فتح المعين بشرح قرة العين بمهمات الدين

باب القضاء
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باب القضاء
بالمد: أي الحكم بين الناس والأصل فيه قبل الإجماع قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [5 سورة المائدة الآية: 49] وقوله: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [5 سورة المائدة الآية: 42] وأخبار كخبر الصحيحين [البخاري رقم: 7352, مسلم رقم: 1716] : "إذا حكم حاكم أي أراد الحكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" وفي رواية بدل الأولى: "فله عشرة أجور".
قال في شرح مسلم: أجمع المسلمون على أن هذا في حاكم عالم مجتهد أما غيره فآثم بجميع أحكامه
وإن وافق الصواب لان إصابته إتفاقية وصح خبر: "القضاة ثلاثة: قاض في الجنة وقاضيان

(1/608)


هو فرض كفاية
ـــــــــــــــــــــــــــــ
في النار" [أبو داود رقم: 3573, الترمذي رقم: 1322, ابن ماجه, رقم: 2315] وفسر الأول بأنه عرف الحق وقضى به والأخيران بمن عرف وجار في الحكم ومن قضى على جهل وما جاء في التحذير عنه كخبر: "من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين" [الترمذي رقم: 1325, أبو داود رقم: 3100, 3101, ابن ماجه رقم: 2308, مسند أحمد رقم: 7105, 8559] محمول على عظم الخطر فيه أو على من يكره له القضاء أو يحرم.
هو أي قبوله من متعددين صالحين له.
فرض كفاية في الناحية بل أسنى فروض الكفايات حتى قال الغزالي: أنه أفضل من الجهاد فإن امتنع الصالحون له منه أثموا.
أما تولية الإمام أو نائبه لأحدهم في إقليم ففرض عين عليه ثم على ذي شوكة ولا يجوز إخلاء مسافة العدوى عن قاض.
فرع: لا بد من تولية من الإمام أو مأذونه ولو لمن تعين للقضاء فإن فقد الإمام فتولية أهل الحل والعقد في البلد أو بعضهم مع رضا الباقين ولو ولاه أهل جانب من البلد صح فيه دون الآخر.
ومن صريح التولية وليتك أو قلدتك القضاء ومن كفايتها عولت واعتمدت عليك فيه.

(1/609)


وشرط قاض كونه أهلا للشهادات كافيا مجتهدا,
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويشترط القبول لفظا وكذا فورا في الحاضر وعند بلوغ الخبر في غيره.
وقال جمع محققون: الشرط عدم الرد ومن تعين في ناحية لزمه قبوله وكذا طلبه ولو ببذل مال وإن خاف من نفسه الميل فإن لم يتعين فيها كره للمفضول القبول والطلب إن لم يمتنع الأفضل ويحرم طلبه بعزل صالح له ولو مفضولا.
وشرط قاض كونه أهلا للشهادات كلها بأن يكون مسلما مكلفا حرا ذكرا عدلا سميعا ولو بالصياح بصيرا فلا يولي من ليس كذلك ولا أعمى وهو من يرى الشبح ولا يميز الصورة وإن قربت بخلاف من يميزها إذا قربت بحيث يعرفها ولو بتكلف ومزيد تأمل وإن عجز عن قراءة المكتوب واختير صحة ولاية الأعمى.
كافيا للقيام بمنصب القضاء فلا يولى مغفل ومختل نظر بكبر أو مرض.
مجتهدا فلا يصح تولية جاهل ومقلد وإن حفظ مذهب إمامه لعجزه عن إدراك غوامضه والمجتهد من يعرف بأحكام القرآن من العام والخاص والمجمل والمبين والمطلق والمقيد والنص والظاهر والناسخ والمنسوخ والمحكم
والمتشابه وبأحكام السنة من المتواتر وهو ما تعددت طرقه والآحاد وهو بخلافه والمتصل

(1/610)


000000000000000000000000000000000
ـــــــــــــــــــــــــــــ
باتصال رواته إليه صلى الله عليه وسلم ويسمى المرفوع أو إلى الصحابي فقط ويسمى الموقوف.
والمرسل وهو قول التابعي قال رسول الله ص كذا أو فعل كذا أو بحال الرواة قوة وضعفا وما تواتر ناقلوه.
وأجمع السلف على قبوله لا يبحث عن عدالة ناقليه وله الاكتفاء بتعديل إمام عرف صحة مذهبه في الجرح والتعديل ويقدم عند التعارض الخاص على العام والمقيد على المطلق والنص على الظاهر والمحكم على المتشابه والناسخ والمتصل والقوي على مقابلها ولا تنحصر الأحكام في خمسمائة آية ولا خمسمائة حديث خلافا لزاعمهما وبالقياس بأنواعه الثلاثة من الجلي وهو ما يقطع فيه بنفي الفارق كقياس ضرب الولد على تأفيفه أو المساوي وهو ما يبعد فيه انتفاء الفارق كقياس إحراق مال اليتيم على أكله أو الأدون وهو ما لا يبعد فيه انتفاء الفارق كقياس الذرة على البر في الربا بجامع الطعم وبلسان العرب لغة ونحوا وصرفا وبلاغة وبأقوال العلماء من الصحابة فمن بعدهم ولو فيما يتكلم فيه فقط لئلا يخالفهم.
قال ابن الصلاح: اجتماع ذلك كله إنما هو شرط للمجتهد المطلق الذي يفتي في جميع أبواب الفقه أما مقيد لا يعدو مذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع فإنه مع المجتهد كالمجتهد مع نصوص الشرع ومن ثم لم يكن له عدول عن نص إمامه كما لا يجوز الاجتهاد مع النص انتهى.

(1/611)


فإن ولى سلطان أو ذو شوكة غير أهل نفذ,
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فإن ولى سلطان ولو كافرا أو ذو شوكة غيره في بلد بأن انحصرت قوتها فيه غير أهل للقضاء كمقلد وجاهل وفاسق أي مع علمه بنحو فسقه وإلا بأن ظن عدالته مثلا ولو علم فسقه لم يوله فالظاهر كما جزم به شيخنا لا ينفذ حكمه وكذا لو زاد فسقه أو ارتكب مفسقا آخر على تردد فيه انتهى.
وجزم بعضهم بنفوذ توليته وإن ولاه غير عالم بفسقه وكعبد وامرأة وأعمى نفذ ما فعله من التولية وإن كان هناك مجتهد عدل على المعتمد فينفذ قضاء من ولاه للضرورة ولئلا تتعطل مصالح الناس وإن نازع كثيرون فيما ذكر في الفاسق وأطالوا وصوبه الزركشي.
قال شيخنا: وما ذكر في المقلد محله إن كان ثم مجتهد وإلا نفذت تولية المقلد ولو من غير ذي شوكة وكذا الفاسق فإن كان هناك عدل اشترطت شوكة وإلا فلا كما يفيد ذلك قول ابن الرفعة الحق أنه إذا لم يكن ثم من يصلح للقضاء نفذت تولية غير الصالح قطعا والأوجه أن قاضي الضرورة يقضي بعلمه ويحفظ مال اليتيم ويكتب لقاض آخر خلافا للحضرمي وصرح جمع متأخرون بأن قاضي الضرورة يلزمه بيان مستنده في سائر أحكامه ولا يقبل قول حكمت بكذا من غير بيان مستنده فيه ولو طلب الخصم من القاضي الفاسق تبيين الشهود التي ثبت فيها الأمر لزم القاضي بيانهم وإلا لم ينفذ حكمه.

(1/612)


000000000000000000000000000000000
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فرع: يندب للإمام إذا ولى قاضيا أن يأذن له في الاستخلاف وإن أطلق التولية استخلف فيما لا يقدر عليه لا غيره في الأصح.
مهمة [في بيان كون القاضي يحكم باجتهاده إن كان مجتهد أو باجتهاد مقلده إن كان مقلدا] : يحكم القاضي باجتهاده إن كان مجتهدا أو باجتهاد مقلده إن كان مقلدا وقضية كلام الشيخين أن المقلد لا يحكم بغير مذهب مقلده وقال الماوردي وغيره: يجوز وجمع ابن عبد السلام والأذرعي وغيرهما بحمل الأول على من لم ينته لرتبة الاجتهاد في مذهب إمامه وهو المقلد الصرف الذي لم يتأهل للنظر ولا للترجيح والثاني على من له أهلية لذلك ونقل ابن الرفعة عن الأصحاب أن الحاكم المقلد إذا بان حكمه على خلاف نص مقلده نقض حكمه ووافقه النووي1 في الروضة والسبكي وقال الغزالي: لا ينقض وتبعه الرافعي بحثا في موضع.
وشيخنا في بعض كتبه.
__________
1 في العبارة سقط يعلم من عبارة التحفة وإلا لا تصح كما هي عليه لأن النووي متقدم على ابن الرفعة وعبارة التحفة بعد قول الشارح نقض حكمه وصرح ابن الصلاح كما مر بأن نص إمام المقلد في حقه كنص الشارع في حق المقلد ووافقه في الروضة وما أفهمه كلام الرافعي عن الغزالي من عدم النقض بناء على أن للمقلد تقليد من شاء وجزم به في جمع الجوامع قال الأذرعي بعيد الوجه بل الصواب سد هذا الباب من أصله لما يلزم عليه من المفاسد التي لا تحصى. أهـ. تحفة.

(1/613)


000000000000000000000000000000000
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فائدة [في بيان التقليد] إذا تمسك العامي بمذهب لزمه موافقته وإلا لزمه التمذهب بمذهب معين من الأربعة لا غيرها ثم له وإن عمل بالأول الانتقال إلى غيره بالكلية أو في المسائل بشرط أن لا يتتبع الرخص بأن يأخذ من كل مذهب بالأسهل منه فيفسق به على الأوجه.
وفي الخادم عن بعض المحتاطين الأولى لمن ابتلي بوسواس الأخذ بالأخف والرخص لئلا يزداد فيخرج عن الشرع ولضده الأخذ بالأثقل لئلا يخرج عن الإباحة وأن لا يلفق بين قولين يتولد منهما حقيقة مركبة لا يقول بها كل منهما.
وفي فتاوى شيخنا: من قلد إماما في مسألة لزمه أن يجري على قضية مذهبه في تلك المسألة وجميع ما يتعلق بها فيلزم من انحرف عن عين الكعبة وصلى إلى جهتها مقلدا لأبي حنيفة مثلا أن يمسح في وضوئه من الرأس قدر الناصية وأن لا يسيل من بدنه بعد الوضوء دم وما أشبه ذلك وإلا كانت صلاته باطلة باتفاق المذهبين فليتفطن لذلك انتهى.
ووافقه العلامة عبد الله أبو مخرمة العدني وزاد فقال: قد صرح بهذا الشرط الذي ذكرناه غير واحد من المحققين من أهل الأصول والفقه: منهم ابن دقيق العيد والسبكي ونقله الأسنوي في التمهيد عن العراقي.
قلت: بل نقله الرافعي في العزيز عن القاضي حسين انتهى.

(1/614)


000000000000000000000000000000000
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال شيخنا المحقق ابن زياد رحمه الله تعالى في فتاويه: إن الذي فهمناه من أمثلتهم أن التركيب القادح إنما يمتنع1 إذا كان في قضية واحدة فمن أمثلتهم إذا توضأ ولمس تقليدا لأبي حنيفة واقتصد تقليدا للشافعي ثم صلى فصلاته باطلة لاتفاق الإمامين على بطلان ذلك وكذلك إذا توضأ ومس بلا شهوة تقليدا للإمام مالك ولم يدلك تقليدا للشافعي ثم صلى فصلاته باطلة لاتفاق الإمامين على بطلان طهارته بخلاف ما إذا كان التركيب من قضيتين فالذي يظهر أن ذلك غير قادح في التقليد كما إذا توضأ ومسح بعض رأسه ثم صلى إلى الجهة تقليدا لأبي حنيفة فالذي يظهر صحة صلاته لان الإمامين لم يتفقا على بطلان طهارته فإن الخلاف فيها بحاله لا يقال اتفقا على بطلان صلاته لانا نقول هذا الاتفاق ينشأ من التركيب في قضيتين.
والذي فهمناه أنه غير قادح في التقليد ومثله ما إذا قلد الإمام أحمد في أن العورة السوأتان وكأن ترك المضمضة والاستنشاق أو التسمية الذي يقول الإمام أحمد بوجوب ذلك فالذي يظهر صحة صلاته إذا قلده في قدر العورة لأنهما لم يتفقا على بطلان طهارته التي هي قضية واحدة ولا يقدح في ذلك اتفاقهما على بطلان صلاته فإنه تركيب من قضيتين وهو غير قادح في التقليد كما يفهمه تمثيلهم.
وقد رأيت في فتاوى البلقيني ما يقتضي أن التركيب بين القضيتين غير قادح انتهى ملخصا.
__________
1 قال الشيخ السيد البكري رحمه الله: صوابه: إنما يوجد.

(1/615)


ويجوز تحكيم اثنين رجلا أهلا لقضاء,
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تتمة [في بيان حكم الاستيفاء] : يلزم محتاجا استفتاء عالم عدل عرف أهليته ثم إن وجد مفتيين فإن اعتقد أحدهما أعلم تعين تقديمه قال في الروضة: ليس لمفت وعامل على مذهبنا في مسألة ذات وجهين أو قولين أن يعتمد أحدهما بلا نظر فيه فلا خلاف بل يبحث عن أرجحهما بنحو تأخره وإن كانا لواحد انتهى.
ويجوز تحكيم اثنين ولو من غير خصومة كما في النكاح رجلا أهلا لقضاء أي من له أهلية القضاء المطلقة لا في خصوص تلك الواقعة فقط خلافا لجمع متأخرين ولو مع وجود قاض أهل خلافا للروضة أما غير الأهل فلا يجوز تحكيمه أي مع وجود الأهل وإلا جاز ولو في النكاح وإن كان ثم مجتهد كما جزم به شيخنا في شرح المنهاج تبعا لشيخه زكريا لكن الذي أفتاه أن المحكم العدل لا يزوج إلا مع فقد القاضي ولو غير أهل.
ولا يجوز تحكيم غير العدل مطلقا ولا يفيد حكم المحكم إلا برضاهما به لفظا لا سكوتا فيعتبر رضا الزوجين معا في النكاح نعم: يكفي سكوت البكر إذا استؤذنت في التحكيم.
ولا يجوز التحكيم مع غيبة الولي ولو إلى مسافة القصر إن كان ثم قاض خلافا لابن العماد لأنه ينوب عن الغائب بخلاف المحكم: ويجوز له أن يحكم بعلمه على الأوجه.

(1/616)


وينعزل القاضي ونائبه لا عن إمام بخبره وعزل نفسه وجنون وفسق,
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وينعزل القاضي أي يحكم بانعزاله ببلوغ خبر العزل له ولو من عدل.
وينعزل نائبه في عام أو خاص بأن يبلغه خبر عزل مستخلفه له أو الإمام لمستخلفه إن أذن له أن يستخلف عن نفسه أو أطلق.
لا حال كون النائب نائبا عن إمام في عام أو خاص بأن قال للقاضي استخلف عني فلا ينعزل بذلك وإنما انعزل القاضي ونائبه بخبره أي ببلوغ خبر العزل المفهوم من ينعزل لا قبل بلوغه ذلك لعظم الضرر في نقض أقضيته لو انعزل بخلاف الوكيل فإنه ينعزل من حين العزل ولو قبل بلوغ خبره ومن علم عزله لم ينفذ حكمه له إلا أن يرضى بحكمه فيما يجوز التحكيم فيه وينعزل أيضا كل منهما بأحد أمور:
عزل نفسه كالوكيل وجنون وإغماء وإن قل زمنهما وفسق أي ينعزل بفسق من لم يعلم موليه بفسقه الأصلي أو الزائد على ما كان حال توليته وإذا زالت هذه الأحوال لم تعد ولايته إلا بتولية جديدة في الأصح.
ويجوز للإمام عزل قاض لم يتعين بظهور خلل لا يقتضي انعزاله ككثرة الشكاوي فيه وبأفضل منه وبمصلحة كتسكين فتنة سواء أعزله بمثله أو بدونه وإن لم يكن شيء من ذلك لم يجز عزله لأنه عبث,

(1/617)


ولا ينعزل قاض بموت إمام ولا يقبل قول متول في غير محل ولايته حكمت بكذا كمعزول.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولكن ينفذ العزل أما إذا تعين بأن لم يكن ثم من يصلح غيره فيحرم على موليه عزله ولا ينفذ وكذا عزله لنفسه حينئذ بخلافه في غير هذه الحالة فينفذ عزله لنفسه وإن لم يعلم موليه.
ولا ينعزل قاض بموت إمام أعظم ولا بانعزاله لعظم شدة الضرر بتعطيل الحوادث.
وخرج بالإمام القاضي فينعزل نوابه بموته.
ولا يقبل قول متول في غير محل ولايته وهو خارج عمله حكمت بكذا لأنه لا يملك إنشاء الحكم حينئذ فلا ينفذ إقراره به.
وأخذ الزركشي من ظاهر كلامهم أنه إذا ولي ببلد لم يتناول مزارعها وبساتينها فلو زوج وهو بأحدهما من هي بالبلد أو عكسه لم يصح قيل وفيه نظر.
قال شيخنا والنظر واضح.
بل الذي يتجه أنه إن علمت عادة بتبعية أو عدمها فذلك وإلا اتجه ما ذكره اقتصارا على ما نص له عليه وأفهم قول المنهاج أنه في غير محل ولايته كمعزول أن لا ينفذ منه فيه تصرف استباحه بالولاية كإيجار وقف نظره للقاضي وبيع مال يتيم وتقرير في وظيفة.
قال شيخنا وهو ظاهر.
ك: ما لا يقبل قول معزول بعد انعزاله ومحكم بعد مفارقة مجلس

(1/618)


وليسو القاضي بين الخصمين,
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حكمه حكمت بكذا لأنه لا يملك إنشاء الحكم حينئذ فلا يقبل إقراره به ولا يقبل أيضا شهادة كل منهما بحكمه لأنه يشهد بفعل نفسه إلا إن شهد بحكم حاكم ولا يعلم القاضي أنه حكمه فتقبل شهادته إن لم يكن فاسقا فإن علم القاضي أنه حكمه لم تقبل شهادته كما لو صرح به.
ويقبل قوله بمحل حكمه قبل عزله حكمت بكذا وإن قال بعلمي لقدرته على الإنشاء حينئذ حتى لو قال على سبيل الحكم نساء هذه القرية: أي المحصورات طوالق من أزواجهن قبل إن كان مجتهدا ولو في مذهب إمامه.
ولا يجوز لقاض أن يتبع حكم قاض قبله صالح للقضاء.
وليسو القاضي بين الخصمين وجوبا في إكرامهما وإن اختلفا شرفا وجواب سلامهما والنظر إليهما والاستماع للكلام وطلاقة الوجه والقيام فلا يخص أحدهما بشيء مما ذكر ولو سلم أحدهما انتظر الآخر ويغتفر طول الفصل للضرورة أو قال له سلم ليجيبهما معا ولا يمزح معه وإن شرف بعلم أو حرية والأولى أن يجلسهما بين يديه.
فرع: لو ازدحم مدعون قدم الأسبق فالأسبق وجوبا كمفت ومدرس فيقدمان وجوبا بسبق فإن استووا أو جهل سابق أقرع.

(1/619)


وحرم قبوله هدية من لا عادة له بها قبل ولاية إن كان في محله ومن له خصومة وإلا جاز,
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقال شيخنا وظاهر أن طالب فرض العين مع ضيق الوقت يقدم كالمسافر.
ويستحب كون مجلسه الذي يقضي فيه فسيحا بارزا ويكره أن يتخذ المسجد مجلسا للحكم صونا له عن اللغط وارتفاع الأصوات نعم إن اتفق عند جلوسه فيه قضية أو قضيتان فلا بأس بفصلها.
وحرم قبوله أي القاضي هدية من لا عادة له بها قبل ولاية أو كان له عادة بها لكنه زاد في القدر أو الوصف إن كان في محله أي محل ولايته.
وهدية من له خصومة عنده أو من أحس منه بأنه سيخاصم وإن اعتادها قبل ولايته لأنها في الأخيرة تدعو إلى الميل إليه وفي الأولى سببها الولاية.
وقد صحت الأخبار الصحيحة بتحريم هدايا العمال.
وإلا بأن كان من عادته أنه يهدى إليه قبل الولاية ولو مرة فقط أو كان في غير محل ولايته أو لم يزد المهدي على عادته ولا خصومة له حاضرة ولا مترقبة جاز قبوله ولو جهزها له مع رسوله وليس له محاكمة ففي جواز قبوله وجهان: رجح بعض شراح المنهاج الحرمة.

(1/620)


000000000000000000000000000000000
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وعلم مما مر أنه لا يحرم عليه قبولها في غير عمله وإن كان المهدي من أهل عمله ما لم يستشعر بأنها مقدمة لخصومة ولو أهدى له بعد الحكم حرم القبول أيضا إن كان مجازاة له وإلا فلا كذا أطلقه بعض شراح المنهاج.
قال شيخنا: ويتعين حمله على مهد معتاد أهدى إليه بعد الحكم وحيث حرم القبول أو الأخذ لم يملك ما أخذه فيرده لمالكه إن وجد وإلا فلبيت المال.
وكالهدية الهبة والضيافة وكذا الصدقة على الأوجه.
وجوز له السبكي في حلبياته قبول الصدقة ممن لا خصومة له ولا عادة وخصه في تفسيره بما إذا لم يعرف المتصدق أنه القاضي وبحث غيره القطع بحل أخذه الزكاة.
قال شيخنا: وينبغي تقييده بما ذكر.
وتردد السبكي في الوقف عليه من أهل عمله والذي يتجه فيه وفي النذر أنه إن عينه باسمه وشرطنا القبول كان كالهدية له.
ويصح إبراؤه عن دينه إذ لا يشترط فيه قبول.
ويكره للقاضي حضور الوليمة التي خص بها وحده وقال جمع: يحرم أو مع جماعة آخرين ولم يعتد ذلك قبل الولاية بخلاف ما إذا لم يقصد بها خصوصا كما لو اتخذت للجيران أو العلماء وهو منهم أو لعموم الناس.

(1/621)


ونقض حكما بخلاف نص أو إجماع أو بمرجوح,
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قال في العباب: يجوز لغير القاضي أخذ هدية بسبب النكاح إن لم يشترط وكذا القاضي حيث جاز له الحضور ولم يشترط ولا طلب انتهى وفيه نظر.
تنبيه: يجوز لمن لا رزق له في بيت المال ولا في غيره وهو غير متعين للقضاء وكان عمله مما يقابل بأجرة
أن يقول لا أحكم بينكما إلا بأجرة أو رزق على ما قاله جمع.
وقال آخرون يحرم وهو الأحوط لكن الأول أقرب.
ونقض القاضي وجوبا حكما لنفسه أو غيره إن كان ذلك الحكم بخلاف نص كتاب أو سنة أو نص مقلده أو قياس جلي وهو ما قطع فيه بإلحاق الفرع للأصل أو إجماع ومنه ما خالف شرط الواقف.
قال السبكي: وما خالف المذاهب الأربعة كالمخالف للإجماع أو بمرجوح من مذهبه فيظهر القاضي بطلان ما خالف ما ذكر وإن لم يرفع إليه بنحو نقضته أو أبطلته.
تنبيه [في بيان عدم جواز الحكم بخلاف الراجح] : نقل العراقي وابن الصلاح الإجماع على أنه لا يجوز الحكم بخلاف الراجح في المذهب وصرح السبكي بذلك في مواضع من فتاويه وأطال

(1/622)


ولا يقضي بخلاف علمه,
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وجعل ذلك من الحكم بخلاف ما أنزل الله لان الله تعالى أوجب على المجتهدين أن يأخذوا بالراجح وأوجب على غيرهم تقليدهم فيما يجب عليهم العمل به ونقل الجلال البلقيني عن والده أنه كان يفتي أن الحاكم إذا حكم بغير الصحيح من مذهبه نقض.
وقال البرهان بن ظهيرة: وقضيته والحالة هذه أنه لا فرق بين أن يعضده اختيار لبعض المتأخرين أو بحث.
تنبيه ثان [في بيان المعتمد في المذهب] : اعلم أن المعتمد في المذهب للحكم والفتوى ما اتفق عليه الشيخان كما جزم به النووي فالرافعي فما رجحه الأكثر فالأعلم فالأروع.
قال شيخنا: هذا ما أطلق عليه محققو المتأخرين والذي أوصى باعتماده مشايخنا.
وقال السمهودي: ما زال مشايخنا يوصوننا بالإفتاء بما عليه الشيخان وأن نعرض عن أكثر ما خولفا به.
وقال شيخنا ابن زياد: يجب علينا في الغالب ما رجحه الشيخان وإن نقل عن الأكثرين خلافه.
ولا يقضي القاضي أي لا يجوز له القضاء بخلاف علمه وإن قامت به بينة كما إذا شهدت برق أو نكاح أو ملك من يعلم حريته أو

(1/623)


ويقضي بعلمه ولا لبعض ولو رأى قاض ورقة فيها حكمه لم يعمل به حتى يتذكر,
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بينونتها أو عدم ملكه لأنه قاطع ببطلان الحكم به حينئذ والحكم بالباطل محرم.
ويقضي أي القاضي ولو قاضي ضرورة على الأوجه.
بعلمه إن شاء: أي بظنه المؤكد الذي يجوز له الشهادة مستندا إليه وإن استفاد قبل ولايته نعم لا يقضي به في حدود أو تعزير لله تعالى كحد الزنا أو سرقة أو شرب لندب الستر في أسبابها أما حدود الآدميين فيقضي فيها به سواء المال والقود وحد القذف وإذا حكم بعلمه لا بد أن يصرح بمستنده فيقول علمت أن له عليك ما ادعاه وقضيت أو حكمت عليك بعلمي فإن ترك أحد هذين اللفظين لم ينفذ حكمه كما قاله الماوردي وتبعوه.
ولا يقضي لنفسه ولا لبعض من أصله وفرعه ولا لشريكه في المشترك ويقضي لكل منهم غيره من إمام وقاض آخر ولو نائبا عنه دفعا للتهمة.
ولو رأى قاض وكذا شاهد ورقة فيها حكمه أو شهادته لم يعمل به في إمضاء حكم ولا أداء شهادة حتى يتذكر ما حكم أو شهد به لإمكان التزوير ومشابهة الخط ولا يكفي تذكره أن هذا خطه فقط.
وفيهما وجه إن كان الحكم والشهادة مكتوبين في ورقة مصونة عندهما ووثق بأنه خطه ولم يداخله فيه ريبة أنه يعمل به.

(1/624)


وله حلف على استحقاق اعتمادا على خط مورثه إن وثق بأمانته والقضاء على غائب جائز إن كان لمدع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وله أي الشخص حلف على استحقاق حق له على غيره أو أدائه لغيره اعتمادا على إخبار عدل وعلى خط نفسه على المتعمد وعلى خط مأذونه ووكيله وشريكه ومورثه إن وثق بأمانته بأن علم منه أنه لا يتساهل في شيء من حقوق الناس اعتضادا بالقرينة.
تنبيه [في بيان ما إذا خالف الظاهر الباطن أي: حقيقة الأمر] : والقضاء الحاصل على أصل كاذب ينفذ ظاهرا لا باطنا فلا يحل حراما ولا عكسه فلو حكم بشاهدي زور بظاهر العدالة لم يحصل بحكمه الحل باطنا سواء المال والنكاح أما المرتب على أصل صادق فينفذ القضاء فيه باطنا أيضا قطعا وجاء في الخبر: أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر. [قال الحافظ السيوطي رحمه الله في الدرر المنتثرة هذا من كلام الشافعي في الرسالة. أهـ. وراجع كشف الخفاء] .
وفي شرح المنهاج لشيخنا: ويلزم المرأة المحكوم عليها بنكاح كاذب الهرب بل والقتل وإن قدرت عليه كالصائل على البضع ولا نظر لكونه يعتقد الإباحة فإن أكرهت فلا إثم.
والقضاء على غائب عن البلد وإن كان في غير عمله أو عن المجلس بتوار أو تعزز جائز في غير عقوبة الله تعالى إن كان لمدع

(1/625)


حجة ولم يقل: هو مقر ووجب تحليفه بعد بينة أن الحق في ذمته,
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حجة ولم يقل هو أي الغائب مقر بالحق بل ادعى جحوده وأنه يلزمه تسليمه له الآن وأنه مطالبه بذلك فإن قال هو مقر وأنا أقيم الحجة استظهارا مخافة أن ينكر أو ليكتب بها القاضي إلى قاضي بلد الغائب لم تسمع حجته لتصريحه بالمنافي لسماعها إذ لا فائدة فيها مع الإقرار نعم لو كان للغائب مال حضر وأقام البينة على دينه لا ليكتب القاضي به إلى حاكم بلد الغائب بل ليوفيه منه فتسمع وإن قال هو مقر وتسمع أيضا إن أطلق.
ووجب إن كانت الدعوى بدين أو عين أو بصحة عقد أو إبراء كأن أحال الغائب على مدين له حاضر فادعى إبراءه تحليفه أي المدعي يمين الاستظهار إن لم يكن الغائب متواريا ولا متعززا بعد إقامة بنية أن الحق في الصورة الأولى ثابت في ذمته إلى الآن احتياطا للمحكوم عليه لأنه لو حضر لربما ادعى بما يبرئه.
ويشترط مع ذلك أن يقول أنه يلزمه تسليمه إلي وأنه لا يعلم في شهوده قادحا كفسق وعداوة.
قال شيخنا في شرح المنهاج وظاهر كما قال البلقيني أن هذا لا يأتي في الدعوى بعين بل يحلف فيها على ما يليق بها وكذا نحو الإبراء أما لو كان الغائب متواريا أو متعززا فيقضي عليهما بلا يمين لتقصيرهما قال بعضهم: لو كان للغائب وكيل حاضر لم يكن قضاء على غائب ولم يجب يمين.

(1/626)


كما لو ادعى على صبي وميت وإذا ثبت مال الغائب وله مال قضاه منه إذا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كما لو ادعى شخص على نحو صبي لا ولي له وميت ليس له وارث خاص حاضر فإنه يحلف لما مر.
أما لو كان لنحو الصبي ولي خاص أو للميت وارث خاص حاضر كامل اعتبر في وجوب التحليف طلبه فإن سكت عن طلبها لجهل عرفه الحاكم ثم إن لم يطلبها قضى عليه بدونها.
فرع: لو ادعى وكيل الغائب على غائب أو نحو صبي أو ميت فلا تحليف بل يحكم بالبينة لان الوكيل لا
يتصور حلفه على استحقاقه ولا على أن موكله يستحقه ولو وقف الأمر إلى حضور الموكل لتعذر استيفاء الحقوق بالوكلاء ولو حضر الغائب وقال للوكيل أبرأني موكلك أو وفيته فأخر الطلب إلى حضوره ليحلف لي أنه ما أبرأني لم يجب وأمر بالتسليم له ثم يثبت الإبراء بعد إن كان له به حجة لأنه لو وقف لتعذر الاستيفاء بالوكلاء نعم له تحليف الوكيل إذا ادعى عليه علمه بنحو الإبراء أنه لا يعلم أن موكله أبرأه مثلا لصحة هذه الدعوى عليه.
وإذا ثبت عند حاكم مال على الغائب أو الميت وحكم به وله مال حاضر في عمله أو دين ثابت على حاضر
في عمله قضاه الحاكم منه إذا

(1/627)


طلبه المدعي وإلا فإن سأل المدعي إنهاء الحال إلى قاضي بلد الغائب أجابه فينهي إليه سماع بينته ليحكم بها ثم يستوفي الحق أو حكما ليستوفي والإنهاء أن يشهد عدلين بذلك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
طلبه المدعي لان الحاكم يقوم مقامه ولو باع قاض مال غائب في دينه فقدم وأبطل الدين بإثبات إيفائه أو بنحو فسق شاهد استرد من الخصم ما أخذه وبطل البيع للدين على الأوجه خلافا للروياني.
وإلا يكن له مال في عمله و1لم يحكم فإن سأل المدعي إنهاء الحال إلى قاضي بلد الغائب أجابه وجوبا وإن كان المكتوب إليه قاضي ضرورة مسارعة بقضاء حقه.
فينهي إليه سماع بينته ثم إن عدلها لم يحتج المكتوب إليه إلى تعديلها وإلا احتاج إليه.
ليحكم بها ثم يستوفي الحق وخرج بها علمه فلا يكتب به لأنه شاهد الآن لا قاض ذكره في العدة وخالفه السرخسي واعتمده البلقيني لان علمه كقيام البينة وله على الأوجه أن يكتب سماع شاهد واحد ليسمع المكتوب إليه شاهدا آخر أو يحلفه ويحكم له أو ينهي إليه حكما إن حكم ليستوفي الحق لان الحاجة تدعو إلى ذلك.
والإنهاء أن يشهد ذكرين عدلين بذلك أي بما جرى عنده من ثبوت أو حكم ولا يكفي غير رجلين ولو في مال أو هلال رمضان.
__________
1 قال الشيخ السيد البكري رحمه الله: الواو بمعنى أو ولو عبر بها كما في التحفة لكان أولى وهو مفهوم قوله: وحكم به. انتهى.

(1/628)


000000000000000000000000000000000
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويستحب كتاب به يذكر فيه ما يتميز به المحكوم عليه من اسم أو نسب وأسماء الشهود وتاريخه والإنهاء بالحكم من الحاكم يمضي مع قرب المسافة وبعدها وسماع البينة لا يقبل إلا فوق مسافة العدوى.
إذ يسهل إحضارها مع القرب وهي التي يرجع منها مبكرا1 إلى محله ليلا فلو تعسر إحضار البينة مع القرب بنحو مرض قبل الإنهاء.
فرع: قال القاضي وأقره لو حضر الغريم وامتنع من بيع ماله الغائب لوفاء دينه به عند الطلب ساغ للقاضي
بيعه لقضاء الدين وإن لم يكن المال بمحل ولايته وكذا إن غاب بمحل ولايته كما ذكره التاج السبكي والغزي وقالا بخلاف ما لو كان بغير محل ولايته لأنه لا يمكن نيابته عنه في وفاء الدين حينئذ وحاصل كلامهما جواز البيع إذا كان هو أو ماله في محل ولايته ومنعه إذا خرجا عنها.
مهمة: لو غاب إنسان من غير وكيل وله مال حاضر فأنهى إلى الحاكم أنه إن لم يبعه اختل معظمه لزمه بيعه إن تعين طريقا لسلامته وقد صرح الأصحاب بأن القاضي إنما يتسلط على أموال الغائبين إذا أشرفت على
الضياع أو مست الحاجة إليها في استيفاء حقوق ثبتت على الغائب وقالوا ثم في الضياع تفصيل فإن امتدت الغيبة وعسرت
__________
1 في نسخة مبكرا.

(1/629)


0000000000000000000000000000000
ـــــــــــــــــــــــــــــ
المراجعة قبل وقوع الضياع ساغ التصرف وليس من الضياع اختلال لا يؤدي لتلف المعظم ولم يكن ساريا لامتناع بيع مال الغائب لمجرد المصلحة والاختلال المؤدي لتلف المعظم ضياع نعم الحيوان يباع لمجرد تطرق اختلال إليه لحرمة الروح ولأنه يباع على مالكه بحضرته إذا لم ينفق عليه ولو نهي عن التصرف في ماله امتنع إلا في الحيوان.
فرع: يحبس الحاكم الآبق إذا وجده انتظارا لسيده فإن أبطأ سيده باعه الحاكم وحفظ ثمنه فإذا جاء سيده فليس له غير الثمن.

(1/630)