزَّوَالِ، وَقَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ رَاكِبًا، وَيَنْفِرُ عَقِبَ الرَّمْيِ، كَمَا أَنَّهُ يَرْمِي يَوْمَ النَّحْرِ رَاكِبًا ثُمَّ يَنْزِلُ، هَكَذَا قَالَهُ جَمَاهِيرُ الْأَصْحَابِ فِي كُلِّ الطُّرُقِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل، والخلاف في وجوب الترتيب أو عدم الوجوب في التدارك والوقت أذا قلنا بالناء المرة.

 

ج / 8 ص -133-       "الْإِمْلَاءِ". وَشَذَّ الْمُتَوَلِّي عَنْ الْأَصْحَابِ فَحَكَى عَنْ نَصِّ الشَّافِعِيِّ فِي "الْإِمْلَاءِ" مَا ذَكَرْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَرْمِي مَاشِيًا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَةِ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّهُ كَانَ يَأْتِي الْجِمَارَ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ مَاشِيًا ذَاهِبًا وَرَاجِعًا، وَيُخْبِرُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ الْعُمَرِيَّ ضَعِيفٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَإِنَّمَا الصَّحِيحُ مِنْ هَذَا رِوَايَةُ ابْنِ عُمَرَ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا رَمَى الْجِمَارَ مَشَى إلَيْهِ ذَاهِبًا وَرَاجِعًا" رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ عَلَى شَرْطِ الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَا يَفْتَقِرُ الرَّمْيُ إلَى نِيَّةٍ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَفِيهِ وَجْهٌ حَكَاهُ الدَّارِمِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُمَا، وَقَدْ سَبَقَ فِي فَصْلِ طَوَافِ الْقُدُومِ عِنْدَ ذِكْرِ نِيَّةِ الطَّوَافِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ فِي النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ أَعْمَالِ الْحَجِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي الْحِكْمَةِ فِي الرَّمْيِ، قَالَ الْعُلَمَاءُ: أَصْلُ الْعِبَادَةِ الطَّاعَةُ وَكُلُّ عِبَادَةٍ فَلَهَا مَعْنًى قَطْعًا لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا يَأْمُرُ بِالْعَبَثِ ثُمَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ قَدْ يَفْهَمُهُ الْمُكَلَّفُ وَقَدْ لَا يَفْهَمُهُ فَالْحِكْمَةُ فِي الصَّلَاةِ التَّوَاضُعُ وَالْخُضُوعُ وَإِظْهَارُ الِافْتِقَارِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْحِكْمَةُ فِي الصَّوْمِ كَسْرُ النَّفْسِ وَقَمْعُ الشَّهَوَاتِ، وَالْحِكْمَةُ فِي الزَّكَاةِ مُوَاسَاةُ الْمُحْتَاجِ، وَفِي الْحَجِّ إقْبَالُ الْعَبْدِ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ إلَى بَيْتٍ فَضَّلَهُ اللَّهُ، كَإِقْبَالِ الْعَبْدِ إلَى مَوْلَاهُ ذَلِيلًا وَمِنْ الْعِبَادَاتِ الَّتِي لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهَا السَّعْيُ وَالرَّمْيُ فَكُلِّفَ الْعَبْدُ بِهِمَا لِيَتِمَّ انْقِيَادُهُ، فَإِنَّ هَذَا النَّوْعَ لَا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِيهِ وَلَا1 لِلْعَقْلِ بِهِ، وَلَا يَحْمِلُ عَلَيْهِ إلَّا مُجَرَّدُ امْتِثَالِ الْأَمْرِ وَكَمَالُ الِانْقِيَادِ، فَهَذِهِ إشَارَةٌ مُخْتَصَرَةٌ تُعْرَفُ بِهَا الْحِكْمَةُ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ2، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَاخِرِ فَصْلِ طَوَافِ الْقُدُومِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْخَامِسَةِ حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيِ الْجِمَارِ3، لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ"

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بياض بالأصل فحرر، قلت: ويحتمل أن يكون البياض (ولا إذعان للعقل به) والله أعلم.
2 رأيت في منى الكثرة الكاثرة من الأمم جاءت من شتى الآفاق في أعداد غير محصورة تقيم في أماكن محدودة ثم تقبل على الرمي بعد الزوال وهنا يكون الزمن محدودا والناس من الكثرة والزحام بحيث لا يعدون ولا يحدون، وقد رأيت بعضهم تنزلق قدمه وهو يرمي فيهوى تحت الأقدام حيث يلقي حتفه والمملكة العربية السعودية صانها الله وعلى رأسها الملك الشهم الغيور حامي حمى الحرمين الشريفين والذاب عن حياض الإسلام والمسلمين فيصل بن عبد العزيز قد أجرت حكومته توسعة كبيرة في منى حيث فتقت من الجبال والصخور وعبدت من الشعاب والهضاب ما يعجز الجن عن مثله ومع ذلك فمكان الرمي محدود ووقت الرمي بعد الزوال وقد جاء في وجه للرفاعي من أصحابنا نقله ابن حجر في "التحفة" وسعيد باعشن في كتاب "بشرى الكريم" أن الرمي يجوز قبل الزوال إذا لجأت إليه الضرورة وهو وجه شاذ ضعيف بلا شك ويزول عنه شذوذه وضعفه إذا كان فيه وقاية للمسلمين من العطب وتمكين لهم من أداء مناسكهم إذ التوسع في الزمان والمكان لا محيص عنهما إذ لم يرد نهي عنه صحيح صريح والله تعالى أعلم بالصواب (ط).
3 مر قول النووي في تضعيف الحديث في الطواف وقد دفع هذا التضعيف الشيخ محمد الأمين الجكني الشنقيطي في تفسيره "أضواء البيان" بقوله في الجزء الخامس ص 316: عبد الله بن أبي زياد المذكور هو =

 

ج / 8 ص -134-       وَرَوَيْنَا فِي "سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ" وَغَيْرِهِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَتَى الْمَنَاسِكَ عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ عَرَضَ لَهُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الثَّانِيَةِ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ عَرَضَ لَهُ فِي الثَّالِثَةِ فَرَمَاهُ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ حَتَّى سَاخَ فِي الْأَرْضِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الشَّيْطَانَ تَرْجُمُونَ وَمَكَّةَ بَيْنَكُمْ تَبْتَغُونَ".
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَمَنْ عَجَزَ عَنْ الرَّمْيِ بِنَفْسِهِ لِمَرَضٍ مَأْيُوسٍ مِنْهُ أَوْ غَيْرِ مَأْيُوسٍ، جَازَ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَرْمِي عَنْهُ، لِأَنَّ وَقْتَهُ مَضِيقٌ، وَرُبَّمَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَرْمِيَ بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمَأْيُوسِ أَنْ يَسْتَنِيبَ لِأَنَّهُ قَدْ يَبْرَأُ فَيُؤَدِّيهِ بِنَفْسِهِ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَضَعَ كُلَّ حَصَاةٍ فِي يَدِ النَّائِبِ وَيُكَبِّرَ، وَيَرْمِي النَّائِبُ، فَإِنْ رَمَى عَنْهُ النَّائِبُ ثُمَّ بَرِئَ مِنْ الْمَرَضِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يُعِيدَ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَرَمَى عَنْهُ غَيْرُهُ فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ يُجْزِهِ، وَإِنْ كَانَ [قَدْ] أَذِنَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يُغْمَى عَلَيْهِ جَازَ.
الشرح:
فِيهِ مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ رحمهم الله: الْعَاجِزُ عَنْ الرَّمْيِ بِنَفْسِهِ لِمَرَضٍ أَوْ حَبْسٍ وَنَحْوِهِمَا يَسْتَنِيبُ مَنْ يَرْمِي عَنْهُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَرَضُ مَرْجُوَّ الزَّوَالِ أَوْ غَيْرَهُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَسَوَاءٌ اسْتَنَابَ بِأُجْرَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ اسْتَنَابَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً. قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُنَاوِلَ النَّائِبَ الْحَصَى إنْ قَدَرَ، وَيُكَبِّرُ الْعَاجِزُ، وَيَرْمِي النَّائِبُ، وَلَوْ تَرَكَ الْمُنَاوَلَةَ مَعَ قُدْرَتِهِ صَحَّتْ الِاسْتِنَابَةُ وَأَجْزَأَهُ رَمْيُ النَّائِبِ لِوُجُودِ الْعَجْزِ عَنْ الرَّمْيِ قَالَ أَصْحَابُنَا فِي الطَّرِيقَتَيْنِ: وَيَجُوزُ لِلْمَحْبُوسِ الْمَمْنُوعِ مِنْ الرَّمْيِ الِاسْتِنَابَةُ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ مَحْبُوسًا بِحَقٍّ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَعَلَّلُوهُ بِأَنَّهُ عَاجِزٌ. ثُمَّ إنَّ جُمْهُورَ الْأَصْحَابِ فِي طَرِيقَتَيْ الْعِرَاقِ وَخُرَاسَانَ أَطْلَقُوا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= القداح أبو الحصين المكي وقد وثقه جماعة وضعفه آخرون، وحديثه معناه صحيح بلا شك ويشهد لصحة معنه قوله تعالى:
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] لأنه يدخل في الذكر المأمور به رمي الجمار بدليل قوله بعده: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] الآية. وذلك يدل على أن الرمي شرع لإقامة ذكر الله كما هو واضح ولكن هذه الحكمة إجمالية وقد روى البيهقي رحمه الله في "سننه" عن ابن عباس مرفوعاً قال: "لما أتى إبراهيم خليل الله عليه السلام المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ثم عرض له عند الجمرة الثاني فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (الشيطان ترجمون وملة أبيكم تتبعون) ا هـ من "السنن الكبرى لليبهقي" وقد روى هذا الحديث الحاكم في "المستدرك" مرفوعاً ثم قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وعلى هذا الذي ذكره البيهقي فذكر الله الذي شرع الرمي لإقامته هو الاقتداء بإبراهيم في عداوة الشيطان ورميه وعدم الانقياد إليه والله بقول: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ} [الممتحنة: 4] الآية. فكأن الرمي رمز وإشارة إلى عداوة الشيطان التي أمرنا الله بهما في قوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً} [فاطر: 6] وقوله: منكراً على من والاه {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50] الآية ومعلوم أن الرجم بالحجارة من أكبر مظاهر العداوة
وهنا نقل الجكني الفرع السابق في الرمي الذي ذكره النووي رضي الله عنه.

 

ج / 8 ص -135-       جَوَازَ الِاسْتِنَابَةِ لِلْمَرِيضِ سَوَاءٌ كَانَ مَأْيُوسًا مِنْ بُرْئِهِ أَمْ لَا، وَقَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالرَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ مُتَابِعِي الْإِمَامِ: إنَّمَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ لِعَاجِزٍ بِعِلَّةٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهَا قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِ الرَّمْيِ. قَالُوا: وَلَا يَضُرُّ رَجَاءُ الزَّوَالِ بَعْدَ فَوَاتِ الْوَقْتِ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْإِمَامُ وَمُتَابِعُوهُ مُتَعَيَّنٌ، وَإِطْلَاقُ الْأَصْحَابِ مَحْمُولٌ عَلَيْهِ. وَلَا يَمْنَعُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُمْ فَلَوْ زَالَ الْعَجْزُ فِي أَيَّامِ الرَّمْيِ لَزِمَهُ رَمْيُ مَا بَقِيَ، لِأَنَّهُ قَدْ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ فِي أَيَّامِ الرَّمْيِ ثُمَّ يَزُولُ نَادِرًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: لَوْ أُغْمِيَ عَلَى الْمُحْرِمِ قَبْلَ الرَّمْيِ وَلَمْ يَكُنْ أَذِنَ فِي الرَّمْيِ عَنْهُ لَمْ يَصِحَّ الرَّمْيُ عَنْهُ فِي إغْمَائِهِ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ أَذِنَ فِيهِ جَازَ الرَّمْيُ عَنْهُ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجَمَاهِيرُ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ. وَنَقَلَ الرَّافِعِيُّ فِيهِ وَجْهًا شَاذًّا ضَعِيفًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ. وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ الْجَوَازَ عَنْ الْعِرَاقِيِّينَ فَقَالَ: قَالَ الْعِرَاقِيُّونَ: لَوْ اسْتَنَابَ الْعَاجِزُ عَنْ الرَّمْيِ وَصَحَّحْنَا الِاسْتِنَابَةَ فَأُغْمِيَ عَلَى الْمُسْتَنِيبِ دَامَتْ النِّيَابَةُ وَإِنْ كَانَ مُقْتَضَى الْإِغْمَاءِ الطَّارِئِ عَلَى إذْن انْقِطَاع إذْنه إذَا كَانَ أَصْلُ الْإِذْنِ جَائِزًا لِلْوَكَالَةِ، وَلَكِنْ الْغَرَضُ هُنَا إقَامَةُ النَّائِبِ مَقَامَ الْعَاجِزِ، قَالَ: وَمَا ذَكَرُوهُ مُحْتَمَلٌ جِدًّا وَلَا يَمْتَنِعُ خِلَافُهُ.
قَالَ: وَقَدْ قَالُوا: لَوْ اسْتَنَابَ الْمَعْضُوبُ فِي حَيَاتِهِ مَنْ يَحُجُّ عَنْهُ ثُمَّ مَاتَ الْمَعْضُوبُ لَمْ تَنْقَطِعْ الِاسْتِنَابَةُ. هَكَذَا ذَكَرُوهُ فِي الْإِذْنِ الْمُجَرَّدِ، وَهُوَ بَعِيدٌ، وَلَكِنْ لَوْ فُرِضَ فِي الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ تَبْقَى وَلَا تَنْقَطِعُ، لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ عَنْ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ مُمْكِنٌ فَلَا مُنَافَاةَ. وَقَدْ اسْتَحَقَّ مَنْفَعَةَ الْأَجِيرِ، قَالَ: وَاَلَّذِي ذَكَرُوهُ فِي الْإِذْنِ جَائِزٌ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ فِي الْإِغْمَاءِ بَعِيدٌ فِي الْمَوْتِ، هَذَا كَلَامُ الْإِمَامِ.
ثُمَّ إنَّ الْأَصْحَابَ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ أَطْلَقُوا أَنَّهُ إذَا اسْتَنَابَ قَبْلَ الْإِغْمَاءِ جَازَ رَمْيُ النَّائِبِ عَنْهُ فِي الْإِغْمَاءِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: إنْ كَانَ حِينَ أَذِنَ مُطِيقًا لِلرَّمْيِ لَمْ يَصِحَّ الرَّمْيُ عَنْهُ فِي الْإِغْمَاءِ لِأَنَّ الْمُطِيقَ لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ عَنْهُ فَلَمْ يَصِحَّ إذْنُهُ، وَإِنْ كَانَ حِينَ الْإِذْنِ عَاجِزًا بِأَنْ كَانَ مَرِيضًا فَأَذِنَ ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ صَحَّتْ النِّيَابَةُ، وَصَحَّ رَمْيُ النَّائِبِ. هَذَا كَلَامُ الْمَاوَرْدِيُّ، وَنَقَلَهُ الرُّويَانِيُّ فِي الْبَحْرِ عَنْ الْأَصْحَابِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ أَبُو عَلِيٍّ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَآخَرُونَ. وَفِي كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ الَّذِي حَكَيْته عَنْهُ الْآنَ مُوَافَقَتُهُ، فَلْيُحْمَلْ إطْلَاقُ الْأَصْحَابِ عَلَى مَنْ اسْتَنَابَ فِي حَالِ الْعَجْزِ ثُمَّ أُغْمِيَ عَلَيْهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ فِي حَالِ إغْمَائِهِ لَمْ يَصِحَّ إذْنُهُ، وَإِنْ رُمِيَ عَنْهُ بِذَلِكَ الْإِذْنِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ إذْنَهُ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّ إذْنَهُ سَاقِطٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَجْنُونُ كَالْمَغْمِيِّ عَلَيْهِ فِي كُلِّ هَذَا، صَرَّحَ بِهِ الْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُ.
فرع: اسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا عَلَى جَوَازِ الِاسْتِنَابَةِ فِي الرَّمْيِ بِالْقِيَاسِ عَلَى الِاسْتِنَابَةِ فِي أَصْلِ الْحَجِّ. قَالُوا: وَالرَّمْيُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَنِيبَ الْعَاجِزُ حَلَالًا أَوْ مَنْ قَدْ رَمَى عَنْ نَفْسِهِ فَإِنْ اسْتَنَابَ مَنْ لَمْ يَرْمِ عَنْ نَفْسِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَرْمِيَ النَّائِبُ عَنْ نَفْسِهِ، ثُمَّ عَنْ الْمُسْتَنِيبِ فَيُجَزِّئُهُمَا الرَّامِيَانِ بِلَا خِلَافٍ، فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى رَمْيِ وَاحِدٍ وَقَعَ عَنْ الرَّامِي لَا عَنْ الْمُسْتَنِيبِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالرُّويَانِيُّ: إذَا رَمَى النَّائِبُ عَنْ الْمُسْتَنِيبِ ثُمَّ عَنْ نَفْسِهِ رَمْيًا آخَرَ أَجْزَأَهُ الرَّمْيُ عَنْ

 

ج / 8 ص -136-       نَفْسِهِ، وَفِي الرَّمْيِ الْمَحْسُوبِ عَنْ نَفْسِهِ وَجْهَانِ أحدهما: أَنَّهُ الرَّمْيُ الثَّانِي، لِأَنَّهُ الَّذِي قَصَدَهُ عَنْ نَفْسِهِ والثاني: الْأَوَّلُ، لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ نُسُكٌ إذَا فَعَلَهُ عَنْ غَيْرِهِ وَقَعَ عَنْ نَفْسِهِ كَأَصْلِ الْحَجِّ وَالطَّوَافِ. قَالَا: وَفِي رَمْيِهِ عَنْ الْمُسْتَنِيبِ وَجْهَانِ.
أحدهما: لَا يُجْزِئُهُ عَنْهُ، لِأَنَّا إنْ جَعَلْنَا الرَّمْيَ الْأَوَّلَ عَنْ النَّائِبِ فَلَمْ يَقْصِدْ بِالثَّانِي، وَإِنْ جَعَلْنَا الثَّانِي عَنْ النَّائِبِ فَقَدْ رَمَى عَنْ غَيْرِهِ قَبْلَ الرَّمْيِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَصِحُّ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُجْزِئُ الرَّمْيُ عَنْ الْمَرِيضِ، لِأَنَّ الْمَرِيضَ أَخَفُّ مِنْ أَصْلِ الْحَجِّ وَأَرْكَانِهِ، فَجَازَ فِعْلُهُ عَنْ غَيْرِهِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى نَفْسِهِ.
فرع: إذَا رَمَى النَّائِبُ ثُمَّ زَالَ عُذْرُ الْمُسْتَنِيبِ وَأَيَّامُ الرَّمْيِ بَاقِيَةٌ فَطَرِيقَانِ أصحهما: وَهُوَ الْمَنْصُوصُ وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ لَا يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الرَّمْيِ بِنَفْسِهِ لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَلْزَمْهُ لِأَنَّ رَمْيَ النَّائِبِ وَقَعَ عَنْهُ فَسَقَطَ بِهِ الْفَرْضُ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الرَّمْيَةِ بِنَفْسِهِ وَلَا يُجْزِئُهُ فِعْلُ النَّائِبِ والثاني: لَا يَلْزَمُهُ. قَالُوا: وَهُمَا كَالْقَوْلَيْنِ فِي الْمَعْضُوبِ إذَا أَحَجَّ عَنْهُ ثُمَّ بَرِئَ. وَمِمَّنْ حَكَى هَذَا الطَّرِيقَ وَجَزَمَ بِهِ الْفُورَانِيُّ وَالْبَغَوِيُّ وَوَالِدُهُ وَصَاحِبُ "الْبَحْرِ" وَحَكَاهُ أَيْضًا طَائِفَةٌ وَضَعَّفَتْهُ. ثُمَّ إنَّ الْخِلَافَ فِي الرَّمْيِ الَّذِي فَعَلَهُ النَّائِبُ قَبْلَ زَوَالِ الْعُذْرِ. أَمَّا الرَّمْيُ الَّذِي يُدْرِكُهُ الْمُسْتَنِيبُ بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ فَيَلْزَمُهُ فِعْلُهُ بِلَا خِلَافٍ صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْأَصْحَابُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيَبِيتُ بِمِنًى لَيَالِي الرَّمْيِ "لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَعَلَ ذَلِكَ" وَهَلْ يَجِبُ ذَلِكَ أَوْ يُسْتَحَبُّ؟ فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِأَنَّهُ مَبِيتٌ فَلَمْ يَجِبْ كَالْمَبِيتِ لَيْلَةِ عَرَفَةَ والثاني: أَنَّهُ يَجِبُ: "لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِلْعَبَّاسِ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ لِأَجْلِ السِّقَايَةِ" فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ تَرْكُهُ. فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَمْ يَجِبْ بِتَرْكِهِ دَمٌ. وَإِنْ قُلْنَا: يَجِبُ، وَجَبَ بِتَرْكِهِ الدَّمُ، فَعَلَى هَذَا إذَا تَرَكَ الْمَبِيتَ فِي اللَّيَالِي الثَّلَاثِ وَجَبَ دَمٌ، وَإِنْ تَرَكَ لَيْلَةً فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْحَصَاةِ وَيَجُوزُ لِرُعَاةِ الْإِبِلِ وَأَهْلِ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ رضي الله عنه أَنْ يَدَعُوا الْمَبِيتَ لَيَالِي مِنًى وَيَرْمُوا يَوْمًا وَيَدَعُوا يَوْمًا ثُمَّ يَرْمُوا مَا فَاتَهُمْ "وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ" مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَرْخَصَ لِلْعَبَّاسِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِي مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ" وَرَوَى عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِرِعَاءِ الْإِبِلِ فِي تَرْكِ الْبَيْتُوتَةِ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ" فَإِنْ أَقَامَ الرُّعَاةُ إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ. وَإِنْ أَقَامَ أَهْلُ السِّقَايَةِ إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ جَازَ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ، لِأَنَّ حَاجَةَ أَهْلِ السِّقَايَةِ بِاللَّيْلِ مَوْجُودَةٌ، وَحَاجَةَ الرُّعَاةِ لَا تُوجَدُ بِاللَّيْلِ، لِأَنَّ الرَّعْيَ لَا يَكُونُ بِاللَّيْلِ وَمَنْ أَبَقَ لَهُ عَبْدٌ وَمَضَى فِي طَلَبِهِ أَوْ خَافَ أَمْرًا يَفُوتُهُ، فَفِيهِ وَجْهَانِ أحدهما: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ مَا يَجُوزُ لِلرُّعَاةِ وَأَهْلِ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ: "لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ لِلرَّعْيِ وَأَهْلِ السِّقَايَةِ"والثاني: أَنَّهُ يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ عُذْرٍ. فَأَشْبَهَ الرُّعَاةَ وَأَهْلَ السِّقَايَةِ.
الشرح: أَمَّا حَدِيثُ مَبِيتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمِنًى لَيَالِي التَّشْرِيقِ فَصَحِيحٌ مَشْهُورٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَصَحِيحٌ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ "
اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ

 

ج / 8 ص -137-       يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِي مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ فَأَذِنَ لَهُ" وَفِي رِوَايَةٍ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "رَخَّصَ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِي مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ". وَأَمَّا حَدِيثِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ فَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمْ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَأَمَّا أَلْفَاظُ الْفَصْلِ: فَالسِّقَايَةُ - بِكَسْرِ السِّينِ - وَهِيَ مَوْضِعٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ يُسْتَقَى فِيهِ الْمَاءُ وَيُجْعَلُ فِي حِيَاضٍ وَيُسْبَلُ لِلشَّارِبِينَ، وَكَانَتْ السِّقَايَةُ فِي يَدِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابٍ ثُمَّ وَرِثَهَا مِنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ مَنَافٍ، ثُمَّ مِنْهُ ابْنُهُ هَاشِمٌ، ثُمَّ مِنْهُ ابْنُهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ مِنْهُ الْعَبَّاسُ رضي الله عنه، ثُمَّ مِنْهُ عَبْدُ اللَّهِ، ثُمَّ مِنْهُ ابْنُهُ عَلِيٌّ، ثُمَّ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ، وَقَدْ بَسَطْتُ بَيَانَهَا شَافِيًا فِي "تَهْذِيبِ اللُّغَاتِ"
قَوْلُهُ: "رِعَاءُ الْإِبِلِ" هُوَ بِكَسْرِ الرَّاءِ وَبِالْمَدِّ، جَمْعُ رَاعٍ كَصَاحِبٍ وَصِحَابٍ، وَيَجُوزُ رُعَاةٌ - بِضَمِّ الرَّاءِ وَهَاءٍ بَعْدَ الْأَلِفِ - بِغَيْرِ مَدٍّ، كَقَاضٍ وَقُضَاةٍ. قَوْلُهُ: "وَمَنْ أَبَقَ لَهُ عَبْدٌ" يَجُوزُ فِيهِ فَتْحُ الْبَاءِ وَكَسْرُهَا، لُغَتَانِ كَضَرَبَ وَشَرِبَ، وَالْأَوَّلُ أَفْصَحُ وَبِهَا جَاءَ الْقُرْآنُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{إِذْ أَبَقَ} [الصافات: 140] وَيَجُوزُ لِعَبْدِ آبِق بِمَدِّ الْأَلِفِ وَكَسْرِ الْبَاءِ.
أما الأحكام: فَفِيهَا مَسَائِلُ مُخْتَصَرُهَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَبِيتَ بِمِنًى لَيَالِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ وَهَلْ الْمَبِيتُ بِهَا وَاجِبٌ أَمْ سُنَّةٌ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ أَصَحُّهُمَا وَأَشْهَرُهُمَا: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ فِيهِ قَوْلَانِ أصحهما: وَاجِبٌ والثاني: سُنَّةٌ، وَدَلِيلُهُمَا فِي الْكِتَابِ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: سُنَّةٌ قَوْلًا وَاحِدًا. حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ، فَإِنْ تَرَكَ الْمَبِيتَ جَبَرَهُ بِدَمٍ بِلَا خِلَافٍ.
فَإِنْ قُلْنَا: الْمَبِيتُ وَاجِبٌ كَانَ الدَّمُ وَاجِبًا، وَإِنْ قُلْنَا سُنَّةٌ فَسَنَةٌ. وَيُؤْمَرُ بِالْمَبِيتِ فِي اللَّيَالِي الثَّلَاثِ، إلَّا أَنَّهُ إذَا نَفَرَ النَّفْرَ الْأَوَّلَ سَقَطَ مَبِيتُ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ. وَالْأَكْمَلُ أَنْ يَبِيتَ بِهَا كُلَّ اللَّيْلِ. وَفِي قَدْرِ الْوَاجِبِ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا صَاحِبُ "التَّقْرِيبِ" وَالشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْجُوَيْنِيُّ وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَمُتَابِعُوهُ أصحهما: مُعْظَمُ اللَّيْلِ والثاني: الْمُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا بِهَا عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي.
وَأَمَّا قَدْرُ الْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَحُكْمُهُ فَسَبَقَ بَيَانُهُ، فَإِنْ تَرَكَ مَبِيتَ لَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ وَحْدَهَا جَبَرَهَا بِدَمٍ كَامِلٍ، وَإِنْ تَرَكَ لَيَالِي التَّشْرِيقِ الثَّلَاثَ لَزِمَهُ دَمٌ فَقَطْ، هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجَمَاهِيرُ. وَحَكَى إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ عَنْ صَاحِبِ "التَّقْرِيبِ" أَنَّهُ حَكَى قَوْلًا غَرِيبًا أَنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ دَمٌ، وَلَيْسَ بِشَيْءٍ، وَإِنْ تَرَكَ إحْدَى اللَّيَالِي الثَّلَاثَ فَثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ مَشْهُورَةٍ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ وَالْأَصْحَابُ كَالْأَقْوَالِ فِي تَرْكِ حَصَاةٍ، وَفِي حَلْقِ شَعْرَةٍ أصحهما: فِي اللَّيْلَةِ مُدٌّ والثاني: دِرْهَمٌ وَالثَّالِثُ: ثُلُثُ دَمٍ.
وَإِنْ تَرَكَ لَيْلَتَيْنِ فَعَلَى الْأَصَحِّ يَجِبُ مُدَّانِ وَعَلَى الثَّانِي دِرْهَمَانِ وَعَلَى الثَّالِثِ ثُلُثَا دَمٍ. وَلَوْ تَرَكَ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ وَلَيَالِي التَّشْرِيقِ كُلِّهَا فَقَوْلَانِ أصحهما: يَجِبُ دَمَانِ دَمٌ لِلَيْلَةِ الْمُزْدَلِفَةِ وَدَمٌ لِلَيَالِي مِنًى والثاني: يَجِبُ دَمٌ وَاحِدٌ لِلَّيَالِيِ الْأَرْبَعِ، هَذَا مَنْ كَانَ بِمِنًى وَقْتَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ وَلَمْ يَبِتْ وَقُلْنَا: تُفْرَدُ لَيْلَةُ الْمُزْدَلِفَةِ بِالدَّمِ فَوَجْهَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ إلَّا لَيْلَتَيْنِ أحدهما: يَلْزَمُهُ مُدَّانِ أَوْ

 

ج / 8 ص -138-       دِرْهَمَانِ أَوْ ثُلُثَا دَمٍ عَلَى حَسَبِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ دَمٌ كَامِلٌ لِتَرْكِهِ جِنْسَ الْمَبِيتِ بِمِنًى، وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَبِهِ قَطَعَ جَمَاعَاتٌ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ جَارِيَانِ فِيمَا لَوْ تَرَكَ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ وَلَيْلَتَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
هَذَا كُلُّهُ فِيمَنْ لَا عُذْرَ لَهُ فِي تَرْكِ الْمَبِيتِ، أَمَّا مَنْ تَرَكَ مَبِيتَ مُزْدَلِفَةَ أَوْ مِنًى لِعُذْرٍ فَلَا دَمَ، وَهُمْ أَصْنَافٌ أحدها: رِعَاءُ الْإِبِلِ وَأَهْلِ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ فَلَهُمْ إذَا رَمَوْا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ أَنْ يَنْفِرُوا وَيَدَعُوا الْمَبِيتَ بِمِنًى لَيَالِي التَّشْرِيقِ، وَلِلصِّنْفَيْنِ جَمِيعًا أَنْ يَدَعُوا رَمْيَ يَوْمِ الْقَرِّ وَهُوَ الْأَوَّلُ مِنْ التَّشْرِيقِ، وَيَقْضُوهُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَلِيهِ قَبْلَ رَمْيِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَلَيْسَ لَهُمْ تَرْكُ يَوْمَيْنِ مُتَوَالِيَيْنِ، فَإِنْ تَرَكُوا رَمْيَ الْيَوْمَ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِأَنْ نَفَرُوا الْيَوْمَ الْأَوَّلَ بَعْدَ الرَّمْيِ عَادُوا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَإِنْ تَرَكُوا رَمْيَ الْأَوَّلَ بِأَنْ نَفَرُوا يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ عَادُوا فِي الثَّانِي، ثُمَّ لَهُمْ أَنْ يَنْفِرُوا مَعَ النَّاسِ. هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ. وَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَالرِّعَاءُ بِمِنًى لَزِمَهُمْ الْمَبِيتُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَرَمْيُ الْغَدِ، وَيَجُوزُ لِأَهْلِ السِّقَايَةِ أَنْ يَنْفِرُوا بَعْدَ الْغُرُوبِ عَلَى الصَّحِيحِ، لِأَنَّ عَمَلَهُمْ بِاللَّيْلِ بِخِلَافِ الرَّعْيِ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُمْ ذَلِكَ، حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ، وَهَذَا الْوَجْهُ غَلَطٌ مُخَالِفٌ لِنَصِّ الشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ، بَلْ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ السَّابِقِ.
وَقَالَ أَصْحَابُنَا. وَرُخْصَةُ السِّقَايَةِ لَا تَخْتَصُّ بِالْعَبَّاسِيَّةِ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَالْمَنْصُوصُ، وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِمْ، حَكَاهُ الْبَنْدَنِيجِيُّ وَآخَرُونَ. وَفِي وَجْهٍ ثَالِثٍ يَخْتَصُّ بِبَنِي هَاشِمٍ، حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدِ وَالرُّويَانِيُّ قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَوْ أُحْدِثَتْ سِقَايَةٌ لِلْحُجَّاجِ جَازَ لِلْمُقِيمِ بِشَأْنِهَا تَرْكُ الْمَبِيتِ، ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ، قَالَ ابْنُ كَجٍّ وَغَيْرُهُ: لَيْسَ لَهُ. وَذَكَرَ الدَّارِمِيُّ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَجْهَيْنِ حَكَاهُمَا الرُّويَانِيُّ، ثُمَّ قَالَ: وَالْمَنْصُوصُ فِي "كِتَابِ الْأَوْسَطِ" أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ، وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ الْبَغَوِيّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِنْ الْمَعْذُورِينَ مَنْ انْتَهَى إلَى عَرَفَةَ لَيْلَةَ النَّحْرِ وَاشْتَغَلَ بِالْوُقُوفِ عَنْ مَبِيتِ الْمُزْدَلِفَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ بِالْمَبِيتِ الْمُتَفَرِّغُونَ، ذَكَرَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَغَيْرُهُ، وَلَوْ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ إلَى مَكَّةَ فَطَافَ لِلْإِفَاضَةِ بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ فَفَاتَهُ الْمَبِيتُ قَالَ الْقَفَّالُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِاشْتِغَالِهِ بِالطَّوَافِ، قَالَ الْإِمَامُ: وَفِيهِ احْتِمَالٌ. وَمِنْ الْمَعْذُورِينَ مَنْ لَهُ مَالٌ يَخَافُ ضَيَاعَهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِالْمَبِيتِ أَوْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ كَانَ بِهِ مَرَضٌ يَشُقُّ مَعَهُ الْمَبِيتُ، أَوْ لَهُ مَرِيضٌ يَحْتَاجُ إلَى تَعَهُّدِهِ، أَوْ يَطْلُبُ آبِقًا أَوْ يَشْتَغِلُ بِأَمْرٍ آخَرَ يَخَافُ فَوْتَهُ، فَفِي هَؤُلَاءِ وَجْهَانِ الصَّحِيحُ: الْمَنْصُوصُ يَجُوزُ لَهُمْ تَرْكُ الْمَبِيتِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ بِسَبَبِهِ، وَلَهُمْ النَّفْرُ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَوْ تَرَكَ الْمَبِيتَ نَاسِيًا كَانَ كَتَرْكِهِ عَامِدًا، صَرَّحَ بِهِ الدَّارِمِيُّ وَغَيْرُهُ.
فَرْعٌ: ذَكَرَ الرُّويَانِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ لَا يُرَخَّصُ لِلرِّعَاءِ فِي تَرْكِ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ وَلَا فِي تَأْخِيرِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ عَنْ يَوْمِ النَّحْرِ، فَإِنْ أَخَّرُوهُ عَنْهُ كَانَ مَكْرُوهًا كَمَا لَوْ أَخَّرَهُ غَيْرُهُمْ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ إنَّمَا وَرَدَتْ لَهُمْ فِي غَيْرِ هَذَا.

 

ج / 8 ص -139-       فرع: قَالَ الرُّويَانِيُّ: مَنْ لَا عُذْرَ لَهُ إذَا لَمْ يَبِتْ لَيْلَتَيْ الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ مِنْ التَّشْرِيقِ وَرَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَأَرَادَ النَّفْرَ مَعَ النَّاسِ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ، قَالَ أَصْحَابُنَا: لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا عُذْرَ لَهُ، وَإِنَّمَا جُوِّزَ ذَلِكَ لِلرِّعَاءِ وَأَهْلِ السِّقَايَةِ لِلْعُذْرِ وَجُوِّزَ لِعَامَّةِ النَّاسِ أَنْ يَنْفِرُوا لِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِمُعْظَمِ الرَّمْيِ وَالْمَبِيتِ، وَمَنْ لَا عُذْرَ لَهُ لَمْ يَأْتِ بِالْمُعْظَمِ فَلَمْ يَجُزْ لَهُ النَّفْرُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَالسُّنَّةُ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْيَوْمُ الْأَوْسَطُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهِيَ إحْدَى الْخُطَبِ الْأَرْبَعِ، وَيُوَدِّعُ الْحَاجَّ وَيُعْلِمُهُمْ جَوَازَ النَّفْرِ:
"لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَطَبَ1 أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ" وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى بَيَانِ مَنْ يَجُوزُ لَهُ النَّفْرُ وَمَنْ لَا يَجُوزُ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ مَعَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَنَفَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ سَقَطَ عَنْهُ الرَّمْيُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ، وَمَنْ لَمْ يَنْفِرْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ لَزِمَهُ أَنْ يُقِيمَ حَتَّى يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] فَإِنْ نَفَرَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ثُمَّ عَادَ زَائِرًا أَوْ لِيَأْخُذَ شَيْئًا نَسِيَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَبِيتُ لِأَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ الرُّخْصَةُ بِالنَّفْرِ، فَإِنْ بَاتَ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يَرْمِيَ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَبِيتُ فَلَا يَلْزَمُهُ الرَّمْيُ.
الشرح: حَدِيثُ الْخُطْبَةِ أَوْسَطَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ سَبَقَ بَيَانُهُ فِي فَصْلِ خُطْبَةِ الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي خُطَبِ الْحَجِّ الْأَرْبَعِ وَوَقْتِهَا وَصِفَتِهَا وَمَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا، وَهَذِهِ الْخُطْبَةُ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَنَا وَوَقْتُهَا بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ كَمَا سَبَقَ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: فَإِنْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يَنْفِرَ النَّفْرَ الْأَوَّلَ وَعَجَّلَ الْخُطْبَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ لِيَنْفِرَ بَعْدَ الزَّوَالِ جَازَ قَالَ: وَتُسَمَّى هَذِهِ خُطْبَةَ الْوَدَاعِ، وَيُسْتَحَبُّ لِكُلِّ الْحُجَّاجِ حُضُورُهَا وَالِاغْتِسَالُ لَهَا وَيُوَدِّعُ الْإِمَامُ الْحُجَّاجَ وَيُعْلِمُهُمْ جَوَازَ النَّفْرِ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ وَغَيْرِهِ، وَيَحُثُّهُمْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَى أَنْ يَخْتِمُوا حَجَّهُمْ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالثَّبَاتِ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يَكُونُوا بَعْدَ الْحَجِّ خَيْرًا مِنْ قَبْلِهِ. وَأَنْ لَا يَنْسَوْا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ يَجُوزُ النَّفْرُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ التَّشْرِيقِ وَيَجُوزُ فِي الثَّالِثِ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {
فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] قَالُوا: وَالتَّأَخُّرُ إلَى الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَفْضَلُ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَفَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ" قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ وَغَيْرُهُ: وَالتَّأَخُّرُ لِلْإِمَامِ آكَدُ مِنْهُ لِغَيْرِهِ لِأَنَّهُ يُقْتَدَى بِهِ، وَلِأَنَّهُ يُقِيمُ النَّاسُ أَوْ أَكْثَرُهُمْ بِإِقَامَتِهِ، فَإِنْ تَعَجَّلَ جَازَ وَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ كَغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ مَنْ أَرَادَ النَّفْرَ الْأَوَّلَ نَفَرَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَإِذَا نَفَرَ قَبْلَ غُرُوبِهَا سَقَطَ عَنْهُ مَبِيتُ لَيْلَةِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَرَمْيُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ بِلَا خِلَافٍ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَا يَرْمِي فِي الْيَوْمِ الثَّانِي عَنْ الثَّالِثِ، بَلْ إنْ بَقِيَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ الْحَصَى طَرَحَهُ فِي الْأَرْضِ،

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا الخبر لا يوجد في نسخ "المهذب" المطبوعة (ط).

 

ج / 8 ص -140-       وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ لِمَنْ لَمْ يَرْمِ، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنْ دَفْنِهَا فَقَالَ أَصْحَابُنَا: لَا أَصْلَ لَهُ وَلَا يُعْرَفُ فِيهِ أَثَرٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَلَوْ لَمْ يَنْفِرْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ بَعْدُ فِي مِنًى لَزِمَهُ الْمَبِيتُ بِهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَرَمَى يَوْمَهَا. وَلَوْ رَحَلَ فَغَرَبَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ سَائِرٌ فِي مِنًى قَبْلَ انْفِصَالِهِ مِنْهَا فَلَهُ الِاسْتِمْرَارُ فِي السَّيْرِ وَلَا يَلْزَمُهُ الْمَبِيتُ وَلَا الرَّمْيُ. هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَبِهِ قَطَعَ الْجَمَاهِيرُ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَبِيتُ وَالرَّمْيُ فِي الْغَدِ، وَبِهِ قَطَعَ صَاحِبُ "الْحَاوِي". وَلَوْ غَرَبَتْ وَهُوَ فِي شُغْلِ الِارْتِحَالِ فَفِي جَوَازِ النَّفْرِ وَجْهَانِ مَشْهُورَانِ حَكَاهُمَا الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي كِتَابِهِ "الْمُجَرَّدِ" وَصَاحِبُ الشَّامِلِ وَالرُّويَانِيُّ وَآخَرُونَ أحدهما: يَلْزَمُهُ الرَّمْيُ وَالْمَيِّتُ وَأَصَحُّهُمَا: عِنْدَ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ، وَبِهِ قَطَعَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ لَا يَلْزَمُهُ الرَّمْيُ وَلَا الْمَبِيتُ، لِأَنَّ فِي تَكْلِيفِهِ حَلَّ الرَّحْلِ وَالْمَتَاعِ مَشَقَّةٌ عَلَيْهِ. وَلَوْ نَفَرَ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَعَادَ لِشُغْلٍ أَوْ زِيَارَةٍ وَنَحْوِهَا قَبْلَ الْغُرُوبِ أَمْ بَعْدَهُ فَوَجْهَانِ الصَّحِيحُ: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ وَهُوَ الْمَنْصُوصُ لَا يَلْزَمُهُ الْمَبِيتُ فَإِنْ بَاتَ لَمْ يَلْزَمُهُ الرَّمْيُ فِي الْغَدِ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ لِمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ والثاني: يَلْزَمُهُ الْمَبِيتُ وَالرَّمْيُ. حَكَاهُ الرُّويَانِيُّ وَآخَرُونَ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ.
فرع: لَوْ نَفَرَ مِنْ مِنًى مُتَعَجِّلًا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَفَارَقَهَا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ثُمَّ تَيَقَّنَ أَنَّهُ رَمَى يَوْمًا وَبَعْضَهُ. قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ.
أحدها: أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ قُبَيْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَيُدْرِكُ الرَّمْيَ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَيَلْزَمُهُ الْعَوْدُ إلَى مِنًى وَرَمْيُ مَا تَرَكَهُ ثُمَّ يَنْفِرُ مِنْهَا إنْ لَمْ تَغْرُبْ الشَّمْسُ وَهُوَ بِهَا، فَإِنْ غَرَبَتْ وَهُوَ بِهَا لَزِمَهُ الْمَبِيتُ بِهَا وَالرَّمْيُ مِنْ الْغَدِ.
وَالْحَالُ الثَّانِي: أَنْ يَذْكُرَهُ بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْعَوْدُ إلَى مِنًى لِفَوَاتِ وَقْتِ الرَّمْيِ، وَقَدْ اسْتَقَرَّ الدَّمُ فِي ذِمَّتِهِ.
الْحَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يَذْكُرَهُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْهُ وإن قلنا: لِكُلِّ يَوْمٍ حُكْمُ نَفْسِهِ لَمْ يَعُدْ لِلرَّمْيِ لِفَوَاتِ وَقْتِهِ، وَقَدْ اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الدَّمُ وإن قلنا: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ كَالشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَزِمَهُ الْعَوْدُ لِلرَّمْيِ. فَإِنْ تَرَكَهُ لَزِمَهُ الدَّمُ، هَذَا نَقَلَ الْمَاوَرْدِيُّ.
وَجَمَعَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَفَصَّلَهَا أَحْسَنَ تَفْصِيلٍ فَقَالَ: لَوْ نَفَرَ يَوْمَ النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَرْمِ " فَإِنْ لَمْ يَعُدْ اسْتَقَرَّتْ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِ فِي الرَّمْيِ الَّذِي تَرَكَهُ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَإِنْ عَادَ نَظَرَ، إنْ عَادَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَقَدْ فَاتَ الرَّمْيُ وَلَا اسْتِدْرَاكَ وَانْقَضَى أَثَرُهُ مِنْ مِنًى وَلَا حُكْمَ لِمَبِيتِهِ. وَإِنْ رَمَى فِي النَّفْرِ الثَّانِي لَمْ يُعْتَدَّ بِرَمْيِهِ لِأَنَّهُ بِنَفْرِهِ أَقْلَعَ عَنْ مِنًى وَالْمَنَاسِكِ فَاسْتَقَرَّتْ الْفِدْيَةُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ انْقَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ، وَإِنْ عَادَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فَأَجْمَعُ الطُّرُقِ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ "التَّقْرِيبُ" إذْ قَالَ حَاصِلُ الْخِلَافِ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ أحدها: أَنَّهُ إذَا نَفَرَ فَقَدْ انْقَطَعَ الرَّمْيُ وَلَا يَنْفَعُهُ الْعَوْدُ والثاني: يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَوْدُ وَيَرْمِي مَا عَلَيْهِ مَا لَمْ تَغْرُبْ الشَّمْسُ، فَإِنْ غَرَبَتْ تَعَيَّنَ الدَّمُ وَالثَّالِثُ: لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ رَجَعَ وَرَمَى

 

ج / 8 ص -141-       وَسَقَطَ عَنْهُ الْفَرْضُ وَإِنْ شَاءَ أَنْ لَا يَرْجِعَ وَيُرِيقَ دَمًا جَازَ، قَالَ: وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ الثَّلَاثَةُ تَجْرِي فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي. وَالرَّابِعُ: حَكَاهُ عَنْ تَخْرِيجِ ابْنِ سُرَيْجٍ أَنَّهُ إنْ خَرَجَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ ثُمَّ عَادَ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَرَمَى لَمْ يَقَعْ رَمْيُهُ مَوْقِعَهُ.
وَإِنْ خَرَجَ فِي النَّفْرِ الثَّانِي وَلَمْ يَرْمِ، ثُمَّ عَادَ وَرَمَى قَبْلَ الْغُرُوبِ وَقَعَ الرَّمْيُ مَوْقِعَهُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْخُرُوجَ فِي النَّفْرِ الثَّانِي لَا حُكْمَ لَهُ، لِأَنَّهُ مُنْتَهَى الْوَقْتِ نَفَرَ أَمْ لَمْ يَنْفِرْ، فَكَانَ خُرُوجُهُ سَوَاءً، وَلِلْخُرُوجِ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ حُكْمٌ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْرُجْ فِيهِ بَقِيَ إلَى النَّفْرِ الثَّانِي فَأَثَّرَ خُرُوجُهُ فِي قَطْعِ الْعَلَائِقِ مِنْهُ، فَإِذَا انْقَطَعَتْ الْعَلَائِقُ لَمْ يَعُدْ قَالَ: وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَنْ خَرَجَ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ التَّشْرِيقِ ثُمَّ عَادَ قَبْلَ الْغُرُوبِ رَمَى، إذْ لَا حُكْمَ لِلنَّفْرِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَ الْغُرُوبِ فَهَذَا رَجُلٌ فَاتَهُ الرَّمْيُ، وَفِيهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ فِي التَّدَارُكِ قَالَ: وَبِالْجُمْلَةِ لَا أَثَرَ لِلْخُرُوجِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ التَّشْرِيقِ.
وأما: يَوْمُ النَّحْرِ فَالْأَمْرُ فِيهِ أَظْهَرُ، وَلَا أَثَرَ لِلْخُرُوجِ فِيهِ، كَمَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْخُرُوجِ فِي أَوَّلِ التَّشْرِيقِ، وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ الْخُرُوجُ فِي النَّفْرَيْنِ كَمَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ، قَالَ: ثُمَّ إذَا قُلْنَا مَنْ خَرَجَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ بِلَا رَمْيٍ وَعَادَ قَبْلَ الْغُرُوبِ يَرْمِي، فَإِذَا رَمَى وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ تَقَيَّدَ وَلَزِمَهُ الرَّمْيُ وَالْمَبِيتُ مِنْ الْغَدِ وإن قلنا: لَا يَرْمِي إذَا عَادَ قَبْلَ الْغُرُوبِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَبِيتُ، وَلَوْ بَاتَ لَمْ يَكُنْ لِمَبِيتِهِ حُكْمٌ، لِأَنَّا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَكَمْنَا بِانْقِطَاعِ عَلَائِقِ مِنًى لِخُرُوجِهِ، ثُمَّ لَمْ نَحْكُمْ بِعَوْدِهَا لَمَّا عَادَ.
قَالَ: لَوْ خَرَجَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ ثُمَّ عَادَ وَزَالَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَهُوَ بِمِنًى، فَالْوَجْهُ الْقَطْعُ بِأَنَّ خُرُوجَهُ لَا حُكْمَ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ فِي وَقْتِ الرَّمْيِ وَإِمْكَانِهِ، وَلَوْ خَرَجَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ وَلَمْ يَعُدْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ فَقَدْ انْقَطَعَتْ الْعَلَائِقُ، وَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الرَّمْيِ، لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْخُرُوجِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ حَلَّتْ مَحَلَّ إنْشَاءِ الْخُرُوجِ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَلَوْ خَرَجَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَعَادَ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَرْمِي وَيُعْتَدُّ بِرَمْيِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ خَرَجَ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يُنْزِلُ هَذِهِ الصُّورَةَ مَنْزِلَةَ صُورَةِ الْأَقْوَالِ. فَإِنَّهُ لَوْ خَرَجَ قَبْل الزَّوَالِ وَلَمْ يَعُدْ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ كَانَ كَخُرُوجِهِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَمْ يَعُدْ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، فَإِذَا تَشَابَهَا فِي ذَلِكَ فَلْيَتَشَابَهَا فِي الْعَوْدِ قُبَيْلِ الْغُرُوبِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، هَذَا آخِرُ كَلَامِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ.
فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا نَفَرَ مِنْ مِنًى النَّفْر الْأَوَّل وَالثَّانِي انْصَرَفَ مِنْ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ رَاكِبًا كَمَا هُوَ، وَهُوَ يُكَبِّرُ وَيُهَلِّلُ وَلَا يُصَلِّي الظُّهْرَ بِمِنًى، بَلْ يُصَلِّيهَا بِالْمَنْزِلِ وَهُوَ الْمُحَصَّبُ أَوْ غَيْرُهُ، وَلَوْ صَلَّاهَا بِمِنًى جَازَ، لَكِنْ السُّنَّةُ مَا ذَكَرْنَاهُ لِحَدِيثِ أَنَسٍ الَّذِي سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا فِي الْفَصْلِ الْآتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، قَالَ أَصْحَابُنَا: وَلَيْسَ عَلَى الْحَاجِّ بَعْدَ نَفْرِهِ مِنْ مِنًى عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ إلَّا طَوَافُ الْوَدَاعِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيُسْتَحَبُّ إذَا خَرَجَ مِنْ مِنًى أَنْ يَنْزِلَ بِالْمُحَصَّبِ لِمَا رَوَى أَنَسٌ رضي الله عنه:
"أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَرَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إلَى الْبَيْتِ فَطَافَ لِلْوَدَاعِ بِهِ" فَإِنْ تَرَكَ النُّزُولَ بِالْمُحَصَّبِ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي

 

ج / 8 ص -142-       نُسُكِهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: "الْمُحَصَّبُ لَيْسَ بِشَيْءٍ إنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم" وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: "نُزُولُ الْمُحَصَّبِ لَيْسَ مِنْ النُّسُكِ إنَّمَا "هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ1 اللَّهِ صلى الله عليه وسلم".
الشرح: حَدِيثُ أَنَسٍ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحَدِيثِ عَائِشَةَ رَوَاهُمَا الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ زِيَادَةٌ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" قَالَتْ: "نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ" وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ بِمِنًى: نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَبَنِي كِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ أَنْ لَا يُنَاكِحُوهُمْ وَلَا يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسَلِّمُوا إلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم - يَعْنِي بِذَلِكَ الْمُحَصَّبَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمْ يَأْمُرُنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَنْزِلَ الْأَبْطَحَ حِينَ خَرَجَ مِنْ مِنًى، وَلَكِنِّي جِئْت فَضَرَبَتْ الْقُبَّةَ فَجَاءَ فَنَزَلَ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَرَى التَّحْصِيبَ سُنَّةً وَكَانَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بِالْمُحَصَّبِ، قَالَ نَافِعٌ قَدْ حَصَّبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَالْمُحَصَّبُ - بِمِيمٍ مَضْمُومَةٍ ثُمَّ حَاءٍ مَفْتُوحَةٍ ثُمَّ صَادٍ مَفْتُوحَةٍ مُهْمَلَتَيْنِ ثُمَّ بَاءٍ مُوَحَّدَةٍ - وَهُوَ اسْمٌ لِمَكَانٍ مُتَّسَعٍ بَيْنَ مَكَّةَ وَمِنًى، قَالَ صَاحِبُ "الْمَطَالِعِ" وَغَيْرُهُ: وَهُوَ إلَى مِنًى أَقْرَبُ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ إلَى الْمَقْبَرَةِ، وَيُقَالُ لَهُ: الْأَبْطَحُ وَالْبَطْحَاءُ، وَخَيْفُ بَنِي كِنَانَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أما الأحكام: فَقَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا فَرَغَ الْحَاجُّ مِنْ الرَّمْيِ وَنَفَرَ مِنْ مِنًى اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الْمُحَصَّبَ، وَيَنْزِلَ بِهِ وَيُصَلِّيَ بِهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَيَبِيتَ بِهِ لَيْلَةَ الرَّابِعَ عَشَرَ، وَلَوْ تَرَكَ النُّزُولَ بِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي نُسُكِهِ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَيْسَتْ مِنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ وَهَذَا مَعْنَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: النُّزُولُ بِالْمُحَصَّبِ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُلَمَاءِ. قَالَ: وَهُوَ عِنْدَ الْحِجَازِيِّينَ أَوْكَدُ مِنْهُ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ. قَالَ: وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: إذَا فَرَغَ مِنْ الْحَجِّ وَأَرَادَ الْمَقَامَ بِمَكَّةَ لَمْ يُكَلَّفْ طَوَافَ الْوَدَاعِ، فَإِنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ طَافَ لِلْوَدَاعِ وَصَلَّى رَكْعَتِي الطَّوَافِ لِلْوَدَاعِ وَهَلْ يَجِبُ طَوَافُ الْوَدَاعِ أَمْ لَا فِيهِ قَوْلَانِ أحدهما: أَنَّهُ يَجِبُ، لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما:
"أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ". والثاني: لَا يَجِبُ لِأَنَّهُ لَوْ وَجَبَ لَمْ يَجُزْ لِلْحَائِضِ تَرْكُهُ، فَإِنْ قُلْنَا إنَّهُ وَاجِبٌ وَجَبَ بِتَرْكِهِ الدَّمُ لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ" وَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ لَمْ يَجِبْ بِتَرْكِهِ دَمٌ، لِأَنَّهُ سُنَّةٌ، فَلَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ دَمٌ كَسَائِرِ سُنَنُ الْحَجِّ، وَإِنْ طَافَ لِلْوَدَاعِ ثُمَّ أَقَامَ لَمْ يُعْتَدَّ [بَعْد] بِطَوَافِهِ عَنْ الْوَدَاعِ، لِأَنَّهُ لَا تَوْدِيعَ مَعَ الْمَقَامِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَعَادَ طَوَافَ الْوَدَاعِ، وَإِنْ طَافَ ثُمَّ صَلَّى فِي طَرِيقِهِ أَوْ اشْتَرَى زَادًا لَمْ يُعِدْ الطَّوَافَ، لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِذَلِكَ مُقِيمًا وَإِنْ نَسِيَ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كل ما بين المعوقين يكون ساقطاً من ش و ق (ط).

 

ج / 8 ص -143-       الطَّوَافَ وَخَرَجَ ثُمَّ ذَكَرَهُ فَإِنْ قُلْنَا: إنَّهُ وَاجِبٌ نَظَرْت - فَإِنْ كَانَ مِنْ مَكَّةَ عَلَى مَسَافَةٍ تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ - اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الدَّمُ، فَإِنْ عَادَ وَطَافَ لَمْ يَسْقُطْ الدَّمُ، لِأَنَّ الطَّوَافَ الثَّانِي لِلْخُرُوجِ الثَّانِي فَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْخُرُوجِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ ذَكَرَ وَهُوَ عَلَى مَسَافَةٍ لَا تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ فَعَادَ وَطَافَ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُقِيمِ وَيَجُوزُ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ بِلَا وَدَاعٍ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ: "أَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ خَفَّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ" فَإِنْ نَفَرَتْ الْحَائِضُ ثُمَّ طَهُرَتْ فَإِنْ كَانَتْ فِي بُنْيَانِ مَكَّةَ عَادَتْ وَطَافَتْ وَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ الْبُنْيَانِ لَمْ يَلْزَمْهَا الطَّوَافُ.
الشرح:
حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ الْأَوَّلِ: "لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَحَدِيثُهُ الْآخَرُ: "أَمَرَ النَّاسَ" إلَى آخِرِهِ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَحَدِيثُ "مَنْ تَرَكَ نُسُكًا فَعَلَيْهِ دَمٌ" سَبَقَ بَيَانُهُ فِي هَذَا الْبَابِ مَرَّاتٍ. وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "لَمَّا أَرَادَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنْفِرَ إذَا صَفِيَّةُ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَةً حَزِينَةً فَقَالَ: عَقْرَى حَلْقَى إنَّكِ لَحَابِسَتُنَا، ثُمَّ قَالَ لَهَا: أَكُنْتِ أَفَضْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ فَانْفِرِي" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَالْوَدَاعُ بِفَتْحِ الْوَاوِ. وَتَنْفِرُ بِكَسْرِ الْفَاءِ.
أما الأحكام: فَفِيهَا مَسَائِلُ إحداها: قَالَ أَصْحَابُنَا: مَنْ فَرَغَ مِنْ مَنَاسِكِهِ وَأَرَادَ الْمَقَامَ بِمَكَّةَ لَيْسَ عَلَيْهِ طَوَافُ الْوَدَاعِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا أَوْ غَرِيبًا، وَإِنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى وَطَنِهِ أَوْ غَيْرِهِ طَافَ لِلْوَدَاعِ وَلَا رَمَلَ فِي هَذَا الطَّوَافِ وَلَا اضْطِبَاعَ كَمَا سَبَقَ، وَإِذَا طَافَ صَلَّى رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَفِي هَذَا الطَّوَافِ قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ ذَكَرَهُمَا الْمُصَنِّفُ بِدَلِيلِهِمَا أصحهما: أَنَّهُ وَاجِبٌ والثاني: سُنَّةٌ. وَحُكِيَ طَرِيقٌ آخَرُ أَنَّهُ سُنَّةٌ قَوْلًا وَاحِدًا حَكَاهُ الرَّافِعِيُّ وَهُوَ ضَعِيفٌ غَرِيبٌ. وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ وَاجِبٌ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَغَيْرُهُمَا: هَذَا نَصُّهُ فِي "الْأُمِّ" و"الْقَدِيمِ"، وَالِاسْتِحْبَابُ هُوَ نَصُّهُ فِي "الْإِمْلَاءِ"، فَإِنْ تَرَكَهُ أَرَاقَ دَمًا فَإِنْ قُلْنَا: هُوَ وَاجِبٌ فَالدَّمُ وَاجِبٌ وإن قلنا: سُنَّةٌ فَالدَّمُ سُنَّةٌ، وَلَوْ أَرَادَ الْحَاجُّ الرُّجُوعَ إلَى بَلَدِهِ مِنْ مِنًى لَزِمَهُ دُخُولُ مَكَّةَ لِطَوَافِ الْوَدَاعِ إنْ قُلْنَا هُوَ وَاجِبٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّانِيَةُ: إذَا خَرَجَ بِلَا وَدَاعٍ وَقُلْنَا: يَجِبُ طَوَافُ الْوَدَاعِ عَصَى وَلَزِمَهُ الْعَوْدُ لِلطَّوَافِ مَا لَمْ يَبْلُغْ مَسَافَةَ الْقَصْرِ مِنْ مَكَّةَ، فَإِنْ بَلَغَهَا لَمْ يَجِبْ الْعَوْدُ بَعْدَ ذَلِكَ وَمَتَى لَمْ يَعُدْ لَزِمَهُ الدَّمُ، فَإِنْ عَادَ قَبْلَ بُلُوغِهِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ سَقَطَ عَنْهُ الدَّمُ، وَإِنْ عَادَ بَعْدَ بُلُوغِهَا فَطَرِيقَانِ أصحهما: وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ: لَا يَسْقُطُ.
والثاني: حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ وَجْهَانِ أصحهما: لَا يَسْقُطُ وَالثَّانِي: يَسْقُطُ الثَّالِثَةُ: لَيْسَ عَلَى الْحَائِضِ وَلَا عَلَى النُّفَسَاءِ طَوَافُ وَدَاعٍ وَلَا دَمٌ عَلَيْهَا لِتَرْكِهِ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مُخَاطَبَةً بِهِ لِلْحَدِيثِ السَّابِقِ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ تَقِفَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتَدْعُوَ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ مُفَارَقَةِ بِنَاءِ مَكَّةَ لَزِمَهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ لِزَوَالِ عُذْرِهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ لَمْ يَلْزَمْهَا الْعَوْدُ بِلَا خِلَافٍ. وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مُفَارَقَةِ مَكَّةَ وَقَبْلَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ،

 

ج / 8 ص -144-       فَقَدْ نَصَّ الشَّافِعِيُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا، وَنَصَّ أَنَّ الْمُقَصِّرَ بِتَرْكِ الطَّوَافِ يَلْزَمُهُ الْعَوْدُ. وَلِلْأَصْحَابِ طَرِيقَانِ الْمَذْهَبُ: الْفَرْقُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ، لِأَنَّهُ مُقَصِّرٌ بِخِلَافِ الْحَائِضِ.
وَالطَّرِيقُ الثَّانِي: حَكَاهُ الْخُرَاسَانِيُّونَ فِيهِمَا قَوْلَانِ أحدهما: يَلْزَمُهَا والثاني: لَا يَلْزَمُهُمَا فَإِنْ قُلْنَا: لَا يَجِبُ الْعَوْدُ فَهَلْ الِاعْتِبَارُ فِي الْمَسَافَةِ بِنَفْسِ مَكَّةَ أَمْ بِالْحَرَمِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ الْمَذْهَبُ: وَبِهِ قَطَعَ الْمُصَنِّفُ وَالْجُمْهُورُ بِنَفْسِ مَكَّةَ والثاني: حَكَاهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الْخُرَاسَانِيِّينَ فِيهِ وَجْهَانِ أصحهما: هَذَا والثاني: الْحَرَمُ وَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ إذَا نَفَرَتْ فِي يَوْمِ حَيْضِهَا فَلَا وَدَاعَ عَلَيْهَا، وَإِنْ نَفَرَتْ فِي يَوْمِ طُهْرِهَا لَزِمَهَا طَوَافُ الْوَدَاعِ، قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ" وَالدَّارِمِيُّ: إذَا رَأَتْ الْمَرْأَةُ الدَّمَ فَتَرَكَتْ طَوَافَ الْوَدَاعِ وَانْصَرَفَتْ، ثُمَّ اتَّصَلَ الدَّمُ وَجَاوَزَ خَمْسَةَ عَشَرَ، فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ فَيُنْظَرُ هَلْ هِيَ مُمَيِّزَةٌ أَمْ مُعْتَادَةٌ أَمْ مُبْتَدَأَةٌ؟ وَأَيُّ مَرَدِّ رُدَّتْ إلَيْهِ إنْ كَانَ تَرْكُهَا الطَّوَافَ فِي حَالِ حَيْضِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ فِي حَالِ طُهْرِهَا لَزِمَهَا الدَّمُ. وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الرَّابِعَةُ: يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ طَوَافُ الْوَدَاعِ بَعْدَ جَمِيعِ الْأَشْغَالِ وَيَعْقُبُهُ الْخُرُوجُ بِلَا مُكْثٍ، فَإِنْ مَكَثَ نُظِرَ إنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَوْ لِشُغْلٍ غَيْرِ أَسْبَابِ الْخُرُوجِ كَشِرَاءِ مَتَاعٍ أَوْ قَضَاءِ دَيْنٍ أَوْ زِيَارَةِ صَدِيقٍ أَوْ عِيَادَةِ مَرِيضٍ لَزِمَهُ إعَادَةُ الطَّوَافِ، وَإِنْ اشْتَغَلَ بِأَسْبَابِ الْخُرُوجِ كَشِرَاءِ الزَّادِ وَشَدِّ الرَّحْلِ وَنَحْوِهِمَا فَهَلْ يَحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهِ؟ فِيهِ طَرِيقَانِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ. وَذَكَرَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ فِيهِ وَجْهَيْنِ.
وَلَوْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَصَلَّاهَا مَعَهُمْ لَمْ يُعِدْ الطَّوَافَ، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي "الْإِمْلَاءِ" وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَصْحَابُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْخَامِسَةُ: حُكْمُ طَوَافِ الْوَدَاعِ حُكْمُ سَائِرِ أَنْوَاعِ الطَّوَافِ فِي الْأَرْكَانِ وَالشُّرُوطِ. وَفِيهِ وَجْهٌ لِأَبِي يَعْقُوبَ الْأَبِيوَرْدِيِّ أَنَّهُ يَصِحُّ بِلَا طَهَارَةٍ، وَتُجْبَرُ الطَّهَارَةُ بِالدَّمِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْوَجْهِ فِي فَصْلِ طَوَافِ الْقُدُومِ، وَهُوَ غَلَطٌ ظَاهِرٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
السَّادِسَةُ: هَلْ طَوَافُ الْوَدَاعِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَنَاسِكِ أَمْ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ فِيهِ خِلَافٌ. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَالْغَزَالِيُّ: هُوَ مِنْ الْمَنَاسِكِ، وَلَيْسَ عَلَى الْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ طَوَافُ وَدَاعٍ إذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ لِخُرُوجِهِ. وَقَالَ الْبَغَوِيّ وَالْمُتَوَلِّي وَغَيْرُهُمَا: لَيْسَ طَوَافُ الْوَدَاعِ مِنْ الْمَنَاسِكِ، بَلْ هُوَ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ يُؤْمَرُ بِهَا كُلُّ مَنْ أَرَادَ مُفَارَقَةَ مَكَّةَ إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ، سَوَاءٌ كَانَ مَكِّيًّا أَوْ أُفُقِيًّا. وَهَذَا الثَّانِي أَصَحُّ عِنْدَ الرَّافِعِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمُحَقِّقِينَ تَعْظِيمًا لِلْحَرَمِ وَتَشْبِيهًا لِاقْتِضَاءِ خُرُوجِهِ الْوَدَاعَ بِاقْتِضَاءِ دُخُولِهِ الْإِحْرَامَ. قَالَ الرَّافِعِيُّ: وَلِأَنَّ الْأَصْحَابَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمَكِّيَّ إذَا حَجَّ وَنَوَى عَلَى أَنْ يُقِيمَ بِوَطَنِهِ لَا يُؤْمَرُ بِطَوَافِ الْوَدَاعِ. وَكَذَا الْأُفُقِيُّ إذَا حَجَّ وَأَرَادَ الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ لَا وَدَاعَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَنَاسِكِ لَعَمَّ الْحَجِيجُ. هَذَا كَلَامُ الرَّافِعِيِّ وَمِمَّا يُسْتَدَلُّ بِهِ مِنْ السُّنَّةِ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ الْمَنَاسِكِ مَا ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "
يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلَاثًا" وَجْهُ الدَّلَالَةِ أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ يَكُونُ عِنْدَ الرُّجُوعِ. وَسَمَّاهُ قَبْلَهُ قَاضِيًا لِلْمَنَاسِكِ وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يَكُونَ قَضَاهَا كُلَّهَا.
فَرْعٌ: ذَكَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ السَّادِسَةِ عَنْ الْبَغَوِيِّ أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ يَتَوَجَّهُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَرَادَ

 

ج / 8 ص -145-       مُفَارَقَةَ مَكَّةَ إلَى مَسَافَةِ الْقَصْرِ. قَالَ: وَلَوْ أَرَادَ دُونَ مَسَافَةِ الْقَصْرِ لَا وَدَاعَ عَلَيْهِ، وَالصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ أَرَادَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ وَدُونَهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ مَسَافَةً بَعِيدَةً أَمْ قَرِيبَةً، لِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهَذَا صَاحِبُ "الْبَيَانِ" وَغَيْرُهُ.
فرع: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْفِرَ مِنْ مِنًى وَيَتْرُكَ طَوَافَ الْوَدَاعِ إذَا قُلْنَا بِوُجُوبِهِ، فَلَوْ طَافَ يَوْمَ النَّحْرِ لِلْإِفَاضَةِ وَطَافَ بَعْدَهُ لِلْوَدَاعِ ثُمَّ أَتَى مِنًى ثُمَّ أَرَادَ النَّفْرَ مِنْهَا فِي وَقْتِ النَّفْرِ إلَى وَطَنِهِ. وَاقْتَصَرَ عَلَى طَوَافِ الْوَدَاعِ السَّابِقِ فَهَلْ يُجْزِئُهُ؟ قَالَ صَاحِبُ "الْبَيَانِ": اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا الْمُتَأَخِّرُونَ فِيهِ، فَقَالَ الشَّرِيفُ الْعُثْمَانِيُّ: يُجْزِئُهُ لِأَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ يُرَادُ لِمُفَارَقَتِهِ الْبَيْتَ، وَهَذَا قَدْ أَرَادَهَا. وَمِنْهُمْ مِنْ قَالَ: لَا يُجْزِئُهُ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّافِعِيِّ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ قَالَ: وَلَيْسَ عَلَى الْحَاجِّ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الرَّمْيِ أَيَّامَ مِنًى إلَّا وَدَاعُ الْبَيْتِ فَيُوَدِّعُ وَيَنْصَرِفُ إلَى أَهْلِهِ. هَذَا كَلَامُ صَاحِبِ الْبَيَانِ، وَهَذَا الثَّانِي هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْأَصْحَابِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ صَاحِبُ "الْبَيَانِ": قَالَ الشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ فِي "الْمُعْتَمَدِ": لَيْسَ عَلَى الْمُقِيمِ بِمَكَّةَ الْخَارِجِ إلَى التَّنْعِيمِ وَدَاعٌ وَلَا دَمٌ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ عِنْدَنَا. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يَلْزَمُ الدَّمُ. دَلِيلُنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "
أَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يُعْمِرَ عَائِشَةَ مِنْ التَّنْعِيمِ، وَلَمْ يَأْمُرْهَا عِنْدَ ذَهَابِهَا إلَى التَّنْعِيمِ بِوَدَاعٍ" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا طَافَ لِلْوَدَاعِ وَخَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ وَقُلْنَا: دُخُولُ الْحَرَمِ يُوجِبُ الْإِحْرَامَ. قَالَ الدَّارِمِيُّ: يَلْزَمُ الْإِحْرَامُ لِأَنَّهُ دُخُولٌ جَدِيدٌ قَالَ: وَلَوْ رَجَعَ لِطَوَافِ الْوَدَاعِ مِنْ دُونِ مَسَافَةِ الْقَصْرِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِحْرَامُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إنْ قُلْنَا طَوَافُ الْوَدَاعِ وَاجِبٌ فَتَرَكَ طَوْفَةً مِنْ السَّبْعِ وَرَجَعَ إلَى بَلَدِهِ لَمْ يَحْصُلْ الْوَدَاعُ، فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ بِكَمَالِهِ. وَقَالَ الدَّارِمِيُّ: يَكُونُ كَتَارِكِ كُلِّ الطَّوَافِ إلَّا فِي الدَّمِ، فَإِنَّهُ عَلَى الْأَقْوَالِ إلَّا ثَلَاثٌ فَدَمٌ، يَعْنِي أَنَّهُ إذَا تَرَكَ طَوْفَةً فَفِيهَا الْأَقْوَالُ أحدها: يَلْزَمُهُ ثُلُثُ دَمٍ والثاني: دِرْهَمٌ وأصحها: مُدٌّ. وَفِي طَوْفَتَيْنِ الْأَقْوَالُ أَيْضًا. وَفِي ثَلَاثِ طَوْفَاتٍ دَمٌ كَامِلٌ. هَذَا كَلَامُ الدَّارِمِيِّ وَهُوَ ضَعِيفٌ أَوْ غَلَطٌ وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ طَوَافُ الْوَدَاعِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: إذَا حَاضَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَأَرَادَ الْحَاجُّ النَّفْرَ بَعْدَ قَضَاءِ مَنَاسِكِهِمْ فَالْأَوْلَى لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُقِيمَ حَتَّى تَطْهُرَ فَتَطُوفَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا ضَرَرٌ ظَاهِرٌ فِي هَذَا، فَإِنْ أَرَادَتْ النَّفْرَ مَعَ النَّاسِ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ جَازَ وَتَبْقَى مُحْرِمَةً حَتَّى تَعُودَ إلَى مَكَّةَ فَتَطُوفَ مَتَى مَا كَانَ، وَلَوْ طَالَ سِنِينَ، وَقَدْ سَبَقَ فِي مَوَاضِعَ مِنْ هَذَا الْبَابِ بَيَانُ هَذَا.
وَأَمَّا قَوْلُ الْمَاوَرْدِيُّ فِي "الْحَاوِي": لَيْسَ لَهَا أَنْ تَنْفِرَ حَتَّى تَطُوفَ بَعْدَ أَنْ تَطْهُرَ فَشَاذٌّ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ نَفْرُهَا قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهُ وَلَا يَكُونُ مُرَادُهُ التَّحْرِيمُ. وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمَكْرُوهَ لَيْسَ بِجَائِزٍ، وَيُفَسَّرُ الْجَائِزُ بِمُسْتَوَى الطَّرَفَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 8 ص -146-       فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا حَاضَتْ الْحَاجَّةُ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ. وَنَفَرَ الْحُجَّاجُ بَعْدَ قَضَاءِ مَنَاسِكِهِمْ وَقَبْلَ طُهْرِهَا، وَأَرَادَتْ أَنْ تُقِيمَ إلَى أَنْ تَطْهُرَ، وَكَانَتْ مُسْتَأْجِرَةً جَمَلًا، لَمْ يَلْزَمْ الْجَمَّالَ انْتِظَارُهَا، بَلْ لَهُ النَّفْرُ بِجَمَلِهِ مَعَ النَّاسِ، وَلَهَا أَنْ تُرْكِبَ فِي مَوْضِعِهَا مِثْلَهَا، هَذَا مَذْهَبُنَا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا. وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّيْخُ أَبُو نَصْرٍ وَصَاحِبُ "الْبَيَانِ" وَآخَرُونَ، وَحَكَى أَصْحَابُنَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَنْتَظِرَهَا أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَزِيَادَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ.
وَاسْتَدَلَّ أَصْحَابُنَا بِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:
"لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ" وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى مَا لَوْ مَرِضَتْ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ انْتِظَارُهَا بِالْإِجْمَاعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ الْمَالِكِيُّ: مَوْضِعُ الْخِلَافِ بَيْنَ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ آمِنًا وَمَعَهَا مَحْرَمٌ لَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ آمِنًا أَوْ لَمْ يَكُنْ مَحْرَمٌ لَمْ يَنْتَظِرْهَا بِالِاتِّفَاقِ، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ السَّيْرُ بِهَا وَحْدَهُ. قَالَ وَلَا يُحْبَسُ لَهَا الرُّفْقَةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَالْيَوْمِ وَالْيَوْمَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: فَإِذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافِ الْوَدَاعِ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَقِفَ فِي الْمُلْتَزَمِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، فَيَدْعُو وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ إنَّ الْبَيْتَ بَيْتُك وَالْعَبْدَ عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك وَابْنِ أَمَتِك، حَمَلْتَنِي عَلَى مَا سَخَّرْت لِي مِنْ خَلْقِك، حَتَّى سَيَّرَتْنِي فِي بِلَادِك وَبَلَّغْتنِي بِنِعْمَتِك حَتَّى أَعَنْتنِي عَلَى قَضَاءِ مَنَاسِكِك، فَإِنْ كُنْت رَضِيت عَنِّي فَازْدَدْ عَنِّي رِضًى، وَإِلَّا فَمُنَّ الْآنَ قَبْلَ أَنْ تَنْأَى عَنْ بَيْتِك دَارِي، هَذَا أَوَانُ انْصِرَافِي إنْ أَذِنْت لِي غَيْرَ مُسْتَبْدِلٍ بِك وَلَا بِبَيْتِك، وَلَا رَاغِبٍ عَنْك وَلَا عَنْ بَيْتِك، اللَّهُمَّ اصْحَبْنِي الْعَافِيَةَ فِي بَدَنِي، وَالْعِصْمَةَ فِي دِينِي وَأَحْسِنْ مُنْقَلَبِي، وَارْزُقْنِي طَاعَتَك مَا أَبْقَيْتَنِي" فَإِنَّهُ قَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ، وَلِأَنَّهُ دُعَاءٌ يَلِيقُ بِالْحَالِ ثُمَّ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
الشرح:
هَذَا الدُّعَاءُ ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رحمه الله فِي "الْإِمْلَاءِ" وَفِي "مُخْتَصَرِ الْحَجِّ" وَاتَّفَقَ الْأَصْحَابُ عَلَى اسْتِحْبَابِهِ. وَقَوْله الْمُلْتَزَمُ هُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الزَّايِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَلْزَمُونَهُ لِلدُّعَاءِ، وَيُقَالُ لَهُ الْمُدَّعَى وَالْمُتَعَوَّذُ - بِفَتْحِ الْوَاوِ - وَهُوَ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ الَّذِي فِيهِ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَبَابُ الْكَعْبَةِ، وَهُوَ مِنْ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يُسْتَجَابُ فِيهَا الدُّعَاءُ هُنَاكَ، وَسَأُفْرِدُهَا بِفَرْعٍ مُسْتَقِلٍّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَرِيبًا. وَقَوْلُهُ: "وَإِلَّا فَمُنَّ الْآنَ" يَجُوزُ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ، أَجْوَدُهَا ضَمُّ الْمِيمِ وَتَشْدِيدُ النُّونِ والثاني: كَسْرُ الْمِيمِ وَتَخْفِيفُ النُّونِ وَفَتْحُهَا وَالثَّالِثُ: كَذَلِكَ لَكِنَّ النُّونَ مَكْسُورَةٌ، قَالَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ: إذَا جَاءَ بَعْدَ مِنْ الْجَارَّةِ اسْمٌ مَوْصُولٌ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ أَلِفٌ وَلَامٌ كَانَ الْأَجْوَدُ فِيهِ فَتْحَ النُّونِ، وَيَجُوزُ كَسْرُهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَانَ الْأَجْوَدُ كَسْرَهَا، وَيَجُوزُ الْفَتْحُ مِثَالُ الْأَوَّلُ: مِنْ اللَّهِ، مِنْ الرَّجُلِ، مِنْ النَّاسِ مِثَالُ الثَّانِي: مِنْ ابْنِك مِنْ اسْمِك مِنْ اثْنَيْنِ. وَأَمَّا الْآنَ فَهُوَ الْوَقْتُ الْحَاضِرُ، هَذَا حَقِيقَتُهُ وَأَصْلُهُ، وَقَدْ يَقَعُ عَلَى الْقَرِيبِ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبِلِ، تَنْزِيلًا لَهُ مَنْزِلَةَ الْحَاضِرِ، وَمِنْهُ قوله تعالى:
{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة:187] تَقْدِيرُهُ فَالْآنَ أَبَحْنَا لَكُمْ مُبَاشَرَتَهُنَّ، فَعَلَى هَذَا هُوَ عَلَى حَقِيقَتِهِ "قَبْلَ أَنْ تَنْأَى" أَيْ تَبْعُدَ. وَقَوْلُهُ: "هَذَا أَوَانُ انْصِرَافِي" قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: الْأَوَانُ الْحِينُ وَالْوَقْتُ وَجَمْعُهُ آوِنَةٌ كَزَمَانٍ وَأَزْمِنَةٍ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: إذَا فَرَغَ مِنْ طَوَافٍ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ الطَّوَافَ خَلْفَ الْمَقَامِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ

 

ج / 8 ص -147-       وَالْأَصْحَابُ: ثُمَّ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ الْمُلْتَزَمَ فَيَلْتَزِمَهُ وَيَقُولَ هَذَا الدُّعَاءَ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: وَمَا زَادَ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ فَحَسَنٌ قَالَ الْأَصْحَابُ: وَقَدْ زِيدَ فِيهِ (وَاجْمَعْ لِي خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنَّك قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ) وَقَدْ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي "التَّنْبِيهِ". وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ هَذَا الدُّعَاءَ، وَزَادَ فِيهِ وَنَقَصَ مِنْهُ.
وَذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ"، وَزَادَ فِيهِ كَثِيرًا وَنَقَصَ مِنْهُ وَالْمَشْهُورُ مَا ذَكَرْنَاهُ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ دَعَا حُصِلَ الْمُسْتَحَبُّ وَيَأْتِي بِآدَابِ الدُّعَاءِ السَّابِقَةِ فِي فَصْلِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَاتٍ، مِنْ الْحَمْدِ لِلَّهِ تَعَالَى وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي تَعْلِيقِهِ: قَالَ الشَّافِعِيُّ فِي "مُخْتَصَرِ كِتَابِ الْحَجِّ": إذَا طَافَ لِلْوَدَاعِ اُسْتُحِبَّ أَنْ يَأْتِيَ الْمُلْتَزَمَ فَيَلْصَقُ بَطْنَهُ وَصَدْرَهُ بِحَائِطِ الْبَيْتِ وَيَبْسُطُ يَدَيْهِ عَلَى الْجِدَارِ، فَيَجْعَلُ الْيُمْنَى مِمَّا يَلِي الْبَابَ، وَالْيُسْرَى مِمَّا يَلِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، وَيَدْعُو بِمَا أَحَبَّ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ أَصْحَابُنَا: فَإِنْ كَانَتْ حَائِضًا اُسْتُحِبَّ أَنْ تَأْتِيَ بِهَذَا الدُّعَاءِ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ وَتَمْضِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَمِمَّا جَاءَ فِي الْمُلْتَزَمِ وَالْتِزَامِ الْبَيْتِ حَدِيثُ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاح عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
"كُنْت مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو - يَعْنِي ابْنَ الْعَاصِ فَلَمَّا جِئْنَا دُبُرَ الْكَعْبَةِ، قُلْت: أَلَا تَتَعَوَّذُ؟ قَالَ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ النَّارِ، ثُمَّ مَضَى حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ، وَأَقَامَ بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، فَرَفَعَ صَدْرَهُ وَوَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ وَكَفَّيْهِ هَكَذَا وَبَسَطَهُمَا بَسْطًا ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُهُ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَهَذَا الْإِسْنَادُ ضَعِيفٌ، لِأَنَّ الْمُثَنَّى بْنَ الصَّبَّاح ضَعِيفٌ. وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ: "لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَّةَ قُلْت: لَأَلْبِسَنَّ ثِيَابِي فَلَأَنْظُرَنَّ كَيْفَ يَصْنَعُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَانْطَلَقْت فَرَأَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ خَرَجَ مِنْ الْكَعْبَةِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، قَدْ اسْتَلَمُوا الْبَيْتَ مِنْ الْبَابِ إلَى الْحَطِيمِ وَقَدْ وَضَعُوا خُدُودَهُمْ عَلَى الْبَيْتِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَسَطُهُمْ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَهَذَا الْإِسْنَادُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ يَزِيدَ ضَعِيفٌ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّهُ كَانَ يَلْتَزِمُ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ، وَكَانَ يَقُولُ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ يُدْعَى الْمُلْتَزَمُ، لَا يَلْزَمُ مَا بَيْنَهُمَا أَحَدٌ يَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدْ سَبَقَ مَرَّاتٍ أَنَّ الْعُلَمَاءَ مُتَّفِقُونَ عَلَى التَّسَامُحِ فِي الْأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَنَحْوِهَا، مِمَّا لَيْسَ مِنْ الْأَحْكَامِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: ذَكَرَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رحمه الله فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ إلَى أَهْلِ مَكَّةَ أَنَّ الدُّعَاءَ يُسْتَجَابُ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا - فِي الطَّوَافِ - وَعِنْدَ الْمُلْتَزَمِ - وَتَحْتَ الْمِيزَابِ - وَفِي الْبَيْتِ - وَعِنْدَ زَمْزَمَ - وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ - وَفِي الْمَسْعَى - وَخَلْفَ الْمَقَامِ - وَفِي عَرَفَاتٍ - وَفِي مِنًى - وَعِنْدَ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ وَحْدَهَا وَأَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ فَعَلَ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الدُّخُولِ لِلْحَجِّ. فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ، وَذَلِكَ جَمِيعُ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها قَالَتْ: "
خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَمِنَّا

 

ج / 8 ص -148-       مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحَجِّ، فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فَأَحَلُّوا حِينَ طَافُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَلَمْ يَحِلُّوا إلَى يَوْمِ النَّحْرِ" وَإِنْ كَانَ قَارِنًا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَعَلَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُفْرِدُ بِالْحَجِّ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى طَوَافٍ وَاحِدٍ وَسَعْيٍ وَاحِدٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: "مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ كَفَاهُ لَهُمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ، وَلِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِمَا بِتَلْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَخْرُجُ مِنْهُمَا بِحَلْقٍ وَاحِدٍ. فَوَجَبَ أَنْ يَطُوفَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، وَيَسْعَى لَهُمَا سَعْيًا وَاحِدًا كَالْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ".
الشرح:
حَدِيثُ عَائِشَةَ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وأما: حَدِيثُ: "مَنْ جَمَعَ بَيْنَ الْحَجّ وَالْعُمْرَةِ كَفَاهُ لَهُمَا طَوَافٌ وَاحِدٌ وَسَعْيٌ وَاحِدٌ" فَصَحِيحٌ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ، وَبَيَانُ حَدِيثِ عَائِشَةَ الْأَوَّلِ، وَغَيْرِهِمَا مِمَّا فِي مَعْنَاهُمَا فِي فَرْعٍ مِنْ فُرُوعِ مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ، عَقِبَ مَسَائِلِ طَوَافِ الْقُدُومِ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ مَذَاهِبَ الْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَدِلَّتَهَا وَالْجَوَابَ عَنْهَا وَقَوْل الْمُصَنِّفِ: لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِمَا بِتَلْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ إلَى آخِرِهِ فَهُوَ إلْزَامٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ بِمَا يُوَافِقُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أَوْجَبَ عَلَى الْقَارِنِ طَوَافَيْنِ وَسَعْيَيْنِ، وَوَافَقَ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِيهِ إحْرَامٌ وَاحِدٌ وَحَلْقٌ وَاحِدٌ.
أما الأحكام: فَفِي الْفَصْلِ مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا: الْقَارِنُ يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُهُ الْمُفْرِدُ لِلْحَجِّ، فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ الْمُفْرِدُ، وَلَا يَزِيدُ عَلَيْهِ شَيْئًا أَصْلًا، فَيَكْفِيهِ لِلْإِفَاضَةِ طَوَافٌ وَاحِدٌ، وَيَكْفِيه "سَعْيٌ وَاحِدٌ" إمَّا بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ وَإِمَّا بَعْدَ الْإِفَاضَةِ، وَهَذَا لَا خِلَافَ عِنْدَنَا فِيهِ، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ كَمَا قَدَّمْته فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ. قَالَ أَصْحَابُنَا: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَطُوفَ الْقَارِنُ لِلْإِفَاضَةِ طَوَافَيْنِ وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ، لِيَخْرُجَ مِنْ خِلَافِ الْعُلَمَاءِ.
الثَّانِيَةُ: إذَا كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ وَحْدَهَا وَأَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ فَعَلَ مَا ذَكَرَهُ فِي الدُّخُولِ لِلْحَجِّ مِنْ الْآدَابِ، فَإِذَا دَخَلَ طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ وَقَدْ تَمَّتْ عُمْرَتُهُ، هَذَا إذَا قُلْنَا بِالْمَذْهَبِ إنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ فَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ هُوَ نُسُكًا كَفَاهُ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَقَدْ حَلَّ، قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: صِفَةُ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ صِفَةُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ، فِي اسْتِحْبَابِ الْغُسْلِ لِلْإِحْرَامِ وَلِدُخُولِ مَكَّةَ وَالتَّطَيُّبِ وَالتَّنَظُّفِ عِنْدَ إرَادَةِ الْإِحْرَامِ وَمَا يَلْبَسُهُ وَمَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ مِنْ اللِّبَاسِ وَالطِّيبِ وَالصَّيْدِ وَإِزَالَةِ الشَّعْرِ وَالظُّفْرِ وَالْوَطْءِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِشَهْوَةٍ، وَدَهْنِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ مَكَّةَ أَحْرَمَ مِنْ مِيقَاتِ بَلَدِهِ حِينَ يَبْتَدِئُ السَّيْرَ، كَمَا سَبَقَ فِي الْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ فِي مَكَّةَ وَأَرَادَ الْعُمْرَةَ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَيُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ، وَيَسْتَلِمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ الْحُرْمِ إلَى الْحِلِّ فَيَغْتَسِلُ هُنَاكَ لِلْإِحْرَامِ. وَيَلْبَسُ ثَوْبَيْنِ لِلْإِحْرَامِ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْهِ، وَيُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ إذَا سَارَ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ.
وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يُحْرِمُ عَقِبَ الصَّلَاةِ وَيُلَبِّي، وَيَسْتَمِرُّ فِي السَّيْرِ مُلَبِّيًا، وَكُلُّ هَذِهِ الْأُمُورِ كَمَا سَبَقَ فِي الْحَجِّ، وَلَا يَزَالُ يُلَبِّي حَتَّى يَبْدَأَ فِي الطَّوَافِ فَيَقْطَعَ التَّلْبِيَةَ بِأَوَّلِ شُرُوعِهِ فِيهِ، وَيَرْمُلَ فِي الطَّوْفَاتِ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ مِنْ السَّبْعِ وَيَمْشِي فِي الْأَرْبَعِ كَمَا سَبَقَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الطَّوَافِ صَلَّى رَكْعَتَيْهِ خَلْفَ الْمَقَامِ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَابِ الصَّفَا فَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ كَمَا وَصَفْنَاهُ فِي الْحَجِّ، وَشُرُوطُ سَعْيِهِ وَآدَابِهِ هُنَاكَ كَمَا سَبَقَ فِي الْحَجِّ، فَإِذَا تَمَّ سَعْيُهُ

 

ج / 8 ص -149-       حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ، فَإِذَا فَعَلَ هَذَا تَمَّتْ عُمْرَتُهُ وَحَلَّ مِنْهَا حِلًّا وَاحِدًا، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا إلَّا تَحَلُّلُ وَاحِدٌ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ: فَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ اُسْتُحِبَّ ذَبْحُهُ بَعْدَ السَّعْيِ وَقَبْلَ الْحَلْقِ، وَحَيْثُ نَحَرَ مِنْ مَكَّةَ أَوْ سَائِرِ الْحَرَمِ أَجْزَأَهُ، لَكِنْ الْأَفْضَلُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ، لِأَنَّهَا مَوْضِعُ تَحَلُّلِهِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ الذَّبْحُ بِمِنًى لِأَنَّهَا مَوْضِعُ تَحَلُّلِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَوْ جَامَعَ الْمُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ حَتَّى لَوْ طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ شَعْرَتَيْنِ فَجَامَعَ قَبْلَ إزَالَةِ الشَّعْرَةِ الثَّالِثَةِ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ إنْ قُلْنَا الْحَلْقُ نُسُكٌ، وَحُكْمُ فَسَادِهَا كَفَسَادِ الْحَجِّ فَيَجِبُ الْمُضِيُّ فِي فَاسِدِهَا وَيَجِبُ الْقَضَاءُ وَالْبَدَنَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ نَفْسِ مَكَّةَ صَحَّ إحْرَامُهُ وَكَانَ مُسِيئًا وَيَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ إلَى أَدْنَى الْحِلِّ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ بَلْ طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ فَقَوْلَانِ أصحهما: يُجْزِئُهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ، وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَقْصَاةً بِفُرُوعِهَا حَيْثُ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ بَابِ الْمَوَاقِيتِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: أَرْكَانُ الْحَجِّ أَرْبَعَةٌ: الْإِحْرَامُ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَوَاجِبَاتُهُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ وَالرَّمْيُ، وَفِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ إلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، وَالْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ، وَالْمَبِيتُ بِمِنًى فِي لَيَالِي الرَّمْيِ، وَفِي طَوَافِ الْوَدَاعِ قَوْلَانِ أحدهما: إنَّهُ وَاجِبٌ والثاني: لَيْسَ بِوَاجِبٍ وَسُنَنُهُ الْغُسْلُ، وَطَوَافُ الْقُدُومِ، وَالرَّمَلُ، وَالِاضْطِبَاعُ فِي الطَّوَافِ وَالسَّعْيُ، وَاسْتِلَامُ الرُّكْنِ وَتَقْبِيلُهُ، وَالسَّعْيُ فِي مَوْضِعِ السَّعْيِ، وَالْمَشْيُ فِي مَوْضِعِ الْمَشْيِ، وَالْخُطَبُ، وَالْأَذْكَارُ، وَالْأَدْعِيَةُ. وَأَفْعَالُ الْعُمْرَةِ كُلُّهَا أَرْكَانٌ إلَّا الْحَلْقَ. فَمَنْ تَرَكَ رُكْنًا لَمْ يَتِمَّ نُسُكُهُ، وَلَا يَتَحَلَّلُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ. وَمَنْ تَرَكَ وَاجِبًا لَزِمَهُ الدَّمُ. وَمَنْ تَرَكَ سُنَّةً لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ.
الشرح:
قَالَ أَصْحَابُنَا: أَعْمَالُ الْحَجِّ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ - أَرْكَانٌ - وَوَاجِبَاتٌ وَسُنَنٌ - أَمَّا الْأَرْكَانُ فَخَمْسَةٌ: الْإِحْرَامُ وَالْوُقُوفُ وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَالسَّعْيُ وَالْحَلْقُ، إذَا قُلْنَا بِالْأَصَحِّ إنَّ الْحَلْقَ نُسُكٌ، وَإِنْ قُلْنَا: لَيْسَ بِنُسُكٍ فَأَرْكَانُهُ الْأَرْبَعَةُ الْأُولَى وَأَمَّا الْوَاجِبَاتُ فَاثْنَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا، وَأَرْبَعَةٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا. أَمَّا الِاثْنَانِ فَإِنْشَاءُ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ وَالرَّمْيِ، فَهَذَانِ وَاجِبَانِ بِلَا خِلَافٍ. وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ فَأَحَدُهَا: الْجَمْعُ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، لِمَنْ أَمْكَنَهُ ذَلِكَ كَمَا سَبَقَ الثَّانِي: الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ الثَّالِثُ: الْمَبِيتُ لَيَالِي مِنًى الرَّابِعُ: طَوَافُ الْوَدَاعِ، وَفِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ قَوْلَانِ أحدهما: الْوُجُوبُ والثاني: الِاسْتِحْبَابُ، وَالْأَصَحُّ وُجُوبُ الثَّلَاثَةِ الْآخِرَةِ دُونَ الْجَمْعِ.
وَأَمَّا السُّنَنُ فَجَمِيعُ مَا سَبَقَ مِمَّا يُؤْمَرُ بِهِ الْحَاجُّ سِوَى الْأَرْكَانِ وَالْوَاجِبَاتِ، وَذَلِكَ كَطَوَافِ الْقُدُومِ وَالْأَذْكَارِ وَالْأَدْعِيَةِ وَاسْتِلَامِ الْحَجَرِ وَتَقْبِيلِهِ وَالسُّجُودِ عَلَيْهِ وَالرَّمَلِ وَالِاضْطِبَاعِ وَسَائِرِ مَا نُدِبَ إلَيْهِ مِنْ الْهَيْئَاتِ السَّابِقَةِ فِي الطَّوَافِ، وَفِي السَّعْيِ وَالْخُطَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ سَبَقَتْ كُلُّهَا وَاضِحَةً.
وَأَمَّا أَحْكَامُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ: فَالْأَرْكَانُ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ وَيُجْزِئُ حَتَّى يَأْتِيَ بِجَمِيعِهَا، وَلَا يَحِلُّ مِنْ إحْرَامِهِ مَهْمَا بَقِيَ مِنْهَا شَيْءٌ حَتَّى لَوْ أَتَى بِالْأَرْكَانِ كُلِّهَا إلَّا أَنَّهُ تَرَكَ طَوْفَةً مِنْ السَّبْعِ أَوْ مَرَّةً مِنْ السَّعْيِ

 

ج / 8 ص -150-       لَمْ يَصِحَّ حَجُّهُ وَلَمْ يَحْصُلْ التَّحَلُّلُ الثَّانِي. وَكَذَا لَوْ حَلَقَ شَعْرَتَيْنِ لَمْ يَتِمَّ وَلَا يَحِلُّ حَتَّى يَحْلِقَ شَعْرَةً ثَالِثَةً، وَلَا يُجْبَرُ شَيْءٌ مِنْ الْأَرْكَانِ بِدَمٍ وَلَا غَيْرِهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهِ. وَثَلَاثَةٌ مِنْهَا وَهِيَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَالْحَلْقُ لَا آخِرَ لِوَقْتِهَا، بَلْ لَا تَفُوتُ مَا دَامَ حَيًّا، وَلَا يَخْتَصُّ الْحَلْقُ بِمِنًى وَالْحَرَمِ، بَلْ يَجُوزُ فِي الْوَطَنِ وَغَيْرِهِ كَمَا سَبَقَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّرْتِيبَ شَرْطٌ فِي هَذِهِ الْأَرْكَانِ فَيُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ الْإِحْرَامِ عَلَى جَمِيعِهَا وَيُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ الْوُقُوفِ عَلَى طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُ السَّعْيِ بَعْدَ طَوَافٍ صَحِيحٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ الْوُقُوفِ عَلَى السَّعْيِ بَلْ يَصِحُّ سَعْيُهُ بَعْدَ طَوَافِ الْقُدُومِ وَهُوَ أَفْضَلُ كَمَا سَبَقَ، وَلَا تَرْتِيبَ بَيْنَ الطَّوَافِ وَالْحَلْقِ، وَهَذَا كُلُّهُ سَبَقَ بَيَانُهُ، وَإِنَّمَا نَبَّهْت عَلَيْهِ مُلَخِّصًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْوَاجِبَاتُ فَمَنْ تَرَكَ مِنْهَا شَيْئًا لَزِمَهُ الدَّمُ، وَيَصِحُّ الْحَجُّ بِدُونِهِ، وَسَوَاءٌ تَرَكَهَا كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا عَمْدًا أَوْ سَهْوًا لَكِنَّ الْعَامِدَ يَأْثَمُ وأما: السُّنَنُ فَمَنْ تَرَكَهَا كُلَّهَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، لَا إثْمَ وَلَا دَمَ وَلَا غَيْرَهُ، لَكِنْ فَاتَهُ الْكَمَالُ وَالْفَضِيلَةُ وَعَظِيمُ ثَوَابِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَأَرْكَانُهَا الْإِحْرَامُ وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَالْحَلْقُ - إنْ جَعَلْنَاهُ نُسُكًا - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ: أَنَّ الْمُصَنِّفَ جَعَلَ الْحَلْقَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فِي "التَّنْبِيهِ"، وَلَمْ يَذْكُرْهُ هُنَا فِي الْوَاجِبَاتِ وَلَا فِي أَرْكَانِ الْحَجِّ وَالصَّوَابُ: أَنَّهُ رُكْنٌ إذَا جَعَلْنَاهُ نُسُكًا، هَكَذَا صَرَّحَ بِهِ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيُسْتَحَبُّ دُخُولُ الْبَيْتِ لِمَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ دَخَلَ فِي حَسَنَةٍ وَخَرَجَ مِنْ سَيِّئَةٍ مَغْفُورًا لَهُ" وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ، لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا تَعْدِلُ أَلْفَ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ بِمِائَةِ صَلَاةٍ" وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ" وَيُسْتَحَبُّ إذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ أَسْفَلِهَا، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا جَاءَ إلَى مَكَّةَ دَخَلَهَا مِنْ أَعْلَاهَا، وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا" قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ: وَيَخْرُجُ وَبَصَرُهُ إلَى الْبَيْتِ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ".
الشرح: حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَقَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمِّلِ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ بِلَفْظِهِ الْمَذْكُورُ فَغَرِيبٌ، وَيُغْنِي عَنْهُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ منها: حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مَرْفُوعًا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ وَمِنْ رِوَايَةِ مَيْمُونَةَ كُلُّهُمْ بِهَذَا اللَّفْظِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رضي الله عنهما قَالَ:
"قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ صَلَاةٍ فِي مَسْجِدِي" رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي "مُسْنَدِهِ" وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:

 

ج / 8 ص -151-       "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا تَعْدِلُ أَلْفَ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ فَهُوَ أَفْضَلُ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَأَمَّا حَدِيثُ:
"مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ"1 فَرَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ ضَعِيفٍ مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ. تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمِّلِ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَيُغْنِي عَنْهُ مَا سَنَذْكُرُهُ قَرِيبًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ فَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي أَوَّلِ هَذَا الْبَابِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَأَمَّا زَمْزَمُ فَبِئْرٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ ثَمَانٍ وَثَلَاثُونَ ذِرَاعًا قِيلَ سُمِيَتْ زَمْزَمَ لِكَثْرَةِ مَائِهَا. يُقَالُ مَاءٌ زَمْزَمُ وَزُمْزُومٌ وَزُمَازِمٌ إذَا كَانَ كَثِيرًا وَقِيلَ لِضَمِّ هَاجَرَ رضي الله عنها لِمَائِهَا حِينَ انْفَجَرَتْ وَزَمِّهَا إيَّاهُ. وَقِيلَ لِزَمْزَمَةِ جِبْرِيلَ صلى الله عليه وسلم وَكَلَامِهِ، وَقِيلَ إنَّهَا غَيْرُ مُشْتَقَّةٍ، وَلَهَا أَسْمَاءٌ أُخَرُ منها: بَرَّةٌ وَهَزْمَةُ جِبْرِيلَ، وَالْهَزْمَةُ الْغَمْزَةُ بِالْعَقِبِ فِي الْأَرْضِ وَمِنْهَا: الْمَضْنُونَةُ، وَتُكْتَمُ2 وَشُبَاعَةُ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ ذُكِرَتْ فِي "تَهْذِيبِ اللُّغَاتِ" نَفَائِسُ أُخْرَى تَتَعَلَّقُ بِزَمْزَمَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
أَمَّا الْأَحْكَامُ: فَفِيهَا مَسَائِلُ إحداها: يُسْتَحَبُّ دُخُولُ الْكَعْبَةِ وَالصَّلَاةُ فِيهَا، وَأَقَلُّ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ كَمَا سَبَقَ، وَيُغْنِي عَنْهُ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي "الصَّحِيحِ" مِنْهَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
"دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْت أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ، فَلَقِيت بِلَالًا فَسَأَلْتُهُ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ، وَفِي رِوَايَةٍ: "إنَّ ذَلِكَ كَانَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ" وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ: "سَأَلَ بِلَالًا أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ" وَعَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ: "سَأَلَ بِلَالًا أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي فِي الْكَعْبَةِ؟ - فَأَرَاهُ بِلَالٌ حَيْثُ صَلَّى وَلَمْ يَسْأَلْهُ3، قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إذَا دَخَلَ الْبَيْتَ مَشَى قِبَلَ وَجْهِهِ وَجَعَلَ الْبَابَ قِبَلَ ظَهْرِهِ ثُمَّ مَشَى حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ، ثُمَّ صَلَّى يَتَوَخَّى الْمَكَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِلَالٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى فِيهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رضي الله عنهم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم
لَمَّا دَخَلَ الْبَيْتَ دَعَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 رواه ابن ماجه بسند جيد وكذا ابن أبي شيبة عن جابر بن عبد الله وأخرجه الدار قطني عن ابن عباس بزيادة (إن شربته لتشفى شفاك الله، وأن شربته لشبعك الله وأن شربته لقطع ظمئك قطعه الله هي هزيمة جبريل وسقيا إسماعيل) والحديث مع كونه حسنا فإن الواقع يؤيده، وقد جربنا صدق هذه الأحاديث فتحقق لنا كثير من النعم التي سألنا الله عند شربها.
2 تكتم بالبناء للمجهول، قال في "القاموس": على ما لم يسم فاعله اسم لزمزم والشباعة كقدامة (المطيعي).
3 قال البخاري رضي الله عنه في باب الأبواب والغلق للكعبة والمساجد: حدثنا أبو النعمان وقتيبة قالا حدثنا حماد عن أيوب عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قدم مكة فدعا عثمان بن طلحة ففتح الباب فدخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبلال وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة ثم أغلق الباب فلبث فيه ساعة ثم خرجوا قال ابن عمر فدبرت بلالاً فقال: صلى فيه فقلت: في أي؟ قال: بين الأسطوانتين قال ابن عمر: فذهب على أن أسامة كم صلى؟!. هـ.

 

ج / 8 ص -152-       فِي نَوَاحِيه كُلِّهَا وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ" قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْأَخْذُ بِرِوَايَةِ بِلَالٍ فِي إثْبَاتِ الصَّلَاةِ أَوْلَى لِأَنَّهُ مُثْبِتٌ فَقُدِّمَ عَلَى النَّافِي، وَلِأَنَّهُ شَاهَدَ بِعَيْنِهِ مَا لَمْ يُشَاهِدْهُ أُسَامَةُ، وَسَبَبُهُ أَنَّ بِلَالًا كَانَ قَرِيبًا مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ صَلَّى، رَاقَبَهُ فِي ذَلِكَ فَرَآهُ يُصَلِّي، وَكَانَ أُسَامَةُ مُتَبَاعِدًا مُشْتَغِلًا بِالدُّعَاءِ وَالْبَابُ مُغْلَقٌ فَلَمْ يَرَ الصَّلَاةَ فَوَجَبَ الْأَخْذُ بِرِوَايَةِ بِلَالٍ، لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةَ عِلْمٍ. وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: "أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها كَانَتْ تَقُولُ: عَجَبًا لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ إذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ كَيْفَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ قِبَلَ السَّقْفِ؟ يَدَعُ ذَلِكَ إجْلَالًا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِعْظَامًا، دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْكَعْبَةَ مَا خَلَفَ بَصَرُهُ مَوْضِعَ سُجُودِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْهَا" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ.
وَأَمَّا حَدِيثُ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ:
"قُلْت لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى: أَدَخَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ فِي عُمْرَتِهِ؟ قَالَ لَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِي وَهُوَ قَرِيرُ الْعَيْنِ طَيِّبُ النَّفْسِ، ثُمَّ رَجَعَ إلَيَّ وَهُوَ حَزِينٌ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْت مِنْ عِنْدِي وَأَنْتَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ إنِّي دَخَلْت الْكَعْبَةَ وَوَدِدْت أَنِّي لَمْ أَكُنْ فَعَلْتُهُ، إنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ أَتْعَبْت أُمَّتِي بَعْدِي" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: هَذَا كَانَ فِي حَجَّتِهِ صلى الله عليه وسلم وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي أَوْفَى فِي عُمْرَتِهِ فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَهُمَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: يَنْبَغِي لِدَاخِلِ الْكَعْبَةِ أَنْ يَكُونَ مُتَوَاضِعًا خَاشِعًا خَاضِعًا، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، وَلِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْأَرْضِ وَمَحَلُّ الرَّحْمَةِ وَالْأَمَانِ، وَيَدْخُلُ حَافِيًا وَيُصَلِّي فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ السَّابِقِ، وَهُوَ مُقَابِلُ بَابِ الْكَعْبَةِ عَلَى ثَلَاثِ أَذْرُعٍ مِنْ الْجِدَارِ الْمُقَابِلِ لِلْبَابِ.
فرع: قَدْ سَبَقَ فِي بَابِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ أَنَّ مَذْهَبَنَا جَوَازُ صَلَاةِ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ فِي الْكَعْبَةِ، وَأَنَّ النَّفَلَ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْ خَارِجِهَا، وَكَذَا الْفَرْضُ الَّذِي لَا يُرْجَى لَهُ جَمَاعَةٌ.
فرع: يُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ دُخُولِ الْحِجْرِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ وَالدُّعَاءِ، لِأَنَّهُ مِنْ الْبَيْتِ أَوْ بَعْضُهُ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الدُّعَاءَ يُسْتَجَابُ فِيهِ.
فرع: إذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَلْيَحْذَرْ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ الِاغْتِرَارِ بِمَا أَحْدَثَهُ بَعْضُ أَهْلِ الضَّلَالَةِ فِي الْكَعْبَةِ الْمُكَرَّمَةِ، قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ رحمه الله ابْتَدَعَ مِنْ قَرِيبٍ بَعْضُ الْفَجَرَةِ الْمُخْتَالِينَ فِي الْكَعْبَةِ الْمُكَرَّمَةِ أَمْرَيْنِ بَاطِلَيْنِ عَظُمَ ضَرَرُهُمَا عَلَى الْعَامَّةِ أحدهما: مَا يَذْكُرُونَهُ مِنْ الْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، عَمَدُوا إلَى مَوْضِعٍ عَالٍ مِنْ جِدَارِ الْبَيْتِ الْمُقَابِلِ لِبَابِ الْبَيْتِ فَسَمَّوْهُ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَأَوْقَعُوا فِي نُفُوسِ الْعَامَّةِ أَنَّ مَنْ نَالَهُ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، فَأَحْوَجُوهُمْ إلَى مُقَاسَاةِ عَنَاءٍ وَشِدَّةٍ فِي الْوُصُولِ إلَيْهَا، وَيَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَرُبَّمَا صَعِدَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى ظَهْرِ الرَّجُلِ، وَلَامَسَتْ الرِّجَالَ وَلَامَسُوهَا، فَلَحِقَهُمْ بِذَلِكَ أَنْوَاعٌ مِنْ الضَّرَرِ دِينًا وَدُنْيَا الثَّانِي: مِسْمَارٌ فِي وَسَطِ الْكَعْبَةِ سَمَّوْهُ سُرَّةَ الدُّنْيَا، وَحَمَلُوا الْعَامَّةَ عَلَى أَنْ يَكْشِفَ أَحَدُهُمْ سُرَّتَهُ وَيَنْبَطِحَ بِهَا عَلَى ذَلِكَ الْمِسْمَارِ، لِيَكُونَ وَاضِعًا سُرَّتَهُ عَلَى سُرَّةِ الدُّنْيَا، قَاتَلَ اللَّهُ وَاضِعَ ذَلِكَ وَمُخْتَرِعَهُ. هَذَا كَلَامُ أَبِي عَمْرٍو، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ كَمَا قَالَ فَهُمَا أَمْرَانِ بَاطِلَانِ أَحْدَثُوهُمَا لِأَغْرَاضٍ فَاسِدَةٍ وَلِلتَّوَصُّلِ إلَى سُحْتٍ يَأْخُذُونَهُ مِنْ الْعَامَّةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 8 ص -153-       فرع: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ اسْتِحْبَابِ دُخُولِ الْبَيْتِ هُوَ فِيمَا إذَا لَمْ يَتَضَرَّرْ هُوَ، وَلَا يَتَضَرَّرْ بِهِ أَحَدٌ فَإِنْ تَأَذَّى أَوْ آذَى لَمْ يَدْخُلْ، وَهَذَا مِمَّا يَغْلَطُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ فَيَتَزَاحَمُونَ زَحْمَةً شَدِيدَةً بِحَيْثُ يُؤْذِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَرُبَّمَا انْكَشَفَتْ عَوْرَةُ بَعْضِهِمْ أَوْ كَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَرُبَّمَا زَاحَمَ الْمَرْأَةَ وَهِيَ مَكْشُوفَةُ الْوَجْهِ وَلَامَسَهَا، وَهَذَا كُلُّهُ خَطَأٌ تَفْعَلُهُ الْجَهَلَةُ وَيَغْتَرُّ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَكَيْفَ يُحَاوِلُ الْعَاقِلُ سُنَّةً بِارْتِكَابِ مُحَرَّمٍ مِنْ الْأَذَى وَغَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لِلْجَالِسِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ اسْتِقْبَالُ الْكَعْبَةِ وَالنَّظَرُ إلَيْهَا وَالْقُرْبُ مِنْهَا وَيَنْظُرُ إلَيْهَا إيمَانًا وَاحْتِسَابًا، وَقَدْ جَاءَتْ آثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي النَّظَرِ إلَيْهَا.
فرع: يَنْبَغِي لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِ أَنْ يَغْتَنِمَ مُدَّةَ إقَامَتِهِ بِمَكَّةَ، وَيُكْثِرَ الِاعْتِمَارَ وَالطَّوَافَ وَالصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَسَبَقَ بَيَانُ الْخِلَافِ فِي الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ؟ فِي مَسَائِلِ طَوَافِ الْقُدُومِ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَزُورَ الْمَوَاضِعَ الْمَشْهُورَةَ بِالْفَضْلِ فِي مَكَّةَ، وَهِيَ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ منها: بَيْتُ الْمَوْلِدِ، وَبَيْتُ خَدِيجَةَ، وَمَسْجِدُ دَارِ الْأَرْقَمِ، وَالْغَارُ الَّذِي فِي ثَوْرٍ وَالْغَارُ الَّذِي فِي حِرَاءٍ، وَقَدْ أَوْضَحْتهَا فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَصْحَابُ وَغَيْرُهُمْ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ، وَأَنْ يُكْثِرَ مِنْهُ، وَأَنْ يَتَضَلَّعَ مِنْهُ - أَيْ يَتَمَلَّى - وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْرَبَهُ لِمَطْلُوبَاتِهِ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْرَبَهُ لِلْمَغْفِرَةِ أَوْ الشِّفَاءِ مِنْ مَرَضٍ وَنَحْوِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى، ثُمَّ قَالَ: "اللَّهُمَّ إنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَك صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ" اللَّهُمَّ إنِّي أَشْرَبُهُ لِتَغْفِرَ لِي، اللَّهُمَّ فَاغْفِرْ لِي أَوْ اللَّهُمَّ إنِّي أَشْرَبُهُ مُسْتَشْفِيًا بِهِ [مِنْ] مَرَضٍ، اللَّهُمَّ فَاشْفِنِي" وَنَحْوَ هَذَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَنَفَّسَ ثَلَاثًا كَمَا فِي كُلِّ شُرْبٍ، فَإِذَا فَرَغَ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَقَدْ جَاءَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ.
منها: حَدِيثُ جَابِرٍ قَالَ: "ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَفَاضَ إلَى الْبَيْتِ فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ. فَأَتَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْتَقُونَ عَلَى زَمْزَمَ فَقَالَ انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَلَوْلَا أَنْ يَغْلِبَكُمْ النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْت مَعَكُمْ، فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ فِي مَاءِ زَمْزَمَ: "إنَّهَا مُبَارَكَةٌ إنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ وَشِفَاءُ سُقْمٍ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم: "أَتَى زَمْزَمَ فَشَرِبَ، وَهُمْ يَسْقُونَ مِنْ زَمْزَمَ فَقَالَ: أَحْسَنْتُمْ وَأَجْمَلْتُمْ كَذَا فَاصْنَعُوا" وَفِي رِوَايَةٍ: "إنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٍ.
وَعَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ" وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ الْأَسْوَدِ قَالَ: "حَدَّثَنِي جَلِيسٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ أَيْنَ جِئْت؟ قُلْت: شَرِبْت مِنْ زَمْزَمَ قَالَ: شَرِبْت كَمَا يَنْبَغِي؟ قُلْت: كَيْفَ أَشْرَبُ؟ قَالَ: إذَا شَرِبْت فَاسْتَقْبِلْ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ اُذْكُرْ اللَّهَ تَعَالَى، ثُمَّ تَنَفَّسْ ثَلَاثًا وَتَضَلَّعْ مِنْهَا، فَإِذَا فَرَغْت فَاحْمَدْ اللَّهَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: آيَةُ مَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ لَا يَتَضَلَّعُونَ مِنْ زَمْزَمَ "وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ جِئْت؟ قَالَ شَرِبْت مِنْ زَمْزَمَ فَذَكَرَ بِنَحْوِهِ" رَوَاهُمَا الْبَيْهَقِيُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

 

ج / 8 ص -154-       فرع: قَالَ أَصْحَابُنَا: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ نَبِيذِ سِقَايَةِ الْعَبَّاسِ إنْ كَانَ هُنَاكَ نَبِيذٌ - قَالُوا: وَالنَّبِيذُ: الَّذِي يَجُوزُ شُرْبُهُ مَا لَمْ يُسْكِرْ "وَاحْتَجُّوا" لِلْمَسْأَلَةِ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٌ: "أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُمْ - يَعْنِي بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ إلَى زَمْزَمَ - فَاسْتَسْقَى قَالَ: فَأَتَيْنَاهُ بِإِنَاءٍ مِنْ نَبِيذٍ فَشَرِبَ وَسَقَى فَضْلَهُ أُسَامَةَ".
الثَّالِثَةُ: السُّنَّةُ إذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ إلَى وَطَنِهِ - أَنْ يَخْرُجَ مِنْ أَسْفَلِهَا مِنْ ثَنِيَّةِ كُدًى - بِضَمِّ الْكَافِ وَالْقَصْرِ - وَقَدْ سَبَقَتْ الْمَسْأَلَةُ وَاضِحَةً فِي أَوَّلِ الْبَابِ، وَعَجَبٌ كَيْفَ ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْ الْبَابِ.
الرَّابِعَةُ: قَالَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الزُّبَيْرِ "يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ وَبَصَرُهُ إلَى الْبَيْتِ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ" وَبِهَذَا قَطَعَ جَمَاعَةٌ آخَرُونَ. وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ فِي "تَعْلِيقِهِ" وَآخَرُونَ: يَلْتَفِتُ إلَيْهِ فِي حَالِ انْصِرَافِهِ كَالْمُتَحَزِّنِ عَلَيْهِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِنَا: يَخْرُجُ مَاشِيًا تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، وَيُوَلِّي الْكَعْبَةَ ظَهْرَهُ، وَلَا يَمْشِي قَهْقَرَى أَيْ كَمَا يَفْعَلُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، قَالُوا: بَلْ الْمَشْيُ قَهْقَرَى مَكْرُوهٌ، لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ لَيْسَ فِيهِ سُنَّةٌ مَرْوِيَّةٌ. وَلَا أَثَرٌ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ. فَهُوَ مُحْدَثٌ لَا أَصْلَ لَهُ فَلَا يُفْعَلُ. وَقَدْ جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ كَرَاهَةُ قِيَامِ الرَّجُلِ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ نَاظِرًا إلَى الْكَعْبَةِ إذَا أَرَادَ الِانْصِرَافَ إلَى وَطَنِهِ بَلْ يَكُونُ آخِرُ عَهْدِهِ الدُّعَاءَ فِي الْمُلْتَزَمِ، وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّالِثُ هُوَ الصَّوَابُ وَمِمَّنْ قَطَعَ بِهِ مِنْ أَئِمَّةِ أَصْحَابِنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ وَالْمَاوَرْدِيُّ.
قَالَ الْمُصَنِّفُ رحمه الله تعالى: وَيُسْتَحَبُّ زِيَارَةُ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ1 رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "
مَنْ زَارَ قَبْرِي وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتِي" وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُصَلِّيَ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا تَعْدِلُ أَلْفَ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ".
الشرح: أَمَّا حَدِيثُ "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي" فَسَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا، وَأَنَّهُ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ رِوَايَةِ جَمَاعَةٍ، وَيُنْكَرُ عَلَى الْمُصَنِّفِ لِكَوْنِهِ حَذَفَ مِنْهُ الِاسْتِثْنَاءَ، وَهُوَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم "إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ" كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ. وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فَرَوَاهُ الْبَرَاءُ وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادَيْنِ ضَعِيفَيْنِ2.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وفي بعض النسخ ابن عباس وكان كذلك في ش. و. ق. ولكن الشارح يعتمد ابن عمر كما ترى. (ط).
2 قلت: وأخرجه البيهقي في "الشعب" (أخبرنا أبو سعيد الماليني أنبأنا أبو أحمد بن عدي الحافظ حدثنا محمد بن موسى الحلواني حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة حدثنا موسى بن هلال عن عبد الله العمري عن نافع عن ابن عمر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من زار قبري وجبت له شفاعتي) وهذا الإسناد نعته البيهقي بالنكارة. وإذا كانت النكارة قد جاءته من قبل عبد الله العمري فقد جاء من طرق أخرى عن عبيد الله بالتصغير وله متابعات كثيرة ذكرها الحافظ علي بن عبد الكافي السبكي صاحب "التكملة" الأولى لهذا الكتاب وهي القدر الذي طبعناه في جزءيه المباركين العاشر والحادي عشر.
وللإنصاف نذكر في موضوع الزيارة هذا ما ورد فيه من الأخبار بأسانيدها والكلام على من كان فيه جرح وعلى من كان معدولاً. وينبغي أن تعلم - وفقني الله وإياك للرشاد أن عبد الله العمري المذكور في الإسناد السابق له =

 

ج / 8 ص -155-       مِمَّا جَاءَ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَسْجِدِهِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَعَلَى صَاحِبَيْهِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رضي الله عنهما حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ أَحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلَّا رَدَّ اللَّهُ عَلَيَّ رُوحِي حَتَّى أَرُدَّ عليه السلام" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَعَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا بَيْنَ قَبْرِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَرَوَيَاهُ أَيْضًا مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ.
وَعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: "
كَانَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ الْأُسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ الْمُصْحَفِ، قُلْت: يَا أَبَا مُسْلِمٍ أَرَاك تَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةِ قَالَ رَأَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَتَحَرَّى الصَّلَاةَ عِنْدَهَا" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ثُمَّ أَتَى الْقَبْرَ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَتَاهُ" رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ زِيَارَةَ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهَمِّ الْقُرُبَاتِ وَأَنْجَحِ الْمَسَاعِي، فَإِذَا انْصَرَفَ الْحُجَّاجُ وَالْمُعْتَمِرُونَ مِنْ مَكَّةَ اُسْتُحِبَّ لَهُمْ اسْتِحْبَابًا مُتَأَكَّدًا أَنْ يَتَوَجَّهُوا إلَى الْمَدِينَةِ لِزِيَارَتِهِ صلى الله عليه وسلم وَيَنْوِي الزَّائِرُ مِنْ الزِّيَارَةِ التَّقَرُّبَ وَشَدَّ الرَّحْلِ إلَيْهِ وَالصَّلَاةَ فِيهِ، وَإِذَا تَوَجَّهَ فَلْيُكْثِرْ مِنْ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أخ ثقة هو عبيد الله بالتصغير قال الدولابي في "الكنى" في ترجمة عبد الله العمري: حدثنا علي بن معبد بن نوح ثنا موسى بن هلال ثنا عبدالله بن عمر أبو عبد الرحمن أخو عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(من زار قبري وجبت له شفاعتي قال: وما بين قبري ومنبري ترعة من ترع الجنة) وقال الدار قطني أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد بن مهدي الحافظ في عدة نسخ معتمدة من "سننه": حدثنا القاضي المحاملي ثنا عبيد بن محمد الوراق ثنا موسى بن هلال العبدي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (من زار قبري وجبت له شفاعتي) هكذا هو في عدة نسخ معتمدة من "سنن الدارقطني" عبيد الله مصغراً وكان الضعف من قبل عبد الله ومن هذه نسخة كتبها عنه أحمد بن محمد بن الحارث الأصفهاني قال الشيخ تقي الدين وعليها طباق كثيرة على ابن عبد الرحمن فمن بعده إلى شيخنا قال: ورواه الدارقطني كذلك في غير "السنن" واتفقت روايته على ذلك في "السنن" وفي غيره من طريق ابن عبد الرحيم كما ذكرناه ثم ذكره بإسناد آخر إلى الدارقطني وقال: هكذا أورده اليمن ابن أبي الحسن بن الحسن في كتاب "إتحاف الزائر وإطراق المقيم للسائر" في زيارة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو عندي عليه خط مصنفه وقراءة أبي عمر وعثمان بن محمد التوزي لجميعه عليه وكذلك أورده الحافظ أبو الحسين القرشي في كتاب "الدلائل المبينة في فضائل المدينة" ورواه عن الدارقطني أبو النعمان تراب بن عمر بن عبيد حدثنا أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني ثنا أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل قال: حدثنا عبيد بن محمد الوراق ثنا موسى بن هلال العبدي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول صلى الله عليه وآله وسلم (من زار قبر وجبت له شفاعتي) فإذا كانت طريق عبد الله هي الضعيفة فطريق عبيد الله قد زال عنها هذا الوهاء ولعل نافعاً سمعه من الأخوين فرواه مرة عن الكبير ومرة عن الصغير الثقة والله يهدينا إلى أرشد أمورنا ولا يصرفنا هذا الراوي ولا ذاك عن حب نبينا الذي يجري حبه في دمائنا ويملأ علينا أقطار نفوسنا جعلنا الله من حزبه وحشرنا تحت رايته (ط).

 

ج / 8 ص -156-       طَرِيقِهِ، فَإِذَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى أَشْجَارِ الْمَدِينَةِ وَحَرَمِهَا وَمَا يُعْرَفُ بِهَا زَادَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَنْفَعَهُ بِهَذِهِ الزِّيَارَةِ وَأَنْ يَقْبَلَهَا مِنْهُ" وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَغْتَسِلَ قَبْلَ دُخُولِهِ وَيَلْبَسَ أَنْظَفَ ثِيَابِهِ، وَيَسْتَحْضِرَ فِي قَلْبِهِ شَرَفَ الْمَدِينَةِ، وَأَنَّهَا أَفْضَلُ الْأَرْضِ بَعْدَ مَكَّةَ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أَفْضَلُهَا مُطْلَقًا، وَأَنَّ الَّذِي شُرِّفَتْ بِهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرُ الْخَلَائِقِ.
وَلْيَكُنْ مِنْ أَوَّلِ قُدُومِهِ إلَى أَنْ يَرْجِعَ مُسْتَشْعِرًا لِتَعْظِيمِهِ مُمْتَلِئَ الْقَلْبِ مِنْ هَيْبَتِهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، فَإِذَا وَصَلَ بَابَ مَسْجِدِهِ صلى الله عليه وسلم فَلْيَقُلْ الذِّكْرَ الْمُسْتَحَبَّ فِي دُخُولِ كُلِّ مَسْجِدٍ وَسَبَقَ بَيَانُهُ فِي آخِرِ بَابِ مَا يُوجِبُ الْغُسْلَ، وَيُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى فِي الدُّخُولِ وَالْيُسْرَى فِي الْخُرُوجِ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ، فَإِذَا دَخَلَ قَصَدَ الرَّوْضَةَ الْكَرِيمَةَ، وَهِيَ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ فَيُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ بِجَنْبِ الْمِنْبَرِ.
وَفِي "إحْيَاءِ عُلُومِ الدِّينِ" أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَجْعَلَ عَمُودَ الْمِنْبَرِ حِذَاءَ مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ وَيَسْتَقْبِلَ السَّارِيَةَ الَّتِي إلَى جَانِبِهَا الصُّنْدُوقُ، وَتَكُونُ الدَّائِرَةُ فِي قِبْلَةِ الْمَسْجِدِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، فَذَلِكَ مَوْقِفُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ وُسِّعَ الْمَسْجِدُ بَعْدَهُ.
وَفِي "كِتَابِ الْمَدِينَةِ" أَنَّ ذَرْعَ مَا بَيْنَ الْمِنْبَرِ وَمَقَامِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ حَتَّى تُوُفِّيَ أَرْبَعَةَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا وَشِبْرًا، وَأَنَّ ذَرْعَ مَا بَيْنَ الْقَبْرِ وَالْمِنْبَرِ ثَلَاثٌ وَخَمْسُونَ ذِرَاعًا وَشِبْرًا فَإِذَا صَلَّى التَّحِيَّةَ فِي الرَّوْضَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَسْجِدِ شَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ وَسَأَلَهُ إتْمَامَ مَا قَصَدَهُ وَقَبُولَ زِيَارَتِهِ.
ثُمَّ يَأْتِي الْقَبْرَ الْكَرِيمَ فَيَسْتَدْبِرُ الْقِبْلَةَ وَيَسْتَقْبِلُ جِدَارَ الْقَبْرِ وَيُبْعِدُ مِنْ رَأْسِ الْقَبْرِ نَحْوَ أَرْبَعِ أَذْرُعٍ، وَيَجْعَلُ الْقِنْدِيلَ الَّذِي فِي الْقِبْلَةِ عِنْدَ الْقَبْرِ عَلَى رَأْسِهِ وَيَقِفُ نَاظِرًا إلَى أَسْفَلِ مَا يَسْتَقْبِلُهُ مِنْ جِدَارِ الْقَبْرِ غَاضَّ الطَّرْفِ فِي مَقَامِ الْهَيْبَةِ وَالْإِجْلَالِ فَارِغَ الْقَلْبِ مِنْ عَلَائِقِ الدُّنْيَا، مُسْتَحْضِرًا فِي قَلْبِهِ جَلَالَةَ مَوْقِفِهِ وَمَنْزِلَةَ مَنْ هُوَ بِحَضْرَتِهِ، ثُمَّ يُسَلِّمُ وَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ، بَلْ يَقْصِدُ فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا نَبِيَّ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا خِيرَةَ اللَّهِ، السَّلَامُ عَلَيْك يَا حَبِيبَ اللَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك يَا سَيِّدَ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ. السَّلَامُ عَلَيْك يَا خَيْرَ الْخَلَائِقِ أَجْمَعِينَ. السَّلَامُ عَلَيْك وَعَلَى آلِكَ وَأَهْلِ بَيْتِك وَأَزْوَاجِك وَأَصْحَابِك أَجْمَعِينَ، السَّلَامُ عَلَيْك وَعَلَى سَائِرِ النَّبِيِّينَ وَجَمِيعِ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، جَزَاك اللَّهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَنَّا أَفْضَلَ مَا جَزَى نَبِيًّا وَرَسُولًا عَنْ أُمَّتِهِ، وَصَلَّى عَلَيْك كُلَّمَا ذَكَرَك ذَاكِرٌ وَغَفَلَ عَنْ ذِكْرِك غَافِلٌ، أَفْضَلَ وَأَكْمَلَ مَا صَلَّى عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّك عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَخِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ وَأَشْهَدُ أَنَّك بَلَّغْت الرِّسَالَةَ وَأَدَّيْت الْأَمَانَةَ وَنَصَحْت الْأُمَّةَ وَجَاهَدْت فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، اللَّهُمَّ آتِهِ الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْته، وَآتِهِ نِهَايَةَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَهُ السَّائِلُونَ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ عَبْدِك وَرَسُولِك النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ.
وَمَنْ طَالَ عَلَيْهِ هَذَا كُلُّهُ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهِ، وَأَقَلُّهُ السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَاءَ عَنْ ابْنِ

 

ج / 8 ص -157-       عُمَرَ وَغَيْرِهِ مِنْ السَّلَفِ الِاقْتِصَارُ جِدًّا، فَعَنْ ابْنِ عُمَرَ مَا ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ قَرِيبًا، وَعَنْ مَالِكٍ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ. وَإِنْ كَانَ قَدْ أُوصِيَ بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ، وَفُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ يُسَلِّمُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْ نَحْوَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، ثُمَّ يَتَأَخَّرُ إلَى صَوْبِ يَمِينِهِ قَدْرَ ذِرَاعٍ لِلسَّلَامِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه لِأَنَّ رَأْسَهُ عِنْد مَنْكِبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا أَبَا بَكْرٍ صَفِيَّ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَانِيَهُ فِي الْغَارِ، جَزَاك اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرًا.
ثُمَّ يَتَأَخَّرُ إلَى صَوْبِ يَمِينِهِ قَدْرَ ذِرَاعٍ لِلسَّلَامِ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه وَيَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْك يَا عُمَرُ الَّذِي أَعَزَّ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَ، جَزَاك اللَّهُ عَنْ أُمَّةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْرًا. ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مَوْقِفِهِ الْأَوَّلِ قُبَالَةَ وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَتَوَسَّلُ بِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، وَيَسْتَشْفِعُ بِهِ إلَى رَبِّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَمِنْ أَحْسَنِ مَا يَقُولُ مَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَسَائِرُ أَصْحَابِنَا عَنْ الْعُتْبِيِّ مُسْتَحْسِنِينَ لَهُ قَالَ:
"كُنْت جَالِسًا عِنْدَ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ:
{وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء: 64] وَقَدْ جِئْتُك مُسْتَغْفِرًا مِنْ ذَنْبِي مُسْتَشْفِعًا بِك إلَى رَبِّي ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:


يَا خَيْرَ مَنْ دُفِنْت بِالْقَاعِ أَعْظَمُهُ
              
فَطَابَ مِنْ طِيبِهِنَّ الْقَاعُ وَالْأَكَمُ

نَفْسِي الْفِدَاءُ لِقَبْرٍ أَنْتَ سَاكِنُهُ               فِيهِ الْعَفَافُ وَفِيهِ الْجُودُ وَالْكَرَمُ


ثُمَّ انْصَرَفَ فَحَمَلَتْنِي عَيْنَايَ فَرَأَيْت النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فِي النَّوْمِ فَقَالَ: "يَا عُتْبِيُّ الْحَقْ الْأَعْرَابِيَّ فَبَشِّرْهُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ غَفَرَ لَهُ".
ثُمَّ يَتَقَدَّمُ إلَى رَأْسِ الْقَبْرِ فَيَقِفُ بَيْنَ الْأُسْطُوَانَةِ وَيَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَيُمَجِّدُهُ وَيَدْعُو لِنَفْسِهِ بِمَا شَاءَ وَلِوَالِدَيْهِ، وَمَنْ شَاءَ مِنْ أَقَارِبِهِ وَمَشَايِخِهِ وَإِخْوَانِهِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى الرَّوْضَةِ فَيُكْثِرُ فِيهَا مِنْ الدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ وَيَقِفُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ وَيَدْعُو.
فرع: لَا يَجُوزُ أَنْ يُطَافَ بِقَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم1 وَيُكْرَهُ إلْصَاقُ الظُّهْرِ وَالْبَطْنِ بِجِدَارِ الْقَبْرِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ الْحَلِيمِيُّ وَغَيْرُهُ، قَالُوا: وَيُكْرَهُ مَسْحُهُ بِالْيَدِ وَتَقْبِيلُهُ، بَلْ الْأَدَبُ أَنْ يَبْعُدَ مِنْهُ كَمَا يَبْعُدُ مِنْهُ لَوْ حَضَرَهُ فِي حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم. هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ الْعُلَمَاءُ وَأَطْبَقُوا عَلَيْهِ، وَلَا يُغْتَرُّ بِمُخَالَفَةِ كَثِيرِينَ مِنْ الْعَوَامّ وَفِعْلِهِمْ ذَلِكَ، فَإِنَّ الِاقْتِدَاءَ وَالْعَمَلَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مُحْدَثَاتِ الْعَوَامّ وَغَيْرِهِمْ وَجَهَالَاتِهِمْ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "
مَنْ أَحْدَثَ فِي

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كان من تمام نعمة الله على المسلمين أن قيض للحرمين الشريفين آل سعود البواصل فمنعوا القبر الشريف كثيراً مما منعه أئمة المسلمين من التمسح والالتصاق به واستلامه وتقبيله وغير ذلك من المخلفات.

 

ج / 8 ص -158-       دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ" وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: "مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ" وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عِيدًا وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلَاتَكُمْ تَبْلُغُنِي حَيْثُمَا كُنْتُمْ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ. وَقَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رحمه الله مَا مَعْنَاهُ: اتَّبِعْ طُرُقَ الْهُدَى وَلَا يَضُرُّك قِلَّةُ السَّالِكِينَ وَإِيَّاكَ وَطُرُقَ الضَّلَالَةِ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ. وَمَنْ خَطَرَ بِبَالِهِ أَنَّ الْمَسْحَ بِالْيَدِ وَنَحْوَهُ أَبْلَغُ فِي الْبَرَكَةِ، فَهُوَ مِنْ جَهَالَتِهِ وَغَفْلَتِهِ، لِأَنَّ الْبَرَكَةَ إنَّمَا هِيَ فِيمَا وَافَقَ الشَّرْعَ وَكَيْفَ يُبْتَغَى الْفَضْلُ فِي مُخَالَفَةِ الصَّوَابِ.
فرع: يَنْبَغِي لَهُ مُدَّةَ إقَامَتِهِ بِالْمَدِينَةِ أَنْ يُصَلِّيَ الصَّلَوَاتِ كُلَّهَا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْوِيَ الِاعْتِكَافَ فِيهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ.
فرع: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ كُلَّ يَوْمٍ إلَى الْبَقِيعِ خُصُوصًا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ السَّلَامِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا وَصَلَهُ دَعَا بِمَا سَبَقَ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ فِي زِيَارَةِ الْقُبُورِ، وَمِنْهُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ الْغَرْقَدِ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا وَلَهُمْ. وَيَزُورُ الْقُبُورَ الطَّاهِرَةَ فِي الْبَقِيعِ كَقَبْرِ إبْرَاهِيمَ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَعُثْمَانَ وَالْعَبَّاسِ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَعَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ وَمُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ وَجَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ وَغَيْرِهِمْ رضي الله عنهم. وَيَخْتِمُ بِقَبْرِ صَفِيَّةَ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَضِيَ عَنْهَا.
فرع: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَزُورَ قُبُورَ الشُّهَدَاءِ بِأُحُدٍ، وَأَفْضَلُهُ يَوْمُ الْخَمِيسِ، وَيَبْدَأُ بِالْحَمْزَةِ رضي الله عنه. وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم:
"خَرَجَ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إنِّي فَرَطٌ لَكُمْ وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ" وَفِي رِوَايَةٍ "صَلَّى عَلَيْهِمْ بَعْدَ ثَمَانِ سِنِينَ كَالْوَدَاعِ لِلْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، فَكَانَتْ آخِرَ نَظْرَةٍ نَظَرْتهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ الدُّعَاءُ لَهُمْ. وَقَوْلُهُ: "صَلَاتهُ عَلَى الْمَيِّتِ" أَيْ دَعَا بِدُعَاءِ صَلَاةِ الْمَيِّتِ، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا الْحَدِيثِ وَتَأْوِيلُهُ فِي كِتَابِ الْجَنَائِزِ.
فرع: يُسْتَحَبُّ اسْتِحْبَابًا مُتَأَكَّدًا أَنْ تَأْتِيَ مَسْجِدَ قُبَاءَ وَهُوَ فِي يَوْمِ السَّبْتِ آكَدُ نَاوِيًا التَّقَرُّبَ بِزِيَارَتِهِ وَالصَّلَاةِ فِيهِ، لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:
"كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِي مَسْجِدَ قُبَاءَ رَاكِبًا وَمَاشِيًا فَيُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ" وَفِي رِوَايَةٍ: "أَنَّهُ صَلَّى صلى الله عليه وسلم فِيهِ رَكْعَتَيْنِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ. وَعَنْ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ كَعُمْرَةٍ"رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْتِيَ بِئْرَ أَرِيسَ الَّتِي رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَفَلَ فِيهَا وَهُوَ عِنْدَ مَسْجِدِ قُبَاءَ" فَيَشْرَبَ مِنْهَا وَيَتَوَضَّأَ.
فرع: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَزُورَ الْمَشَاهِدَ الَّتِي بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ ثَلَاثُونَ مَوْضِعًا يَعْرِفُهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ فَيَقْصِدُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ يَأْتِي الْآبَارَ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ مِنْهَا أَوْ يَغْتَسِلُ وَهِيَ سَبْعُ آبَارٍ فَيَتَوَضَّأُ مِنْهَا وَيَشْرَبُ.
فرع: مِنْ جَهَالَاتِ الْعَامَّةِ وَبِدَعِهِمْ تَقَرُّبُهُمْ بِأَكْلِ التَّمْرِ الصَّيْحَانِيِّ فِي الرَّوْضَةِ الْكَرِيمَةِ، وَقَطْعُهُمْ

 

ج / 8 ص -159-       شُعُورَهُمْ وَرَمْيُهَا فِي الْقِنْدِيلِ الْكَبِيرِ1، وَهَذَا مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمُسْتَشْنَعَةِ وَالْبِدَعِ الْمُسْتَقْبَحَةِ.
فرع: يَنْبَغِي لَهُ فِي مُدَّةِ مَقَامِهِ بِالْمَدِينَةِ أَنْ يُلَاحِظَ بِقَلْبِهِ جَلَالَتَهَا، وَأَنَّهَا الْبَلْدَةُ الَّتِي اخْتَارَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِهِجْرَةِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتِيطَانِهِ وَمَدْفِنِهِ وَتَنْزِيلِ الْوَحْيِ، وَيَسْتَحْضِرُ تَرَدُّدَهُ فِيهَا وَمَشْيَهُ فِي بِقَاعِهَا وَتَرَدُّدَ جِبْرِيلَ صلى الله عليه وسلم فِيهَا بِالْوَحْيِ الْكَرِيمِ، وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ فَضَائِلِهَا.
فرع: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَصُومَ بِالْمَدِينَةِ مَا أَمْكَنَهُ وَأَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى جِيرَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ الْمُقِيمُونَ بِالْمَدِينَةِ مِنْ أَهْلِهَا، وَالْغُرَبَاءَ بِمَا أَمْكَنَهُ، وَيَخُصُّ أَقَارِبَهُ صلى الله عليه وسلم بِمَزِيدٍ، لِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي، أُذَكِّرُكُمْ اللَّهَ فِي أَهْلِ بَيْتِي" رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه مَوْقُوفًا عَلَيْهِ قَالَ: "اُرْقُبُوا مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم فِي أَهْلِ بَيْتِهِ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ2.
فرع: عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَحَدِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ السَّبْعَةِ قَالَ:
"بَنَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَسْجِدَهُ سَبْعِينَ ذِرَاعًا فِي سِتِّينَ ذِرَاعًا أَوْ يَزِيدُ" قَالَ أَهْلُ السِّيَرِ جَعَلَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رضي الله عنه طُولَ الْمَسْجِدِ مِائَةً وَسِتِّينَ ذِرَاعًا، وَعَرْضَهُ مِائَةً وَخَمْسِينَ ذِرَاعًا، وَجَعَلَ أَبْوَابَهُ سِتَّةً كَمَا كَانَتْ فِي زَمَانِ عُمَرَ رضي الله عنه ثُمَّ زَادَ فِيهِ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَجَعَلَ طُولَهُ مِائَةَ ذِرَاعٍ وَعَرْضَهُ فِي مُقَدَّمِهِ مِائَتَيْنِ، وَفِي مُؤَخَّرِهِ مِائَةً وَثَمَانِينَ، ثُمَّ زَادَ فِيهِ الْمَهْدِيُّ مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ جِهَةِ الشَّامِ فَقَطْ دُونَ الْجِهَاتِ الثَّلَاثِ.
فَإِذَا عَرَفْت حَالَ الْمَسْجِدِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَعْتَنِيَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ الْحَدِيثَ السَّابِقَ:
"صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ" إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا كَانَ فِي زَمَانِهِ صلى الله عليه وسلم لَكِنْ إنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ فَالتَّقَدُّمُ إلَى الصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ مَا يَلِيهِ أَفْضَلُ فَلْيَتَفَطَّنْ لِهَذَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ شَيْئًا مِنْ الْأُكَرِ الْمَعْمُولَةِ مِنْ تُرَابِ حَرَمِ الْمَدِينَةِ يُخْرِجُهُ إلَى وَطَنِهِ الَّذِي هُوَ خَارِجُ حَرَمِ الْمَدِينَةِ، وَكَذَا حُكْمُ الْكِيزَانِ وَالْأَبَارِيقِ الْمَعْمُولَةِ مِنْ حَرَمِ الْمَدِينَةِ - كَمَا سَبَقَ فِي حَرَمِ مَكَّةَ - وَكَذَا حُكْمُ الْأَحْجَارِ وَالتُّرَابِ.
فرع: إذَا أَرَادَ السَّفَرَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَالرُّجُوعَ إلَى وَطَنِهِ أَوْ غَيْرِهِ اُسْتُحِبَّ لَهُ أَنْ يُوَدِّعَ الْمَسْجِدَ بِرَكْعَتَيْنِ وَيَدْعُوَ بِمَا أَحَبَّ، وَيَأْتِيَ الْقَبْرَ وَيُعِيدَ السَّلَامَ وَالدُّعَاءَ الْمَذْكُورَيْنِ فِي ابْتِدَاءِ الزِّيَارَةِ، وَيَقُولَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ هَذَا آخِرَ الْعَهْدِ بِحَرَمِ رَسُولِك، وَسَهِّلْ لِي الْعَوْدَ إلَى الْحَرَمَيْنِ سَبِيلًا سَهْلَةً، وَالْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا، وَرُدَّنَا إلَيْهِ سَالِمِينَ غَانِمِينَ وَيَنْصَرِفُ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ لَا قَهْقَرَى إلَى خَلْفٍ.
فرع: مِمَّا شَاعَ عِنْدَ الْعَامَّةِ فِي الشَّامِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ مَا يَزْعُمُهُ بَعْضُهُمْ أَنَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أين هم الآن في عصر الكهرباء فلا قناديل ولا نيران ولا نوراً مكدراً باللهب والدخان وإنما نور صاف مهذب يحيل الليل نهار بلمسة أصبع.
2 رواه البخاري في آخر باب مناقب قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

ج / 8 ص -160-       رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ زَارَنِي وَزَارَ أَبِي إبْرَاهِيمَ فِي عَامٍ وَاحِدٍ ضَمِنْت لَهُ الْجَنَّةَ" وَهَذَا بَاطِلٌ لَيْسَ هُوَ مَرْوِيًّا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا يُعْرَفُ فِي كِتَابٍ صَحِيحٍ وَلَا ضَعِيفٍ، بَلْ وَضَعَهُ بَعْضُ الْفَجَرَةِ، وَزِيَارَةُ الْخَلِيلِ صلى الله عليه وسلم فَضِيلَةٌ لَا تُنْكَرُ وَإِنَّمَا الْمُنْكَرُ مَا رَوَوْهُ وَاعْتَقَدُوهُ وَلَا تَعَلُّقَ لِزِيَارَةِ الْخَلِيلِ1 عليه السلام بِالْحَجِّ، بَلْ هِيَ قُرْبَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: إذَا حَجَّ وَقَدَّسَ حَجَّتَيْنِ فَيَذْهَبُ فَيَزُورُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَيَرَى ذَلِكَ مِنْ تَمَامِ الْحَجِّ وَهَذَا بَاطِلٌ أَيْضًا، وَزِيَارَةُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَضِيلَةٌ وَسُنَّةٌ لَا شَكَّ فِيهَا لَكِنَّهَا غَيْرُ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْحَجِّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اسْتِحْبَابِ زِيَارَةِ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَالصَّلَاةِ فِيهِ وَعَلَى فَضْلِهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] وَثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَمَنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَمَسْجِدِي هَذَا"وَعَنْ ابْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُد صلى الله عليهما وسلم لَمَّا بَنَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خِلَالًا ثَلَاثًا، سَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ تَعَالَى مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حِينَ فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ أَلَّا يَأْتِيَهُ أَحَدٌ لَا يَنْهَزُهُ إلَّا الصَّلَاةُ فِيهِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ" رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ، وَرَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَزَادَ: "فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَمَّا اثْنَتَيْنِ فَقَدْ أُعْطِيهِمَا وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ".
وَعَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، وَيُقَالُ بِنْتُ سَعِيدٍ، مَوْلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: "يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ الْمَنْشَرُ وَالْمَحْشَرُ ايتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ فَإِنَّ صَلَاةً فِيهِ كَأَلْفِ صَلَاةٍ، قَالَتْ: أَرَأَيْت مَنْ لَمْ يُطِقْ أَنْ يَتَحَمَّلَ إلَيْهِ لَوْ يَأْتِيه؟ قَالَ: فَلْيُهْدِ إلَيْهِ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ، فَإِنَّهُ مَنْ أَهْدَى لَهُ كَانَ كَمَنْ صَلَّى فِيهِ" رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي "مُسْنَدِهِ" بِهَذَا اللَّفْظِ، وَرَوَاهُ بِهِ أَيْضًا ابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ، وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد مُخْتَصَرًا قَالَتْ: "قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ: ايتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ وَكَانَتْ الْبِلَادُ إذْ ذَاكَ حَرْبًا، فَإِنْ لَمْ تَأْتُوهُ وَتُصَلُّوا فِيهِ فَابْعَثُوا بِزَيْتٍ يُسْرَجُ فِي قَنَادِيلِهِ" هَذَا لَفْظُ رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد وَذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ.
فرع: اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُجَاوَرَةِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَطَائِفَةٌ: تُكْرَهُ الْمُجَاوَرَةُ بِمَكَّةَ، وَقَالَ أَحْمَدُ وَآخَرُونَ: تُسْتَحَبُّ، وَسَبَبُ الْكَرَاهَةِ - عِنْدَ مَنْ كَرِهَ - خَوْفُ الْمِلْكِ وَقِلَّةِ الْحُرْمَةِ لِلْأُنْسِ وَخَوْفُ مُلَابَسَةِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّ الذَّنْبَ فِيهَا أَقْبَحُ مِنْهُ فِي غَيْرِهَا، كَمَا أَنَّ الْحَسَنَةَ فِيهَا أَعْظَمُ مِنْهَا فِي غَيْرِهَا، وَدَلِيلُ مَنْ اسْتَحَبَّهَا أَنَّهُ يَتَيَسَّرُ فِيهَا مِنْ الطَّاعَاتِ مَا لَا يَحْصُلُ فِي غَيْرِهَا مِنْ الطَّوَافِ وَتَضْعِيفِ الصَّلَوَاتِ وَالْحَسَنَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُجَاوَرَةَ مُسْتَحَبَّةٌ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قد امتحن شيخ الإسلام أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن تيمية لأنه صنف كتاباً اسماه "شد الرحيل إلى قبر الخليل" فسجن بسببه هو وتلميذه ابن قيم الجوزية وقد مات في السجن رحمه الله.

 

ج / 8 ص -161-       الْوُقُوعُ فِي الْأُمُورِ الْمَذْمُومَةِ أَوْ بَعْضِهَا، وَقَدْ جَاوَرَ بِهِمَا خَلَائِقُ لَا يُحْصَوْنَ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ.
وَيَنْبَغِي لِلْمُجَاوِرِ أَنْ يُذَكِّرَ نَفْسَهُ بِمَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: "لَخَطِيئَةٌ أُصِيبُهَا بِمَكَّةَ أَعَزُّ عَلَيَّ مِنْ سَبْعِينَ خَطِيئَةً بِغَيْرِهَا" وَقَدْ ثَبَتَ فِي "صَحِيحِ مُسْلِمٍ" عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهم أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"مَنْ صَبَرَ عَلَى لَأْوَاءِ الْمَدِينَةِ وَشِدَّتِهَا كُنْت لَهُ شَهِيدًا أَوْ شَفِيعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
فَصْلٌ: مِمَّا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ صِفَةُ الْإِمَامِ الَّذِي يُقِيمُ لِلنَّاسِ الْمَنَاسِكَ، وَيَخْطُبُ بِهِمْ وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَقْضَى الْقُضَاةِ أَبُو الْحَسَنِ الْمَاوَرْدِيُّ صَاحِبُ "الْحَاوِي" فِي كِتَابِهِ "الْأَحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ" بَابًا فِي الْوِلَايَةِ عَلَى الْحَجِيجِ، أَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى مَقَاصِدَهُ قَالَ: وِلَايَةُ الْحَاجِّ ضَرْبَانِ.
أحدهما: يَكُونُ عَلَى تَسْيِيرِ الْحَجِيجِ والثاني: عَلَى إقَامَةِ الْحَجِّ، فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَهُوَ وِلَايَةُ سِيَاسَةٍ وَتَدْبِيرٍ وَشَرْطُ الْمُتَوَلِّي أَنْ يَكُونَ مُطَاعًا ذَا رَأْيٍ وَشَجَاعَةٍ وَهِدَايَةٍ وَيَلْزَمُهُ فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ:
أحدها: جَمْعُ النَّاسِ فِي مَسِيرِهِمْ وَنُزُولِهِمْ حَتَّى لَا يَتَفَرَّقُوا، فَيُخَافُ عَلَيْهِمْ.
الثَّانِي: تَرْتِيبُهُمْ فِي السَّيْرِ وَالنُّزُولِ وَإِعْطَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُقَادًا حَتَّى يَعْرِفَ كُلُّ فَرِيقٍ مُقَادَهُ إذَا سَارَ، وَإِذَا نَزَلَ، وَلَا يَتَنَازَعُوا وَلَا يَضِلُّوا عَنْهُ.
الثَّالِثُ: يَرْفُقُ بِهِمْ فِي السَّيْرِ وَيَسِيرُ بِسَيْرِ أَضْعَفِهِمْ.
الرَّابِعُ: يَسْلُكُ بِهِمْ أَوْضَحَ الطُّرُقِ وَأَخْصَبَهَا.
الْخَامِسُ: يَرْتَادُ لَهُمْ الْمِيَاهَ وَيُوَفِّرُ الْمِيَاهَ إذَا قَلَّتْ.
السَّادِسُ: يَحْرُسُهُمْ إذَا نَزَلُوا وَيَحُوطُهُمْ إذَا رَحَلُوا حَتَّى لَا يَتَخَطَّفَهُمْ مُتَلَصِّصٌ.
السَّابِعُ: يَكُفُّ عَنْهُمْ مَنْ يَصُدُّهُمْ عَنْ الْمَسِيرِ بِقِتَالٍ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ أَوْ بِبَذْلِ مَالٍ إنْ أَجَابَ الْحَجِيجُ إلَيْهِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ إجْبَارُ أَحَدٍ عَلَى بَذْلِ الْخِفَارَةِ إنْ امْتَنَعَ، لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ لِلْخِفَارَةِ لَا يَجِبُ.
الثَّامِنُ: يُصْلِحُ مَا بَيْنَ الْمُتَنَازَعَيْنِ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِلْحُكْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ فُوِّضَ إلَيْهِ الْحُكْمُ وَهُوَ قَائِمٌ بِشُرُوطٍ فَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، فَإِنْ دَخَلُوا بَلَدًا جَازَ لَهُ وَلِحَاكِمِ الْبَلَدِ الْحُكْمُ بَيْنَهُمْ، وَلَوْ تَنَازَعَ وَاحِدٌ مِنْ الْحَجِيجِ وَوَاحِدٌ مِنْ الْبَلَدِ لَمْ يَحْكُمْ بَيْنَهُمْ إلَّا حَاكِمُ الْبَلَدِ.
التَّاسِعُ: يُؤَدِّبُ خَائِنَهُمْ وَلَا يُجَاوِزُ التَّعْزِيرَ إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِي الْحَدِّ فَيَسْتَوْفِيَهُ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِيهِ، فَإِنْ دَخَلَ بَلَدًا فِيهِ مُتَوَلًّى لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَى أَهْلِهِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي مِنْ الْحَجِيجِ أَتَى بِالْخِيَانَةِ قَبْلَ دُخُولِ الْبَلَدِ فَوَالِي الْحَجِّ أَوْلَى بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ دُخُولِهِ الْبَلَدَ فَوَالِي الْبَلَدِ أَوْلَى بِهِ.
الْعَاشِرُ: يُرَاعِي اتِّسَاعَ الْوَقْتِ حَتَّى يُؤْمَنَ الْفَوَاتُ، وَلَا يَلْحَقُهُمْ ضِيقٌ مِنْ الْحَثِّ عَلَى السَّيْرِ، فَإِذَا وَصَلُوا الْمِيقَاتَ أَمْهَلَهُمْ لِلْإِحْرَامِ وَإِقَامَةِ سُنَنِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَاسِعًا دَخَلَ بِهِمْ مَكَّةَ وَخَرَجَ مَعَ أَهْلِهَا

 

ج / 8 ص -162-       إلَى مِنًى ثُمَّ عَرَفَاتٍ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا عَدَلَ إلَى عَرَفَاتٍ مَخَافَةَ الْفَوَاتِ، فَإِذَا وَصَلُوا مَكَّةَ، فَمَنْ لَمْ يَعْزِمْ عَلَى الْعَوْدِ زَالَتْ وِلَايَةُ وَالِي الْحَجِيجِ عَنْهُ، وَمَنْ كَانَ عَلَى عَزْمِ الْعَوْدِ فَهُوَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ طَاعَتِهِ فَإِذَا قَضَى النَّاسُ حَجَّهُمْ أَمْهَلَهُمْ الْأَيَّامَ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِهَا لِإِنْجَازِ حَوَائِجِهِمْ وَلَا يُعَجِّلُ عَلَيْهِمْ فِي الْخُرُوجِ، فَإِذَا رَجَعُوا سَارَ بِهِمْ إلَى مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِزِيَارَةِ قَبْرِهِ صلى الله عليه وسلم1 وَذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ، فَهُوَ مِنْ مَنْدُوبَاتِ الشَّرْعِ الْمُسْتَحَبَّةِ، وَعَادَاتِ الْحَجِيجِ الْمُسْتَحْسَنَةِ، ثُمَّ يَكُونُ فِي عَوْدِهِ بِهِمْ مُلْتَزِمًا مِنْ الْحُقُوقِ لَهُمْ مَا كَانَ مُلْتَزِمًا فِي ذَهَابِهِ حَتَّى يَصِلَ الْبَلَدَ الَّذِي سَارَ بِهِمْ مِنْهُ وَتَنْقَطِعَ وِلَايَتُهُ بِالْعَوْدِ إلَيْهِ.
الضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الْوِلَايَةُ عَلَى إقَامَةِ الْحَجِّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِمَامِ وَإِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ، فَمِنْ شُرُوطِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ مَعَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي أَئِمَّةِ الصَّلَوَاتِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَنَاسِكِ الْحَجِّ وَأَحْكَامِهِ وَمَوَاقِيتِهِ وَأَيَّامِهِ، وَتَكُونُ مُدَّةُ وِلَايَتِهِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ أَوَّلُهَا مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ الْيَوْمَ السَّابِعَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَآخِرُهَا الثَّالِثُ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، وَهُوَ فِيمَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا مِنْ الرَّعِيَّةِ، ثُمَّ إنْ كَانَ مُطْلَقَ الْوِلَايَةِ عَلَى الْحَجِّ فَلَهُ إقَامَتُهُ كُلَّ سَنَةٍ مَا لَمْ يُعْزَلْ عَنْهُ، وَإِنْ عُقِدَتْ وِلَايَتُهُ سَنَةً لَمْ يَتَجَاوَزْهَا إلَّا بِوِلَايَةٍ وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِوِلَايَتِهِ وَيَكُونُ نَظَرُهُ عَلَيْهِ مَقْصُورًا خَمْسَةَ أَحْكَامٍ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا، وَسَادِسٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
أحدها: إعْلَامُ النَّاسِ بِوَقْتِ إحْرَامِهِمْ، وَالْخُرُوجِ إلَى مَشَاعِرِهِمْ لِيَكُونُوا مَعَهُ مُقْتَدِينَ بِأَفْعَالِهِ. والثاني: تَرْتِيبُهُ الْمَنَاسِكَ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ فَلَا يُقَدِّمُ مُؤَخَّرًا، وَلَا يُؤَخِّرُ مُقَدَّمًا، سَوَاءٌ كَانَ التَّقْدِيمُ مُسْتَحَبًّا أَوْ وَاجِبًا، لِأَنَّهُ مَتْبُوعٌ.
الثَّالِثُ: تَقْدِيرُ الْمَوَاقِيتِ بِمَقَامِهِ فِيهَا وَمَسِيرِهِ عَنْهَا، كَمَا تَتَقَدَّرُ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ الرَّابِعُ: اتِّبَاعُهُ فِي الْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ وَالتَّأْمِينِ عَلَى دُعَائِهِ. الْخَامِسُ: إقَامَتُهُمْ الصَّلَوَاتِ الَّتِي شُرِعَتْ خُطَبُ الْحَجِّ فِيهَا وَجَمْعُهُمْ لَهَا، وَهِيَ أَرْبَعُ خُطَبٍ سَبَقَ بَيَانُهُنَّ، أُولَاهُنَّ بَعْدَ صَلَاةِ الظُّهْرِ يَوْمَ السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَهِيَ أَوَّلُ شُرُوعِهِ فِي مَنَاسِكِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، يَفْتَتِحُهَا بِالتَّلْبِيَةِ إنْ كَانَ مُحْرِمًا، وَبِالتَّكْبِيرِ إنْ كَانَ حَلَالًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ النَّفْرَ الْأَوَّلَ، بَلْ يُقِيمُ بِمِنًى لَيْلَةَ الثَّالِثِ مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، يَنْفِرُ النَّفْرَ الثَّانِيَ مِنْ غَدِهِ بَعْدَ رَمْيِهِ لِأَنَّهُ مَتْبُوعٌ فَلَمْ يَنْفِرْ إلَّا بَعْدَ إكْمَالِ الْمَنَاسِكِ، فَإِذَا نَفَر النَّفْرَ الثَّانِي انْقَضَتْ وِلَايَتُهُ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لابن تيمية وأصحابه رأي في القبر وزيارة المسجد وهو فرق يتحرى به ابن تيمية ألا يكون شد الرحال لعين القبر وإنما للمسجد وإذا بلغه استحب له زيارة قبره صلى الله عليه وسلم بصورة حكاها صاحب "الصارم المنكي" ابن عبد الهادي الحنبلي لا تخرج عما أورده إمامنا النووي رضي الله عنه وقد رد الإمام الحافظ علي بن عبد الكافي السبكي صاحب "التكملة" الأولى لهذا الكتاب على ابن تيمية اعتباره زيارة القبر مع السفر إليه معصية لا تقصر فيه الصلاة وذلك بكتابه شفاء السقام في زيارة خير الأنام، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:
(لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا والمسجد الأقصى) فقوله صلى الله عليه وسلم (ومسجدي) بإضافة المسجد إلى ذاته الشريفة تفيد استمداد شرفه من هذه النسبة وإلا لقال: وهذا المسجد، ولا شك أنه لا يشد الرحال إلى الحجارة والطين والحصير والسجاد والله أعلم.

 

ج / 8 ص -163-       وَأَمَّا الْحُكْمُ السَّادِسُ الْمُخْتَلِفُ فِيهِ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ.
أحدها: إذَا فَعَلَ بَعْضُ الْحَجِيجِ مَا يَقْتَضِي تَعْزِيرًا أَوْ حَدًّا فَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعْزِيرُهُ وَلَا حَدُّهُ، وَإِنْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَجِّ فَلَهُ تَعْزِيرُهُ، وَهَلْ لَهُ حَدُّهُ؟ فِيهِ وَجْهَانِ.
والثاني: لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ الْحَجِيجِ فِيمَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ مِمَّا لَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَجِّ وَفِي الْمُتَعَلِّقِ بِالْحَجِّ كَالزَّوْجَيْنِ إذَا تَنَازَعَا فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ بِالْوَطْءِ وَمُؤْنَةِ الْمَرْأَةِ فِي الْقَضَاءِ وَجْهَانِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَفْعَلَ بَعْضُهُمْ مَا يَقْتَضِي فِدْيَةً فَلَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ وُجُوبَهَا وَيَأْمُرَهُ بِإِخْرَاجِهَا، وَهَلْ لَهُ إلْزَامُهُ؟ فِيهِ الْوَجْهَانِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَمِيرِ الْحَجِّ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ مَا يُسَوَّغُ فِعْلُهُ إلَّا أَنْ يَخَافَ اقْتِدَاءَ النَّاسِ بِفَاعِلِهِ وَلَيْسَ لَهُ حَمْلُ النَّاسِ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَلَوْ أَقَامَ الْمَنَاسِكَ وَهُوَ حَلَالٌ كُرِهَ ذَلِكَ وَصَحَّ الْحَجُّ، وَلَوْ قَصَدَ النَّاسُ التَّقَدُّمَ عَلَى الْأَمِيرِ أَوْ التَّأَخُّرَ كُرِهَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَحْرُمْ، هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْمَاوَرْدِيُّ رحمه الله، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: ذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ وَالْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ نُبْذَةً صَالِحَةً مِنْ آدَابِ السَّفَرِ وَالْمُسَافِرِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِمَسِيرِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَقَدْ قَدَّمْت فِي هَذَا الشَّرْحِ فِي آخِرِ بَابِ صَلَاةِ الْمُسَافِرِ بَابًا حَسَنًا فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
فرع: يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ لِمَنْ حَجَّ: حَاجٌّ بَعْدَ تَحَلُّلِهِ وَلَوْ بَعْدَ سِنِينَ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ أَيْضًا، وَلَا كَرَاهَةَ فِي ذَلِكَ. وَأَمَّا مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: "لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إنِّي صَرُورَةٌ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ لَيْسَ بِصَرُورَةٍ. وَلَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إنِّي حَاجٌّ فَإِنَّ الْحَاجَّ هُوَ الْمُحْرِمُ" فَهُوَ مَوْقُوفٌ مُنْقَطِعٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمَسْأَلَةُ تَتَخَرَّجُ عَلَى أَنَّ بَقَاءَ وَجْهِ الِاشْتِقَاقِ شَرْطٌ لِصِدْقِ الْمُشْتَقِّ مِنْهُ أَوْ لَا؟ وَفِيهِ خِلَافٌ مَشْهُورٌ لِلْأُصُولِيِّينَ، الْأَصَحُّ أَنَّهُ شَرْطٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَصْحَابِنَا، فَلَا يُقَالُ لِمَنْ ضَرَبَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الضَّرْبِ ضَارِبٌ، وَلَا لِمَنْ حَجَّ بَعْدَ انْقِضَائِهِ حَاجٌّ إلَّا مَجَازًا. وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَالُ لَهُ: ضَارِبٌ وَحَاجٌّ حَقِيقَةً. وَهَذَا الْخِلَافُ فِي أَنَّهُ حَقِيقَةٌ أَمْ مَجَازٌ كَمَا ذَكَرْنَا. وَأَمَّا جَوَازُ الْإِطْلَاقِ فَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ1 فِي آخِرِ رُبْعِ الْعِبَادَاتِ مِنْ تَعْلِيقِهِ وَالْبَنْدَنِيجِيّ وَصَاحِبُ الْعُدَّةِ: يُكْرَهُ أَنْ تُسَمَّى حَجَّةُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَهَذَا الَّذِي قَالُوهُ غَلَطٌ ظَاهِرٌ وَخَطَأٌ فَاحِشٌ، وَلَوْلَا خَوْفُ اغْتِرَارِ بَعْضِ الْأَغْبِيَاءِ بِهِ لَمْ أَسْتَجِزْ حِكَايَتَهُ فَإِنَّهُ وَاضِحُ الْبُطْلَانِ وَمُنَابِذٌ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ فِي تَسْمِيَتِهَا

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 والشيخ أبو حامد هو الإسفرايني وليس الغزالي وقد قسم الغزالي "الأحياء" أربعاً (ط).

 

ج / 8 ص -164-       حَجَّةَ الْوَدَاعِ، وَمُنَابِذٌ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يُمْكِنُ إحْصَاءُ الْأَحَادِيثِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى تَسْمِيَتِهَا حَجَّةَ الْوَدَاعِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي "الصَّحِيحَيْنِ" عَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ:
"كُنَّا نَتَحَدَّثُ عَنْ حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا، وَلَا نَدْرِي مَا حَجَّةُ الْوَدَاعِ، حَتَّى حَمِدَ اللَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ ذَكَر تَمَامَ الْحَدِيثِ فِي خُطْبَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النَّحْرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى" وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فرع: فِي مَذَاهِبِ الْعُلَمَاءِ فِي مَسَائِلَ سَبَقَتْ.
منها: أَنَّ مَذْهَبَنَا جَوَازُ رَمْيِ الْجِمَارِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْحِجَارَةِ مِنْ الرُّخَامِ وَالْبِرَامِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُسَمَّى حَجَرًا، وَلَا يَجُوزُ بِمَا لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَجَرِ كَالْكُحْلِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَوْضَحْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَجُوزُ بِكُلِّ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ كَالْكُحْلِ وَالزِّرْنِيخِ وَالْمَدَرِ، وَلَا يَجُوزُ بِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهَا، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:
"إذَا رَمَيْتُمْ وَحَلَقْتُمْ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ" وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: فَأَطْلَقَ الرَّمْيَ. قَالَ أَصْحَابُنَا: ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم رَمَى الْحَجَرَ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم "لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ" وَالرَّمْيُ الْمُطْلَقُ فِي قَوْلِهِ: "ارْمُوا" مَحْمُولٌ عَلَى الرَّمْيِ الْمَعْرُوفِ.
فرع: إذَا رَمَى حَصَاةً فَوَقَعَتْ عَلَى مَحَلٍّ فَتَدَحْرَجَتْ بِنَفْسِهَا فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى أَجْزَأَهُ بِالْإِجْمَاعِ، نَقَلَهُ الْعَبْدَرِيُّ، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى ثَوْبٍ فَنَفَضَهَا صَاحِبُهُ فَوَقَعَتْ فِي الْمَرْمَى لَمْ يُجِزْهُ عِنْدَنَا، وَبِهِ قَالَ دَاوُد، وَعَنْ أَحْمَدَ يُجْزِئْهُ.
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ مِنْ نِصْفِ لَيْلَةِ النَّحْرِ. وَآخِرُهُ آخِرُ عُمْرِ الْإِنْسَانِ، وَإِنْ بَقِيَ خَمْسِينَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ فِي تَأْخِيرِهِ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: أَوَّلُهُ طُلُوعُ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ وَآخِرُهُ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ، فَإِنْ أَخَّرَهُ عَنْهُ لَزِمَهُ دَمٌ. دَلِيلُنَا قوله تعالى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ} [الحج: 29] وَهَذَا قَدْ طَافَ.
فرع: لَا يَجُوزُ رَمْيُ جَمْرَةِ التَّشْرِيقِ إلَّا بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ وَعَطَاءٌ وَمَالِكٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَتَانِ أَشْهَرُهُمَا: وَبِهِ قَالَ إِسْحَاقُ: يَجُوزُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْيَوْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ فِي الْجَمِيعِ. وَسَبَقَ دَلِيلُنَا حَيْثُ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْمَسْأَلَةَ1.
فرع: تَرْتِيبُ الْجَمَرَاتِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ شَرْطٌ، فَيُشْتَرَطُ رَمْيُ الْأُولَى، ثُمَّ الْوُسْطَى، ثُمَّ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: هُوَ مُسْتَحَبٌّ، قَالَ فَإِنْ نَكَسَهُ2 اُسْتُحِبَّ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في شرح "مسائل التعليم" للشيخ سعيد باعشن على "المقدمة الحضرمية" ج2 ص107. أن الرافعي يرى جواز الرمي قبل الزوال (ط).
2 نكسة أي عكسة.

 

ج / 8 ص -165-       إعَادَتُهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجْزَأَهُ وَلَا دَمٌ وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عَطَاءٍ وَالْحَسَنِ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ التَّرْتِيبُ مُطْلَقًا.
فرع: يُشْتَرَطُ عِنْدَنَا تَفْرِيقُ الْحَصَيَاتِ، فَيُفْرِدُ كُلَّ حَصَاةٍ بِرَمْيَةٍ، فَإِنْ جَمَعَ السَّبْعَ بِرَمْيَةٍ وَاحِدَةٍ حُسِبَتْ وَاحِدَةً، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ دَاوُد1: يَحْسِبُ سَبْعًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ وَقَعْنَ مُتَفَرِّقَاتٍ حُسِبْنَ سَبْعًا، وَإِلَّا فَوَاحِدَةً.
فرع: إذَا تَرَكَ ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ مِنْ جَمْرَةٍ لَزِمَهُ دَمٌ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَأَحْمَدُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يَجِبُ الدَّمُ إلَّا بِتَرْكِ أَكْثَرِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ، أَوْ بِتَرْكِ أَكْثَرِ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
فرع: أَجْمَعُوا عَلَى الرَّمْيِ عَنْ الصَّبِيِّ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الرَّمْيِ لِصِغَرِهِ. وَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنْ الرَّمْيِ لِمَرَضٍ وَهُوَ بَالِغٌ فَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُرْمَى عَنْهُ كَالصَّبِيِّ وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَمَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَقَالَ النَّخَعِيُّ: يُوضَعُ الْحَصَى فِي كَفِّهِ ثُمَّ يُؤْخَذُ وَيُرْمَى فِي الْمَرْمَى.
فرع: أَجْمَعُوا أَنَّهُ يَقِفُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ لِلدُّعَاءِ كَمَا سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا، وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ تَرَكَ هَذَا الْوُقُوفَ لِلدُّعَاءِ، فَمَذْهَبُنَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَالْجُمْهُورُ. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ: يُطْعِمُ شَيْئًا، فَإِنْ أَرَاقَ دَمًا كَانَ أَفْضَلَ وَمَذْهَبُنَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ رَفْعُ يَدَيْهِ فِي هَذَا الدُّعَاءِ كَمَا يُسْتَحَبُّ فِي غَيْرِهِ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو ثَوْرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْجُمْهُورُ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَنْكَرَ ذَلِكَ غَيْرَ مَالِكٍ. قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاتِّبَاعُ السُّنَّةِ أَوْلَى وَذَكَرَ الْحَدِيثَ الصَّحِيحَ فِيهِ، وَقَدْ سَبَقَ فِي مَوْضِعِهِ وَعَنْ مَالِكٍ فِي اسْتِحْبَابِهِ رِوَايَتَانِ.
فرع: فِي مَذَاهِبِهِمْ فِيمَنْ تَرَكَ حَصَاةً أَوْ حَصَاتَيْنِ.
قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ فِي حَصَاةٍ مُدًّا، وَفِي حَصَاتَيْنِ مُدَّيْنِ، وَفِي ثَلَاثٍ دَمًا، وَبِهِ قَالَ أَبُو ثَوْرٍ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَقَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ: لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي حَصَاةٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي حَصَاةٍ وَلَا حَصَاتَيْنِ، وَقَالَ عَطَاءٌ: مَنْ رَمَى سِتًّا يُطْعِمُ تَمْرَةً أَوْ لُقْمَةً.
وَقَالَ الْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَمَالِكٌ وَالْمَاجِشُونُ: عَلَيْهِ دَمٌ فِي الْحَصَاةِ الْوَاحِدَةِ وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ تَرَكَ حَصَاةً: إنْ كَانَ مُوسِرًا أَرَاقَ دَمًا، وَإِلَّا فَلْيَصُمْ2 ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
فرع: يَجُوزُ لَهُ التَّعْجِيلُ فِي النَّفْرِ مِنْ مِنًى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مَا لَمْ تَغْرُبْ الشَّمْسُ وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَهُ التَّعْجِيلُ مَا لَمْ يَطْلُعْ فَجْرُ الْيَوْمِ الثَّالِثِ. دَلِيلُنَا قوله تعالى:
{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] وَالْيَوْمُ اسْمٌ لِلنَّهَارِ دُونَ اللَّيْلِ، وَقَالَ ابْنُ

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كان في ش. و. ق. والوحيد، أبو داود.
2 يلحظ أن هنا روايتين عن عطاء متناقضتين وعطاء إذا أطلق كان ابن رباح وأما العطاؤن فهم عدة منهم عطاء بن يسار وعطاء بن السائب وعطاء بن يزيد. أكتب هذا وأنا مهاجر إلى الله في فندق عرفات بالخرطوم وليس لي مراجع واستغفره تعالى من التقصير.

 

ج / 8 ص -166-       الْمُنْذِرِ: ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَهُ الْمَسَاءُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بِمِنًى فَلْيُقِمْ إلَى الْغَدِ حَتَّى يَنْفِرَ مَعَ النَّاسِ" فَقَالَ: وَبِهِ قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو الشَّعْثَاءِ وَعَطَاءٌ وَطَاوُسٌ وَأَبَانُ بْنُ عُثْمَانَ وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالثَّوْرِيُّ وَأَهْل الْعِرَاقُ وَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ، وَبِهِ أَقُولُ. قَالَ: رَوَيْنَا عَنْ الْحَسَنِ وَالنَّخَعِيِّ قَالَا: "مَنْ أَدْرَكَهُ الْعَصْرُ وَهُوَ بِمِنًى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي لَمْ يَنْفِرْ حَتَّى الْغَدِ" قَالَ: وَلَعَلَّهُمَا قَالَا ذَلِكَ اسْتِحْبَابًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. هَذَا كَلَامُ ابْنِ الْمُنْذِرِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي "الْمُوَطَّأِ" وَغَيْرِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: "مَنْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَهُوَ بِمِنًى مِنْ أَوْسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَلَا يَنْفِرَنَّ حَتَّى يَرْمِيَ الْجِمَارَ مِنْ الْغَدِ"، وَهُوَ ثَابِتٌ عَنْ عُمَرَ كَمَا حَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَرَفْعُهُ ضَعِيفٌ. وَأَمَّا الْأَثَرُ الْمَذْكُورُ عَنْ طَلْحَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "إذَا انْسَلَخَ النَّهَارُ مِنْ يَوْمِ النَّفْرِ الْآخِرِ فَقَدْ حَلَّ الرَّمْيُ وَالصَّدَرُ" فَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ وَغَيْرُهُ: هُوَ ضَعِيفٌ لِأَنَّ طَلْحَةَ بْنَ عُمَرَ الْمَكِّيَّ هَذَا الرَّاوِي ضَعِيفٌ.
فرع: يَجُوزُ لِأَهْلِ مَكَّةَ النَّفْرُ الْأَوَّلُ كَمَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِمْ، هَذَا مَذْهَبُنَا، وَبِهِ قَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ وَابْنُ الْمُنْذِرِ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ مَنَعَهُمْ ذَلِكَ، وَقَالَ مَالِكٌ إنْ كَانَ لَهُمْ عُذْرٌ جَازَ، وَإِلَّا فَلَا، دَلِيلُنَا عُمُومُ قوله تعالى:
{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203].
فرع: ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَصَحَّ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ وَاجِبٌ يَجِبُ بِتَرْكِهِ دَمٌ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَالْحَكَمُ وَحَمَّادٌ وَالثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ، وَقَالَ مَالِكٌ وَدَاوُد وَابْنُ الْمُنْذِرِ: هُوَ سُنَّةٌ لَا شَيْءَ فِي تَرْكِهِ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ رِوَايَتَانِ كَالْمَذْهَبَيْنِ، دَلِيلُنَا الْأَحَادِيثُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ وَذَكَرْنَاهَا.
فرع: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْحَائِضِ طَوَافُ الْوَدَاعِ، قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَبِهَذَا قَالَ عَوَامُّ أَهْلِ الْعِلْمِ، مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَغَيْرُهُمْ، قَالَ وَرَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رضي الله عنه أَنَّهُمْ أَمَرُوا بِبَقَائِهَا لِطَوَافِ الْوَدَاعِ، قَالَ وَرَوَيْنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَزَيْدٍ الرُّجُوعَ عَنْ ذَلِكَ، قَالَ: وَتَرَكْنَا قَوْلَ عُمَرَ لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ السَّابِقَةِ فِي قِصَّةِ صَفِيَّةَ.
فرع: مَذْهَبُنَا أَنَّهُ إذَا تَرَكَ طَوَافَ الْوَدَاعِ وَقُلْنَا بِوُجُوبِهِ لَزِمَهُ أَنْ يَرْجِعَ إلَيْهِ إنْ كَانَ قَرِيبًا، وَهُوَ دُونَ مَرْحَلَتَيْنِ، وَإِلَّا فَلَا يَجِبُ الرُّجُوعُ وَيَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَقَالَ الثَّوْرِيُّ إنْ خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ لَزِمَهُ دَمٌ وَإِلَّا فَلَا.
فرع: إذَا طَافَ لِلْوَدَاعِ فَشَرْطُ الِاعْتِدَادِ بِهِ أَنْ لَا يُقِيمَ بَعْدَهُ، فَإِنْ أَقَامَ لِشُغْلٍ وَنَحْوِهِ لَمْ يُحْسَبْ عَنْ الطَّوَافِ، وَإِنْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ بَعْدَ طَوَافِهِ فَصَلَّاهَا مَعَهُمْ لَمْ يَضُرَّهُ1 لِأَنَّهُ تَأْخِيرٌ يَسِيرٌ لِعُذْرٍ ظَاهِرٍ مَأْمُورٍ بِهِ، وَوَافَقَنَا مَالِكٌ وَأَحْمَدُ وَدَاوُد، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إذَا طَافَ لِلْوَدَاعِ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ وَقْتُ النَّفْرِ لَمْ يَضُرَّهُ الْإِقَامَةُ بَعْدَهُ، وَلَوْ بَلَغَتْ شَهْرًا وَأَكْثَرَ وَطَوَافُهُ مَاضٍ عَلَى صِحَّتِهِ، دَلِيلُنَا الْحَدِيثُ السَّابِقُ:
"فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ".

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 كذا بالأصل وفيه سقط لعله "لأنه تأخير".

 

ج / 8 ص -167-       فرع: إذَا حَاضَتْ وَلَمْ تَكُنْ طَافَتْ لِلْإِفَاضَةِ، فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَذْهَبَنَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مَنْ أَكْرَاهَا الْإِقَامَةُ لَهَا، بَلْ لَهَا أَنْ تَجْعَلَ مَكَانَهَا مَنْ شَاءَتْ، وَبِهِ قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ. وَقَالَ مَالِكٌ: يَلْزَمُ مَنْ أَكْرَاهَا الْإِقَامَةُ أَكْثَرَ مُدَّةِ الْحَيْضِ، وَزِيَادَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.