المهذب في فقة الإمام الشافعي

كتاب القراض
مدخل
...
كتاب القراض
القراض جائز لما روى زيد بن اسلم عن أبيه أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر بن الخطاب رضي الله عنهم خرجا في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على عامل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فرحب بهما وسهل وقال: لو أقدر لكما على أمر أنفعكما به لفعلت ثم قال: بل ههنا مل من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير المؤمنين فأسلفكما فتبتاعان به متاعاً من متاع العراق ثم تبيعانه في المدينة وتوفران رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون لكما ربحه فقالا: وددنا ففعل فكتب إلى عمر أن يأخذ منهما المال فلما قدما وباعا وربحا فقال عمر: أكل الجيش قد أسلف كما أسلفكما فقالا: لا فقال عمر: ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما أديا المال وربحه فأما عبد الله فسكت وأما عبيد الله فقال يا أمير المؤمنين لو هلك المال ضمناه فقال أدياه فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله فقال رجل من جلساء عمر يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضاً فأخذ رأس المال ونصف ربحه وأخذ عبد الله وعبيد الله نصف ربح المال ولأن الأثمان لا يتوصل إلى نمائها المقصود إلا بالعمل فجاز المعاملة عليها ببعض النماء الخارج منها كالنخل في المساقاة.
فصل: وينعقد بلفظ القراض لأنه لفظ موضوع له في لغة أهل الحجاز وبلفظ المضاربة لأنه موضوع له في لغة أهل العراق وبما يؤدي معناه لأن المقصود هو المهنى فجاز بما يدل عليه كالبيع بلفظ التمليك.
فصل: ولا يصح إلى على الأثمان وهي الدراهم والدنانير فأما ما سواهما من العروض والعقار والسبائك والفلوس فلا يصح القراض عليها لأن المقصود بالقراض رد رأس المال والاشتراك في الربح ومتى عقد على غير الأثمان لم يحصل المقصود لأنه ربما زادت قيمته فيحتاج أن يصرف العامل جميع ما اكتسبه في رد مثله إن كان له مثل

(2/226)


وفي رد قيمته إن لم يكن له مثل وفي هذا إضرار بالعامل وربما نقصت قيمته فيصرف جزءاً يسيراً من الكسب في رد مثله أو رد قيمته ثم يشارك رب المال في الباقي وفي هذا إضرار برب المال لأن العامل يشاركه في أكثر رأس المال وهذا لا يوجد في الأثمان لأنها لا تقوم بغيرها ولا يجوز على المغشوش من الأثمان لأنه تزيد قيمته وتنقص كالعروض.
فصل: ولا يجوز إلا على مال معلوم الصفة والقدر فإن قارضه على دراهم جزاف لم يصح لأن مقتضى القراض رد رأس المال وهذا لا يمكن فيما لا يعرف صفته وقدره فإن دفع إليه كيسين في كل واحد منهما ألف درهم فقال قارضتك على أحدهما وأودعتك الآخر ففيه وجهان: أحدهما يصح وأنهما متساويان والثاني لا يصح لأنه لم يبين مال القراض من مال الوديعة وإن قارضه على ألف درهم هي له عنده وديعة جاز لأنه معلوم وإن قارضه على درهم هي له عنده مغصوبة ففيه وجهان: أحدهما يصح الوديعة والثاني لا يصح لأنه مقبوض عنده قبض ضمان فلا يصير مقبوضاً قبض أمانة.
فصل: ولا يجوز إلا على جزء من الربح معلوم فإن قارضه على جزء مبهم لم يصح لأن الجزء يقع على الدرهم والألف فيعظم الضرر وإن قارضه على جزء مقدر كالنصف والثلث جاز لأن القراض كالمساقاة وقد ساقى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شطر ما يخرج من تمر وزرع وإن قارضه على درهم معلوم لم يصح لأنه قد لا يربح ذلك الدرهم فيستضر العامل وقد لا يربح إلا ذلك الدرهم فيستضر رب المال وإن قال قارضتك على أن الربح بيننا ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه مجهول لأن هذا القول يقع على التساوي وعلى التفاضل والثاني يصح لأنه سوى بينهما في الإضافة فحمل على التساوي كما لو قال هذه الدار لزيد وعمرو وإن قال قارضتك على أن لي نصف الربح ففيه وجهان: أحدهما يصح ويكون الربح بينهما نصفين لأن الربح بينهما فإذا شرط لنفسه النصف دل على أن الباقي للعامل والثاني لا يصح وهو الصحيح لأن الربح كله لرب المال بالملك وإنما يملك العامل جزءاً منه بالشرط ولم يشرط له شيئاً فبطل وإن قال قارضتك على أن لك النصف ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنه لم يبين ما لرب المال والثاني يصح وهو الصحيح لأن ما لرب المال لا يحتاج إلى شرط لأنه يملكه بملك المال وإنما يحتاج إلى شرط ما للعامل فإذا شرط للعامل النصف بقي الباقي على ملك رب

(2/227)


المال فعلى هذا لو قال قارضتك على أن لك النصف ولي الثلث وسكت عن السدس صح ويكون النصف له لأن الجميع له إلا ما شرطه للعامل وقد شرط له النصف فكان الباقي له.
فصل: وإن قال قارضتك على أن الربح كله لي أو كله لك بطل القراض لأن موضوعه على الاشتراك في الربح فإذا شرط الربح لأحدهما فقد شرط ما ينافي مقتضاه فبطل وإن دفع إليه ألفاً وقال تصرف فيه والربح كله لك فهو قرض لا حق لرب المال في ربحه لأن اللفظ مشترك بين القراض والقرض وقد قرن به حكم القرض فانعقد القرض به كلفظ التمليك لما كان مشتركاً بين البيع والهبة إذا قرن به الثمن كان بيعاً وإن قال تصرف فيه والربح كله لي فهو بضاعة لأن اللفظ مشترك بين القراض والبضاعة وقد قرن به حكم البضاعة فكان بضاعة كما قلنا في لفظ التمليك.
فصل: ولا يجوز أن يختص أحدهما بدرهم معلوم ثم الباقي بينهما لأنه ربما لم يحصل ذلك الدرهم فيبطل حقه وربما لم يحصل غير ذلك الدرهم فيبطل حق الآخر ولا يجوز أن يخص أحدهما بربح ما في الكيسين لأنه قد لا يربح في ذلك فيبطل حقه أو لا يربح إلا فيه فيبطل حق الآخر ولا يجوز أن يجعل حق أحدهما في عبد يشتريه فإن شرط أنه إذا اشترى عبداً أخذه برأس المال أو أخذه العامل بحقه لم يصح العقد لأنه قد لا يكون في المال ما فيه ربح غير العبد فيبطل حق الآخر.
فصل: ولا يجوز أن يعلق العقد على شرط مستقبل لأنه عقد يبطل بالجهالة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع والإجارة.
فصل: قال الشافعي رحمه الله: ولا تجوز الشريطة إلى مدة فمن أصحابنا من قال لا يجوز شرط المدة فيه لأنه عقد معاوضة يجوز مطلقاً فبطل بالتوقيت كالبيع والنكاح ومنهم من قال: إن عقده إلى مدة على أن لا يبيع بعدها لم يصح لأن العامل يستحق البيع لأجل الربح وإذا شرط المنع منه فقد شرط ما ينافي مقتضاه فلم يصح وإن عقده إلى مدة على أن لا يشتري بعدها صح لأن رب المال يملك المنع من الشراء إذا شاء فإذا شرط المنع منه فقد شرط ما يملكه بمقتضى العقد فلم يمنع صحته.
فصل: ولا يصح إلا على التجارة في جنس يعم كالثياب والطعام والفاكهة وقتها فإن عقده على ما لا يعم كالياقوت الأحمر والخيل البلق وما أشبهها أو على التجارة في

(2/228)


سلعة بعينها لم يصح لأن المقصود بالقراض الربح فإذا علق على ما لا يعم أو على سلعة بعينها تعذر المقصود لأنه ربما يتفق ذلك ولا يجوز عقده على أن لا يشري إلا من رجل بعينه لأنه قد لا يتفق عنده ما يربح فيه أو لا يبيع منه ما يربح فيه فيبطل المقصود.
فصل: وعلى العامل أن يتولى ما جرت العادة أن يتولاه بنفسه من النشر والطي والإيجاب والقبول وقبض الثمن ووزن ما خف كالعود والمسك لأن إطلاق الإذن يحمل على العرف والعرف في هذه الأشياء أن يتولاه بنفسه فإن استأجر من يفعل ذلك لزمه الأجرة في ماله فأما ما لم تجر العادة أن يتولاه بنفسه كحمل المتاع ووزن ما يثقل وزنه فلا يلزمه أن يتولاه بنفسه وله أن يستأجر من مال القراض من يتولاه لأن العرف في هذه الأشياء أن لا يتولاه بنفسه فإن تولى ذلك بنفسه لم يستحق الأجرة لأنه تبرع به وإن سرق المال أو غصب فهل يخاصم السارق والغاصب؟ ففيه وجهان: أحدهما لا يخاصم لأن القراض معقود علىالتجارة فلا تدخل فيه الخصومة والثاني أنه يخاصم فيه لأن القراض يقضي حفظ المال والتجارة ولا يتم ذلك إلا بالخصومة والمطالبة.
فصل: ولا يجوز للعامل أن يقارض غيره من غير إذن رب المال لأن تصرفه بالإذن ولم يأذن له رب المال في القراض فلم يملكه فإن قارضه رب المال على النصف وقارض العامل آخر واشترى الثاني في الذمة ونقض الثمن من مال القراض وربح بنينا على القولين في الغاصب إذا اشترى في الذمة ونقد فيه المال المغصوب وربحه فإن قلنا بقوله القديم إن الربح لرب المال فقد قال المزني ههنا إن لرب المال نصف الربح والآخر بين العاملين نصفين واختلف أصحابنا في ذلك فقال أبو إسحاق هذا صحيح لأن رب المال رضي أن يأخذ نصف ربح فلم يستحق أكثر منه والنصف الثاني بين العاملين لأنهما رضيا أن ما رزق الله بينهما والذي رزق الله تعالى هو النصف فإن النصف الآخر أخذه رب المال فصار كالمستهلك ومن أصحابنا من قال يرجع العامل الثاني على العامل الأول بنصف أجرة مثله لأنه دخل على أن يأخذ نصف ربح المال ولم يسلم له ذلك وإن قلنا بقوله الجديد فقد قال المزني الربح كله للعامل الأول وللعامل الثاني أجرة المثل فمن أصحابنا من قال هذا غلط لأن على هذا القول الربح كله للعامل الثاني لأنه هو المتصرف فصار كالغاصب في غير القراض ومنهم من قال الربح للأول كما قال المزني لأن العامل الثاني لم يشتر لنفسه وإنما اشتراه للأول فكان الربح له بخلاف الغاصب في غير القراض فإن ذلك اشتراه لنفسه فكان الربح له.
فصل: ولا يتجر العامل إلا فيما أذن فيه رب المال فإن أذن له في صنف لم يتجر

(2/229)


في غيره لأن تصرفه بالإذن فلم يملك ما لم يأذن له فيه فإن قال له اتجر في البز جاز له أن يتجر في أصناف البز من المنسوج من القطن والإبريسم والكتان وما يلبس من الأصواف لأن اسم البز يقع على ذلك كله ولا يجوز أن يتجر في البسط والفرش لأنه لا يطلق عليه اسم البز وهل يجوز أن يتجر في الأكسية البركانية؟ فيه وجهان: أحدهما يجوز لأنه يلبس فأشبه الثياب والثاني لا يجوز لأنه لا يطلق عليه اسم البز ولهذا لا يقال لبائعه بزاز وإنما يقال له كسائي ولو أذن له في التجارة في الطعام لم يجز أن يتجر في الدقيق ولا في الشعير لأن الطعام لا يطلق إلا على الحنطة.
فصل: ولا يشتري العامل بأكثر من رأس المال لأن الإذن لم يتناول غير رأس المال فإن كان رأس المال ألفاً فاشترى عبداً بألف ثم اشترى آخر بألف قبل أن ينقد الثمن في البيع الأول فالأول للقراض لأنه اشتراه بالإذن وأما الثاني فينظر فيه فإن اشتراه بعين الألف فالشراء باطل لأنه اشتراه بمال استحق تسليمه في البيع الأول فلم يصح وإن اشتراه بألف في الذمة كان العبد له ويلزمه الثمن في ماله لأنه اشترى في الذمة لغيره مالم يأذن فيه فوقع الشراء.
فصل: ولا يتجر إلا على النظر والاحتياط فلا يبيع بدون ثمن المثل ولا بثمن مؤجل لأنه وكيل فلا يتصرف إلا على النظر والاحتياط وإن اشترى معيباً رأى شرائه جاز لأن المقصود طلب الحظ وقد يكون الربح في المعيب وإن اشترى شيئاً على أنه سليم فوجده معيباً جاز له الرد لأنه فوض إليه النظر والاجتهاد فلك الرد.
فصل: وإن اختلفا فدعا أحدهما إلى الرد والآخر إلى الإمساك فعل ما فيه النظر لأن المقصود طلب الحظ لهما فإذا اختلفا حمل الأمر على ما فيه الحظ.
فصل: وإن اشترى من يعتق على رب المال بغير إذنه لم يلزم رب المال لأن القصد بالقراض شراء ما يربح فيه وذلك لا يوجد في شراء من يعتق عليه وإن كان رب المال امرأة فاشترى العامل زوجها بغير إذنها ففيه وجهان: أحدهما لا يلزمها لأن المقصود شراء ما تنتفع به وشراء الزوج تستضر به لأن النكاح ينفسخ وتسقط نفقتها واستمتاعها والثاني يلزمها لأن المقصود بالقراض شراء ما يربح فيه والزوج كغيره في الربح فلزمها شراؤه.

(2/230)


فصل: ولايسافر بالمال من غبر إذن رب المال لأنه مأمور بالنظر والاحتياط وليس في السفر احتياط لأن فيه تغريراً بالمال ولهذا يروى أن المسافر ومتاعه لعلى قلت فإن أذن له في السفر فقد قال في موضع له أن ينفق من مال القراض وقال في موضع آخر لا نفقة له فمن أصحابنا من قال: لا نفقة له قولاً واحداً لأن نفقته على نفسه فلم تلزم من مال القراض كنفقة الإقامة وتأول قوله على ما يحتاج إليه لنقل المتاع وما يحتاج إليه مال القراض ومنهم من قال فيه قولان: أحدهما لا ينفق لما ذكرناه والثاني ينفق لأن سفره لأجل المال فكان نفقته منه كأجرة الحمال فإن قلنا ينفق من مال القراض ففي قدره وجهان: أحدهما جميع ما يحتاج إليه لأن من لزمه نفقة غيره لزمه جميع نفقته والثاني ما يزيد على نفقة الحضر لأن النفقة إنما لزمته لأجل السفر فلم يلزمه إلا ما زاد بالسفر.
فصل: وإن ظهر في المال ربح ففيه قولان: أحدهما أن الجميع لرب المال فلا يملك العامل حصته بالربح إلا بالقسمة لأنه لو ملك حصته من الربح لصار شريكاً لرب المال حتى إذا هلك شيء كان هالكاً من المالين فلم يجعل التالف من المالين دل على أنه لم يملك منه شيئاً والثاني أن العامل يملك حصته من الربح لأنه أحد المتقارضين فملك حصته من الربح بالظهور كرب المال.
فصل: وإن طلب أحد المتقارضين قسمة الربح قبل المفاصلة فامتنع الآخر لم يجبر لأنه إن امتنع رب المال لم يجز إجباره لأنه يقول الربح وقاية لرأس المال فلا أعطيك حتى تسلم لي رأس المال وإن كان الذي امتنع هو العام لم يجز إجباره لأنه يقول لا نأمن أن نخسر فنحتاج أن نرد ما أخذه وإن تقاسما جاز لأن المنع لحقهما وقد رضيا فإن حصل بعد القسمة خسر إن لزم العامل أن يجبره بما أخذ لأنه لا يستحق الربح إلا بعد تسليمه رأس المال.
فصل: وإن اشترى العامل من يعتق عليه فإن لم يكن في المال ربح لزم الشراء في مال القراض لأنه لا ضرر فيه على رب المال فإن ظهر بعدما اشتراه ربح فإن قلنا إنه لا يملك حصته قبل القسمة لم يعتق وإن قلنا أنه يملك بالظهور فهل يعتق بقدر بحصته؟ فيه وجهان: أحدهما أنه يعتق منه بقدر حصته لأنه ملكه فعتق والثاني لا يعتق لأن ملكه غير مستقر لأنه ربما تلف بعض المال فلزمه جبرانه بماله وإن اشترى وفي الحال ربح فإن قلنا إنه لا يعتق عليه صح الشراء لأنه لا ضرر فيه على رب المال وإن قلنا يعتق لم يصح الشراء لأن المقصود بالقراض شراء ما يربح فيه وهذا لا يوجد فيمن يعتق به.
فصل: والعامل أمين فيما في يده فإن تلف المال في يده من غير تفريط لم يضمن

(2/231)


لأنه نائب عن رب المال في التصرف فلم يضمن من غير تفريط كالمودع فإن دفع إليه ألفاً فاشترى عبداً في الذمة ثم تلف الألف قبل أن ينقده في ثمن العبد انفسخ القراض لأنه تلف رأس المال بعينه وفي الثمن وجهان: أحدهما أنه على رب المال لأنه اشتراه له فكان الثمن عليه كما لو اشترى الوكيل في الذمة ما وكل في شرائه فتلف الثمن في يده قبل أن ينقذه والثاني أن الثمن على العامل لأن رب المال لم يأذن له في التجارة إلا في رأس المال فلم يلزمه ما زاد وإن دفع إليه ألفين فاشترى بهما عبدين ثم تلف أحدهما ففيه وجهان: أحدهما يتلف من رأس المال وينفسخ فيه القراض لأنه بدل عن رأس المال فكان هلاكه كهلاكه والثاني أنه يتلف من الربح لأنه تصرف في المال فكان في القراض وإن قارضه رجلان على مالين فاشترى لكل واحد منهما جارية ثم أشكلتا عليه ففيه قولان: أحدهما تباعان فإن لم يكن فيهما ربح قسم بين ربي المال وإن كان فيهما ربح شاركهما العامل في الربح وإن كان فيهما خسران ضمن العامل ذلك لأنه حصل بتفريطه والقول الثاني أن الجاريتين للعامل ويلزمه قيمتهما لأنه تعذر ردهما بتفريطه فلزمه ضمانهما كما لو أتلفهما.
فصل: ويجوز لكل واحد منهما أن يفسخ إذا شاء لأنه تصرف في مال الغير بإذنه فملك كل واحد منهما فسخه كالوديعة والوكالة فإن فسخ العقد والمال من غير جنس رأس المال وتقاسماه جاز وإن باعاه جاز لأن الحق لهما وإن طلب العامل البيع وامتنع رب المال أجبر لأن حق العامل في الربح وذلك لا يحصل إلا بالبيع فإن قال رب المال أنا أعطيك مالك فيه الربح وامتنع العامل فإن قلنا إنه ملك حصته من الربح بالظهور لم يجبر على أخذه كما لو كان بينهما مال مشترك وبذل أحدهما للآخر عوض حقه وإن قلنا لا يملك ففيه وجهان بناء على القولين في العبد الجاني إذا امتنع المولى عن بيعه وضمن للمجني عليه قيمته أحدهما لا يجبر على بيعه لأن البيع لحقه وقد بذل له حقه والثاني أنه يجبر لأنه ربما زاد مزايد ورغب راغب فزاد في قيمته وإن طلب رب المال البيع وامتنع العامل أجبر على بيعه لأن حق رب المال في رأس المال ولا يحصل ذلك إلا بالبيع فإن قال العامل أنا أترك حقي ولا أبيع فإن قلنا إن العامل يملك حصته بالظهور لم يقبل منه لأنه يريد أن يهب حقه وقول الهبات لا يجب وإن قلنا إنه لا يملك بالظهور ففيه وجهان: أحدهما لا يجبر على بيعه لأن البيع لحقه وقد تركه فسقط والثاني يجبر لأن البيع لحقه ولحق رب المال في رأس ماله فإذا رضي بترك حقه لم يرض رب المال بترك رأس ماله وإن فسخ العقد وهناك دين وجب على العامل أن يتقاضاه لأنه دخل في العقد على أن يرد رأس المال فوجب أن يتقاضاه ليرده

(2/232)


فصل: وإن مات أحدهما أو جن انفسخ لأنه عقد جائز فبطل بالموت والجنون كالوديعة والوكالة وإن مات رب المال أو جن وأراد الوارث أو الولي أن يعقد القراض والمال عرض فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق يجوز لأنه ليس بابتداء قراض وإنما هو بناء على مال القراض فجاز ومنهم من قال لا يجوز وهو الصحيح لأن القراض قد بطل بالموت وهذا ابتداء قراض على غرض فلم يجز.
فصل: وإن قارض في مرضه على ربح أكثر من أجرة المثل ومات اعتبر الربح من رأس المال لأن الذي يعتبر من الثلث ما يخرجه من ماله والربح ليس من ماله وإنما يحصل بكسب العامل فلم يعتبر من الثلث وإن مات وعليه دين قدم العامل على الغرماء لأن حقه يتعلق بعين المال فقدم على الغرماء.
فصل: وإن قارض قراضاً فاسداً وتصرف العامل نفذ تصرفه لأن العقد بطل وبقي الإذن فملك به التصرف فغن حصل في المال ربح لم يستحق العامل منه شيئاً لأن الربح يستحقه بالقراض وقد بطل القراض فاما أجرة المثل فإنه ينظر فيه فإن لم يرض إلا بربح استحق لأنه لم يرض أن يعمل إلا بعوض فإذا لم يسلم له رجع إلى أجرة المثل وإن رضي من غير ربح بأن قارضه على أن الربح كله لرب المال ففي الأجرة وجهان: أحدهما لا يستحق وهو قول المزني لأنه رضي أن يعمل من غير عوض فصار كالمتطوع بالعمل من غير قراض والثاني أنه يستحق وهو قول أبي العباس لأن العمل في القراض يقتضي العوض فلا يسقط بإسقاطه كالوطء في النكاح وإن كان له على رجل دين فقال إقبض ملي عليك فعزل الرجل ذلك وقارضه عليه لم يصح القراض لأنه قبضه له من نفسه لا يصح فإذا قارضه عليه فقد قارضه على مال لا يملكه فلم يصح فإن اشترى العامل شيئاً في الذمة ونقد في ثمنه ما عزله لرب المال وربح ففيه قولان: أحدهما أن ما اشتراه مع الربح لرب المال لأنه اشتراه له بإذنه ونقد فيه الثمن بإذنه وبرئت ذمته من الدين لأنه سلمه إلى من اشترى منه بإذنه ويرجع العامل بأجرة المثل لأنه عمل ليسلم له الربح ولم يسلم فرجع إلى أجرة عمله والثاني أن الذي اشتراه مع الربح له لا حق لرب المال فيه لأن رب المال عقد القراض على مال لا يملكه فلم يقع الشراء له.
فصل: وإن اختلف العامل ورب المال في تلف المال فادعاه العامل وأنكره رب المال أو في الخيانة فادعاها رب المال وأنكر العامل فالقول قول العامل لأنه أمين والأصل عدم الخيانة فكان القول قوله كالمودع.
فصل: فإن اختلفا في رد المال فادعاه العامل وأنكره رب المال ففيه وجهان:

(2/233)


أحدهما لا يقبل قوله لأنه قبض العين لمنفعته فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير والثاني يقبل قوله لأن معظم منفعته لرب المال لأن الجميع له إلا السهم الذي جعله للعامل فقبل قوله عليه في الرد كالمودع.
فصل: فإن اختلفا في قدر الربح المشروط فادعى العامل أنه النصف وادعى رب المال أنه الثلث تحالفا لأنهما اختلفا في عوض مشروط في العقدة فتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن فإن حلفا صار الربح كله لرب المال ويرجع العامل بأجرة المثل لأنه لم يسلم له المسمى فرجع ببدل عمله.
فصل: وإن اختلفا في قدر رأس المال فقال رب المال ألفان وقال العامل ألف فإن لم يكن في المال ربح فالقول قول العامل لأن الأصل عدم القبض فلا يلزمه إلا ما أقر به وإن كان في المال ربح ففيه وجهان: أحدهما أن القول قول العامل لما ذكرناه والثاني أنهما يتحالفان لأنهما اختلفا فيما يستحقان من الربح فتحالفا كما لو اختلفا في قدر الربح المشروط والصحيح هو الأول لأن الاختلاف في الربح المشروط اختلاف في صفة العقد فتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن وهذا اختلاف فيما قبض فكان الظاهر مع الذي ينكر كالمتبايعين إذا اختلفا في قبض الثمن فإن القول قول البائع.
فصل: وإن كان في المال عبد فقال رب المال اشتريته للقراض وقال العامل اشتريته لنفسي أو قال رب المال اشتريته لنفسك وقال العامل اشتريته للقراض فالقول قول العامل لأنه قد يشتري لنفسه وقد يشتريه للقراض ولا يتميز أحدهما عن الآخر إلا بالنية فوجب الرجوع إليه فإن أقام رب المال البينة أنه اشتراه بمال القراض ففيه وجهان: أحدهما أنه يحكم بالبينة لأنه لا يشتري بمال القراض إلا للقراض والثاني أنه لا يحكم بها لأنه يجوز أن يشتري لنفسه بمال القراض على ووجه التعدي فلا يكون للقراض لبطلان البيع.
فصل: وإن كان في يده عبد فقال رب المال كنت نهيتك عن شرائه وأنكر العامل فالقول قول العامل لأن الأصل عدم النهي ولأن هذا دعوى خيانة والعامل أمين فكان القول فيهما قوله.
فصل: وإن قال ربحت في المال ألفاً ثم ادعى أنه غلط فيه أو أظهر ذلك خوفاً من نزع المال من يده لم يقبل قوله لأن هذا رجوع عن الإقرار بالمال لغيره فلم يقبل كما لو أقر لرجل بمال ثم ادعى أنه غلط فإن قال قد كان فيه ربح ولكنه هلك قبل قوله لأن دعوى التلف بعد الإقرار لا تكذب إقراره فقبل.

(2/234)


باب العبد المأذون له في التجارة
لا يجوز للعبد أن يتجر بغير إذن المولى لأن منافعه مستحقة له فلا يملك التصرف فيها بغير إذنه فإن رآه يتجر فسكت لم يصر مأذوناً لأنه تصرف يفتقر إلى الإذن فلم يكن السكوت إذناً فيه كبيع مال الأجنبي فإن اشترى شيئاً في الذمة فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو سعيد الاصطخري وأبو إسحاق لا يصح لأنه عقد معاوضة فلم يصح من العبد بغير إذن المولى كالنكاح وقال أبو علي بن أبي هريرة يصح لأنه محجور عليه لحق غيره فصح شراؤه في الذمة كالمفلس ويخالف النكاح فإنه تنقص به قيمته ويستضر به المولى فلم يصح من غير إذنه فإن قلنا إنه يصح دخل المبيع في ملك المولى لأنه كسب للعبد فكان للمولى كما لو احتشم أو اصطاد ويثبت الثمن في ذمته لأن إطلاق البيع يقتضي إيجاب الثمن في الذمة فإن علم البائع برقه لم يطالبه حتى يعتق لأنه رضي بذمته فلزمه الصبر إلى أن يقدر كما نقول فيمن باع من رجل ثم أفلس بالثمن وإن قلنا إن الشراء باطل وجب رد المبيع لأنه مقبوض عن بيع فاسد فإن تلف في يد العبد أتبع بقيمته إذا أعتق لأنه رضي بذمته وإن تلف في يد السيد جاز له مطالبة المولى في الحال ومطالبة العبد إذا عتق لأنه ثبتت يد كل واحد منهما عليه بغير حق.
فصل: وإن أذن له في التجارة صح تصرفه لأن الحجر عليه الحق المولى وقد زال وما يكتسبه للمولى لأنه إن دفع إليه مالاً فاشترى به كان المشتري عوض ماله فكان له وإن أذن له في الشراء في الذمة كان المشتري من أكسابه لأنه تناوله الإذن فإن لم يكن في يده شيء اتبع به إذا عتق لأنه دين لزمه برضى من له الحق فتعلق بذمته ولا تباع فيه رقبته لأن المولى لم يأذن له في رقبته فلم يقض منها دينه.
فصل: ولا يتجر إلا فيما أذن به لأن تصرفه بالإذن فلا يملك إلا ما دخل فيه فإن أذن له في التجارة لم يملك الإجارة ومن أصحابنا من قال يملك إجارة ما يشتريه للتجارة لأنه من فوائد المال فملك العقد عليه كالصوف واللبن والمذهب الأول لأن المأذون فيه هو التجارة والإجارة ليست من التجارة فلم يملك بالإذن من التجارة.
فصل: ولا يبيع بنسيئة ولا بدون ثمن المثل لأن إطلاق الإذن يحمل على العرف والعرف فيه هو البيع بالنقد وثمن المثل ولأنه يتصرف في حق غيره فلا يملك إلا ما فيه النظر والاحتياط وليس فيما ذكرناه نظر ولا احتياط فلا يملك ولا يسافر بالمال لأن فيه تغريرا

(2/235)


بالمال، فلا يملك من غير إذن وإن اشترى من يعتق على مولاه بغير إذن ففيه قولان: أحدهما أنه لا يصح وهو الصحيح لأن الإذن في التجارة يقتضي ما ينتفع به ويربح فيه وهذا لا يوجد فيمن يعتق عليه والثاني أنه يصح لأن العبد لا يصح منه الشراء لنفسه فإذا أذن له فقد أقامه مقام نفسه فوجب أن يملك جميع ما يملك فإن قلنا يصح فإن لم يكن عليه دين عتق وإن كان عليه دين ففيه قولان: أحدهما يعتق لأنه ملكه والثاني لا يعتق لأن حقوق الغرماء تعلقت به فإن اشتراه بإذنه صح الشراء فإن لم يكن عليه دين عتق عليه وإن كان عليه دين فعلى القولين ومتى صح العتق لزمه أن يغرم قيمته للغرماء لأنه أسقط حقه منهم بالعتق.
فصل: وإذا اكتسب العبد مالاً بأن احتش أو اصطاد أو عمل في معدن فأخذ منه مالاً أو ابتاع أو اتهب أو أوصى له بمال فقبل دخل ذلك في ملك المولى لأنها اكتساب ماله فكانت له فإن ملكه مالاً ففيه قولان: قال في القديم يملكه لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع1" ولأنه يملك البضع فملك المال كالحر وقال في الجديد: لا يملك لأنه سبب يملك به المال فلا يملك به العبد كالإرث فإن ملكه جارية وأذن له في وطئها ملك وطئها في قوله القديم ولا يملك في الجديد وإن ملكه نصاباً لم يجب زكاته على المولى في قوله القديم ويجب في الجديد فإن وجب كفارة عليه كفر بالطعام والكسوة في قوله القديم وكفر بالصوم في قوله الجديد وأما العتق فلا يكفر به على القولين لأن العتق يتضمن الولاء والعبد ليس من أهل الولاء وإن باعه وشرط المبتاع ماله جاز في قوله القديم أن يكون المال مجهولاً لأنه تابع ولا يجوز في الجديد لأنه غير تابع والله أعلم.
__________
1 رواه البخاري في كتاب المساقاة باب 17. مسلم في كتاب البيوع حديث 78. أبو داود في كتاب البيوع 42. الموطأ في كتاب البيوع حديث 2.أحمد في مسنده "2/9،78".

(2/236)