المجموع شرح المهذب ط دار الفكر

قال المصنف رحمه الله تعالى:

كتاب الإقرار

الحكم بالاقرار واجب لقوله صلى الله عليه وسلم: يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترقت فارجمها، ولان النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية بإقرارهما، ولانه إذا وجب الحكم بالشهادة فلان يجب بالاقرار وهو من الريبة أبعد وأولى.

(فصل)
وان كان المقر به حقا لآدمي أو حقا لله تعالى لا يسقط بالشبهة كالزكاة والكفارة ودعت الحاجة إلى الاقرار به لزمه الاقرار به لقوله عز وجل (كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم) ولقوله تعالى (فإن كان الذى عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل) والاملال هو الاقرار، فإن كان حقا لله تعالى يسقط بالشبهة فقد بيناه في كتاب الشهادات.
(الشرح) حديث يا أنيس اغد على امرأة هذا.
سبق تخريجه حديث (رجم ماعز والغامدية..) حديث رجم ماعزا أصله في الصحيحين عن أبى هريرة وابن عباس ولم يسم، ورواه مسلم من حديث بريدة فسماه.
حديث الغامدية أخرجه أبو داود ومسلم اللغة: الاقرار اخبار عما قر وثبت وتقدم، ومعناه الاعتراف وترك الانكار، من استقر بالمكان إذا وقف فيه ولم يرتحل عنه، وقرار الماء وقرارته حيث ينتهى جريانه ويستقر، قال عنترة.
جادت علينا كل بكر حرة
* فتركن كل قرارة كالدرهم قوله (قوامين بالقسط) أي بالعدل بكسر القاف وبفتحها الجواز.
وقال آخر: ليتهم أقسطوا إذا قسطوا
* فالزمان قسط وقسط قوله (فليملل وليه بالعدل) يقال أمل عليه بمعنى أملى وأمللت عليه الكتاب

(20/288)


الاقرار هو اعتراف الانسان بكل حق عليه بكل لفظ دال على الاقرار، بشرط كون المقر مكلفا وهو أبلغ البينات، ويدخل في جميع أبواب العلم من العبادات والمعاملات والانكحة والجنايات وغيرها، وفى الحديث (لا عذر لمن أقر) ذكره عبد الرحمن بن ناصر السعدى في منهج السالكين ولم أجد من خرجه.
ويجب على الانسان أن يعترف بجميع الحقوق التى عليه للآدميين ليخرج من التبعة بأداء أو استحلال قالت الحنابلة وهو الاعتراف بالحق والحكم به واجب لقوله صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) وَرَجَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا والغامدية والجهنية بإقرارهم، ولانه إذا وجب الحكم بالبينة فلان يجب بالاقرار مع بعده من الريبة أولى قاله في الكافي قال أبو محمد بن حزم في المحلى: اختلف الناس في الاقرار بالحد بعد مدة وأيهما أفضل الاقرار أم الاستتار، فلما اختلفوا وجب أن ننظر فيما اختلفوا فيه لنعلم الحق من ذلك فنتبعه بعون الله تعالى، فنظرنا فيها احتجت به الطائفة المختارة الستر وأن جميع الامة متفقون على ان الستر مباح وأن الاعتراف مباح، انما اختلفوا في الافضل، ولم يقل أحد من أهل الاسلام أن المعترف بما عمل بما يوجب الحد عاص لله تعالى في اعترافه.
ولا قال أحد من أهل الاسلام قط أن السائر على نفسه ما أصاب من حد عاص لله تعالى، فنظرنا في تلك الاخبار التى جاءت في ذلك فوجدناها كلها لا يصح منها شئ إلا خبرا واحدا وهو إعراض رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ المعترف بالزنا مرات، ولا حجة لهم فيه.
وبعد أن أورد نصوص كل من الفريقين وردها سندا وناقشها متنا قرر قائلا فصح يقينا أن الاعتراف بالذنب ليقام عليه الحد أفضل من الاستتار له بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم - أي للغامدية ولماعز - أنه لا أفضل من جودة
المعترف بنفسه لله تعالى، ثم قال وأن الستر مباح بالاجماع

(20/289)


قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ولا يصح الاقرار الا من بالغ عاقل مختار، فأما الصبى والمجنون فلا يصح إقرارهما لقوله عليه الصلاة والسلام (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ، عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حتى يفيق) ولانه التزام حق بالقول فلم يصح من الصبى والمجنون كالبيع.
فإن أقر مراهق وادعى أنه غير بالغ فالقول قوله وعلى المقر له أن يقيم البينة على بلوغه ولا يحلف المقر لانا حكمنا بأنه غير بالغ.
وأما السكران فإن كان سكره بسبب مباح فهو كالمجنون، وإن كان بمعصية الله فعلى ما ذكرنا في الطلاق.
وأما المكره فلا يصح إقراره لقوله عليه الصلاة والسلام (رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ، ولانه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح كالبيع، ويصح إقرار السفيه والمفلس بالحد والقصاص لانه غير متهم، وأما إقراره بالمال فقد بيناه في الحجر والتفليس.

(فصل)
ويصح إقرار العبد بالحد والقصاص لان الحق عليه دون مولاه ولا يقبل إقرار المولى عليه في ذلك لان المولى لا يملك من العبد الا المال، وأن جنى رجل على عبد جناية توجب القصاص، أو قذفه قذفا يوجب التعزير ثبت القصاص والتعزير له، وله المطالبة به والعفو عنه، وليس للمولى المطالبة به ولا العفو عنه لانه حق غير مال فكان له دون المولى، ولا يقبل إقرار العبد بجناية الخطأ لانه ايجاب مال في رقبته ويقبل إقرار المولى عليه لانه إيجاب حق في ماله ويقبل إقرار العبد المأذون في دين المعاملة ويجب قضاؤه من المال الذى في يده
لان المولى سلطه عليه، ولا يقبل اقرار غير المأذون في دين معاملة في الحال، ويتبع به إذا عتق، لانه لا يمكن أخذه من رقبته لانه لزمه برضى من له الحق.
وان أقر بسرقة مالا لا يجب فيه القطع، كمال دون النصاب وما سرق من غير حرز وصدقه المولى وجب التسليم ان كان باقيا وتعلق برقبته ان كان تالفا لانه لزمه بغير رضى صاحبه، وان كذبه المولى كان في ذمته يتبع به إذا عتق، وان وجب

(20/290)


فيه القطع قطع لانه غير متهم في إيجاب القطع، وفى المال قولان، واختلف أصحابنا في موضع القولين على ثَلَاثَةُ طُرُقٍ.
(أَحَدُهَا) وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أنه ان كان المال في يده ففيه قولان، أحدهما أنه يسلمه إليه لانه انتفت التهمة عنه في إيجاب القطع على نفسه، والثانى أنه لا يسلم لان يده كيد المولى فلم يقبل إقراره فيه، كما لو كان المال في يد المولى وإن كان المال تالفا لم يقبل إقراره ولا يتعلق برقبته قولا واحدا، لان للغرم محلا يثبت فيه وهو ذمته.
والطريق الثاني وهو قول القاضى أبى حامد المروروذى رحمه الله انه إن كان المال تالفا ففيه قولان، أحدهما يتعلق برقبته يباع فيه، والثانى أنه لا يتعلق برقبته وإن كان باقيا لم يقبل إقراره قولا واحدا لان يده كيد المولى فلم يقبل إقراره فيه، كما لو أقر بسرقة مال في يد المولى.
والطريق الثالث وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ أن القولين في الحالين سواء كان المال باقيا أو تالفا، لان العبد وما في يده في حكم ما في يد المولى، فإن قبل في أحدهما قبل في الآخر، وإن رد في أحدهما رد في الآخر، فلا معنى للفرق بينهما.

(فصل)
وان باع السيد عبده من نفسه فقد نص في الام أنه يجوز.
وقال الربيع رحمه الله فيه قول آخر أنه لا يجوز واختلف أصحابنا فيه فقال أَبُو إِسْحَاقَ وَأَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ يجوز قولا واحدا، وذهب القاضى أبو حامد المروروذى والشيخ أبو حامد الاسفراينى رحمهما الله إلى أنها على قولين
(أحدهما)
أنه يجوز لانه إذا جازت كتابته فلان يجوز بيعه وهو أثبت والعتق فيه أسرع أولى.

(والثانى)
أنه لا يجوز لانه لا يجوز بيعه بما في يده لانه للمولى ولا يجوز بمال في ذمته لان المولى لَا يَثْبُتُ لَهُ مَالٌ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ، فإذا قلنا انه يجوز وهو الصحيح فأقر المولى أنه باعه من نفسه وأنكر العبد عتق بإقراره وحلف العبد أنه لم يشتر نفسه ولا يجب عليه الثمن.

(20/291)


(الشرح) حديث رفع القلم..سبق تخريجه حديث: رفع عن أمتى الخطأ والنسيان ... أخرجه الطبراني عن ثوبان، ورمز السيوطي لصحته وهو غير صحيح، فقد تعقبه الهيثمى بأن فيه يزيد بن ربيعة الرجى وهو ضعيف، وقصارى أمر الحديث أن النووي ذكر في الطلاق من الروضة أنه حسن، ولم يسلم له ذلك بل اعترض باختلاف فيه وتبابن الروايات وبقول أبى حاتم في العلل عن أبيه: هذه أحاديث منكرة كأنها موضوعة.
وذكر عبد الله بن أحمد في العلل أن أباه أنكره، ونقل الخلال عن أحمد: من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوع فقد خالف الكتاب والسنة، وقال ابن نصر: هذا الحديث ليس له سند يحتج بمثله.
اللغة: قوله (فإن أقر مراهق) يقال راهق العلام فهو مراهق إذا قارب الاحتلام.
قال الشافعي في الام: وان رهن الرجل الرجل عبدا وأقبضه المرتهن فادعى
عليه المرتهن أنه جنى عليه أو على رجل هو وليه جناية عمدا في مثلها قود فأقر بذلك العبد المرهون وأنكر الراهن ذلك أو لم يقر به ولم ينكره فإقرار العبد لازم له وهو كقيام البينة عليه.
قالت الحنفية في بدائع الصنائع: لا يصح اقرار المجنون والصبى الذى لا يعقل فأما البلوغ فليس بشرط، فيصح اقرار الصبى العاقل بالدين والعين، لان ذلك من ضرورات التجارة، الا أنه لا يصح اقرار المحجور عليه لانه من التصرفات الضارة المحضة من حيث الظاهر والقبول من المأذون للضرورة ولم يوجد.
وأما الحرية فليست بشرط لصحة الاقرار، فيصح اقرار العبد المأذون بالدين والعين وكذا بالحدود والقصاص، وكذا العبد المحجور يصح اقراره بالمال لكن لا ينفذ على المولى للحال حتى لا تباع رقبته بالدين بخلاف المأذون، لان اقرار المأذون انما صح لكونه من ضرورات التجارة والمحجور عليه لا يملك التجارة فلا يملك ما هو من ضروراتها، الا أنه يصح إقراره في حق نفسه حتى يؤاخذ به بعد الحرية لانه من أهل الاقرار لوجود العقل والبلوغ، الا أنه امتنع النفاذ على المولى للحال

(20/292)


لحقه، فإذا عتق فقد زال المانع فيؤاخذ به وكذا يصح إقراره الحدود والقصاص فيؤاخذ به الحال لانه نفسه في حق الحدود والقصاص كالخارج على ملك المولى، ولهذا لو أقر المولى عليه بالحدود والقصاص لا يصح، وكذا الصحة ليست بشرط لصحة الاقرار.
قالت الحنابلة في الروض المربع ويصح الاقرار من مكلف لا من صغير غير مأذون في تجارة فيصح في قدر ما أذن له فيه ومختار غير محجور عليه فلا يصح من سفيه إقرار بمال، ولا يصح الاقرار من مكره.
هذا محترز قوله مختار إلا أن يقر بغير ما أكره عليه، كان يكره على الاقرار بدرهم فيقر بدينار، ويصح
من سكران ومن أخرس بإشارة معلومة، ولا يصح بشئ في يد غيره أو تحت ولاية غيره، كما لو أقر أجنبي على صغير أو وقف في ولاية غيره أو اختصاصه، وتقبل من مقر دعوى إكراه تقرينة كترسيم عليه، وتقدم بينة إكراه على طواعية، وان أكره على وزن مال فباع ملكه لذلك، أي لوزن ما أكره عليه صح البيع لانه لم يكره على البيع، ويصح اقرار صبى أنه بلغ باحتلام إذا بلغ عشرا ولا يقبل بسن الا ببينة كدعوى جنون
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويقبل اقرار المريض بالحد والقصاص لانه غير متهم، ويقبل اقراره بالمال لغير وارث لانه غير متهم في حقه، وان أقر لرجل بدين في الصحة وأقر لآخر بدين في المرض وضاق المال عنهما قسم بينهما على قدر الدينين لانهما حقان يجب قضاؤهما من رأس المال ولم يقدم أحدهما على الآخر، كما لو أقر لهما في ي حال الصحة.
واختلف أصحابنا في اقراره للوارث، فمنهم من قال فيه قولان، أحدهما أنه لا يقبل لانه اثبات مال للوارث بقوله من غير رضى الورثة فلم يصح من غير رضى سائر الورثة كالوصية.
والثانى أنه يقبل وهو الصحيح، لان من صح اقراره له في الصحة صح اقراره في المرض كالأجنبي

(20/293)


ومن أصحابنا من قال يقبل اقراره قولا واحدا، والقول الاخر حكاه عن غيره، وان كان وارثه أخا فأقر له بمال فلم يمت المقر حتى حدث له ان صح اقراره للاخ قولا واحدا لانه خرج عن أن يكون وارثا، وان أقر لاخيه وله ابن فلم يمت حتى مات الابن صار الاقرار للوارث، فيكون على ما ذكرناه من الطريقين في الاقرار للوارث.
وان ملك رجل أخاه ثم أقر في مرضه أنه كان أعتقه في صحته وهو أقرب عصبته بعد عتقه هل يرث أم لا؟ ان قلنا ان الاقرار الوارث لا يصح لم يرث لان توريثه يوجب ابطال الاقرار بحريته، وإذا بطلت الحرية سقط الارث فثبتت الحرية وسقط الارث، وان قلنا ان الاقرار للوارث يصح نفذ العتق بإقراره وثبت الارث بنسبه.
(الشرح) قوله (ويقبل اقرار المريض بالحد والقصاص..) قال الحنفيون في بدائع الصنائع ص 224 ج 7: (ولنا ما روى عن سيدنا عمر وابنه سيدنا عبد الله رضى الله عنهما أنهما قالا إذا أقر المريض لوارثه لم يجز، وإذا أقر لاجنبي جاز، ولم يرو عن غيرهما خلاف ذلك فيكون اجماعا، ولانه متهم في هذا الاقرار لجواز أنه آثر بعض الورثة على بعض بميل الطبع أو بقضاء حق موجب البعث على الاحسان وهو لا يملك ذلك بطريق التبرع والوصية به فأراد تنفيذ غرضه بصورة الاقرار من غير أن يكون للوارث عليه دين فكان متهما في اقراره فيرد، ولانه لما مرض مرض الموت فقد تعلق حق الورثة بماله، ولهذا لا يملك أن يتبرع عليه بشئ من الثلث مع أنه خالص ملكه لا حق لاجنبي فيه فكان اقراره البعض ابطالا لحق الباقين فلا يصح في حقهم، ولان الوصية لم تجز لوارث فالاقرار أولى لانه لو جاز الاقرار لارتفع بطلان الوصية، لانه يميل إلى الاقرار اختيارا للايثار بل هو أولى من الوصية بالطريق الاولى) ثم قالوا (ولو أقر المريض بديون لاناس كثيرة متفرقة بأن أقر بدين ثم بدين جاز ذلك كله، واستوى فيه المتقدم والمتأخر استواء الكل في التعلق

(20/294)


لاستوأهما في زمان التعلق وهو زمان المرض، إذ زمن المرض مع امتداده
بتجدد أمثاله حقيقة بمنزلة زمان واحد في الحكم فلا يتصور فيه التقدم والتأخر.
ولو أقر وهو مريض بدين ثم بعين بأن أقر أن هذا الشئ الذى في يده وديعة لفلان فهما دينان، ولا تقدم الوديعة لان إقراره بالدين قد صح فأوجب تعلق حق الغرماء بالعين لكونها مملوكة من حيث الظاهر والاقرار بالوديعة لا يبطل التعلق لان حق الغير يصان عن الابطال ما أمكن، وأمكن أن يجعل ذلك إقرارا بالدين لاقراره باستهلاك الوديعة بتقديم الاقرار بالدين عليه، وإذا صار مقرا باستهلاك الوديعة فالاقرار باستهلاك الوديعة يكون إقرارا بالدين لذلك فانا دينين، ولو أقر بالوديعة أولا ثم أقر بادين فالاقرار بالوديعة أولى، لان الاقرار بالوديعة لما صح خرجت الوديعة من أن تكون محلا للتعلق لخروجها عن ملك فلا يثبت الاقرار.
لان حق غريم المرض يتعلق بالتركة لا بغيرها ولم يوجد: وكذلك لو أقر المريض بمال في يده أنه بضاعة أو مضاربة فحكمه وحكم الوديعة سواء، والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا أقر المريض بالدين وليس عليه دين ظاهر معلوم في حال الصحة يعتبر إقرارة، فأما إذا كان عليه دين ظاهر معلوم بغير اقراره ثم أقر بدين آخر نظر في ذلك فإن لم يكن المقر به ظاهرا معلوما بغير اقراره تقدم الديون الظاهرة لغرماء الصحة في القضاء فتقضى ديونهم أولا من التركة فما فضل يصرف إلى غير غرماء الصحة، وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه الله يستويان.
وقالوا (وكذلك إذا تزوج امرأة في مرضه بألف درهم.
ومهر مثلها ألف درهم جاز ذلك على غرماء الصحة والمرأة فحاصصهم بمهرها لانه لما جاز النكاح ولا يجوز الا بوجوب المهر كان وجوب ظاهر معلوما لظهور سبب وجوبه وهو النكاح فلم يكن وجوبه محتملا الرد فيتعلق بماله ضرورة.
يحققه أن النكاح إذا لم يجز بدون مهر والنكاح من الحوائج الاصلية للانسان
كذلك وجوب المهر الذى هو من لوازمه شرعا، والمريض غير محجور عن صرف ماله إلى حوائجه الاصلية كثمن الاعذية والادوية، وان كان عليه دين للصحة،

(20/295)


وقالوا (وليس للمريض أن يؤثر بعض غرمائه على بعض، سواء كانوا غرماء المرض أو غرماء الصحة، حتى أنه لو قضى دين أحدهم شاركه الباقون في المقبوض، لان المرض أوجب تعلق الحق بالتركة، وحقوقهم في التعلق على السواء فكان في ايثار البعض ابطال حق الباقين الا أن يكون ذلك بدل قرض أو ثمن مبيع بأن استقرض في مرضه أو اشترى شيئا بمثل قيمته وكان ذلك ظاهرا معلوما فله أن يقضى القرض وينقد الثمن ولا يشاركه الغرماء في المقبوض والمنقود لان الايثار في هذه الصورة ليس ابطالا لحق الباقين) وقالوا (وأما اقرار المريض بالابراء بأن أقر المريض أنه كان أبرا فلانا من الدين الذى عليه في صحته لا يجوز لانه لا يملك انشاء الابراء للحال فلا يملك الاقرار به، بخلاف الاقرار باستيفاء الدين، لانه اقرار بقبض الدين وأنه يملك انشاء القبض فيملك الاخبار عنه بالاقرار) وقالوا في النسب (ولا يشترط صحة المقر لصحة اقراره بالنسب حتى يصح من الصحيح والمريض جميعا، لان المرض ليس بمانع لعينه بل لتعلق حق الغير أو التهمة فكل ذلك منعدم) وقالوا (ولو أقر بأخ في مرض الموت وصدقه المقر له ثم أنكر المريض بعد ذلك وقال ليس بينى وبينك قرابة بطل اقراره في حق الميراث أيضا) قالت الحنابلة في كتاب الفروع ص 608 ج 6 والمريض كالصحيح فيصح اقراره بوارث على الاصح، وان أقر بمال لوارث
قبل ببينة نص عليه، قال جماعة أو اجازة وظاهر نصه لا، وهو ظاهر الانتصار وغيره، واختار فيه يصح ما لم يتهم وفاقا لمالك، وأن أصله من المذهب وصيته لغير وارث يصير وارثا يصح لانتفاء التهمة وقال الازجى: قال أبو بكر: في صحة اقراره لوارثه روايتان.
(أحدهما)
لا يصح (والثانية) يصح لانه يصح لوارث، وفى الصحة أشبه الأجنبي، والاولى أصح، كذا قال وقال في الفنون يلزمه أن يقر وان لم يقبل، وقال أيضا ان حنبليا استدل

(20/296)


بأنه لا يصح إقراره لوارثه في مرضه بالوصية له.
فقال له حنبلي: لو أقر له في الصحة صح ولو نحله لم يصح، والنحلة تبرع كالوصية فقد افترق الحال للتهمة في أحدهما دون الآخر، كذا في المرض، ولانه لولا يلزم التبرع فيما زاد على الثلث لاجنبي ويلزم الاقرار، وقد افترق التبرع والاقرار فيما زاد على الثلث، كذا يفترقان في الثلث للوارث) وقال (ويصح الاقرار بأخذ دين في صحة ومرض من أجنبي)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
ويصح الاقرار لكل من يثبت له الحق المقر به، فإن أقر لعبد بالنكاح أو القصاص أو تعزير القذف صح الاقرار له، صدقه السيد أو كذبه، لان الحق له دون المولى، فإن أقر له بمال فإن قلنا إنه يملك المال صح الاقرار، وإن قلنا إنه لا يملك كان الاقرار لمولاه يلزم بتصديقه ويبطل برده.

(فصل)
وإن أقر لحمل بمال فإن عزاه إلى ارث أو وصية صح الاقرار فإن اطلق ففيه قولان: (احدهما) انه لا يصح لانه لا يثبت له الحق من جهة المعاملة ولا من جهة الجناية.

(والثانى)
انه يصح، وهو الصحيح لانه يجوز أن يملكه بوجه صحح وهو
الارث أو الوصية فصح الاقرار له مطلقا كالطفل، ولا يصح الاقرار إلا لحمل يتيقن وجوده عند الاقرار كما بيناه في كتاب الوصية، وإن أقر لمسجد أو مصنع وعزاه إلى سبب صحيح من غلة وقف عليه صح الاقرار، فإن أطلق ففيه وجهان بناء على القولين في الاقرار للحمل.
اللغة: قوله (فإن عزاه إلى ارث) أي لسبه وأضافه،.
قد ذكر وقوله (مصنع) المصنع كالحوض يجمع فيه ماء المطر، وكذلك المصنعة بضم النون، هكذا ذكره الجوهرى وحقيقته البركة وحدث أبو الحسن اللؤلؤي وكان خيرا فاضلا قال: كنت مولعا بالحج فحججت في بعض السنين وعطشت

(20/297)


عطشا شديدا فأجلست عديلي في وسط المحمل ونزلت أطلب الماء والناس قد عطشوا، فلم أزل أسال رجلا رجلا ومحملا محملا: معكم ماء؟ وإذا الناس شرع واحد حتى صرت في ساقة القافلة بميل أو ميلين، فمررت بمصنع مصهرج فإذا رجل فقير جالس في ارض المصنع وقد غرز عصاه في أرض المصنع والماء ينبع من موضع العصا وهو يشرب، فنزلت إليه فشربت حتى رويت وجئت إلى القافلة والناس قد نزلوا فأخرجت قربة ومضيت فملاتها، ورأنى الناس فتبادروا بالقرب فرووا عن آخرهم، فلما روى الناس وسارت القافلة جئت لانظر فإذا البركة ملاى تلتطم أمواجها، والمصانع أيضا الحصون، وقد فسر قوله تعالى (وتتخذون مصانع) قال مجاهد قصور مشيدة.
قال: تركن ديارهم منهم قفارا
* وتبقى وهد من المصانع والبروجا وقال قتادة هي برك الماء، وقال: لبيد بلينا وما تبلى النجوم الطوللع
* وتبقى جبال بعدنا ومصانع قوله (ويصح الاقرار لكل من ثبت له الحق المقر به) قلنا وهذا ما لا خلاف فيه بينهم.
وقوله (فإن أقر لعبد بالنكاح أو القصاص..) قال الحنفيون (فيصح إقرار العبد المأذون بالدين والعين، وكذا بالحدود والقصاص، وكذا العبد المحجور يصح إقراره بالمال لكن لا ينفذ على المولى للحال حتى لا تباع رقبته بالدين بخلاف المأذون لان اقرار المأذون انما صح لكونه من ضرورات التجارة والمحجور لا يملك التجارة فلا يملك ما هو من ضروراتها، الا أنه يصح اقراره في حق نفسه حتى يؤاخذ بعد الحرية لانه من أهل الاقرار لوجود العقل والبلوغ إلا أنه امتنع النفاذ على المولى للحال لحقه فإذا أعتق فقد زال المانع فيؤاخذ به وكذا يصح اقراره بالحدود والقصاص فيؤاخذ به الحال، لان نفسه في حق الحدود والقصاص كالخارج عن ملك المولى، ولهذا لو أقر المولى عليه الحدود والقصاص لا يصح قالت الحنابلة (ويقبل اقرار سيد على عبده بما يوجب مالا فقط لانه ايجاب حق في ماله، وفى الكافي: ان أقر بقود وجب المال ويفدى السيد منه

(20/298)


ما لا يتعلق، وفى لفظ (ما يتعلق) بالرقبة لو ثبت ببينة وان أقر مكاتب بالجناية تعلقت بذمته في الاصح وبرقبته، ولا يقبل اقرار سيده عليه بذلك، وان أقر غير مكاتب لسيده أو سيده له بمال لم يصح، وقيل بلى ان ملك، وان أقر أنه باعه نفسه بألف عتق فإن صدقه لزمه والا حلف وقيل لا.
قوله (وان أقر لحمل بمال فإن عزاه)
قالت الحنابلة (وان أقر لحمل أمرأة بمال صح في لاصح فإن ولدت حيا وميتا فهو للحى، وحيين ذكرا وأنثى لهما بالسوية، وقيل اثلاثا، وان عزاه إلى ما يقتضى التفاضل كإرث ووصية عمل به وقال القاضى ان أطلق كلف ذكر
السبب فيصح منه ما يصح، ويبطل ما يبطل، فلو مات قبل أن يفسر بطل.
وقالوا: وصحح التميمي الاقرار لحمل ان ذكر ارثا أو وصية فقط، لانه لا يملك بغيرهما ويعمل بحسبه.
قوله (وان أقر لمسجد أو مصنع وعزاه ... ) قالت الحنابلة (وان أقر لمسجد أو مقبرة أو طريق ونحوه وذكر سببا صحيحا لعلة وقفه صح، وان أطلق فوجهان، وأطلقهما في لمعنى والشرح والرعايتين والحاوى وغيرهم
(أحدهما)
يصح، اختاره ابن حامد وهو الصواب ويكون لمصالحها.
والوجه الثاني لا يصح، اختاره التميمي وقدمه ابن رزين في شرحه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان أقر بحق لآدمي أو بحق لله تعالى لا يسقط بالشبهة ثم رجع في قراره لم يقبل رجوعه، لانه حق ثبت لغيره فلم يملك اسقاط بغير رضاه.
وان أقر بحق لله عز وجل يسقط بالشبهة نظرت فإن كان حد الزنا أو حد الشرب قبل رجوعه وقال أبو ثور رحمه الله: لا يقبل لانه حق ثبت بالاقرار فلم يسقط بالرجوع كالقصاص وحد القذف، وهذا خطأ لما روى أبو هرير ة رضى الله عنه قال: أتى رجل من أسلم إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا رسول الله ان الاخر زنى، فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فتنحى لشق وجهه الذى أعرض عنه، فقال يا رسول ان الاخر زنى، فأعرض عنه

(20/299)


رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنحى لشق وجهه الذى أعرض عنه،، فقال يا رسول الله إن الاخر زنى فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ سلم فتنحى له الرابعة، فلما شهد على نفسه أربع مرات دعاه رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هل بك جنون؟ فقال لَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اذهبوا
به فارجموه، وكان قد أحصن، فلو لم يسقط بالرجوع لما عرض له، ويخالف القصاص وحد القذف، فإن ذلك يجب لحق الآدمى وهذا يجب لحق الله تعالى، وقد ندب فيه إلى الستر، وإن كان حد السرقة أو قطع الطريق ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه لا يقبل فيه الرجوع لانه حق يجب لصيانة حق الآدمى فلم يقبل فيه الرجوع عن الاقرار كحد القذف.

(والثانى)
وهو الصحيح أنه يقبل لما روى أبو أمية المخزومى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بلص قد اعترف، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما إخالك سرقت، فقال له، مرتين أو ثلاثة ثم أمر بقطعه فلو لم يقبل فيه رجوعه لما عرض له، ولانه حق لله تعالى يقبل فيه الرجوع عن الاقرار كحد الزنا والشرب
(الشرح) حديث أبى هريرة (أتى رجل من أسلم إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال يا رسول الله ان الاخر زنى..أخرجه البخاري من حديث ابن عباس بلفظ (لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟ قال لا، قال أنكتها؟ لا يكنى، قال نعم وأخرجه أبو داود والنسائي والدارقطني من حديث أبى هريرة قال جاء الاسلمي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراما أربع مرات، كل ذلك يعرض عنه، فأقبل عليه في الخامسة فقال أنكتها؟ قال نعم، قال كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر قال نعم، فيه ابن المضاض واسمه عبد الرحمن بن الصامت، قال البخاري حديثه في أهل الحجاز ليس يعرف إلا بهذا الواحد.
حديث أبى أمية المخزومى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بلص قد اعترف.
أخرجه أبو داود في لمراسيل من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ووصله

(20/300)


الدارقطني والحاكم والبيهقي بذكر أبى هريرة فيه: ورجح ابن خزيمة وابن المدينى
وغير واحد ارساله، وصحح ابن القطان للوصول، ورواه أبو داود في السنن والنسائي وابن ماجه من طريق أبى أمية، قال الخطابى في إسناده مقال، قال والحديث إذا رواه مجهول لم يكن حجة ولم يجب الحكم.
اللغة: قوله (ان الاخر زنى) ذكر قوله (فتنحى لشق وجهه) أي أتاه من ناحيته الاخرى، وقيل مال واعتمد وكذا الانتحاء الاعتماد والميل.
قوله (ما إخالك سرقت) أي ما أظنك، يقال أخال بفتح الهمزة وإخال بكسرها والكسر أفصح والقياس الفتح قوله (وان أقر بحق لآدمي.
) قال الحنفيون ان المقر به في الاصل نوعان
(أحدهما)
حق الله تعالى عز شأنه
(والثانى)
حق العبد.
أما حق الله سبحانه وتعالى فنوعان أيضا
(أحدهما)
أن يكون خالصا لله تعالى وهو حد الزنا والسرقة والشرب
(والثانى)
أن يكون للعبد فيه حق، وهو حد القذف، ولصحة الاقرار بها شرائط.
وأما حق العبد فهو المال من العين والدين والنسب والقصاص والطلاق والعتاق ونحوها، ولا يشترط لصحة الاقرار بها ما يشترط لصحة الاقرار بحقوق الله تعالى من العدد ومجلس القضاء والعبارة، حتى ان الاخرس إذا كتب الاقرار بيده أو أومأ بما يعرف أنه اقرار بهذه الاشياء يجوز، بخلاف الذى اعتقل لسانه لان للاخرس اشارة معهودة، فإذا أتى بها يحصل العلم بالمشار إليه، وليس ذلك لمن اعتقل لسانه، ولان اقامة الاشارة مقام العبارة أمر ضروري، والخرس ضرورة لانه أصلى، فأما اعتقال اللسان فليس من باب الضرورة لكونه على شرف الزوال بخلاف الحدود، لانه لا يجعل ذلك اقرارا بالحدود لما بينا أن الحدود على صزيح البيان بخلاف القصاص فإنه غير مبنى على صريح البيان، فإنه
إذا أقر مطلقا عن صفة التعمد بذكر آلة دالة عليه وهى السيف ونحوه يستوفى بمثله القصاص، وحقوق العباد تثبت مع الشبهات بخلاف حقوق الله تعالى

(20/301)


وأما بيان ما يبطل به الاقرار بعد وجوده فيبطل بشيئين
(أحدهما)
تكذيب المقر له في أحد نوعي الاقرار بحقوق العباد، لان إقرار المقر دليل لزوم المقر به، وتكذيب المقر له دليل عدم اللزوم، واللزوم لم يعرف ثبوته فلا يثبت مع الشك
(والثانى)
رجوع المقر عن إقراره فيما يحتمل الرجوع في أحد نوعي الاقرار بحقوق الله تبارك وتعالى خالصا، كحد الزنا يحتمل أن يكون صادقا في الانكار فيكون كاذبا في الاقرار ضرورة فيورث شبهة في وجوب الحد، وسواء رجع قبل القضاء أو بعده، قبل تمام الجلد أو الرجم قبل الموت لما قلنا وروى أن ماعزا لما رجم بعض الحجارة هرب من أرض قليلة الحجارة إلى أرض كثيرة الحجارة، فلما بلغ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عليه الصلاة والسلام (سبحان الله هلا خليتم سبيله) وكذلك الرجوع عن الاقرار بالسرقة والشرب لان الحد الواجب بهما حق الله سبحانه وتعالى خالصا فيصح الرجوع عن الاقرار بهما، إلا أن في السرقة يصح الرجوع في حق القطع لا في حق المال، لان القطع حق الله تعالى على الخلوص فيصح الرجوع عنه، فأما المال فحق العبد فلا يصح الرجوع فيه.
وأما حد القذف فلا يصح الرجوع عن الاقرار فيه، لان للعبد فيه حقا فيكون متهما في الرجوع فلا يصح الرجوع عن سائر الحقوق المتمحضة للعباد، وكذلك الرجوع عن الاقرار بالقصاص، لان القصاص خالص حق العباد فلا يحتمل الرجوع قال ابن حزم في مراتب الاجماع بعد أن ذكر وجوب الرجم على من أقر بالزنا (واختلفوا أيقبل رجوعه أم لا؟ واختلفوا إذا أقر بعد البينة أتبطل البينة ويرجع الحكم إلى حكم الاقرار ويسقط عنه الحد برجوعه أم لا)
قال الشوكاني في الدرر البهية (ويسقط الحد بالشبهات وبالرجوع عن الاقرار) وقال في السرقة (ويكفى الاقرار مرة واحدة) .
وقال صديق حسن خان في الروضة الندية شرح الدرر البهية، وبالرجوع عن الاقرار، لحديث أبى هريرة عند أحمد والترمذي (أن ماعزا لما وجد مس الحجارة فر يشتد حتى مر برجل معه لحى جمل (أي عظم الحنك) فضربه به

(20/302)


وضربه الناس حتى مات، فذكروا ذلك لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هلا تركتموه، قال الترمذي انه حديث حسن، وقد روى من غير وجه عن أبى هريرة ورجال إسناده ثقات.
وأخرج أبو داود والنسائي من حديث جابر نحوه وزاد (أنه لما وجد مس الحجارة صرخ يا قوم ردوني إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإن قومي قتلوني وغرونى من نفسي وأخبروني أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير قاتلي فلم ننزع عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخبرناه قال فهلا تركتموه وجئتموني به) وقد أخرج البخاري ومسلم طرفا منه، وفى الباب روايات.
وقد ذهب إلى ذلك أحمد والشافعية والحنفية، وهو مروى عن مالك في قول له، وقد ذهب ابن أبى ليلى والبتى وأبو ثور ورواية عن مالك وقول الشافعية أنه لا يقبل فيه الرجوع عن الاقرار.
قوله (ومن أقر لرجل بمال في يده..) واتفقوا ان كذب المقر له المقر بطل الاقرار وكان للمقر أن يتصرف فيما أقر به بما شاء) وقوله (فإن أقر الزوج..) واتفقوا ان أقر رجل أو امرأة تزوجية الآخر فسكت صح وورث كل منهما الآخر في حال الوفاة بالزوجية لقيامها بينهما
بالاقرار أو جحده ثم صدقه صح وورثته لحصول الاقرار، إلا إذا بقى على تكذيبه حتى مات.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وما قبل فيه الرجوع عن الاقرار إذا أقر به فالمستحب للامام أن يعرضه للرجوع لما رويناه من حديث أبى هريرة وحديث أبى أمية المخزومى فإن أقر فأقيم عليه بعض الحد ثم رجع عن الاقرار قبل لانه إذا سقط بالرجوع جميع الحد سقط بعضه، وان وجد ألم الحد فهرب فالاولى أن يخلى لانه ربما رجع عن الاقرار فيسقط عنه الحد، وان أتبع وأقيم عليه تمام الحد جاز لما روى الزهري قال: أخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: كنت فيمن رجم ماعزا

(20/303)


فرجمناه في المصلى بالمدينة، فلما أذلقنه الحجارة تجمز حتى أدركناه بالحرة فرجمناه حتى مات، فلو لم يجز ذلك لانكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وضمنهم، ولان الهرب ليس بصريح في الرجوع فلم يسقط به الحد.

(فصل)
ومن أقر لرجل بمال في يده فكذبه المقر له بطل الاقرار لانه رده، وفى المال وجهان:
(أحدهما)
أنه يؤخذ منه ويحفظ لانه لا يدعيه والمقر له لا يدعيه فوجب على الامام حفظه كالمال الضائع.

(والثانى)
أنه لا يؤخذ منه، لانه محكوم له بملكه، فإذا رده المقر له بقى على ملكه.

(فصل)
فإن أقر الزوج أن امرأته أخته من الرضاع وكذبته المرأة قبل قوله في فسخ النكاح لانه إقرار في حق نفسه ولا يقبل إقراره في إسقاط مهرها لان قوله لا يقبل في حق غيره، وإن أقرت المرأة أن الزوج أخوها من الرضاع
وأنكر الزوج لم يقبل قولها في فسخ النكاح، لانه إقرار في حق غيرها، وقبل قولها في إسقاط المهر لانه إقرار في حق نفسها.
(الشرح) حديث (أخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: كنت فيمن رجم ماعزا) أخرجه الترمذي وأحمد والصحيحين من غير تسمية وأبو داود.
اللغة: قوله (فلما أذلقته الحجارة) أي أصابته بحدها، والحجارة المذلقة المحدودة، وذلق كل شئ حده وفلان ذلق اللسان حديده.
قوله (تجمز) أي عدا وأسرع، المجز ضرب من السير أشد من العتق والناقة تعدو المجزى.
قال ابن حزم في مراتب الاجماع (واتفقوا أن من أقر على نفسه بالزنا في مجلس حاكم يجوز حكمه أربع مرات مختلفات يغيب بين كل مرتين عن المجلس حتى لا يرى، وهو حر مسلم، غير مكره ولا سكران، ولا مجنون ولا مريض، ووصف الزنا وعرفه ولم يثبت ولا طال الامر أنه يقام عليه الحد ما لم يرجع عن اقراره، واختلفوا أيقبل رجوعه أم لا،

(20/304)


قلت (لم يثبت الاجماع على أربع مرات كما قال ابن حزم، قال الشوكاني في الدرر البهية: ويكفى إقراره مرة، وما ورد من التكرار في وقائع الاعيان فلقصد الاستثبات.
قال صديق حسن خان في الروضة الندية في الشرح (لان أخذ المقر بإقراره هو الثابت في الشريعة، فمن أوجب تكرار الاقرار في فرد من أفراد الشريعة كان الدليل عليه، ولا دليل هنا بيد من أوجب تربيع الاقرار إلا مجرد ما وقع من ماعز من تكرار الاقرار، وَلَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أمره أو أمر غيره بأن يكرر الاقرار، ولا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن إقرار
الزنا لا يصح إلا إذا كان أربع مرات، وإنما لم يقم على ماعز الحد بعد الاقرار الاول لقصد التثبت في أمره، ولهذا قال له صلى الله عليه وسلم (أبك جنون؟) ووقع منه السؤال لقوم ماعز عن عقله، وقد اكتفى بالاقرار مرة واحدة، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها) وثبت عنه صلى الله عليه وسلم رجم الغامدية ولم تقر إلا مرة واحدة، كما في صحيح مسلم وغيره، وكما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث خالد بن اللجلاج عَنْ أَبِيهِ (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم رجم رجلا أقر مرة واحدة) ومن ذلك حديث الرجل الذى ادعت المرأة أنه وقع عليها فأمر برجمه، ثم قام آخر فاعترف أنه الفاعل فرجمه، وفى رواية أنه عفا عنه، والحديث في سنن النسائي والترمذي، ومن ذلك رجم اليهودي واليهودية، فإنه لم ينقل أنهما كررا الاقرار، فلو كان الاقرار أربع مرات شرطا في حد الزانى لما وقع منه صلى الله عليه وسلم المخالفة في عدة قضايا.
وقد ذهب إلى ما ذكرنا جماعة من أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم، وحكاه صاحب البحر عن أبى بكر وعمر والحسن البصري ومالك وحماد وأبو ثور والبتى والشافعي.
وذهب الجمهور إلى التربيع في الاقرار.
أقول: هذه المسألة من المعارك، والحق أن الاقرار الذى يستباح به الجلد والرجم لا يشترط فيه أن يكون زيادة على مرة

(20/305)


قال الحنفيون: يستحب للامام تلقين المقر بالرجوع بقوله لعلك لمستها أو قبلتها، كما لقن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزا، وكما لقن صلى الله عليه وسلم السارق والسارقة بقوله صلى الله عليه وسلم: ما أخاله سرق، أو أسرقت؟ قولى
لا.
لو لم يكن محتملا الرجوع لم يكن للتلقين معنى وفائدة، فكان التلقين منه صلى الله عليه وسلم احتيالا للدرء، لانه أمرنا به بقوله صلى الله عليه وسلم: ادرءوا الحدود بالشبهات وقوله صلى الله عليه وسلم (ادرءوا الحدود ما استطعتم)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن قال لرجل لى عندك ألف، فقال لا أنكر لم يكن إقرارا، لانه يحتمل أن يريد أنى لا أنكر أنه مبطل في دعواه، وان قال أقر لم يكن إقرارا لانه وعد بالاقرار.
وإن قال لا أنكر أن تكون محقا لم يكن إقرارا، لانه يحتمل أنه يريد أنى لا أنكر أن تكون محقا في اعتقاده.
وان قال لا أنكر أن تكون محقا في دعواك كان إقرارا لانه لا يحتمل غير الاقرار.
وان قال أنا مقر ففيه وجهان.

(أحدهما)
وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفراينى رحمه الله أنه لا يكون إقرارا، لانه يحتمل أنه يريد أنى مقر ببطلان دعواك.
والوجه الثاني أن يكون إقرارا لانه جواب عن الدعوى فانصرف الاقرار إلى ما ادعى عليه.
وإن قال لى عليك ألف فقال نعم أو أجل أو صدق أو لعمري كان مقرا، لان هذه الالفاظ وضعت للتصديق وإن قال لعل أو عسى لم يكن اقرارا لانها ألفاظ وضعت للشك والترجى وان قال أظن أو أحسب أو أقدر لم يكن إقرارا لان هذه الالفاظ تستعمل في الشك، وان قال له على في علمي كان إقرارا لان ما عليه في علمه لا يحتمل الا الوجوب، وان قال اقض الالف التى لى عليك فقال نعم كان اقرارا لانه تصديق لما ادعاه.
وإن قال اشتر عبدى هذا فقال نعم أو اعطى عبدى هذا فقال نعم كان اقرارا بالعبد لما ذكرناه وان ادعى عليه ألفا فقال خذ أو انزن لم يكن اقرارا لانه

(20/306)


يحتمل أنه أراد خذ الجواب منى أو الزن إن كان ذلك على غيرى، وإن قال خذها أو اتزنها ففيه وجهان:
(أحدهما)
وهو قول أبى عبد الله الزبيري رحمه الله أنه يكون إقرارا، لانه هاء الكناية ترجع إلى ما تقدم من الدعوى.

(والثانى)
وهو قول عامة أصحابنا أنه لا يكون إقرارا لان هاء الصفات ترجع إلى المدعى له ولم يقر أنه واجب.
وان قال وهى صحاح فقد قال أبو عبد الله الزبيري أنه اقرار لانها صفة للمدعى والاقرار بالصفة إقرار بالموصوف وقال عامة أصحابنا لا يكون اقرارا لان الصفة ترجع إلى المدعى ولا تقتضي الوجوب عليه.
وإن قال له على ألف أن شاء الله لم يلزمه شئ لان ما علق على مشيئة الله تعالى لا سبيل إلى معرفته.
وان قال له على ألف ان شاء زيد أو له على ألف ان قدم فلان لم يلزمه شئ لان ما لا يلزمه لا يصير واجبا عليه بوجود الشرط.
وان قال ان شهد لك فلان وفلان بدينار فهما صادقان ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه ليس بإقرار لانه اقرار معلق على شرط فلم يصح، كما لو قال ان شهد فلان على صدقته أو وزنت لك، ولان الشافعي رحمه الله تعالى قال: إذا قال لفلان على ألف ان شهد بها على فلان وفلان لم يكن اقرارا، فإن شهدا عليه وهما عدلان لزمه بالشهادة دون الاقرار.

(وَالثَّانِي)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَبَّاسِ بْنِ الْقَاصِّ أنه اقرار، وان لم يشهد به، وهو قول شيخنا القاضى أبى الطيب الطبري رحمه الله، لانه أخبر أنه ان شهدا به فهما صادقان ولا يجوز أن يكونا صادقين الا والدينار واجب عليه لانه لو لم يكن واجبا عليه لكان الشاهد به كاذبا، فإذا قال يكون صادقا دل على أن المشهود
به ثابت فصار كما لو شهد عليه رجل بدينار فقال صدق الشاهد، ويخالف قوله ان شهد فلان صدقته أو وزنت لك لانه قد يصدق الانسان من ليس بصادق وقد يزن بقوله ما لا يلزمه.
ويخالف ما قال الشافعي رحمه الله لفلان على ألف ان شهد به فلان وفلان، لان وجوب الالف لا يجوز أن يتعلق بشهادة من يشهد عليه، فإذا علق

(20/307)


بشهادته دل على أنه غير واجب، وههنا لم يعلق وجوب الدينار بالشهادة، وانما أخبر أن يكون صادقا، وهذا تصريح بوجوب الدينار عليه في الحال، وان كان قال له على ألف ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه يلزمه لانه أقر بالوجوب والاصل بقاؤه
(والثانى)
أنه لا يلزمه لانه أقر به في زمان مضى فلا يلزمه في الحال شئ وان أقر أعجمى بالعربية أو عربي بالعجمية ثم ادعى أنه لم يعلم بما قال فالقول قوله مع يمينه لان الظاهر ما يدعيه.
اللغة: قوله (فإن قال نعم أو أجل) قال الجوهرى: قولهم أجل انما هو جواب مثل نعم.
قال الاخفش الا أنه أحسن من نعم في التصديق ونعم أحسن منه في الاستفهام، فإذا قال أنت سوف تذهب، قلت أجل وكان أحسن من نعم، وإذا قال أتذهب قلت نعم وكان أحسن من أجل قوله (أو لعمري) لعمري ولعمرك قسم كأنه حلف ببقائه وحياته، والعمر والعمر واحد، فإذا أدخلت اللام فتحت لا غير، ومعناه في الاقرار كأنه أقسم بثبوته ولزومه عليه قوله (وان قال لرجل عندك ألف فقال..) قالت الحنابلة (من أدعى عليه بألف فقال نعم أو صدقت أو أنا مقر أو خذها أو اتزنها أو اقبضها فقد أقر، لان هذه الالفاظ تدل على تصديق المدعى وتتصرف إلى الدعوى لوقوعها عقبها لا ان قال أنا أقر فليس اقرارا بل وعد أو لا أنكر لانه لا يلزم من عدم الانكار الاقرار، لان بينهما قسما آخر وهو السكوت، ولانه يحتمل لا أنكر بطلان دعواك أو خذ لاحتمال أن يكون مراده خذ الجواب منى أو انزن أو افتح كمك لاحتمال أن يكون لشئ غير المدعى به أو انزن من غيرى أو افتح كمك للطمع، وبلى في جواب أليس لى عليك كذا اقرار بلا خلاف، لان نفى النفى اثبات لا نعم الا من عامى فيكون اقرارة كقوله عشرة غير درهم يلزمه تسعة لان ذلك لا يعرفه الا الحذاق من أهل العربية.
وفى حديث عمرو بن عنسة (فدخلت عليه فقلت يا رسول الله أتعرفني؟ فقال نعم أنت الذى لقيتني بمكة: قال فقلت بلى،

(20/308)


قال في شرح مسلم: فيه صحة الجواب ببلى، وإن لم يكن قبلها، وصحة الاقرار بها، قال وهو الصحيح من مذهبنا أي مذهب الشافعية وإن قال اقض دينى عليك ألفا، أو هل لى أو لى عليك ألف فقال نعم فقد أقر له، لان نعم صريحة في صديقه، أو قال امهلني يوما أو حتى أفتح الصندوق فقد أقر، لان طلب الملهة يقتضى أن الحق عليه، أو قال له على ألف ان شاء الله فقد أقر له به نص عليه أو الا أن يشاء الله فقد أقر له به لانه علق رفع الاقرار على أمر لا يعلمه فلا يرتفع، أو قال له على ألف لا تلزمني الا أن يشاء زيد فقد أقر له بالالف.
وإن علق بشرط لم يصح سواء قدم الشرط كان شاء زيد فله على دينار، أو إن قدم زيد فلعمرو على كذا، لانه لم يثبت على نفسه شيئا في الحال وانما علق ثبوته على شرط، والاقرار إخبار سبق فلا يتعلق بشرط مستقبل بخلاف تعليقه على مشيئة الله عز وجل فإنها تذكر في الكلام تبركا وتفويضا إلى الله تعالى.
كقوله، لتدخلن المسجد الحرام ان شاء الله، وقد علم الله أنهم سيدخلونه بلا شك وقال القاضى يكون اقرارا صحيحا لان الحق الثابت في الحال لا تقف على شرط مستقبل فسقط الاستثناء قاله في لكافى، أو أخره كله على دينار ان شاء زيد أو قدم الحاج أو جاء المطر فلا يصح الاقرار لما بين الاخبار والتعليق على شرط مستقبل من التنافى، الا إذا قال إذا جاء وقت كذا فله على دينار فليلزمه في لحال، فإن فسره بأجل أو وصهة قبل بيمينه، ومن ادعى عليه بدينار فقال ان شهد به زبد فهو صادق لم يكن مقرا، وقد أفاض الحنفيون في هذا الامر في دائع الصنائع من صحفة 208 إلى 210 بما يتفق مع ما سبق ايضاحه

(20/309)


قال المصنف رحمه الله تعالى:

باب جامع الإقرار

إذا قال لفلان على شئ طولب بالتفسير فإن امتنع عن التفسير جعل ناكلا ورد اليمين على المدعى وقضى له لانه كالساكت عن جواب المدعى.
ومن أصحابنا من حكى فيه قولين
(أحدهما)
ما ذكرناه
(والثانى)
أنه يحبس حتى يفسر لانه قد أقر بالحق وأمتنع من أدائه فحبس.
وإن شهد شاهدان على رجل بمال مجهول ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يثبت بالحق كما يثبت بالاقرار، ثم يطالب المشهود عليه كما يطالب المقر.

(والثانى)
أنه لا يثبت الحق لان البينة ما أبانت عن الحق وهذه ما أبانت عن الحق، وإن أقر بشئ وفسره بما قل أو كثر من المال قبل، لان اسم الشئ يقع عليه، وإن فسره بالخمر والخنزير أو الكلب أو السرجين أو جلد الميتة قبل الدباغ ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه يقبل لانه يقع عليه اسم الشئ
(والثانى)
أنه لا يقبل لان الاقرار إخبار عما يجب ضمانه، وهذه الاشياء لا يجب ضمانها.
(والثالث) أنه إن فسره بالخمر والخنزير لم يقبل لانه لا يجب تسليمه، وإن فسره بالكلب والسرجين وجلد الميتة قبل الدباغ قبل لانه يجب تسليمه، وإن قال غصبتك أو غصبتك ما تعلم لم يلزمه شئ لانه قد يغصبه نفسه فيحبسه وإن قال غصبتك شيئا ثم قال غصبته نفسه لم يقبل لان الاقرار يقتضى غصب شئ منه ويطالب بتفسير الشئ.

(فصل)
وإن قال له على مال ففسره بما قل أو كثر قبل لان اسم المال يقع عليه، وإن قال له على مال عظيم أو كثير قبل في تفسيره القليل والكثير، لان ما من مال إلا وهو عظيم وكثير بالاضافة إلى ما هو دونه، ولانه يحتمل

(20/310)


أنه أراد به أنه عظيم أو كثير عنده لقلة ماله أو لفقر نفسه، فإن قال له على أكثر من مال فلان قبل في بيانه القليل والكثير، لانه يحتمل أنه يريد أنه أكثر من مال فلان لكونه من الحلال أو أكثر بقاء لكونه في ذمته
(فصل)
وان قال له على درهم لزمه درهم من دراهم الاسلام وهو ستة دوانتى وزن كل عشرة سبعة مثاقيل فإن فسره بدرهم طبري كطبرية الشام، وهو الذى فيه أربعة دوانق، فإن كان ذلك متصلا بالاقرار قبل منه، كما لو قال له على درهم إلا دانقين، وإن كان منفصلا نظرت فإن كان الاقرار في غير الموضع الذى يتعامل فيه بالدراهم الطبرية لم يقبل، كما لا يقبل الاستثناء المنفصل عن الجملة، وإن كان في الموضع الذى يتعامل فيه الدراهم الطبرية ففيه وجهان
(أحدهما)
وهو المنصوص أنه يقبل لان اطلاق الدراهم يحمل على دراهم
البلد كما يحمل في البيع دراهم البيع.

(والثانى)
أنه لا يقبل ويلزمه درهم من دراهم الاسلام لانه إخبار عن وجوب سابق، بخلاف البيع فإنه إيجاب في الحال فحمل على دراهم الموضع الذى يجب فيه، وإن قال له على درهم كبير لزمه درهم من دراهم الاسلام، لانه درهم كبير في العرف، فإن فسره بما هو أكبر منه وهو الدرهم البغلى قبل منه لانه يحتمل ذلك وهو غير متهم فيه.
وإن قال له على درهم صغير أوله على درهم لزمه درهم وازن لانه هو المعروف فإن كان في البلد دراهم صغار ففسره بها قبل لانه يحتمل اللفظ، وإن قال له على مائة درهم عدد الزمه مائة وازنة عددها مائة، لان الدراهم تقتضي الوازنة وذكر العدد لا ينافيها توجب الجمع بينهما.

(فصل)
وان قال له على دراهم ففسرها بدراهم مزيفة لا فضة فيها لم يقبل لان الدارهم لا تتناول مالا فضة فيه، وان فسرها بدراهم مغشوشه فالحكم فيها كالحكم فيمن أقر بدراهم وفسرها بالدراهم الطبرية، وقد بيناه وان قال له على دراهم وفسرها بسكة دون سكة دراهم البلد الذى أقر فيه ولا تنقص عنها في الوزن فالمنصوص أنه يقبل منه.
وقال المزني لا يقبل منه لان

(20/311)


إطلاق الدراهم يقتضى سكة البلد كما يقتضى ذلك في البيع، وهذا خطأ لان البيع إيجاب في الحال فاعتبر الموضع الذى يجب فيه، والاقرار إخبار عن وجوب سابق وذلك يختلف فرجع إليه
(فصل)
وإن أقر بدرهم في وقت ثم أقر بدرهم في وقت آخر لزمه درهم واحد لانه إخبار فيجوز أن يكون ذلك خبرا عما أخبر به في لاول، ولهذا لو قال رأيت زيدا ثم قال رأيت زيدا لم يقتض أن يكون الثاني إخبارا عن رؤية
ثانية، وإن قال له على درهم من ثمن ثوب ثم قال له على درهم من ثمن عبد لزمه درهمان لانه لا يحتمل أن يكون الثاني هو الاول.
وإن قال له على درهم ودرهم لزمه درهمان لان الواو تقتضي أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه.
وان قال له على درهم ودرهمان لزمه ثلاثة دراهم لما ذكرناه.
وان قال له على درهم فدرهم لزمه درهم واحد، وان قال لامرأته أنت طالق فطالق وقعت طلقتان.
واختلف أصحابنا في ذلك، فقال أبو على بن خيران رحمه الله لا فرق بين المسئلتين فجلعهما على قولين، ومنهم من قال يلزمه في الاقرار درهم وفى الطلاق طلقتان، والفرق بينهما أن الطلاق لا يدخله التفصيل والدراهم يدخلها التفصيل فيجوز أن يزيد: له على درهم فدرهم خير منه.
وان قال له على درهم ودرهم ودرهم لزمه ثلاثة درهم.
وان قال أنت طالق وطالق وطالق ولم ينو شيئا ففيه قولان
(أحدهما)
أنه يقع طلقتان
(والثانى)
أنه يقع ثلاث طلقات، فنقل أبو على ابن خيران جوابه في لطلاق إلى الاقرار وجعلهما على قولين ومن أصحابنا من قال يقع طلقتان في احد القولين وفى الاقرار يلزمه ثلاثة دراهم قولا واحدا، لان الطلاق يدخله التأكيد فحمل التكرار على التأكيد، والاقرار لا يدخله النأكيد فحمل التكرار على العدد.
وان قال له على درهم فوق درهم أو درهم تحت درهم لزمه درهم واحد لانه يحتمل أن يكون فوق درهم أو تحت درهم في الجودة، ويحتمل فوق درهم أو تحت درهم لى فلم يلزمه زيادة مع الاحتمال.

(20/312)


وأن قال على درهم مع درهم لزمه درهم لانه يحتمل مع درهم لى فلم يلزمه ما زاد مع الاحتمال، وان قال له على درهم قبله درهم أو بعده درهم لزمه درهمان
لان قبل وبعد تستعمل في التقديم والتأخير في الوجوب، وان قال له على درهم في عشرة فإن أراد الحساب لزمه عشرة.
لان ضرب الواحد في عشرة عشرة، وان لم يرد الحساب لزمه درهم، لانه يحتمل أن له على درهما مختلطا بعشرة لى، وان قال له على درهم بل درهم لزمه درهم، لانه لم يقر بأكثر من درهم، وان قال له على درهم بل درهمان لزمه درهمان.
وان قال له على درهم بل دينار لزمه الدرهم والدينار، والفرق بينهما أن قوله بل درهمان ليس برجوع عن الدرهم، لان الدرهم داخل في الدرهمين وانما قصد الحاق الزيادة به.
وقوله بل دينار رجوع عن الدرهم واقرار بالدينار فلم يقبل رجوعه عن الدرهم فلزمه وقبل اقراره بالدينار فلزمه، وان قال له على درهم أو دينار لزمه أحدهما وأخذ بتعيينه لانه أقر بأحدهما، وان قال له على درهم في دينار لزمه الدرهم ولا يلزمه الدينار لانه يجوز أن يكون أراد في دينار لى.

(فصل)
وان قال له على دراهم لزمه ثلاثة دراهم لانه جمع وأقل الجمع ثلاثة، وان قال دراهم كثيرة لم يلزمه أكثر من ثلاثة لانه يحتمل أنه أراد بها كثيرة بالاضافة إلى ما دونها أو أراد أنها كثيرة في نفسه، وان قال له على ما بين درهم إلى عشرة لزمه ثمانية لان ما بينهما ثمانية، وان قال له على من درهم إلى عشرة ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يلزمه ثمانية لان الاول والعاشر حدان فلم يدخلا في الاقرار فلزمه ما بينهما
(والثانى)
أنه يلزمه تسعة لان الواحد أول العدد، وإذا قال من واحد كان ذلك اقرارا بالواحد وما بعده فلزمه والعاشر حد فلم يدخل فيه
(فصل)
وان قال له على كذا رجع في التفسير إليه لانه أقر بمبهم فصار كما لو قال له على شئ، وان قال له على كذا درهم لزمه درهم لانه فسر المبهم
بالدرهم، وان قال له على كذا وكذا رجع في التفسير إليه لانه أقر بمبهم وأكده

(20/313)


بالتكرار فرجع إليه، كما لو قال له على كذا، وان قال له على كذا كذا درهما لزمه درهم، لانه فسر المبهم به، وان قال له على كذا وكذا رجع في التفسير إليه لانه أقر بمبهمين، لان العطف بالواو يقتضى أن يكون الثاني غير الاول فصار كما لو قال له على شئ وشئ وإن قال له على كذا وكذا درهم فقد روى المزني فيه قولين
(أحدهما)
أنه يلزمه درهم
(والثانى)
يلزمه درهمان، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ فِيهِ قَوْلَانِ:
(أَحَدُهُمَا)
أنه يلزمه درهمان لانه ذكر مبهمين ثم فسر بالدرهم فرجع إلى كل واحد منهما.

(والثانى)
أنه يلزمه درهم لانه يجوز أن يكون فسر المبهمين بالدرهم لكل واحد منهما نصفا فلا يلزمه ما زاد مع الاحتمال وقال أبوا سحاق وعامة أصحابنا: إذا قال كذا وكذا درهما بالنصب لزمه درهمان لانه جعل الدرهم تفسيرا فرجع إلى كل واحد منهما، وان قال كذا وكذا درهم بالرفع لزمه درهم لانه يخبر عن المبهمين بأنهما درهم، وحمل القولين على هذين الحالين، وقد نص الشافعي رحمه الله عليه في الاقرار والمواهب.

(فصل)
وان قال له على ألف رجع في البيان إليه وبأى جنس من المال فسره قبل منه.
وإن فسره بأجناس قبل منه لانه يحتمل الجميع، وان قال له على ألف ودرهم لزمه درهم ورجع في تفسير الالف إليه.
وقال أبو ثور يكون الجميع دراهم، وهذا خطأ لان العطف لا يقتضى أن يكون المعطوف من جنس المعطوف عليه، لانه قد يعطف الشئ على غير جنسه كما يعطف على جنسه، ألا ترى أنه يجوز أن يقول رأيت رجلا وحمارا، كما يجوز أن يقول رأيت رجلا ورجلا، وان قال له على مائة وخمسون درهما، أو له على ألف وعشرة دراهم
ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يلزمه خمسون درهما وعشرة دراهم ويرجع في تفسير المائة والالف إليه، كما قلنا في قوله ألف ودرهم
(والثانى)
أنه يلزمه مائة درهم وخمسون درهما أو ألف درهم وعشرة دراهم والفرق بينها وبين قوله ألف ودرهم أن الدرهم المعطوف على الالف لم يذكره

(20/314)


التفسير وانما ذكره للايجاب، ولهذا يجب به زيادة على الالف والدراهم المذكورة بعد الخمسين والالف ذكرها التفسير، ولهذا لا يجب به زيادة على الخمسين والالف فجعل تفسيرا لما تقدم.

(فصل)
وإذا قال لفلان على عشرة دراهم إلا درهما لزمه تسعة لان الاستثناء لغة العرب وعادة أهل اللسان، وان قال على عشرة إلا تسعة لزمه ما بقى لان استثناء الاكبر من الجملة لغة العرب، والدليل عليه قوله عز وجل (قال فبعزتك لاغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) ثم قال عز وجل (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) فاستثنى الغاوين من العباد وإن كانوا أكثر.
وان قال له على عشرة إلا عشرة لزمه عشرة لان ما يرفع الجملة لا يعرف في لاستثناء فسقط وبقى المستثنى منه وان قال له على مائة درهم إلا ثوبا وقيمة الثوب دون المائة لزمه الباقي، لان الاستثناء من غير جنس المستثنى منه لغة العرب، والدليل عليه قول تعالى (فسجد الملائكة كلهم أجمعون الا إبليس) فاستثنى إبليس من الملائكة وليس منهم قال الشاعر: وبلدة ليس بها أنيس
* إلا اليعافير وإلا العيس فاستثنى اليعافير والعيس من الانيس، وان لم يكن منهم، وإن قال له على
ألف إلا درهما ثم فسر الالف بجنس قيمته أكثر من درهم سقط الدرهم ولزمه الباقي، وان فسره بجنس قيمته درهم أو أقل ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه يلزمه الجنس الذى فسر به الالف ويسقط الاستثناء لانه استثناء يرفع جميع ما أقر به فسقط وبقى المقر به، كما لو قال له على عشرة دراهم الا عشرة دراهم.

(والثانى)
أنه يطالب بتفسير الالف بجنس قيمته أكثر من درهم لانه فسر اقرار المبهم بتفسير باطل، فسقط التفسير لبطلانه.
وبقى الاقرار بالمبهم فلزمه تفسيره،

(20/315)


اللغة: قوله (على شئ) أنكر النكرات شئ لانه يجمع المعرفة والنكرة والمذكر والمؤنث والموجود والمفقود، فهو أحق الكلام في التفسير.
قوله (ستة دوانق) جمع دانق وهو سدس الدرهم، يقال دانق ودانق بفتح النون وكسرها، وربما قالوا داناق كما قالوا للدرهم درهام.
قوله (الدرهم البغلى) وزنه ثمانية دوانق، والدانق منه أربعة قراريط مشبه بالدرهم الذى يكون في يد البغل، والدرهم البغلى والشهليل كبيران، وقال بعض المشايخ لعله أن يكون نسب إلى بغلان بلد ببلخ كالنسب إلى البحرين، يقال فيه يحرى على الصحيح.
قوله (فإن فسره بدراهم مزيفة) أي رديئة.
قال ابن القوطية زافت الدراهم تزيف زيفا بارت.
ولعله لرداءتها ودرهم زيف وزائف والجمع زيف مثل ناقص ونقص إذا لم تجز بأن تكون رصاصا أو نحاسا مغشوشا وزيفتها أنا.
قوله (بدراهم مغشوشة) مأخوذ من الغش بالكسر وهو ضد النصيحة، وقيل مأخوذ من الغشش وهو المشرب الكدر، قاله ابن الانباري
قوله (وفسرها بسكة) السكة الحديدة المنقوشة التى يطبع عليها أي يضرب وجمعها سكك.
قوله (وان قال على كذا وكذا) هو اسم مبهم الكاف للتشبيه وذا اسم اشارة تقول فعلت كذا وقد تجرى مجرى كم فتنصب ما بعده على التمييز ويقول عندي له كذا وكذا درهما لانه كالكناية.
قوله (الاستثناء) مأخوذ من الثنى وهو الكف والرد، يقال حلف يمينا لا ثنى فيها ولا مثنوية.
وقيل أنه مأخوذ من أثناء الحبل وهى أعطافه كأنه رجوع عن الشئ وانعطاف إلى غيره.
قوله (وعادة أهل اللسان) أي أهل الفصاحة، واللسن بالتحريك الفصاحة وقد لسن بالكسر فهو لسن وألسن، وقوله في بيت الشعر:
وبلدة ليس بها أنيس * الا اليعافير والا العيس
أي رب بلدة الواو بمعنى رب واليعافير جمع يعفور وهو ولد الظبية وولد البقرة الوحشية، وقال بعضهم اليعافير تيوس الظباء والعيس إلابل البيض واحدها

(20/316)


أعيس والانثى عيساء بينة العيس، وهو استثناء منقطع، معناه الذى يقوم مقام الانيس اليعافير والعيس قوله (إذا قال لفلان على شئ طولب بالتفسير) قالت الحنابلة (إذا قال له على شئ وشئ أو كذا وكذا صح اقراره وقيل له فسر ويلزمه تفسيره، قال في الشرح بغير خلاف، فإن أبى حبس حتى يفسر لانه أمتنع من حق عليه فجس به كما لو عينه وامتنع من أدائه.
وقال القاضى: إذا امتنع من البهان قيل للمقر له فسره أنت، ثم يسأل المقر فإن صدقه ثبت عليه وان أبى جعل ناكلا وقضى عليه، قاله في الكافي، ويقبل تفسيره بأقل متمول لانه شئ، فإن مات قيل التفسير لم يؤاخذ وارثه بشئ ولو خلف تركة.
ولو قال له على مال عظيم أو خطير أو كثير أو جليل أو نفيس فسر بأقل متمول لانه ما من مالا الا وهو عظيم كثير بالنسبة إلى ما دونه، ويحتمل أنه أراد عظمة عنده لقلة ماله وفقر نفسه، ولانه لا حد له شرعا ولا لغة ولا عرفا، ويختلف الناس فيه فقد يكون عظيما عند بعض حقيرا عند غيره.
وله دراهم كثيرة قبل تفسير بثلاثة دراهم فأكثر أو له على كذا وكذا درهم بالرفع أو بالنصب لزمه درهم.
وان قال بالجر لزمه بعض درهم، ولو قال له على ألف ودرهم أو ألف ودينار أو ألف وثوب أو ألف إلا دينار كان المبهم في هذه الامثلة ونحوها من جنس المعين.
وإذا قال له ما بين درهم وعشرة لزمه ثمانية، ومن درهم إلى عشرة لزمه تسعة أو ما بين درهم إلى عشرة لزمه تسعة، وإذا قال وله درهم قبله درهم وبعده درهم أو درهم ودرهم ودرهم لزمه ثلاثة، وكذا درهم درهم درهم فإذا أراد التأكيد فعلى ما أراد أو وله درهم بل دينار لزماه أو وله درهم في دينار لزمه درهم فإن قال أردت العطف أو معنى مع لزماه، وإذا قال له درهم في عشرة لزمه درهم ما لم يخالفه عرف فيلزمه مقتضاه، أو يريد الحساب ولو جاهلا فيلزمه عشرة أو يريد الجمع فيلزمه أحد عشر، أو وله تمر في جراب أو سكين

(20/317)


في قراب أو ثوب في منديل ليس بإقرار بالثاني، أوله خاتم في فص أو سيف بقراب اقرار بهما، لان الفص جزء من الخاتم، أشبه ما لو قال ثوب في علم، واقراره بشجرة ليس اقرارا بأرضها فلا يملك غرس مكانها لو ذهبت، لانه غير مالك للارض.
قال في الفروع: ورواية مهنا هي له بأصلها، فإن ماتت أو سقطت لم يكن
له موضعها ولا أجرة على ريها ما بقيت وليس لرب الارض قلعها وثمرتها للمقر له والبيع مثله، وإذا قال له على درهم أو دينار يلزمه أحدهما وبعينه.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان قال هؤلاء العبيد لفلان الا واحدا طولب بالتعيين لانه ثبت بقوله فرجع في بيانه إليه، فإن ماتوا الا واحدا منهم فقال الذى بقى هو المستثنى ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يقبل لانه يرفع به الاقرار فلم يقبل، كما لو استثنى الجميع بقوله
(والثانى)
وهو المذهب أنه يقبل لانه يحتمل أن يكون هو المستثنى فقبل قوله فيه، ويخالف إذا استثنى الجميع بقوله لانه رفع المقر به بقوله وههنا لم يرفع بالاستثناء الا واحدا وانما سقط في الباقي بالموت فصار كما لو أعتق واحدا منهم ثم ماتوا الا واحدا، وان قتل الجميع الا واحدا فقال الذى بقى هو المستثنى قبل وجها واحدا، لانه لا يسقط حكم الاقرار، لان المقر له يستحق قيمة المقتولين.
وان قال غصبت من فلان هؤلاء العبيد الا واحدا منهم ثم ماتوا الا واحدا منهم، وقال المستثنى هو الذى بقى قبل وجها واحدا لانه لا يسقط حكم الاقرار، لان المقر له بهم يستحق قيمتهم بالموت.

(فصل)
وان قال هذه الدار لفلان الا هذا البيت لم يدخل البيت في الاقرار لانه استثناء، وان قال هذه الدار لفلان وهذا البيت لى قبل لانه أخرج بعض ما دخل في الاقرار بلفظ متصل وصار كما لو استثناه بلفظ الاستثناء.

(فصل)
وان قال له هذه الدار هبة سكنى أو هبة عارية لم يكن اقرارا بالدار لانه رفع بآخر كلامه بعض ما دخل في أوله وبقى البعض فصار كما لو أقر

(20/318)


بجملة واستثنى بعضها، وله أن يمنعه من سكناها لانها هبة منافع لم يتصل بها القبض فجاز له الرجوع فيها.
(الشرح) قوله (وإن قال هؤلاء العبيد لفلان،) قالت الشافعية في كتاب الانوار لاعمال الانوار (إن قال لفلان على ألف إلا ثوبا أو عبدا صح إذا بين الثوب أو العبد بما لا يستغرق قيمته ألفا، فإن استغرقت بطل الاستثناء ولزم الالف) قالت الحنابلة في كتاب الفروع (فإن قال له هؤلاء العبيد العشرة إلا واحدا لزمه تسعة، فإن ماتوا إلا واحدا فقال هو المستثنى قبل في الاصح كقتلهم الا واحدا، وان قال له الدار الا هذا البيت أو الدار له والبيت لى صح ولو كان أكثرها، وإن قال إلا ثلثيها ونحوه، أو الدار له ولى نصفها فاستثناء للاكثر والنصف.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن أقر لرجل بمال في ظرف بأن قال له عندي زيت في جرة أو تين غرارة أو سيف في غمد أو فص في خاتم لزمه المال دون الظرف لان الاقرار لم يتناول الظرف، ويجوز أن يكون المال في ظرف المقر، وان قال له عندي جرة فيها زيت أو غرارة فيها تبن أو غمد فيه سيف أو خاتم عليه فص لزمه الظرف دون ما فيه لانه لم يقر إلا بالظرف، ويجوز أن يكون ما فيه للمقر وإن قال له عندي خاتم لزمه الخاتم والفص، لان اسم الخاتم يجمعهما، وإن قال له عندي ثوب مطرز لزمه الثوب بطرازه ومن أصحابنا من قال: إن كان الطراز مركبا على الثوب بعد النسج ففيه وجهان:
(أحدهما)
ما ذكرناه
(والثانى)
أنه لا يدخل فيه لانه متميز عنه، وان قال له في يدى دار مفروضة لزمه الدار دون الفرش، لانه يجوز أن تكون مفروشة بفرش لمقر.
وان قال له عندي فرس عليه سرج لزمه الفرس دون السرج، وان قال له

(20/319)


عندي عبد وعليه ثوب لزمه تسليم العبد والثوب، والفرق بينهما أن العبد له يد على الثوب وما في يد العبد لمولاه، والفرس لا يد له على السرج.

(فصل)
وان قال لفلان على ألف درهم ثم أحضر ألفا وقال هي التى أقررت بها وهى وديعة، فقال المقر له هذه وديعة لى عنده والالف التى أقر بها دين لى عليه غير الوديعة ففيه قولان.

(أحدهما)
أنه لا يقبل قوله لان قوله على اخبار عن حق واجب عليه فإذا فسر بالوديعة فقد فسر بما لا يجب عليه فلم يقبل
(والثانى)
أنه يقبل لان الوديعة عليه ردها وقد يجب عليه ضمانها إذا تلفت وان قال له على ألف في ذمتي، ثم فسر ذلك بالالف التى هي وديعة عنده وقال المقر له بل هي دين لى في ذمته غير الوديعة، فإن قلنا في التى قبلها أنه لا يقبل قوله فيها فههنا أولى أن لا يقبل، وان قلنا يقبل هناك قوله ففى هذه وجهان:
(أحدهما)
أنه لا يقبل وهو الصحيح، لان الالف التى أقر بها في الذمة والعين لا تثبت في الذمة.

(والثانى)
أنه يقبل لانه يحتمل أنها في ذمتي لانى تعديت فيها فيجب ضمانها في ذمتي، وان قال له على ألف ثم قال هي وديعة كانت عندي وظننت أنها باقية وقد هلكت لم يقبل قوله لان الاقرار يقتضى وجوب ردها أو ضمانها والهالكة لا يجب ردها ولا ضمانها فلم يصح تفسير الاقرار بها.

(فصل)
وان قال له على ألف درهم وديعة دينا لزمه الالف، لان الوديعة قد يتعدى فيها فتصير دينا، وان قال له على ألف درهم عارية لزمه ضمانها لان اعارة الدراهم تصح في أحد الوجهين فيجب ضمانها، وفى الوجه الثاني لا تصح اعارتها فيجب ضمانها لان ما وجب ضمانه في العقد الصحيح وجب
ضمانه في العقد الفاسد.
اللغة: قوله (فص في خاتم) فتح الفاء والعامة تكسره والجمع فصوص، وفى الخاتم ثلاث لغات: خاتم بالفتح، وخاتم بالكسر، وخاتام، ومنهم من زاد لغة رابعة فقال خيتام.

(20/320)


قوله (ثوب مطرز) أي معلم والطراز على الثوب فارسي معرب وقد طرزت الثوب فهو مطرز والطراز الهيئة قال حسان.
بيض الوجوه كريمة أحسابهم * شم الانوف من الطراز الأول
أي من النمط الاول.
قوله (وان أقر لرجل بمال في ظرف..) قالت الشافعية في الانوار لاعمال الابرار (ولو قال لفلان من هذه النخلة إلى هذه النخلة دخلت الاولى في الاقرار ولو قال عندي سيف في غمد أو ثوب في صندوق لم يكن إقرار بالظرف، ولو على رأسه عمامة لم يكن إقرار بالعمامة، ولو قال دابة بسرجها أو ثوب مطرز أو سفينة بحملها أو عبد بثيابه فهو إقرار بهما، ولو قال هذه الجارية أو الدابة لفلان لم يدخل الحمل.
ولو قال هذه الشجرة لفلان لم تدخل الثمرة مؤبرة أو غيرها، قال القفال وغيره والضابط أن ما يدخل تحت مطلق البيع يدخل تحت الاقرار ومالا فلا إلا الثمرة المؤبرة والحمل والجدار.
قال الحنفيون: الاقرار بالظرف أو المظروف إقرار بهما إذا كان ذلك مما يجوز في الظرف غالبا، كالتمر في الجراب والزيت في الجرة بخلاف الفرس في الاصطبل وقالوا: ولو أقر إنسان لانسان بدار واستثنى بناءها لنفسه فالاستثناء باطل، لان اسم الدار لا يتناول البناء لغة بل وضع دلالة على العرصة في اللغة، وانما البناء فيها بمنزلة الصفة فلم يكن المستثنى من جنس المستثنى منه
فلم يصح الاستثناء وتكون الدار مع البناء للمقر له، لانه ان لم يكن له اسما عاما لكنه يتناول هذه الاجزاء بطريق التضمن، كمن أقر لغيره بخاتم كان له الحلقة والفص، لا لانه اسم عام، بل هو اسم لمسمى واحد وهو المركب من الحلقة والفص ولكنه يتناوله بطريق التضمن، وكذا من أقر بسيف لغيره كان له النصل والجفن والحمائل.
قالت الحنابلة: وان قال له عندي تمر في جراب أو سيف في قراب أو ثوب في منديل أو جراب فيه تمر أو قرار فيه سيف أو منديل فيه ثوب أو فص فيه

(20/321)


خاتم أو دابة مسروجة أو عليها سرج، أو عبد عليه عمامة أو بالعكس، فقيل مقر بالثاني كالاول.
وكسيف بقراب وثوب مطرز ونحوه، وقيل لا.
وقال ابن حامد والقاضى وأصحابه: الاشهر أنه يكون مقرا بالمظروف دون ظرفه وقال ابن عبدوس: إذا قال ذلك يكون مقر بالاول والثانى الا إذا حلف ما قصدته، وان قال خاتم فيه فص فقيل الوجهان والاشهر لزومهما لانه جزؤه فلو أطلق لزماه وقال الشيخ الموفق يحتمل أن يخرج على الوجهين، وحكم في الكافي والرعاية في المسألة وجهين: قوله (وان قال لفلان على ألف درهم..) قالت الشافعية: ولو قال لفلان على ألف أو لفلان في ذمتي ألف فهو اقرار بالدين، ولو قال عندي أو معى فهو اقرار بالعين.
فلو قال أنه وديعة قبل في الصورتين، وصل ذكر الوديعة أو فصل، ولو ادعى الرد أو التلف قبل في العين مطلقا وفى الدين ان وصل وان فصل، فإن ادعى أنه رد أو تلف قبل الاقرار لم يقبل ولزمه الضمان وبعد الاقرار قبل بيمينه، ولو أتى به وقال المقر له هو وديعة لى وعليك ألف آخر صدق المقر بيمينه، وناقض في الروضة وقال في أول ركن الصيغة.
ومعنى قوله اقرار بالعين أنه محمول على الوديعة ويقبل دعوى الرد والتلف ومعنى قوله اقرار بالدين أنه لا تقبل دعوى الوديعة والرد والتلف.
وذكر هنا أنه يقبل بالوديعه وفى الرد والتلف تفصيل سمعت.
ولو قال له على ألف في ذمتي أو ألف دينا ثم جاء بألف وفسر بالوديعة لم يقبل والقول للمقر له بيمينه ولزمه ألف آخر، ولو قال دفع فلان إلى ألفا أو أخذت منه ألفا وفسره بالوديعة أو المضاربة وادعى التلف أو الرد قبل بيمينه قالت الحنابلة: وان قال له عندي رهن قبل قول المالك أنه وديعة نقل أحمد بن سعيد: إذا قال لى عندك وديعة قال هي رهن على كذا فعليه البينة أنها رهن.
وذكر الازجى تخريحا: من كان له على وقضبته، وان قال له عندي ألفا قبل تفسيره بدين أو وديعة، وان قال على أو في ذمتي الف لم يقبل تفسيره

(20/322)


بوديعة، وقيل بلى كمتصل، فإن زاد المتصل وقد تلفت لم يقبل، ذكره القاضى وغيره بخلاف المنفصل لان إقراره تضمن الامانة ولا مانع، وان أحضره وقال هو هذا وهو وديعة، ففى قبول قول المقر له أن المقر به غيره وجهان، أحدهما لا يقبل وهو قول الازجى واختاره القاضى والثانى يقبل وهو الصحيح، ومقتضى كلام الخرقى ولو قال له عندي مائة وديعة بشرط الضمان لغا وصفه لها بالضمان وبقيت على الاصل.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وإن قال له في هذا العبد ألف درهم أو له من هذا العبد ألف درهم ثم قال أردت أنه وزن في ثمنه ألف درهم وزنت أنا ألف درهم في صفقة واحدة كان ذلك إقرارا بنصفه، وإن قال اشترى ثلثه أو ربعه بألف في عقد واشتريت أنا الباقي بألف في عقد آخر قبل قوله لان اقراره متهم، وما فسر به محتمل والعبد في يده فقبل قوله فيه.
وإن قال جنى عليه العبد جناية أرشها ألف درهم قبل قوله وله أن يبيع العبد ويدفع إليه الارش وله أن يفديه وان قال وصى له من ثمنه بألف درهم بيع ودفع إليه من ثمنه ألف درهم، فإن أراد أن يدفع إليه ألفا من ماله لم يجز لان بالوصية يتعين حقه في ثمنه، وان قال العبد مرهون عنده بألف ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يقبل لان حق المرتهن في الذمة لا في العين
(والثانى)
وهو الصحيح أنه يقبل لان المرتهن متعلق حقه بالذمة والعين
(فصل)
وان قال له في ميراث أبى ألف درهم لزمه تسليم ألف إليه.
وان قال له في ميراثي من أبى ألف درهم ثم قال أردت هبة قبل منه لانه أضاف الميراث إلى نفسه فلا ينتقل ماله إلى غيره الا من جهته، وان قال في هذا المال ألف درهم لزمه، وان قال له في مالى هذا ألف درهم لم يلزمه لان ماله لا يصير لغيره بإقراره.

(فصل)
وإذا قال لفلان على ألف درهم من ثمن مبيع لم أقبضه لم يلزمه تسليم الالف لان الاصل أنه لم يقبض المبيع فلا يلزمه تسليم ما في مقابلته،

(20/323)


وإن قال له على ألف درهم ثم قال بعد ذلك من ثمن مبيع لم أقبضه لم يقبل لانه لزمه الالف بإقراره فلم يقبل قوله في إسقاطه.

(فصل)
وإن أقر بحق ووصله بما يسقطه بأن أقر بأنه تكفل بنفس أو مال على أنه بالخيار أو أقر أن عليه لفلان ألف درهم من ثمن خمر أو خنزير أو لفلان عليه ألف درهم قضاها ففيه قولان:
(أحدهما)
أنه يلزمه ما أقر به ولا يقبل ما وصله به لانه يسقط ما أقر به
فلم يقبل، كما لو قال له على عشرة إلا عشرة.

(والثانى)
أنه لا يلزمه الحق لانه يحتمل ما قاله فصار كما لو قال له على ألف إلا خمسمائة، وإن قال له على ألف درهم مؤجلة ففيه طريقان، من أصحابنا من قال هي على القولين لان التأجيل كالقضاء، ومنهم من قال يقبل قولا واحدا، لان التأجيل لا يسقط الحق وإنما يؤخره، فهو كاستثناء بعض الجملة بخلاف القضاء فإنه يسقطه.

(فصل)
وان قال هذه الدار لزيد بل لعمرو أو قال غصبتها من زيد لا بل من عمر وحكم بها لزيد لانه أقر له بها، ولا يقبل قوله لعمرو لانه رجوع عن الاقرار لزيد، وهل يلزمه أن يغرم قيمتها لعمرو فيه قولان:
(أحدهما)
أنه لا يلزمه لان العين قائمة فلا يستحق قيمتها
(والثانى)
أنه يلزمه وهو الصحيح، لانه حال بينه وبين ماله فلزمه ضمانه، كما لو أخذ ماله ورمى به في البحر، فإن قال غصبت هذا من أحد هذين الرجلين طولب بالتعيين، فإن عين أحدهما فإن قلنا إنه إذا أقر به لاحدهما بعد الآخر غرم للثاني حلف لانه إذا نكل غرم له، وان قلنا انه لا يغرم الثاني لم يحلف لانه لا فائدة في تحليفه، لانه إذا نكل لم نقض عليه بشئ، وإن كان في يده دار فقال غصبتها من زيد وملكها لعمر وحكم بها لزيد لانها في يده فقبل إقراره بها، ولا يقبل قوله ان ملكها لعمر ولانه اقرار في حق غيره ولا يغرم لعمرو شيئا لانه لم يكن منه تفريط لانه يجوز أن يكون ملكها لعمرو وهى في يد زيد بإجارة أو رهن أو غصبها منه فأقر بها على ما هي عليه.
فأما إذا قال هذه الدار ملكها لعمرو وغصبها من زيد ففيه وجهان:

(20/324)


(أحدهما)
أنها كالمسألة قبلها، إذ لا فرق بين أن يقدم ذكر الملك وبين
أن يقدم ذكر الغصب.

(والثانى)
أنها تسلم إلى زيد وهل يغرم لعمرو؟ على قولين، كما لو قال هذه الدار لزيد لا بل لعمرو اللغة: قوله (مبهم) معنى المبهم في الاقرار وغيره الذى خفى معناه ولم يعلم واستبهم الشئ خفى، ومنه سميت البهيمة لاستعجامها، والليل البهيم الذى يخفى ما فيه، وأسود بهيم لا بياض فيه.
قوله (وان قال له في هذا العبد ألف درهم..) قالت الحنابلة (من باع أو وهب أو عتق عبدا ثم أقر به لغيره لم يقبل اقراره لانه اقرار على غيره، وكذا لو ادعى بعد البيع ونحوه أن المبيع رهن أو أم ولد ونحوه بما يمنع صحة التصرف ويغرمه للمقر له لانه فوته عليه بتصرفه فيه.
وان قال غصبت هذا العبد من زيد لا بل من عمرو فهو لزيد لاقراره له به ولا يقبل رجوعه عنه لانه حق آدمى ويغرم قيمته لعمرو أو ملكه لعمرو وغصبته من زيد فهو لزيد لاقراره باليد له، ويغرم قيمته لعمرو لاقراره له بالملك ولوجود الحيلولة بالاقرار باليد لزيد وغصبته من زيد وملكه لعمرو فهو لزيد لاقراره باليد ولا يغرم لعمرو شيئا لانه انما شهد له به أشبه ما لو شهد له بمال بيد غيره.
قوله (وإذا قال لفلان على ألف درهم من ثمن مبيع.)
قال الحنفيون (إذا أقر بألف ثمن عبد اشتراه ولم يقبضه فهذا لا يخلو من أحد وجهين، إما أن ذكر عبدا معينا مشارا إليه بأن قال ثمن هذا العبد، وإما ان ذكر عبدا من غير تعيين بأن قال لفلان على ألف درهم ثمن عبد اشتريته منه ولم أقبضه، فإن ذكر عبدا بعينه فإن صدقه في البيع يقال للمقر له ان شئت أن تأخذ الالف تسلم العبد والا فلا شئ لك لان المقر به ثمن المبيع وقد ثبت البيع
بتصادقهما، والبيع يقتضى تسليما.
م 37 مجموع 18

(20/325)


وإن كذبه في البيع وقال ما بعث منك شيئا والعبد عبدى ولى عليك ألف درهم بسبب آخر فالعبد للمقر له، لانه يدعى عليه البيع وهو ينكر، ولا شئ له على المقر من الثمن لان المقر به ثمن المبيع لا غيره ولم يثبت البيع.
قال الامام في النهاية والغزالي في الوسيط والقشير في الموضح: ولو باع عينا وكتب الصك وأشهد الشهود على قبض الثمن ثم قال ما كنت قبضت ولكن جريت على العادة وأقررت وأشهدت لم تقبل هذه الدعوى وقوله (وإن أقر بحق ووصله بما يسقطه..) قال يوسف الاردبيلى في الانوار لاعمال الابرار فقه شافعي: فلو قال لزيد على ألف من ثمن خمر أو خنزير أو كلب أو بيع فاسد أو ضمان بشرط الخيار أو براءة الاصيل لم يقبل النافي وصل أو فصل ويبعض إقراره فيعتبر أوله ويلغى آخره.
نعم لو صدقه المقر له على ذلك فلا شئ على المقر، وإن كذبه وحلف لزمه المقر به إلا أن يقيم بينة على الباقي فلا يلزم، ولو قدم ذكر النافي فقال لفلان من ثمر الخمر أو بيع فاسد على ألف لم يلزمه شئ.
ولو قال لفلان على ألف قضبته أو أقبضته أو أبراني منه لم يقبل للتحليف إلا بتأويل كإرادة كان ولزمه إلا أن يقيم بينة على القضاء والاقباض والاداء والابراء.
ولو قال كان لفلان على ألف قضبته قبل مطلقا للتحليف والبينة.
ولو قال له ألف من ثمن عبد لم أقبضه قبل وثبت الالف ثمنا فلا يطالب قبل قبض العبد، ولو قال من ثمن عبد ثم قال مفصولا لم أقبضه قبل أيضا باليمين ولا يلزمه
الالف الا أن يقيم المقر به البينة على القبض فيلزم.
ولو قال ألف مؤجل إلى وقت كذا، فإن ذكر الاجل مفصولا لم يقبل وموصولا قبل الا إذا أسند إلى جهة لا تقبل التأجيل كالقرض.
قال الحنفيون: فإن ذكر عبدا بغير عينه فعليه الالف عند أبى حنيفة ولا يصدق في عدم القبض، سواء وصل أم فصل صدقه المقر له في البيع أو كذبه وكان أبو يوسف أولا يقول ان وصل صدق وان فصل لا يصدق ثم رجع وقال يسئل المقر له عن الجهة، فإن صدقه فيها لكن كذبه في القبض كان القول قول

(20/326)


المقر سواء وصل أم فصل، وان كذبه في البيع وادعى عليه ألفا أخرى أن وصل يصدق وان فصل لا يصدق، وهو قول محمد قالت الحنابلة (وإذا قال على من ثمن خمر ألف لم يلزمه لانه أقر بثمن خمر وقدره بالالف، وثمن الخمر لا يجب.
وان قال له على ألف من ثم خمر لزمه، وكذا ان قال له على ألف من ثمن مبيع لم أقبضه أو ألف لا تلزمني أو مضاربة أو وديعة تلفت وشرط على ضمانها ونحو ذلك، لان ما ذكر بعد قوله على ألف رفع لجميع ما أقر به فلا يقبل كاستثناء للكل.
وقالوا إذا فسره بكلب مباح نفعه فهل يقبل أم لا؟ أطلق الخلاف فيه
(أحدهما)
لا يقبل صححه في التصحيح، وبه قطع القاضى وصاحب الوجيز والآدمي في منتخبه (والوجه الثاني) يقبل تفسيره، بذلك جزم ابن عبدوس وغيره.
(قلت) يحتمل أن يرجع في ذلك إلى القرائن والعوائد فإن دلت على شئ مثل أن يكون عادة بصيد ونحوه قبل وإلا فلا.
والقول للمردوامى قوله (وان قال هذه الدار لزيد بل لعمرو ... ) قالت الحنفية: والرجوع عن الاقرار في حقوق العباد غير صحيح (قلت) ومما
سبق شرحه في هذا الباب من أقوال المذاهب الاخرى كاف
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وأن أقر رجل على نفسه بنسب مجهول النسب يمكن أن يكون منه، فإن كان المقر به صغيرا أو مجنونا ثبت نسبه لانه أقر له بحق فثبت، كما لو أقر له بمال، فإن بلغ الصبى أو أفاق المجنون وأنكر النسب لم يسقط النسب لانه نسب حكم بثبوته فلم يسقط برده: وإن كان المقر به بالغا عاقلا لم يثبت الا بتصديقه، لان له قولا صحيحا فاعتبر تصديقه في الاقرار، كما لو أقر له بمال، وان كان المقر به ميتا فإن كان صغيرا أو مجنونا ثبت نسبه لانه يقبل اقراره به إذا كان حيا فقبل إذا كان ميتا، وان كان عاقلا بالغا ففيه وجهان
(أحدهما)
أنه لا يثبت لان نسب البالغ لا يثبت الا بتصديقه، وذلك

(20/327)


معدوم بعد الموت
(والثانى)
أنه يثبت وهو الصحيح، لانه ليس له قول فثبت نسبه باقرارا كالصبى والمجنون وإن أقر بنسب بالغ عاقل ثم رجع عن الاقرار وصدقه المقر له في الرجوع ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يسقط النسب، وهو قول أبى على الطبري رحمه الله، كما لو أقر له بمال ثم رجع في الاقرار وصدقه المقر له في الرجوع.

(والثانى)
وهو قول الشيخ أبى حامد الاسفراينى رحمه الله أنه لا يسقط، لان النسب إذا ثبت لا يسقط بالاتفاق على نفيه كالنسب الثابت بالفراش.

(فصل)
وإن مات رجل وخلف إبنا فأقر على أبيه بنسب فإن كان لا يرثه بأن كان عبدا أو قاتلا أو كافرا والاب مسلم لم يقبل إقراره لانه لا يقبل إقراره عليه بالمال فلا يقبل إقراره عليه في النسب كالأجنبي، وإن كان يرثه فأقر عليه بنسب لو أقر به الاب لحقه، فإن كان قد نفاه الاب لم يثبت لانه يحمل عليه نسبا حكم ببطلانه، وان لم ينفه الاب ثبت النسب بإقراره، لِمَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: اختصم سعد بن أبى وقاص وعبد بن زمعة إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ابن أمة زمعة، فقال سعد بن أبى وقاص أوصاني أخى عتبة إذا قدمت مكة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة وأقبضه فإنه ابنه، وقال عبد بن زمعة أخى وابن وليدة أبى ولد على فراشه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر.
وإن مات وله إبنان فأقر أحدهما بنسب ابن وأنكر الآخر لم يثبت، لان النسب لا يتبعض، فإذا لم يثبت في حق أحدهما لم يثبت في حق الآخر ولا يشاركهما في الميراث لان الميراث فرع على النسب والنسب لم يثبت فلم يثبت الارث وإن أقر أحد الابنين بزوجة لابيه وأنكر الجخر ففيه وجهان.

(أحدهما)
أنه لا نشارك بحصتها من حق المقر، كما لا يشارك الابن إذا اختلف الوارثان في نسبه.

(والثانى)
أنها تشارك بحصتها من حق المقر لان المقر به حقها من الارث لان الزوجية زالت بالموت.
وان مات وخلف بنتا فأقرت بنسب أخ لم يثبت النسب لانها لا ترث جميع المال، فإن أقر معها الامام ففيه وجهان

(20/328)


(أحدهما)
أنه يثبت لان الامام نافذ الاقرار في مال بيت المال
(والثانى)
أنه لا يثبت لانه لا يملك المال بالارث وإنما يملكه المسلمون وهم لا يتعينون فلم يثبت النسب.
وإن مات رجل وخلف ابنين عاقلا ومجنونا فأقر العاقل بنسب ابن آخر لم يثبت النسب لانه لم يوجد الاقرار من جميع الورثة، فإن مات المجنون قبل الافاقة، فإن كان له وارث غير الاخ المقر قام وارثه مقامه في الاقرار، وإن لم
يكن له وارث غيره ثبت النسب لانه صار جميع الورثة، فإن خلف الميت إبنين فأقر أحدهما بنسب صغير وأنكر الآخر ثم مات المنكر فهل يثبت النسب؟ فيه وجهان
(أحدهما)
أنه يثبت نسبه لان المقر صار جميع الورثة
(والثانى)
أنه لا يثبت نسبه، لان تكذيب شريكه يبطل الحكم بنسبه فلم يثبت النسب، كما لو أنكر الاب نسبه في حياته ثم أقر به الوارث.
وإن مات رجل وخلف إبنا وارثا فأقر بإبن آخر بالغ عاقل وصدقه المقر له ثم أقرا معا بابن ثالث ثبت نسب الثالث، فإن قال الثالث ان الثاني ليس بأخ لنا ففيه وجهان:
(أحدهما)
أنه لا يسقط نسب الثاني لان الثالث ثبت نسبه بإقرار الاول والثانى فلا يجوز أن يسقط نسب الاصل بالفرع
(والثانى)
أنه يسقط نسبه وهو الاظهر لانه الثالث صار إبنا فاعتبر إقراره في ثبوت نسب الثاني.
وإن أقر الابن الوارث بأخوين في وقت واحد، فصدق كل واحد منهما صاحبه ثبت نسبهما وميراثهما، وان كذب كل واحد منهما صاحبه لم يثبت نسب واحد منهما، وان صدق أحدهما صاحبه وكذبه الآخر ثبت نسب المصدق دون المكذب وإن أقر الابن الوارث بنسب أحد التوأمين ثبت نسبهما، وان أقر بهما وكذب أحدهما الآخر لم يؤثر التكذيب في نسبهما لانهما لا يفترقان في النسب.

(فصل)
وان كان بين المقر وبين المقر به واحد وهو حى لم يثبت النسب

(20/329)


الا بتصديقه، وان كان بينهما اثنان أو أكثر لم يثبت النسب الا بتصديق من بينهما، لان النسب يتصل بالمقر من جهتهم فلا يثبت الا بتصديقهم

(فصل)
وان كان المقر به لا يحجب المقر عن الميراث ورث معه ما يرثه، كما إذا أقر به الموروث وان كان يحجب المقر مثل أن يموت الرجل ويخلف أخا فيقر الاخ بابن الميت، أو يخلف الميت أخا من أب فيقر بأخ من الاب والام ثبت له النسب ولم يرث، لانا لو أثبتنا له الارث أدى ذلك إلى اسقاط ارثه، لان توريثه يخرج المقر عن أن يكون وارثا، وإذا خرج عن أن يكون وارثا بطل اقراره وسقط نسبه وميراثه فأثبتنا النسب وأسقطنا الارث.
وقال أبو العباس: يرث المقر به ويحجب المقر، لانه لو كان حجبه يسقط اقراره لانه اقرار من غير وارث لوجب أن لا يقبل اقرار ابن بابن آخر لانه اقرار من بعض الورثة والنسب لا يثبت بإقرار بعض الورثة، وهذا خطأ لانه انما يقبل إذا صدقه المقر به فيصير الاقرار من جميع الورثة.

(فصل)
وان وصى المريض بأبيه فقتله ومات عتق ولم يرث، لان توريثه يؤدى إلى اسقاط ميراثه وعتقه، لان عتقه في المرض وصية وتوريثه يمنع من الوصية، والمنع من الوصية يوجب بطلان عتقه وارثه، فثبت العتق وسقط الارث، وان أعتق موسر جارية في مرضه وتزوجها ومات من مرضه لم ترثه لان توريثها يبطل عتقها وميراثها، لان العتق في المرض وصية والوصية للوارث لا تصح، وإذا بطل العتق بطل النكاح، وإذا بطل النكاح سقط الارث فثبت العتق وسقط الارث.
وان أعتق عبدين وصارا عدلين وادعى رجل على المعتق أن العبدين له وشهد العبدان بذلك تقبل شهادتهما، لان قبول شهادتهما يؤدى إلى ابطال الشهادة لانه يبطل بها العتق فإذا بطل للعتق بطلت الشهادة.

(فصل)
وان مات رجل وخلف أخاه فقدم رجل مجهول النسب وقال أنا ابن الميت فالقول قول الاخ مع يمينه.
لان الاصل عدم النسب، فإن نكل
وحلف المدعى، فإن قلنا ان يمين المدعى مع نكول المدعى عليه كالاقرار لم يرث كما لا يرث إذا أقر به، وان قلنا انه كالبينة ورث كما يرث إذا أقام البينة

(20/330)


(فصل)
وإذا مات رجل ولا يعلم له وارث فجاء رجل وادعى أنه وارثه لم تسمع الدعوى حتى يبين سبب الارث لجواز أن يعتقد أنه وارث بسبب لا يورث به، ولا يقبل قوله حتى يشهد له شاهدان من أهل الخبرة بحاله، ويشهدان أنه وارثه ولا نعلم له وارثا سواء، ويبينان سبب الارث كما يبين المدعى، فإذا شهدا على ما ذكرناه حكم به لان الظاهر مع هذه الشهادة أنه لا وارث له غيره وإن لم يكونا من اهل الخبرة أو كانا من أهل الخبرة ولكنهما لم يقولا ولا نعلم له وارثا سواء نظرت فإن كان المشهود له ممن له فرض لا ينقص أعطى اليقين، فيعطى الزوج ربعا عائلا والزوجة ثمنا عائلا ويعطى الابوان كل واحد منهما سدسا عائلا وإن كان ممن ليس له فرض، وهو من عدا الزوجين والابوين، بعث الحاكم إلى البلاد التى دخلها الميت فإن لم يجدوا وارثا توقف حتى تمضى مدة لو كان له وارث ظهر، وإن لم يظهر غيره فإن كان الوارث ممن لا يحجب بحال كالاب والابن دفعت التركة كلها إليه لان البحث مع هذه الشهادة بمنزلة شهادة أهل الخبرة، ويستحب أن يؤخذ منه كفيل بما يدفع إليه، وإن كان المشهود له ممن يحجب كالجد والاخ والعم فَفِيهِ وَجْهَانِ:
(أَحَدُهُمَا)
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ أنه لا يدفع إليه إلا نصيبه لانه يجوز أن يكون له وارث يحجبه فلم يدفع إليه أكثر منه.

(والثانى)
وهو المذهب أنه يدفع إليه الجميع لان البحث مع هذه البينة بمنزلة شهادة أهل الخبرة، وهل يستحب أخذ الكفيل أو يجب؟ فيهو جهان،
(أحدهما)
أنه يستحب
(والثانى)
أنه واجب.

(فصل)
وان كان لرجل أمتان ولكل واحدة منهما ولد ولا زوج لواحدة منهما ولا أقر المولى بوطئ واحدة منهما، فقال أحد هذين الولدين ابني من أمتى طولب بالبيان، فإن عين أحدهما لحقه نسبه وحكم بحريته ثم يسأل عن الاستيلاد فإن قال استولدتها في ملكى فالولد حر لا ولاء عليه لانه لم يمسه رق وأمه أم ولد، وان قال استولدتها في نكاح عتق الولد بالملك وعليه الولاء لانه مسه الرق وأمه مملوكة لانها علقت منه بمملوك وترق الامة الاخرى وولدها، وان ادعت

(20/331)


أنها هي التى استولدها فالقول قول المولى مع يمينه لانه الاصل عدم الاستيلاد وإن مات قبل البيان وله وارث يجوز ميراثه قام مقامه في البيان، لانه يقوم مقامه في الحاق النسب وغيره، فإن لم يعلم الوارث جهة الاستيلاد ففيه وجهان:
(أحدهما)
أن الامة لا تصير أم ولد لان الاصل الرق فلا يزال بالاحتمال
(والثانى)
وهو المنصوص أنها تكون أم ولد، لان الظاهر من ولده منها أنه استولدها في ملكه.
وان لم يكن وارث أو كان له وارث ولكنه لم يعيق الولد عرض الولدان على القافة، فإن الحقت به أحد الولدين ثبت نسبه ويكون الحكم فيه كالحكم فيه إذا عينه الوارث، وان لم تكن قامة أو كانت ولم تعرف أو الحقت الولدين به سقط حكم النسب لتعذر معرفته، وأقرع بينهما لتمييز العتق، لان القرعة لها مدخل في تمييز العتق، فإن خرجت القرعة على أحدهما عتق ولا يحكم لواحد منهما بالارث لانه لم يتعين، وهل يوقف ميراث ابن؟ فيه وجهان:
(أحدهما)
أنه يوقف، وهو قول المزني رحمه الله، لانا نتيقن أن أحدهما ابن وارث.

(والثانى)
أنه لا يوقف، لان الشئ انما يوقف إذا رجى انكشافه،
وههنا لا يرجى انكشافه.

(فصل)
وان كان له أمة ولها ثلاثة أولاد ولا زوج لها ولا أقر المولى بوطئها فقال أحد هؤلاء ولدى أخذ البيان فان عين الاصغر ثبت نسبه وحريته ثم يسأل عن جهة الاستيلاد فان قال استوليتها في ملكى فالولد حر لا ولاء عليه والجارية أم ولد، وللولد الاكبر والاوسط مملوكان.
وان قال استولدتها في نكاح ثم ملكتها فقد عتق الولد بالملك وعليه الولاء لانه مسه الرق وأمه أمة فن والاكبر والاوسط مملوكان، وان عين الاوسط تعين نسبه وحريته ويسأل عن استيلاده، فان قال استولدتها في ملكى فالولد حر الاصل وأمه أم ولد، وأما الاصغر فهو ابن أم ولد وثبت لها حرمة الاستيلاد، وهل يعتق بموته كأمه؟ فيه وجهان

(20/332)


(أحدهما)
أنه يعتق لانه ولد أم ولده
(والثانى)
أنه عبد قن لا يعتق بعنق أمه لجواز أن يكون عبدا قنا بأن أحبل أمه وهى مرهونة فثبت لها حرمة الاستيلاد فتباع على أحد القولين، وإذا ملكها بعد ذلك صارت أم ولده وولده الذى اشتراه معها عبد قن فلا يعتق مع الاحتمال.
وإن قال استولدتها في نكاح عتق الولد بالملك وعليه الولاء لانه مسه الرق وأمه أمة قن والولدان الآخران مملوكان وان عين الاكبر تعين نسبه وحريته ويسأل عن الاستيلاد فان قال استولدتها في ملكى فهو حر الاصل وأمه أم ولد والاوسط والاصغر على الوجهين.
وإن قال استولدتها في نكاح فالولد حر وعليه الولاء والامة قن والاوسط والاصغر مملوكان وإن مات قبل البيان وخلف إبنا يجوز الميراث قام مقامه في التعيين فان عين كان الحكم فيه على ما ذكرناه في الموروث إذا عين، وإن لم يكن له ابن
أو كان له ولم يعين عرض على القافة، فإن عينت القافة فان الحكم على ما ذكرناه وإن لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها أقرع بينهم لتمييز الحربة لانها تتميز بالقرعة، فإن خرجت على أحدهما حكم بحريته ولا يثبت النسب، لان القرعة لا يتميز بها النسب، وأما الامة فان يبحث عن جهة استيلادها، فإن كانت في ملكه فهى أم ولده، وان كان في نكاح فهى أمة قن، وإن لم يعرف فعلى ما ذكرناه من الوجهين فلا يرث الابن الذى لم يتعين نسبه، وهل يوقف له نصيب ابن أو يعطى الابن المعروف النسب حقه؟ فيه وجهان:
(أحدهما)
يوقف له ميراث ابن، وهو قول المزني رحمه الله
(والثانى)
وهو المذهب أنه لا يوقف له شئ بل تدفع التركة إلى المعروف النسب وقد بينا ذلك فيما تقدم.
(الشرح) حديث (اختصم سعد بن أبى وقاص وعبد بن زمعة ... ) أخرجه البخاري في باب (الولد للفراش) واتققا عليه من حديث، سفيان ومالك في الموطأ وابن ماجه من حديث عائشة، وأورده ابن حجر في ترجمة سعد بن أبى وقاص في الاصابة والسخاوى في فتح المغيث،

(20/333)


اللغة: قوله (وابن وليدة أبى) الوليدة الجارية قال حسان: وتغدو ولائدهم لقف الحنظل قوله (الولد للفراش) أي لمالك للفراش، وهو الزوج، أو لمالك الامة لانه يفترشها بالحق، وهذا من مختصر الكلام، وهو على حذف مضاف كقوله تعالى (واسأل القرية) أي أهل القرية.
والفراش الزوجة، يقال افترش فلان فلانة إذا تزوجها، ويقال لامرأة الرجل هي فراشه وإزاره ولحافه قوله (وللعاهر الحجر) العاهر الزانى، يقال عهر الرجل المرأة يعهر عهرا
إذا أتاها بفجور، والعهر الزنا، وفى الحديث: اللهم أبدله بالعهر العفة، ومعنى وللعاهر الحجر أي لا شئ له في نسب الولد وانما يستحق الحجر الذى لا ينتفع به.
أو يرمى بالحجر ويطرد، وقول من قال إنه يرجم الحد بالحجر ليس بشئ لانه ليس كل زان يجب رجمه، وهذا كما قالوا في معنى له التراب أي لا شئ له.
وروى أن أبا العيناء ولد له ولد وكان أعمى فأتاه الناس يهنئونه به، فأنى الجماز في جملتهم فوضع بين يديه حجرا ومضى، فتكلم بذلك فقال: أتدرون ما أراد لعنه الله؟ قالوا لا، قال أراد قول النبي صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش وللعاهر الحجر) قالت الشافعية في الانوار (إلاقرار بالنسب قسمان، الاولى أن يلحقه بنفسه وله شروط:
1 - أن يكون الملحق رجلا مكلفا فلا يصح إقرار المرأة والصبى والمجنون، خلية كانت أو ذات زوج، ولو أقامت بينة لحق، ولا يشترط الاسلام والحرية وإطلاق التصرف.
2 - أن لا يكذبه الحس، فلو كان في سن لا يتصور أن يكون ولدا للملحق لم يلحق وان صدقه المقر.
3 - أن لا يكذبه الحال فان جاءت امرأة من بلدة بعيدة ومعها طفل فألحقه رجل ما سافر قط إلى بلدها ولا هي إلى بلده لم يلحقه.
4 - أن لا يكذبه الشرع، فإن كان المقر له مشهور النسب من غيره لم يلحق

(20/334)


صدقه أو كذبه
5 - أن لا يكذبه المقر له ان كان بالغا فان كذبه أو سكت لم يثبت نسبه الا ببينة فان لم تكن وحلف للمقر له سقط نسبه وان نكل وحلف المقر ثبت، ولو استلحق صغيرا ثبت نسبه ويتوارثان، فإن بلغ وكذب لم يندفع
النسب، والمجنون كالصغير، ولو استلحق صغيرا أو بالغا بعد موته لحق، سواء كان له مال أو لم يكن، ولو قتله ثم استحلقه لحق وسقط القصاص.
6 - أن لا يزاحمه غيره، فإن ادعى آخر نسبه أيضا لم يلحق به الا بتصديقه وتكذيب الآخر ان كان بالغا أو ببينة مع عجز الاخر عنها أو الحاق القائف وحده ان كان صغيرا، والاقرار بنسب الغير لا يكون إقرار النكاح أمه فلا يتوارث ولو استحق عبد الغير أو معتقه لم يلحق إلا ببينة، صغيرا كان أو كبيرا وصدقه، وإذا لحق بقى رقيقا لمولاه، ولو استلحق عبدا في يده فان لم يكن لغا قوله، وان أمكن فان كان مجهول النسب لحقه ان كان صغيرا أو كبيرا وصدقه وعتق ويرث، وان كذبه لم يلحق وعتق ولا يرث، ولو كانت له جارية خلية ذات ولد فقال هذا ولدى من هذه لحقه ان أمكن ولا تصير الجارية أم ولد له.
ولو قال هذا ولدى استولدتها به في ملكى أو علقت به في ملكى أو هذا ولدى منها وهى في ملكى منذ عشر سنين، وكان الولد ابن سنة ثبت النسب وهى أم ولد قطعا.
ولو كانت الامة مزوجة فالولد للزوج ولا أثر لالحاق السيد ولو كانت فراشا للسيد لاقراه بوطئها لحقه الولد بالفراش ولا حاجة إلى الاقرار ولا يعتبر الا الامكان، ولا فرق في الاقرار بالاستيلاد بين الصحة والمرض.
القسم الثاني: أن يلحقه بغيره كهذا أخى أو عمى، ويشترط فيه وراء ما تقدم من الشروط شرطان: 1 - أن يكون الملحق به ميتا، فما دام حيا لم يكن لغيره الالحاق، وان كان مجنونا في حياته وألحقه وارثه بعد موته لحقه 2 - أن يصدر الاقرار من الوارث الجائز التزكة فلا يثبت بإقرار الاجانب ولا بإقرار القريب غير الاجانب، ولا بإقرار القريب غير الوارث لكفر أو رق أو قتل، ولا بإقرار الوارث غير الجائز، فلو مات وخلف ابنا واحدا فأقر بأخ ثبت، فلو خلف بنين وبنات فلا بد من اتفاقهم ومن اتفاق الزوج أو

(20/335)


الزوجة والصغير والمجنون بعد البلوغ والافاقة لا الكافر والرقيق بعد الاسلام والحرية، ولو خلف بنتا حائزة لكونها معتقة أو غير حائزه ووافقها الامام لحق ولو أقر بنسب من يحجب المقر بأن مات عن أخ اوعم فاقر بابن للميت لحق ولم يرث، ولو احد الابنين باح وأنكر الآخر لم يثبت إرثه في الظاهر، وعلى المقر أن يشركه بثلث ما يخصه إن كان صادقا، والطريق أن يضرب أصل المسألة على قول المنكر وهو إثنان في أصل المسألة على قول المقر وهو ثلاثة تبلغ ستة، ثلاثة منها للمنكر وثلاثة للمقر فيكون بينهما أثلاثا.
قال القاضى حسين في الفتاوى: ولو زوج الحاكم امرأة وجاء رجل وقال أنا أبو وكنت في البلد وصدقته ثبت النسب وبطل النكاح قال القفال في الفتاوى: ولو أتت الجارية المشتركة بابن فقال أحد الشريكن هو ابني عتق عليه، موسرا كان أو معسرا، ولزمه غرم نصيب الاخر وتصير الجارية أم ولد له إن كان موسرا ونصيبه ان كان معسرا وقال في الحاشية المسماة بالكمثرى ردا عليه في مسألة بطلان النكاح واعلم أن بطلان النكاح مرجوع، فكأنه تبع فيه البغوي والمعتمد الراجح صحته، وانما يبطل بالبينة على ما يدعيه.
وفى حاشية الحاج ابراهيم في نفس الموضوع فيه نظر والظاهر أن النكاح لا يبطل إلا أن يقيم بينة على الحضور.
قالت الحنابلة: وإن أقر رجل أو امرأه بزوجية الاخر فجحده ثم صدقه صح قال القاضى وغيره تحل له بنكاح جديد، وان لم يصدقه إلا بعد موت المقر صح وورثه ويتخرج من مسألة الوارث بعدها لا أرث، فإن كذبه في حياته فوجهان
(أحدهما)
لا يصح تصديقه ولا يرثه: جزم به في الوجيز (والثاني) يصح
ويرثه، وهو ظاهر الكلام في المقنع، وفى الروضة الصحة قول أصحابنا وقال شيخنا فيمن أنكر الزوجية فأبرأته فأقر بها لها طلبه بحقها، وان أقر بزوج أو مولى أعضه فصدقه وأمكن ولم يدفع به نسب غيره قبل، ولو أسقط وارثه، وكذا بولد ولا يعتبر تصديقه مع صغر وجنون وإلا اعتبر، وقيل لا يرثه ان كان ميتا التهمة، وقيل ولا يثبت نسبه ان كان كبيرا عاقلا ميتا، في اقرار امرأة مزوجة بولد روايتان.

(20/336)


(أحدهما)
يلحقها وهو الصحيح من المذهب (والثانية) لا يحلقها وان أقر بأب فكولد وفى الوسيلة ان قال عن بالغ هو ابني أو أبى فسكت المدعى عليه ثبت نسبه في ظاهر قوله، ولا يعتبر في تصديق أحدهما بالاخر، فيشهد الشاهد بنسبهما بدونه نقل أحمد بن سعيد: النسب بالولد ثبت بإقرار الرجل به أنه ابنه فلا ينكر أو بولد على فراشه أو يدخل على أهله وولده وحرمه.
ومن ثبت نسبه فادعت أمه بعد موت المقر زوجته لم يثبت، وكذا دعوى أخته البنوة ومن نسبه معروف فأقر بغير الاربعة المذكورين كإبن ابن وجد وأخ وعم لم يصح، وان أقر مجهول نسبه ولا ولاء عليه بنسب وارث حتى بأخ أو عم فصدقه وأمكن قبل ومع الولاء يقبل ان صدقه مولاه ويتخرج أو لا واختاره شيخنا وقافا لابي حنيفة، ومن أقر بالرق وكان تصرف بنكاح وغيره، ومن عنده أمة له منها أولاد فأقر بها لرجل قبل إقراره على الامة لا على أولادها نقله ابن مشيش.
قال الحنفيون: وأما الاقرار بالنسب فهو الاقرار بالوارث وهو نوعان:
(أحدهما)
إقرار الرجل بوارث
(والثانى)
إقرار الوارث بوارثه ويتعلق بكل
واحد منهما حكمان، حكم النسب وحكم الميراث.
أما الاقرار بوارث فلصحته في حق ثبات النسب شرائط.
منها أن يكون المقر به محتمل الثبوت لان الاقرار إخبار عن كائن، فإذا استحال كونه فالاخبار عن كائن يكون كذبا محضا.
ومنها أن لا يكون المقر بنسبه معروف النسب من غيره، فإن كان لم يصح لانه إذا ثبت نسبه من غيره لا يحتمل ثبوته له بعده.
ومنها تصديق المقر بنسبه إذا كان في يد نفسه لان اقراره يتضمن ابطال يده فلا تبطل الا برضاه.
ومنها أن يكون في حمل النسب على الغير، سواء كذبه المقر بنسب أو صدقه لان إقرار إلانسان حجة على نفسه لا على غيره لانه على غيره شهادة أو دعوى والدعوى المفردة ليست بحجة وشهادة الفرد فيما يطلع عليه الرجال، وهو من

(20/337)


باب حقوق العباد غير مقبولة، والاقرار الذى فيه حمل نسب الغير على غيره إقرار على غيره لا على نفسه فكان دعوى أو شهادة، وكل ذلك لا يقبل الا بحجة وعلى هذا يجوز إقرار الرجل بخمسة نفر: أبوللدين والولد والزوجة والمولى، ويجوز إقرار المرأة بأربعة نفر الوالدين والزوج والمولى، ولا يجوز بالولد لانه ليس في الاقرار بهؤلاء حمل نسب نسب الغير على غيره.
أما الاقرار بالولاء فظاهر لانه ليس فهى حمل نسب إلى أحد.
وكذلك الاقرار بالزوجية ليس فيه حمل نسب الغير على غيره لكن لا بد التصديق لما ذكرنا، ثم ان وجد التصديق في حال حياة المقر جاز بلا خلاف وان وجد بعد وفاته فإن كان الاقرار من الزوج يصح تصديق المرأة، سواء صدقته في حال حياته أو بعد وفاته بالاجماع بأن أقر الرجل الزوجية فمات ثم صدقته المرأة، لان النكاح يبقى بعد الموت من وجه لبقاء بعض أحكامه في العدة فكان محتملا التصديق
وان كان الاقرار بالزوجبة من المرأه فصدقها الزوج بعد موتها لا يصح عند أبى حنيفة وعند أبى يوسف ومحمد يصح وأما الاقرار بالولد فلانه ليس فيه حمل نسب غيره على غيره بل على نفسه فيكون إقرارا على نفسه لا على غيره فيقبل لكن لا بد من التصديق إذا كان في يد نفسه لما قلنا، وسواء وجده في حال حياته أو بعد وفاته، لان النسب لا يبطل بالموت فيجوز التصديق في الحالين جميعا وكذلك الاقرار بالوالدين ليس فيه حمل نسب غيره على غيره فيكون إقرارا على نفسه لا على غيره فيقبل وكذلك اقرار المرأة بهؤلاء لما ذكرنا الا الولد لان فيه حمل نسب غيره على غيره وهو نسب الولد على الزوج فلا يقبل الا إذا صدقها الزوج أو تشهد امرأة على الولادة بخلاف الرجل لان فيه حمل نسب الولد على نفسه ولا يجوز الاقرار بغير هؤلاء من العم والاخ غيره على غيره وهو الاب والجد وكذلك الاقرار بوارث في حق حكم الميراث يشترط له ما يشترط للاقرار به في حق ثبات النسب، وهو ما ذكرنا، الا شرط حمل النسب على الغير، فإن الاقرار بنسب يحمله المقر على غيره لا يصح في حق ثبات النسب أصلا ويصح

(20/338)


في حق الميراث لكن بشرط ان لا يكون له وارث أصلا ويكون ميراثه له لان تصرف العاقل واجب التصحيح ما أمكن، فإن لم يمكن في حق ثبات النسب لفقد شرط الصحة أمكن في حق الميراث وأن ثمة وارث قريبا كان أو بعيدا لا يصح إقراره أصلا ولا شئ له في الميراث بأن أقر أخ وله عمة أو خالة فميراثه لعمته أو فحالته ولا شئ للمقر له لانهما وارثان بيقين فكان حقهما ثابتا بيقين فلا يجوز إبطاله بالصرف إلى غيرهما.
وكذلك إذا أقر بأخ أو ابن ابن وله مولى الموالاة مات فالميراث للمولى ولا
شئ للمقر له، لان الولاء من أسباب الارث وأما اقرار بوارث فالكلام فيه في موضعين: أحدهما في حق ثبات النسب والثانى في حق الميراث.
اما الاول فالامر فيه لا يخلو من أحد وجهين، اما إن كان الوارث واحد وأما ان كان أكثر من واحد بأن مات رجل وترك ابنا فأقر بأخ هل يثبت نسبه من الميت؟ اختلف فيه، قال أبو حنيفة ومحمد لا يثبت النسب بإقرار وارث واحد، وقال أبو يوسف يثبت، وبه أخذ الكرخي رحمه الله، وان كان أكثر من واحد، بأن كان رجلين، أو رجلا وامرأتين فصاعدا، يثبت النسب بإقرارهم بالاجماع.

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل)
وان مات رجل وخلف أبنين فأقر أحدهما على أبيه بدين وأنكر الآخر، نظرت فإن كان المقر عدلا جاز أن يقضى بشهادته مع شاهد آخر أو مع امرأتين أو مع يمين المدعى، وان لم يكن عدلا حلف المنكر ولم يلزمه شئ.
وأما المقر ففيه قولان:
(أحدهما)
أنه يلزمه جميع الدين في حصته لان الدين قد يتعلق ببعض التركة إذا هلك بعضها كما يتعلق بحميعها فوجب قضاؤه من حصة المقر والقول الثاني وهو الصحيح أنه لا يلزمه من الدين الا بقدر حصته، لانه

(20/339)


لو لزمه بالاقرار جميع الدين لم تقبل شهادته بالدين لانه يدفع بهذه الشهادة عن نفسه ضررا والله أعلم (الشرح) قوله (وإن مات رجل وخلف ابنين..) قال يوسف الاردبيلى في الانوار (ولو أقر بعض الورثة على الميت بدين
وأنكر بعضهم فلا يلزم المقر إلا بقسط نصيبه من التركة.
كما لو أقر أحد المالكين بحنانة العبد المشترك، فإن كان نصبه من الميراث يلزمه نصف الدين وان كان الربع فالربع، ولو مات المنكر ووارثه المقر لزمه الآن كل الدين، ولو شهد المقر على المورث، وهو عدل قبلت، سواء شهد قبل الاقرار أو بعده، ولو لم يكن للميت تركة لم يلزم الوارث قضاء الدين، ولو أبرأ صاحب الدين الموسر أو المعسر صح وبرئ، ولو أبرأ الوارث لم يصح ولم يبرأ الميت، ولو أقر أجنبي بدين على الميت ثم وقعت تركته في يده أمر بصرفها إلى ذلك الدين، ولو ادعى على ابني ميت أن بعض أعيان التركة ملكه فصدقه أحدهما، فإن كان قبل قسمة التركة سلم النصف إليه في الحال، وإن كان بعدها فإن كانت المدعاة في يد المصدق سلم ولا شئ على المكذب، وان كانت في يد الاخر فعلى المصدق نصف القيمة ولا شئ على الاخر ودعوى للعين لا تسمع الا على من هي في يده.
ولو شهد على الاخر سمع وغرم نصف قيمة العهد المشهود عليه ولو أقر رجل على ولده أو أخيه بدين أو جناية لم يقبل، ولو أقر على عبده بما يوجب بعقوبة من قصاص أو حد قذف أو شرب لم يقبل، وبما يوجب مالا قبل ولم يقبل بدين المعاملة والقرض.
قال صاحب التهذيب في كناية التعليق: ولو قال الدار التى تركها أبى لفلان بل لفلان سلمت إلى الاول ولا يغرم الثاني، ولو قال العين الفلانية تركة فلان لم يكن إقرارا بالملك لفلان ولو لوارثه ويكون اقرارا باليد قالت الحنابلة (وان أقر ورثة بدين على موروثهم قضوه من التركة، وان أقر بعضهم بلا شهادة فيقدر إرثه.
إن ورث النصف فنصف الدين كإقراره بوصية لا كل إرثه.

(20/340)


وفى التبصرة إن أقر منهم عدلان أو عدل ويمين ثبت، وإن خلف وارثا واحدا لا يرق كل المال كبنت وأخت فأقر بما يستغرق التركة أخذ رب الدين كل ما بيدها ويقدم ما ثبت بإقرار الميت وقبل ما ثبت بإقرار ورثته.
ويحتمل التسوية، وذكره الازجى وجها ويقدم ما ثبت ببينة) وقد أجملت لك ما قاله المالكية هكذا: الاقرار إذا كان بينا فلا خلاف في وجوب الحكم به، وإنما النظر فيمن يجوز إقراره ممن لا يجوز، وأما إذا كان الاقرار محتملا وقع الخلاف ولا يصح الاقرار إلا من مكلف مختار، ولو هازلا بلفظ أو كتابة لا بإشارة إلا من أخرس، لكن لو أقر صغير أو قن أذن لهما في تجارة في قدر ما أذن لهما فيه صح ومن أكره ليقر بدرهم فأقر بدينار، أو ليقر لزيد فأقر لعمرو صح ولزمه لانه غير مكره، وليس الاقرار بإنشاء تمليك فيصح حتى مع إضافة الملك لنفسه، ويصح إقرار المريض بمال لغير وارث، حكاه ابن المنذر إجماعا، لانه غير متهم في حقه ويكون من رأس المال كإقراره في صحته وبأخذ دين من غير وارث، لا إن أقر لوارث إلا ببينة.
وقال مالك: يصح إذا لم يتهم إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فأقل فيصح في قول الجميع إلا الشعبى، والاعتبار بكون من أقر له وارثا أو لا حال الاقرار لا الموت، وان كذب المقر له المقر بطل الاقرار وكان للمقر أن يتصرف فيما أقر به بما شاء، وان أقر رجل أو امرأة بزوجية الاخر فسكت صح وورثه بالزوجية لقيامها بينهما بالاقرار، أو جحده ثم صدقه صح وورثه لحصول الاقرار لا ان بقى على تكذيبه حتى مات ومن ادعى عليه بدينار فقال ان شهد به زيد فهو صادق لم يكن مقرا، ومن باع أو وهب أو عتق عبدا ثم أقر به لغيره لم يقبل ويغرمه للمقر له، ومن
خلف ابنين وماتين فادعى شخص مائة دينار على الميت فصدقه أحدهما وأنكر الآخر لزم المقر نصفها الا أن يكون عدلا ويشهد ويحلف معه المدعى فيأخذها

(20/341)


وتكون الباقية بين الاثنين، ويحكم بإسلام من أقر بالشهادتين ولو مميزا، لان عليا رضى الله عنه أسلم وهو ابن ثمان سنين.
وقال البخاري: وكان ابن عباس مع أمه من المستضعفين ولم يكن مع أبيه على دين قومه) وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه عرض الاسلام على ابن صياد صغيرا متفق عليه.
قال ابن رشد في بداية المجتهد: ولا خلاف بينهم أن الاقرار مرة واحدة عامل في المال، وأما المسائل التى اختلفوا فيها من ذلك فهن من قبل احتمال اللفظ وقال ابن حزم في المحلى (وصح بنص كلام رسول الله واعلامه أمته اياهم بأحسن ما عليه ربه تعالى أن من أصاب حدا فستره الله عليه فإن أمره إلى الله تعالى ان شاء عذبه وانشاء غفر له، وأن من أقر وأقيم عليه الحد فقد سقط عنه ذلك الذنب وكفره الله تعالى عنه.
وبالضرورة ندرى أن يقين المغفرة أفضل من التعزير في امكانها أو عذاب الآخرة، وأين عذاب الدنيا كلها من غمسة في النار، نعوذ بالله منها، فكيف بأكثر من ذلك) وهاك ملخصا وجيزا عن الاقرار: تعريفه: الاقرار هو أن يعترف المرء بالشئ في ذمته لغيره، كأن يقول ان لزيد عندي ألف درهم مثلا أو مناعا أو دارا أو ضباعا ممن يقبل: من العاقل البالغ ولا يقبل من المجنون أو الصبى أو المكره لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثلاثة ... ) الحديث، إلا أن اقرار الصبى
وقال ابن حزم في المحلى (وصح بنص كلام رسول الله واعلامه أمته اياهم بأحسن ما عليه ربه تعالى أن من أصاب حدا فستره الله عليه فإن أمره إلى الله تعالى ان شاء عذبه وانشاء غفر له، وأن من أقر وأقيم عليه الحد فقد سقط عنه ذلك الذنب وكفره الله تعالى عنه.
وبالضرورة ندرى أن يقين المغفرة أفضل من التعزير في امكانها أو عذاب الآخرة، وأين عذاب الدنيا كلها من غمسة في النار، نعوذ بالله منها، فكيف بأكثر من ذلك) وهاك ملخصا وجيزا عن الاقرار: تعريفه: الاقرار هو أن يعترف المرء بالشئ في ذمته لغيره، كأن يقول ان لزيد عندي ألف درهم مثلا أو مناعا أو دارا أو ضباعا ممن يقبل: من العاقل البالغ ولا يقبل من المجنون أو الصبى أو المكره لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثلاثة ... ) الحديث، إلا أن اقرار الصبى إذا كان مميزا ومأذونا له في التصرف صح، فإن كان غير مميز أو محجور عليه فلا يصح.
حكمه: اللزوم فمن أقر بشئ لزمه لقوله صلى الله عليه وسلم (فإن اعترفت فارجمها) بعض أحكام الاقرار: (ا) اعتراف المفلس أو المحجور عليه في الشئون المالية لا يلزم لاتهام

(20/342)


المفلس بحد الغرماء، ولان المحجور عليه إذا قبل إقراره أصبح وكأنه لم يحجر عليه ويبقى بذمتيهما ما أقرا به فيسددانه بعد زوال المانع.
(تم كتاب المجموع والحمد لله رب العالمين)

(20/343)