الوسيط في المذهب

= كتاب مُوجبَات الضمانات =
وَالنَّظَر فِي ضَمَان الْوُلَاة وَضَمان الصَّائِل وَضَمان مَا أتْلفه الْبَهَائِم فنعقد فِي كل وَاحِد بَابا

(6/517)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب الأول فِي ضَمَان الْوُلَاة - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَالنَّظَر فِي مُوجب الضَّمَان وَمحله
أما الْمُوجب فالصادر عَن الإِمَام إِمَّا تَعْزِير وَإِمَّا حد أَو استصلاح
أما التَّعْزِير فمهما سرى وَجب الضَّمَان وَتبين خُرُوجه عَن الْمَشْرُوع إِذْ الْمَشْرُوع مَا لَا يهْلك وَهُوَ مَنُوط بِالِاجْتِهَادِ ومشروط بسلامة الْعَاقِبَة فَيجب الضَّمَان على كل معزر إِذا لم تسلم الْعَاقِبَة
وَأما الْحُدُود فَهِيَ مقدرَة فِيمَا عدا الشّرْب فَإِذا اقْتصر فَمَاتَ قُلْنَا الْحق قَتله أما إِذا مَال عَن الْمَشْرُوع فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون فِي وَقت أَو قدر أَو جنس
فَإِن كَانَ فِي الْوَقْت بِأَن أَقَامَهُ فِي شدَّة الْحر فالنص أَنه لَا يضمن وَفِي مثله فِي الْخِتَان يضمن وَذكرنَا فِيهِ النَّقْل والتخريج فَكَأَنَّهُ يرجع حَاصِل الْخلاف إِلَى أَن التَّأْخِير مُسْتَحبّ أَو مُسْتَحقّ
أما الْجِنْس فشارب الْخمر إِذا ضرب بالنعال وأطراف الثِّيَاب قَرِيبا من أَرْبَعِينَ فَمَاتَ فَلَا ضَمَان إِلَّا على الْوَجْه الْبعيد فِي أَن ذَلِك غير جَائِز

(6/519)


وَإِن ضرب أَرْبَعِينَ فَقَوْلَانِ
أَحدهمَا لَا ضَمَان كَسَائِر الْحُدُود
وَالثَّانِي نعم لقَوْل عَليّ رَضِي الله عَنهُ إِن ذَلِك شَيْء رَأَيْنَاهُ بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا بِشَرْط أَن لَا يَصح الْخَبَر فِي جلد الْأَرْبَعين
فَإِن أَوجَبْنَا فَالصَّحِيح إِيجَاب كل الضَّمَان وَفِيه وَجه أَنه يوزع على التَّفَاوُت بَين ذَلِك وَبَين الضَّرْب بالنعال فِي الْأَلَم وَهَذَا شي لَا يَنْضَبِط وَلَا يدْرك أصلا
أما الْقدر فَهُوَ أَن يضْرب فِي حد الْقَذْف أحدا وَثَمَانِينَ فَقَوْلَانِ
أَحدهمَا أَنه يجب عَلَيْهِ من الضَّمَان جُزْء من أحد وَثَمَانِينَ
وَالثَّانِي أَنه يجب النّصْف نظرا إِلَى الْحق وَالْبَاطِل إِذْ رُبمَا أثر آلام السِّيَاط لَا تتساوى
أما إِذا ضرب فِي الشّرْب ثَمَانِينَ ضمن الشّطْر لِأَنَّهُ زَاد عَن الْمَشْرُوع مثله فَلَو أَمر

(6/520)


الجلاد بِثَمَانِينَ فَزَاد وَاحِدًا اجْتمع من الْأُصُول ثَلَاثَة أوجه
أَحدهمَا أَنه يسْقط من الضَّمَان أَرْبَعُونَ من وَاحِد وَثَمَانِينَ وَيجب أَرْبَعُونَ على الإِمَام وَوَاحِد على الجلاد
وَالثَّانِي أَنه يجب فِي مُقَابلَة الْبَاطِل نصف موزع على الإِمَام والجلاد بِالسَّوِيَّةِ
وَالثَّالِث أَنه يَجْعَل الضَّمَان أَثلَاثًا فَيسْقط ثلثه وَيجب على الإِمَام ثلثه وعَلى الجلاد ثلثه
أما الإستصلاح فَهُوَ إِمَّا بِقطع سلْعَة أَو بالختان
أما السّلْعَة فللعاقل أَن يقطها من نَفسه إِن لم يكن فِيهِ خوف فَإِن كَانَ مخوفا لم يجز لإِزَالَة الشين وَهل يجوز للخوف على الْبَقِيَّة فِيهِ ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا لَا لِأَن الْخَوْف مَوْجُود فِي التّرْك وَالْقطع فَلَا فَائِدَة فِي الْقطع
وَالثَّانِي الْجَوَاز إِذْ الْخَوْف متساو فإليه الْخيرَة

(6/521)


وَالثَّالِث أَن الْقطع إِن كَانَ أسلم فِي الظَّن الْغَالِب جَازَ وَإِن اعتدل الْخَوْف فَلَا وَكَذَلِكَ الْخلاف فِي الْيَد المتآكلة
أما من بِهِ ألم لَا يطيقه فَلَيْسَ لَهُ أَن يهْلك نَفسه فَإِن كَانَ الْمَوْت مَعْلُوما مثل الْوَاقِع فِي نَار لَا ينجو مِنْهَا قطعا وَهُوَ قَادر على إغراق نَفسه وَهُوَ أَهْون عَلَيْهِ اخْتلف فِيهِ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد رحمهمَا الله وَالأَصَح أَنه لَهُ أَن يغرق نَفسه
رَجعْنَا إِلَى الْوَالِي وَالْوَلِيّ وَلَيْسَ لَهما ذَلِك فِي حق الْعَاقِل الْبَالِغ إجبارا بل الْخيرَة إِلَى الْعَاقِل فَإِن فعلوا وَجب الْقصاص
أما الْمولي عَلَيْهِ بالصغر وَالْجُنُون فللأب أَن يتعاطى فيهم مَا يتعاطى الْعَاقِل فِي نَفسه لإِزَالَة الشين وَالْخَوْف
أما السُّلْطَان فَلهُ ذَلِك حَيْثُ لَا خوف وَيكون قطعه كالفصد والحجامة وَهُوَ جَائِز لَهُ وَإِن كَانَ فِي الْقطع خطر فَلَيْسَ للسُّلْطَان ذَلِك كَمَا لَيْسَ لَهُ الْإِجْبَار على النِّكَاح لِأَن مثل هَذَا الْخطر يَسْتَدْعِي نظرا دَقِيقًا وشفقة طبيعية وَلَيْسَ للسُّلْطَان ذَلِك فَإِن فعل حَيْثُ لم نجوز فَتجب الدِّيَة وَفِي الْقود قَولَانِ وَوجه الْإِسْقَاط الشُّبْهَة إِذْ هَذَا مِمَّا تَقْتَضِيه ولَايَة الْأَب وَإِن لم تكن تَقْتَضِيه ولَايَته ثمَّ الصَّحِيح أَن الدِّيَة فِي خَاص مَاله وَإِن سقط الْقود لِأَنَّهُ عمد مَحْض وَحَيْثُ جَوَّزنَا للْأَب وَالسُّلْطَان ذَلِك فسرى قَالَ القَاضِي وَجب الضَّمَان كالتعزير لِأَنَّهُ غير مضبوط وَإِنَّمَا جَوَّزنَا بِالِاجْتِهَادِ وَالصَّحِيح مَا قَالَه الْأَصْحَاب وَهُوَ سُقُوط

(6/522)


الضَّمَان لِأَن الْجرْح فِيهِ خطر وَقد جوز مَعَ الْخطر وَإِنَّمَا جوز من التَّعْزِير مَالا خطر فِيهِ وَكَيف يتَعَرَّض الْوَلِيّ لضمان سرَايَة الفصد والحجامة وَذَلِكَ يزجره عَن فعله ويضر بِالصَّبِيِّ نعم يتَّجه ذَلِك فِي الْخِتَان بعض الإتجاه فَإِنَّهُ لَيْسَ على الْفَوْر وَلَا فِيهِ خوف وَالصَّحِيح أَيْضا أَنه لَا ضَمَان
أما الْخِتَان فمستحق عِنْد الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ فِي الرِّجَال وَالنِّسَاء لِأَنَّهُ جَائِز مَعَ أَنه جرح مخطر فَيدل على وُجُوبه وَالْوَاجِب فِي الرِّجَال قطع مَا يغشى الْحَشَفَة وَفِي النِّسَاء مَا ينْطَلق عَلَيْهِ الِاسْم
ثمَّ أول وُجُوبه بِالْبُلُوغِ وَلَيْسَ يجب على الصَّبِي بِخِلَاف الغدة إِذْ تَنْقَضِي من غير فعل والاولى أَن يُبَادر الْوَلِيّ فِي الصَّبِي لسُهُولَة ذَلِك عِنْد سخافة الْجلد فَإِن بلغ وَامْتنع استوفى السُّلْطَان قهرا فَلَا ضَمَان إِذْ وَجب اسْتِيفَاؤهُ إِلَّا أَن يفعل فِي شدَّة الْحر فَإِن النَّص أَنه يضمن وَفِيه تَخْرِيج سبق

(6/523)


النّظر الثَّانِي فِي مَحَله

وَالْإِمَام كَسَائِر النَّاس فِيمَا يتعاطاه لَا فِي معرض الحكم أَو فِي معرض الحكم على خلاف الشَّرْع عمدا أما إِذا بذل الْمُمكن فِي الِاجْتِهَاد فَأَخْطَأَ فَفِي الضَّمَان قَولَانِ
أَحدهمَا أَنه كَسَائِر النَّاس يجب عَلَيْهِ أَو على عَاقِلَته
وَالثَّانِي أَنه فِي بَيت المَال لِأَن الوقائع تكْثر وَهُوَ معرض للخطأ فَكيف يستهلك مَاله وعَلى هَذَا فَفِي الْكَفَّارَة وَجْهَان لِأَنَّهَا من جنس الْعِبَادَات فتبعد عَن التَّحَمُّل وَيجْرِي الْقَوْلَانِ فِيمَا لَو ضرب فِي الشّرْب ثَمَانِينَ وَقُلْنَا لَهُ ذَلِك وَلَا يجْرِي إِذا أَقَامَ الْحَد على حَامِل مَعَ الْعلم فَإِنَّهُ مقصر والغرة على عَاقِلَته قطعا وَكَذَلِكَ إِذا قضى بقول عَبْدَيْنِ أَو كَافِرين أَو صبيين وَقصر فِي الْبَحْث فَإِن بحث فَأَخْطَأَ جرى فِيهِ الْقَوْلَانِ إِلَّا أَنه يُمكن الرُّجُوع على الشُّهُود لأَنهم تصدوا لما لَيْسُوا أَهلا لَهُ وَمِنْهُم من قَالَ لَا رُجُوع لأَنهم صدقُوا أَو أصروا وَلَيْسَ القَاضِي كالمغرور إِذْ الْمَغْرُور غير مَأْمُور بالبحث وَهُوَ مَأْمُور بِهِ

(6/524)


فَإِن قُلْنَا يرجع فَفِي تعلقه بِرَقَبَة الْعَبْدَيْنِ أَو لُزُومه فِي ذمتهما خلاف وَفِي الرُّجُوع على الْمُرَاهق نظر لِأَن قَوْله بعيد أَن يعْتَبر الْإِلْزَام وَلَكِن يُمكن أَن يَجْعَل كجناية حسية وَلذَلِك تعلق بِرَقَبَة العَبْد على رَأْي
فَإِن كَانَا فاسقين ورأينا نقض الحكم بِظُهُور الْفسق بعد الْقَضَاء فَفِي الرُّجُوع عَلَيْهِم ثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا أَنه يجب كالعبدين
وَالثَّانِي لَا لِأَنَّهُمَا من أهل الشَّهَادَة على الْجُمْلَة
وَالثَّالِث أَنه يرجع على المجاهر دون المكاتم فَإِن عَلَيْهِ ستر الْفسق بِخِلَاف الرّقّ فَإِنَّهُ لَا يستر
أما الجلاد فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كيد الإِمَام وسيفه وَلَو ضمن لم يرغب أحد فِيهِ وَكَذَا الْحجام إِذا قطع سلْعَة بِالْإِذْنِ فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ مهما كَانَ الْقطع مُبَاحا أما إِذا قطع يدا صَحِيحَة بِالْإِذْنِ فَفِي الضَّمَان خلاف لِأَن الْمُسْتَحق أسقط

(6/525)


حَقه وَلكنه مرحم
وَلَو قتل حر عبدا وَأمر الإِمَام بقتْله والجلاد شفعوي فَفِيهِ وَجْهَان ينظر فِي أَحدهمَا إِلَى اعْتِقَاد الجلاد وَفِي الثَّانِي إِلَى اجْتِهَاد الإِمَام
وَكَذَا الْخلاف فِيمَا لَو كَانَ الإِمَام شفعويا فَأَخْطَأَ بذلك والجلاد حَنَفِيّ فالنظر إِلَى جَانب الإِمَام يُوجب الْقصاص على الجلاد

(6/526)


وكل هَذَا إِذا كَانَ للجلاد محيص عَن الْفِعْل فَإِن لم يكن فَهُوَ كالمكره على رَأْي وَقد ذَكرْنَاهُ

(6/527)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب الثَّانِي فِي دفع الصَّائِل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَالنَّظَر فِي
الْمَدْفُوع والمدفوع عَنهُ وَكَيْفِيَّة الدّفع
أما الْمَدْفُوع فَلَا تَفْصِيل فِيهِ عندنَا بل كل مَا يخَاف الْهَلَاك مِنْهُ يُبَاح دَفعه وَلَا ضَمَان فِيهِ لِأَنَّهُ مُسْتَحقّ الدّفع يَسْتَوِي فِيهِ الْمُسلم وَالْكَافِر وَالصَّبِيّ وَالْمَجْنُون والبهيمة وَقَالَ أَبُو حنيفَة رَحمَه الله لَا يجب ضَمَان الْبَالِغ وَيجب ضَمَان الْبَهِيمَة الصائلة وَله فِي الصَّبِي وَالْمَجْنُون تردد
وَاخْتلف الْأَصْحَاب فِي مَسْأَلَتَيْنِ
إِحْدَاهمَا جرة تدهورت من سطح أَو جِدَار مطل على رَأس إِنْسَان فَدَفعهَا فَكَسرهَا فَمن نَاظر إِلَى أَنه مُسْتَحقّ الدّفع وَمن نَاظر إِلَى أَنه لَا اخْتِيَار لَهَا حَتَّى يُحَال عَلَيْهَا فَصَارَ كالمضطر فِي المخمصة إِلَى طَعَام الْغَيْر فَإِنَّهُ يَأْكُل وَيضمن

(6/528)


الثَّانِيَة إِذا اضْطر إِلَى طَعَام فِي بَيته وعَلى بَابه بَهِيمَة صائلة لَا تنْدَفع إِلَّا بِالْقَتْلِ فَهُوَ مردد بَين ضَرُورَة المخمصة والصيال فَفِيهِ وَجْهَان
وَهَذَا حكم جَوَاز الدّفع
أما جَوَاز الإستسلام فَينْظر إِن كَانَ الصَّائِل بَهِيمَة أَو ذِمِّيا لم يجز وَوَجَب الدّفع إِذْ عهد الذِّمِّيّ ينْتَقض بصياله وَإِن كَانَ مُسلما محقونا فَقَوْلَانِ
أَحدهمَا الْجَوَاز لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِحُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ فِي وصف الْفِتَن
كن عبد الله الْمَقْتُول وَلَا تكن عبد الله الْقَاتِل
وَالثَّانِي الْمَنْع لِأَن الصَّائِل لَا حُرْمَة لَهُ لظلمه والمصول عَلَيْهِ مُحْتَرم وَإِنَّمَا يُؤمر بترك الْقَتْل فِي الْفِتْنَة خوفًا من إثارة الْفِتْنَة

(6/529)


نعم يجوز للمضطرين فِي المخمصة الإيثار لِأَن الْحُرْمَة شَامِلَة للْجَمِيع
وَأما الصَّبِي وَالْمَجْنُون فَمنهمْ من ألحقهما بالبهيمة وَمِنْهُم من طرد الْقَوْلَيْنِ وَوجه الْقطع بِالْمَنْعِ أَن قتل الصَّبِي يجب مَنعه على الْمُكَلف إِذا قدر كَيْلا يبوء بالإثم لِأَنَّهُ صُورَة ظلم
أما الْمَدْفُوع عَنهُ فَلهُ ثَلَاث مَرَاتِب
الأولى مَا يَخُصُّهُ وَهُوَ كل حق مَعْصُوم من نفس وبضع وَمَال وَإِن قل حَتَّى يهدر الدَّم فِي الدّفع عَن دِرْهَم وَحكي عَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ قَول قديم أَنه لَا يدْفع عَن المَال بِالْقَتْلِ وَهُوَ غَرِيب
الثَّانِيَة مَا يخص الْغَيْر وَهُوَ يقدر على دَفعه مِنْهُم من طرد الْقَوْلَيْنِ فِي وجوب الدّفع وَمِنْهُم من قطع بِالْوُجُوب إِذْ لَا مدْخل للإيثار هَاهُنَا وَهُوَ حق الْغَيْر وَمن الْأُصُولِيِّينَ من قطع بِالْمَنْعِ وَقَالَ لَيْسَ شهر السِّلَاح فِي مثل ذَلِك إِلَى الْآحَاد بل إِلَى السُّلْطَان لِأَنَّهُ يُحَرك الْفِتَن
الثَّالِثَة مَا يتَعَلَّق بمحض حق الله تَعَالَى كشرب الْخمر فَظَاهر رَأْي الْفُقَهَاء

(6/530)


وجوب الدّفع بِسَبَب الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَلَو بِالسِّلَاحِ وَمِنْهُم من منع ذَلِك إِلَّا للسُّلْطَان خوفًا من الْفِتْنَة وَذكرنَا فِي ذَلِك تَفْصِيلًا طَويلا فِي كتاب الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ من كتب إحْيَاء عُلُوم الدّين
أما كَيْفيَّة الدّفع فَيجب فِيهِ التدريج فَإِن انْدفع بالْكلَام لم يضْرب أَو بِالضَّرْبِ لم يجرح أَو بِالْجرْحِ لم يقتل وَإِذا انْدفع لم يتبع
وَلَو رأى من يَزْنِي بِامْرَأَة فَلهُ دَفعه إِن أَبى وَلَو بِالْقَتْلِ فَإِن هرب فَاتبعهُ وَقَتله وَجب الْقصاص عَلَيْهِ إِن لم يكن مُحصنا فَإِن كَانَ مُحصنا فَلَا قصاص لِأَنَّهُ مُسْتَحقّ الْقَتْل وَإِن لم يكن للآحاد قَتله وَكَذَا من استبد بِقطع يَد السَّارِق فَلَا قصاص وَلَكِن لَا بُد من إِقَامَة بَيِّنَة عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يسمع مُجَرّد دَعْوَاهُ للزِّنَا وَالسَّرِقَة
وتبنى على هَذِه الْقَاعِدَة مسَائِل
الأولى لَو قدر المصول عَلَيْهِ على الْهَرَب فَالظَّاهِر أَنه لَيْسَ لَهُ الدّفع وَمِنْهُم من جوز وَكَأن الْموضع حَقه فَلَا يلْزمه الْهَرَب
وَلَو كَانَ الصَّائِل ينْدَفع بِسَوْط لَكِن لَيْسَ فِي يَد المصول عَلَيْهِ إِلَّا مَا لَو ضرب بِهِ لجرح فَالظَّاهِر جَوَاز الضَّرْب لِأَن الْمُعْتَبر حَاجته وَهُوَ لَا يقدر على غَيره وَلذَلِك نقُول الحاذق الَّذِي يقدر على الدّفع بأطراف السَّيْف من غير جرح يضمن إِن جرح والأخرق الَّذِي يعجز عَنهُ لَا يضمن
الثَّانِيَة لَو عض يَد إِنْسَان فَلهُ أَن يسل يَده فَإِن ندرت أَسْنَانه فَلَا ضَمَان

(6/531)


وَإِن لم يقدر على السل فَلهُ أَن يضع السكين فِي بَطْنه ويعصر أنثييه وَقيل لَا يجوز إِلَّا أَن يقْصد الْعُضْو الْجَانِي ليندفع وَهُوَ بعيد
الثَّالِثَة إِذا نظر إِلَى حرم إِنْسَان من صير الْبَاب وكوة الدَّار عمدا فَلهُ أَن يقْصد عَيْنَيْهِ بحصاة أَو مَدَرَة من غير تَقْدِيم إنذار فَلَو أعماه الرَّمْي فَلَا ضَمَان وَهَذَا على خلاف تدريج الدّفع وَلَكِن نظر رجل إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجرته من صير بَابه وَكَانَ بِيَدِهِ عَلَيْهِ السَّلَام مدرى يحك بِهِ رَأسه فَقَالَ
لَو علمت أَنَّك تنظرني لطعنت بهَا عَيْنَيْك
وَقَالَ القَاضِي لَا بُد من تَقْدِيم الْإِنْذَار على الْقيَاس والْحَدِيث مَحْمُول على أَنه لَو أصر على النّظر فَلم ينْدَفع بالإنذار وَهَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة رَحمَه الله
وَعكس صَاحب التَّقْرِيب وَقَالَ يسْتَدلّ بِهَذَا على أَن الدّفع جَائِز ابْتِدَاء من غير إنذار ويتأيد ذَلِك بقولنَا إِنَّه يجوز قتل الْمُرْتَد بَغْتَة من غير إمهال وإنذار وَالْمذهب الْفرق لأجل الحَدِيث وَلِأَن النّظر إِلَى الْحرم جِنَايَة تَامَّة فَإِن مَا رَآهُ وانكشف لَهُ لَا يسْتَتر باندفاعه بعده فللنظر هَذِه الخاصية لَكِن لَا خلاف أَنه بعد

(6/532)


الإندفاع لَا تقصد عينه بِالْجِنَايَةِ السَّابِقَة فَكَأَن الْمُسَلط هَذِه الخاصية مَعَ وجود الْجِنَايَة
وَالصَّحِيح أَنه لَو اسْترق السّمع من كوَّة لم تقصد أُذُنه من غير إنذار وَإِن كَانَ مَا سَمعه قد فَاتَ وَلَكِن أَمر الْكَلَام أَهْون من أَمر العورات وَفِيه وَجه أَنه يلْحق بِهِ
وَإِن كَانَ الْبَاب مَفْتُوحًا فَنظر لم يقْصد لِأَن التَّقْصِير من رب الدَّار
وَلَا فرق بَين أَن ينظر فِي الصير من ملك نَفسه أَو من الشَّارِع أَو من السَّطْح فَإِنَّهُ يقْصد
هَذَا إِذا كَانَ فِي الدَّار حرم غير متسترات فَإِن لم يكن فَثَلَاثَة أوجه
أَحدهَا الْجَوَاز للْعُمُوم وَلِأَن الْإِنْسَان قد يكون مَكْشُوف الْعَوْرَة
وَالثَّانِي الْمَنْع إِذْ أَمن الِاطِّلَاع على المستترة وعَلى الرِّجَال أسهل
وَالثَّالِث أَنه يجوز الْقَصْد إِن كَانَ فِي الدَّار حرم وَإِن كن مستترات وَإِن لم يكن إِلَّا الرِّجَال لم يجز
وَلَا خلاف أَنه إِن كَانَ للنَّاظِر حرم فِي هَذِه الدَّار فَيصير ذَلِك شُبْهَة فَلَا يقْصد
ثمَّ إِن لم تحصل الشَّرَائِط وَجب الْقصاص وَإِن حصل فرشقه بنشابة وَجب الْقصاص بل لَا يترخص إِلَّا فِي قصد الْعين بخشبة أَو مَدَرَة أَو بندقة فقد يخطىء وَقد يُصِيب وَلَا يعمي وَأما الرشق فَقتل صَرِيح فَلَا يجوز

(6/533)


- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْبَاب الثَّالِث فِيمَا تتلفه الْبَهَائِم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
وَفِيه فصلان
الْفَصْل الأول أَن لَا يكون مَعهَا مَالِكهَا

فَإِن انسرحت فِي الْمزَارِع نَهَارا فَلَا ضَمَان على مَالك الْبَهِيمَة وَإِن انسرحت لَيْلًا ضمن بذلك قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ الْعَادة حفظ الدَّوَابّ لَيْلًا من ملاكها وَحفظ الْمزَارِع نَهَارا من أَصْحَابهَا فالمتبع فِيهِ التَّقْصِير
وَلَو انعكست الْعَادة فِي مَوضِع انعكس الحكم فيهمَا للمعنى من فرق رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

(6/534)


وَفِيه وَجه أَنه لَا ينعكس لِأَن ضبط الْعَادة يعسر فَيتبع الشَّرْع كَيْفَمَا تقلبت الْعَادَات

(6/535)


فرعان

أَحدهمَا أَن الْبَهَائِم أَيْضا لَا تَخْلُو عَن الرَّاعِي نَهَارا وَلَكِن يعذرُونَ فِي الْغَفْلَة عَنْهَا إِذا سرحت بعيدَة من الْمزَارِع فَلَو سرحها فِي جوَار الْمزَارِع مَعَ اتساع المراعي فَهُوَ مقصر فَيضمن
الثَّانِي لَو سرحها لَيْلًا فَدخلت الْبَسَاتِين وأبوابها مَفْتُوحَة لم يضمن لِأَن التَّقْصِير فِي الْبُسْتَان من صَاحبه إِذْ لم يغلق الْبَاب وَالتَّقْصِير من رب الْبَهِيمَة فِي حق الْمزَارِع الضاحية

(6/536)


الْفَصْل الثَّانِي أَن يكون مَعهَا مَالِكهَا

فَيضمن مَالك الدَّابَّة مَا أتلفته بِيَدَيْهَا إِذا خبطت وبرجليها إِذا رمحت وبفيها إِذا عضت وَكَذَلِكَ كل مَا كَانَ يُمكن حفظ الدَّابَّة عَنهُ من غير انسداد رفق الطّرق
أما الضَّرَر الَّذِي ينشأ من رشاش الوحل وانتشار الْغُبَار إِلَى الْفَوَاكِه فَلَا ضَمَان إِذْ هُوَ ضَرُورَة الطّرق وَلَا يُمكن الْمَنْع مِنْهُ نعم لَو خَالف الْعَادة بالركض فِي شدَّة الوحل أَو ترك الْإِبِل فِي الْأَسْوَاق غير مقطرة أَو ركب الدَّابَّة النزقة الَّتِي لَا يركب مثلهَا إِلَّا فِي الصَّحَارِي ضمن لكَونه مقصرا فِي الْعَادة

(6/537)


فروع

الأول لَو أفلتت الدَّابَّة لَيْلًا عَن الرِّبَاط فَهُوَ كَمَا لَو غلبت صَاحبهَا وَقد ذَكرْنَاهُ فِي بَاب الاصطدام
الثَّانِي لَو تخرق ثوب إِنْسَان بحطب على دَابَّة وَهُوَ مُقَابل ومبصر ووجده منحرفا فَلَا ضَمَان وَإِن كَانَ مستدبرا أَو ناداه الْمَالِك منبها فكمثله وَإِن لم ينبهه ضمن صَاحب الدَّابَّة
الثَّالِث إِذا أَدخل الدَّابَّة مزرعة فأخرجها صَاحب المزرعة فانسرحت فِي مزرعة غَيره فَلَا ضَمَان على الْمخْرج فَإِن كَانَت مزرعة محفوفة بالزراع فَلَا يُمكن إِخْرَاجه إِلَّا بِهِ فَيضمن إِذْ عَلَيْهِ الصَّبْر ليرْجع على رب الْبَهِيمَة وَمهما كَانَ رب الدَّابَّة مقصرا وَلَكِن مَالك الزَّرْع حَاضر وقادر على التنفير فَلم يفعل فَلَا ضَمَان إِذْ هُوَ المقصر بترك التنفير فِي الْعَادة
الرَّابِع الْهِرَّة الْمَمْلُوكَة إِذا قتلت طير إِنْسَان أَو قلبت قدره فَفِي وجوب الضَّمَان على مَالِكهَا أَرْبَعَة أوجه أَحدهَا أَنه لَا ضَمَان إِذْ مَا جرت الْعَادة بربط السنانير لَيْلًا ونهار
وَالثَّانِي يجب إِذْ يُمكن شدّ الروازن وغلق الْأَبْوَاب حَتَّى لَا تخرج

(6/538)


وَالثَّالِث أَنَّهَا كالدآبة يجب حفظهَا لَيْلًا لَا نَهَارا
وَالرَّابِع بِالْعَكْسِ فَإِن الْأَطْعِمَة تصان بِاللَّيْلِ دون النَّهَار
الْخَامِس الْهِرَّة الضاربة بالطيور والإفساد أَو تنجيس الثِّيَاب قَالَ القَاضِي يجوز قَتلهَا فِي حَال سكونها لِأَنَّهَا التحقت بالفواسق فَأشبه الذِّئْب الَّذِي لَا يحل اقتناؤه وَقَالَ الْقفال لَا يحل لِأَن هَذِه ضراوة عارضة على خلاف الْجِنْس فتدفع فِي حَال الضراوة فَقَط
وَالْكَلب الضاري كالهرة والاولى تشبيهه بالذئب

(6/539)