المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب النشوز

إذا ظهرت من المرأة أمارات النشوز وعظها لقوله تعالى (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن) ولا يضربها لانه يجوز أن يكون ما ظهر منها لضيق صدر من غير جهة الزوج، وإن تكرر منها النشوز فله أن يضربها، لقوله عز وجل (واضربوهن) وان نشزت مرة ففيه قولان.

(أحدهما)
أنه يهجرها ولا يضربها، لان العقوبات تختلف باختلاف الجرائم ولهذا ما يستحق بالنشوز لا يستحق بخوف النشوز، فكذلك ما يستحق بتكرر النشوز لا يستحق بنشوز مرة.

(والثانى)
وهو الصحيح: أنه يهجرها ويضربها لانه يجوز أن يهجرها للنشوز فجاز أن يضربها كما لو تكرر منها.
فأما الوعظ فهو أن يخوفها بالله عز وجل وبما يلحقها من الضرر بسقوط نفقتها، وأما الهجران فهو أن يهجرها في الفراش لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنه قال في قوله عز وجل (واهجروهن في المضاجع قال: لا تضاجعها في فراشك) وأما الهجران بالكلام فلا يجوز أكثر من ثلاثة أيام، لِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَا يَحِلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام) وأما الضرب فهو أن يضربها ضربا غير مبرح ويتجنب المواضع المخوفه والمواضع المستحسنة، لِمَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: اتَّقُوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بكتاب الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وان لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فان فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح) ولان القصد التأديب دون الاتلاف والتشويه.
النشوز مصدر نشز وبابه فعد وضرب، ونشزت المرأة من زوجها عصته وامتنعت عليه، ونشز الرجل من امرأته تركها وجفاها، قال تعالى (وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا) الآية، وأصله الارتفاع، يقال: نشز من

(16/445)


مكانه نشوزا بالوجهين إذا ارتفع عنه، وقال تعالى (وإذا قيل انشزوا فانشزوا) يالضم والكسر، والنشز بفتحتين المرتفع من الارض، والسكون لغة، وقال ابن السكيت في بات فعمل وفعل: قعد على نشز من الارض ونشز وجمع الساكن نشوز مثل فلس وفلوس، ونشاز مثل سهم وسهام وجمع المفتوح أنشاز مثل سبب وأسباب، وأنشزت المكان بالالف رفعته، واستعير ذلك للزيادة والنمو، فقيل: أنشز الرضاع العظم وأنبت اللحم.
أما حديث أبى هريرة رضى الله عنه فقد قال النووي: رواه أبو داود على شرط البخاري ومسلم بلفظ (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات دخل النار) وفى رواية عند أبى داود له أيضا بلفظ (لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث فليلقه وليسلم عليه، فان رد عليه السلام فقد اشتركا في الاجر، وان لم يرد عليه فقد باء بالاثم وخرج المسلم من الهجرة) .
قال أبو داود: إذا كانت الهجرة لله تعالى فليس من هذا في شئ، وفى الصحيحين عن أنس بلفظ (لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله اخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) وفيهما عن أبى أيوب بلفظ (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذى يبدأ بالسلام) .
أما حديث جابر رضى الله عنه فقد أخرجه مسلم وأصحاب السنن، وهو من
حديث طويل فِي صِفَةِ حَجَّةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وجزء من خطبة الوداع، ورواه ابن ماجه والترمذي وصححه من حديث عمرو بن الاحوص (أنه شهد حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ ثم قال: استوصوا بالنساء خيرا فانما هن عندكم عوان ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك الا أن يأتين بفاحشة مبينة، فان فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح، فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، ان لكم على نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا اليهن

(16/446)


في كسوتهن وطعامهن) وقد أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة بلفظ (ولا يأذن في بيته إلا بإذنه) وقد أخرج أحمد وابن جرير والنسائي وأبو داود وابن ماجه والحاكم وصححه والبيهقي عن معاوية بن حيدة القشيرى أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (مَا حق المرأة على الزوج؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وأن تكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تهجر إلا في البيت) .
أما الاحكام فقد قال الشافعي رضى الله عنه: قال الله عز وجل (واللاتي تخافون نشوزهن) يحتمل إذا رأى الدلالات في إيغال المرأة وإقبالها على النشوز فكان للخوف موضع أن يعظها، فإن أبدت نشوزا هجرها.
فان أقامت عليه ضربها، وذلك أن العظة مباحة قبل الفعل المكروه إذا رؤيت أسبابه، وأن لا مؤنة فيها عليها كضربها، وأن العظة غير محرمة من المرء لاخيه فكيف لا مرأته والهجرة لا تكون إلا بما يحل به الهجرة، لان الهجرة محرمة في غير هذا الموضع فوق ثلاث، والضرب لا يكون إلا ببيان الفعل، فالاية في العظة والهجرة والضرب على بيان الفعل تدل على أن حالات المرأة في اختلاف ما تعاقب فيه من
العظة والهجرة والضرب مختلفه، فإذا اختلفت فلا يشبه معناها الا ما وصفت.
وقال رحمه الله أيضا: وقد يحتمل قوله (تخافون نشوزهن) إذا نشزن فخفتم لجاجتهن في النشوز أن يكون لكم جمع العظة والهجرة والضرب (قال) وإذا رجعت الناشز عن النشوز لم يكن لزوجها هجرتها ولا ضربها، لانه انما أبيحا بالنشوز، فإذا زايلته فقد زايلت المعنى الذى أبيحا له به.
قال الرييع: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان عن ابن شهاب عن عبد الله ابن عبد الله بن عمر عن اياس بن عبد الله بن أبى ذباب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَا تضربوا اماء الله، قال فأتاه عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يا رسول الله ذئر النساء على أزواجهن، فأذن في ضربهن، فأطاف بآل محمد عليه الصلاة والسلام نساء كثير كلهن يشتكين أزواجهن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أطاف الليله بآل محمد نساء كثير أو قال سبعون امرأة كلهن يشتكين فلا تجدون أولئك خياركم) .
قال الشافعي: فجعل لهم الضرب وجعل لهم العفو، وأخبر أن الخيار ترك

(16/447)


الضرب إذا لم يكن لله عليها حد على الوالى أخذه، وأجاز العفو عنها في غير حد في الخير الذى تركت حظها وعصت ربها.
اه إذا ثبت هذا فإنه إذا ظهر من المرأة النشوز بقول أو فعل وعظها.
فأما النشوز بالقول فهو أن يكون من عادته إذا دعاها أجابته بالتلبية، وإذا خاطبها أجابت خطابه بكلام جميل حسن، ثم صارت بعد ذلك إذا دعاها لا تجيب بالتلبية وإذا خاطبها أو كلمها تخاشنه القول، فهذه أمارات النشوز بالقول وأما أمارات النشوز بالفعل فهو أن يكون من عادته إذا دعاها إلى الفراش أجابته ببشاشة وطلاقة وجه، ثم صارت بعد ذلك متجهمة متكرهة، أو كان
من عاداتها إذا دخل إليها قامت له وخدمته، ثم صارت لا تقوم له ولا تخدمه، فإذا ظهر له ذلك منها فانه يعظها ولا يهجرها ولا يضربها، هذا قول عامة أصحابنا وقال الصيمري: إذا ظهرت منها أمارات النشوز فله أن يجمع بين العظه والهجران، والاول هو المشهور، لان يحتمل أن يكون هذا النشوز تفعله فيما بعد، ويحتمل أن يكون لضيق صدر من أولادها أو من جاراتها أو أقربائها أو نحو ذلك من شغل قلب أو قلق خاطر نشزت منه، بأن دعاها فامتنعت منه، فان تكرر ذلك الامتناع منها فله أن يهجرها، وله ان يضربها، والاصل فيه قول الله تعالى (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن) الآيه.
وان نشزت منه مرة واحدة فله ان يهجرها.
وهل له أن يضربها؟ فيه قولان
(أحدهما)
ليس له أن يضربها.
وبه قال أحمد.
لانها لا تستحق الا العقوبة المساوية لفعلها.
بدليل انها لا تستحق الهجران لخوف النشوز فكذلك لا تستحق الضرب بالنشوز مرة واحدة.
فعلى هذا يكون ترتيب الايه: واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع إذا نشزن.
واضربوهن إذا أصررن على النشوز.

(والثانى)
له ان يضربها.
قال العمرانى وغيره: وهو الاصح.
لقوله تعالى (واللاتي تخافون) الايه.
فظاهر الآيه ان له فعل الثلاثة الاشياء لخوف النشوز.
فدل الدليل على انه

(16/448)


يضربها ويهجرها عند خوف النشوز.
وهذه الآية على ظاهرها إذا نشزت لانها معصية يحل بها هجرانها وضربها كما لو تكرر منها النشوز.
إذا ثبت هذا فالموعظة أن يقول لها: ما الذى منعك عما كنت آلفه من برك
وما الذى غيرك، اتقى الله وارجعي إلى طاعتي، فإن حقى واجب عليك، ونحو ذلك من عبارات الوعظ، وتذكيرها بما يعده الله للآثمين والآثمات من حساب يوم تتساوى الاقدام في القيام لله، ويعلم كل امرئ ما قدمت يداه.
والهجران هو أن لا يضاجعها في فراش واحد لقوله تعالى (واهجروهن في المضاجع) ولا يهجر بالكلام، فإن فعل لم يزد على ثلاثة أيام، فإن زاد عليها أثم، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى أن يهجر الرجل أخاه فوق ثلاثة أيام.
وأما الضرب فقال الشافعي: لا يضربها ضربا مبرحا لا مدميا ولا مدمنا ويتقى الوجه.
فالمبرح الفادح الذى يخشى تلف النفس منه أو تلف عضو أو تشويهه، والمدمى الذى يجرح فيخرج الدم، والمدمن أن يوالى الضرب على موضع واحد.
لان القصد منه التأديب.
ويتوقى الوجه لانه موضع المحاسن ويتوقى المواضع المخوفة.
قال الشافعي: ولا يبلغ به حدا.
ومن أصحابنا من قال: لا يبلغ به الاربعين لانه حد الخمر، ومنهم من قال لا يبلغ به العشرين لانه حد العبد، لانه تعزير، وليس للرجل أن يضرب زوجته على غير النشوز بقذفها له أو لغيره، لان ذلك إلى الحاكم، والفرق بينهما أن النشوز لا يمكن إقامة البينة عليه، بخلاف سائر جناياتها.
إذا ثبت هذا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (لَا تضربوا إماء الله) وروى عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ (كنا معشر قريش لا يغلب نساؤنا رجالنا، فقدمنا المدينة فوجدنا نساءهم يغلبن رجالهم، فحاط نساؤنا نساءهم فزئرن على أزواجهن فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وقلت ذئر النساء على أزواجهن، فَأَذَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بضربهن.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقد أطاف آل محمد سبعون امرأة كلهن تشتكين أزواجهن وما تجدون أولئك بخياركم)

(16/449)


فإذا قلنا يجوز نسخ السنة بالكتاب فيحتمل أَنْ يَكُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ضربهن ثم نسخ الكتاب السنة بقوله (واضربوهن) ثُمَّ أَذِنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ضربهن موافقة للكتاب، غير أنه يجعل تركه أولى بقوله وما يجدون أولئك بخياركم.
وإن قلنا إن نسخ السنة لا يجوز بالكتاب احتمل أن يكون النهى عن ضربهن متقدما ثم نسخه النبي صلى الله عليه وسلم وأذن في ضربهن ثم ورد الكتاب للسنة في ضربهن.
ومعنى قوله (ذئر النساء على أزواجهن) أي اجترأن عليهم.
قال الصيمري: وقيل في قوله تعالى: وللرجال عليهن درجة سبعة تأويلات.
(أحدها) أن حل عقدة النكاح إليه (الثاني) أن له ضربها عند نشوزها (الثالث) أن عليها الاجابة إذا دعاها إلى فراشه، وليس عليه ذلك (الرابع) أن له منعها من الخروج، وليس لها ذلك (الخامس) أن ميراثه على الضعف من ميراثها (السادس) أن لو قذفها كان له إسقاط حقها باللعان.
وليس لها ذلك (السابع) موضع الدرجة اشتراكهما في لذة الوطئ، واختص الزوج بتحمل مؤنة الصداق والنفقة والكسوة وغير ذلك اه وعن عبد الله بن زمعة قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم (أيضرب أحدكم إمرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر اليوم) اخرجه الشيخان وقال العلامة صديق حسن خان (في هذا دليل على أن الاولى ترك الضرب للنساء فإن احتاج فلا يوالى بالضرب على موضع واحد من بدنها، وليتق الوجه لانه مجمع المحاسن، ولا يبلغ بالضرب عشره أسواط.
وقيل ينبغى ان يكون الضرب بالمنديل واليد، ولا يضرب بالسوط والعصا وبالجملة فالتخفيف بأبلغ شئ أولى في هذا الباب.
وبعد هذا لا يسأل الرجل الملتزم بالشرع عن ضرب امرأته لما أخرجه أبو دَاوُد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم قال (لا يسأل الرجل فيما ضرب امرأته) .

(16/450)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن ظهرت من الرجل أمارات النشوز لمرض بها أو كبر سن ورأت أن تصالحه بترك بعض حقوقها من قسم وغيره جاز، لقوله عز وجل (وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا) قالت عائشة رضى الله عنها: أنزل الله عز وجل هذه الآية في المرأة إذا دخلت في السن فتجعل يومها لامرأة أخرى، فإن ادعى كل واحد منهما النشوز على الآخر أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ليعرف الظالم منهما فيمنع من الظلم، فان بلغا إلى الشتم والضرب بعث الحاكم حكمين للاصلاح أو التفريق، لقوله عز وجل (وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، ان يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما) واختلف قوله في الحكمين فقال في أحد القولين: هما وكيلان فلا يملكان التفريق الا باذنهما، لان الطلاق إلى الزوج، وبذل المال إلى الزوجة فلا يجوز الا باذنهما، وقال في القول الآخر: هما حاكمان فلهما أن يفعلا ما يريان من الجمع والتفريق، بعوض وغير عوض: لقوله عز وجل (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) فسماهما حكمين، ولم يعتبر رضا الزوجين.
وروى عبيدة أن عليا رضى الله عنه بعث رجلين فقال لهما أتريان ما عليكما.
عليكما، ان رأيتما أن تجمعا جمعتما، وان رأيتما ان تفرقا فرقتما، فقال الرجل:
اما هذا فلا، فقال كذبت لا والله ولا تبرح حتى ترضى بكتاب الله عز وجل لك وعليك، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لى وعلى، ولانه وقع الشقاق واشتبه الظالم منهما فجاز التفريق بينهما من غير رضاهما، كما لو قذفها وتلاعنا، والمستحب ان يكون حكما من اهله وحكما من اهلها للآية، ولانه روى انه وقع بين عقيل بن ابى طالب وبين زوجته شقاق، وكانت من بنى امية، فبعث عثمان رضى الله عنه حكما من اهله وهو ابن عباس رضى الله عنه، وحكما من اهلها وهو معاوية رضى الله عنه، ولان الحكمين من اهلهما اعرف بالحال، وان كان من غير اهلهما جاز لانهما في احد القولين وكيلان وفى الآخر حاكمان، وفى الجميع يجوز ان يكونا

(16/451)


من غير أهلهما، ويجب أن يكونا ذكرين عدلين لانهما في أحد القولين حاكمان وفى الآخر وكيلان، إلا أن يحتاج فيه إلى الرأى والنظر في الجمع والتفريق، ولا يكمل لذلك إلا ذكران عدلان، فإن قلنا: إنهما حاكمان لم يجز أن يكونا إلا فقيهين، وإن قلنا: انهما وكيلان جاز أن يكونا من العامة، وان غاب الزوجان فان قلنا: انهما وكيلان نفذ تصرفهما كما ينفذ تصرف الوكيل مع غيبة الموكل، وان قلنا: انهما حاكمان لم ينفذ حكمهما، لان الحكم للغائب لا يجوز، وان جنا لم ينفذ حكم الحكمين، لانهما في أحد القولين وكيلان.
والوكالة تبطل بجنون الموكل.
وفى القول الآخر: حاكمان الا أنهما يحكمان للشقاق وبالجنون زال الشقاق.
(الشرح) في قوله تعالى (وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا) الآية.
أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن عائشة عليها السلام قالت: هي المرأة تكون عند الرجل لا يستكثر منها فيريد طلاقها ويتزوج غيرها تقول له: أمسكنى ولا تطلقني ثم تزوج غيرى وأنت في حل من النفقة على والقسم لى.
فذلك قوله تعالى (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير) وفى رواية قالت (هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه كبرا أو غيره فيريد فراقها فتقول: أمسكنى واقسم لم ما شئت.
قالت فلا بأس إذا تراضيا) .
وأما قوله تعالى (وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من اهلها) الآية.
فان أصل الشقاق ان كل واحد منهما يأخذ غير شق صاحبه، أي ناحية غير ناحيته، وأضيف الشقاق إلى الظرف لاجرائه مجرى المفعول به.
كقوله تعالى (بل مكر الليل والنهار) وقولهم (يا سارق الليلة أهل الدار) والخطاب للامراء والحاكم.
والضمير في قوله بينهما للزوجين لانه قد تقدم ذكر ما يدل عليهما، وهو ذكر الرجال والنساء.
أما أحكام الفصل: فان ظهر من الزوج أمارات النشوز بأن يكلمها بخشونة بعد أن كان يلين لها في القول أو لا يستدعيها إلى الفراش كما كان يفعل إلى غير ذلك.
فلا بأس أن تترك له بعض حقها من النفقة والكسوة والقسم، لتطيب

(16/452)


بذلك نفسه، فإذا ظهر من الزوج النشوز بأن منعها ما يجب لها من نفقة وكسوة وقسم وغير ذلك أسكنها الحاكم إلى جنب ثقة عدل ليستوفى لها حقها، إن ادعى كل واحد منهما على صاحبه النشوز بمنع ما يجب عليها أسكنها الحاكم إلى جنب ثقة ليشرف عليهما، فإذا عرف الظالم منهما منعه من الظلم هكذا أفاده العمرانى وغيره، فإذا تجاوز الامر حده إلى التشاتم أو الضرب أو تمزيق الثياب بعث الحاكم حكمين ليجمعا بينهما أو يفرقا لقوله تعالى (وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من اهله وحكما من أهلها) قال العلامة صديق حسن خان في نيل المرام: فابعثوا الزوجين حكما يحكم بينهما ممن يصلح لذلك عقلا ودينا وإنصافا، وإنما نص الله سبحانه على أن
الحكمين يكونا من أهل الزوجين لانهما أقرب لمعرفة أحوالهما، وإذا لم يوجد من أهل الزوجين من يصلح للحكم بينهما كان الحكمان من غيرهم، وهذا إذا أشكل أمرهما ولم يتبين من هو المسئ منهما، فأما إذا عرف المسئ فانه يؤخذ لصاحبه الحق منه، وعلى الحكمين أن يسعيا في إصلاح ذات البين جهدهما، فان قدرا على ذلك عملا عليه، وإن أعياهما إصلاح حالهما ورأيا التفريق بينهما جاز لهما ذلك من دون أمر الحاكم ولا توكيل بالفرقة من الزوجين، وبه قال مالك والاوزاعي وإسحاق، وهو مروى عن عثمان وعلى وابن عباس والشعبى والنخعي، وحكاه ابن كثر عن الجمهور، قالوا: لان الله تعالى قال: فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، وهذا نص من الله على أنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان.
وقال الكوفيون وعطاء وابن زيد والحسن وهو أحد قولى الشافعي إن التفريق هو إلى الامام أو الحاكم في البلد، لا اليهما، ما لم يوكلهما الزوجان أو يأمرهما الامام والحاكم، لانهما رسولان شاهدان فليس اليهما التفريق، ويرشد إلى هذا قوله تعالى: إن يريدا أي الحكمان إصلاحا بين الزوجين يوفق الله بينهما، أي يوقع الموافقة بين الزوجين حتى يعودا إلى الالفة وحسن العشرة والوئام، ومعنى الارادة خلوص نيتهما وصدق عزمهما لاصلاح ما بين

(16/453)


الزوجين، وقيل: ان الضمير في قوله تعالى: يوفق الله بينهما، للحكمين، كما في قوله: ان يريدا اصلاحا: أي يوفق الله بين الحكمين في اتحاد مقصودهما، وقيل كلا الضميرين للزوجين، أي ان يريدا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله تعالى بينهما الالفة والوفاق، وإذا اختلف الحكمان لم ينفذ حكمهما، ولا يلزم قولهما بلا خلاف.
قال في البيان: وهل هما وكيلان من قبل الزوجين أو حاكمان من قبل الحاكم
فيه قولان
(أحدهما)
أنهما وكيلان من قبل الزوجين، وبه قال أبو حنيفة وأحمد لما روى عبيدة التلمانى قال: جاء إلى على بن أبى طالب رجل وامرأة ومع كل واحد منهما قيام من الناس بغير جماعة، فقال على كرم الله وجهه: ابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، ثم قال للحكمين: أتدريان ما عليكما؟ ان رأيتما أن تجمعا، وان رأيتما: أن تفرقا، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لى وعلى، وقال الرجل: أما الجمع فنعم، وأما التفريق فلا، فقال على: كذبت لا والله لا تتزوج حتى ترضى بكتاب الله لك وعليك فاعتبر رضاه، ولان الطلاق بيد الزوج، وبذل العوض بيد المرأة، فافتقر إلى رضاهما، فعلى هذا لا بد أن يوكل كل واحد منهما الحاكم من قبله على الجمع أو التفريق
(والثانى)
أنهما حكمان من قبل الحاكم، وبه قال مالك والاوزاعي واسحاق، وهو الاشبه لقوله تعالى (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) وهذا خطاب لغير الزوجين وسماهما الله تعالى حكمين، فعلى هذا لا يفتقر إلى رضى الزوجين اه.
إذا ثبت هذا: فان الحكمين يخلو كل واحد منهما بأحد الزوجين وينظر ما عنده، ثم يجتمعا ويشتوران، فان رأيا الجمع بينهما لم يتم الا بالحكمين، وان رأيا التفريق بينهما فان رأيا أن يفرقا فرقة بلا عوض أوقعها الحاكم من قبل الزوج، وان رأيا أن يفرقا بينهما بعوض بذل الحاكم من قبلها العوض عليها، وأوقع الحاكم من قبل الزوج الفرقة.
والمستحب أن يكونا من أهلهما للآية.
ولانهما أعلم بباطن أمرهما.
وان كان من غير أهلهما جاز، لان الحاكم والوكيل يصح أن يكون أجنبيا.
ولا بد أن يكونا حرين مسلمين ذكرين عدلين، لانا ان قلنا انهما حاكمان فلا بد من هذه الشرائط.
وان قلنا انهما وكيلان الا انه

(16/454)


وكيل من قبل الحاكم فلا بد من أن يكون كاملا.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي فإن قلنا: إنهما حاكمان فلا بد أن يكونا فقيهين، وإن قلنا: إنهما وكيلان، جاز أن يكونا من العامة، وإن غاب الزوجان أو أحدهما فإن قلنا: إنهما وكيلان صح فعلهما.
لان تصرف الوكيل يصح بغيبة الموكل، وإن قلنا إنهما حاكمان لم يصح فعلهما.
لان الحكم لا يصح للغائب، وان صح الحكم عليه، لان كل واحد منهما محكوم له وعليه، وإن جنا أو أحدهما لم يصح فعلهما، لانه ان قلنا انهما وكيلان بطلت وكالة من جن موكله، وان قلنا انهما حاكمان، فإنهما يحكمان للشقاق، وبالجنون زال الشقاق، وان لم يرضيا أو أحدهما فإن قلنا: انهما حاكمان لم يعتبر رضاهما.
وان قلنا: انهما وكيلان ولم يجبرا على الوكالة فينظر الحاكم فيما يدعيه كل منهما، فإذا ثبت عنده استوفاه من الآخر.
وان كان لهما أو لاحدهما حق على الاخر من مهر أو دين لم يصح للحكمين المطالبة به الا بالوكالة قولا واحدا كالحاكم، والله تعالى أعلم بالصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل.
تم الجزء السادس عشر ويليه الجزء السابع عشر

(16/455)


التكملة الثانية
المجموع شرح المهذب

الجزء السابع عشر
دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع

(17/1)