كفاية الأخيار في حل غاية الإختصار

كتاب الْجِهَاد
الْجِهَاد فرض على الْكِفَايَة لقَوْله تَعَالَى {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَة وَغير ذَلِك وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ فرض عين لتعطلت المعايش والمزروعات وَخَربَتْ الْبِلَاد نعم قد يعرض مَا يُوجب ذَلِك على كل أحد كَمَا سَنذكرُهُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَإِذا قَامَ بِالْجِهَادِ من فِيهِ كِفَايَة سقط الْفَرْض عَن البَاقِينَ لِأَن هَذَا شَأْن فروض الكفايات ثمَّ الْكِفَايَة تحصل بشيئين
أَحدهمَا شحن الثغور بِجَمَاعَة يكفون من بازائهم من الْعَدو فَإِن ضعفوا وَجب على كل من وَرَاءَهُمْ من الْمُسلمين أَن يمدوهم بِمن يتقوون بِهِ على قتال عدوهم
وَالثَّانِي أَن يدْخل الإِمَام دَار الْكفَّار غازياً بِنَفسِهِ أَو يبْعَث جَيْشًا وَيُؤمر عَلَيْهِم من يصلح لذَلِك فَلَو امْتنع الْكل من الْقيام بذلك حصل الاثم لَكِن هَل يعم الْجَمِيع أم يخْتَص بالذين يدنون إِلَيْهِ فِيهِ وَجْهَان الْمَذْكُور فِي الْحَاوِي للماوردي وَتَعْلِيق القَاضِي أبي الطّيب أَنه يَأْثَم الْكل وَصحح النَّوَوِيّ أَنه يَأْثَم كل من لَا عذر لَهُ
وَاعْلَم أَنه يسْتَحبّ الاكثار من الْجِهَاد للآيات وَالْأَخْبَار الْوَارِدَة فِي ذَلِك وَأَقل مَا يجب فِي السّنة مرّة لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لم يتْركهُ مُنْذُ أَمر بِهِ فِي كل سنة والاقتداء بِهِ وَاجِب وَلِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قَالَ {أَو لَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} قَالَ مُجَاهِد نزلت فِي الْجِهَاد وَلِأَنَّهُ فرض يتَكَرَّر وَأَقل مَا يجب التكرر فِي كل سنة مرّة كَالصَّوْمِ وَالزَّكَاة فَإِن دعت الْحَاجة إِلَى أَكثر من مرّة فِي السّنة وَجب لِأَنَّهُ فرض كِفَايَة فَيقدر بِقدر الْحَاجة وَالله أعلم قَالَ

(1/498)


(وشروط وجوب الْجِهَاد سَبْعَة الْإِسْلَام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة والذكورة وَالصِّحَّة والطاقة على الْقِتَال)
قد علمت مِمَّا مر أَن الْجِهَاد فرض كِفَايَة وَأَنه لَا يجب إِلَّا على مُسلم بَالغ عَاقل حر ذكر مستطيع فَمن اجْتمعت فِيهِ هَذِه الصِّفَات فَهُوَ من أهل فرض الْجِهَاد بالِاتِّفَاقِ أما الْكَافِر فَلَا جِهَاد عَلَيْهِ لِأَن الشَّخْص لَا يُخَاطب بقتل نَفسه وَأما الصَّبِي فَلقَوْله تَعَالَى {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} الْآيَة قيل المُرَاد بالضعفاء الصّبيان لضعف أبدانهم وَقيل المجانين لضعف عُقُولهمْ وللخبر الْمَشْهُور رفع الْقَلَم عَن ثَلَاثَة مِنْهُم الصَّبِي وَالْمَجْنُون وَلِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام رد زيد بن ثَابت وَرَافِع بن خديج والبراء بن عَازِب وَابْن عمر رَضِي الله عَنْهُم يَوْم بدر واستصغرهم ورد عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ عرضت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم أحد وَأَنا ابْن أَربع عشرَة سنة فردني وَلم يجزني فِي الْقِتَال وَعرضت عَلَيْهِ يَوْم الجندق وَأَنا ابْن خمس عشرَة سنة فأجازني وَأما الْحُرِّيَّة فاحتراز عَن الرّقّ فَلَا جِهَاد على رَقِيق لقَوْله تَعَالَى {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} فَلم يتَوَجَّه لَهُ الْخطاب لِأَنَّهُ لَا مَال لَهُ فَدخل فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} وروى جَابر رَضِي الله عَنهُ أَن عبدا قدم فَبَايع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَايعهُ على الْإِسْلَام وَالْجهَاد فَقدم صَاحبه فَأخْبر أَنه مَمْلُوكه فَاشْتَرَاهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ بعبدين فَكَانَ بعد ذَلِك إِذا أَتَاهُ من لَا يعرفهُ يبايعه سَأَلَهُ أحر هُوَ أم مَمْلُوك فَإِن قَالَ حر بَايعه على الْإِسْلَام وَالْجهَاد وَإِن قَالَ عبد بَايعه على الْإِسْلَام دون الْجِهَاد وَلِأَنَّهُ لَا يُسهم لَهُ وَلَو كَانَ من أهل فرض الْجِهَاد لأسهم لَهُ وَالْمُدبر وَالْمكَاتب والمبعض كالقن
وَأما الذُّكُورَة فاحتراز عَن الْأُنُوثَة فَلَا يجب الْجِهَاد على الْمَرْأَة لقَوْله تَعَالَى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}

(1/499)


واطلاق الْمُؤمنِينَ لَا يدْخل فِيهِ النِّسَاء عِنْد الشَّافِعِي إِلَّا بِدَلِيل وسئلت عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا عَن الْجِهَاد فَقَالَت جهادهن الْحَج وَأما الِاسْتِطَاعَة فاحتراز عَمَّن لَا يَسْتَطِيع كَالْمَرِيضِ وَالْأَعْمَى والأعرج لأَنهم لَا يقدرُونَ على الْجِهَاد وَلِهَذَا أنزل الله تَعَالَى فيهم {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} الْآيَة وَسورَة الْفَتْح نزلت فِي الْجِهَاد بالِاتِّفَاقِ وَلَا يجب على مَقْطُوع الرجل وَالْيَد فَإِن قطع بَعْضهَا فَإِن كَانَ الْأَقَل وَجب أَو الْأَكْثَر فَلَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَلَا يجب على الْفَقِير الَّذِي لَا يجد مَا ينْفق على نَفسه وَعِيَاله أَو لَا يجد مَا يحمل عَلَيْهِ وَهُوَ على مَسَافَة الْقصر وَإِن قدر على الْمَشْي لقَوْله تَعَالَى {وَلا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ} وَلَو كَانَ الْعَدو دون مَسَافَة الْقصر لم يشْتَرط وجود الرَّاحِلَة إِن قدر على الْمَشْي وَيشْتَرط فِي هَذِه الْحَالة وجدان النَّفَقَة إِلَّا أَن يكون الْعَدو بِبَاب بَلَده وَالله أعلم ثمَّ هَذَا كُله إِذا لم يطَأ الْكفَّار بلد الْمُسلمين فَإِن وطئوها وغشوا الْمُسلمين وَعلم كل وَاقِف عَلَيْهِ من الْكفَّار أَنه إِن أَخذه قَتله فَعَلَيهِ أَن يَتَحَرَّك وَيدْفَع عَن نَفسه بِمَا أمكن يَسْتَوِي فِي ذَلِك الْحر وَالْعَبْد وَالْمَرْأَة وَالْأَعْمَى والأعرج وَالْمَرِيض وَلِأَنَّهُ قتال دفاع عَن الدّين لَا قتال غَزْو فَلَزِمَ كل مطيق وَالله أعلم قَالَ
(وَمن سبي من الْكفَّار يكون على ضَرْبَيْنِ ضرب يكون رَقِيقا بِنَفس السَّبي وهم النِّسَاء وَالصبيان وَضرب لَا يرق بِنَفس السَّبي وهم الرِّجَال البالغون والامام مُخَيّر فيهم بَين أَرْبَعَة أَشْيَاء الْقَتْل والاسترقاق والمن والفدية بِالْمَالِ أَو بِالرِّجَالِ يفعل من ذَلِك مَا فِيهِ الْمصلحَة)
يحرم قتل نسَاء الْكفَّار وصبيانهم وَكَذَا المجانين إِلَّا أَن يقاتلوا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نهى عَن قَتلهمْ وَعَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مر فِي بعض غَزَوَاته فَوجدَ امْرَأَة مقتولة فَأنْكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قتل النِّسَاء وَالصبيان فَإِذا سبي صبي رق بالأسر لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يقسم السَّبي كَمَا يقسم المَال وَحكم الْمَجْنُون كَالصَّبِيِّ صرح بِهِ القَاضِي حُسَيْن وَإِن كَانَ المسبي امْرَأَة رقت بالأسر لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يقسم السَّبي كَمَا يقسم المَال قَالَ الْمَاوَرْدِيّ هَذَا فِي الْكِتَابِيَّة فَإِن كَانَت مِمَّا لَا كتاب لَهَا كالدهرية وَعَبدَة الْأَوْثَان فَإِن امْتنعت من

(1/500)


الْإِسْلَام قتلت عِنْد الشَّافِعِي قَالَ ابْن الرّفْعَة يظْهر أَن يَجِيء فِيهَا مَا سَنذكرُهُ فِي الْأَسير وَإِن أسر حر مُكَلّف من أهل الْقِتَال فللإمام أَو أَمِير الْجَيْش كَمَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره أَن يخْتَار مَا فِيهِ الْمصلحَة من الْقَتْل أَو الاسترقاق عَرَبيا كَانَ أَو أعجمياً مِمَّن لَهُ كتاب أَو مِمَّن لَا كتاب لَهُ والمن والمفاداة بِمَال المأسور أَو غَيره أَو بِمن أسر من الْمُسلمين
وَدَلِيل جَوَاز الْقَتْل إِذا رَآهُ مصلحَة كَكَوْنِهِ شجاعاً أَو ذَا رَأْي قَوْله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} وَقتل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عقبَة بن أبي معيط وَالنضْر بن الْحَارِث صبرا يَوْم بدر
وَدَلِيل الاسترقاق إِذا رَآهُ مصلحَة لكَونه كثير الْعَمَل وَلَا رَأْي لَهُ وَلَا شجاعة أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام اسْترق بني قُرَيْظَة وَبني المصطلق وهوازن وَادّعى القَاضِي أَبُو الطّيب الاجماع على ذَلِك وَدَلِيل جَوَاز الْمَنّ بِكَوْنِهِ مائلاً إِلَى الْإِسْلَام أَو ذَا مَال أَو شرف قَوْله تَعَالَى {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} وَمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم بدر على أبي الْعَاصِ بن الرّبيع وَمن عَليّ أبي عز الجُمَحِي على أَن لَا يقاتله فَقلت فقاتله فِي أحد فَأسر فَقتله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ وَأسر الْمُسلمُونَ ثُمَامَة بن آثال الْحَنَفِيّ وربطوه بساربة فِي الْمَسْجِد فَأَطْلقهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وفادى أهل بدر بالأموال وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن يُخَيّر فِي خصْلَة خَامِسَة وَهُوَ تخليده فِي السجْن إِلَى أَن يرى فِيهِ رَأْيه وَالله أعلم
(فرع) لَو كَانَ المأسور عبدا فَلَا يجْرِي فِيهِ التَّخْيِير بل يتَعَيَّن استرقاقه فَلَو رأى أَن يمن عَلَيْهِ لم يجز إِلَّا بِرِضا الْغَانِمين وَفِي الْحَاوِي للماوردي أَن يفادى بِهِ أسرى من الْمُسلمين ويعوض عَنهُ

(1/501)


الْغَانِمين جَازَ وَفِي الْمُهَذّب أَنه لَو رأى قَتله قَتله وَضَمنَهُ للغانمين لِأَنَّهُ مَال وَيجوز استرقاق بعض الشَّخْص على الصَّحِيح وَالله أعلم قَالَ
(وَمن أسلم قبل الْأسر أحرز مَاله وَدَمه وصغار أَوْلَاده)
من أسلم من الْكفَّار قبل أسره وَالظفر بِهِ عصم دَمه وَمَاله كَمَا نَص عَلَيْهِ الشَّارِع صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا قالوها فقد عصموا مني دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ سَوَاء أسلم وَهُوَ مَحْصُور وَقد قرب الْفَتْح أَو أسلم حَال أَمنه وَسَوَاء أسلم فِي دَار الْحَرْب أَو الْإِسْلَام لإِطْلَاق الْخَبَر ويعصم أَيْضا أَوْلَاده الصغار عَن السَّبي وَيحكم بِإِسْلَامِهِمْ تبعا لَهُ وَالْحمل كالمنفصل فَلَا يسترق وَيتبع أمه وَهل يعْصم إِسْلَام الْجد ولد ابْنه الصَّغِير فِيهِ أوجه الصَّحِيح نعم وَالْمَجْنُون من الْأَوْلَاد كالصغار وَإِن كَانَ بَالغ عَاقِلا ثمَّ جن عصم أَيْضا على الصَّحِيح وَكَذَا لَو أسلمت الْمَرْأَة قبل الظفر بهَا عصمت نَفسهَا وَمَالهَا وَأَوْلَادهَا الصغار وَفِي أَوْلَادهَا الْكِبَار قَول وَهُوَ شَاذ مَرْدُود وَقَول الشَّيْخ وصغار أَوْلَاده احْتَرز بِهِ عَن الْأَوْلَاد الْبَالِغين الْعُقَلَاء فَلَا يعصمهم إِسْلَام الْأَب لاستقلالهم بِالْإِسْلَامِ وَقَضِيَّة كَلَام الشَّيْخ أَن إِسْلَامه لَا يعْصم زَوجته عَن الاسترقاق وَهُوَ كَذَلِك على الْمَذْهَب وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَالله أعلم قَالَ
(وَيحكم للصَّبِيّ بِالْإِسْلَامِ عِنْد وجود ثَلَاثَة أَسبَاب أَن يسلم أحد أَبَوَيْهِ أَو يسبى مُنْفَردا عَن أَبَوَيْهِ أَو يُوجد لقيطاً فِي دَار الْإِسْلَام)
الْإِسْلَام صفة كَمَال وَشرف يَعْلُو وَلَا يعلى عَلَيْهِ كَمَا قَالَه ابْن عَبَّاس وَيزِيد وَلَا ينقص كَمَا قَالَه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِذا كَانَ كَذَلِك ناسب أَن يحكم بِإِسْلَام الصَّبِي تبعا للسابي قَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد وَهَذَا بِالْإِجْمَاع وعلته أَن الصَّبِي لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ إِذْ لَا حكم لكَلَامه فَيتبع السابي لِأَنَّهُ كَالْأَبِ فِي الْحَضَانَة وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ السَّبي قلبه عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ قلباً كلياً فَإِنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا بحريَّته وباستقلاله إِذا بلغ والآن قد اسْترق بِالسَّبْيِ حَتَّى كَأَنَّهُ عدم وافتتح لَهُ وجود وَقيل يبْقى مَحْكُومًا بِكُفْرِهِ لِأَن يَده يَد مَالك فَأَشْبَهت يَد المُشْتَرِي وَالصَّحِيح الأول وعَلى هَذَا هَل يحكم بِإِسْلَامِهِ ظَاهرا فَقَط أم ظَاهرا وَبَاطنا وَجْهَان فَإِذا بلغ وَوصف بالْكفْر أقرّ على الأول دون الثَّانِي وَلَو كَانَ السابي ذِمِّيا لم يحكم بِإِسْلَام الصَّبِي المسبي على الصَّحِيح وَلَو كَانَ السابي مَجْنُونا أَو مراهقاً حكم بِإِسْلَام المسبي تبعا أَيْضا حَكَاهُ الْبَغَوِيّ هَذَا حكم السابي وَأما إِذا كَانَ أحد أَبَوَيْهِ مُسلما وَقت الْعلُوق فَهُوَ مُسلم لِأَنَّهُ بعض الأَصْل فَلَو علق بَين كَافِرين ثمَّ أسلم أَحدهمَا حكم بِإِسْلَامِهِ لِأَن الْإِسْلَام يزِيد وَلَا ينقص ويعلو وَلَا يعلى عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ إِذا تبع السابي فِي الْإِسْلَام فتبعيته لأحد أَبَوَيْهِ أولى للبعضية

(1/502)


وَمن الْأَسْبَاب الَّذِي يحكم بهَا بِإِسْلَام الصَّغِير أَن يُوجد لقيطاً بدار الْإِسْلَام تَغْلِيبًا لِلْإِسْلَامِ وَالدَّار لِأَنَّهُ يَعْلُو وَلَا يعلى عَلَيْهِ وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا من مَوْلُود إِلَّا يُولد على الْفطْرَة فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَو ينصرَانِهِ أَو يُمَجِّسَانِهِ وَفِي لفظ أَو يشركانه فَقَالَ رجل أَرَأَيْت يَا رَسُول الله لَو مَاتَ قبل ذَلِك فَقَالَ الله أعلم بِمَا كَانُوا عاملين
وَاعْلَم أَن الحكم بِإِسْلَام اللَّقِيط لَا يخْتَص بدار الْإِسْلَام بل لَو كَانَت دَار كفر وفيهَا مُسلمُونَ بل مُسلم أَسِير أَو تَاجِرًا أَو وجد لَقِيط هُنَاكَ فَإنَّا نحكم بِإِسْلَامِهِ على الْأَصَح لِأَن الْإِسْلَام يزِيد وَلَا ينقص وَاعْلَم أَن من حكمنَا بِإِسْلَامِهِ بِالدَّار لَو جَاءَ ذمِّي وَأقَام بَيِّنَة مَقْبُولَة بنسبه لحقه وَتَبعهُ فِي الْكفْر لِأَن الْبَيِّنَة أقوى من الدَّار وَلَو اقْتصر على الدَّعْوَى فَالْمَذْهَب أَنه لَا يتبعهُ فِي الْكفْر وَالله أعلم وَقد يُؤْخَذ من كَلَام الشَّيْخ أَن الصَّبِي لَا يَصح إِسْلَامه اسْتِقْلَالا وَهُوَ كَذَلِك على الصَّحِيح وَإِن كَانَ مُمَيّزا لِأَنَّهُ لَا عبارَة لَهُ وَلِهَذَا لَا يَصح كفره وَلَا يَقع طَلَاقه وَلَا ينفذ عتقه وَبيعه وَجَمِيع معاملاته وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْغَنِيمَة فصل وَمن قتل قَتِيلا أعطي سلبه وتقسم الْغَنِيمَة بعد ذَلِك فَيعْطى أَرْبَعَة أخماسها لمن شهد الْوَقْعَة للفارس ثَلَاثَة أسْهم وللراجل سهم
من غرر بِنَفسِهِ وَهُوَ من أهل السهْمَان فِي قتل كَافِر ممنع فِي حَال الْقِتَال اسْتحق سلبه سَوَاء شَرط لَهُ الإِمَام ذَلِك أم لَا لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قتل قَتِيلا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَة فَلهُ سلبه وَورد أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ من قتل كَافِرًا فَلهُ سلبه فَقتل أَبُو طَلْحَة يَوْمئِذٍ عشْرين رجلا وَأخذ أسلابهم وَلَا فرق بَين أَن يقْتله مبارزة أَو انغمر فِي الصَّفّ فَقتله أَو جَاءَهُ من وَرَائه وَهُوَ يُقَاتل فَقتله لِأَن أَبَا قَتَادَة رَضِي الله عَنهُ قَالَ خرجت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم خَيْبَر فَرَأَيْت رجلا من الْمُشْركين قد علا رجلا من الْمُسلمين فاستدرت حَتَّى أَتَيْته من وَرَائه فضربته على حَبل عَاتِقه ضَرْبَة فَأقبل عَليّ فضمني ضمة

(1/503)


وجدت مِنْهَا ريح الْمَوْت ثمَّ أدْركهُ الْمَوْت فأرسلني إِلَى أَن قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قتل قَتِيلا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَة فَلهُ سلبه فَقُمْت فقصصت الْقِصَّة فَقَالَ رجل صدق يَا رَسُول الله قَالَ فأعطه فاعطانيه فابتعت بِهِ مخرفاً فِي بني سَلمَة فَإِنَّهُ أول مَال تأثلته فِي الْإِسْلَام المخرف بِفَتْح الْمِيم الْبُسْتَان وبكسرها مَا يجنى فِيهِ الثِّمَار وَفِي معنى الْقَتْل مَا إِذا أَزَال كِفَايَة شَره بِأَن أثخنه أَو أَزَال امْتِنَاعه بعمي أَو قطع يَدَيْهِ وَرجلَيْهِ أَو يَدَيْهِ وَرجله فِي الْأَظْهر لَا قطع يَد أَو رجل وَلَو أسره اسْتحق سلبه فِي الْأَظْهر لِأَنَّهُ كفى شَره وَلَو لم يكن من أهل السهْمَان إِلَّا أَنه من أهل الرصخ كَالْعَبْدِ وَالصَّبِيّ وَالْمَرْأَة وَكَذَا الْكَافِر وَحضر بِإِذن الإِمَام فَإِنَّهُ يسْتَحق السَّلب على الْأَصَح إِلَّا الْكَافِر على الْمَذْهَب وَلَو اشْترك جمَاعَة فِي قتل وَاحِد اشْتَركُوا فِي سلبه وَالسَّلب هُوَ مَا على الْقَتِيل من ثِيَاب وخف وآلات حَرْب كدرع ومغفر وَسلَاح ومركوب يُقَاتل عَلَيْهِ أَو ماسكاً عنانه وَيُقَاتل رَاجِلا وَمَا على المركوب من سرج ولجام ومقود وَغَيرهَا وَكَذَا طوق وسوار ومنطقة وهميان وَنَفَقَة فِيهِ وجنيبة يُقَاد مَعَه فِي الْأَظْهر لَا حقيبة مشدودة على الْفرس وَمَا فِيهَا من دَرَاهِم وأمتعة على الْمَذْهَب وَلَا ثِيَاب وأمتعة خَلفه فِي الْخَيْمَة فَإِذا أَخذ السَّلب فَلَا يُخَمّس على الْمَذْهَب ثمَّ بعده يخرج الإِمَام أَو نَائِبه الْمُؤَن اللَّازِمَة كَأُجْرَة حمال وحافظ وَغَيرهمَا ثمَّ يَجْعَل الْبَاقِي خَمْسَة أَقسَام مُتَسَاوِيَة وَيَأْخُذ خمس رقاع يكْتب على وَاحِدَة لله أَو للْمصَالح وعَلى أَربع للغانمين ويدرجها فِي بَنَادِق من طين وَيخرج لكل قسم رقْعَة بعد الْخَلْط فَمن خرج عَلَيْهِ أسْهم الله تَعَالَى جعله بَين أهل الْخمس على خَمْسَة وَمِنْه يكون النَّفْل فِي الْأَصَح وَيقسم الْبَاقِي على الْغَانِمين لقَوْله تَعَالَى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الْآيَة فَإِذا خرج سهم الْخمس صَار الْبَاقِي للغانمين وَهَذَا الْآيَة نَظِير قَوْله تَعَالَى {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُث} أَي وَلأبي الْبَاقِي فيعطي للراجل سهم وللفارس ثَلَاثَة أسْهم لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فعل ذَلِك يَوْم خَيْبَر وَفِي رِوَايَة دَاوُد أسْهم لرجل ولفرسه ثَلَاثَة أسْهم سَهْمَيْنِ لفرسه وَسَهْما لَهُ وَفِي لفظ جعل للْفرس سَهْمَيْنِ ولصاحبه سَهْما وَفِي رِوَايَة ابْن عمر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسم يَوْم خَيْبَر للْفرس سَهْمَيْنِ وللراجل سَهْما وَفَسرهُ نَافِع مولى ابْن عمر فَقَالَ إِذا كَانَ مَعَ الرجل فرس

(1/504)


فَلهُ ثَلَاثَة أسْهم فَإِن لم يكن لَهُ فرس فَلهُ سهم
وَالْمرَاد بالفارس هُنَا من حضر الْوَقْعَة وَهُوَ من أهل فرض الْقِتَال بفرس يُقَاتل عَلَيْهِ مهيئاً لِلْقِتَالِ سَوَاء كَانَ عتيقاً أَو برذوناً أَو هجيناً أَو مقرفاً سَوَاء قَاتل عَلَيْهِ أم لَا لعدم الْحَاجة إِلَيْهِ وَكَذَا لَو قَاتل على حِصَار حصن أسْهم لفرسه لِأَنَّهُ أعده ليلحق بِهِ أهل الْحصن لَو هربوا وَكَذَا لَو قَاتل فِي الْبَحْر يُسهم لفرسه لِأَنَّهُ رُبمَا انْتقل إِلَى الْبر فقاتل عَلَيْهِ نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي الْأُم وَحمله ابْن كج على مَا إِذا قربوا من السَّاحِل وَاحْتمل أَن يخرج ويركب أما إِذا لم يحْتَمل الْحَال الرّكُوب فَلَا معنى لاعطاء الْفرس وَنَحْوه وَالله أعلم قَالَ
(وَلَا يُسهم إِلَّا لمن استكملت فِيهِ خمس شَرَائِط الاسلام وَالْبُلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة والذكورة فَإِن اخْتَلَّ شَرط من ذَلِك رضخ لَهُ وَلم يُسهم)
لَا سهم لهَؤُلَاء لأَنهم لَيْسُوا من أهل فرض الْجِهَاد وَأما الرضخ فلفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أما الْكفَّار إِذا حَضَرُوا بِإِذن الإِمَام فَإِنَّهُ يرْضخ لَهُم إِذا لم يستأجروا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام اسْتَعَانَ بيهود بني فينقاع فرضخ لَهُم وَلم يُسهم فَإِن حضر بِغَيْر إِذن الإِمَام لم يرْضخ لَهُ على الْأَصَح لِأَنَّهُ مُتَّهم فِي مُوالَاة أهل دينه بل للْإِمَام تعزيره إِن رأى ذَلِك وَأما الصَّبِي فَإِنَّهُ يرْضخ لَهُ سَوَاء أذن لَهُ الإِمَام أم لَا لِأَنَّهُ حصل بِهِ نفع وتكثير سَواد وَلَفظ الشَّافِعِي دَال على أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أرضخ لَهُ وَلَا يُسهم لَهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل فرض الْجِهَاد وَفِي الْحَاوِي للماوردي إِلْحَاق الْمَجْنُون بِالصَّبِيِّ وَادّعى أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أرضخ لَهُ وَأما العَبْد فَلَا يُسهم لَهُ ويرضخ لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل فرض الْجِهَاد وَفِيه نفع قوي وتكثير وَقد رضخ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لغمير مولى أبي اللخم يَوْم خَيْبَر وَلم يُسهم لَهُ وَأما الْعقل فقد مر حكم الْمَجْنُون وَأما الْمَرْأَة فَلَا يُسهم لَهَا فَإِنَّهَا لَيست من أهل فرض الْجِهَاد نعم يرْضخ لَهَا سَوَاء كَانَ لَهَا زوج أم لَا وَسَوَاء أذن الإِمَام أم لَا لِأَن كتاب ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا إِلَى نجدة قد كن يحضرن الْحَرْب مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأَما أَن يضْرب لَهُنَّ بِسَهْم فَلَا وَقد كَانَ يرْضخ لَهُنَّ وَالله أعلم قَالَ

(1/505)


(وَيقسم الْخمس على خَمْسَة أسْهم سهم لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيصرف بعده للْمصَالح وَسَهْم لِذَوي الْقُرْبَى وهم بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب وَسَهْم لِلْيَتَامَى وَسَهْم للْمَسَاكِين وَسَهْم لأبناء السَّبِيل)
قد مر أَن الْغَنِيمَة تخمس وَأَن الْخمس الْوَاحِد يكْتب عَلَيْهِ لله عز وَجل أَو للْمصَالح فَهَذَا الْخمس يُخَمّس أَيْضا لقَوْله {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الْآيَة فأضيف لله وَلِلرَّسُولِ ولبقية الْأَصْنَاف وَصدر بِذكر الله تَعَالَى تبركاً وَقيل ليعلم أَنه لَيْسَ مُخْتَصًّا بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اختصاصاً يسْقط بِمَوْتِهِ وَقد رُوِيَ أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يقسم الْخمس أَيْضا أَخْمَاسًا سهم لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ينْفق مِنْهُ على نَفسه الْكَرِيمَة وعَلى عِيَاله ومصالحه وَمَا فضل جعله فِي السِّلَاح عدَّة فِي سَبِيل الله تَعَالَى وَسَائِر الْمصَالح وَيصرف بعده للمصالخ لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَالْخمس مَرْدُود فِيكُم وَلَا يُمكن رده إِلَى جَمِيع الْمُسلمين إِلَّا بجعله فِي الْمصَالح وأهمها سد الثغور بِالرِّجَالِ وَالْعدَد وإصلاحها لِأَن فِيهَا حفظ الْمُسلمين والثغور مَوَاضِع الْخَوْف ثمَّ الأهم فالأهم من أرزاق الْقُضَاة والمؤذنين وَغَيرهم من الْمصَالح قَاتل الله الْفُقَهَاء المؤازرين لِلْأُمَرَاءِ الجورة الَّذين لم يزَالُوا يَمْشُونَ إِلَيْهِم ويقرونهم على مُخَالفَة الشَّرِيعَة حَتَّى أماتوا الْعَمَل بِكَلَام الله وَكَلَام رَسُوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مثل ذَلِك وَغَيره وَالله أعلم
السهْم الثَّانِي من الْخمس لِذَوي الْقُرْبَى وهم أقرباء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهم بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب دون غَيرهم لما روى جُبَير بن مطعم رَضِي الله عَنهُ قَالَ مشيت أَنا وَعُثْمَان بن عَفَّان إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْنَا أَعْطَيْت بني هَاشم وَبني الْمطلب من خمس خَيْبَر وَتَرَكتنَا وَنحن وهم بِمَنْزِلَة وَاحِدَة مِنْك فَقَالَ إِنَّمَا بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب شَيْء وَاحِد فَقَالَ جُبَير وَلم يقسم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبني عبد شمس وَبني نَوْفَل شَيْئا وَجبير من بني نَوْفَل وَعُثْمَان من بني عبد شمس وَرَسُول لله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بني هَاشم وهَاشِم وَالْمطلب وَنَوْفَل وَعبد شمس هم أَوْلَاد عبد منَاف وَالله أعلم
السهْم الثَّالِث لِلْيَتَامَى الْفُقَرَاء لِأَن ذَلِك شرع إرفاقاً فَكَانَ لمن يتَوَجَّه إِلَيْهِم المعونة وَالرَّحْمَة وهم الْفُقَرَاء دون الْأَغْنِيَاء وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح وَقيل يشْتَرك فِيهِ الْأَغْنِيَاء والفقراء كذوي الْقُرْبَى

(1/506)


ولإطلاق الْآيَة وَلِأَنَّهُ لَو اعْتبر فيهم الْفقر لدخلوا فِي جملَة الْمَسَاكِين وَهَذَا ضَعِيف جدا لِأَن غَنِي الْيَتِيم بِالْمَالِ فَوق غناهُ بِالْأَبِ وَمَعَ الْأَب لَا يعْطى فَكَذَا مَعَ المَال فعلى الصَّحِيح لَا تجب التَّسْوِيَة بل يجوز تَفْضِيل بَعضهم على بعض بِالِاجْتِهَادِ وَلَا التَّعْمِيم بِخِلَاف بني هَاشم وَبني الْمطلب فَإِنَّهُ يجب تعميمهم وَيُعْطى الذّكر مثل حَظّ الانثيين لِأَن سهمهم مُسْتَحقّ بِالشَّرْعِ بِقرَابَة الْأَب فَأشبه الأرث واليتيم اسْم لصغير لَا أَب لَهُ عِنْد الْجُمْهُور وَقيل لَا أَب لَهُ وَلَا جد وَالله أعلم
السهْم الرَّابِع للْمَسَاكِين لِلْآيَةِ الْكَرِيمَة ويندرج فِيهِ الْفُقَرَاء وَالأَصَح أَنه عَام لجَمِيع الْمَسَاكِين وَقيل يخْتَص بِهِ مَسَاكِين الْمُجَاهدين الَّذين عجزوا عَنهُ لمسكنة أَو زمانة فعلى الصَّحِيح يجوز أَن يخْتَص بِهِ الْبَعْض وَيجوز التَّفْصِيل وَيجوز لَهُم الْجمع بَينه وَبَين الزَّكَاة وَالْكَفَّارَة قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَجزم الرَّافِعِيّ بِمَنْع الِاقْتِصَار على ثَلَاثَة مِنْهُم وَكَذَا فِي بني السَّبِيل وَالله أعلم
(فرع) لَو كَانَ الْيَتِيم مِسْكينا أعْطى بِسَهْم الْيَتِيم لِأَنَّهُ صفة لَازِمَة والمسكنة زائلة قَالَه الْمَاوَرْدِيّ قلت وَفِيه نظر لِأَن الْيُتْم صفة مُحَققَة الزَّوَال عِنْد الْحَيَاة لَا محَالة بِالْبُلُوغِ والمسكنة قد تستمر إِلَى الْمَمَات إِلَّا أَن يَزُول اللُّزُوم فِي الْحَال وَالله أعلم
السهْم الْخَامِس لِابْنِ السَّبِيل لِلْآيَةِ وَيصرف إِلَيْهِم على قدر حَاجتهم كَالزَّكَاةِ فَلَا بُد فِيهِ من الْحَاجة عِنْد الدّفع ويعم جَمِيع أَبنَاء السَّبِيل على الرَّاجِح وَقيل يخْتَص بأبناء السَّبِيل من الْمُجَاهدين قَالَ
بَاب الْفَيْء فصل وَيقسم مَال الْفَيْء على خمس فرق خمسه على من يفرق عَلَيْهِم خمس الْغَنِيمَة وَيُعْطى أَرْبَعَة أخماسه للمقاتلة وَفِي مصَالح الْمُسلمين
لما ذكر الشَّيْخ حكم الْغَنِيمَة عقبه بِحكم الْفَيْء وَلَا بُد من معرفَة كل مِنْهُمَا أما الْغَنِيمَة فَهِيَ مُشْتَقَّة من الْغنم وَهُوَ الْفَائِدَة الْحَاصِلَة بِلَا بذل وَأما الْفَيْء فَهُوَ مَأْخُوذ من قَوْلهم فَاء إِذا رَجَعَ أَي صَار للْمُسلمين هَذَا من حَيْثُ اللُّغَة
وَأما من جِهَة الشَّرْع فالغنيمة مَا أَخذ من الْكفَّار بِالْقِتَالِ وإيجاف الْخَيل والركاب والإيجاف الإعمال وَقيل الْإِسْرَاع
وَأما الْفَيْء فَهُوَ كل مَا أَخذ من الْكفَّار من غير قتال كَالْمَالِ الَّذِي تَرَكُوهُ فَزعًا من الْمُسلمين والجزية وَالْخَرَاج وَالْأَمْوَال الَّتِي يَمُوت عَنْهَا من لَا وَارِث لَهُ من أهل الذِّمَّة وَنَحْو ذَلِك كَمَال الْمُرْتَد إِذا قتل أَو مَاتَ وَعشر تِجَارَتهمْ وَفِي مَال الْفَيْء خلاف الْمَذْهَب أَنه يُخَمّس وَيصرف خمسه إِلَى

(1/507)


الْأَصْنَاف الَّذين تقدم ذكرهم فِي الْغَنِيمَة وَأما الْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس الْبَاقِيَة فَكَانَت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته مَعَ خمس الْخمس لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام كَانَ يَسْتَحِقهَا لإرهابه الْعَدو وَأما بعده فَالْأَظْهر أَنَّهَا للمرتزقة وهم الأجناد الَّذين عينهم الإِمَام للْجِهَاد وَأثبت أَسْمَاءَهُم فِي الدِّيوَان بعد أَن تَجْتَمِع فيهم شُرُوط وَهِي الْإِسْلَام والتكليف وَالْحريَّة وَالصِّحَّة لِأَن بهم يحصل إرهاب الْعَدو وَدفع شرهم فعلى هَذَا لَو زَادَت الْأَرْبَعَة الْأَخْمَاس على قدر حَاجتهم صرف الْفَاضِل إِلَيْهِم أَيْضا على قدر مؤناتهم فَمن احْتَاجَ أَلفَيْنِ يعْطى من الْفَاضِل إِلَيْهِ ضعف مَا يحْتَاج ألفا وَهَذَا هُوَ الْأَصَح وَقيل يرد عَلَيْهِم بِالسَّوِيَّةِ وَهل يجوز أَن يصرف من الْفَاضِل شَيْء إِلَى إصْلَاح الْحُصُون وَإِلَى السِّلَاح والكراع وَجْهَان أصَحهمَا نعم وَالله أعلم وَقيل إِن الْأَرْبَعَة أَخْمَاس تكون للْمصَالح لِأَنَّهَا كَانَت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَيَاته فتصرف بعده إِلَى الْمصَالح كخمس الْخمس وعَلى هَذَا فيعطون مِنْهَا الأجناد لِأَن إعانتهم من أهل الْمصَالح وَالله أعلم قَالَ
بَاب الْجِزْيَة فصل وشرائط وجوب الجزير خمس خِصَال الْبلُوغ وَالْعقل وَالْحريَّة والذكورة وَأَن يكون من أهل الْكتاب أَو مِمَّن لَهُ شبه كتاب
الجزيرة هِيَ المَال الْمَأْخُوذ بِالتَّرَاضِي لإسكاننا إيَّاهُم فِي دِيَارنَا أَو لحق دِمَائِهِمْ وذراريهم وَأَمْوَالهمْ أَو لكفنا عَن قِتَالهمْ وَاخْتَارَ القَاضِي حُسَيْن الْأَخير وَضعف الأول بِالْمَرْأَةِ فَإنَّا تسكن دَارنَا وَلَا جِزْيَة عَلَيْهَا وَضعف الثَّانِي بِأَنَّهَا تكَرر أَي الْجِزْيَة بِتَكَرُّر السنين وبذل الْحق لَا يتَكَرَّر وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ الْوَجْه أَن يجمع مقاصدهم وَيَقُول هِيَ أَي مقاصدهم تقَابل الْجِزْيَة
ثمَّ الأَصْل فِي الْجِزْيَة قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} إِلَى قَوْله {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أَي يلتزموها وَهَذَا نَظِير قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} أَي التزموا ذَلِك بالنطق بِالشَّهَادَتَيْنِ المتضمنة لذَلِك وَقيل إِن آيَة الْجِزْيَة ناسخة لهَذِهِ الْآيَة وَأخذ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْجِزْيَة من مجوس هجر وَمن أهل نَجْرَان وَمن أهل أَيْلَة وَالْمعْنَى فِي أَخذهَا المعونة لنا وإهانة لَهُم وَرُبمَا يحملهم ذَلِك على الْإِسْلَام وَاعْلَم أَن عقد الذِّمَّة

(1/508)


لَا صَحَّ إِلَّا من الإِمَام أَو مِمَّن فوض إِلَيْهِ الإِمَام لِأَنَّهُ من الْمصَالح الْعِظَام فاختص بِمن لَهُ النّظر الْعَام إِذا عرفت هَذِه فَيشْتَرط فِي الْمَعْقُود لَهُ شُرُوط
أَحدهَا الْبلُوغ
وَالثَّانِي الْعقل فَلَا تعقد الْجِزْيَة لصبي وَلَا مَجْنُون لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لِمعَاذ لما بَعثه إِلَى الْيمن أَن يَأْخُذ الْجِزْيَة من كل حالم أَي محتلم دِينَارا فَدلَّ مَفْهُومه على الْمَنْع فِي الصَّبِي وَمن طَرِيق الأولى الْمَجْنُون وَفِي الْمَجْنُون وَجه كَالْمَرِيضِ وَلِأَن الصَّبِي وَالْمَجْنُون محقونا الدَّم وَمَال من الْأَمْوَال بِدَلِيل ملكهمَا بِنَفس الْأسر كَمَا تقدم فَلم يجب عَلَيْهِمَا شَيْء بِالسُّكْنَى كَسَائِر الْأَمْوَال وَالله أعلم
الثَّالِث الْحُرِّيَّة فَلَا تُؤْخَذ الْجِزْيَة من عبد وَلَا على سَيّده شَيْء لقَوْله عمر رَضِي الله عَنهُ لَا جِزْيَة على مَمْلُوك وَعَزاهُ الْمَاوَرْدِيّ إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلِأَنَّهُ مَال وَالْمَال لَا جِزْيَة عَلَيْهِ وَالْمُدبر وَالْمكَاتب وَأم الْوَلَد وَولد أم الْوَلَد التَّابِع لَهَا كالقن وَكَذَا الْمبعض على الرَّاجِح وَقيل تجب بِقدر مَا فِيهِ من الْحُرِّيَّة وَالله أعلم
الرَّابِع الذُّكُورَة فَلَا تُؤْخَذ من امْرَأَة لقَوْله تَعَالَى {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} الْآيَة فَلَا تدخل الْمَرْأَة فِي ذَلِك وَلِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ كتب إِلَى أُمَرَاء الأجناد أَن اضربوا الْجِزْيَة وَلَا تضربوها على النِّسَاء وَالصبيان وَلِأَن الْمَرْأَة محقونة الدَّم وَمَال من الْأَمْوَال وَلَا جِزْيَة على مَال وَلَا فرق فِي الْمَرْأَة بَين أَن تكون زَوْجَة لذِمِّيّ أَو استتبعها مَعَه فِي العقد أم لَا وَسَوَاء ولدت فِي دَارنَا أَو كَانَت فِي دَار الْحَرْب وَطلبت الذِّمَّة لتقيم بِدَارِنَا فَيجوز أَن يعْقد لَهَا بِشَرْط أَن تجْرِي عَلَيْهِمَا أحكامنا من غير جِزْيَة وَالله أعلم
الْخَامِس أَن يكون الْمَعْقُول لَهُ لَهُ كتاب أَو شبه كتاب أما من لَا كتاب لَهُ وَلَا شبه كتاب كعبدة الْأَوْثَان وَالشَّمْس وَالْقَمَر وَمن فِي معناهم وَالْمُرْتَدّ فَلَا يعْقد لَهُ لِأَن الله تَعَالَى أَمر بقتل جَمِيع الْمُشْركين إِلَى أَن يسلمُوا بقوله تَعَالَى {فَاقْتُلُوا الْمُشْركين حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وَخص أهل الْكتاب بِالْآيَةِ الآخرى وَمن لَهُ شبه كتاب وَهُوَ الْمَجُوسِيّ بالْخبر فَبَقيَ الحكم فِيمَا عدا الْمَذْكُورين

(1/509)


لعُمُوم الْآيَة وتعقد الْجِزْيَة لمن زعم أَنه مستمسك بصحف إِبْرَاهِيم وزبور دَاوُد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وَمن أحد أَبَوَيْهِ كتابي وَالْآخر وَثني تعقد لَهُ الذِّمَّة أَيْضا على الْمَذْهَب وَكَذَا تعقد لأَوْلَاد من تهود أَو تنصر قبل النّسخ وشككنا فِي وقته لِأَن لهَؤُلَاء كتابا قَالَ الله تَعَالَى {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} وَقَالَ تَعَالَى {لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ ومُوسَى} وَغير ذَلِك وَالله أعلم قَالَ
(وَأَقل الْجِزْيَة دِينَار فِي كل حول وَيُؤْخَذ من متوسط الْحَال دِينَارَانِ وَمن الْمُوسر أَرْبَعَة دَنَانِير اسْتِحْبَابا)
لَا يَصح عقد الذِّمَّة إِلَّا بِشَرْطَيْنِ
أَحدهمَا أَن يلتزموا أَحْكَام الْمُسلمين وَلَا يشْتَرط التَّصْرِيح بِكُل حكم قَالَه الْبَنْدَنِيجِيّ
الثَّانِي أَن يبذلوا الْجِزْيَة فَيجب التَّعَرُّض لهذين فِي نفس العقد وَيشْتَرط التَّعَرُّض أَيْضا لمقدار الْجِزْيَة وَلَا يجب التَّعَرُّض لغير ذَلِك على الصَّحِيح فَيَقُول الإِمَام أَو نَائِبه أقررتكم أَو أَذِنت لكم فِي الْإِقَامَة فِي دَار الْإِسْلَام على أَن تنقادوا لأحكام الْإِسْلَام وتبذلوا الْجِزْيَة فِي كل سنة كَذَا وَيَقُول الذِّمِّيّ قبلت أَو رضيت وَلَا يَصح عقد الذِّمَّة مؤقتاً على الرَّاجِح لِأَنَّهُ بدل عَن الْإِسْلَام وَالْإِسْلَام لَا يؤقت وَالْأولَى أَن تقسم الْجِزْيَة على الطَّبَقَات فَيجْعَل على الْفَقِير الكسوب دِينَار وعَلى الْمُتَوَسّط دِينَارَانِ وعَلى الْغَنِيّ أَرْبَعَة دَنَانِير اقْتِدَاء بعمر رَضِي الله عَنهُ لما بعث عُثْمَان بن حنيف إِلَى الْكُوفَة أمره أَن يَجْعَل على الْغَنِيّ ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين درهما وعَلى المتوصل أَرْبَعَة وَعشْرين درهما وعَلى الْفَقِير اثْنَي عشر درهما وَالِاعْتِبَار فِي الْغَنِيّ وَالْفَقِير بِوَقْت الْأَخْذ لَا بِوَقْت العقد وَمن ادّعى مِنْهُم أَنه فَقير أَو متوسط قبل قَوْله إِلَّا أَن تقوم بَينه بِخِلَاف نعم أقل الْجِزْيَة دِينَار لكل سنة نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَهُوَ الْوُجُود فِي كتب الْأَصْحَاب وَحجَّة ذَلِك أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام لما وَجه معَاذًا إِلَى الْيمن أَن يَأْخُذ من كل حالم دِينَارا أَو عدله من المغافر وَهِي ثِيَاب تكون بِالْيمن وَالله أعلم قَالَ
(وَيجوز أَن يشْتَرط عَلَيْهِم الضِّيَافَة فضلا عَن مِقْدَار الْجِزْيَة)
قَوْله وَيجوز فِيهِ تساهل فَإِن ذَلِك مُسْتَحبّ وَيسْتَحب للْإِمَام أَن يشْتَرط عَلَيْهِم بعد الدَّنَانِير ضِيَافَة من يمر بهم من الْمُسلمين وَمن الْمُجَاهدين وَغَيرهم إِذا رَضوا ذَلِك لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام

(1/510)


ضرب على نَصَارَى أَيْلَة ثلثمِائة دِينَار فِي كل سنة وَكَانُوا ثلثمِائة نفر وَأَن يضيفوا من يمر بهم من الْمُسلمين ثَلَاثًا وَأَن لَا يغشوا مُسلما وَضرب عمر رَضِي الله عَنهُ الْجِزْيَة على أهل الشَّام وَشرط عَلَيْهِم ضِيَافَة ثَلَاثَة أَيَّام وَلِأَن فِي مصلحَة للْمُسلمين لَا سِيمَا الْفُقَرَاء وَلَا تزاد على ثَلَاثَة أَيَّام لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الضِّيَافَة ثَلَاث وَمَا زَاد عَلَيْهَا صَدَقَة وَفِي رِوَايَة مكرمَة وتضرب الضِّيَافَة على الْغَنِيّ والمتوسط وَفِي ضربهَا على الْفَقِير أوجه أَصَحهَا فِي أصل الرَّوْضَة والمنهاج لَا تضرب وَهُوَ ظَاهر وَنَصّ عَلَيْهِ الشَّافِعِي لِأَنَّهَا تَتَكَرَّر فيعجز عَنْهَا وَالله أعلم
(فرع) لَو أَرَادَ الضَّيْف أَن يَأْخُذ مِنْهُم ثمن الطَّعَام لم يلْزمهُم وَلَو أَرَادَ أَن يَأْخُذ الطَّعَام وَيذْهب بِهِ وَلَا يَأْكُلهُ فَلهُ ذَلِك بِخِلَاف طَعَام الْوَلِيمَة وَالْفرق أَن هَذِه مَعْلُومَة وَتلك مكرمَة وَلِهَذَا يبين الطَّعَام والأدم وجنسهما فَيَقُول لكل وَاحِد كَذَا من الْخبز وَكَذَا من السّمن أَو الزَّيْت ويتعرض لعلف الدَّوَابّ وَلَا يحْتَاج إِلَى ذكر قدره لَهُنَّ نعم إِن ذكر الشّعير يبين قدره بِخِلَاف التِّين والحشيش وَنَحْوهمَا وَإِطْلَاق الْعلف يقتني الشّعير نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي وَالله أعلم قَالَ
(ويتضمن عقد الذِّمَّة أَرْبَعَة اشياء أَن يؤدوا الْجِزْيَة وَأَن تجْرِي عَلَيْهِم أَحْكَام الْإِسْلَام ان لَا يذكرُوا دين الْإِسْلَام إِلَّا بِخَير وَأَن لَا يَفْعَلُوا مَا فِيهِ ضَرَر على الْمُسلمين)
الذِّمَّة الْعَهْد والإلزام فَإِذا صَحَّ عقد الذِّمَّة لزمنا شَيْء ولزمهم شَيْء أما مَا يلْزمنَا فأمران
أَحدهمَا الْكَفّ عَنْهُم بِأَن لَا نتعرض لَهُم نفسا وَلَا مَالا ويضمنهما الْمُتْلف لأَنهم إِنَّمَا بذلوا الْجِزْيَة لعصمة الدِّمَاء وَالْأَمْوَال وَلَا تتْلف خمورهم إِلَّا إِذا أظهروها وَمن أتلفهَا من غير إِظْهَار عصى وَلَا ضَمَان عَلَيْهِ إِذْ لَا قيمَة لَهَا وَالله أعلم
الْأَمر الثَّانِي أَنه يلْزم الإِمَام دفع من قصدهم من أهل الْحَرْب إِن كَانُوا فِي بِلَاد الْإِسْلَام فَإِن كَانُوا مستوطنين فِي دَار الْحَرْب وبذلوا الْجِزْيَة لم يجب الذب عَنْهُم وَإِن كَانُوا منفردين ببلدة فِي جوارنا وَجب الذب على الْأَصَح وَيجب دفع أهل الذِّمَّة وَالْمُسْلِمين عَنْهُم كَمَا يجب دفع أهل الْحَرْب وَالله أعلم وَأما مَا يلْزمهُم فأمور مِنْهَا أَدَاء الْجِزْيَة لِأَنَّهَا أُجْرَة قَالَ الرَّافِعِيّ وَتُؤْخَذ على وَجه الصغار والإهانة بِأَن يكون الذِّمِّيّ قَائِما وَالْمُسلم جَالِسا ويأمره أَن يخرج يَده من جيبه ويحني ظَهره ويطأطئ رَأسه وَيصب مَا مَعَه فِي كفة الْمِيزَان وَيَأْخُذ المستوفي بلحيته وَيضْرب فِي لهزمته وَهِي مجمع اللَّحْم بَين الماضغ وَالْأُذن وَهَذَا معنى الصغار عِنْد بَعضهم وَهل هَذِه الْهَيْئَة وَاجِبَة أم مُسْتَحبَّة وَجْهَان أصَحهمَا مُسْتَحبَّة قَالَ النَّوَوِيّ هَذِه الْهَيْئَة بَاطِلَة وَلَا نعلم لَهَا أصلا مُعْتَمدًا وَإِنَّمَا

(1/511)


ذكرهَا بَعضهم قَالَ الْجُمْهُور تُؤْخَذ بِرِفْق كأخذ الدُّيُون فَالصَّوَاب الْجَزْم ببطلانها وردهَا على من اخترعها وَلم ينْقل أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَا أحد من الْخُلَفَاء الرَّاشِدين فعل شَيْئا مِنْهَا قَالَ الرَّافِعِيّ وَالأَصَح عِنْد الْأَصْحَاب تَفْسِير الصغار بِالْتِزَام أَحْكَام الْإِسْلَام وجريانها عَلَيْهِم وَقَالُوا أَشد الصغار على الْمَرْء أَن يحكم عَلَيْهِ بِمَا لَا يَعْتَقِدهُ ويضطر إِلَى احْتِمَاله وَالله أعلم
قلت ورد أَن هِشَام بن حَكِيم بن حزَام وجد رجلا وَهُوَ على حمص سمر نَاسا من القبط فِي أَدَاء الْجِزْيَة فَقَالَ مَا هَذَا سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِن الله عز وَجل يعذب الَّذين يُعَذبُونَ النَّاس فِي الدُّنْيَا وَقد نَص الشَّافِعِي على ذَلِك أَي على الْأَخْذ بالرفق وَالله أعلم وَمِنْهَا الانقياد لحكم الاسلام من ضَمَان النَّفس وَالْمَال وَالْعرض بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسلمين لأَنهم يَعْتَقِدُونَ وجوب ذَلِك وَقد التزموا إِجْرَاء أَحْكَام الْإِسْلَام عَلَيْهِم فَإِن أَتَوا بِمَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمه كَالزِّنَا وَالسَّرِقَة أقيم عَلَيْهِم الْحَد لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أُتِي بِيَهُودِيٍّ وَيَهُودِيَّة قد زَنَيَا فَأمر بهما فَرُجِمَا وَإِن أَتَوا بِمَا لَا يَعْتَقِدُونَ تَحْرِيمه كشرب الْخمر وَنِكَاح الْمَجُوس والمحارم فَهَل يُقَام عَلَيْهِم الْحَد قيل نعم كَمَا يحد الْحَنَفِيّ بالنبيذ على الْأَصَح مَعَ اعْتِقَاده حلّه وَالْمذهب أَنهم لَا يحدون لأَنهم يقرونَ على الْكفْر بالجزية لأجل اعْتِقَادهم فَكَانَ إقرارهم على مَا يَعْتَقِدُونَ إِبَاحَته أولى وَسَوَاء رَضوا بحكمنا عِنْد الترافع إِلَيْنَا أم لَا ويخالفون الْحَنَفِيَّة فَإِن الْمَعْنى الَّذِي لأجل حد شَارِب الْخمر مَوْجُود فِي النَّبِيذ قطعا فأطرح الْخلاف والحنفي مزجور بِالْحَدِّ بِخِلَاف الذِّمِّيّ فَإِنَّهُ يشرب الْخمر استحلالاً وتديناً وعَلى كل حَال فَلَيْسَ لَهُم إِظْهَار ذَلِك فَإِن أظهروه وعزروا وَالله أعلم
وَمِنْهَا كف اللِّسَان والامتناع من إِظْهَار الْمُنْكَرَات كإسماع الْمُسلمين شركهم وَقَوْلهمْ ثَالِث ثَلَاثَة تَعَالَى الله عَمَّا يصفونَ واعتقادهم فِي الْمَسِيح والعزير عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنَّهُمَا ابْنا الله تَعَالَى وَيمْنَعُونَ أَيْضا من إِظْهَار قراءتهم الْإِنْجِيل والتوراة والناقوس وَنَحْو ذَلِك فَإِن أظهرُوا شَيْئا من ذَلِك عزروا وَمنعُوا وَلَكِن لَا ينْتَقض الْعَهْد بذلك وَإِن شَرط عَلَيْهِم الِامْتِنَاع من ذَلِك بِخِلَاف مَا لَو قَاتلُوا وامتنعوا من الْجِزْيَة وَمن اجراء أَحْكَام الاسلام فَإِنَّهُ ينْتَقض عَهدهم وَلَو تزوج بِمسلمَة ذمِّي أَو زنى بهَا أَو دلّ أهل الْحَرْب على عَورَة الْمُسلمين أَو فتن مُسلما عَن دينه أَو طعن فِي الْإِسْلَام أَو الْقُرْآن أَو ذكر سيد الْأَوَّلين والآخرين صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسوء فَالْأَصَحّ أَنه إِن شرطنا انْتِقَاض الْعَهْد بذلك انْتقض وَإِلَّا فَلَا وَلَو قطعُوا الطَّرِيق أَو أَتَوا بِالْقَتْلِ الَّذِي يُوجب الْقصاص فَالْمَذْهَب أَنه كَالزِّنَا بِمسلمَة وَقيل كالقتال وَمن الْأُمُور الَّتِي فِيهَا ضَرَر على الْمُسلمين إيواء عُيُون الْكفَّار وَهُوَ كَمَا إِذا تطلع على عَورَة

(1/512)


الْمُسلمين ونقلها إِلَى دَار الْحَرْب وَالله أعلم
وَاعْلَم أَنا حَيْثُ حكمنَا بانتقاض الْعَهْد فَهَل نبلغهم المأمن فِيهِ خلاف وَالرَّاجِح لَا بل يتَخَيَّر الإِمَام فيهم بَين الْقَتْل واسترقاق والمن وَالْفِدَاء لأَنهم كفار لَا أَمَان لَهُم وَالله أعلم قَالَ
(ويؤخذون بِلبْس الغيار والزنار وَيمْنَعُونَ من ركُوب الْخَيل)
قَوْله يؤخذون بِلبْس الغيار هَذِه عبارَة الرَّوْضَة تبعا للرافعي وَلَفظ الْمِنْهَاج وَيُؤمر بالغيار أَي الذِّمِّيّ وَلم يبين أَن الْأَمر للْوُجُوب أَو للنَّدْب وَلَفظ التَّنْبِيه ويلزمهم أَن يتميزوا عَن الْمُسلمين فِي اللبَاس وَقَيده فِي الْمُهَذّب بدار الْإِسْلَام وَالْحَاصِل أَنهم يتميزون عَن الْمُسلمين ليعرفوا فيعاملوا بِمَا يَلِيق بهم وَالْأولَى أَن تلبس كل طَائِفَة مَا اعتادته قَالَ الْأَصْحَاب عَادَة الْيَهُود العسلي وَهُوَ الْأَصْفَر وَعَادَة النَّصَارَى إِلَّا كهب والأدكن وَهُوَ نوع من الفاختي قَالَ ابْن الصّباغ الدكنة السوَاد وَعَادَة الْمَجُوس الْأسود والأحمر وَيَكْفِي ذَلِك فِي بعض الثِّيَاب الظَّاهِرَة من الْعِمَامَة وَغَيرهَا قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن وَغَيره تَكْفِي خرقَة من الألوان تحط على أكتافهم دون الذيل وَتَبعهُ الْبَغَوِيّ قَالَ الرَّافِعِيّ الْأَشْبَه أَن لَا تخْتَص بالكتف وَاشْترط الْحَط على مَوضِع لَا يعْتَاد وكما يؤخذون بالغيار يؤخذون بشد الزنار وَهُوَ خيط غليظ على أوساطهم خَارج الثِّيَاب وَاحْتج لذَلِك بِأَن عمر رَضِي الله عَنهُ كتب إِلَى أُمَرَاء الْأَمْصَار فِي أهل الْكتاب أَن يجروا نواصيهم وَأَن يربطوا الكستجات فِي أوساطهم ويروى المناطق والكستجات هِيَ الزنانير وَالْمرَاد بهَا المناطق أَيْضا وَلَا فرق فِي الْخَيط بَين الْأسود والأبيض وَغَيره من الألوان قَالَه الْمَاوَرْدِيّ وَلَا يَكْفِي شده بَاطِنا قَالَ القَاضِي حُسَيْن لأَنهم يتدينون بذلك قَالَ الرَّافِعِيّ وَتَبعهُ فِي الرَّوْضَة تبعا للماوردي وَلَيْسَ لَهُم إِبْدَاله بالمنطقة والمنديل وَنَحْوهمَا وَإِنَّمَا جمع بَين الْعَلامَة والزنانير قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب وَابْن الصّباغ ليَكُون أثبت للعلامة فَإِن الْمُسلم قد يفعل أَحدهمَا وَإِذا دخلُوا الْحمام جعل فِي رقابهم طوق من رصاص أَو نُحَاس أَو جرس ليتميزوا عَن الْمُسلمين وَكَذَا الحكم حَيْثُ تجردوا من الثِّيَاب وكل هَذِه الْأُمُور حَتَّى يعاملوا بِمَا يَلِيق بهم حَتَّى لَا يتصدرون فِي الْمجَالِس إهانه لَهُم وَلَا يبدءون بِالسَّلَامِ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام نهى عَن بداءتهم بِهِ وَقَالَ إِذا لقيتموهم فِي الطَّرِيق فاضطروهم وألجئوهم إِلَى أضيقها وَالله أعلم
وَيمْنَعُونَ من ركُوب الْخَيل لقَوْله تَعَالَى {وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله} أَمر أولياءه بإعدادها لأعدائه وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْخَيل مَعْقُود بنواصيها الْخَيْر إِلَى يَوْم

(1/513)


الْقِيَامَة أَي الْغَنِيمَة وَقد رُوِيَ ظُهُورهَا عز وَقد ضربت عَلَيْهِم الذلة كَمَا قَالَ تَعَالَى {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} وَفِي وَجه لَا يمْنَعُونَ من البراذين وَلَا خلاف أَنهم يمْنَعُونَ من تَقْلِيد السيوف وَحمل السَّلَام وتختم الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يمْنَعُونَ من ركُوب الْحمير النفيسة وَكَذَا البغال إِذْ لَا شرف فِيهَا وَقيل يمْنَعُونَ من البغال النفيسة كالخيل قلت وَهُوَ قوي فِي زَمَاننَا لِأَن فِيهِ شرفاً بِدَلِيل تعاطيه قُضَاة البراطيل وَغَيرهم من أَصْحَاب الوجاهة من الْمُسلمين وَقد اخْتَار ذَلِك الإِمَام الْغَزالِيّ وَجزم بِهِ الفوراني وَهُوَ مُتَّجه وَالله أعلم قَالَ

(1/514)