عمدة السالِك وَعدة النَّاسِك

كتابُ الصيامِ
[منْ يجبُ عليه الصوم]:
يجبُ صومُ رمضانَ على كلِّ: مسلمٍ بالغٍ عاقلٍ قادرٍ على الصومِ، معَ الخلوِّ عن حيضٍ ونفاسٍ. فلا يخاطبُ بهِ كافرٌ وصبيٌّ ومجنونٌ، ومنْ أجهدهُ الصومُ لكبرٍ أوْ مرضِ لا يرجى برؤه، بأداءِ ولا بقضاءٍ، لكنْ يلزمُ منْ أجهدهُ الصومُ لكلِّ يومٍ مدُّ طعامٍ، ويخاطبُ المريضُ والمسافرُ والمرتدُّ والحائضُ والنفساءُ بالقضاءِ دونَ الأداءِ، فإنْ تكلفَ المريضُ والمسافرُ فصاما صحَّ، دونَ المرتدِّ والحائضِ والنفساءِ. فإن أسلمَ أوْ أفاق أو بلغَ مفطراً في أثناءِ النهارِ نُدبَ الإمساكُ والقضاءُ ولا يجبانِ، وإنْ بلغَ صائماً لزمهُ الإمساكُ ونُدب القضاءُ، ولوْ طهُرَتِ الحائضُ أمسكتْ نَدباً وقضتْ حتماً، أوْ قدمَ المسافرُ أوْ برئَ المريضُ وهما مفطرانِ، أمسكا ندباً وقضيا حتماً، أو صائمانِ أمسكا حتماً.
ولوْ قامتِ البينةُ برؤيةِ يومِ الشكِّ وجبَ إمساكُ بقيتهِ وقضاؤهُ.
ويؤمرُ الصبيُّ بهِ لسبعٍ ويُضربُ لعشرٍ.
[مبيحاتُ الفطرِ]:
ويبيحُ الفطرَ:
1 - غلبةُ الجوعِ والعطشِ بحيثُ يخشى الهلاكَ أو المرضَ، ولوْ طرأ في أثناءِ اليومِ، إذا شقَّ الصومُ.
2 - وسفرُ القصرِ إنْ فارقَ العمرانَ قبلَ الفجرِ، وإنْ نواهُ منَ الليلِ،

(1/114)


فإنْ سافرَ بعدهُ فلا، والفطرُ للمسافرِ أفضلُ إنْ ضرَّهُ الصومُ، وإلا فالصومُ أفضلُ.
3 - [المرضعُ والحاملُ]: ولوْ خافتْ مرضعٌ أوْ حاملٌ على أنفسهما أوْ ولديهما أفطرتا وقضتا، لكن تفديانِ عندَ الخوفِ على الولدِ لكلِّ يومٍ مداً.
[وقتُ وجوبِ الصومِ]:
ولا يجبُ صومُ رمضانَ إلا برؤيةِ الهلالِ، فإنْ غمَّ وجبَ استكمالُ شعبانَ ثلاثينَ ثمَّ يصومونَ، فإنْ رؤيَ نهاراً فهوَ لليلةِ المستقبَلةِ، وإنْ رؤيَ في بلدٍ دونَ بلدٍ فإنْ تقاربا عمَّ الحكمُ، وإلا فلا، والبعدُ باختلافِ المطالعِ كالحجازِ والعراقِ ومصرَ، وقيلَ بمسافةِ القصرِ، ويقبلُ في رمضانَ بالنسبةِ إلى الصومِ عدلٌ واحدٌ، ذكرٌ حرٌّ مكلفٌ، ولا يقبلُ في سائرِ الشهورِ إلا عدلانِ، ولوْ عرَفَ رجلٌ بالحسابِ والنجومِ أنَّ غداً منْ رمضانَ لمْ يجب الصومُ، لكنْ يجوزُ للحاسبِ والمنَجِّمِ فقطْ، وإنِ اشتبهتِ الشهورُ على أسيرٍ ونحوهِ اجتهدَ وجوباً وصامَ، فإنِ استمرَّ الإشكالُ أوْ وافقَ رمضانَ أوْ ما بعدهُ صحَّ، وإنْ وافقَ ما قبلهُ لمْ يصحَّ.
[شروطُ الصومِ]:
وشرطُ الصومِ النيةُ، والإمساكُ عنِ المفطراتِ. [النيةُ]: فينوي لكلِّ يومٍ، فإنْ كانَ فرضاً وجبَ تعيينُهُ وتبييتهُ منَ الليلِ، وأكملُهُ: أنْ ينوي صومَ غدٍ عنْ أداءِ فرضِ رمضانَ هذهِ السنةِ للهِ تعالى.
ولوْ أخبرهُ بالرؤيةِ ليلةَ الشكِّ منْ يثقُ

(1/115)


بهِ ممنْ لا يقبلهُ الحاكمُ منْ نسوةٍ وعبيدٍ وصبيانٍ، فنوى بناءً على ذلكَ، فكانَ منهُ صحَّ، وإنْ نواهُ منْ غيرِ إخبارِ أحدٍ فكانَ منهُ لمْ يصحَّ، سواءٌ جزمَ النيةَ أوْ تردَّدَ فقالَ: إنْ كانَ غداً منْ رمضانَ فأنا صائمٌ وإلا فمفطرٌ، ولوْ قالَ ليلةَ الثلاثينَ منْ رمضانَ: إنْ كانَ غداً منْ رمضان فأنا صائمٌ وإلا فمفطرٌ، فكانَ منْ رمضانَ صحَّ. ويصحُّ النفلُ بنيةٍ مطلقةٍ قبلَ الزوالِ.
[الإمساكُ عنِ المفطراتِ]: وإنْ أكلَ الصائمُ أوْ شربَ، أو اسْتَعَطَ أو احْتَقَنَ، أوْ صبَّ في أذنهِ فوصلَ دماغهُ، أوْ أدخلَ أصبعاً أو غيرهُ في دبرهِ أوْ قُبُلِها وراءَ ما يبدو عندَ القَعْدَةِ، أوْ وصلَ إلى جوفهِ شيءٌ منْ طعنةٍ أو دواءٍ، أوْ تقيأَ، أو جامعَ، أوْ باشرَ فيما دونَ الفرجِ فأنزلَ، أوِ استمنى فأنزلَ، أوْ بالغَ في المضمضةِ أو الاستنشاقِ فنزلَ جوفهُ، أوْ أخرجَ ريقهُ منْ فمهِ، كما إذا جرَّ الخيطَ في فمهِ عندَ فتلهِ فانفصلَ عليهِ ريقٌ ثمّ ردّهُ وبلعَ ريقهُ، أوْ بلعَ ريقهُ متغيراً، كما إذا فتلَ خيطاً فتغيرَ بصبغهِ، أوْ كانَ نجِساً، كما إذا دميَ فمُهُ فبصقَ حتى صفا ريقهُ ولمْ يغسلهُ، أوْ إذا ابتلعَ نخامةً منْ أقصى الفمِ، إنْ قدرَ على قطعها ومجِّها فتركها حتى نزلتْ، أوْ طلعَ الفجرُ وهوَ مجامعٌ فاستدامَ ولوْ لحظةً، وهوَ في جميعِ ذلكَ ذاكرٌ للصومِ، عالمٌ بالتحريمِ،

(1/116)


بطُلَ صومهُ، وعليهِ قضاءٌ وإمساكُ بقيةِ النهارِ.
وضابطُ المفطّرِ:
1 - وصولُ عينٍ وإنْ قلَّتْ منْ منفدٍ مفتوحٍ إلى جوفٍ.
2 - والجماعُ.
3 - والإنزالُ عنْ مباشرةٍ أو استمناءٍ عالماً بالتحريمِ ذاكراً للصومِ.
[كفارةُ إفسادِ الصومِ]:
يلزمُ من فسدَ صومهُ في رمضانَ بالجماعِ مع القضاءِ الكفارةُ، وهيَ:
عتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ، سليمةٍ منَ العيوبِ المضرةِ، فإنْ لمْ يجدْ فصيامُ شهرينِ متتابعينِ، فإنْ لمْ يستطعْ فإطعامُ ستينَ مسكيناً، فإنْ عجَزَ ثبتَِ في ذمتهِ، ولا يجبُ على الموطوءةِ كفارةٌ. [حكم الناسي والمكره والجاهل]:
فإنْ فعلَ جميعَ ذلكَ ناسياً، أوْ جاهلاً، أوْ مكرهاً، أوْ غلبهُ القيءُ، أوْ أنزلَ باحتلامٍ أوْ عنْ فكرٍ أوْ نظرٍ، أوْ نزلَ جوفهُ بمضمضةٍ أو استنشاقٍ بلا مبالغةٍ، أوْ جرى الريقُ بما بقيَ منَ الطعامِ في خلالِ أسنانهِ بعدَ تخليلهِ وعجَزَ عنْ مجِّهِ، أوْ جمع ريقهُ في فمهِ وابتلعهُ صِرْفاً، أوْ أخرجهُ على لسانهِ ثمَّ ردَّهُ وبلعهُ، أو اقتلعَ نخامةً منْ باطنهِ ولفظها، أوْ طلعَ الفجرُ وفي فمه طعامٌ فلفظهُ، أوْ كانَ مجامعاً فنزعَ في الحالِ، أوْ نامَ جميعَ النهارِ، أوْ أُغميَ عليهِ فيه وأفاقَ لحظةً منهُ، لمْ يضرُّهُ في جميعِ ذلكَ ويصحُّ صومُهُ.
وإذا أكلَ معتقداً أنهُ ليلٌ فبانَ أنهُ نهارٌ، أو أكل ظاناً للغروبِ واستمرَّ الإشكالُ وجبَ القضاءُ، وإنْ ظنَّ أن الفجرَ لمْ يطلعْ فأكلَ واستمرَّ الإشكالُ فلا قضاءَ.
وإنْ طرأَ في أثناءِ اليومِ جنونٌ ولوْ في

(1/117)


لحظة منهُ، أو استغرقَ نهارهُ بالإغماءِ، أوْ طرأَ حيضٌ أوْ نفاسٌ بطلَ الصومُ.
[سننُ الصومِ]:
ويندبُ السُّحورُ وإنْ قلَّ، ولوْ بماءٍ، والأفضلُ تأخيرُهُ ما لمْ يخف الصبحَ.
والأفضلُ تعجيلُ الفطرِ إذا تحققَ الغروبُ، ويُفطرُ على تمراتٍ وِتراً، فإنْ لمْ يجدْ فالماءُ أفضلُ، ويقولُ: اللهمَّ لكَ صمْتُ وعلى رزقكَ أفطرْتُ.
ويندبُ كثرةُ الجودِ، وصلةُ الرحمِ، وكثرةُ تلاوةِ القرآنِ، والاعتكافُ سيما العشر الأواخرُ، وأنْ يُفَطِّرَ الصوَّامَ ولوْ بماءٍ، وتقديمُ غُسْلِ الجنابةِ على الفجرِ، وتركُ الغيبةِ والكذبِ والفحشِ والشهواتِ، والفصدِ والحجامةِ، فإنْ شوتمَ فليقلْ: إني صائمٌ.
وتحرُمُ القُبْلةُ لمنْ حركت شهوتهُ، والوصالُ بأنْ لا يتناولَ في الليلِ شيئاً، فلوْ شربَ ماءً ولوْ جرعةً عندَ السحورِ فلا تحريمَ.
ويكرهُ ذوقُ الطعامِ وعِلْكٌ، وسواكٌ بعدَ الزوالِ، لا كُحْلٌ واستحمامٌ، ويكرهُ لكلِّ أحدٍ صمتُ يومٍ إلى الليلِ.
[قضاءُ الصومِ]:
ومنْ لزمهُ قضاءُ شيءٍ منْ رمضانَ يندبُ لهُ أنْ يقضيَهُ متتابعاً على الفورِ، ولا يجوزُ أنْ يؤخرَ القضاءَ إلى رمضانَ آخرَ بغيرِ عذرٍ، فإنْ أخَّرَ لزمهُ معَ القضاءِ عنْ كلِّ

(1/118)


يومٍ مدُّ طعامٍ، فإنْ أخرَ رمضانينِ فمدانِ، وهكذا يتكررُ بتكررِ السنينَ، ومنْ ماتَ وعليهِ صومٌ تمكَّنَ منْ فعلهِ، أطعمَ عنهُ عنْ كلِّ يومٍ مدَّ طعامٍ.
فصلٌ: [الأيامُ التي يندبُ صومها]:
يندبُ صومُ ستةٍ من شوالٍ، وتندبُ متتابعةً تلي العيدَ، فإنْ فرَّقها جازَ، وتاسوعاءَ وعاشوراءَ، وأيامِ البيضِ في كلِّ شهرٍ: الثالثَ عشَرَ وتالييهِ، والإثنينِ والخميسِ.
وعشْرِ ذي الحجةِ، والأشهُرِ الحُرُمِ، وهيَ أربعةٌ: ذو القعدةِ وذو الحجةِ والمحرَّم ورجب.
وأفضلُ الصومِ بعدَ رمضانَ المحرَّم ثمَّ رجبٌ ثمَّ شعبانَ، وصومُ يومِ عرفةَ إلا للحاجِّ بعرفةَ ففطرُهُ أفضلُ، فإنْ صامَ لمْ يكرهْ لكنَّهُ تركَ الأولى، ويكرهُ صومُ الدهرِ إنْ ضرَّهُ أوْ فوَّتَ حقاً، وإلا لمْ يكرهْ.
[الأيامُ التي يحرمُ صومها]:
ويحرُمُ ولا يصحُّ أصلاً صومُ العيدينِ، وأيامِ التشريقِ وهيَ ثلاثةٌ بعد الأضحى، ويومِ الشكِّ وهوَ أنْ يتحدَّثَ بالرؤيةِ يومَ الثلاثينَ منْ شعبانَ منْ لا يثبُتُ بقولهِ منْ عبيدٍ وفسقةٍ ونسوةٍ، وإلا فليسَ بيومِ شكٍّ، فلا يصحُّ صومهُ عنْ رمضانَ، بلْ عنْ نذرٍ وقضاءٍ، وأما التطوعُ بهِ فإنْ وافقَ عادةً لهُ أوْ وصلهُ بما قبلَ نصفِ شعبان صحَّ، وإلا حرمَ ولمْ

(1/119)


يصحَّ.
ويحرُمُ صومُ ما بعدَ نصفِ شعبانَ إنْ لمْ يوافقْ عادةً ولمْ يصلهُ بما قبلهُ، ومنْ دخلَ في صومٍ وصلاةٍ فرضاً -أداءً كانَ أوْ قضاءً أوْ نذراً- حرمَ قطعُهُما، فإنْ كانَ نفلاً جازَ قطعُهُما.
[الاعتكاف]
فصلٌ: الاعتكافُ سُنَّةٌ في كلِّ وقتٍ، ورمضانُ آكدُ، والعشرةِ الأخيرةِ آكدُ لطلبِ ليلةِ القدرِ، ويمكنُ أنْ تكونَ في جميعِ رمضانَ، وفي العشرةِ الأخيرةِ أرْجى، وفي أوتارهِ أرْجى، وفي الحادي والثالثِ والعشرينَ أرجى، ويُكثِرُ في ليلةِ القدْرِ: "اللهمَّ إنكَ عفوٌّ تحبُ العفوَ فاعفُ عني". وأقلُّ الاعتكافِ لُبْثٌ وإنْ قلَّ، بشرطِ النيةِ وزيادتهِ على أقلِّ الطمأنينةِ، وكونُهُ مسلماً، عاقلاً، صاحياً، خالياً منَ الحدثِ الأكبرِ، وفي المسجدِ ولوْ متردِّداً في جوانبهِ، ولا يكفي مجردُ المرورِ.
والأفضلُ كونُهُ بصوم، وفي الجامعِ، وأنْ لا ينقُصَ عنْ يومٍ.
ولوْ نذرَ الاعتكافَ في المسجدِ الحرامِ أو الأقصى أوْ مسجدِ المدينةِ تَعيَّنَ، لكنْ يجزئُ المسجدُ الحرامُ عنهما، بخلافِ العكسِ، ويجزئُ مسجدُ المدينةِ عن الأقصى، بخلافِ العكسِ، ولوْ عيَّنَ مسجداً غيرَ ذلكَ لمْ يتعيَّنْ.
ويفسُدُ الاعتكافُ بالجماعِ، وبالإنزالِ عنْ مباشرةٍ بشهوةٍ، وإنْ

(1/120)


نذرَ مدةً متتابعةً لزمهُ، فإنْ خرجَ لما لا بدَّ منهُ كأكلٍ وإنْ أمكنَ في المسجدِ، وشربٍ إنْ لمْ يمكنْ فيهِ، وقضاءِ حاجةِ الإنسانِ، والمرضِ والحيضِ ونحوِ ذلكَ لمْ يبطلْ، وإنْ خرجَ منَ المسجدِ لزيارةِ مريضٍ، أوْ صلاةِ جنازةٍ أوْ صلاةِ جمعةٍ، بطَلَ اعتكافُهُ، وإنْ خرجَ لمنارةِ المسجدِ وهي خارجةٌ عنهُ ليؤذِّنَ جازَ إنْ كانَ هوَ المؤذنُ الراتبُ، وإلا فلا، وإنْ خرجَ لما لا بدَّ منهُ فسألَ عنِ المريضِ وهوَ مارٌّ ولمْ يعرِّجْ جازَ، وإنْ عرَّجَ لأجلِهِ بطلَ.
وتحرُمُ المباشرةُ بشهوةٍ.
ويحرُمُ على العبدِ والزوجةِ دونَ إذنِ سيدٍ وزوجٍ.

(1/121)