روضة
الطالبين وعمدة المفتين ط المكتب الإسلامي بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
رَبِّ يَسِّرْ وَأَعِنْ
مُقَدِّمَةُ الْمُؤَلِّفِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، وَالْفَضْلِ وَالطَّوْلِ
وَالْمِنَنِ الْجِسَامِ، الَّذِي هَدَانَا لِلْإِسْلَامِ، وَأَسْبَغَ
عَلَيْنَا جَزِيلَ نِعَمِهِ وَأَلْطَافِهِ الْعِظَامِ، وَأَفَاضَ عَلَيْنَا
مِنْ خَزَائِنِ مُلْكِهِ أَنْوَاعًا مِنَ الْإِنْعَامِ، وَكَرَّمَ
الْآدَمِيِّينَ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنَامِ، وَجَعَلَ
فِيهِمْ قَادَةً يَدْعُونَ بِأَمْرِهِ إِلَى دَارِ السَّلَامِ، وَاجْتَبَى
مَنْ لَطَفَ بِهِ مِنْهُمْ فَجَعَلَهُمْ مِنَ الْأَمَاثِلِ وَالْأَعْلَامِ،
فَطَهَّرَهُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَدَرِ وَوَضَرِ الْآثَامِ، وَصَيَّرَهُمْ
بِفَضْلِهِ مِنْ أُولِي النُّهَى وَالْأَحْلَامِ، وَوَفَّقَهُمْ
لِلدَّوَامِ عَلَى مُرَاقَبَتِهِ وَلُزُومِ طَاعَتِهِ عَلَى تَكَرُّرِ
السِّنِينَ وَالْأَيَّامِ، وَاخْتَارَ مِنْ جَمِيعِهِمْ حَبِيبَهُ
وَخَلِيلَهُ وَعَبْدَهُ وَرَسُولَهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -، فَمَحَا بِهِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ، وَأَدْحَضَ بِهِ آثَارَ
الْكُفْرِ وَمَعَالِمَ الْأَنْصَابِ وَالْأَزْلَامِ، وَاخْتَصَّهُ
بِالْقُرْآنِ الْعَزِيزِ الْمُعْجِزِ وَجَوَامِعِ الْكَلَامِ.
فَبَيَّنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنَّاسِ مَا أُرْسِلَ
بِهِ مِنْ أُصُولِ الدِّيَانَاتِ وَالْآدَابِ، وَفُرُوعِ الْأَحْكَامِ،
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ عَلَى تَعَاقُبِ
الْأَحْوَالِ وَالْأَعْوَامِ، - صَلَّى اللَّهُ
(1/3)
وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى جَمِيعِ
الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ وَآلِ كُلٍّ وَأَتْبَاعِهِمُ الْكِرَامِ،
صَلَوَاتٍ مُتَضَاعِفَاتٍ دَائِمَاتٍ بِلَا انْفِصَامٍ.
أَحْمَدُهُ أَبْلَغَ الْحَمْدِ وَأَكْمَلَهُ وَأَعْظَمَهُ وَأَتَمَّهُ
وَأَشْمَلَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ اعْتِقَادًا
لِرُبُوبِيَّتِهِ، وَإِذْعَانًا لِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَصَمَدِيَّتِهِ،
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمُصْطَفَى مِنْ
خَلِيقَتِهِ، وَالْمُخْتَارُ الْمُجْتَبَى مِنْ بَرِيَّتِهِ، - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَادَهُ شَرَفًا وَفَضْلًا لَدَيْهِ
وَكَرَّمَ.
أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْعِلْمِ مِنْ أَفْضَلِ الْقُرَبِ
وَأَجَلِّ الطَّاعَاتِ، وَأَهَمِّ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَآكَدِ
الْعِبَادَاتِ، وَأَوْلَى مَا أُنْفِقَتْ فِيهِ نَفَائِسُ الْأَوْقَاتِ،
وَشَمَّرَ فِي إِدْرَاكِهِ وَالتَّمَكُّنِ فِيهِ أَصْحَابُ الْأَنْفُسِ
الزَّكِيَّاتِ، وَبَادَرَ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِهِ الْمُسَارِعُونَ إِلَى
الْمَكْرُمَاتِ، وَسَارَعَ إِلَى التَّحَلِّي بِهِ مُسْتَبِقُو
الْخَيْرَاتِ، وَقَدْ تَظَاهَرَ عَلَى مَا ذَكَرْتُهُ جُمَلٌ مِنْ آيَاتِ
الْقُرْآنِ الْكَرِيمَاتِ، وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ النَّبَوِيَّةِ
الْمَشْهُورَاتِ، وَلَا ضَرُورَةَ إِلَى الْإِطْنَابِ بِذِكْرِهَا هُنَا
لِكَوْنِهَا مِنَ الْوَاضِحَاتِ الْجَلِيَّاتِ.
وَأَهَمُّ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْأَزْمَانِ الْفُرُوعُ
الْفِقْهِيَّاتُ، لِافْتِقَارِ جَمِيعِ النَّاسِ إِلَيْهَا فِي جَمِيعِ
الْحَالَاتِ، مَعَ أَنَّهَا تَكَالِيفُ مَحْضَةٌ فَكَانَتْ مِنْ أَهَمِّ
الْمُهِمَّاتِ. وَقَدْ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَصْحَابِنَا
الشَّافِعِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ مِنَ التَّصْنِيفِ فِي
الْفُرُوعِ مِنَ الْمَبْسُوطَاتِ وَالْمُخْتَصَرَاتِ، وَأَوْدَعُوا فِيهَا
مِنَ الْأَحْكَامِ وَالْقَوَاعِدِ وَالْأَدِلَّةِ وَغَيْرِهَا مِنَ
النَّفَائِسِ الْجَلِيلَاتِ، مَا هُوَ مَعْلُومٌ مَشْهُورٌ عِنْدَ أَهْلِ
الْعِنَايَاتِ. وَكَانَتْ مُصَنَّفَاتُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ
- فِي نِهَايَةٍ مِنَ الْكَثْرَةِ فَصَارَتْ مُنْتَشِرَاتٍ، مَعَ مَا هِيَ
عَلَيْهِ مِنَ الِاخْتِلَافِ فِي الِاخْتِيَارَاتِ، فَصَارَ لَا يُحَقِّقُ
الْمَذْهَبَ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ إِلَّا أَفْرَادٌ مِنَ الْمُوَفَّقِينَ
الْغَوَّاصِينَ الْمُطَّلِعِينَ أَصْحَابِ الْهِمَمِ الْعَالِيَاتِ،
فَوَفَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَلَهُ الْحَمْدُ - مِنْ
مُتَأَخِّرِي أَصْحَابِنَا مَنْ جَمَعَ هَذِهِ الطُّرُقَ الْمُخْتَلِفَاتِ،
وَنَقَّحَ الْمَذْهَبَ أَحْسَنَ تَنْقِيحٍ، وَجَمَعَ مُنْتَشِرَهُ
بِعِبَارَاتٍ وَجِيزَاتٍ، وَحَوَى جَمِيعَ مَا وَقَعَ
(1/4)
لَهُ مِنَ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَاتِ،
وَهُوَ الْإِمَامُ الْجَلِيلُ الْمُبَرَّزُ الْمُتَضَلِّعُ مِنْ عِلْمِ
الْمَذْهَبِ أَبُو الْقَاسِمِ الرَّافِعِيُّ ذُو التَّحْقِيقَاتِ، فَأَتَى
فِي كِتَابِهِ (شَرْحِ الْوَجِيزِ) بِمَا لَا كَبِيرَ مَزِيدٍ عَلَيْهِ
مِنَ الِاسْتِيعَابِ مَعَ الْإِيجَازِ وَالْإِتْقَانِ وَإِيضَاحِ
الْعِبَارَاتِ، فَشَكَرَ اللَّهُ الْكَرِيمُ لَهُ سَعْيَهُ، وَأَعْظَمَ
لَهُ الْمَثُوبَاتِ، وَجَمَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ مَعَ أَحْبَابِنَا فِي
دَارِ كَرَامَتِهِ مَعَ أُولِي الدَّرَجَاتِ.
وَقَدْ عَظُمَ انْتِفَاعُ أَهْلِ عَصْرِنَا بِكِتَابِهِ لِمَا جَمَعَهُ
مِنْ جَمِيلِ الصِّفَاتِ، وَلَكِنَّهُ كَبِيرُ الْحَجْمِ لَا يَقْدِرُ
عَلَى تَحْصِيلِهِ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي مُعْظَمِ الْأَوْقَاتِ.
فَأَلْهَمَنِي اللَّهُ سُبْحَانَهُ - وَلَهُ الْحَمْدُ - أَنْ أَخْتَصِرَهُ
فِي قَلِيلٍ مِنَ الْمُجَلَّدَاتِ، فَشَرَعْتُ فِيهِ قَاصِدًا تَسْهِيلَ
الطَّرِيقِ إِلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ لِأُولِي الرَّغَبَاتِ، أَسْلُكُ
فِيهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - طَرِيقَةً مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ
الْمُبَالَغَةِ فِي الِاخْتِصَارِ وَالْإِيضَاحِ فَإِنَّهَا مِنَ
الْمَطْلُوبَاتِ، وَأَحْذِفُ الْأَدِلَّةَ فِي مُعْظَمِهِ وَأُشِيرُ إِلَى
الْخَفِيِّ مِنْهَا إِشَارَاتٍ، وَأَسْتَوْعِبُ جَمِيعَ فِقْهِ الْكِتَابِ
حَتَّى الْوُجُوهَ الْغَرْبِيَّةَ الْمُنْكَرَاتِ، وَأَقْتَصِرُ عَلَى
الْأَحْكَامِ دُونَ الْمُؤَاخَذَاتِ اللَّفْظِيَّاتِ، وَأَضُمُّ إِلَيْهِ
فِي أَكْثَرِ الْمَوَاطِنِ تَفْرِيعَاتٍ وَتَتِمَّاتٍ، وَأَذْكُرُ
مَوَاضِعَ يَسِيرَةً عَلَى الْإِمَامِ الرَّافِعِيِّ فِيهَا
اسْتِدْرَاكَاتٌ، مُنَبِّهًا عَلَى ذَلِكَ - قَائِلًا فِي أَوَّلِهِ:
قُلْتُ: وَفِي آخِرِهِ: وَاللَّهُ أَعْلَمُ - فِي جَمِيعِ الْحَالَاتِ.
وَأَلْتَزِمُ تَرْتِيبَ الْكِتَابِ - إِلَّا نَادِرًا - لِغَرَضٍ مِنَ
الْمَقَاصِدِ الصَّالِحَاتِ، وَأَرْجُو - إِنْ تَمَّ هَذَا الْكِتَابُ -
أَنَّ مَنْ حَصَّلَهُ أَحَاطَ بِالْمَذْهَبِ وَحَصَلَ لَهُ أَكْمَلُ
الْوُثُوقِ
(1/5)
بِهِ وَأَدْرَكَ حُكْمَ جَمِيعِ مَا
يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَسَائِلِ الْوَاقِعَاتِ. وَمَا أَذْكُرُهُ
غَرِيبًا مِنَ الزِّيَادَاتِ، غَيْرَ مُضَافٍ إِلَى قَائِلِهِ، قَصَدْتُ
بِهِ الِاخْتِصَارَ، وَقَدْ بَيَّنْتُهَا فِي (شَرْحِ الْمُهَذَّبِ)
وَذَكَرْتُهَا فِيهِ مُضَافَاتٍ.
وَحَيْثُ أَقُولُ: عَلَى الْجَدِيدِ، فَالْقَدِيمُ خِلَافُهُ، أَوِ:
الْقَدِيمِ، فَالْجَدِيدُ خِلَافُهُ، أَوْ: عَلَى قَوْلٍ أَوْ وَجْهٍ،
فَالصَّحِيحُ خِلَافُهُ. وَحَيْثُ أَقُولُ: عَلَى الصَّحِيحِ أَوِ
الْأَصَحِّ، فَهُوَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَحَيْثُ أَقُولُ: عَلَى
الْأَظْهَرِ، أَوِ: الْمَشْهُورِ، فَهُوَ مِنَ الْقَوْلَيْنِ. وَحَيْثُ
أَقُولُ: عَلَى الْمَذْهَبِ، فَهُوَ مِنَ الطَّرِيقَيْنِ أَوِ الطُّرُقِ.
وَإِذَا ضَعُفَ الْخِلَافُ، قُلْتُ: عَلَى الصَّحِيحِ، أَوِ الْمَشْهُورِ.
وَإِذَا قَوِيَ، قُلْتُ: الْأَصَحُّ، أَوِ الْأَظْهَرُ، وَقَدْ أُصَرِّحُ
بِبَيَانِ الْخِلَافِ فِي بَعْضِ الْمَذْكُورَاتِ.
وَاسْتِمْدَادِي الْمَعُونَةَ وَالْهِدَايَةَ وَالتَّوْفِيقَ
وَالصِّيَانَةَ فِي جَمِيعِ أُمُورِي مِنْ رَبِّ الْأَرَضِينَ
وَالسَّمَاوَاتِ. أَسْأَلُهُ التَّوْفِيقَ لِحُسْنِ النِّيَّاتِ،
وَالْإِعَانَةَ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ. وَتَيْسِيرَهَا
وَالْهِدَايَةَ لَهَا دَائِمًا فِي ازْدِيَادٍ حَتَّى الْمَمَاتِ. وَأَنْ
يَفْعَلَ ذَلِكَ بِوَالِدَيَّ وَمَشَايِخِي وَأَقْرِبَائِي وَإِخْوَانِي
وَسَائِرِ مَنْ أُحِبُّهُ وَيُحِبُّنِي فِيهِ وَجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَنْ يَجُودَ عَلَيْنَا بِرِضَاهُ وَمَحَبَّتِهِ
وَدَوَامِ طَاعَتِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْمَسَرَّاتِ وَأَنْ
لَا يَنْزِعَ مِنَّا مَا وَهَبَهُ لَنَا وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا مِنَ
الْمَوْهُوبَاتِ، وَأَنْ يَنْفَعَنَا أَجْمَعِينَ، وَكُلَّ مَنْ يَقْرَأُ
هَذَا الْكِتَابَ بِهِ، وَأَنْ يُجْزِلَ لَنَا الْعَطِيَّاتِ، وَأَنْ
يُطَهِّرَ قُلُوبَنَا وَجَوَارِحَنَا مِنْ جَمِيعِ الْمُخَالَفَاتِ، وَأَنْ
يَرْزُقَنَا التَّفْوِيضَ إِلَيْهِ وَالِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ
وَالْإِعْرَاضَ عَمَّا سِوَاهُ فِي جَمِيعِ اللَّحَظَاتِ.
اعْتَصَمْتُ بِاللَّهِ، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ، مَا شَاءَ اللَّهُ، لَا
حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. وَحَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَالنِّعْمَةُ، وَبِهِ التَّوْفِيقُ
وَالْعِصْمَةُ.
(1/6)
|