نهاية المطلب في دراية المذهب

باب صفة الصلاة
قال الشافعي: "إذا أحرم إماماً، أو وَحْده، نوى صلاتَه في حال التكبيرة، لا قبله، ولا بعده ... إلى آخره" (1).
770 - النية ركن الصلاة وقاعدتها، وهي محتومة باتفاق العلماء، وفي تفصيل القول فيها خَبْط كثير الفقهاء. والذي جر في ذلك معظمَ الإشكالِ الذهولُ عن ماهية النيّة، وجنسها في الموجودات.
ونحن نذكر الحق في ذلك، ثم نبني عليه الأغراض الفقهيّة على أبين وجهٍ إن شاء الله تعالى.
771 - فالنيّة من قبيل الإرادات والقصود، وتتعلق بما يجري في الحال أو في الاستقبال: فما تعلق بالحال، فهو القصد تحقيقاً، وما يتعلق بالاستقبال فهو الذي يسمى عزماً، ولا يتصوّر تعلّق النيّة [بماض قطعاً. ثم إن فرض تعلق النيّة] (2) بفعل موصوف بصفة واحدة، سهلت النية، وإن كثرت صفات المنوي، فقد تعسر النية، وسأذكر سبب العسر فيه، وقد يظن الأخرق أن النية لها ابتداء، ووسط، ونهاية، وجريان في الضمير على ترتيب، وهذا زلل، وذهول عن حقيقة النيّة. وإنما الذي يجري على ترتيبٍ ما نصفه، فنقول:
إحضار علومٍ في الذهن متعلقةٍ بمعلوماتٍ عسر؛ حتى ذهب بعضُ الأئمة في الأصول إلى أن العلْمين المختلفين يتضادان ولا يجتمعان، وهذا خطأ صريح، فإذا كان الفعل موصوفاً بصفات، فالعلوم بها تترتب، وتقع في أزمنة في مطرد العادة. ثم إذا حضرت العلومُ، واجتمعت في الذكر يُوجه القصد إليها، في لحظة، بلا ترتب
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 70.
(2) ساقط من الأصل، ومن: (ط).

(2/112)


واسترسال. ثم قد تجري العلوم، فيبقى الذهول في أواخر الأمور عن أوائلها، فلا تتوجّه النية إلى الموصوف كما ينبغي. فإن انضم إلى ذلك التلفظُ بشيء آخر سوى المنوي -كالتكبير في حال التحرم- تناهى العسر من اجتماع هذه المختلفات.
فقد نصصنا على ماهية النية، وأوضحنا أنها لا تترتب في نفسها، وذكرنا ما يطرأ فيها من عسر (1)، وسنبين غرضنا الآن إن شاء الله تعالى.
فنقول بعد ذلك: الكلام في
ثلاثة فصول:
كلام في وقت النية، وكلام في كيفية النية، وكلام في محل النية.
[فصل]
[في وقت النية] (2)
772 - فأفا وقت النية، وهو أغمض الفصول، فليعتنِ الناظر به، ونحن ننقل مقالات الأصحاب فيه مرسلاً، ثم ننبه على مُدرك الحق إن شاء الله تعالى:
فمن أئمتنا من قال: ينبغي أن تقترن النية بالتكبير وينبسط عليها، فينطبق أولها على أول التكبير، وآخرها على آخره. وهذا ما كان يراه شيخنا. وكان يستدل بظاهر نص الشافعي - قال: "نوى في حال التكبير لا قبلها ولا بعدها".
وذهب بعض أئمتنا إلى أنّه يقدم النية على التكبير. وإذا تمّت، افتتح همزة التكبير متصلة بآخر النيّة. ولو قرن النيّة بالتكبير، لم يجز. وذكر العراقيون والصيدلاني أنه لو قدم كما ذكره المقدِّمون، أو قرن كما ذكره الأوّلون، جاز.
ثم ذكر أصحاب هذه المذاهب وجوهَ مذاهبهم مرسلةً، فنذكرها، ثم ننعطف على إيضاح التحقيق إن شاء الله.
فأما الذين شرطوا الاقتران، اعتلّوا بأن العقد يحصل بالتكبير، فينبغي أن يكون القصد مقروناً به، وإن تقدّم القصد ثم جرى التكبير -عَرِيّاً عن العقد- لم يرتبط القصد
__________
(1) في الأصل، وفي (ط): من غير عسر.
(2) من عمل المحقق.

(2/113)


بالمقصود، ولم يتحقق تعلّق أحدِهما بالثاني.
وأما من رأى تقديم النية، اعتلّ بأن النيّة لو بسطت على التكبير، خلا أول التكبير من نيّةٍ تامّة، وإذا قدّمت النيّةُ، ثبت حكمها، فاقترن حكم النيّة التامّة بأول جزء من التكبير.
ومن جوّز الأمرين جميعاًً، بنى توجيه مذهبه على المسامحة في الباب، واستروح إلى أن الأوَّلِين كانوا لا يتعرّضوِن لتضييق الأمر في ذلك على الناس.
773 - وهذه المذاهب ووجوهها مختبطة لا حقيقة لها. ونحن نقول: قد سبق أن النية لا يتصوّر انبساطها، وإنما الذي يترتب ذكرُ العلوم بصفات المنوي كما سبق، فمن يُقدّم إنما يقدّم إحضار العلوم، فإذا اجتمعت، ولم يقع الذهول عن أوائلها، وقع القصد إلى المعلوم بصفاته مع أول التكبير، فتكون حقيقة النية في لحظة واحدة مقترنة بأول جزءٍ من التكبير، فهذا معنى التقديم، فالمقدّم [إذاً] (1) العلوم (2)، والنيّة مع الأول.
ومن يظن أن النية منبسطة، فإنما تنبسط أزمنة العلوم، فيبتديها مع أول التكبير، ثم نقدّر تمام حضورها مع آخر التكبير. فعند ذلك يجرد القصد إلى ما حضرت العلوم به، فينطبق هذا القصد على آخر التكبير، وآخر التكبير أول العقد، فمن يحاول الاقتران والبسط، فإنّما يحاول إيقاع القصد مع آخر التكبير.
فإذاً سبيل التوجيه -مع ما ذكرناه- أن الأوّل يقول: لو لم تتقدم العلوم على أول التكبير، لم ينطبق القصد على أول التكبير، وإذا خلا أوّل الصلاة عن القصد، لم يجز. ومن شرط الاقتران يقول: النظر إلى حالة العقد، وإنما يقع العقد مع آخر التكبير، ومن خيَّر بين التقديم والتأخير، آلَ حاصل كلامه إلى التخيير بين إطباق القصد على أول التكبير، وبين إطباق النية على أوّل العقد.
فهذا بيان هذه الطرق.
__________
(1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(2) (ت 2): المعلوم.

(2/114)


774 - ولم يتفطّن لحقيقة النيّة أحد من الفقهاء غيرُ القفّال؛ فإنه قال: "النيّة تقع في لحظة واحدة لا يتصور بسطها" وشَرْحُ ما ذكره ما أوردناه.
ولو حضرت العلوم قبل التكبير، ثم وقع القصد قبل أول التكبير، وخلا أول التكبير عن النيّة، فلا يصح ذلك عند أئمتنا.
775 - وأبو حنيفة (1) يصحح هذا. وحقيقة الخلاف بيننا وبينه يرجع عندي إلى أمر أصولي: وهو أن من يرى تقدّم الاستطاعة على الفعل، فمتعلق القدرة عنده ليس عين الفعل (2)، فعلى هذا متعلق القصد يتقدم على وقوع المقصود، كما أن متعلق القدرة متقدم على وقوع المقدور، ثم لا يجوِّز أبو حنيفة أن ينقطع تعلق القصد بغيره عن أول التكبير.
فهذا هو الوفاء ببيان حقيقة المذاهب في التقديم والاقتران. ثم فرعّ الفقهاء على هذه الطرق تفريعاتٍ مختلطة صادرة عن اختلاط الأصول.
776 - فأمّا من قال بتقديم النيّة قال: يجب أن يكون مستديماً للنيّة جملةً، إلى الفراغ من التكبير. وهذا أيضاً قول من لم يحط بحقيقة النيّة.
وأنا أقول: من ضرورة تقديم النيّة أن تنطبق النيّة على أوّل التكبير، والمقدم هو المعلوم، ثم إذا حضرت العلوم، وقع القصد، فليس ما يدام نيّةً وإنّما هو ذكر النيّة، وذكْرُ النيّة علمٌ بأنها وقعت، كما وصفنا وقوعها. فإذاً هل نشترط دوام العلم بجريان النية إلى الفراغ من التكبير؟ فيه تردد للأئمة على هذه الطريقة: فمنهم من يشترط الدوام، ومنهم من لم يشترط، ولم يوجب أحدٌ بسطَ حقيقة النيّة.
وممّا يتم به بيان هذه الطريقة أن من شَرَط التقديم فإنما عَنَى تقديمَ العلوم -كما سبق شرحه- وبنى الأمرَ على مجرى العُرف فيه.
فلو قال قائل: لو هجمت العلوم والقصدُ مع أول التكبير، فلا شك أنه يجوز ذلك، لكن هذا لا يقع في مطرد العرف، فهذا تفريع هذه الطريقة.
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 1/ 129، حاشية ابن عابدين: 1/ 279. البحر الرائق: 1/ 292.
(2) ر. البرهان في أصول الفقه: 1/فقرة 176.

(2/115)


777 - فأمّا من قال: ينبغي أن تُبسط النيّة على التكبير، فقالوا: لو افتتح النية مع أول التكبير، وفرغ منها مع تمام. التكبير، فلا شك أنه يجوز. ولو تمّت التكبيرة قبل تمام النيّة، فلا تنعقد الصلاة، وهذا صحيح. ولكن العبارة خطأ؛ فإن النيّة لا تنبسط، وتحصيل هذه الصورة يؤول إلى أن العلوم إذا انبسطت، ولم يجر القصد حتى مضى التكبير، فلا تنعقد الصلاة؛ فإنَّ وقت العقد مقدم على وقت القصد.
والذي انسحب (1) على آخرِ التكبير لم تكن نيّة، وإنما كان علوماً بصفات المنوي، فإذا نجز التكبير قبل النية، فقدَ تقدم وقتُ العقد على النية.
ولو تمَّت النيّة قبل نجاز التكبير، فقد ظهر اختلاف الأصحاب في ذلك. فنذكر ما ذكروه، ثم نوضح حقيقته: فمنهم من قال: لا تصح الصلاة، ويجب استفتاح التكبير، ومحاولة تطبيق النيّة عليه، بحيث ينطبق الأول على الأول، والآخر على الآخر. وهذا مزيف غير سديد.
وقال قائلون: يكفي استدامة ذكر النية إلى انقضاء التكبير، ولا يجب إنشاء نيّة أخرى.
وأنا أقول: أما من شرط بسط النية، فليس على حقيقة من معرفة النيّة كما تقدَّم ذكره. ولكن وجه ذكر الخلاف أن يقال: من أصحابنا من يشترط بسط مقدمات النيّة على التكبير، ليوافقَ القصدُ حالةَ العقد. وهذا وإن كان معناه ما ذكرناه، فهو رديء في التوجيه. ومن راعى من أئمتنا استدامةَ ذكر النيّة، فهذا تتوقف الإحاطة به على دَركِ الفصل بين إنشاء القصد وبين ذكره. أما إنشاؤه فمفهوم، وأما ذكره، فهو استدامة العلم بجريان القصد حتى ينقضي وقت العقد.
778 - والذي يختلج في الصدر أنه لا ينقدح على القاعدة إلا ثلاثة أوجهٍ، أحدها - محاولة تطبيق [القصد] (2) على أول التكبير، والآخر - تطبيق القصد على آخر التكبير، وهو. وقت العقد، والثالث - التخيير بينهما، فأما البسط، فليس له معنى، ولكن لما
__________
(1) في (ت 1)، (ت 2): استحب.
(2) في جميع النسخ: "العقد". والمثبت من (ل).

(2/116)


لم تكن النية إلا في خَطْرة، والتكبير يُسمى تكبيرة العقد، وكانت حقيقة النيّة لا تنبسط، ذهب ذاهبون إلى بسط العلم، إلى إنشاء القصد، وذهب آخرون إلى بسط الذكر بعد اتفاق نجاز النية في وسط التكبير. وعندي أن من يشترط مراعاة حالة العقد، فلا يبعد أن يجوّز [تخلية] (1) أول التكبير عن افتتاح العلوم بالمنوي، إن كان يتأتى تطبيق القصد على وقت العقد.
779 - فهذا منتهى النقل والتحقيق، ووراء ذلك كله عندي كلام: وهو أن الشرع ما أراه مؤاخذاً بهذا التدقيق. والغرضُ المكتفى به: أن تقع النية، بحيث يعد مقترناً (2) بعقد الصلاة. ثم تميز الذكر عن الإنشاء، والعلم بالمنوي عنهما، عسر جدّاً، لاسيما على عامة الخلق. وكان السلف الصالحون لا يرون المؤاخذة بهذه التفاصيل. والقدر المعتبر ديناً: انتفاءُ الغفلة بذكر النيّة حالة التكبير، مع بذل المجهود في رعاية الوقت، فأما التزام حقيقة مصادفة الوقت الذي يذكره الفقيه، فممّا لا تحويه القدرة البشرية.
فهذا منتهى الغرض في حقيقة النيّة ووقتها.
[فصل]
[في كيفية النية] (3)
780 - فأما القول في كيفية النيّة، فنذكر كيفيتها في الفرائض المؤدَّاة في أوقاتها، ثم نذكر بعدها أصنافَ الصلوات.
فأول ما يُعتنَى به: التعيينُ، ولا بد منه في الصلاة، فليميّز الناوي الظهر عن العصر وغيرِه من الصلوات. وقد ذكرتُ معتمد التعيين في (الأساليب) (4) في كتاب الصيام.
__________
(1) في الأصل وفي (ت 1) وفي (ط): تخيله. والمثبت من: (ت 2). (ل).
(2) كذا في جميع النسخ، ولعله على معنى (القصد).
(3) زيادة من عمل المحقق.
(4) (الأساليب) من كتب الإمام في الخلاف، التي لم تقع لنا للآن.

(2/117)


وأمّا التعرض لفرضية الظهر، فقد اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من لم يشترط، واكتفى بالتعيين؛ فإن النيّة إذا تعلقت بالظهر، فالظهر لا يكون إلا فرضاً. ومنهم من شرط التعرض للفرضيّة؛ فإن المرء قد ينوي الظهر، فيقع نفلاً؛ بأن كان أقامه في انفراده، ثم يدرك جماعةً، فيقيمها مرة أخرى.
وقد ذكر العراقيون في ذلك تقسيماً، فقالوا: من العبادات ما لا يشترط فيه التعرض للفرضيّة وجهاً واحداً، كالزكاة، فإذا نواها من لزمته، ولم يتعرض للفرضيّة في النيّة أجزأته؛ فإن اسم الزكاة لا يطلق إلا على المفروض، وما يتطوع المرء به يسمى صدقة، فإن أجرى ذكرَ الصدقة، فلا بد من تقييدها بالفرضية. وكذلك الكفارة إن جرت في الذكر، كفت عن الفرضيّة. وإن نوى الإعتاق، فلا بد من تقييده بالفرضية، التي تحل محلّ الكفارة.
والحجّ والعمرة والطهارة فلا حاجة إلى تقييدها بالفرضية أصلاً. والصلاة والصوم، إذا عُيِّنا -فجرى ذكر الظهر، أو صوم رمضان- ففي اشتراط ذكر الفرض الخلافُ الذي اذكرناه.
وإذا نوى الناوي الصلاةَ وعيّنها، فهل يُشترط إضافتها إلى المعبود بها، مثل أن يقول: فريضة الله أو لله؟ ذكر صاحب التلخيص أن ذلك لا بدّ منه، وبه تتميز العبادة عن العادة. ومن أصحابنا من ساعده على اشتراط ذلك، ومنهم من رأى ذلك مستحباً؛ من جهة أن العبادات لا تكون إلا لله، فذِكْرُها يغني عن إضافتها.
781 - ومما يتعلق بكيفية النيّة: تمييز الأداء عن القضاء، وهذا أصل متفق عليه؛ والسبب فيه أن التعيين إنما يجب للتمييز، وللعبادات رُتب ودرجاتٌ عند الله، فليجرِّد العابد قصدَه في كل عبادة معينة؛ ليتحقق تقرّبه بالعبادة المخصوصة. وإذا كان التعيين لهذا، فرُتْبة إقامةِ الفرض في وقته تخالف رتبةَ تدارك الفائت، فلا بد من التعرض للتمييز. ثم قال قائلون من أئمتنا: ينبغي أن يجري ذكر فريضة الوقت، وبهذا يقع التمييز.
وكان شيخي يحكي عن القفال أنه يكفي أن يذكر الأداء. ومن اعتقد مثل هذا في

(2/118)


الاختلاف، فليس على بصيرة في الإحاطة بالغرض (1)، فإن الذي يُجريه الناوي معاني الألفاظ، والمقصودُ العلمُ بالصفات، فإذا حصلت العلوم بحقائق صفات المنوي، فهو الغرض، ثم يقع تجريد القصد إلى ما أحاط العلم به. وإذا لاح أن الغرض هذا، فالتنافس في الصلوات (2) وتخيّل الخلاف فيها لا معنى له.
ومما كان يذكره شيخي أن أصل النية أن يربط الناوي قصده بفعله، ويُخْطِر بباله أني أؤدي الصلاة، أو أقيمها؛ فإنه لو ذكر الصلاة وصفاتها، ولم يعلق قصده بفعله لها، لم يكن ناوياً.
وهذا في حكم اللغو عندي؛ فإنه إذا ثبت أن النية قصده، ومن ضرورة القصد أن يتعلق بالفعل، فإن وُجد القصدُ فمتعلّقه فعل الصلاة لا محالة، ولا ينقسم الأمر فيه -تصوراً- حتى يحتاج فيه إلى تفصيل. وإن لم يتعلق القصد بالفعل، فالقصد إذن غير واقع، وإذا لم يقع القصد، فلا نيّة.
فهذا بيان كيفية النيَّة.
782 - وذكر بعض المصنفين وجهاً بعيداً: أنه يجب أن تُعلَّق النية باستقبال القبلة، وهذا وجه مزيف مردود؛ فإن الاستقبال إن كان شرطاً، فالتعرض له في نيّة الصلاة لا معنى له، وإن كان ركناً من أركان الصلاة، فليس على الناوي أن يتعرض لتفاصيل الأركان أيضاً.
هذا ذكر كيفية النيّة في الصلاة المفروضة.
783 - فأما السنن الراتبة، فلا بدّ من تعيينها في النيّة، ولا بدّ من ذكر إقامتها في الوقت. والقول في إضافتها إلى الله تعالى، على ما تقدّم ذكره.
__________
(1) في الأصل، (ط)، (ت 1): الفرض، والمثبت من (ت 2).
(2) في (ت 1)، (ت 2): العبادات، ومثلهما (ل).

(2/119)


[فصل]
[في محل النيّة] (1)
784 - فأما الكلام في محل النيّة، فمحل النيّة القلب، ولا أثر لذكر اللّسانِ فيه.
وما قدمناه من ذكر حقيقة النيّة في صدر هذه الفصول يتبيّن به كل مشكل في التفصيل، فإذا وضح أن النية قصد، فمحل القصد القلبُ.
وذكر العراقيون أن من أصحابنا من أوجب التلفظ بما يؤدّي معنى النيّة قبل التكبير، وأخذ هذا من لفظ الشافعي في كتاب الحج، وذلك أنه قال "ينعقد الإحرام من غير لفظ بالنيّة، وليس كالصلاة التي يفتقر عقدها إلى اللفظ". ثم قالوا: هذا الذي ذكره هؤلاء خطأ، والشافعي لم يرد باللفظ التلفظ بالنيّة، وإنما أراد باللفظ التكبير الواجب في ابتداء الصلاة، وهذا (2) لا يُعدُّ من المذهب.
وقد نجزت قواعد المذهب في النيّة. ونحن نذكر بعد هذا فصولاً وفروعاً، تشتمل (3) أطراف الكلام في النية، إن شاء الله عز وجل.
فصل
785 - "المتحرّم بالصلاة إذا نوى الخروج من الصلاة، بطلت صلاته" (4).
قال أبو بكرٍ (5) وغيره من الأئمة: لو تردد المصلّي في الخروج، والاستمرار على الصلاة، بطلت صلاته بالتردد، كما تبطل بجزم قصد الخروج. ولم نر في هذا خلافاً. وطريق تعليله أن الصلاة فى حالة العقد تستدعي قصداً مجرداً لا تردّد فيه، ثم اكتفى الشرع بالاستمرار على حكم النيّة، مع عزوبها عن الذكر، ولم يكلف إدامة ذكر
__________
(1) العنوان من عمل المحقق.
(2) إشارة إلى وجوب التلفظ بالنية.
(3) كذا. يُعدِّي الفعل (تشتمل) بنفسه، والمعهود أنه يتعدى بحرف الجر، فهل صح عنده شاهدٌ لذلك؟؟ ثم جاءتنا (ل) وفيها: (تشمل)، فهل ما فيها تصرُّف من الناسخ؟؟.
(4) لم نجد هذه العبارة في المختصر.
(5) المراد: أبو بكر الصيدلاني.

(2/120)


النيّة؛ فإن الوفاء بذلك عسرٌ، ثم شَرَطَ ألاّ يأتي بما يناقض جزمَ النيّة، وإن لم يشترط إدامة ذكر ما جزمه. والتردّد يناقض الجزم. وهذا بمثابة الإيمان، فإنا نكلف المرء أن يطلب عقداً مستمرّاً على السداد، ثم لا نكلّفه استدامتَه، بل يطَّردُ عليه حكم الإيمان، غير أنّا نشترط ألا يتشكّك عقدُه.
ثم من الأسرار التي يتعين الوقوف عليها أن الموَسوس قد يجري في نفسه التردّد، وليس هو التردد الذي حكمنا بكونه قاطعاً مبطلاً، ولكن الإنسان قد يصور في نفسه تقدير التردد لو كان كيف كان يكون، وذلك من الفكر والهواجس، ولو أبطل الصلاة، لما سلِمت صلاةُ مفكر موسوس. والتردد الذي عنيناه هو أن ينشىء الإنسان التردّدَ في الخروج على تحقيقٍ، من غير تقدير، وتكلف تصوير، وقد يطرأ على نفس المبتلَى بالوسواس تقدير الشرك بالله، مع ركونه إلى استقرار المعتقد، ولا مبالاة به. والعاقل يفصل بين هذه الحالة، وبين أن يعدَم اليقين، ويصادف الشك.
786 - ومما يتعلق بحكم الصلاة في ذلك أن المصلي لو نوى في الركعة الأولى جَزْمَ الخروج في الركعة الثانية، فهو يخرج عن الصلاة في الحال؛ فإنه قطع موجب النية؛ إذ موجبها الاستمرار إلى انتهاء الصلاة، وقد نجز في الحال قطعُ مقتضاها في ذلك.
ولو علق نيّة الخروج على أمر يجوز أن يُفرض طريانه، ويجوز ألا يفرض -مثل أن ينوي الخروج لو دخل فلان- فهل يقتضي بطلانَ الصلاة أم لا؟ وجهان مشهوران، أقْيَسُهما: بطلانُ الصلاة؛ فإن الذي جاء به تردّد فيها يخالف موجب النيّة، ويناقض مقتضى استمرارها.
والوجه الثاني: أن الصلاة لا تبطل؛ فإنه لا يمتنع ألا يدخلَ مَن ذكره، وتتم الصلاة على مقتضى ما أحدثه من التردد، وهذا غير سديد.
فإن حكمنا ببطلان الصلاة في الحال، فلا كلام. وإن حكمنا بأن الصلاة لا تبطل في الحال، فلو وجدت الصفة التي علق الخروج عليها، وكان ذاهلاً عما قدّمه من تعليق النيّة، فهذا فيه احتمال. وحفظي عن الإمام (1) أن الصلاة لا تبطل، وإن حدثت
__________
(1) المراد والده.

(2/121)


تلك الصفة، وذلك التعليق الذي كان منه، مُحبَط (1) لا وقع له، ووجودُه وعدمه بمثابةٍ، وفي كلام الشيخ أبي علي ما يدل على أنّا إذا فرّعنا على وجه الصحة، ولم نبطل الصلاة بما علّق، فإذا وُجدت الصفة نقضي بالبطلان، فإن مقتضى تغييره، وتعليقه هذا.
والذي أراه في ذلك أنه إن صح الحكم بالبطلان عند وجود الصفة، فيظهر على هذا أن يقال: نتبين (2) عند وجود الصفة أن الصلاة بطلت من وقت تغيير النيّة؛ فإنّا بطريان الصفة نتبين أن ما جرى من التغيير خالف مقتضى النيّة في حكم ما وقع.
وفي كلام الشيخ أبي علي في شرح التلخيص ما يدلّ على أن من علق الخروج بانتصاف الصلاة، أو مضيّ ركعةٍ منها، أن الصلاة لا تبطل في الحال. ولو رفض (3) المصلي ذلك التردد قبل الانتهاء إلى الغاية التي ضربها، فتصحّ صلاته. وهذا بعيد جداً.
فهذا حكم الصلاة في التردد ونيّة الخروج.
787 - فأمّا الحج، فلا تُؤثر فيه نيّة الخروج، ولا تنقطع بالإفساد.
وأما الصوم، فقد قال الأئمة: تعليق نيّة الخروج لا تبطله وجهاً واحداً. وجَزْمُ نية الخروج هل تبطله؟ فعلى وجهين. والفرق بين الصلاة والصوم أن الصلاة مشتملة على أفعالٍ مقصودة، وإنما تقع عباداتٍ بالنيات، فكانت النياتُ مرعية معيّنةً، فإذا ضعفت بالتردد، يجوز أن تبطل، والصوم إمساك وانكفاف، والنية لا تليق بالتروك، كما تليق بالأفعال، فلا يضر ضعفُ النيّة. ولا يحتاط الشرع في نيته احتياطَه في الأفعال المقصودة. وأيضاً، فإن الصلاة مخصوصة من بين العبادات بوجوه من الربط، ولا يتخللها ما ليس منها إلا على قدر الحاجة.
788 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن المصلي بعد التحرّم إذا شك، فلم يدرِ أنوى أم
__________
(1) "محبطُ": أي مهدرٌ، لا أثر له. من: أحبطتُ العمل والدمَ إذا أهدرته. (المصباح).
(2) سبق تفسير التبين ومعناه في اصطلاح الأصوليين.
(3) رفض من باب ضرب، وفي لغة من باب قتل أي ترك. (المصباح).

(2/122)


لا، أو تردّد في صحة النيّة؟ فالذي ذكره الأصحاب فيه أنه إن لم يطل التردد، ولم يمض في وقته ركن، وزال الرَّيْب على قربٍ، فالصلاةُ صحيحة.
ولو تردد المسافر في نيّة القصر في أثناء الصلاة لحظة، ثم تذكر أنه كان نواه، يلزمه الإتمام. والفرق أن تلك اللحظة -وإن قصرت- فهي محسوبة من الصلاة، مع تخلّف نيّة القصر. وإذا مضى شيء من الصلاة مع تخلف القصر، غُلّب الإتمامُ؛ فإنه الأصل، وإذا كان التردد في أصل النيّة أو في صحّتها، فلا تحسب تلك اللحظة على التردد بل نحفظها، ونقدّر كأن لم تكن، ونعفو عنها، كما نعفو عن الفعل اليسير إذا طرأ في الصلاة. وإن دام الشك حتى مضى ركنٌ على الشك، بطلت الصلاة وإن تذكّر المصلّي النيّة أو صحتها؛ لأن الركن الذي قارنه التردّد لا يعتدّ به، فكأنّه زاد في صلاته ركناً في غير أوانِه، ولو فعل هذا حُكِم ببطلان الصلاة، كما سنذكره.
وإن طال زمان التردد، ولكن لم ينقضِ فيه ركن، ففيه وجهان. وهو كما لو طرأ الشك في التشهد الأول وامتدّ.
وهذا الخلاف يقرب ممّا إذا كثر الكلام على حكم النّسيان من المصلي، فهل يتضمن ذلك بطلان الصلاة؟ فيه كلام سيأتي في هذا الباب إن شاء الله تعالى.
789 - فهذا ما ذكره الأئمة، وهذا مما يحتاج إلى فضل بيان، فنقول: إن جرى ذلك في الركوع، وزال في ذلك الركوع نفسه، واستمر صاحب الواقعة بعد التذكر ساعة راكعاً، ثم رفع رأسه، فالذي قطع به الأئمّة صحّةُ الصلاة، وإن مضى في حال التردد ما لو قدّر الاقتصار عليه، لكان ركناً، ولكنه لما بقي راكعاً لم يضرّ ما تقدم على هذا.
فإن قيل: هلا قدّرتم صورةَ الركوع في حال التردد، مع الطمأنينة في حكم ركوع [زائد مبطل للصلاة؟ قلنا: الركوع الممتد واحدٌ في الصورة، فلا يجعل بعضه كركوع] (1) منفردٍ زائدٍ غير محسوب.
ولو طرأ ما ذكرناه من التردد، والرجل في القيام، وكان يقرأ الفاتحة مثلاً، فقرأ
__________
(1) ساقط من: الأصل، (ط).

(2/123)


مقداراً منها، ثم تذكر، فإن أعاد القراءة بعد التذكر، لم يضرّ ما مضى، وإن لم يُعد، فلا تصحّ الصلاةُ، وإن لم يمض في حال التردد ركن تام؛ فإن المعتبر أن يمضي ما لا بدّ منه، ثم لا تتفق إعادتُه.
والجملة المغنيةُ عن التفصيل أنّا نجعل ما مضى في حال التردد غيرَ محسوب، ولا معتدّاً به في الصلاة، ولو ترك قراءة حرفٍ واحدٍ من الفاتحة، لبطلت صلاته.
ولو تردّد من أول الركوع، ودام التردّد حتى رفع رأسه، ثم تذكّر وأراد أن يعود، ويركع مرةً أخرى في حال الذكر، فالصلاة تبطل في هذه الصورة على ما ذكره الأصحاب؛ فإنه قد تميز الركوع عن الركوع، فيكون صاحب الواقعة بمثابة من يزيد في صلاته ركناً.
فإن قيل: لو زاد في صلاته ركناً ناسياً، ثم تبيّن، لم يُقْضَ ببطلان الصلاة؛ فهلا عَذَرْتُم من ركع متردّداً، ثم استدرك بعد التذكر وركع؟ قلنا: من ركع متردداً، فهو عامد في الركوع في حالة لا يحتسب ركوعه، فلا نجعله كالناسي. وهذا مفروض فيه إذا كان من نتكلّم فيه عالماً بحقيقة هذه المسألة. وإذا كان كذلك فالواجب ألا يفارق الركوع ويمُدُّه حتى يزول ما هو فيه من لبسٍ، فإذا لم يفعل ذلك، وارتفع، ثم عاد بعد التذكر، فقد زاد ركناً كان مستغنياً عنه.
وإن جرى ما فرضناه من جاهل، فقد نعذره لجهله، كما سنذكر أحكام الجاهلين في أمثال هذا إن شاء الله تعالى.
[فهذا بيان ما أردنا بيانه] (1).
فصل
790 - قال صاحب التلخيص: إذا كبّر وتحرّم بالصلاة، ثم تردّد في أن النيّة هل كانت على شرطها أم لا، فكبّر ثانيةً، آتياً بالنيّة على صفتها المطلوبة. قال: إن كانت الصلاة في علم الله منعقدةً بالتكبيرة الأولى، فقد انقطعت بهذه التكبيرة؛ فإنه قصد بها
__________
(1) ساقط من: الأصل، (ط).

(2/124)


عقداً، ومن ضرورة استفتاح عقد حلُّ ما كان تقدم؛ فإن المنعقد لا ينعقد عقده إلا بعد حله، ثم يُبتَدأ بعد الحلِّ العقد. ثم لا يحكم -والحالة هذه- بانعقاد الصلاة بالتكبيرة الثانية -وإن كانت على الشرط المطلوب- فإن هذه التكبيرة قد تضمنت حلاً؛ فيستحيل أن تتضمّن عقداً؛ فإن الشيء الواحد لا يصلح -فيما نحن فيه نتكلم- لحكمين نقيضين: الحل والعقد جميعاًً، فهذا ما ذكره. وطائفةُ كافّة الأصحاب عليه من غير مخالفٍ. فالوجه إذن أن يرفع التكبيرَ (1 الأول بسلام أو كلام أو غيره، ثم يبتدىء التكبير 1) الثاني عاقداً، فيحصل الحلّ بما يتقدّم عليه، ويتجرّد هذا التكبير للعقد.
791 - ولو كبر التكبير الثاني على أنه قطع ما كان فيه -إن كان قد انعقد- فقدّر التكبيرَ الثاني قاطعاً محللاً، واستفتح تكبيراً ثالثاً عاقداً، فقد قال الأئمة: تنعقد الصلاة؛ فإن التكبيرة الثانية جرت قاطعةً غير عاقدةٍ، فتتجرد التكبيرة الثالثة للعقد.
وهذا فيه إشكال عندي، من جهة أنا نجوّز أن التكبيرة الأولى، لم تكن عاقدة في علم الله تعالى، والتكبيرة الثانية صحت من حيث إنها لم تكن متضمنةً حلاً، فإذَا كبّر التكبيرة الثالثة، فهي تتضمن حلاً لما انعقد، كما صوّرناه، وإذا تضمنت حلاً، لم تقتضِ عقداً؛ فإن التكبيرةَ الواحدةَ لا تصلح للنقيضين جميعاًً. هذا وجه الإشكال.
ولكن الجواب عنه: أن التكبيرة الأولى -وإن لم تكن عاقدة في علم الله- فقد قصد صاحب الواقعة بالتكبيرة الثانية حلاّ لما تقدّم، وهذا يُفسد التكبيرة؛ فإنها وإن كانت غير حالة عند الله، فقصد الحل يُفسدها، ويخرجها عن كونها صالحةً للعقد. فإذا فسدت لذلك، فالتكبيرة الثالثة تقع مجرّدةً للعقد، فتصح.
ولو ظن أن التكبيرة الثانية تعقد لو صحت، ولم نحكم بفسادها، فأجرى التكبيرة الثالثة، وهو يُجوّز أن الثانية عَقَدت، فيظهر في هذه الصورة أن يقال: تفسد التكبيرة الثالثة؛ من جهة أنه قصد بها حلاً لما اعتقد انعقادَه. فإذاً إنما تنعقد الصلاة بالتكبيرة الثالثة في حق من يعلم أن الثانية لا يجوز أن تكون عاقدةً حتى لا يفرض حل ما عقدَه بالثالثة. فليتأمل الناظر ذلك؛ فإنه بين.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1).

(2/125)


792 - قال الشيخ أبو علي: لو كبّر وشكّ كما ذكرناه، ثم قصد التحلل -إن كان عَقْدٌ- عند التكبيرة الثانية، فلو كانت التكبيرة الأولى عاقدة، ما حكمه؟ قال: هذا يُبنى على أن من قصدَ نية الخروج مُعلِّقاً على أمرٍ في المستقبل، فهل يصير في الحال خارجاً أم لا؟ فيه من التردّد ما ذكرناه قبلُ: إن قلنا: يصير خارجاً، فقد خرج بمجرد ما جرى به من الذكر، ولم يتوقف خروجه على جريان التكبير الثاني. فإذا أقدمَ على التكبير الثاني، فيكون متجرداً للعقد، فيصح.
هذا تفريع على وجهٍ. وفيه نظر؛ فإنه لو اعتقد أن التحلل يحصل بالتكبير الثاني، فقد جاء به على قصد التحلل؛ [فينبغي أن يفسد بقصده، وإن كان التفريع على أن التحلل] (1) وقع قبله، إلا أن يتفطّن صاحب الواقعة لينجِّز الانحلال قبل الإقدام على التكبير الثاني، [فيُقدم عليها عاقداً، فيكون كما قال، فأمّا إذا أقدمَ على التكبير الثاني] (2) وهو يظن أن الحلَّ يحصل به، فينبغي أن يفسد لقصده (3).
ثم فرع على الوجه الثاني -وهو أن من علق الحلّ بأمرٍ في المستقبل، لا تنحل صلاته في الحال- فقال على هذا: يحصل الحلّ عند التكبيرة الثانية، ولا يحصل العقد بها.
وهذا التردّد منه دليل على أن من علق التردّد على أمرٍ يقع لا محالة في الصلاة إن دامت، ففي التحلل في الحال قبل وقوع ما جعله متعلقاً للحلّ خلافٌ، كما حكينا ذلك عنه. وهذا ضعيفٌ غير سديدٍ، والوجه: القطع بانتجاز الانحلال في الحال في مثل هذه الصورة؛ فإنا ذكرنا قطعَ الأصحاب بأن من تردّد في أن يخرج أو لا يخرج،
__________
(1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(3) خلاصة النظر الذي أبداه الإمام في كلام الشيخ أبي علي، أن من أقدم على التكبير الثاني قاصداً به التحلل لا يصح أن تنعقد به الصلاة -حتى لو فرعنا على أن التحلل قد حصل قبله بسبب نيته الخروج من الصلاة- لأنه جاء به على قصد التحلل؛ فيفسد هذا التكبير بهذه النية.
ولا يُنجي من هذا الفساد " إلا إذا تفطن صاحب الواقعة، فنجز الانحلال قبل الإقدام على التكبير الثاني "؛ فحينئذٍ يصح التكبير الثاني للعقد، كما قال الشيخ أبو علي.

(2/126)


فنفس تردده يتضمّن الحل في الحال. وإذا علق الحل على أمرٍ سيقع في الصلاة لا محالة، فهذا في اقتضاء الحل في الحال ينبغي أن يكون أظهر أثراً من التردّد في نية الخروج.
فصل
793 - المسبوق إذا صادف الإمام راكعاً في الصلاة المفروضة فكبّر، وابتدر الركوع ليدرك الركعةَ، فأوقع بعضاً من تكبيرة العقد بعد مجاوزته القيام، فلا شك أن صلاته لا تنعقد فرضاً؛ فإن الصلاة المفروضة إنما تنعقد ممن يوقع تكبيرة العقد في حالة القيام، ثم إذا لم تنعقد الصلاة، فهل تنعقد نفلاً؟ فإن النافلة تصحّ قاعداً مع القدرة على القيام.
اضطربت نصوص الشافعي في هذه المسألة وأمثالها مما سنذكر صورها، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن الصلاة تنعقد نفلاً، وأنه إن اختل شرط الفرضية، لم يختل شرط النافلة. وهو قد نوى صلاة، ووصفها بالفريضة، وما جرى يناقض الصفة، فلنترك الصفة، ولتبق الصلاةُ مطلقةً، والصلاة المطلقة مصروفة إلى النافلة.
والقول الثاني - أن الصلاة تبطل، ولا تنعقد نفلاً؛ فإنه أوقعَها فرضاً، ففسدت في جهة إيقاعه، وكأن هذا القائل يزعم أن [الفريضة جنسٌ] (1) من الصلاة تتميز عن النفل، وهي منفردة في حكمها وليست صلاة وفريضة، فإذا بطلت من جهة الفرض، لم يبق وجه في الصحة. وهذا يرد عليه أن الشافعي يجوّز أن يقلب المفترضُ الصلاة المفروضة. نفلاً بأسباب، ولا معنى للقلب إلاّ من جهة تقدير رفع الفرضيّةِ، وتَبْقية الصلاة مطلقة، وهذا يوجب بقاءها نفلاً، (2 وهو مصرّح بأن الصلاة المفروضةَ فيها حكم الصلاة المطلقة، فكذلك تبقى نفلاً 2) إذا بطلت الفرضيّة عنها.
ويمكن أن يقال: من قلب المفروضَة نفلاً، صح؛ لقصده في ذلك، فأما من
__________
(1) في الأصل وغيره من النسخ: "الفرضية جزء" والمثبت من (ل).
(2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).

(2/127)


قصد الفرض على وجهٍ لا يصح إيقاع الفرض عليه، ولم يجرِ في قصده أمرُ النفل، فلا يحصل له النفل. والأمر محتمل.
794 - ثم الصورة التي ذكرناها في إيقاع تكبير العقد في الركوع لها نظائر، منها: أن يتحرّم الرجل بصلاة الظهر قبل الزوال [فـ]ـلا (1) تنعقد فرضاً، ولكن هل تنعقد نفلاً؟ فعلى قولين.
وكذلك لو عقد الصلاة قاعداً مع القدرة على القيام، ففي انعقادها نفلاً ما ذكرناه.
وكذلك لو تحرّم بصلاة مفروضة، وصحّت له، ثم أراد أن يقلبَ الظهر عصراً، أو العصرَ ظهراً، فلا ينقلب فرض إلى فرض، وتبطل الفرضيّة التي كانت صحت، ولا يحصل ما نوى القلب إليه. ولكن هل تبقى الصلاة نافلة؟ فعلى القولين اللذين ذكرناهما.
ولو كان العاجز عن القيام يصلي قاعداً، فوجد في أثناء الصلاة خِفةً، وأمكنه القيامُ من غير عسر؛ فاستدام القعود؛ فتبطل فرضيةُ الصلاة. وهل تبقى الصلاة نافلةً فعلى القولين.
795 - [والذي ذكرناه، والذي لم نذكره يجمعه أمر، وهو أن من أتى بما ينافي الفرضيّة ولا ينافي النافلةَ، فإذا لم يحصل الفرض، فهل تبقى الصلاة نافلةً؟ فعلى قولين] (2) ولا خلاف أن من قلب الفرض نفلاً، فلا يبعد أن ينقلب نفلاً عند مَسِيسِ حاجةٍ إليها. وسنعود إلى هذا في بعض مجاري الكلام، وهو أن الفريضة إذا قلبت نفلاً كيف يكون أمرها إذا لم تكن حاجة؟ وبماذا تُضبط الحاجة؟
[وهذا نذكره] (3) في المنفرد بالفريضة إذا وجد جماعةً: كيف يفعل؟
فرع:
796 - إذا أراد المصلي أن يقتدي في صلاته بإمام، فلينو القدوةَ في الوقت الذي ينوي فيه الصلاة -على ما تقدم وقت النية في اقترانها بالتكبير، أو تقدمها- فلو
__________
(1) في النسخ كلها: "لا" بدون فاء. ثم جاءتنا (ل) بالفاء.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، و (ط).
(3) في جميع النسخ "وهذه تذكرة"، والمثبت من (ل).

(2/128)


نوى الاقتداء بعد الفراغ من التكبير، فهو كما لو انفرد بالصلاة، ثم نوى الاقتداء في أثناء الصلاة. وسيأتي تفصيل القول في ذلك مشروحاً إن شاء الله.
فصل
قال: "ولا يُجزىء إلا قوله: الله أكبر ... إلى آخره" (1).
797 - لفظُ التكبير على صفته المعلومة يختص بالعقد؛ فلا تنعقد الصلاة إلاّ بقوله: الله أكبر، أو الله الأكبر. فلو ذكر اسماً آخر من أسماء الله، أو وصَفه بصفة أخرى سوى الكبرياء، فقال: الله أعظم أو أجل، لم تنعقد الصلاة عندنا.
وأصل الشافعي تغليب التعبد، والتزام الاتباع، والامتناع من قياس غير المنصوص على المنصوص عليه.
ثم الأصل الله أكبر، فإن قال: الله الأكبر، أجزأه عندنا؛ فإن في قوله: الله الأكبر الله اكبر، ولكنّه زاد لاماً، ولم يغير المعنى؛ فيقدر كأنه لم يأت باللاّم، والإتيان بها بمثابة مد -لا يغيّر المقصود- أو تثاؤبٍ أو نحوهما مما لا يغير المعنى.
ولو قال: الله الجليل أكبر، ففي صحة الصلاة وجهان: أحدهما - الصحة؛ لأنه أتى بالتكبير، والزيادة غير مغيّرةٍ للتكبير، فصار كما لو قال: الله أكبر.
ومنهم من قال: لا تنعقد الصلاة، فإنه خالف مورد الشرع، والذي أتى به زائد، كلمةٌ [مفيدة] (2)، يزيدها، فيخرج بزيادتها عن حقيقة الاتباع، وليس كاللام يزيدها من الأكبر؛ فإنها لا تستقل بإفادة معنىً مغيّر.
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 70.
(2) في جميع النسخ: "مقيدة": بالقاف، بل في (ت 1) تأكيد لذلك؛ إذ ضبطتها بفتحة وشدّة على الياء هكذا: (مقيدة). والمثبت تقديرٌ منا، يساعد عليه قوله الآتي: "وليس كاللام يزيدها من الأكبر؛ فإنها لا تستقل بإفادة معنى". وأما (ل)، فجاءت عبارتها مغايرة هكذا: "والذي أتى به زائداً كلمة مُفسدة يزيدها" ا. هـ
وتوجيه ما في النسخ الأخرى: أن كلمة " زائدٌ " خبر للمبتدأ (والذي ... ) والجملة بعدها صفة.

(2/129)


ولو كان قال: "الأكبر الله"، ففي المسألة وجهان، أصحّهما المنع؛ فإنه وإن أتى بالتكبير، فهو في التقديم والتأخير خالف الاتباع مخالفةً واضحةً. ومنهم من قال بالصحة من حيث أتى بالتكبير.
وحقيقة الكلام في أمثال ذلك أنا إذا رأينا التعبد متبعاً في شيءٍ، فإن أتى بغير المنصوص، لم يجز، وإن أتى به مع أدنى تغييرٍ خفي، فقد يحتمل، وقد يفرض اختلاف في بعض التغايير.
798 - إذا تمهّد أن أدنى التغيير لا يضرّ، فنفرض صورةً تتعارض الظنون في قرب التغيير، أو بعده، ومجاوزة الحدّ، فلو قال: أكبر الله، فهو كقوله الأكبر الله، هكذا ذكره العراقيّون، وهو الوجه. وكان شيخي يمتنع من طرد الخلاف في قوله: أكبر الله، ويرى أن ذلك غير منتظمٍ، بخلاف قوله: الأكبر الله. وهذا زلل، وهو غير لائقٍ به، مع تميّزه بالتبحر في علم اللسان، فقول القائل: "الله أكبر" مبتدأ وخبر، فلا يمتنع تقديم الخبر على المبتدأ، فنقول زيدٌ قائمٌ، وقائمٌ زيدٌ.
فرع:
799 - لا ينبغي أن يبتدىء المقتدي التكبيرَ إلا إذا نجزت تكبيرة الإمام، فلو افتتح التكبير مع الإمام، أو أتى بها في أثناء تكبير الإمام، لم تنعقد صلاته.
ولو ساوق المقتدي الإمامَ في الأركان التي تقع بعد العقد، وكان يركع معه، ويرفع معه، جاز. وإنما تمتنع المقارنة في التكبير، والسبب فيه أن إنشاءَ الاقتداءِ إنما يصحُّ بمن انعقدت صلاتُه، وإنما تنعقد الصلاة عند نجاز التكبير.
وقد يقول من يحاول التحقيقَ: لا معنى للعقد والحلِّ، ولكن التكبير ابتداء العبادة، والتسليم آخرها. ولكن ما ذكره الأصحاب يوضح أثر العقد؛ إذ لو لم يكن الأمر كذلك، لصحّت مساوقة الإمام في التكبير. ومن الدليل على أثر العقد أن من ابتدأ التكبير ولم يكمله لا نقول: بطلت صلاتُه، بل نقول: لم تحصل، ولم تنعقد في أصلها. وليس كما لو كبّر ثم انكفَّ؛ فإنه قد تبطل صلاتُه بعد القطع بانعقادها.

(2/130)


فصل
800 - إذا صادف المسبوقُ الإمام راكعاً، فكبَّر للعقد قائماً، ثم كبر ليهوي فهذا هو الأمر المدعوُّ إليه. وإن اقتصر على تكبيرةٍ واحدةٍ، وأوقعها في حالة القيام، ولكنّه نوى بها تكبير العقد، وتكبيرَ الهُويِّ جميعاًً، فقد أجمعت الأئمة على أن صلاته لا تنعقد.
ولو أتى بتكبيرة واحدةٍ، وقصد بها العقدَ، وقصدَ ترك تكبير الهُوي، صحت صلاتُه.
ولو أتى بتكبيرةٍ واحدةٍ، ولم يخطر له تركُ تكبيرة الهُويِّ، ولا قصد التشريك، ولكنه أتى بتكبيرة واحدةٍ مطلقة، فقد حكى العراقيون عن الأمّ، أن الصلاةَ لا تنعقد (1)، ويكون هذا كما لو قصدَ التشريكَ بين العقد وتكبير الهُويِّ، وزعموا أن الشرط عند الاقتصار على تكبيرة واحدةٍ، القصد إلى إيقاعها عن جهة العقد، وإذا لم يكن قصد مجرد إلى ذلك، فهو كقصد التشريك.
وكان شيخي يذكر هذا وجهاً غيرَ منصوص، ويذكر وجهاً آخر: أن الصلاة تصحّ عند الإطلاق، ووجهه بيِّن منقاس؛ فإن التكبيرة الأولى في وضع الشرع للعقد، فإذا اقترنت النيّة بها، أو بأولها -كما سبق ذلك- فنفس اقتران النية يجردها للعقد، فالذي نسمّيه مطلقاً في حكم المقيَّدِ، بسبب ارتباط نية العقد. وهذا ظاهر.
فرع:
801 - إذا كان المرء عاجزاً عن الإتيان بلفظ التكبير، وكان حديث العهد بالإسلام، وقد لا يطاوعه اللسان إلا بمقاساةٍ وتمرينٍ وتعلّمٍ، فينبغي أن يأتي بمعنى التكبير -إن كان يحسن معناه- وقال الأئمة: يتعيّن الإتيان بمعناه -وإن كان بالفارسيّة- ولا يقوم ذكرٌ آخر يُحسنه مقام التكبير؛ فإن معنى التكبير أقرب إليه من ذكر آخر.
وقد قال الأئمة: من عجز عن قراءةِ القرآن، أتى بأذكارٍ، ولم يوجبوا الإتيان
__________
(1) ر. الأم: 1/ 7، ونص عبارة الشافعي: " ... وإن كبر لا ينوي واحدة منهما، فليس بداخلٍ في الصلاة".

(2/131)


بمعناه، بل قالوا: لو أتى بمعنى الفاتحة، لم يعتد به.
وكان شيخي يفرق بين [البابين] (1)، ويقول: الغرض الأظهر من قراءة القرآن الإتيان بنظمه على ترتيبه، ثم المعنى تابع للنظم، والمعجز من ذلك هو النظم، واعتبار عين معنى (2 التكبير أغلب. فإذا عجز المصلي عن القراءة، سقط اعتبار المعنى. وليس كذلك التكبير. وتحقيق ذلك أن معنى الفاتحة لا ينتظم ذكراً.
ومعنى 2) التكبير ينتظم ذكراً، كما ينتظم التكبير في لفظه، وهو يشير إلى أن الغرض (3) الأظهر، والشرف الأبهر في نظم القرآن.
وفيه دقيقة، وهي أن النظم إذا كان معجزاً، فلا يتأتى الاحتواءُ على لطف المعاني ودقائقها بالترجمة والتفسير. وسيأتي في فصول القراءة، أن من لا يحسن الفاتحة إذا كان يحسن غيرها من القرآن، فعليه الإتيان بما يحسن من القرآن على قدر الفاتحة، فلو كان لا يحسن من القرآن شيئاًً، ولكنه أتى بأذكار منتظمة تقع تفسيراً لبعض آيات القرآن، وكان ذكراً منتظماً كسائر الأذكار، فالذي أراه: أن ذلك يجزىء، ولا يمتنع إجزاؤه. أما ذكر [تفسير] (4) آية حُكْمية، أو آية فيها قصة، أو وعد أو وعيد، فلا يعتد به.
وهذا واضح إذا تأمله الناظر.
802 - ومما يتعلق بتمام القول في ذلك: أن من أسلم، فعليه أن يبتدر تعلم شرائط الصلاة وأركانها، فإن قصر، ولم يتعلم التكبير الذي نحن في تفصيله، فلا يُقضى بصحة صلاته.
ولو كان الرجل يقطن بادية، والماء مُعوِزٌ بها، وكان يتيمم للصلاة -ولو انتقل إلى قرية، لاستمكن من استعمال الماء- فلا نكلفه الانتقال إلى القرى. وإن كان لا يلقى بالانتقال إليها عسراً.
__________
(1) في الأصل وفي (ط): الناس.
(2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).
(3) عبارة (ت 1): "وهو يشير إلى أن العز والشرف الأبهر في نظم القرآن".
(4) سقط من الأصل، و (ط).

(2/132)


ولو أسلم في موضع، ولم يجد من يعلّمه فيه التكبيرَ، وكان يقيم معنى التكبير مقامه، ولو انتقل إلى قرية لتأتَّى منه تعلم التكبير، فقد اختلف الأئمة: فذهب ذاهبون إلى أنه يجب عليه الانتقال والتعلم؛ فإن ذلك ممكن لا عسر فيه، وهذا هو الأصح؛ فإن بدل القراءة لا يحل محل التيمم، إذ أمرُ التيمم غيرُ مبنيّ على نهاية الضرورة (1 بل ينويه للتخفيف والترخيص. وإقامة الذكر مقام القراءة مبني على نهاية الضرورة 1)، وهذا يقتضي لا محالة التسبُّبَ إلى تعلم القرآن.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يجب الانتقال للتعلّم، وينزل إقامة الذكر مقام القراءة منزلةَ إقامة التيمم مقام الوضوء في مكان إعواز الماء (2). وهذا ضعيف.
فصل
803 - رفع اليدين مع التكبير سنة، وهو شعار من الصلاة متفق عليه في هذا المحل، ولتكن الأصابع منشورة، ولا يُؤثر اعتماد تفريجها، ولا نرى ضمّها، ولتكن بين بين، والضابط في هيئتها أن ينشر الأصابع، ويتركها على صفتها وسجيتها، ولا يعمد فيها ضم ولا تفريج، وإذا فعل ذلك، اقتصد الأمر في الانفراج.
ثم الذي شُهر نقلُه عن الشافعي أنه رأى رفع اليدين حَذْوَ المَنكِبين: روى أبو حميد الساعدي في عشرة من جلة الصحابة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه كان إذا قام، اعتدل، ورفع يديه حتى يحاذي بهما مَنْكِبيه" (3)، وقيل لما قدم الشافعي
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).
(2) عبارة (ت 2) مضطربة هكذا: " .. منزلة إقامة التيمم في مكان الوضوء في إعواز الماء".
(3) حديث رفع اليدين متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر بهذا اللفظ تقريباً، وفيه زيادة: "وإذا كبر للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك ... " (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 79 ح 217). وأما حديث أبي حميد بسياقة إمام الحرمين (في عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فقد رواه أبو داود، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن حبان، وصححه الألباني، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده قوي، وعزاه للبخاري في: (قرة العينين =

(2/133)


العراق اجتمع إليه العلماء كأبي ثور والحسين الكرابيسي (1) وغيرهما، وسألوه عن الجمع بين الأخبار في منتهى رفع اليدين؛ إذ روي أنه رفعهما حذو منكبيه، وروي أنه رفع يديه حذو شحمة أذنيه، وروي أنه رفعهما حذو أذنيه (2). فقال الشافعي: إني أرى أن يرفع يديه بحيث يحاذي أطراف أصابعه أذنيه، ويحاذي إبهاماه شحمة أذنيه، وتحاذي ظهور كفه منكبيه، فاستحسن العلماء ذلك منه.
وقد تحقق أن الذي رآه أبو حنيفة من محاذاة الأذنين [إنما عنى بها محاذاة الأصابع الأذنين] (3)، فعلى هذا يرتفع الخلاف (4)، وقد تحققت أن من أئمتنا من يحمل مذهب الشافعي على محاذاة المنكب باليد، بحيث لا تجاوز الأصابع طرف المنكب.
ْفيخرج من ذلك، ومما حُكي من جمعه بين أخبار الرفع قولان: أشار إليهما الصيدلاني، أحدهما - مذهب الجمع كما تفصّل.
ْوالثاني - محاذاة أطراف الأصابع طرف المَنكِب، والتعويل في ذلك على رواية أبي حُمَيْد الساعدي، ومقتضاها محاذاةُ المَنكِب، لا محاذاةُ الأذن والمَنكِب، وهي أصح الروايات.
وهذا بيان صفة اليدين، وذكر منتهى رفعهما.
__________
= في رفع اليدين في الصلاة). (ر. أبو داود: كتاب الصلاة، باب افتتاح الصلاة، ح 730،
والترمذي: أبواب الصلاة، ح 304، والنسائي: كتاب السهو، باب رفع اليدين في القيام إلى
الركعتين الأخيرتين، ح 1182، وصحيح النسائي للألباني: 1/ 255 ح 1130، وابن حبان:
5/ 178 ح 1865 بتحقيق شعيب الأرناؤوط، والتلخيص: 1/ 219 رقم 328).
(1) الحسين الكرابيسي أبو علي الحسين بن علي الكرابيسي البغدادي صاحب الشافعي، وأحد رواة مذهبه القديم، وأخذ عنه الفقه خلق كثير. توفي 245، وقيل 248 هـ. (ر. تهذيب الأسماء: 2/ 284، وطبقات السبكي: 2/ 117، وتاريخ بغداد: 8/ 64، وتهذيب التهذيب: 2/ 59، وشذرات الذهب: 2/ 350، وطبقات الشيرازي: 92 - 101).
(2) انظر هذه الروايات في تلخيص الحبير: 1/ 218 ح 328. وأيضاً نيل الأوطار: 2/ 188 وما بعدها، وكذلك نصب الراية: 1/ 310.
(3) ساقط من الأصل، ومن (ط).
(4) ومع ذلك عدها إمام الحرمين وعالجها في (الدرّة المضيّة) مسألة رقم: 62.

(2/134)


804 - والذي يتم به الغرض وقتُ رفعهما وخفضهما. وقد ذكر أئمتنا في وقت الرفع والخفض ثلاثة أوجه: أحدها - أنه يرفع يديه غير مكبر، فإذا انتهت نهايتَها كبّر، وأرسل مع التكبير يديه، فيقع الإرسال مع التكبير [وانتهاء اليد إلى مقرها من الصدر مع انتهاء التكبير] (1)، أو على القرب منه، وهذه رواية أبي حميد الساعدي عن النبي صلى الله عليه وسلم.
والثاني - يبتدىء الرفع مع ابتداء التكبير، فيقرب انتهاء التكبير من انتهاء اليد نهايته في الرفع، وهذه رواية وائل بن حُجْر.
والثالث - أنه يرفع يديه ويقرهما قرارهما، ويكبر وهُما قارّتان، ثم يرسل يديه بعد الفراغ. وهذه رواية عن ابن عمر.
ثم من أئمتنا من رأى الأوجه اختلافاً، وكان شيخي يقول: ليس هذا باختلاف، ولكن الوجوه كلها سائغة؛ إذ الرجوع فيها إلى الأخبار، ولا مطمع في ترجيح وجه على وجه بمسلك معنوي. وإذا صحت الروايات، فلا وجه إلا قبول جميعها، ولم يصح عندنا ترجيح رواية على رواية، بوجه يوجب الترجيح في الروايات.
وحكى الأئمة عن الشافعي أنه إذا كان لا يتأتى منه رفع اليد على النظم الذي ذكرناه، وكان يتمكن من مجاوزة الحد الذي ذكرناه في الرفع، فليرفع يديه على ما يتمكن منه، وإن كان مجاوزاً للحد.
فصل
قال: "ولا يكبر حتى يسوي الصفوفَ خلفه" (2).
805 - ينبغي أن يعتني الناس بتسوية الصفوف قبل تكبير الإمام، ثم لا يكبر الإمام حتى يظن أن الصفوف قد استوت.
__________
(1) ساقط من الأصل ومن (ط).
(2) ر. المختصر: 1/ 70.

(2/135)


ثم يقع قيامُ الناس، وهمُّ الإمام بالتكبير بعد فراغ المؤذّن عن الإقامة.
وأبو حنيفة يقول: يسوون الصفوف عند قوله: "حي على الفلاح"، وقال: يكبر قبل قوله: "قد قامت الصلاة" (1) إلا أن يكون المؤذن هو الإمام، فلا وجه إلا أن يفرغ.
فصل
"ثم يأخذ كوعه اليسرى ... إلى آخره" (2)
ْ806 - ينبغي للمصلي أن يضع يمناه على يسراه، وكيفيته أن يأخذ الكوع من يده اليسرى بكف يده اليمنى؛ بحيث يحتوي عليه وكان شيخي يذكر لذلك صورتين، ويحكي عن القفال التخيير (3) فيهما: إحداهما - أن يقبض بكفه اليمنى على كوعه من يسراه، ويبسط أصابعه على عرض المفصل.
والثانية - أن يأخذ كوعه من يسراه من أعلى، وينشر أصابعه في صوب ساعده، وهو في الوجهين قابض على كوعه، ويده اليمنى عالية.
وأبو حنيفة (4) يقول: يضع بطنَ كفه اليمنى على ظهر كوعه من يده اليسرى من غير احتواء، ثم يضع يديه تحت صدره.
قال الشيخ أبو بكر: لم أر ذلك منصوصاً عليه للشافعي في شيء من كتبه، ولكن الأئمة اعتمدوا فيه نقل المزني، وقالوا: لعل ما نقله اعتمد فيه سماعه من الشافعي.
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 1/ 200، تبيين الحقائق: 1/ 108، حاشية ابن عابدين: 1/ 322، وانظر الدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية: مسألة رقم 56.
(2) ر. المختصر: 1/ 70 - 71.
(3) في (ت 1)، (ت 2): التردد بينهما.
(4) الذي رأيناه عند الأحناف أن وضع اليدين تحت السرة. وأمَّا الأخذ والوضع وكيفيته ففيها خلاف عندهم. ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 327. مختصر الطحاوي: 26، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 202 مسألة: 138، فتح القدير: 1/ 249.

(2/136)


فصل
"ثم يقول: وجهت وجهي ... إلى آخره" (1).
807 - ينبغي إذا عقد الصلاة أن يُعْقب عقدها بقراءة: وجهت وجهي .. إلى آخره، ثم يستعيذ قبل قراءة الفاتحة، واختلف قول الشافعي في الجهر بالتعوّذ في الصلاة الجهرية، [فنصَّ في القديم على أنه يجهر في الصلاة الجهرية] (2)، ونص في الجديد على أنه لا يجهر بالتعوذ أصلاً.
ثم اختلف أئمتنا في أنَّا هل نستحب التعوّذ في مفتتح كل ركعة، أو يقتصر على التعوذ في أول الركعة الأولى؟ وفيه وجهان مشهوران: والأصح - أنه يتعوذ في أول كل ركعة، متصلاً بقراءة القرآن فيها.
فصل
"ويقرأ فاتحة الكتاب ... إلى آخره" (3).
808 - قراءة الفاتحة محتومة على كلِّ مصلٍّ يحسن القراءة. ولا يقوم غيرُ الفاتحة من السور مقامَها، ويجب افتتاحها بقراءة بسم الله الرحمن الرحيم. فمذهبنا أن بسم الله الرحمن الرحيم آية من الفاتحة. وقد روى محمد بن إسماعيل البخاري: "أن النبي صلى الله عليه وسلم عدّ فاتحة الكتاب سبع آيات، وعدّ بسم الله آية منها" (4)، ثم التسمية من القرآن في أول كل سورة، خلا سورة التوبة، وهي محسوبة
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 71.
(2) ساقط من الأصل، ومن (ط).
(3) ر. المختصر: 1/ 71.
(4) الذي رواه البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسّر " السبع المثاني " بسورة الفاتحة، وقال: "هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته" (ر. البخاري: 5/ 146، 222، كتاب التفسير: تفسير سورة الفاتحة، ح 4474، وتفسير سورة الحجر، ح 4703) وليس فيها أنه صلى الله عليه وسلم عدها سبع آيات، وعدّ البسملة آية منها. ولهذا قال الحافظ في =

(2/137)


آيةً في أول الفاتحة، وهل تكون آية من كل سورة؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها آية تامة حيث كتبت في أوائل السور كسورة الفاتحة.
والثاني - أنها مع صدر السورة آية، وليست آية تامة إلا في أول الفاتحة، وهذا القائل استدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سورة تجادل عن ربها، وهي ثلاثون آية، ألا وهي سورة الملك" (1)، ثم تلك ثلاثون آية دون التسمية، فإذن على هذه الطريقة التسمية من القرآن في أول كل سورة، وإنما اختلف القول في أنها تُعدّ آية بنفسها أم لا؟
وذكر الشيخ أبو علي عن بعض الأصحاب طريقة أخرى، وهي أن التسمية من القرآن في أول الفاتحة، وهل هى من القرآن فى أوائل السور؟ فعلى قولين، والصحيح الطريقة الأولى.
وذكر العراقيون خلافاً في أن كون بسم الله من القرآن في أوائل السور معلوم أو مظنون، وهذا غباوة عظيمة؛ لأن ادعاء العلم -حيث لا قاطع- محال.
__________
= التلخيص: "إن الإمام نسب هذا الحديث للبخاري وتبعه الغزالي في الوسيط، ومحمد بن يحيى في المحيط، وهو من الوهم الفاحش، قال النووي: لم يروه البخاري في صحيحه، ولا في تاريخه" ا. هـ (ر. التلخيص: 1/ 233) هذا. والمحيط المذكور في شرح الوسيط.
أما الحديث على نحو ما ساقه إمام الحرمين فقد رواه البيهقي والدارقطني، وابن خزيمة في صحيحه، (ر. المجموع: 3/ 333، والسنن الكبرى: 2/ 58، وتلخيص الحبير: 1/ 233، والدارقطني: 1/ 307، وصحيح ابن خزيمة: 1/ 248 ح 493 باب رقم 97، ص 251 ح 500 باب رقم 101، والطحاوي: 1/ 199 - 200، والحاكم: 1/ 232 وقال: هذا صحيح على شرط الشيخين، ولم يوافقه الذهبي).
(1) حديث سورة الملك .. صحيح. رواه أبو داود: الصلاة، باب في عدد الآي، ح 1400، وصححه الألباني: 1247. وأخرجه الترمذي: فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل سورة الملك، ح 2891، وقال أبو عيسى هذا حديث حسن. وأخرجه ابن ماجة: الأدب، باب ثواب القرآن، ح 3786، والألباني: 3053، وعند أحمد: 2/ 321، وصحح الشيخ شاكر إسناده: ح 7962، 8259. وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة: ح 710. وابن حبان في صحيحه: 3/ 67 ح 787، وحسّن شعيب الأرناؤوط إسناده. والحاكم، وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وانظر تلخيص الحبير: 1/ 233 ح 349.

(2/138)


ثم قراءة الفاتحة ركن في صلاة الإمام والمنفرد، وأما المأموم، فإنه يقرأ الفاتحة خلف الإمام، وهو حتم واجب عليه، ولا فرق بين أن تكون الصلاة جهرية أو سرية.
وحكى المزني قولاً آخر عن الشافعي: أنه إن أسر الإمام، قرأ المأموم حتماً، وإن جهر القراءة، سقطت القراءة عن المأموم. وهذا مذهب مالك (1)، والمزني لم ينقل بنفسه عن الشافعي إلا هذا القول، ونقل القول الأول عن الأصحاب عن الشافعي.
فهذه قواعد المذهب في القراءة، ونحن الآن نبتدىء تفصيل المذهب في القراءة في فصلين: أحدهما - في قراءة القارىء القادر على القراءة. والثاني - في قراءة العاجز عن قراءة الفاتحة. فأما
الفصل الأول
809 - من تمكن من قراءة الفاتحة، لزمته. وقد ذكرنا التفصيل في المأموم. ثم يجب الإتيان بحروف الفاتحة من مجاريها، فلو أخل بحرفٍ، لم تصح الصلاة، ومن الإخلال تخفيف المشدَّد؛ فإن المشدّد حرفان مِثلان أولهما ساكن، وإذا خفَّفَ، فقد أسقط حرفاً. وكان شيخي يتردد في إبدال الضّاد ظاءً في قوله (ولا الضالين)؛ فإن هذا لا يتبين إلا للخواصّ، وهو مما يتسامح فيه عند بعض أصحابنا. والصحيح القطع بأن ذلك لا يجوز؛ فإن الظاء والضاد حرفان متغايران، فإذا حصل الإبدال، فالذي جاء به ليس الحرف المطلوب.
810 - ثم لو ترك الفاتحة من أوجبناها عليه عامداً، لم تصح صلاته، ولو تركها ناسياً، فالمنصوص عليه في الجديد -وهو المذهب- أن الركعة التي خلت عن قراءة الفاتحة لا يُعتد بها، وتركُ القراءة ناسياً كترك الركوع والسجود.
ونُسب إلى الشافعي قولٌ قديم: أنه يُعذر التارك ناسياً، وتصح الركعة، وجعل النسيان بمثابة إدراك المقتدي الإمامَ راكعاً؛ فإنه يصير مدركاً للركعة وإن لم يقرأ.
وهذا قول متروك، لا تفريع عليه، ولا يعتد به.
__________
(1) ر. جواهر الإكليل: 1/ 50.

(2/139)


811 - ثم يجب على القارىء رعاية الترتيب في القراءة، فلو قرأ الشطر الأخير من الفاتحة أولاً، لم يعتد به؛ فإن القرآن معجزٌ، والركن الأَبْين في الإعجاز يتعلق بالنظم والترتيب.
ولو (1) قدم أواخر التشهد، وأخر أوائله، فإن غيره تغيراً يَبطُل به معناه، فلا شك أن ما جاء به ليس محسوباً. وإن تعمد ذلك، بطلت صلاته؛ فإنه جاء بكلام غير منتظم عمداً، وإن كان تقديماً وتأخيراً -وكل كلام مفيد في نفسه- فالذي ذكره الأئمة: أن ذلك لا يضر؛ فإنه جاء بالتشهد، وليس الكلام معجزاً في نفسه، فيؤثرَ فيه تبديل الترتيب، والمعنى لم يختلف.
وذكر شيخي فى التشهد -إذا غير ترتيبه تغييراً تقديماً أو تأخيراً- وجهين، وليس ذلك بعيداً، وهو بعينه الخلاف المذكور فيه، إذا قال الأكبر الله؛ فإنه في تغيير الترتيب تاركٌ لطريق الاتباع، وقد ذكرنا أن معتمد الشافعي في العبادات البدنية التي لا تتعلق بأغراض جزويّة (2) مفهومة - الاتباعُ (3).
فهذا تفصيل القول في رعاية الترتيب.
812 - وذكر العراقيون وجهاً أن ترك الموالاة بالسكوت الطويل قصداً عمداً، لا يبطل القراءة، وهذا مزيف متروك، وإن كان لا يبعد توجيهه.
وتجب أيضاً رعاية الموالاة في القراءة، فلا ينبغي أن يخلل القارىء بين قراءته سكوتاً طويلاً يقطع الولاء، أو ذكراً ليس من القراءة، فإن تخلل سكوتٌ طويل -
__________
(1) هذا استطراد للحديث عن الترتيب في التشهد، ليظهر الفرق بين ما تجب رعاية النظم فيه، وما يكتفى فيه بأداء المعنى.
(2) كذا في الأصل، وفي (ت 1)، وفي (ت 2): حزويه، وفي ط: جزءية (كذا): وواضح من السياق أن المعنى المقصود هو الأغراض الجزئية في مقابلة القضايا الكلية للشريعة ومقاصدها، فالمعنى: أن قراءة الفاتحة وقراءة التشهد من العبادات التي لا تتعلق بمقاصد خاصة بها يمكن إدراكها، ولذا فالمذهب فيها الاتباعُ.
(3) خبر (أن) في قوله: "أن معتمد الشافعي ... ".

(2/140)


والمعتبر فيه أن يسكت سكوتاً يُشعر مثله بأن القراءة قد انقطعت، إما باختيار أو بمانع- فهذا هو السكوت القاطع للولاء.
وأما تخلل الذكر، فالذي ذكره الأئمة أنه إذا أدرج القارىء في أثناء القراءة ذكراً تسبيحاً، أو تهليلاً، فتنقطع موالاة القراءة، وإن كان ذلك الذكر قليلاً واقعاً في زمان لا ينقطع الولاء بالسكوت في مثله.
وقد صح عندنا أنا وإن كنا نشترط اتصال الإيجاب بالقبول في العقود، فلو تخلل بين الإيجاب والقبول كلام من أحدهما قريب لا يضر تخلله، على تفصيل وضبط سيأتي في موضعه، ونص الشافعي دال على ذلك، فإنه قال في كتاب الخلع: "لو قال لامرأتيه: خالعتكما، فارتدتا، ثم قالتا: قبلنا، ثم عادتا إلى الإسلام، قبل انقضاء العدة، فالخلع صحيح" (1)، وقد تخللت كلمة الردّة.
ولو تخلل بين الإيجاب والقبول سكوت طويل، لم ينعقد العقد. فتخلل السكوت استوى فيه القراءة والعقد، وافترقا في تخلل الذكر، والسبب فيه أن من أدرج ذكراً في أثناء القراءة؛ فإنه يجري في انتظام القراءة حتى كأنه منها، وذلك يُغيّر النظمَ والترتيبَ والإعجازَ. والإيجابُ والقبول صادران من شخصين، وقد ورد التعبد باتصال الجواب بالإيجاب؛ فإن للجواب اتصالاً -في مطرد العرف- بالخطاب يكون لأجله جواباً، والسكوت الطويل إذا تخلل يقطع الجوابَ عن الإيجاب. وإذا صدر كلام يسير عن أحد المتعاقدَيْن، لم يُشعر مقداره بإضراب المخاطب عن الجواب - لم يضر تخلله. وفي القراءة يختلط الذكر بالمقروء، ويجري في أدراجه، وليس هذا من قبيل ما ذكرناه من رعاية الاتصال بين الإيجاب والقبول.
فيخرج من ذلك أن تخلل الذكر ليس مؤثراً في القراءة من حيث يقطع ولاءها، ولكن من حيث يغير نظمَها.
ولو فرض سكوت في أثناء القراءة لا يقطع مثلُه الولاء، وفرض فيه ذكرٌ يسير، لا بصوت القراءة، بحيث لا ينتظم بالقراءة، فلست أبعد في هذه الصورة أن يقال: لا تنقطع القراءة، والله أعلم.
__________
(1) ر. الأم: 5/ 185.

(2/141)


813 - وقد ظهر اختلاف الأئمة في أنه إذا أمّن الإمام في آخر الفاتحة، وكان المأموم في أثناء قراءة فاتحته، فأمّن عند تأمين الإمام، فهل تنقطع قراءته بهذا؟ فذهب ذاهبون إلى أن القراءة. تنقطع، وهذا قياس ما ذكرناه.
وصار صائرون إلى أنها لا تنقطع، وليس يتجه عندي هذا الوجه إلا بما رمزت إليه من أن المحذور ألاّ ينتظم الذكر بالقراءة، وإذا جرى في أثناء الكلام شيء هو محمل الذكر، ويظهر به أن الذكر لم يجر في نظم القراءة، كالتأمين عند تأمين الإمام، فهذا يبيّن انقطاع الذكر عن الانتظام، فلذلك جرى الخلاف فيه.
814 - وكذلك كان شيخي يذكر خلافاً في أن الإمام لو كان يقرأ السورة، والمأموم في أثناء الفاتحة، فانتهى الإمام إلى آية الرحمة، وطلب للرزق، فقال المأموم: اللهم ارزقنا -وهذا مما نستحبه كما سيأتي- فهل تنقطع القراءة؟ فعلى وجهين. وهو ملتحق بالمعنى الذي ذكرناه في مسألة التأمين؛ فإن ارتباط ما تخلل بما طرأ من الإمام يقطعه عن تخلل الانتظام بالقراءة.
815 - وإذا انتهى الإمام إلى آيةٍ فيها سجدة والمأموم في خلال القراءة، فيسجد، والمأموم يسجد متابعاً لا محالة، وهل تنقطع القراءة؟ فعلى ما ذكرناه من الوجهين، فهذا وجه الكشف في تحقيق القول في ذلك.
816 - ومن تمام القول في هذا، أن العراقيين حكَوْا عن نص الشافعي ما يدل على أنه لو ترك الموالاة ناسياً، لم يضر، وهذا مفرعّ على أنه لو ترك القراءة أصلاً، ناسياً، لم يعتد بالركعة، ومع هذا حكَوْا النص في أن ترك الولاء ناسياً غير ضائر.
وهذا غير سديد عندي، فإن ترك الولاء إذا كان (1) تختل به القراءة، فاذا جرى على حكم النسيان، فهو بمثابة ترك القراءة ناسياً.
وقد ذكر شيخي ما ذكره العراقيون وزاد كلاماً، فقال: لو ترك الترتيب في قراءة الفاتحة ناسياً، لم يعتد بقراءته، ولو أخلّ بالموالاة ناسياً، احتسب بالقراءة، وقال
__________
(1) "كان" هنا تامة بمعنى (وُجد) و (حدث).

(2/142)


في تحقيق الفرق: ولو أخل الرجل بترتيب الأركان ناسياً، فسجد قبل الركوع، لم يعتد بالسجود، ولو طوّل ركناً قصيراً، وأخل بالموالاة بهذا السبب، لم يضر، واعتدّ بما جاء به، فكذلك يفرق بين ترك الترتيب والموالاة على حكم النسيان في القراءة. وهذا صحيح؛ فإن ترك الولاء يُخل بالقراءة إخلالَ ترك الترتيب كما تقدم.
فهذا نقل ما قيل، مع ما فيه من الاحتمال.
817 - ولو كرر القارىء الفاتحة [أو كلمة من الفاتحة] (1) كان شيخي لا يرى بذلك بأساً إذا كان سبب ذلك شك من القارىء، في أن تلك الكلمة هل أتت على ما ينبغي أم لا؟، فإنه معذور، وإن كرر كلمة منها قصداً من غير سبب، كان يتردد في إلحاق ذلك بما لو أدرج في أثناء الفاتحة ذكراً.
818 - والذي أراه أن وِلاء الفاتحة لا ينقطع بتكرر كلمة منها، كيف فرض الأمر؛ فإن الذي عليه المعول في إدراج الذكر ما قدمناه من انتظام الذكر بالقراءة، وإفضاء ذلك إلى اختلاف النظم، وإذا كرر القارىء شيئاًً من الفاتحة، لم يؤدّ التكرير إلى ما أشرنا إليه.
والعلم عند الله.
فهذا مجامع القول في قراءة الفاتحة في حق من يحسنها.
فأما:
الفصل الثاني
فهو في تفصيل القول في الأُميّ
819 - والأُمي في اصطلاح الفقهاء من لا يحسن الفاتحة، أو لا يحسن بعضَها، ويحسن بعضها.
فأما إذا كان لا يحسن منها شيئاًً، فلا يخلو إما إن كان يحسن شيئاًً من القرآن، أو
__________
(1) ساقط من الأصل، ومن (ط).

(2/143)


كان لا يحسن شيئاًً من القرآن، [فإن كان يحسن من القرآن سورة أو سوراً، فعليه أن يقول من القرآن] (1) ما يقع بدلاً عن الفاتحة.
820 - ثم قال الأئمة: الفاتحة سبعُ آيات، فليأت بسبع آيات، ثم إن كانت قصاراً بحيث لا يبلغ عدد حروفها عددَ حروف الفاتحة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يجزئه ما جاء به نظراً إلى مقابلة الآي، ولا مؤاخذة بالحروف وعددها.
ومنهم من قال: لا بد من رعاية أعداد الحروف؛ إذ بها حقيقة المقابلة والمماثلة، وأجزاءُ القرآن كالأسباع وغيرها تعتمد الحروف.
ولو قرأ آية طويلة بلغ عددُ حروفها عددَ حروف الفاتحةّ، واقتصر عليها، فقد حكى الأئمة أن ذلك لا يجزىء ولا يكفي.
ولم أر في الطرق في ذلك خلافاً، فعدد الآي مرعي إذن، وفي عدد الحروف خلاف، ولعل سبب الوفاق في عدد الآي، ما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم عد فاتحة الكتاب سبعَ آيات" (2)، وقال تعالى في ذكرها {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87] فاقتضى اعتناءُ الكتاب والسنة بآياتها عددَ الآي بَدَلَها. والحروفُ على التردد كما حكيناه.
821 - وكان شيخي يقول: إذا راعينا مقابلةَ الحروف، فيجب رعاية الترتيب، كما نصفه: وهو أن يأتي في مقابلة الآية الأولى بآية تشتمل على عدد حروف تلك الآية أو تزيد، وإن كان لا يحسن إلا الآيات القصار، فيقابل الآية بالآيتين، وهكذا إلى تمام الفاتحة.
وكان يقول: لو قرأ ست آياتٍ من القصار التي لا تفي حروفُها بعدد حروف الآيات الست الأُوَل، ثم قرأ آية طويلة تجبر ما كان من نقصان، وتقابل حروف الآية الأخيرة، وقد يزيد - قال: هذا لا يجوز؛ فإنه لم يراع في الآيات الست المقابلةَ
__________
(1) ساقط من الأصل، ومن (ط).
(2) سبق الكلام عن هذا الحديث آنفاً.

(2/144)


المشروطةَ؛ فصارت الآية الأخيرة في حكم آية واحدة يقابل حروفها حروفَ جميع الآيات. وكان رضي الله عنه يقطع بهذا.
والذي أراه أن هذا لا معنى لاشتراطه بعد ما حصلت مقابلة الآي ورعاية عدد الحروف على الجملة.
822 - ولو كان يحسن سبع آيات متفرقات، فيأتي بها وتجزئه. ولو كان يحسن سبع آيات على الوِلاء، فأراد أن يأتي بسبع متفرقة، كان رضي الله عنه يمنع ذلك، وهو ظاهر لا يتجه غيره. وفي الإتيان بسبع آيات متفرقات إذا كان لا يحسن غيرها نظرٌ في صورة واحدة، وهي أن [الآية الفردة] (1) قد لا تفيد معنى منظوماً ولو قرئت وحدها مثل قوله تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21]، فيظهر ألاّ يكتفى بإفراد هذه الآيات، فيردّ إلى الذكر، كما سنذكره.
823 - ومما يتعلق بهذا، أنه إذا كان لا يحسن من القرآن إلا آية واحدة مثلاً، فقد ظهر اختلاف أئمتنا في أن الواجب في بدل الفاتحة ماذا؟ فقال بعضهم: يُكرر تلك الآية سبعاً، ويكفيه ذلك، وقال بعضهم: يأتي بها مرة واحدة، ويأتي بالأذكار في مقابلة ست آيات.
ولم يوجب أحدٌ الجمع بين التكرار والذكر؛ فإن التكرار إن وجب فعلى مقابلة الآيات الباقية، ولا يجب على مقابلتها بدلان: الذكر وتكرير الآية، وهذا مع الالتفات إلى رعاية الحروف.
والخلاف في هذا كله إذا كان يحسن شيئاًً من القرآن.
824 - وأما إذا كان لا يحسن من القرآن شيئاًً، فإنه يأتي بدلاً عن الفاتحة بأذكار، وينبغي أن تكون أذكاراً عربية إن كان يحسنها، ثم ذكر الأئمة التسبيح والتهليل، ولا شك أن المرعي مقابلة الحروف؛ فإنه ليس في الأذكار مقاطع وغايات على مقابلة الآيات، فليس إلا اعتبار الحروف، ثم كان شيخي يقول: إن جرد التسبيح والتهليل جاز، وإن جرّد الدعاء، ففيه احتمال، هكذا كان يقول رضي الله عنه، ولعل الأشبه
__________
(1) في جميع النسخ: "آيات القراءة" والمثبت مما أفادتنا به (ل).

(2/145)


أن الدعوات التي تتعلق بأمور الآخرة تنزل منزلة التسبيح، وأما بمآرب الدنيا، فيبعد الاعتداد به مع القدرة على غيره (1).
فرع:
825 - إذا كان يحسن آية من غير الفاتحة، فهل يكفيه أن يكررها سبعاً؟ أم يأتي بها مرة واحدة، ويأتي بالذكر بدلاً عن الست؟ فعلى وجهين مشهورين، لا يخفى توجيههما.
826 - ولو كان يحسن آية واحدة من الفاتحة، فهل يكفيه أن يكررها أم يأتي بها، ويأتي بست آيات إن كان يحسنها من غيرها؟ فعلى وجهين أيضاً.
فإن قلنا: يكفي التكرير، فإن كان يحسن آيتين مثلاً، ففي التكرير احتمال، يجوز أن يقال: يكررهما أربعاً، وقد كفى؛ فإنه أتى بالسبع، وزاد، فليتأمل الناظر ذلك، فهو محل النظر. فهذا الفرع ملحق بما تقدم. فهذا كله إذا كان لا يحسن الفاتحة، ولا شيئاًً من القرآن.
وذكر العراقيون: أن النبي صلى الله عليه وسلم علّم أعرابياً كان لا يحسن [الفاتحة ولا] (2) شيئاًً من القرآن أن يقول بدل القراءة: "سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله" (3).
__________
(1) انتهى إلى هنا الجزء الثاني من تجزئة النسخة التي نرمز لها (ت 2). وجاء في خاتمة الجزء ما نصه: "تم الجزء الثاني بحمد الله وعونه، وصلى الله على محمد نبيه، وعلى آله وصحبه وسلم، وشرّف وكرّم. يتلوه في الجزء الثالث: فرع إذا كان يحسن آية من غير الفاتحة، فهل يكفي أن يكررها".
(2) زيادة من (ت 2).
(3) حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أعرابياً ... " صحيح. رواه أبو داود، وأحمد، والنسائي، وابن الجارود، وابن حبان والحاكم، والدارقطني، واللفظ له من حديث ابن أبي أوفى (ر. التلخيص: 1/ 236 ح 351، أبو داود: الصلاة، باب من رأى القراءة إذا لم يجهر، ح 832، وصحيح أبي داود: 1/ 157 ح 742، النسائي: الافتتاح، باب ما يجزىء من القراءة لمن لا يحسن القرآن، ح 924، وصحيح النسائي: 1/ 201 ح 885، المسند: 4/ 353، 356، 382، المنتقى لابن الجارود: ح 189، ابن حبان: ح 6805، الحاكم: 1/ 241، الدارقطني: 1/ 313 - 314، والإرواء: 303).

(2/146)


ثم ذكروا وجهين في أن هذه الأذكار تتعين أم لا. وتعينها بعيد عندنا.
827 - فأما إذا كان يحسن بعض الفاتحة، فيلزم الإتيانُ بما يحسنه، فإن كان من صدر الفاتحة أتى به أولاً، ثم أتى بالبدل عما لا يحسنه. وإن كان يحسن النصفَ الأخير، فيلزمه أن يأتيَ بالبدل أولاً. ثم يأتي بما يحسن، ورعاية الترتيب في هذا واجب، اتفق عليه أئمتنا. وليس علّةُ الترتيب في هذا علةَ الترتيب في تلاوة الفاتحة في حق من يحسنها؛ فإن الترتيب يراعى في قراءة الفاتحة محافظةً على نظمها، وليس بين الأذكار التي قُدّرت بدلاً عن النصف الأول، وبين النصف الثاني انتظام. ولكن هذا الترتيب يُتلقى من اشتراط الترتيب في أركان الصلاة؛ فعليه فرض قبل النصف الثاني، فليُقِمه. ثم ليأتِ بالنصف الثاني. ويجوز أن يقال: يأخذ البدلُ حكمَ المبدل، والترتيب شرط في فاتحة الكتاب لعينها، فنزل بدل النصف الأول منزلته في رعاية ترتيب النصف الآخر عليه.
فهذه قواعد المذهب في الفاتحة: ونحن نرسم بعدها فروعاً تستوعب ما شذّ، وتقرّر القواعد.
فرع:
828 - الأمي إذا تعلم الفاتحة في أثناء الركعة، نُظِر، فإن تعلَّمها قبل أن يخوض في البدل، فعليه قراءة الفاتحة، وإن فرغ من البدل ولم يركع بعدُ، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يلزمه قراءة الفاتحة؛ فإن وقت القراءة ومحلها باقٍ قائم.
والثاني - لا يلزم؛ لأن البدل قد تم، وسقط الفرض فيه، فلا معنى لعود الفرض بعد سقوطه، وهو كما لو أتى من لزمته الكفارة بالبدل، فلا أثرَ لوجود المبدل.
والقائل الأول يقول: كون الأذكار بدلاً ووقوعها كذلك يتوقف على انقضاء القيام؛ فإن من كان يُحسن الفاتحة قد يُوقع أذكاراً قبل القراءة، فلا يتبين وقوع الذكر بدلاً إلاّ عند الاكتفاء [به] (1) والتلبس بالركوع، والصيام الواقع بدلاً في الكفارة مصروف بالنية إليها. وآحاد الأذكار لا تتناوله النية تخصيصاً.
__________
(1) زيادة من (ت 2).

(2/147)


829 - ومما يتعلق بهذا، أن الأمي إذا افتتح الصلاة، وقصد إقامة دعاء الافتتاح بدلاً عن الفاتحة، فإنه يقوم مقامها. ولو قصد أن يقع مسنُوناً كما شُرع، فيجب القطع بأن الفرض لا يسقط والقصدُ كما ذكرناه؛ فليأتِ عن الفاتحة ببدلٍ.
ولو أتى بأذكار سوى دعاء الاستفتاح، ولم يقصد إقامتها بدلاً، فقد تردد صاحب التقريب في هذا، وهو محتمل (1 حسن. والذي ذكرته من تعليل أحد الوجهين في أول هذا الفرع يشير إلى هذا، فإني قلت: لا يقع الذكر في عينه بدلاً إلا بانقضاء وقته 1)، فلا يمتنع أن يقال: لا بدّ من قصد في إيقاعه بدلاً.
830 - ولو اشتغل بالذكر، ولم ينقضِ بعدُ، حتى تعلم الفاتحة، فالأصحّ الذي يجب القطع به أنه يجب قراءة الفاتحة.
وأبعد بعض أصحابنا، فقال: لا يجب قراءة الفاتحة؛ فإن الاشتغال بالبدل يُسقِط رعايةَ المُبدل؛ فإن من شرع في صيام الشهرين المتتابعين، ثم وجد الرقبة، لم يلزمه إعتاق الرقبة.
وهذا الوجه أطلقه الناقلون. وهو خطأ صريح عندي؛ فإنا قد ذكرنا أن من كان يحسن نصف الفاتحة، لزمه الإتيان بما يحسن والبدل عما لا يحسن، فالقراءة إذن تتبعض في هذا الحكم، فالوجه القطع بأنه إذا أتى بنصف الأذكار مثلاً، وتعلم الفاتحة، فيتعين الإتيان بالنصف الأخير من الفاتحة وجهاً واحداً، وفي قراءة النصف الأول تردّدٌ، وليس ذلك كالأصل والبدل في الكفارة؛ فإن بعض الرقبة لا يسد مسداً، وهذا واضح.
ولو تعلم الفاتحة بعد الركوع، فلا شك أن تيك الركعة مضت معتدّاً بها.
فرع:
831 - إذا كرّر فاتحة الكتاب في ركعة مرتين قصداً، فالذي ذهب إليه معظم الأصحاب أن الصلاة لا تبطل وذهب أبو الوليد النيسابوري (2) إلى أن الصلاة تبطل
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) أبو الوليد النيسابوري: حسان بن محمد بن أحمد بن هارون بن حسان - القرشي الأموي. أحد أئمة الدنيا، تلميذ ابن سريج، مذكور في الروضة في الوتر. توفي سنة 349 هـ. (طبقات =

(2/148)


بهذا، واحتج بأن من زاد في الركعة ركوعا قصداً، بطلت صلاتُه، والقراءة ركنٌ، فإذا تكررت، كان كالرّكوع يكرر، وعدّ الأصحاب هذا من غوامض محالّ الاستفراق (1)، والأمر في ذلك قريب.
فنقول: إنما تبطل الصلاة بزيادة ركوع، من حيث إن ذلك يُظهر خروج الصلاة عن النظم، والذي يوضّح ذلك أن الفعل القليل لا يبطل الصلاة؛ لأن النظم لا يفسد به ولا يختل، وإذا زيد ركن، ظهر به الاختلال، وإن كان ركوع واحد لا يبلغ مقدار الفعل الذي يُفسد الصلاة لكثرته، ولكن كالفعل الكثير من جهة اختلاف نظم الصلاة به، ونظم الصلاة لا يختلف بتكرير الفاتحة، فلا يؤثر في بطلان الصلاة.
فرع:
832 - ذكر العراقيون عن نصّ الشافعي: "أن الأخرس الذي لا ينطق لسانه بالفاتحة، يلزمه أن يحرك لسانه بدلاً عن تحريكه إياه في القراءة، [والتحريك من غير قراءة كالإيماء بالرّكوع والسجود"، وهذا مشكل] (2) عندي؛ فإن التحريك بمجرده لا يناسب القراءة ولا يدانيها، فإقامته بدلاً بعيدٌ، ثم يلزم على قياس ما ذكروه أن يلزموا التصويت من غير حروف مع تحريك اللسان، وهذا أقرب من التحريك المجرد.
وعلى الجملة، فلست أرى ذلك بدلاً عن القراءة لما ذكرته، ثم إذا لم يكن بدلاً، فالتحريك الكثير يلتحق بالفعل الكثير، على ما سيأتي مشروحاً في الأفعال.
فصل
833 - ذكر صاحب التقريب أن المصلي إذا كان في أثناء قراءة الفاتحة، فنوى قطعها عقداً، ولم يقطعها فعلاً، فلا أثر لهذه النية. وليس كما لو نوى قطع الصلاة؛ فإن ذلك يتضمّن قطع نية الصلاة وهي رابطتها، فإذا عمد قطعها بطلت. وهذا ظاهر لا شك فيه، ولكني أحببت نقله منصوصاً.
__________
= الشافعية: 3/ 226، وتهذيب الأسماء واللغات: 2/ 271 رقم 442).
(1) "الاستفراق": طلب الفرق.
(2) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

(2/149)


فصل
قال: فإذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 7]، قال: "آمين" (1).
834 - آخر الفاتحة، {وَلَا الضَّالِّينَ}، فإذا انتهت استحببنا لمن أنهاها أن يقول: آمين، وفيه لغتان: القصر والمد، والميم مخففة على اللغتين، والصحيحُ أنه من الأصوات، وُضع لتحقيق الدعاء، والمراد به: "ليكن كذلك" كما أن المراد من قوله: "صه" أي اسكت، فيؤمّن المنفرد والإمام والمأموم. وإذا قال الإمام " ولا الضالين " أمّن، ويؤمّن المقتدون به.
835 - ثم الإمام في الصلاة الجهرية -وفيها الفرض (2) - يؤمّن، ويرفع صوته بالتأمين، ويتبع التأمين القراءةَ، وكما يجهر بها يجهر بالتأمين، وهذا يقوّي أحد الوجهين في الجهر بالتعوّذ، فإنه تابع للقراءة كالتأمين.
والمأموم يؤمّن وإن لم يكن ذلك آخر تلاوته للفاتحة؛ فإنه كان يستمع، وآخر الفاتحة دعاء، والتأمين بالمستمع المشارك في الدعاء أليق في سجية الداعين منه بالداعي نفسه، فإذا كان الإمام يؤمّن أمّن من خلفه، ولهذا قال أبو حنيفة (3): لا يؤمّن الإمامُ ويؤمّنُ المقتدِي، ويُسرّ.
836 - ثم إذا ثبت أن الإمام يجهر بالتأمين، فالمقتدي هل يجهر بالتأمين؟ اختلف نص الشافعي: فقال في موضع: يجهر، وقال في موضع: لا يجهر، واختلف الأئمة، فذهب الأكثرون إلى أن المسألة على قولين، ثم اختلف هؤلاء: فذهب جمهورهم إلى طرد القولين في كل صورة، أحدهما - أن المقتدي لا يجهر، كما لا يجهر بالقراءة وشيء من أذكار صلاته، وإنما الجهر للإمام.
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 71.
(2) المعنى أن الإمام يؤمن في الصلاة الجهرية، فرضاً كانت، أو نفلاً كالعيدين، والقيام، وغيرها.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 26، رؤوس المسائل: 54 مسألة: 59، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 202 مسألة: 139، الهداية مع فتح القدير: 1/ 256، حاشية ابن عابدين: 1/ 331.

(2/150)


القول الثاني أنه يجهر لما روي عن أبي هريرة أنه قال: "كان إذا أمّن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمّن من خلفه، حتى كان للمسجد ضجة، وروي لجة" (1)
__________
(1) حديث أبي هريرة في التأمين. متفق عليه. ولفظ البخاري "إذا أمن الإمام، فأمنوا، فإن الملائكة تؤمن، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه" (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 83 رقم 231).
* أما على نحو سياقة إمام الحرمين، فقد قال الحافظ: "لم أره بهذا اللفظ، لكن روى معناه ابن ماجة، عن أبي هريرة، وكذلك أبو داود أيضاً". ا. هـ ملخصاً.
هذا: وقد تعقب ابنُ الصلاح في الكلام على الوسيط الإمامَ الغزالي قائلاً: "أورد هذا الحديث، تبعاً لإمام الحرمين في النهاية، وهو غير صحيح مرفوعاً، وإنما رواه الشافعي من حديث عطاء: كنت أسمع الأئمة: ابنَ الزبير، فمن بعده يقولون: آمين حتى إن للمسجد للجة". ا. هـ نقلاً عن الحافظ في تلخيصه.
ثم قال الحافظ: وقال النووي مثل قول ابن الصلاح، وزاد -أي النووي-: "وهذا غلط منهما". ا. هـ بنصه.
هذا ولم أصل إلى هذا الذي قاله النووي في المجموع عند كلامه على أحاديث الباب: 3/ 369 - 370. فلعله قاله في مكان آخر.
ملاحظة: ذكر الحافظ تنبيهاً حول هذا الحديث، قال فيه: "ذكر الغزالي في الوسيط، وفي الوجيز زيادة "ما تقدم من ذنبه، وما تأخر"، قال ابن الصلاح: "وهي زيادة ليست بصحيحة". ثم عقب الحافظ قائلاً: "وليس كما قال، كما بينته في طرق الأحاديث الواردة في ذلك" انتهى كلام الحافظ.
قلتُ (عبد العظيم): مراد الحافظ: ليس الأمر كما قال ابن الصلاح بالنسبة للجزء الأول من الزيادة: "ما تقدم من ذنبه" أما زيادة "ما تأخر"، فقد وصفها الحافظ نفسه في الفتح بأنها شاذة من بعض الطرق، وغير صحيحة في البعض الآخر (ر. فتح الباري: الأذان -باب جهر الإمام بالتأمين ج 2 ص 262 حديث 780، وتلخيص الحبير: 1/ 238، 239 ح رقم 354 - 356).
* تنبيه واستدراك: كنا قد كتبنا التعليق السابق قبل أن يطبع مشكل الوسيط لابن الصلاح، وتنقيح الوسيط للنووي، وبعد أن رأينا الكتابين تبيّن لنا ما يأتي: 1 - الكلام الذي نقله الحافظ في التلخيص عن النووي، وقلنا: إننا لم نجده في المجموع، وجدناه في التنقيح. 2 - كلام ابن الصلاح بشأن زيادة " ما تقدم من ذنبه وما تأخر " وأنها زيادة غير صحيحة، والتعقيب عليه بعد ذلك، نقول: عبارة ابن الصلاح نقلناها من التلخيص للحافظ، لكننا رأينا العبارة في مشكل الوسيط تختلف، فابن الصلاح يقول عن هذه الزيادة: "إنها غير صحيح منها قوله (وما تأخر) ". ولم يتكلم عن "ما تقدم"، وهذا بخلاف عبارة الحافظ التي نقلها عن ابن =

(2/151)


والمعنى أن المقتدي متابعٌ لإمامه في التأمين؛ فإنه ليس يؤمّن لقراءة نفسه، وإنما يؤمّن بسبب انتهاء قراءة إمامه، فليتبعه في الجهر، كما يتبعه في أصل التأمين.
واعتمد أئمتنا من القولين هذا، ولم يَرَوْا في حديث أبي هريرة متعلقاً؛ فإن الناس إذا كثروا وأسمع كل واحد نفسه معاً، فيحصل من مجموع أصواتهم هينمة (1) وضجة، فيمكن أن يحمل الحديث على ذلك.
ومن أصحابنا من قال: إن لم يجهر الإمام بالتأمين في الصلاة الجهرية، جهر به المقتدي قولاً واحداً. وإن جهر الإمام، فهل يجهر المأموم؛ فعلى قولين، وهذا التفصيل ذكره العراقيون، وكان شيخي لا يراه ولا يذكره.
ويمكن توجيه ما فصلوه من القاعدة التي نبهنا عليها في التأمين، وما فيه من رعاية التبعية.
837 - وذكر العراقيون طريقة أخرى، وقالوا: من أئمتنا من قال: ليست المسألة على قولين، والنّصان منزلان على حالين، - فحيث قال: "لا يجهر المأموم"، إذا قلّ المقتدون، وقربوا من الإمام، أو صغر المسجد، وكان القوم يبلغهم صوتُ الإمام، فإذا أسمعهم، كفى ذلك لمن سمعوه، كأصل القراءة. وإن كَبِر المسجد، وكان صوت الإمام لا يبلغ الجمع، فنؤثر للمقتدين أن يرفعوا أصواتهم حتى تبلغ أصواتُ الأقربين الأباعدَ. ثم لا يختص استحباب الرفع بقوم، بل نؤثر للجميع.
فهذا منتهى القول في ذلك.
838 - ثم كان شيخي يقول: ينبغي للمقتدي أن يترصد فراغ الإمام عن قوله: "ولا الضالين"، فيبادر التأمينَ حينئذ، فيقع تأمينُه مع تأمين الإمام، وكان يقول: لا تستحب مساوقة الإمام ومقارنته في شيءٍ إلاّ في هذا؛ فإن النبيّ صلى الله عليه
__________
= الصلاح، والتي تفيد أن ابن الصلاح يضعف الزيادة كاملة. (ر. التنقيح للنووي، ومشكل
الوسيط لابن الصلاح - كلاهما بهامش الوسيط: 2/ 120، 122).
(1) "الهينمة" الكلام الخفي، غير البين، من قولهم: هينم فلان. إذا دعا الله، وأخفى كلامه. (المعجم).

(2/152)


وسلم قال في حديث صحيح: "إذا قال الإمامُ "ولا الضالين"، فقولوا: آمين، فإن الملائكة تؤمّن على ذلك، ومن وافق تأمينُه تأمينَ الملائكة غُفِر لهُ ما تقدم من ذَنبِه" (1).
وما ذكره من استحباب المقارنة، يمكن تعليله بأن القوم لا يؤمّنون لتأمينه، حتى يرعوا في هذا ملابسته للتأمين أولاً، وإنما يؤمّنون لقراءته، وقد نجزت قراءته، فإذا وقع التأمين بعد نجاز القراءة، كان في أوانه وحينه.
فصل
839 - قراءة الفاتحة واجبة عندنا في كل ركعة، وقال أبو حنيفة (2): لا تجب في الركعتين الأُخريين، وإنما تجب في الركعتين الأوليين، وطرد مذهبه في جميع الحالات: منفرداً كان المصلي، أو إماماً، أو مقتدياً.
840 - ثم قراءة السورة بعد الفاتحة مسنونة في حق المنفرد والإمام في الركعتين الأوليين، وفي ركعتي الصبح، وهل تستحب قراءة السورة في الثالثة من المغرب، والركعتين الأخريين من الصلوات الرباعية؟ فعَلى قولين منصوصين: أحدهما -وإليه ميل النصوص الجديدة- أنها مستحبة في كل ركعة على إثر الفاتحة، لما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: "حزرنا قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعتين الأوليين من الظهر، فكانت قدر سبعين آية، وحزرنا قراءته في الركعتين الأخريين، فكان على النصف من ذلك" (3).
__________
(1) تقدم الكلام عن هذا الحديث، اقرأ التعليق قبل السابق كاملاً.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 28، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 216 مسألة 155، بدائع الصنائع: 1/ 111. حاشية ابن عابدين: 1/ 307.
(3) حديث أبي سعيد الخدري رواه مسلم بلفظ: كان يقرأ في صلاة الظهر في الركعتين الأوليين، في كل ركعة قدر ثلاثين آية، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية، أو قال نصف ذلك. وأما لفظ إمام الحرمين: "قدر سبعين آية، فقد قال عنه ابن الصلاح: "هو وهم تسلسل، وتواردوا عليه" كذا حكاه الحافظ عنه (ر. مسلم: الصلاة، باب القراءة في الظهر والعصر، ح 452، وأبو داود: الصلاة، باب تخفيف الأخريين، ح 804، التلخيص: 1/ 239 ح 356).

(2/153)


والقول الثاني -وعليه العمل- إن قراءة السورة لا تستحب بعد الركعتين الأوليين؛ فإن بناء ما بعداهما من الركعات على التخفيف، ويشهد له أنه لا يستحب فيهما الجهر في الصلوات الجهرية، ومن يرى قراءة السورة في الركعتين الأُخريين يؤثر أن تكون أخفَّ من الركعتين الأوليين، ويشهد له حديث أبي سعيد الخدري.
841 - ومن تمام البيان في ذلك تفصيل القول في المقتدي:
فإن كانت الصلاة جهرية، وكان المأموم يسمع صوت الإمام، فلا يستحب له قراءة السورة، بل يقتصر على قراءة الفاتحة، والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا كنتم خلفي، فلا تقرؤوا إلا بفاتحة الكتاب؛ فإنه لا صلاةَ إلاّ بها"، وتمام الحديث أن أعرابياً اقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم " والشَّمْسِ وَضُحاها " فراسله الأعرابي، فتعسرت القراءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلمّا تحلّل عن صلاتِه، قال: إذا كنتم خلفي، فلا تقرؤا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة إلاّ بها" (1).
__________
(1) حديث "أن أعرابيا راسل النبي صلى الله عليه وسلم قراءة سورة والشمس وضحاها، فتعسرت عليه القراءة .. " قال الحافظ: "لم أجده هكذا، وروى الدارقطني من حديث عمران بن حصين. كان صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس، ورجل خلفه، فلما فرغ قال: من ذا الذي يخالجني سورة كذا؟ فنهاهم عن القراءة خلف الإمام. وعيّن مسلم في صحيحه، هذه السورة " سبح اسم ربك الأعلى " ولم يذكر فنهاهم عن ذلك. بل قال فيه: قال شعبة: قلت لقتادة: كأنه كرهه، قال: لو كرهه لنهى عنه. قال البيهقي: وهذا يدلّ على خطأ الرواية الأولى".
ا. هـ بنصه من التلخيص.
هذا وقد روي عن عبادة بن الصامت حديث بمعناه. من غير تعيين الرجل والسورة، رواه أحمد، والبخاري في جزء القراءة خلف الإمام محتجاً به، وصححه أبو داود، والترمذي، والدارقطني، وابن حبان والحاكم والبيهقي. (ر. مسلم: الصلاة، باب نهي المأموم عن جهره بالقراءة خلف إمامه، ح 398، أبو داود: الصلاة، باب من ترك القراءة في صلاته بفاتحة الكتاب ح 823، 324، والترمذي أبواب الصلاة، باب ما جاء في القراءة خلف الإمام، ح 311 نحوه، قال أبو عيسى حديث حسن، وصححه الألباني: 1/ 199 والمسند: 5/ 313، 316، والدارقطني: 1/ 318 ح 5، وابن حبان: 5/ 1785، 1792، وقال الأرناؤوط: إسناده قوي. والبيهقي في السنن: 2/ 164، والحاكم: 1/ 238، وتلخيص الحبير: 1/ 230 - 231، 239 - 240 ح 342، 343، 357).

(2/154)


ولو كانت الصلاة سرّية أو بَعُدَ موقف المأموم وكان لا يسمع صوت الإمام، فهل يقرأ السورة؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يقرأ، وهو القياس؛ فإن المقتدي كالمنفرد عندنا، غير أنه حيث يسمع يقدم الاستماع في السورة على القراءة، فإذا كان لا يستمع، فلا معنى لترك قراءة السورة.
والوجه الثاني - أنه لا يقرأ، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كنتم خلفي، فلا تقرؤوا إلاّ بفاتحة الكتاب" ولم يفصل بين صلاة وصلاة.
والقائل الأول يؤوّل قولَه على الحكاية المروية في مراسلة الأعرابي إياه، ويخصص النهي عن قراءة السورة بالسامع في الصلاة الجهرية. وكان شيخي يقول: صح، أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم سكتة بين الفراغ من الفاتحة وافتتاح السورة، فليبتدرها المقتدي، فإن انتجزت فيها قراءة الفاتحة، فذاك، وإن بقيت استتمها مع أول السورة.
فصل
قال: "وإذا فرغ منها وأراد أن يركع ... إلى آخره" (1).
842 - ذكرنا تفصيل القول في المفروض والمسنون من القراءة. ولا شك أن السورة تقرأ بعد الفاتحة، فلو قرأ المصلّي السورة أوّلاً، ثم الفاتحةَ، فقراءةُ الفاتحة مجزئة، ولكن هل يعتدّ بقراءة السورة؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون وغيرهم، ولا يخفى توجيههما على من يحاوله.
843 - والقيام ركنٌ في صلاة المفترض، ثم لا يضر خفض الرأس على هيئة الإطراق، ولكن يجب نصب الفقار، ولو ثنى شيئاًً من حَقْوه ومحل نطاقه، لم يجز، وإن ثنى فِقار ظهره، ولم يثنِ معقد النطاق -إن أمكن ذلك- فلا يسوغ أيضاً.
والمعتبر فيه أنا سنذكر أن الاعتدال عن الركوع واجب، والاعتدال الانتصاب التام، ولولا ما صحّ من هيئة الإطراق، لأوجبنا رفعَ الرأس للاعتدالِ.
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 72.

(2/155)


844 - ثم القدْر الذي تقع قراءة الفاتحة فيه من القيام مفروضٌ، وإذا مدّ المصلّي القيامَ، وزاد على ما يحوي قراءة الفاتحة، فقد ذكر الشيخ أبو علي وجهين في أنّا هل نحكم بأن جميع القيام فرض أم لا؟ وبنى هذين الوجهين على الوجهين، في أن من يستوعب رأسه بالمسح، فهل نقول: جميع المسح وقع فرضاً، أم لا؟
وهذا عندي كلام خارج عن ضبط الفقه؛ فإنه إذا جاز الاقتصار على ما يقع عليه اسم المسح، فكيف ينتظم القول بأن الزائد عليه فرض؟ ولولا تعرض هذا الإمام لحكاية هذا، وإلا كنت لا أرى ذكره.
ثم إن تخيل متخيل ذلك، فشرطه عندي، أنه لو أوصل الماء إلى رأسه دفعة واحدة بحيث لا يفرض تقدّم جزءٍ على جزء، فليس جزء من هذا أولى من جزء بأن يضاف الفرض إلى المسح الواقع به، فاعتقد معتقدون أن جميعَه يقع فرضاً، وهذا بعيدٌ في هذه الصورة التي تكلّفنا في تصويرها أيضاً.
فأما إذا أوصل الماء شيئاًً فشيئاًً إلى رأسه حتى استوعبه بالمسح، فتخيل الفريضة في الأجزاء التي وصل الماء إليها بعد الجزء الأول محال.
فأما القيام، فإذا قرأ المصلّي الفاتحة قائماً، ثم مدّ القيام بعد ذلك، فوصف القيام بعد تقدم القراءة بالفرضية لا يقبله محصل، وكيف يوصف بالفرضية ما جاز تركه، وهو متميز عما تقدم محلاً للقراءة المفروضة؟
نعم إن خلا أول القيام من قراءة الفاتحة، ثم افتتح المصلّي القراءة، فما هو محل القراءة مفروض أعني: قراءة الفاتحة، وما تقدم عليه فيه احتمال، من جهة أنه كان يتأتى إيقاع قراءة الفاتحة فيه، وكان لا يسوغ قطعه قبل جريان القراءة. فأما ما يقع بعد القراءة من القيام، فلا معنى لوصفه بالفرضية.
845 - ومما نذكره في القيام، أن بعض الناس قد يعتاد أن يتحرك قليلاً في صوب الركوع، وينحني قليلاً، ثم يرتفع، فمهما زايل الاعتدالَ، وأوقع في حال زواله حرفاً من قراءته الواجبة، فلا يعتد بذلك الواقع خارجاً عن اعتدال القيام. ولو كان يفعل ذلك، ويعود قبل اشتغاله بالقراءة المفروضة، فإن كان ينتهي إلى حدّ الركوع ويعود،

(2/156)


فهذا يُفسد الصلاة عمداً؛ فإنه زيادة ركوع في الصلاة، وسيأتي شرح ذلك. وإن كان يزايل حد اعتدال القيام ويعود، وكان لا ينتهي إلى حد الراكعين، فهذا فيه ترددٌ عندي، والظاهر أنه يُبطل الصلاة، وإن لم يبلغ حد الكثرة في الأفعال؛ لأنه يُعدد القومات في ركعة واحدة، فيصير كما لو عدد الركوع في ركعة؛ فإن من خرج عن الاعتدال، فليس قائماً القيام المعتد به، فإذا عاد، كان ذلك قياماً جديداً، وهو يقرب عندي من انحراف الرجل قصداً عن قُبالة القبلة، وقد ذكرت أن ذلك مبطلاً (1) للصلاة؛ فالخروج عن السمت المرعي في القيام ينزل هذه المنزلة.
وسمعت شيخي يجعل الانحناء الذي لا ينتهي إلى الركوع بمثابة الأفعال، فإن قلَّ زمانه، لم يضر، وإن كثر، فهو كالفعل الكثير، وهذا بعيد جداً.
846 - ونحن نبتدىء الآن تفصيل القول في الركوع، فنذكر أقله، ثم نذكر أكمله وأفضله.
فأما الأقل، فإنه يعتمد أمرين: أحدهما - الانحناء إلى الحد الذي نذكره، والثاني - الطمأنينة، أما الانحناء، فأقلّه أن ينحني حتى ينتهي إلى حدّ لو مد يديه نالت راحتاه ركبتيه، وينبغي أن ينتهي إلى هذا في الانحناء، فلو كان بلوغه لانخناسه وإخراجه ركبتيه وهو مائل شاخص، فهذا ليس بركوع، ولا يخفى ذلك، ولكن مزَجَ انحناءَه بهذه الهيئة، ولم يجرد انحناءه، فوصل إلى ما ذكرناه بهما، فلم يعتد بما جاء به، فليكن بلوغ الحد المذكور بالانحناء.
847 - فأما الطمأنينة في الركوع، فلا بد منها، ولا تصح الصلاة دونها، ثم ليس المعنيُّ منها لُبثاً ظاهراً، ولكن ينبغي أن يفصل الراكع منتهى هُويه عن حركاته في ارتفاعه، ولو بلحظة؛ فإذا فعل ذلك، فقد اطمأن، وإن لم ينفصل آخرُ حركات هُويه عن أول حركات ارتفاعه، بل اتصل الآخر بالأوّل، فهذا رجل لم يطمئن.
ومما يتمّ به هذا التحقيق، أن الراكع لو جاوز أقلّ الحد في الهوي والخفض،
__________
(1) كذا في النسخ الأربع. مبطلاً، ولا أدري له وجهاً إلا على تقدير سقوط لفظة مثل: يُعد. ثم جاءتنا (ل) وفيها: "مبطل".

(2/157)


واتصلت حركاته، فإن ظن ظان والحالة هذه أن زيادة حركاته وراء أقلّ حد الركوع يحسب طمأنينة، قيل له: ليس كذلك، والرجل غير مطمئن؛ والسبب فيه أنا نشترط الطمأنينة ليتميز الركن بها بانفصاله عمّا قبله وبعده؛ فإنه إذا كان كذلك، كان ركناً معموداً متميزاً، فإذا تواصلت الحركات، فلا يحصل هذا الغرض، فهذا بيان الأقل.
848 - ولا يجب عندنا ذكرٌ في الركوع -خلافاً لأحمد بن حنبل (1) - فإن الركوع في نفسه مخالف للهيئة المعتادة، فلم يُشترط فيه ذكر، بخلاف القيام، فإنه واقعٌ في الاعتياد، فخصص بقراءة في العبادة.
849 - فأما بيان الأكمل، فنذكر ما يتعلق بالهيئات، ثم نوضح الذكرَ المشروع فيه.
فينبغي للرّاكع أن يجاوز الحدّ الذي ذكرناه في الأقل، ويسوّي ظهره في الرّكوع، وينصب قدميه من موطئهما إلى حَقْوَيه، ويخنِس ركبتيه إلى وراء، ولا نرى له أن يثني ركبتيه، بل ينصب الرجلين، ويثني ما فوقهما على استواء.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمدّ ظهره وعنقه في الركوع على استواء، بحيث لو صبّ الماء على ظهره، لاستمسك، ويضم راحتيه على ركبتيه والأصابعُ على حِلْيتها (2) متوسطة في التفريج، وينبغي أن يوجهها نحو القبلة، وإذا انتهى إلى المنتهى الذي ذكرناه، فيجافي مرفقيه عن جنبيه، ولا نُؤثر له أن يتجاوز في الانحناء الاستواء الذي وصفناه.
850 - فأمّا الذكر المشروع، فينبغي أن يقول إذا ابتدأ الهوي: الله أكبر، ثم اختلف قول الشافعي، فقال في قولٍ: يحذف التكبير حذفاً، ولا يمده، ولا يبسطه، وليس المراد بحذفه أن يوقعه قائماً ثم يبتدىء بالهوي، بل يكبر في هويه، ولكن لا يحاول البسط.
__________
(1) ر. كشاف القناع: 1/ 390، الإنصاف: 1/ 115، غاية المنتهى: 1/ 141.
(2) حِلْيتها أي خلقتها وصِفَتها. وفي (ت 1): جبلّتها. والمعنى واحد. أما في (ت 2) فحرّفت إلى حيلتها. (المعجم).

(2/158)


والقول الثاني - أنه يمدّ التكبير، ويبسطه على انتقاله من القيام إلى الركوع.
وقد طرد الشافعي القولين في جميع تكبيرات الانتقالات، فمن رأى الحذف حاذر من البسط التغيير، ومن رأى البسط، لم يُحبّ أن يُخلي حالَةً عن الذكر.
ثم إذا انتهى إلى الركوع قال: سبحان ربّي العظيم. روى حذيفة بن اليمان: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك في ركوعه" (1)، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم لك ركعت، وبك آمنت، ولك أسلمت، أنت ربّي خشع سمعي، وبصري، ومخي، وعظمي، وعصبي، وما استقلَّت به قدمي لله رب العالمين" (2).
فإن سبَّح ثلاثاً وأتى بالذكر الذي رواه أبو هريرة، فحسن، وإن اقتصر على أحدهما؛ فالتسبيح أولى وأشهر، وعليه العمل.
ثم كان شيخي يقول: إن كان إماماً لم يزد على التسبيح ثلاثاً، وإن كان منفرداً، فكلما زاد، كان حسناً.
851 - وقد اعتمد الشافعي في الطمأنينة وبيان الأقل في الركوع والسجود، ما رواه
__________
(1) حديث حذيفة: رواه الدارقطني، وروي نحوه عن ابن مسعود، وأصل هذا الحديث عند أبي داود، وابن ماجة، والحاكم، وابن حبان من حديث عقبة بن عامر. (ر. الدارقطني: 1/ 341، أبو داود: الصلاة، باب ما يقول الرجل في ركوعه وسجوده، ح 869، ابن ماجه: إقامة الصلاة، باب التسبيح في الركوع والسجود، ح 887، الحاكم: 1/ 225، التلخيص: 1/ 242، 243 ح 365).
(2) حديث أبي هريرة: رواه الشافعي، وليس فيه: ومخي وعصبي، ورواه مسلم من حديث علي رضي الله عنه على نحو ما ساقه إمام الحرمين تماما إلا: (أنت ربي) (وما استقلّت به قدمي) وهي عند ابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي، ورواه النسائي عن جابر. (ر. مسلم: 1/ 534، كتاب صلاة المسافرين، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، ح 771 (جزء منه)، وأبو داود عن علي: الصلاة، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء، ح 760، وصحيح أبي داود للألباني: ح 688، والترمذي: كتاب الدعوات عن علي كذلك، باب 32 ح 3421، 3422، والنسائي عن جابر: التطبيق، باب (114) نوع آخر من الذكر في الركوع، ح 1052، وعن علي، ح 1051، والشافعي في الأم: 1/ 111، وأحمد في المسند عن علي: 1/ 95، 102، 119، والبيهقي: 2/ 87، تلخيص الحبير: 1/ 243، ح 365).

(2/159)


رفاعة بن رافع: أن أعرابيا دخل المسجد وصلّى، فأساء الصلاة، ثم جاء فسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، فرد عليه السلام، فقال: "ارجع فصل؛ فإنّكَ لم تُصَلِّ، فَرَجَعَ وَصَلى، ثم عَادَ، فسلم، فرد عليه السلام، وقال: ارجع وصلِّ؛ فإنّك لم تصل، فرجع وصلّى، ثم عاد فسلم، فرد عليه، وقال: ارجع وصل فإنك لم تصلّ. فقال الأعرابي: والذي بعثك بالحق لا أحسن غيرها، فعَلِّمني!! فقال: تَوَضّأ كما أمرك الله، ثم استقبل القبلة، فقل: الله أكبر، ثم اقرأ ما معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئن راكعاً، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتى تعتدل جالساً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم افعل ذلك في كل ركعة" (1) ولم يأمره بذكرٍ في الركوع والسجود.
852 - ثم ينبغي للمصلّي أن يقيم شعار رفع اليدين، فيرفع يديه عند الركوع، وعند رفع الرأس من الركوع، كما يرفع يديه عند تكبيرة العقد.
ثم الذي نذكره هاهنا وقتَ الرّفع والخفض، فيرفع يديه عند ابتداء الهُوي، ثم يبتدىء الهوي، ويبتدىء خفضَ اليدين مع الهوي، فينتهي إلى الركوع، وقد انتهت يداه إلى ركبتيه، وإذا أراد رفعَ الرأس من الركوع، ابتدأ رفعَ اليد مع الارتفاع، فيعتدل وقد انتهت يداه في الارتفاع إلى منتهاها، ثم يخفض يديه بعد الاعتدال، فهذا بيان الرفع عند الركوع، وعند رفع الرأس من الركوع.
ثم يقول الرافع من الركوع: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد. ولا فرق بين
__________
(1) حديث المسيء صلاته متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، البخاري: كتاب الأذان، باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلوات كلها ح 755، وأطرافه في 797، 6251، 6252، 6667، وأخرجه مسلم: كتاب الصلاة، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة، ح 397.
وأما من حديث رفاعة بن رافع، الذي ذكره إمام الحرمين، فقد أخرجه أبو داود: الصلاة، باب من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود، ح 858، والنسائي: التطبيق، باب الرخصة في ترك الذكر في الركوع، ح 1054، والحاكم: 1/ 242، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، والشافعي في الأم: 1/ 88، وأحمد: 4/ 340، وقال الألباني: رواه البخاري في جزء القراءة: 11 - 12، انظر الإرواء: 1/ 321، 322 ح 289.

(2/160)


أن يكون إماماً، أو مأموماً أو منفرداً، وقد روي أنه صلى. الله عليه وسلم قال: "سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمدُ ملءَ السموات والأرض، وملء ما شئتَ من شيء بعد، أهل الثناء والمجد حق ما يقول العبد، كلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيتَ ولا معطيَ لِمَا منعت، ولا ينفعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ" (1).
ولعلّ هذه الدعوات تليق بالمنفرد، فأمّا الإمام، فيقتصر على قوله: "سمع الله لمن حمده ربّنا لك الحمد"؛ فإنه مأمور بالتخفيف على من خلفه.
853 - ثم ذكر الأئمة أنه يجب الطمأنينة في الاعتدال، كما يجب ذلك في الركوع والسجود، وفي قلبي من الطمأنينة في الاعتدال شيء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأعرابي ذكر الطمأنينة في الركوع والسجود، و [أما] (2) الاعتدال قائماً وجالساً، فلم يتعرض للطمأنينة؛ فإنه قال: "ثم ارفع رأسك حتى تعتدِلَ قائماً، ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل جالساً" (3). وهذا الركن من
__________
(1) دعاء الرفع من الركوع روي مختصراً، وكاملاً على نحو ما ساقه إمام الحرمين، والمختصر " سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد " متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 80 ح 220) وبتمامه عند مسلم من حديث أبي سعيد الخدري وابن عباس (مسلم: 1/ 347، باب (40) ما يقول إذا رفع من السجود من كتاب الصلاة، ح 477، 478) ووقع في (المهذب) و (الوجيز) كما هنا في النهاية (حق) بدون الهمزة، وحذف الواو في (كلنا لك عبد) وتعقب النووي ذلك بأن الذي عند المحدثين بإثباتهما. وأجاب الحافظ بأنه عند النسائي بحذفهما أيضاً. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 244 ح 367، 368، 369).
(2) زيادة من: (ت 2).
(3) نقل الرافعي في الشرح الكبير: 3/ 403 عن إمام الحرمين عبارته هذه: "في قلبي من الطمأنينة في الاعتدال شيء؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال ... إلخ" وقال الحافظ في التلخيص: "ولم يتعقبه الرافعي، وهو من المواضع العجيبة التي تقضي على هذا الإمام بأنه كان قليل المراجعة لكتب الحديث المشهورة، فضلاً عن غيرها؛ فإن ذكر الطمأنينة في الجلوس بين السجدتين ثابت في الصحيحين ... أما الطمأنينة في الاعتدال، فثابت في صحيح ابن حبان، ومسند أحمد، من حديث رفاعة بن رافع، ولفظه: "فإذا رفعت رأسك، فأقم صلبك حتى ترجع العظام إلى مفاصلها". ورواه أبو علي بن السكن في صحيحه وأبو بكر بن أبي شيبة من حديث رفاعة في مصنفه بلفظ: "ثم ارفع حتى تطمئن قائماً" ا. هـ: التلخيص: 1/ 256 - 257). =

(2/161)


الأركان القصيرة أيضاً، ولو وجبت الطمأنينةُ فيه، لما امتنع مدّه كما في الركوع والسجود.
ولم يتعرض للطمأنينة في الاعتدالين الصيدلاني (1)، ولكن سماعي من شيخي، وما ذكره بعض المصنفين اشتراطُ الطمأنينة في الاعتدالين، وهو محتمل من طريق المعنى، وسيأتي من بعد ذلك كلام يدل على تردد الأصحاب في أن الاعتدال ركن مقصود في نفسه، أم الغرض هو الفصل بين الركوع والسجود وبين السجدتين؟ فإن جعلناه مقصوداً، فيظهر فيه اشتراط الطمأنينة، وإن لم نجعله مقصوداً، فلا يبعد ألا تشترط الطمأنينة فيه، والعلم عند الله. وما ذكرته احتمال. والنقل الذي أثق به اشتراط الطمأنينة.
فصل
قال: "وأول ما يقع على الأرض منه ركبتاه ... إلى آخره" (2).
854 - نجز القول في الركوع والاعتدال عنه.
ثم يهوي المصلّي ساجداً مكبراً، والقول في حذف التكبير وبسطه على ما ذكرناه.
__________
= ثم لنا أن نقول: إن الحافظ - على جلالته وتبحره في العلم بالسنة، يعترف أنه لم يعرف أن الطمأنينة في الاعتدال عند ابن ماجة، حتى أفاده بها شيخ الإسلام جلال الدين (ر. التلخيص: 1/ 257 سطر 6).
ثم بعد كل هذا نقول: إن إمام الحرمين أنهى تردده قائلاً: "وما ذكرته احتمال، والنقل الذي أثق به اشتراط الطمأنينة" ا. هـ.
فهل بعد هذا يستحق أن يعنف به الحافظ كل هذا العنف؟ رضي الله عنهما، وتقبلهما مع الشهداء والصدّيقين.
ومما يمكن أن يسجل أيضاً أن الحافظ لم يلتفت أدنى التفات إلى تسليم الرافعي بما نقله عن إمام الحرمين، وصب كل لومه وتعنيفه على الإمام وحده. فلماذا؟ الله أعلم.
(1) عبارة (ت 2): ... ولم يتعرض للطمأنينة في الاعتدالين. وللصيدلاني إشارة إلى ذلك، ولكن سماعي من شيخي ..
(2) ر. المختصر: 73.

(2/162)


ثم مذهب الشافعي أن الأوْلى أن يقع منه على الأرض أولاً ركبتاه، ثم يداه. وأبو حنيفة (1) يعكس ذلك. وقد روي مثل ما ذكرناه عن النبي عليه السلام.
ثم الكلام في السجدة يتعلق ببيان الأقل، ثم بعده بالأكمل الأفضل.
855 - وأما الأقل، فنذكر هيئة البدن فيه، وما يجب وضعه على الأرض، فيجب وضع الجبهة، وفي وجوب وضع اليدين والركبتين وأطراف أصابع الرجلين قولان: أحدهما - لا يجب وضعها، وما يوضع منها فلضرورة الإتيان بهيئة السجود، وهذا القائل يقول: المقصود نهاية الخشوع بوضع أشرف الأعضاء الظاهرة على الأرض.
والقول الثاني - أنه يجب وضع هذه الأعضاء، لما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: "أمِرتُ أن أسجدَ على سبعة آراب" (2) وعنى بها الوجه واليدين والركبتين والقدمين.
وذكر بعض أئمتنا أنه لا يجب وضع الركبتين والقدمين قولاً واحداً، وإنما القولان في وجوب وضع اليدين.
ثم إذا أوجبنا وضع اليدين، فهل يجب كشفهما في السجود؟ فعلى قولين.
ولا يجب كشف الركبتين والقدمين وفاقاً؛ أما الركبتان، فمتصلتان بالعورة، فلا يليق برعاية تعظيم الصلاة كشفهما، وأما القدمان، فلا يتجه وجوب كشفهما مع تجويز الصلاة مع الخفين.
توجيه القولين في اليدين: من قال: يجب كشفهما، احتج بما روي عن خباب بن الأرت رضي الله عنه أنه قال: "شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء
__________
(1) الذي رأيناه عند الحنفية أنهم يقولون بوضع الركبتين أولاً مثل الشافعية. (ر. مختصر الطحاوي: 27، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 211 مسألة 149، والبحر الرائق: 1/ 335، وابن عابدين: 1/ 335).
(2) حديث أمرت أن أسجد على سبعة أراب. متفق عليه من حديث ابن عباس: بلفظ: (سبعة أعظم) (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 99، باب (44) أعضاء السجود، ح 276، التلخيص: 1/ 251 ح 376).
* و"الآراب" جمع (إِرْب) بكسر فسكون، وهو العضو. (المعجم).

(2/163)


في جباهنا وأكفنا، فلم يشكنا" (1) معناه: لم يعطنا شكوانا.
ومن لم يوجب كشفهما، احتج أن الغرض المعقول من السجود إظهار صورة التواضع، وذلك يحصل بكشف الجبهة، ولا ينخرم (2) بترك الكشف في اليدين.
ومن قال بالأول، فله أن يقول: ترك كشف اليدين يحكي صورة الكَسْلى (3) ويؤذن بالتنعم الذي يناقض الغرض.
فالأعضاء على مراتب ثلاث: أما الركبتان، ففي كشفهما خروج عن هيئة ذوي المروءات، وليس في كشف القدمين معنى يليق بالسجود، أما الجبهة، فكأنها المقصودة بالسجود، فلا بد من كشفها، على ما سنفصل ذلك، والكفان على التردد؛ فليس في ترك كشفهما إخلال بالخضوع، ولكن في ذلك إثبات تنعم وترفه، فاقتضى ذلك اختلافَ القول، كما ذكرناه.
856 - ونحن نذكر الآن أمرين آخرين: أحدهما - تحقيق القول في الوضع ومعناه، والثاني - تفصيل القول في الكشف.
فأما الوضع، فقد قال الأئمة: لو أمس جبهتَه الأرضَ وهو مقلّ لها، لا يرسلها، لم يجز، ولم يصح السجود، وقال صلى الله عليه وسلم: "مكّن جبهتك من الأرض يا رباح" (4)، وطريق المعنى فيه وهو مدار تفصيل المذهب في السجود،
__________
(1) حديث خباب بهذا السياق قال الحافظ: "رواه الحاكم في الأربعين له"، وأصله في مسلم وغيره من دواوين السنة، ولكن بغير "جباهنا وأكفنا" وهي موضع الاستشهاد والاستدلال.
ملاحظة: قال الحافظ: هو عند مسلم ليس فيه: "جباهنا" و"أكفنا" و"حر". وهو كما قال في اللفظين الأولين. أما (حر) فهي عنده. (ر. مسلم: المساجد ومواضع الصلاة، ح 619، والبيهقي 1/ 438، والإحسان في تقريب صحيح ابن حبان: 4/ 1480، التلخيص: 1/ 252 ح/377).
(2) في (ت 1)، (ت 2): يتحزم.
(3) جمع: كسِل، وكسلان (المعجم).
(4) حديث مكن جبهتك من الأرض رواه ابن حبان في حديث طويل، عن ابن عمر، ورواه الطبراني، وقال النووي: لا يعرف، وذكره في الخلاصة في فصل الضعيف. هذا. ولم نصل إلى (رباح) المخاطب بهذا الحديث. (ر. ابن حبان: 5/ 215 ح 1887، والطبراني =

(2/164)


فهو (1) أن نهاية التواضع لا يتأتى إلا بتمكين الجبهة من الأرض، والإمساسُ المجرد في حكم الإلمام (2) بافتتاح التواضع، وتمامُه التمكن، ثم التمكين عندنا فيه نظر؛ فإن ظاهره يشعر بأن الساجد متعبد بأن يتحامل على موضع سجوده، بحيث يظهر أثر تحامله.
وأنا أقول فيه: إن لم يكن موضع سجوده وثيراً محشواً، فيكفي أن يُرخيَ رأسَه ولا يُقلَّ ثِقْله، والسر فيه أن الغرض منه إبداء هيئة التواضع، والاسترسال في المصلّي كالشيء الملقَى، وهو (3) أليق بالتواضع من تصنّع التحامل على موضع السجود، والأصل في طلب نهاية التواضع أن الذي يكتفي بإمساس جبهته، الأرضَ، وهو يقلّ ثِقْلَ رأسه، كأنه يتقزّز (4) بإقلاله، كالضنين به، والذي يتكلف تحاملاً ليس يحصل بما يأتي به إظهار تواضع، فالأقرب إرخاء الجبهة، قالت عائشة رضي الله عنها: "رأيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في سجودِه كالخِرقة البالية" (5).
وإن كان الموضع الذي يسجد عليه محشواً بقطن أو غيره، فكان شيخي يوجب التحامل في مثل هذه الصورة، فيقول: ينبغي أن يتحامل تحاملاً يتبين أثره على يدٍ لو فرضت تحت ذلك المحشو، ولست أرى الأمر كذلك، بل يكفي إرخاء الرأس كيف
__________
= في الكبير ح 13566، والبيهقي في دلائل النبوة: 293، التلخيص: 1/ 251 ح 374).
هذا. وقد أورده إمام الحرمين موقوفاً على علي كرم الله وجهه، في الدرة المضية - مسألة رقم 75.
(1) كذا " فهو " بالفاء، مع أنها خبر لقوله: "وطريق المعنى ... " ثم جاءتنا (ل) مخالفة النسخ الأربع بحذف لفظ " فهو " والاستغناء عنها، فصار الخبر " أن " ومعموليها.
(2) في (ل): الاهتمام.
(3) ساقطة من (ل).
(4) في (ل): يتعزز.
(5) حديث عائشة رضي الله عنها، قال الحافظ: لم أجده هكذا، وقال ابن الصلاح: لم أجد له بعد البحث صحة، وتبعه النووي، فقال في التنقيح: "منكر لا أصل له" ا. هـ. ثم قال الحافظ: نعم قد روى ابن الجوزي نحو هذا في حديث عائشة ليلة النصف من شعبان .. قولها: "فانصرفت إلى حجرتي فإذا أنا به كالثوب الساقط. على وجه الأرض ساجداً" (ر. التلخيص: 1/ 254، ح 378، والعلل المتناهية لابن الجوزي: 2/ 67 ح 917).

(2/165)


فرض محل السجود، فهذا منتهى القول في معنى الوضع والتمكين.
857 - فأما الكشف، فيجب كشف شيء من الجبهة، ثم قال الأئمة: لا يجب وضع جميعها، بل يكفي وضع ما ينطلق عليه الاسم منها، ويجب أن يكشف شيئاًً وإن قلّ من جبهته، وليكن ذلك الموضوع مكشوفاً، ولو كشف شيئاًً ولم يضعه، لم يعتد به، ولو كان بعض ما وضعه مكشوفاً، كفى؛ فإن الفرض يسقط بذلك المقدار المكشوف الموضوع، والباقي لا أثر له.
ثم لو سجد على كَوْر (1) عمامته، ولم يضع بشرة جبهته على محل سجوده، لم يجز. وكذلك لو كان على جبهته طرة (2) ولم يُبعدها وإنما مسها الأرض، لم يسقط الفرض حتى يُنَحِّيها ويمس بشرة جبهته المصلّى.
ولو سجد على طرف كم نفسه أو ذيله، فإن كان يتحرك ما يسجد عليه إذا ارتفع وانخفض؛ فإنه لا يجوز؛ فإنه منسوب إليه. وإن طوّل طرفَ كمه، وكان بحيث لا يرتفع بارتفاعه، فإذا سجد على ذلك الطرف أجزأه؛ فإن ذلك الطرف في حكم المنفصل عنه في هذا .. وسيأتي في أحكام النجاسات أمر يخالف هذا في ظاهره، وإذ ذاك نُوضّح الفرقَ.
ولو سجد على ذيل غيره، لم يضرّ؛ فإن ذلك الشيء غير منسوب إليه، وكذلك لو سجد على ظهر إنسان واقف في منخفض من المكان، بحيث لا يُفسد هيئة السجود، فيجوز لما ذكرناه، ثم قد نص الشافعي عليه كما تقدم ذكره.
وإذا أوجبنا وضع اليدين وكشفهما، فيكشف من كلّ يد شيئاًً، ويكفي الشيء القليل من كل واحدة منهما، وليكن المكشوف موضوعاً، كما ذكرناه في الجبهة.
__________
(1) كَوْر عمامته: أي: الدور من لفائف العمامة، والمراد هنا سجد على عمامته. (المصباح).
(2) الطرة: طرف كل شيء، وما تطرّه المرأة من الشعر، وتصففه على جبهتها. وهذا هو المعنى المراد هنا، ولولا أنه سبق مقابلته بكور العمامة، لاحتمل أنه طرف كل شيء يكون على الرأس.
ملاحظة: لم يرد لفظ الطرة في غريب ألفاظ الشافعي. ولم يورد المصباح هذا المعنى، بل ذكره الخطابي في غريب الحديث: 2/ 66، والمعجم الوسيط.

(2/166)


فهذا بيان الوضع والكشف.
ثم لا يقوم غيرُ الجبهة مقامها، فلو وضع الأنف، ورفع الجبهة، ولم يضعها، لم يجز عندنا.
858 - ومما بقي في ذلك الكلامُ في هيئة الساجد، فيما يتعلق بالأقلّ: وكان شيخي يقول: إن تنكس المرء في سجوده، فتسفَّلَتْ أعاليه، واستعلت أسافله، فهذه الهيئة هي المطلوبة. وإن وضع جبهته على شيء مرتفع، وكان موقع رأسه أعلى من حَقْوه، لم يكن ساجداً، ولم يكن ما جاء به معتداً به، ولو كان مستوياً منبطحاً بحيث يساوي موضع رأسه حَقْوه، فهذا كان يتردد فيه، وهو موضع التردّد.
وأنا أقول: إن تقبض وانخنس، ووضع رأسه بالقرب من ركبته، فهذا ليس هيئةَ السجود، ولا يُشعر أيضاً بالتواضع المطلوب، وإن بعد رأسه عن موضع ركبته، فإن موضع جبهته ينخفض عن كتفه لا محالة، فلا يخلو الساجد في المكان المستوي عن هذا الضرب من الانخفاض. والظاهر عندي هاهنا الإجزاء؛ فإن الانخفاض والتواضع ظاهر.
وإن كان موضع الرأس مرتفعاً قليلاً، بحيث يساوي الرأس الكتف واليدين، وسببَ الاستواء ما ذكرناه من الارتفاع، فالظاهر المنع هاهنا، وإن لم يكن موضع الرأس أعلى مما وراءه.
وكان شيخي يذكر التردد مطلقاً في صورة الاستواء، ويعتبر التسوية بين الحقو وموضع الرأس.
ومما يتعلق بهذا أنه لو سجد على وسادة، فإن كان متنكساً مع ذلك، جاز، ولا شك فيه. وإن ارتفع الرأس لهذا السبب، لم يجز أصلاً، وإن كان هذا سببَ الاستواء، ففيه التردد الذي ذكرته.
ولو كان في مرض يمنعه من التنكس، وكان لا يتأتى منه هيئة الاستواء أيضاً، ولكن لو وضعت وسادة، لَوَضَع جبهتَه عليها، ولو لم يكن، لانتهى الرأس إلى ذلك الحد من غير وضعٍ على شيء، فهل يجب الوضع على وسادة، أو يدني الرأس جهده

(2/167)


ولا يلزمه الوضع؟ تردد أئمتنا في ذلك، فمنهم من لم يوجب الوضع؛ فإنه وإن وضع فليس منتهياً إلى الحد المطلوب في السجود، ومنهم من أوجب، وقال: على الساجد وضع وهيئة، فإن تعذرت الهيئة، وجب عليه الوضع.
وهذا كله كلام في هيئة الساجد في بيان الأقل.
فأما الطمأنينة، فلا بد منها في السجود [كما ذكرناه في الركوع.
وقد تم بذكرها بيان الأقل المقصود من السجود] (1).
859 - فأما بيان الأكمل، فيتعلق بالهيئة والذكر: أمّا الهيئة، فإن كان الساجد رجلاً، فينبغي أن يخوي (2) في سجوده، فيفرق ركبتيه ويجافي مرفقيه عن جنبيه، بحيث يُرى عُفْرَة (3) إبطيه لو كان مكتفياً برداء، ويُقلّ بطنَه عن فخذيه، ويضع يديه منشورة الأصابع على موضعهما في رفع اليدين، وأصابعه مستطيلة في جهة القبلة مضمومة غير مفتوحة، بخلاف حالة العقد والرفع، وعند الركوع، فلا موضع يؤمر فيه بضمّ الأصابع مع نشرها طولاً إلا في السجود.
هكذا ذكره بعض المصنفين وهو سماعي عن شيخي، ولم أعثر في هذا على خبر، ولا يثبت مثله بطريق المعنى والله أعلم.
وقد روي عن البراء بن عازب أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سجد خوى في سجوده" (4) و [تفسير] (5) التخوية ما ذكرناه، ومنه يقال: خوى
__________
(1) زيادة من (ت 1)، (ت 2).
(2) خوى يخوي من باب رمى، وخوى الرجل في سجوده خُويَّاً: رفع بطنه عن الأرض، وقيل جافى عضديه. (المصباح).
(3) العُفرةُ: بياض ليس بالخالص. (المعجم).
(4) حديث البراء بن عازب رواه أحمد في مسنده، ورواه النسائي وابن خزيمة، وغيرهما بلفظ مغاير، ومعناه متفق عليه بلفط مغاير، وروي عن عدد من الصحابة رضوان الله عليهم. (ر. مسند أحمد: 4/ 303، النسائي: التطبيق، باب صفة السجود، ح 1105، ابن خزيمة: ح 647، تلخيص الحبير: 1/ 255 ح 383).
(5) زيادة من (ت 2).

(2/168)


البعير؛ إذا برك على وفاز (1) ولم يسترح، ومعناه في اللسان ترك خواً بين الأعضاء.
860 - ومما يتعلق بالهيئة، أن ظاهر النص أنه يضع أطراف أصابع رجليه على الأرض في السجود، ونقل المزني أنه يضع أصابعه بحيث تكون مستقبلة للقبلة، وهذا يتضمن أن يتحامل عليها، ويوجه رؤوسها إلى قُبالة القبلة. والذي صححه الأئمة أنه لا يفعل ذلك بل يضع أصابعه من غير تحامل عليها.
والمرأة لا تؤمر بالتخوية، بل تؤمر بضدها، فلتضم رجليها وتلصق بطنها بفخذيها؛ فإن ذلك أستر لها، ورعاية الستر أهم الأشياء لها.
ومما نذكره في الأكمل ألا يقتصر على وضع الجبهة، بل يضع الأنف مع الجبهة.
وأما الذكر، فيقول في سجوده ثلاثاً: سبحان ربي الأعلى، إن كان إماماً، ولا يزيد، ليخفف على من خلفه، فهذا بيان السجود في الأقل والأكمل.
فصل
861 - الاعتدال من السجود فرض، كما يجب الاعتدال من الركوع، ووجوب الطمأنينة في الجلوس كوجوبها في الاعتدال من الركوع، وقد سبق القول فيه.
ثم تكون هيئة الجالس بين السجدتين في يديه ورجليه كهيئة الجالس في التشهد الأول، على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، ويضع يديه منشورتي الأصابع على ما يتصل بركبتيه من فخذيه، ولو انعطف أطراف الأصابع على الركبة، فلا بأس، فليس في ذلك ثَبت. أمّا أصل وضع اليدين على الفخذين محبوبٌ (2)، ولو ترك يديه على الأرض من جانبي فخذيه، فهو بمثابة من يرسل يديه في القيام.
862 - ثم يستحب أن يذكر الله تعالى في الجلوس بين السجدتين.
وقد روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول بين السجدتين:
__________
(1) في (ت 1): "إذا تُركَ على وفانٍ" بهذا الضبط وهذا الرسم، والوفاز: العجلة، وعدم الاطمئنان. (المعجم).
(2) جواب أما بدون الفاء.

(2/169)


"اللهم اغفر لي واجبرني وعافني وارزقني، واعف عني" (1).
ثم يسجد سجدة أخرى مثل السجدة الأولى، ثم يرتفع.
فإن كانت الركعة تستعقب تشهداً، جلس للتشهد كما سنصفه، وإن كانت تستعقب قياماً، فينبغي أن يجلس على إثر السجدة الثانية جلسةً خفيفةً، ثم ينتهض منها قائماً، وهذه الجلسة تسمى جلسةَ الاستراحة، وهي مسنونة عندنا. والأصل فيه ما رواه مالك بن الحويرث، قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الركعة الأولى [والثالثة] (2) لم ينتهض حتى يستوي قاعداً" (3).
ولا يسن في هذه الجلسة ذكر مخصوصٌ.
863 - ولكن اختلف أئمتنا في وقت افتتاح التكبيرة التي ينتقل بها، فمن أصحابنا من قال: يبتدىء التكبيرة محذوفة أو ممدودة مبسوطة مع رفعه الرأس من السجود، وينتهي -وإن مدّت- مع انتهاء الجلسة، ثم يقوم غير مكبر.
ومن أئمتنا من قال: يعتدل جالساً من غير تكبير، ثم ينتهض في جلوسه مكبراً إلى القيام. ونصُّ الشافعي رضي الله عنه يدلُّ على هذا في كتاب صلاة العيد، كما سنذكره ثَم إن شاء الله تعالى (4).
__________
(1) حديث ابن عباس: رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والحاكم، والبيهقي، مع تفاوت في اللفظ، وصححه الألباني عند الترمذي وابن ماجة، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي (ر. أبو داود - كتاب الصلاة، باب الدعاء بين السجدتين، ح 850، وصحيح أبي داود: ح 756، والترمذي: أبواب الصلاة، باب ما يقول بين السجدتين، ح 284، وصحيح الترمذي: 233، وابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما يقول بين السجدتين، ح 898، والحاكم: 1/ 262، 271، البيهقي: 2/ 122، التلخيص: 1/ 258 ح 387).
(2) زيادة من (ت 1).
(3) حديث مالك بن الحويرث: رواه البخاري: 1/ 194، كتاب الأذان، باب من استوى قاعداً في وتر من صلاته ثم نهض، ح 823، والشافعي في مسنده ص 41. بنحو ما ساقه إمام الحرمين.
(4) قال النووي في التنقيح في شرح الوسيط: إن الإمام الغزالي في الوسيط، وفي البسيط، وشيخه في (النهاية) والصيدلاني، ومحمد بن يحيى، تركوا وجهاً ثالثاً في المسألة: أنه يرفع مكبراً، ويمدُّ التكبير إلى أن ينتصب قائماً؛ حتى لا يخلو شيء من الصلاة عن ذكر، وهذا =

(2/170)


864 - ثم إذا أراد الانتهاض من الجلوس قائماً، فالأحسن أن يعتمد على الأرض بيده؛ فإن ذلك أحزم وأقرب إلى الخضوع، وروي عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام في صلاته وضع يديه على الأرض كما يضع العاجز" (1).
فصل
865 - إذا هوى ليسجد، فسقطَ، نُظر: فإن سقط على وجهه على الهيئة المطلوبة في السجود، فقد نصّ الشافعي رضي الله عنه أن السجود معتدّ به، وإن لم يوجد فيه وفي الطريق إليه حركات اختيارية من المصلّي، واتفق أئمتنا على ذلك.
ولو سقط على جنب، ثم استدّ، واعتمد على جبهته، قال رضي الله عنه: إن قصد باستداده واعتماده أن يأتي بالسجود، وقع ما جاء به سجوداً معتداً به، ولا نظر إلى وقوع الهوي ضرورياً (2) لمَّا سقط وخرّ، وإن قصد باستداده أن يستوي ويستقيم، ولم يخطر له السجود، بل جرد قصده إلى الاستقامة، فلا يعتد بما وقع منه عن السجود.
وهذا الذي ذكره الشافعي رضي الله عنه يناظر ما إذا أفاض الناسك، ودخل وقت طواف الزيارة، فلو أفلت منه إنسان، فأخذ يتبعه طائفاً حول الكعبة، فما يقع من ترداده على قصد اتباع غريمه لا يعتد به عن الطواف.
وقد ذكرت نظير هذا في كتاب الطهارة، فيمن تعزُب عنه النية، فيغسل رجليه مجرِّداً قصدَه إلى التنظيف، وهو ذاهل عن النية. ذكرت أن من أئمتنا من صحح
__________
= الوجه الثالث هو الصحيح عند جماهير الأصحاب. (التنقيح - بهامش الوسيط: 2/ 142).
(1) حديث ابن عباس: قال عنه ابن الصلاح: لا يصح، ولا يعرف، ولا يجوز أن يحتج به، وقال النووي في شرح المهذب: هذا حديث ضعيف، أو باطل لا أصل له، وقال في التنقيح: ضعيف باطل (ر. تلخيص الحبير: 1/ 260 ح 391. ومشكل الوسيط لابن الصلاح، والتنقيح للنووي - بهامش الوسيط: 2/ 143).
(2) أي ليس إرادياً واختيارياً.

(2/171)


الوضوء، وهؤلاء طردوا ذلك في الطائف أيضاً، وطردوه في الذي ينتهض من سقطته.
وهذا الخلاف على بعده يجري في صورة مخصوصة، وهي أن تجري صورة ركن مع القصد إلى صرفه عن غير جهة العبادة، بسبب الذهول عن العبادة، فلو لم يكن ذاهلاً عنها، بل كان ذاكراً لها، وقصد مع ذلك صرفَ ما جاء به إلى غير جهة العبادة، كأنه يستثنيها عن سَنَن العبادة، ويستخرجها من حكم نظامها. فإذا كان كذلك، فالوجه القطع بأنه لا يقع ركناً معتداً به، وذلك الوجه البعيد مخصوص بالذاهل -في وقت وقوع صورة الركن منه- عن أمر العبادة.
فلو استدّ الساقط، ولم يخطر له الانتهاض ولا السجود، فالذي جاء به معتد به وفاقاً.
866 - فقد ترتب مما ذكرناه صورٌ ثلاث: إحداها - أن يقصد الركن، فيقع ركناً، وإن لم تقع حركات هُويه اختيارية.
والثانية - ألا يقصد شيئاًً، بل يقع منه صورة السجود، فيعتد بها أيضاً قطعاً.
والثالثة - أن يجرد قصده إلى الانتهاض، وهذا ينقسم، فإذا كان ذاكراً للعبادة، وقصد استثناء هذا عن نظامها، فلا يعتد بما يأتي به ركناً، وإن كان ذاهلاً، فالنص أنه لا يعتد به، وفيه وجه مخرَّج، كما ذكرته وطردته، أنه يعتد به، ثم إذا كان ذاهلاً، فلا تبطل الصلاة بما يأتي به، وإن استثنى وهو ذاكر للعبادة، فهذا رجل أتى بصورة ركن عمداً، وسنذكر أن ذلك يبطل الصلاة.
867 - وقد بقي الآن في إتمام ما نحاول شيئان: أحدهما - أن الذي سقط على جنبٍ إذا استوى ساجداً، وقصد الاستقامة، وجرينا على النص في أنه لا يعتد بما جاء به، فإن أراد أن يسجد، لم تنقطع صلاته، فلو أراد أن يديم صورة السجود عن السجود الذي عليه الآن باستدامة تلك الحالة، لا يسقط عنه فرض السجود؛ فإن هذا سجود لم يحتسب أوّله، ولا بدّ من ابتداء سجود معتد به، فكيف السبيل إلى الإتيان به؟
هذا يتعارض فيه أمران: أحدهما - أن يقال: يقوم، ثم يهوي. ساجداً من قيام،

(2/172)


ووجه ذلك أنه كما صرف صورة السجود عن الصلاة، فيصرف الهوي عن الصلاة، فَلْيَعُدْ إلى ما كان، فكأنه لمْ يهوِ، وليبتدىء الهوي، فهذا وجه في الاحتمال.
والأظهر عندي أن يعتدل جالساً، ثم يسجد، وعلة ذلك أن الجلسة كافية في الفصل بين السجدتين، فليقع الاكتفاء بها الآن، والذي يسجد السجدة الثانية، يسند سجدته الثانية إلى فاصل يبني عليه ابتداء السجود الثاني.
وكان من الممكن أن يؤمر بالقيام والهوي منه إلى السجدة الثانية، فلما لم يرد الشرع بهذا دلّ أن القعود كافٍ، فعلى هذا لو قام -ونحن نكتفي بالقعود- فهذا زاد قياماً في صلاته من غير حاجةٍ، وسأقرر هذا إن شاء الله تعالى عند ذكري زيادة الأركان قصداً في أدراج ذكر الأفعال الكثيرة والقليلة إذا جرت.
فهذا أحد الأمرين في تتمة الفصل.
الثاني - أنه قد يتخالج في نفس الفقيه أن المصلي مأمور بأفعاله، فإذا جرت حركات الهوي ضرورية، فيستحيل أن تقع مأموراً بها؛ فإن المأمور به يجب قطعاً أن يكون فعلاً للمكلّف.
فالوجه في التفصِّي (1) عن هذا، أن هذه الحركات غير مقصودة، وإنما الغرض الإتيان بالسجود، ثم يقال عند ذلك: فالسجود لم يقع أيضاً مقصوداً، وهو مقصود قطعاً. وقد مضى في صدر الكلام أن استدامة السجود لا يقع موقع ابتدائه.
فالذي أراه -وإن نقلت ما ذكره الأصحاب- أنه لا يعتد بهذا السجود، ولا يكفي، فليعتدل قائماً، ويسجد (2) سجدةً عن الاعتدال.
والشافعي رحمه الله فرض المسألة فيه إذا سقط على جنب، ثم استقام واستدَّ، فقد حكيت ما ذكره الأئمة، ثم اختتمت الكلام بما عندي فيه. والله المستعان.
__________
(1) "التفصي": أي الخروج عن هذا الاعتراض المفهوم من الكلام، من قولهم: تَفَصى من الشيء، وعنه، إذا تخفص منه (المعجم).
(2) في (ت 1)، و (ت 2): وليسجد، و (ت 2) بدون "قائماً". ومثلها جاءت (ل) بدون "قائماً".

(2/173)


فصل
868 - قد ذكرنا تفصيل القول في صفة ركعة واحدة، ولم يبق في كيفية الصلاة (1) إلا التشهد والسّلام.
أمَّا التشهد، فنذكر أولاً كيفية الجلوس، وهيئة اليدين فيه، ثم نذكر التشهد وما يتصل به، فنقول: ذهب مالك (2) إلى أن المصلي يتورك في القعودين جميعاًً.
وقال أبو حنيفة (3): يفترش في القعودين.
وقال الشافعي رحمه الله: يفترش في التشهد الأول، ويتورك في التشهد الثاني.
واعتمد مالك خبراً مطلقاً عنده في التورك، واعتمد أبو حنيفة خبراً بلغه في الافتراش.
واعتمد الشافعي رحمه الله في الفصل ما روي أن أبا حميد الساعدي قال: "رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلس في الركعتين، جلس على رجله اليسرى، وإذا جلس في الركعة الأخيرة، قدم رجله اليسرى، وجلس على مَقْعَدَتِه" (4).
وإذا ورد في النفي والإثبات خبران مطلقان في واقعة، وورد فيها خبرٌ مفصل، فالمطلقان محمولان على المفصل، لا محالة.
__________
(1) إلى هنا انتهت الصفحات التي كتبت بخط حديث في أول الجزء الثاني من نسخة (ت 2). وهو خط مغاير لخط النسخة كلها مما يدلّ على أن هذا الجزء (من أول: فرع إذا كان يحسن آية من غير الفاتحة) إلى هنا كان ساقطاً مخروماً من النسخة، واستلحقه مالك النسخة بهذا الخط الحديث من نسخة أخرى.
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 250 مسألة: 253، حاشية العدوي: 1/ 240، جواهر الإكليل: 1/ 51.
(3) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 321، 344، ومختصر اختلاف العلماء: 1/ 212 مسألة: 150، فتح القدير: 1/ 271، 274.
(4) حديث أبي حميد الساعدي: رواه البخاري: 1/ 201، كتاب الأذان، باب سنة الجلوس في التشهد، ح 828.

(2/174)


869 - فإذا ثبت أصل المذهب فنذكر الآن كيفية الافتراش والتورك.
أما المفترش، فهو الذي يفرش رجله اليسرى، ويجلس عليها، والقدم من الرجل اليسرى مضجعة، وظهر القدم إلى القبلة، والرجل اليمنى منصوبة، وأطراف الأصابع على الأرض منتصبة [والعقب منتصبة] (1). هذه صفة الافتراش.
وأما التورك، فصفته أن يضع رجليه على هذه الصفة، ثم يخرجهما من جهة يمينه، فرجله اليسرى مضجعة، واليمنى منصوبة، ثم يمكّن وركه ومقعدته من الأرض.
ثم الذي يلوح في الفصل بين الجلستين من جهة المعنى أن المفترش في الجلسة الأولى سيقوم، والقيام عن الافتراش هيّنٌ، وهو عن التورك عسر، فأمَّا الجلسة الأخيرة فليس بعدها عمل، فيليق بها التورك، والركون إلى هيئة السكون.
870 - فإذا بان كيفية الجلوس، فنذكر صفة اليدين وموضعهما من الفخذين.
أما اليد اليسرى، فينشر أصابعها مع التفريج المقتصد، وتكون أطراف الأصابع مسامتةً للركبة.
وأما اليد اليمنى، فإنه يقبض أصابعه على ما نفصله، فيقبض الخنصر والبنصر والوسطى ويطلق المسبِّحة.
ثم اختلف الأئمة وراء ذلك: فقال قائل: يضمّ الإبهام إلى الوسطى المقبوضة كالعاقد ثلاثاً وعشرين.
وقال آخرون: يضم الإبهام كالعاقد ثلاثاً وخمسين. [ومنهم من قال: يطلق الإبهام والمسبحة كالعاقد ثلاثة] (2). ومنهم من قال: [يحلق] (3) الإبهامَ والوسطى، والخنصر والبنصر مقبوضتان، والمسبحة مطلقة.
وهذا الاختلاف الذي ذكره الأئمة لم يبلغني فيه اختلاف روايات عن الذين نقلوا
__________
(1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(2) زيادة من: (ت 1).
(3) في الأصل: يطلق.

(2/175)


كيفية صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان صَدَرُ (1) ذلك عن روايات، فذاك، وإن لم تكن روايات، فلعلهم تحققوا صحة إطلاق المسبحة، ولم يتحققوا هيئة الإبهام، فينشأ هذا الاختلاف منه. وأثبت كلّ أمراً قريباً عنده.
871 - ثم يؤثر للمصلّي أن يرفع مسبحته عند انتهائه إلى قول: لا إله إلا الله، فيرفعها مع الهمزة في "إلا"، وهل يستحب أن يحركها عند الرفع؛ فعلى وجهين: وهذا الاختلاف متلقى من الرواية، فروي أنه عليه السلام لم يحرّكها، وروي أنه حركها، فقال الكفار: إنه يسحر بها (2).
ثم يقرب يده اليمنى من ركبته. فهذا بيان هيئة اليدين.
فرع:
872 - المسبوقُ إذا جلس مع الإمام في تشهده الأخير، فالمسبوق سيقوم إلى استدراك ما فاته إذا سلّم الإمامُ، والإمام متورّك، فالمسبوق يفترش؛ فإن هذا ليس آخر صلاته؛ فالافتراش هو الذي يليق بحاله (3).
وذكر شيخي: أن من أئمتنا من قال: إنه يتورك متابعةً للإمام. وهذا عندي غلط غير معدود في المذهب، فلا أثرَ لتفاوت الهيئة في القدوة.
فصل
873 - إذا انتهى الإمام إلى التشهد الأخير، وكان قد جرى ما يقتضي سجودَ السهو، فالذي قطع به الأئمة أن الإمام يفترش؛ لأن عليه شغلاً بعد السهو، والسجود عن هيئة التورك أيسر من القيام.
وقال قائلون: يتورك؛ فإن الذي نقله الرواة التورك في الجلسة الثانية مطلقاً، والتعويل الأعظم في العبادات على الاتباع، ومجال الاستنباط ضيق جداً.
874 - وقد حان الآن أن نذكر التشهد والقولَ في ذلك:
__________
(1) "صدر" أي صُدور كما يستخدم الإمام هذا الوزن كثيراً.
(2) انظر هذه الروايات في السنن الكبرى للبيهقي: 2/ 130 - 133.
(3) من هنا بدأ خرمٌ في نسخة (ت 2).

(2/176)


فالتشهد الأخير مفروض عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (1).
والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ركن أيضاً في الجلسة الأخيرة.
وفي الصّلاة على الآل قولان: أحدهما - أنها ركن، والثاني - أنها سنة تابعة للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مؤكد.
والتشهد الأول سنة مؤكدة وهو من الأبعاض، وهل تُشرع الصلاة في التشهد الأول؟ فعلى قولين: أحدهما - بلى (2)؛ فإن ما يقع فرضاً في التشهد الأخير، فهو مشروع في الجلسة الأولى كالتشهد، والثاني: لا يشرع؛ فإن الجلسة الأولى مبنية على رعاية التخفيف. ثم إن أوجبنا الصلاة على الآل في التشهد الأخير، ففي شرعها في الجلسة الأولى ما ذكرناه من القولين: إن قلنا إنها لا تجب في الثانية، فلا تشرع في الأولى.
ثم نذكر ما رآه الشافعي رضي الله عنه الأفضلَ والأكملَ في التشهد، ونذكر بعده الأقل.
875 - فأما الأكمل، فما رواه ابن عباس قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وصلم يُعلِّمنا التشهدَ، كما يعلّمنا السورة من القرآن: "التحيّاتُ المباركات، الصّلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله" (3).
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 29، حاشية ابن عابدين: 1/ 313، فتح القدير: 1/ 274.
(2) بلى هنا بمعنى نعم. وهذا الاستعمال صحيح، عليه شواهد من الحديث الصحيح، منها ما في البخاري (6642): "أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: بلى". وسنذكر مزيداً من الأمثلة في مواضع أخرى سيتكرر فيها استعمال بلى بمعنى نعم.
(3) حديث ابن عباس في التشهد رواه مسلم على نحو ما ساقه إمام الحرمين تماماً (لكن) بتعريف (السلام): الصلاة، باب (100) التشهد في الصلاة، ح 403، والشافعي في مسنده: 42، والترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في التشهد، ح 290، والدارقطني: 1/ 351 ح 8، وابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في التشهد، ح 900، وانظر تلخيص الحبير: 1/ 264 ح 407.

(2/177)


واختار أبو حنيفة (1) روايةَ ابنِ مسعود (2). والروايتان صحيحتان، وقد ذكرنا في مسائل الخلاف ما نرجح به رواية ابن عباس (3)، فهذا هو الأفضل.
وذكر العراقيون في الأفضل عند الشافعي رضي الله عنه طريقين: أحدهما - التحيات المباركات، الصّلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين (4) أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسولُ الله.
والطريقة الثانية في الأفضل - التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السّلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسولُ الله. فأثبتوا الألف واللام في الطريقة الأخيرة، وحذفوا " وأشهد " عند قوله: "وأن محمداً رسول الله".
والطريقان جميعاًً مردودان عند المراوزة. والصّحيح ما ذكرناه قبل حكاية طريقي العراقيين، وهو الذي نقله الصيدلاني وشيخي، فهذا بيان الأفضل.
876 - فأما الأقل، فقد ذكر الشافعي الأقل على وجه، وذكره ابن سريج على وجه: فأما ما ذكره الشافعي، فهو: التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
هذا ما ذكره الصيدلاني.
وذكر العراقيون [في] (5) طريقة الشافعي هذا، ونقصوا كلمة واحدة وهي " وأشهد " في الكرَّة الثانية، فقالوا "أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله".
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 214 مسألة: 152، فتح القدير: 1/ 272، حاشية ابن عابدين: 1/ 342.
(2) رواية ابن مسعود في التشهد متفق عليها. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 264 ح 408).
(3) ر. الدرة المضية: ص 132 مسألة رقم: 80.
(4) إلى هنا انتهى الخرم في نسخة (ت 2).
(5) في الأصل: وفي (ط): فيه.

(2/178)


والذي ذكروه من إسقاط " وأشهد " فإنها أمثلُ وأليقُ بذكر الأقل، فهذه طريقة الشافعي.
وأما ابن سريج فإنه قال: التحيات لله، سلام عليك أيها النبي، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
فقال الأئمة كأن الشافعي اعتبر في ذكر الأقل ما اتفقت الأخبار عليه، ولم يخلُ عنه حديث، وجعل ما انفرد به الأحاديث غير معدود من الأقل، ولكنه اتبع مع هذا الخبر دون المعنى.
وكان ابن سريج راعى الأقل بطريق المعنى بعض المراعَاة، وحذف من الألفاظ ما رأى الباقي مشعراً به، فحذف قوله: "رحمة الله" واكتفىَ بقوله: "سلام عليك أيها النبي" فإن السلام يدل على الرحمة لا محالة، ولم يذكر "علينا"، واقتصر على قوله: "سلام على عباد الله الصالحين".
وفي بعض التصانيف: "سلام على عباد الله" من غير ذكر " الصالحين " في طريقة ابن سريج. وهذا غلط لا يعتد به.
فهذا تفصيل الأكمل والأقل في طريق أئمتنا والله أعلم.
877 - أما الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الآل، ففيما ذكرناه قبلُ مقنع. ثم قال الصيدلاني: يستحب الإتيان بالصّلاة كما ورد في الحديث، وقد روي: أنه لما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: عرفنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ قال: قولوا: "اللهمّ صلِّ على محمد، وعلى آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد" (1).
__________
(1) حديث الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، متفق عليه من حديث كعب بن عجرة. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 82 ح 227، تلخيص الحبير: 1/ 263، 268، ح 405، 412).

(2/179)


هذا هو الذي ورد في الحديث، ثم قال (1): وما يزيده الناس من قولهم: "وارحم محمداً، وآل محمد كما رحمت على إبراهيم"، فليس له ثبت في الحديث، ثم الذي يتلفظ به الناس ركيك في اللغة؛ فإن من الناس من يقول: كما رحمتَ على إبراهيم، وهذا ركيك؛ فإن العرب تقول: رحمته، ولا تقول: رحمت عليه، ومن الناس من علم، فقال: كما ترحمت على إبراهيم إلى آخره، وهذا فيه خلل آخر، وهو أن الترحم يدل على تكلّف في الرحمة وتصنع، وهذا مستحيل في نعت الإله تعالى، وليس له ذكر في الأحاديث (2).
878 - ثم قال الصيدلاني: الإمام ينبغي ألا يزيد علي التشهد والصلاة، بل يقتصر، وأراد الصلاة التامة مع ذكر الآل وذكر إبراهيم، وزعم أن الأوْلى ألا يذكر دعوة بعد الصلاة، بل يبادر السلام رعاية للتخفيف على من خلفه، ثم قال: فإن أراد الدعاءَ، فينبغي أن يكون ذلك الدعاء في مقدار أقلَّ من التشهد.
والذي ذكره من الاقتصار على التشهد والصلاة في حق الإمام، لم أره لغيره، فأمَّا إذا كان منفرداً، فيأتي بالدعاء بعد الصّلاة، وإن أراد أن يزيد على مقدار أقل (3) التشهد، فلا معترض عليه، ولم يصح دعاء معين بعد الصلاة، بل روي أنه صلى الله عليه وسلم ذكر التشهد والصّلاة، ثم قال: "لِيتخيَّرْ أحَدُكم من الدعاء أحبّه، أعجبه إليه" (4). كذلك رواه الصيدلاني.
فهذا تفصيل القول في التشهد وما يتبعه.
__________
(1) أي الصيدلاني.
(2) هذا كله كلام الصيدلاني.
(3) ساقطة من: (ت 1)، (ت 2).
(4) حديث الدعاء عقب التشهد: رواه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود بلفظ: "ثم ليتخير ْأحدكم من الدعاء أعجبه إليه، فيدعو به" وأخرجه مسلم: بلفظ: "ثم يتخير من المسألة ما شاء". (ر. البخاري: الأذان، باب ما يتخير من الدعاء بعد التشهد وليس بواجب، ح 835، مسلم: الصلاة، باب التشهد في الصلاة، ح 402، تلخيص الحبير: 1/ 268 ح 413).

(2/180)


فصل
هذا الفصل يشمل السلام والتحلل وما يتعلق به. فنقول:
879 - التحلل عن الصلاة بالتسليم، ولا يقوم غير التسليم مقامه، والخلاف فيه مشهور، والمعتمد فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تحريم الصلاة التكبير وتحليلها التسليم" (1).
ثم الكلام في أقل السلام وأكمله.
فأما الأقل، فهو أن يقول: "السلام عليكم". فهذا المقدار لا بد منه، ولا يجب إلا مرةً واحدةً، فإن التحلل يقع بواحدة، ولو قال: "سلامٌ عليكم" ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يجزىء، ولا يقع التحلل على الصحة به؛ فإن الأصل الاتباع، ولم ينقل التسليم إلاّ مع الألف واللام، فلزم الإتيان به على وجهه.
ومن أئمتنا من قال: يُجزيه؛ فإنّ التنوين في قول القائل: "سلامٌ" يقوم مقام الألف واللام، وليس ذلك مخالفة وخروجاً بالكليّة عن الاتباع.
ولو قال: "عليكم السلام" فمن أئمتنا من قطع بالإجزاء، ومنهم من خرّج ذلك على الخلاف، من حيث إنه بالتقديم والتأخير خرج عن حكم الاتباع.
وقد ذكرنا أنه إذا قال فى عقد الصلاة: "الأكبر الله" أو "أكبر الله"، فهل تنعقد صلاته أم لا؟ فظاهر نص الشافعي يشير إلى الفرق بين التسليم والتكبير في التقديم والتأخير، فإنه لو قال: "عليكم السلام" كان مُسَلماً، ومن قال: "أكبر الله" لم يكن مُكَبراً.
__________
(1) حديث تحريم الصلاة .. : رواه الشافعي، وأحمد، والبزار، وأصحاب السنن إلا النسائي، وصححه الحاكم وابن السكن عن علي كرم الله وجهه. (ر. أبو داود: الطهارة، باب فرض الوضوء، ح 61، والترمذي: أبواب الطهارة، باب ما جاء أن مفتاح الصلاة الطهور، ح 3، وابن ماجة: 1/ 101، كتاب الطهارة وسننها، باب مفتاح الصلاة الطهور، ح 275، وترتيب مسند الشافعي: 1/ 70 ح 206، ومسند أحمد: 1/ 129. وصحح الشيخ أحمد شاكر إسناده ح 1006، 1072، تلخيص الحبير: 1/ 216 ح 323).

(2/181)


وقد جمع الأئمة بين التكبير والتسليم إذا فرض التقديم والتأخير فيهما، فقالوا: فيهما أوجه: أحدها - أنهما لا يجزيان، والثاني - أنهما يجزيان، والثالث - يجزىء التسليم ولا يجزىء التكبير.
880 - وممّا يتعلق ببيان الأقل في التحفل نية الخروج عن الصّلاة، وقد ظهر اختلاف أئمتنا في اشتراطها، فقال الأكثرون: لا يجب ولا يلزم، اعتباراً بسائر العبادات، والنيات تعنى للإقدام على عبادة الله، فأمّا نجازها وانقضاؤها، فإنما هو انكفاف عن العبادة، والنية تليق بالإقدام لا بالتّرك.
وقال قائلون: لا بدّ من نية الخروج؛ فإن السّلام في وضعه مناقض للصّلاة؛ فإنه خطاب للآدميين، ولو جرى في أثناء الصلاة قصداً، لأبطلَ الصلاة، فإذا لم يقترن بالتسليم نية تصرفه إلى قصد التحلل، وقع مناقضاً مفسداً.
وسائر العبادات تنقسم، فأمّا الصّوم، فينقضي بانقضاء زمانٍ، والحجّ لا يقع التحلّل عنه بما هو من قبيل المفسدات.
ثم إن لم نشترط النية ولم نوجبها، فلا كلامَ. وإن أوجبنا، فنشترط اقترانها بالتسليم، فلو تقدمت عليه على جزم وبت، بطلت الصلاة؛ فإنّا قدمنا أن نية الخروج عن الصلاة تقطعها، ولو نوى قبل السّلام الخروجَ عند السلام، لم تنقطع الصلاة بهذا، ولكن لا يكفي هذا، فَلْيَأْتِ بالنية مع السلام.
ثم قال علماؤنا: لا يشترط في نية الخروج تعيين السلام، وإنما يشترط التعيين حالة العقد، فإن الغرض من هذه النية صرف السلام إلى قصد الخروج [ولا يخرج المرء إلا عن الصلاة التي شرع فيها، فوقعت نية الخروج] (1) بناء على ما تقدم، ونيةُ العقد ابتداء، فيجب تعيين المنوي.
881 - ومما يدور في النفس من هذا، أن المناقض للصّلاة قول المُسَلِّم: "عليكم"، فينبغي أن يقع الاعتناء بجمع النية مع هذه الكلمة، ويجوز أن يقال: " السلام " وإن لم يكن خطاباً، فإنه بنفسه لا يستقل مفيداً، والكلام الذي لا يفيد لو
__________
(1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

(2/182)


جرى في أثناء الصلاة، أبطل الصلاة، فإذاً هو كلام لا يستقل، وإتمامه خطابٌ، فكان الجميع في حكم الخطاب.
882 - وقد تردد الأئمة في تقديم نية العقد وقَرْنها بالتكبير، وأجمعوا في نية الخروج على أنها تُقرن ولا تقدم؛ فإن نية الخروج إذا تقدمت، فهي مناقضة مفسدة، وهذا فيه نظر، فإني قد ذكرت في تحقيق نية العقد، أن الذي يتقدم ليس بنية، وإنما هو إحضار علومٍ بصفات المنوي، فعلى هذا لو جرى ذكر الصلاة قُبيل السلام، ثم قرن القصد إلى الخروج بالسلام، فما أرى ذلك ممتنعاً. وفيما مهدته من حقائق النيات ما يوضح هذا.
883 - وممّا يليق بتمام القول في هذا أن الأئمة قالوا: السلام من الصلاة، كما أن التكبير العاقد من الصلاة. وأنا أقول: إن لم نشترط نية الخروج، فالسلام في موضعه من الصلاة. وإن قلنا: لا بدّ من نية الخروج، فيبعد عندي أن يكون قصد الخروج مع خطابٍ هو مناقض للصلاة من الصلاة. والعلم عند الله.
فهذا تفصيل القول في الأقل.
884 - فأما القول في الأفضل والأكمل، فأول ما نذكر فيه الكلام في [عدد السلام] (1) فالّذي نصّ عليه الشافعي رحمه الله في القديم، أن المصلي يقتصر على تسليمة واحدة. ونقل الربيع: أن الإمام إن كان في مسجد صغير وجَمْعٍ قليلٍ، اقتصر على تسليمة واحدة، وإن كثر الجمْعُ، فيُسلّم تسليمتين.
والنص الظاهر أنه يسلّم تسليمتين أبداً من غير تفصيل.
فحصل من مجموع النصوص ثلاثة أقوال: أحدها -وهو الذي عليه العمل- أنه يسلم تسليمتين، وهذا [هو] (2) الّذي تناقله على التواتر الخلف عن السلف.
__________
(1) في الأصل وفي (ط): عقد الصلاة، وفي (ت 1)، (ت 2): عقد السلام. وعلى ذلك يكون لفظ [عدد] اختيار منا رعاية للسياق، ولا وجود له في أي نسخة من النسخ الأربع. ولفظ [السلام] مأخوذ من: (ت 1)، (ت 2). ثم صدقتنا (ل).
(2) مزيدة من: (ت 2).

(2/183)


والقول الثاني: وهو المنصوص عليه في القديم، أنه يقتصر على تسليمة واحدة من غير تفصيلٍ. ومعتمد هذا القول ما روي عن عائشة أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم تسليمةً واحدة تلقاء وجهه (1).
فأمّا التفصيل، فالتعويل فيه على إبلاغ الحاضرين، قلّوا أو كثروا، فإن قلنا: يقتصر على تسليمة واحدة، فلتكن تلقاء وجه المسلّم من غير التفات. وإن قلنا يسلم مرتين، فيلتفت في أولاهما عن يمينه، وفي الثانية عن يساره.
ثم قال الشافعي: فيلتفت حتى يُرى خداه، فاختلف أصحابنا في معناه، فمنهم من قال: يرى خداه من كل جانب، وهذا بعيد، فإنه إسراف في الانحراف. والصحيح أن المعنيَّ به أن يرى خداه من الجانبين، من كل جانب خد.
ثم ذكر العلماء: أنه ينوي السلام على من عن يمينه ويساره من أجناس المؤمنين: من الجنّ، والإنس، والملائكة، ثم مَنْ على اليمين واليسار يقصدون الرد عليه عند الإقبال عليه.
وإن فرعنا على قول التفصيل، فالمنفرد والمأموم يقتصران على تسليمة واحدة.
ثم يقول المسلّم في كل تسليمة: السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم التسليمة الثانية تقع وراء الصلاة، وقد تم التحلل بالأولى، ولو فرض حدث مع التسليمة الثانية، لم تبطل الصلاة، ولكن شرط الاعتداد بالتسليمة الثانية إذا ندَبنا إليها دوامُ الطهارة؛ فإنها وإن كانت تقع بعد التحلل عن الصلاة، فهي من أتباع الصلاة. فالظاهر عندي أن شرط الاعتداد بها الطهارةُ، والله أعلم.
885 - ثم إن كان المصلي إماماً، فإذا تحلّل، فلا ينبغي أن يلبث على مكانه، بل
__________
(1) حديث عائشة رواه الترمذي: أبواب الصلاة، باب التسليم في الصلاة، ح 296، وابن ماجة: كتاب إقامة الصلاة، باب من يسلم تسليمة واحدة، ح 919، وابن حبان: 3/ 224 ح 1992، والحاكم: 1/ 230، 231، والدارقطني: 1/ 358. ورواه ابن حبان من وجه آخر: 4/ 72 ح 2433، وهذا إسناده صحيح على شرط مسلم، قاله الحافظ. وأما الأول فالموقوف أصح من المرفوع. وفي كل مقال، (انظر التلخيص: 1/ 485 ح 420).

(2/184)


يثب ساعةَ يسلم؛ وفي الحديث: "إذا لم يقم إمامُكم فانخسوه" (1) وهذا يدلّ على أن الجمع محتبسون إلى أن يقوم الإمام، ولولا ذاك، لَما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بنخسه.
ثم إذا وثب أقبل على الناس بوجهه، واختلف أئمتنا في أنه من أي قُطْرَيْه يميل، فمنهم من قال: يولي الناس شقه الأيسر، والقبلةَ شقه الأيمن في التفاته، ومنهم من يعكس ذلك، وإن لم يصح في هذا تعبّد، فلست أرى في ذلك إلاّ التخيير.
ثم ينصرف من أي جهة شاء، ولو استوى في حقه الأمران، فالتيامن محبوب في كلّ شيء.
فهذا منتهى القول في ذلك.
وإن كان في المقتدين بالإمام نسوة، فينبغي أن يلبث ويحتبس الرّجال معه، والنسوة يبتدرن وينصرفن؛ حتى لا يختلطن بالرجال.
فصل
في القنوت
886 - ذهب الشافعي إلى أن القنوت مأمورٌ به في الركعة الأخيرة من صلاة الصبح بعد الركوع، والأصل في ذلك، ما روي عن أنس بن مالك قال: "قنت رسول الله صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو عليهم، ثم ترك، وأما في الصّبح، فلم يزل يقنت حتى فارق الدنيا" (2).
__________
(1) حديث "إذا لم يقم إمامكم ... " لم أجده بهذا اللفظ برغم طول بحثي -فضلاً عن الكتب التسعة- في الكتب الآتية: الجامع الكبير والصغير للسيوطي، السنن الكبرى للبيهقي، سنن الدارقطني، كنز العمال، شرح السنة، مصنف عبد الرزاق، تلخيص الحبير، والعلل المتناهية، وتذكرة الموضوعات، والجامع الأزهر للمناوي، ولم أجده أيضاً عند الماوردي في الحاوي، ولا عند الرافعي في الشرح الكبير، ولا في وسيط الغزالي.
ولكن وردت أحاديث تشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يجلس في مكانه بعد السلام. انظر نيل الأوطار: 2/ 353.
(2) حديث: "قنت صلى الله عليه وسلم شهراً يدعو عليهم". المراد على رَعْل وذكوان، وهما =

(2/185)


فإذا ثبت أصلُ القنوت في صلاة الصبح، فالمقدار الثابت فيه ما نقله المزني في المختصر (1) وهو: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولّني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شرّ ما قضيتَ، إنك تقضي ولا يُقضى عليك، وإنه لا يذِلّ من واليتَ، تباركت ربّنا وتعاليت" (2).
ثم الذي يجب القطع به أن تتعين هذه الأذكار، ولا يقوم غيرُها مقامَها، وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلّمنا القنوت كما يُعلّمنا السورة من القرآن. وقد روي مثل ذلك عن ابن عباس في التشهد.
ثم القنوت شديد الشبه بالتشهد الأول؛ فإنهما جميعاًً من أبعاض الصلاة التي يتعلق بها السجود.
ووقته إذا رفع المصلّي رأسه من الركوع.
__________
= قبيلتان من سُلَيْم، لما قتلوا القراء. وهذا الجزء من الحديث متفق عليه من حديث أنس رضي الله عنه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 133 ح 393).
أما الحديث بتمامه على نحو ما ساقه إمام الحرمين، فقد رواه الدارقطني: 2/ 39 ح 10، 11، والبيهقي: 2/ 201، ورواه أحمد في مسنده. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 244 ح 370).
(1) المختصر: 1/ 77.
(2) حديث القنوت بهذه الصيغة صحيح، قال الشافعي: هذا القدر يروى عن الحسن بن علي رضي الله عنهما، قال الحافظ: "نعم هذا القدر روي عن الحسن، رواه الأربعة، وأحمد، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، لكن ليس فيه عنه أن ذلك كان في الصبح، بل روَوه بلفظ علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر" ثم قال الحافظ: "رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة، وأنه كان في صلاة الصبح في الركعة الثانية بعد الرفع من الركوع، وصححه (أي الحاكم) وليس كما قال، بل هو ضعيف" ا. هـ. (ر. أبو داود: الصلاة، باب القنوت في الوتر، ح 1425، 1426، الترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في القنوت في الوتر، ح 464، النسائي: قيام الليل وتطوع النهار، باب الدعاء في الوتر، ح 1745، ابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في القنوت في الوتر، ح 1178، التلخيص: 1/ 247 ح 371). وقد رواه البيهقي أيضاً عن ابن عباس، وعن محمد بن الحنفية، وأنه كان في صلاة الصبح. (السنن: 2/ 209 - 210 - باب دعاء القنوت).

(2/186)


887 - ثم قال العراقيون: إذا نزل بالمسلمين نازلةٌ وأرادوا أن يقنتوا في الصلوات الخمس، ساغ، وإن لم يكن، وأرادوا القنوت من غير سبب، قالوا: قال الشافعي رحمه الله في الأم: لا يقنت. وقال في الأملاء: إن شاء قنت، وإن شاء، لم يقنت.
ثم جعلوا المسألة على قولين.
(1 وكان شيخي يقلب الترتيب ويقول: إن لم تكن نازلة، فلا قنوتَ إلا في صلاة الصبح، وإن كانت نازلة، فعلى قولين 1).
ثم ما نقله العراقيون من الإملاء، يشعر بأنه يتخير: إن شاء، قنت، وإن شاء، لم يقنت، وهذا يتضمن أن ترك القنوت في غير صلاة الصبح ليس من الأبعاض، والتخيير مصرح بهذا.
وإن كانت نازلة، فقد رأوا القنوت عندها من غير تخيير.
ولست أرى مع ذلك القنوت (2) من الأبعاض، التي يتعلق بتركها سجود السهو.
888 - وممّا يتعلق بأمر القنوت الجهر والإسرار، وقد ذكر أئمتنا في هذا وجهين: أحدهما - أن الجهر به مشروع (3) وهو الظاهر.
والثاني - لا يجهر به، اعتباراً بالتشهد وغيره من أذكار الصلاة. ثم إن لم نر الجهر به أصلاً، قنت المأموم، كما يقنت الإمام، قياساً على سائر الأذكار.
وإن رأينا الجهر بالقنوت، فالمأموم إن كان يسمع صوت الإمام أمَّنَ، ولم يقنت، وإن كان موقفه بعيداً وكان لا يسمع، ففي قنوته وتأمينه من الخلاف ما ذكرناه في قراءة السورة. والخلاف في قراءة المأموم جارٍ في الصلاة السرية.
وإن رأينا الإسرار بالقنوت، فالمأموم يقنت وجهاً واحداً، والسبب فيه أن القنوت إذا رأينا الإسرار به، يلتحق بسائر الأذكار. والسورة وإن كان الجهر بها في بعض
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) المراد قوت النازلة، غير قوت الصبح.
(3) (ت 2): مشروع للإمام.

(2/187)


الصّلوات، فأمرها على الانقسام على الجملة، فينزل منزلة انقسام المأموم في القرب والبعد في الصلاة الجهرية.
889 - ومما يتعلق بالقنوت ما أصفه: كان شيخي يرفع يديه في القنوت، ثم كان يمسح بهما وجهه (1 عند الختم، وفي بعض التصانيف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه شاهراً ثم يمسح بهما وجهه 1).
وقد امتنع كثير من أئمتنا من هذا، فإن دعوات الصلاة ليس فيها رفع اليدين مثل التشهد. وقد راجعت بعضَ أئمة الحديث، فلم يثبت رفعَ اليدين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
وكان شيخي يصلّي (3) في آخر القنوت، ولم أر لهذا ثَبَتاً، وفيه الإتيان بما هو ركن في الصلاة منقولاً عن محله، وفيه كلام سيأتي في باب سجود السهو، إن شاء الله تعالى.
فهذا منتهى الكلام في القنوت.
فصل
قال: "ومن ذكر صلاة وهو في أخرَى ... إلى آخره" (4)
890 - من فاتته صلوات، فلا ترتيب عليه في قضائها، خلافاً لأبي حنيفة (5)
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).
(2) في الصحيحين من حديث أنس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في كل دعاء إلا في الاستسقاء فإنه يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه. (اللؤلؤ: 1/ 173 ح 516) ولكن وردت أحاديث صحيحة أنه صلى الله عليه وسلم رفع يديه في غير موطن، بل روى البيهقي: أنه رفع يديه في القنوت. قال الحافظ: "فتعين تأويل حديث أنس (أي الوارد في الصحيحين) أنه أراد الرفع البليغ، بدليل قوله: حتى يرى بياض إبطيه" (ر. تلخيص الحبير: 1/ 51 ح 373، سنن البيهقي: 2/ 211 باب رفع اليدين في القنوت).
(3) أي على النبي صلى الله عليه وسلم.
(4) ر. المختصر: 1/ 79.
(5) ر. مختصر الطحاوي: 29، رؤوس المسائل: 1/ 145 مسألة 52، مختصر اختلاف =

(2/188)


ومن فاتته صلاة الظهر، فدخل وقت العصر، فإن قضى ما فاته أوّلاً، ثم أقام فرضَ الوقت، جاز، وإن أدّى فرض الوقت أوّلاً ثم قضى جاز، ولكن الأَوْلَى إنِ اتَّسَعَ الوقتُ أن يقضي ما فات أولاً، ثم يؤدي فرض الوقت. وقد روي في ذلك أخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذاً رعايةُ الترتيب بين صلاة مقضية وأخرى مؤداة محبوب، والسبب فيه من طريق المعنى -والعلم عند الله في ذلك- أن الأمر برعاية الترتيب يستحث على إقامة القضاء، ولو ابتدر الرجل فرض الوقت، فقد يؤخر القضاء، وتبقى ذمته مشغولة به، وهذا إذا اتسع الوقت، فأما إذا ضاق الوقت، ولو اشتغل بقضاء ما فاته، لفاتت صلاة الوقت، فلا شك أنّا نوجب تقديم الأداء في هذه الصورة.
فصل
"وصلاة المرأة كصلاة الرجل ... إلى آخره" (1).
891 - لما نَجَز الشافعيُّ صفةَ الصلاة قال: والمرأة في كيفية الصلاة كالرجل، إلا أنّا لا نأمرها بالتخوية في السجود كما سبق؛ وكلّ ذلك للستر. وفي الحديث:
"صلاة المرأة في قعر بيتها أفضل من صلاتها في صحن دارها" (2).
وممّا ذكره الشافعي في سياق ذلك، أن الرجل إذا كان مقتدياً بالإمام، فناب إمامَه
__________
= العلماء: 1/ 285 مسألة 242، حاشية ابن عابدين: 1/ 487.
(1) ر. المختصر: 1/ 80. والكلام هنا بمعنى كلام المختصر، وليس بنصه.
(2) حديث صلاة المرأة في بيتها (صحيح) رواه أبو داود بلفظ: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها" وابن خزيمة، والبيهقي، والحاكم في المستدرك، والبغوي في شرح السنة، والطبراني في الكبير، وعبد الرزاق في مصنفه. (ر. سنن أبي داود: الصلاة، باب التشديد في ذلك (ما جاء في خروج النساء إلى المسجد) ح 570، وصحيح ابن خزيمة: 3/ 94 ح 1688، والسنن الكبرى: 3/ 131، والمستدرك: 1/ 209، والبغوي: 3/ 441، والمعجم الكبير: 9/ 341 ح 9482، والمصنف: 3/ 151 ح 5116، وانظر مجمع الزوائد: "باب خروج النساء للمساجد وغير ذلك ... ").

(2/189)


شيءٌ، فينبغي أن يسبِّح لينَبِّه الإمام، والمرأة لا تسبح، فإن ذلك يَشْهَرها، بل تصفق، والأصل فيه، ما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ليصلح بين فئتين، فأبطأ مجيئه، فقال بلال لأبي بكر: قد استأخر مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقيم لتصلّي بالناس، فقال أبو بكر: ما شئتَ، فأقام وتقدم أبو بكر، فلما تحرّم بالصلاة حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل الناس يصفقون، وكانت الصفوف تخرق وأبو بكر لا يلتفت، فلمّا علم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن الصفوف لا تُخرق إلا له، استأخر، وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة مشهورة. فلما تحلّل عن صلاته قال: "مالي أراكم تصفقون؟ من نابه شيء، فليسبح، فإن التسبيح للرّجال، والتصفيق للنساء" (1).
ثم قال القفال: لا ينبغي للمرأة أن تضرب الراحة بالراحة، فإن هذا تصفيق اللهو، ولكن تضرب كفها على ظهر كفها الأخرى.
فصل
قال: "وعلى المرأة أن تستر جميع بدنِها ... إلى آخره" (2).
892 - نذكر ما يجب ستره، وهو الذي يسمى عورة، ثم نذكر كيفية الستر.
فنقول: أما القول فيما يجوز النظر إليه وما لا يجوز النظر إليه، فنذكره مستقصى في أول كتاب النكاح إن شاء الله عز وجل، وإنما غرض هذا الفصل ذِكر ما يستر في الصلاة. فنقول: أمّا الحرة فجملة بدنها في حكم الصلاة عورة من قرنها إلى قدمها، إلا الوجه والكفان، أما الوجه فواضح، وأمّا الكف، فلسنا نعني به الراحة فحسب، ولكنا نعني به اليدين إلى الكوع ظهراً وبطناً، فأما أَخْمَص قدمها، ففيه وجهان، والأصل في ذلك قوله تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قال
__________
(1) الحديث متفق عليه من حديث سهل بن سعد الساعدي: ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 88 ح 243. بألفاظ مقاربة لما ساقه إمام الحرمين.
(2) ر. المختصر: 1/ 80.

(2/190)


المفسرون: الوجه والكفّان، وما سوى ما ذكرناه من الحرة، فهو عورة، فلو بدت شعرة من غير (1) ما استثنياه، لم تصح صلاتها.
893 - فأما الرجل، فالعورة منه ما بين السرة والركبة، والمذهب أن السرة والركبة ليستا من العورة للرجل. وحكى العراقيون وجهاً غريباً عن بعض الأصحاب: أن السرة والركبة من العورة، وزيفوا ما حكَوْه. وهو لعمري بعيد غير معدود من المذهب.
894 - وأما الأمَة، فما بين سرتها وركبتها عورة، كالرجل، وما يظهر منها في المهنة، كالرقبة والساعد وأطراف الساق والرأس، فهذه الأشياء ليست بعورة منها، فأمّا ما وراء ذلك مما فوق السرة وتحت الركبة، وهو ممّا لا يظهر في الامتهان والخدمة ففيه وجهان مشهوران.
فهذا تفصيل القول فيما يجب ستره.
895 - ونحن نذكر الآن الستر ومعناه، فنقول أولاً: وجوب الستر لا يختص بالصلاة، بل يجب إدامة الستر عموماً، ولو استخلى بنفسه، وتكشف في الخلوة حيث يعلم أنه لا يطلع عليه أحد، فقد ذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: أنه يحرم التكشف في الخلوة من غير حاجة، وزعم أنه يجب الستر عن الجن والملائكة، كما يجب الستر عن الإنس. وكان شيخي لا يحرم التكشف في الخلوة، ويقول: إذا كان يجوز التكشف بسبب استحداد، أو لقضاء حاجة من غير إرهاق وضرورة، فإيجاب التستر في الخلوة لا معنى له، هذا في غير الصلاة.
فأما الستر في الصلاة، فواجب، سواء كان المصلّي في خلوة، أو إذا كان بمرأى من النّاس.
896 - ثم التستر بما يحول بين الناظر وبين لون البشرة، ومن لبس ثوباً صفيقاً، فقد يتراءَى حجمُ أعضائه في الشمس من ورائه، فلا يضر ذلك، فالمرعي باتفاق الأصحاب ألا يبدو السواد أو البياض من وراء الثوب.
__________
(1) سقط رقم 189 من صفحات المخطوط مع عدم وجود خرم فليلاحَظ ذلك عند تتابع تسلسل أرقام المخطوط.

(2/191)


ولو وقف المصلّي في ماءٍ صافٍ يبدو منه لون بشرته، فليس بمستورٍ. وإن كان الماء كدِراً، فهو مستور، ولو طلى على عورته طيناً، فهو ستر باتفاق أصحابنا، وهو كافٍ مع القدرة على الستر بالثياب.
ولو لم يكن معه ثوب، وكان متمكناً من التسبب إلى تحصيل طين ينطلي به، فهل يجب عليه ذلك؟ فعلى وجهين، ذكرهما العراقيون: أحدهما - يجب؛ فإنه ستر، والثاني - لا يجب؛ لأنه لو وجب، لدام الوجوب في الصلاة وغيرها، وتكليف ذلك عظيمٌ منتهٍ إلى مشقة ظاهرة.
897 - ثم الستر يراعى من الجوانب ومن فوق، ولا يراعى الستر من أسفل الذيل والإزار.
ونص أئمتنا أن من كان يصلي في قميص واحد، على طرف السطح، فإدراك سوأته هين على من هو تحت السطح، وصلاته صحيحة.
وهذا عندي فيه للفكر مجال؛ فإن من وقف هكذا فوق مكانٍ مطروق، وكان الريح تعبث بثوبه، فلستُ أستجيز إطلاق القول بأنه يحلّ له ذلك، وهو مُعرَّض للنظر.
فإن قال قائل: العرفُ هو المرعي في الستر، والناس يستترون من فوق ومن الجوانب، قيل: هذا كلام عري عن التحصيل؛ فإن العرف لا يطرد بين العقلاء هزلاً في شيء، وأهل العرف إنما لم يراعوا الستر من أسفل من جهة أن التطلع من تحت القميص والإزار غيرُ ممكن إلا بمعاناة وتكلّف، فإذا فرض الموقف على شخص (1)، والأعين تبتدر إدراك السوأة، فهذا لا يُعد في العرف ستراً أصلاً، إلا أن يكون الذيلُ ملتفاً بالساق.
فرع:
898 - إذا كان في الثوب الساتر خرق، فوضع يده عليه وكان يصلي، فقد ظهر الاختلاف في ذلك.
والمذهب عندي تجويز الصلاة، فإن الرجل لو لم يكن في الصّلاة، وفعل
__________
(1) شخص: مكان مرتفع (المعجم).

(2/192)


ما ذكره، فلست أرى تعصيته، وإلحاقَه بمن يبدو للناس متكشفاً، وإذا ظهر ذلك خَارجَ الصلاة، فالستر لا يختلف بالصلاة والخروج منها.
ولو كان يصلي في قميص ساتر [ذي طوق واسع وهو] (1) مشدود الإزار، جاز.
ولو كان مفتوحَ الإزار، وكان إذا ركع أو سجد تبدو عورتُه، فإذا بدت، بطلت صلاته، فإن كانت لحيته الكثيفة تسد موضع فتح الإزار، ففيه الخلاف المذكور؛ فإنه سَترَ ما يجب ستره بشيء من بدنه. والصحيح ما ذكرناه.
ولو كان بحيث تبدو منه العورة، ولكنه في قيامه وانتصابه لا يبدو منه شيء، فهل تنعقد صلاته؛ ثم إن انحنى وتكشف، بطلت صلاته؟ هذا ملتحق بما ذكرناه؛ فإن سبب الستر وعدم التكشف التصاق صدره في قيامه بموضع إزاره، ففيه ما ذكرناه، والمذهب الحكم بالستر في جميع ذلك.
فرع:
899 - إذا وجد خرقة لا تستوعب جميعَ ما يجب ستره، فيجب استعمالها.
ثم قال العراقيون: من أصحابنا من قال: يستر بها القبل؛ فإن السوأة الأخرى مستترة بانضمام الإليتين. ومنهم من قال: يستر بها السوأة الأخرى؛ فإنها أفحش في الركوع والسجود. ولا يتجه التخيير في ذلك.
ثم الفخذ وما دون السرة من العورة، ولا فرق عندنا في وجوب الستر بين السوأة وبين غيرها.
899/م- وأبو حنيفة (2) يفصّل ويزعم أن الربع معفوٌّ عنه في التكشف في كل عضو، ويرعى في السوأة تكشف مقدار درهم. ونحن لا نرعى هذا. وإذا كان كذلك، فلا يمتنع أن نقول: ما ذكره الأصحاب في الخرقة وترديد القول في السوأتين في حكم الأوْلى. ولو ستر واجدُ الخرقة بها جزءاً من فخذه، لم يبعد. جواز ذلك.
وفي كلام الأصحاب ما يدل على تحتم ستر السوأتين أو إحداهما، وله وجه؛ فإن المرعي هو العرف، وما الناس عليه في ذلك، وليس يخفى أن من ستر شيئاًً من فخذه وترك السوأة بادية، يعد متكشفاً.
__________
(1) زيادة من: (ت 2).
(2) ر. بدائع الصنائع: 1/ 117، حاشية ابن عابدين: 1/ 273.

(2/193)


فرع:
900 - ذكر العراقيون نصين في العراة لو أرادوا عقد جماعة: أحدهما - أنهم إن انفردوا، فعذرهم تمهد في ترك الجماعة، وإن صلّوا جماعة، وغضوا أبصارهم، فجائز.
والثاني - وهو الذي نص عليه في القديم أنهم يصلون فُرادى؛ فإنّ حفظَ العيون فرضٌ، والجماعة نفلٌ، وجعلوا المسألة على قولين في الأوْلى، ولا خلاف أنهم لو عقدوا جماعة، صح ذلك منهم.
ثم إمام العراة ينبغي أن يقف وسطهم، كما سنذكر في صلاة النسوة إذا عقدن جماعة.
فرع (1):
901 - إذا أراد رجل أن يبذُلَ ثوباً، وقد حضر رجل وامرأة على العري، فالمرأة أولى من الرجل وفاقاً، ولو حضر رجلان ولو قسم الخرقة وشقها يحصل في كل واحد بعضُ الستر، ولو خصَّ أحدهما، يحصل له الستر الكامل، فهذه المسألة محتملة، ولعلّ الأظهرَ أن يستر أحدهما، وإن أراد الإنصاف، أقرع بينهما.
فرع:
902 - إذا كان يصلي في إزار ساترٍ، فكشف الريح طرف إزاره عن عورته، فإن أمكنه أن يردّه على القرب، لم يضره ما بدا، وإن عسر الردّ وطيرت الريح الإزار، فهذا يفسد الصلاة، وإن تعاطى بنفسه الكشف عمداً، ثم ردّه على الفور، بطلت صلاته. وهذا يطّرد في الانحراف عن القبلة، وإصابةِ نجاسةٍ يابسةٍ الثوبَ، [فإن كان عن قصد، فالفساد]، (2) وإن كان عن غير قصد وقرب الزمان، فلا بأس، وإن طال الفصل، بطل.
وإن انحل عقدُ الإزار وانسلّ، فردّه، فهو كما لو انكشف طرف منه وأعيد، فلا فرق.
فإن قيل: ما المعتبر عندكم في قرب الزمان وبعده؟ وهل ترون ضبطَ هذا تحقيقاً
__________
(1) هذا الفرع ساقط كله من: (ت 2).
(2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

(2/194)


أو تقريباً؟ قلنا: لعلّ الأقربَ فيه ألا يظهر بين الانكشاف وبين ابتداء الردّ مُكْث محسوس على حكم التكشف.
فرع:
903 - الأَمةُ إذا كانت تصلي مكشوفة الرأس، فعَتَقت في أثناء الصلاة فإن كان بالقرب منها خمارٌ، فابتدرته وسترت رأسها، استمرت وبَنَتْ، وكان ما يجري بمثابة تكشف من غير قصد، [تداركه] (1) المصلي على الفور. وإن كان الخمار بعيداً عنها، وكانت تحتاج أن تمشي إليه خطوات كثيرة، فهذا عند المحققين ينزل منزلة ما لو سبق الحدث في الصلاة، وسيأتي ذلك على القرب.
فإن جرينا على الأصحّ، حكمنا ببطلان الصلاة، وإن فرعنا على القديم فَلْتَمْشِ هذه إلى الخمار وتستتر، ولتبْن على صلاتها، وإن لم تمش، ولكن وقفت حتى أتاها آتٍ بالخمار، ففي بعض التصانيف أن ذلك بمثابة ما إذا أطال الرجل السكوت في صلاته، فإن في بطلان الصلاة وجهين، كذلك هاهنا، وهذا كلام ملتبس.
والوجه أن نقول: إن أتاها الخمار في مدة لو مشت فيها، لنالت فيها الخمار، فلا تبطل الصلاة؛ فإن السكون أولى في الصلاة من المشي والعمل، فإن زادت مدة سكونها على مدة مشيها إلى الخمار لو مشت، فإن لم تبن أمرَها على أن تؤتَى بالخمار، ولكن بقيت كذلك، ثم طالت المدة، وزادت على مدة المشي، فالوجه القطع ببطلان الصلاة، وإن بنت أمرها على أن تؤتَى بالخمار بإشارتها إلى إنسان، فأتى بالخمار، فإن زادت المدة وطالت، فهذا سكون طويل، وتركٌ للساتر، وفي معارضته أنها تركت عملاً كثيراً، وفيه احتمال ظاهر، إذا كان كذلك، ولعل الظاهر الحكم بالبطلان، فإنا إذا ألحقنا هذه الصورة بسبق الحدث، وقد ثبت أنه يُسرع المشي في تدارك ما وقع في القول الذي عليه التفريع، فوجود المشي وعدمه بمثابة، فالوجه النظر إلى التسرّع إلى التدارك من غير مبالاة بالأفعال.
__________
(1) في جميع النسخ: "فتداركه"، والمثبت من (ل).

(2/195)


فصل
904 - المصقي إذا سبقه الحدث في الصلاة من غير قصد، فالمنصوص عليه في الجديد أن الصلاة تبطل، ووجهه بيّن من القياس.
وقال أبو حنيفة (1): لا تبطل الصلاة.
وهو قول للشافعي في القديم، وقد بان أن القولَ القديم ليس معدوداً من المذهب؛ فإن الشافعي رحمه الله لما نص عليه في الجديد على جزم، رجع عمّا صار إليه في القديم، ولكن أئمة المذهب يعتادون توجيه الأقوال القديمة على أقصى الإمكان، ثم يفرعون عليه.
توجيه القديم: الحديثُ المدون في الصحاح، وهو ما رواه ابن أبي مُلَيكة عن عائشة أنه عليه السلام قال: "من قاء أو رعفَ، أو أمذى في صلاته، فلينصرِفْ، وليتوضأ وليَبْنِ على صلاته ما لم يتكلم" (2) وإنما لم يعمل الشافعي به في الجديد لإرسال ابن أبي مُلَيكة؛ فإنه لم يلق عائشةَ ولا حجةَ في المراسيل عنده. وقد روى إسماعيل بن عياش في طريقه عن ابن أبي مليكة، عن عروة عن عائشة، فأسند.
وإسماعيل هذا سيء الحفظ، كثير الغلط فيما يرويه عن غير الشاميين. وابن أبي مُلَيكة ليس من الشاميين، فإن جرينا على القول القديم، فكل ما يطرأ على الصلاة مما ينقض طهارة الحدث، أو ينجس ما يجب رعاية طهارته، فالمصلي يسعى في إزالة
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 266 مسألة 218، البدائع: 1/ 220، حاشية ابن عابدين: 1/ 403.
(2) حديث ابن أبي مليكة عن عائشة. قال الحافظ: رواه ابن ماجة، والدارقطني. (ر. الدارقطني: 1/ 154 ح 11 - 17، وابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في البناء على الصلاة، ح 1221، وتلخيص الحبير: 1/ 274 ح 430) هذا وقد عد الحافظ قول إمام الحرمين عن هذا الحديث: إنه مدون في الصحاح وهماً عجيباً، تابعه عليه الغزالي في الوسيط. لكننا لم نجد في الوسيط متابعة الغزالي لشيخه في هذه العبارة، بل قال الغزالي عن الحديث إنه روي مرسلاً، أما متابعة الغزالي لشيخه فكانت في البسيط، كما ذكر النووي في التنقيح (ر. التنقيح في شرح الوسيط للنووي - بهامش الوسيط: 2/ 157).

(2/196)


ذلك على أقرب وجه يقتدر عليه، وإن كثرت الأفعال، ومست الحاجة إلى استدبار القبلة ومشى فرسخاً مثلاً، فإنه يبني على صلاته، ولو أمنى أو أمذى، فالكل على وتيرة واحدة.
فإن قيل: فَلِمَ خصّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذكر أشياء معدودة؛ وإذا كان المذهب مبنياً على الخبر بعيداً عن القياس، فهلا اختص بما اشتمل عليه الحديث؟ قلنا: إنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجري في الصلاة وِفاقاً؛ فإن الرعاف وذراع (1) القيء مما يفرض جريانه في الصلاة إذا تعسر التماسك منهما، وكذلك الرجل المذاء قد يبتلى بالمذي في أثناء الصلاة، فعلمنا قطعاً أن الحديث لو صح، فإنما اختص بهذه الأشياء؛ لأنها الجارية في العرف غالباً، وأبو حنيفة (2) حكم بانقطاع الصلاة بخروج المني، ونزَّل الإمذاء منزلة الإمناء، وإن كان منصوصاً في الخبر، وألحقَ سبق البول بالرعاف والقيء.
905 - ولو تحرّم الماسح على خفه بالصلاة، على طهارة المسح، ثم انقضت مدة المسح أثناء الصلاة، بطلت الصلاة وفاقاً -وإن فرعنا على القديم في سبق الحدث- والسبب فيه أنه قصر، حيث لم يرع قدْر المدة وانقضائها، وكان كالذي يتعمد إلى الحدث (3).
ولو تخرّق خفُّه في الصلاة وبرز القدم، ففي المسالة وجهان: أحدهما - تبطل الصلاة، كانقضاء المدة؛ فإنه مقصر من حيث لم يرع ضعف الخف، وكان كتقصيره في أمر المدة.
والثاني - أن التخرق كسبق الحدث؛ فإن التقصير لا يظهر فيه.
906 - ولو رأى المتيمم الماءَ، فالمنصوص عليه في الجديد أن الصلاة لا تبطل، وليس ذلك كسبق الحدث؛ فإن رؤية الماء في نفسها ليست مبطلة للوضوء حتى يتمكن
__________
(1) كذا في جميع النسخ، والمعروف فيما بين أيدينا من المعاجم: "ذَرْع" فلعل لها وجهاً لا نعرفه، ثم جاءتنا (ل) وفيها: "ذرع".
(2) ر. البدائع: 1/ 222، حاشية ابن عابدين: 1/ 406.
(3) أي يقصد إلى الحدث، وفي (ل) "كالذي يتعمد الإقدام إلى الحدث".

(2/197)


الرائي من استعمال الماء [على يسر، والصلاة عاصمة شرعاً مانعة من استعمال الماء،] (1) فهذا -مع ما فيه من الغموض- معتمد المذهب الجديد.
907 - ثم قال أبو حنيفة (2): من سبقه الحدث في المسجد، فخرج وتوضأ، لزمه أن يعود إلى مكانه من المسجد، وفيه يبني، فلو بنى في بيته على صلاته، لم يجز، وهذا ممّا انفرد به أبو حنيفة، وليس له فيه معتصم.
ونحن نقول: إذا رفع المانعَ الطارىء، وهو في منزله، تعيّن عليه البناءُ حيث انتهى إليه، فلو رجع إلى المسجد، بطلت صلاته؛ فإن هذه الأفعال تجرى بعد ارتفاع المانع، فتقع قادحةً في الصلاة، لا محالة، ثم نأمر الساعي في رفع المانع بأن يقتصر من أفعاله على قدر الحاجة، ولا نكلّفه أمراً يخرج به عن مألوف اعتياده من [عَدْوٍ] (3) وبدار إلى رفع الحدث، ولكنه يقتصد، وكما يرعى تقليل الأفعال وتنزيلها على حكم العادة، فكذلك يرعى تقريب الزمان؛ فإن دوام المانع مع التمكن من رفعه استصحابٌ لما يناقض الصلاة.
908 - ولو سبق الحدث، ثم استكمل الذي هو صاحب الواقعة الحدثَ، بطلت صلاتُه. وقد ذكر صاحب التقريب أنه لو قطر منه بولٌ سبقاً، فله أن يستتم ذلك البول، ثم يتوضأ، وهذا عندي خطأ إذا كان يمكنه أن يتماسك؛ فإن الذي أتى به حدث على اختيار.
ونحن نقول: لو زاد فعلاً من غير حاجة، وبلغ مبلغ الكثرة، بطلت صلاته؛ فالحدث أولى بالتأثير في الصلاة، إذا جرى على حكم الاختيار.
909 - ومما يتعلق بغوامض المذهب أن الأئمة قالوا: لو انكشفت العورة، ثم رد الساتر على قرب، لم تبطل صلاته قولاً واحداً، وطردوا ذلك في نظائر سبقت،
__________
(1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(2) ر. البدائع: 1/ 223، حاشية ابن عابدين: 1/ 407.
(3) في الأصل، وفي (ط) وفي (ت 1): غدو. وساقطة من (ت 2). والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. والحمد لله، صدقتنا (ل).

(2/198)


وما جرى (1) مناقض للصلاة، وإن قلّ الزمان وقصر، وكان القياس يقتضي أن ينزل ما ذكرناه منزلة سبق الحدث (2). ولكن الأئمة قاطعون بما ذكرته.
فلْيتأَمل طالبُ الحقائق ما ذكرناه. ولو كان ذلك محطوطاً عن المصلي لقرب الزمان فيه، للزم أن يقال: لو تعمد المصلي كشف إزاره وردّه على القرب، لا تبطل صلاته. وقد قالوا: إذا تعمد، بطلت صلاته. ولو طيرت الريحُ الإزار وأبعدته، وكان لا يلحق إلا بأفعال كثيرة، فهذا ألحقوه بسبق الحدث، وخرجوه على القولين.
910 - ومما فرعه أبو حنيفة (3) على مذهبه في سبق الحدث، أن المصلي إذا سبقه الحدث، وكان ملابساً ركناً من الأركان، مثل أن كان في الركوع أو السجود، قال: بطل ذلك الركن، فإذا أراد البناء، لزمه العود إلى ذلك الركن.
وهذا فيه عندي تفصيل في مذهبنا المفرع على القديم، فأقول: إن سبق الحدث قبل حصول الطمأنينة، فمضى إلى التدارك، فيعود إلى الركوع، وإن كان ركع واطمأن ثم أحدث، فإذا أراد البناء ففي إلزامه العود إلى الركوع احتمال. والظاهر أنه لا يعود؛ فإن موجب هذا القول، أن الحدث لا يبطل شيئاًً مضى، وأن من سبقه الحدث يبني، ولا يعيد شيئاًً قد تم على موجب الشرع.
[فصل] (4):
قال: "ولو تكلم أو سلم ناسياً ... إلى آخره" (5).
911 - الكلام على عمدٍ مبطل للصلاة؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها من كلام الآدميين شيء" (6) ولا فرقَ بين أن يكون في مصلحة
__________
(1) أي ما جرى من انكشاف العورة.
(2) أي من جعله على قولين، ولكنهم قاطعون بصحة صلاة من ردّ الساتر على قربِ قولاً واحد. فهذا هو (الغامض).
(3) ر. البدائع: 1/ 223، فتح القدير: 1/ 391.
(4) في جميع النسخ (فرع) واخترنا ما جاءت به (ل)؛ لأن هذا بالفصل أشبه.
(5) ر. المختصر: 1/ 80.
(6) حديث: "إن صلاتنا هذه .. " رواه مسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، والبيهقي، عن معاوية بن الحكم السلمي. (ر. مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحته، ح 537، أبو داود: الصلاة، باب تشميت =

(2/199)


الصلاة، وبين ألا يكون كذلك، خلافاً لمالك (1)، ولو جاز الكلام في مصلحة الصلاة، لما أمر الرجل بالتسبيح والمرأة بالتصفيق إذا ناب الإمامَ شيءٌ.
ثم مضمون هذا الفصل يوضحه أمران: أحدهما - في كلام من ليس معذوراً، والثاني - في المعذور وتفاصيل العذر.
فأما غير المعذور، فمهما (2) عمد المصلّي مع ذكر الصلاة وعلمه بتحريم الكلام كلاماً (3) خارجاً عن مراسم الشرع، في القراءة والتسبيح والدعاء، بطلت صلاته. ثم ما يأتي به، ينقسم إلى كلام مفهوم، وإلى حروف لا تفهم: فأما ما يفهم، فإنه على الشرائط التي ذكرناها، تبطل الصلاة وإن كان حرفا واحداً، فإذا قال: (عِ) أو (قِ) أو (شِ) من وعى ووقى ووشى، بطلت صلاته.
وإن كان أتى بحرف لا يُفهِم معنى، فالحرف الواحد لا يبطل الصلاة، وإن والى بين حرفين، بطلت صلاته؛ فإن أقل مباني الكلام في أصل اللسان حرفان.
ولو استرسل منه صوت غُفْل لا تقطّع فيه، ولا يسمى حرفاً، فسماعي عن شيخي فيه أنه لا يبطل الصلاة، ولو ذكر حرفاً ووصله بصوت غُفل؛ فإنه كان يتردد فيه، وهو لعمري محتمل؛ فإن الكلام حروف، والأصوات المرسلة من مباني الكلام.
والأظهر عندي أنه مع الحرف كحرف مع حرف؛ فإن الصوت الغُفل مَدّة، والمدّات تقع ألفاً أو واواً أو ياءً، وهي -وإن كانت إشباعاً لحركات- معدودةٌ حرفاً، وعندي أن شيخي ما تردد فيها، وإنما تردد في صوت غُفل مع حرف إذا لم يكن ذلك الصوت مَدّة، وإشباعاً لإحدى الحركات الثلاث.
912 - ومما يتعلق بهذا الكلامِ القولُ في التنحنح، فمن تنحنح فاتحاً فاه مغلوباً
__________
= العاطس في الصلاة، ح 930، والنسائي: السهو، باب الكلام في الصلاة، ح 1218، التلخيص: 1/ 281 ح 449).
(1) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 263 مسألة: 278، عيون المجالس: 1/ 323 مسألة: 152، حاشية الدسوقي: 1/ 282.
(2) "فمهما" بمعنى (فإذا).
(3) "كلاماً" مفعول لـ " عمد " والمعنى: إذا قصد كلاماً خارجاً ....

(2/200)


فيه، وما أتى به لحاجة، فالذي قطع به الأئمة أنه إذا أتى بحرفين، بطلت صلاته.
وحكى ابن أبي هريرة نصاً عن الشافعي: أن التنحنح لا يبطل الصلاة أصلاً؛ فإن الذي يأتي به -على ما يُعهد- ليس آتيا بحروف محققةٍ؛ فهو كصوت غُفل. قال القفال: بحثت عن النصوص، فلم أر ما ذكره، وأنا سأعود في أثناء الكلام إلى هذا.
وأقول الآن: إذا صار المصلي بحيث لا يتأتى منه القراءة المفروضة ما لم يتنحنح، فكأن (1) اختنق أو اغتص بلقمة؛ فإنه يتنحنح ولا يضره ذلك، مع مسيس الحاجة التي وصفناها.
ولو كان في صلاة جهرية، وقد عسر عليه الجهر لو لم يتنحنح، وما عسرت القراءة سراً، فهل له أن يتنحنح ليجهر ويقيم شعار الجهر وكان إماماً؟ فيه وجهان مشهوران: أقيسهما: المنع؛ فإن الجهر أدب وهيئة، وترك ما هو من قبيل الكلام حتم، ولا يتجه وجه الجواز إلا بشيء، وهو أن التنحنح في أثناء القراءة يُعد من توابع القراءة، ومن ترديد الصوت بها، ولا يُعد كلاماً منقطعاً عن القراءة. ولعل ابن أبي هريرة نقل ذلك القول في أثناء القراءة، فينقدح توجيهه، وإن لم تكن حاجة ماسة كما ذكرته، وإن كان بعيداً.
فأما التنحنح لا في حالة استياق (2) القراءة، فيبعد المصير إلى أنه لا يُبطل، فكان مأخذ الكلام في التنحنح الجاري في القراءة [أنه يُبطل في ظاهر المذهب، إذا لم يتعذّر أصل القراءة] (3)، فإن تعذر رفعُ الصوت، ففيه الخلاف المعروف، ووجهه أنه مع الحاجة في القراءة كأنه تابع، وعن هذا قد يتجه أنه إذا لم تكن حاجة أيضاً، لا يُبطل، إذا كان في خلال القراءة.
وحكى شيخي عن القفال أنه كان يقول: لو طبق شفتيه وتنحنح، لم تبطل صلاته، وإنما التفصيل فيه إذا كان يتنحنح فاتحاً فَاه. وهذا ممّا انفرد به القفال، وصار إلى أن
__________
(1) كذا في نسخة الأصل وحدها، وفي باقي النسخ: "وكان".
(2) في (ل): "اتساق القراءة".
(3) ما بين المعقفين زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

(2/201)


التنحنح مع التطبيق كجرجرة في الحلق، أو قرقرة في التجاويف. ولست أرى الأمر كذلك؛ فإن هذه الأصوات لا تختلف في السمع بالتطبيق والفتح، ومن تنحنح لا يأتي بالحروف الحلقية صريحاً، وإنما هي أصوات تداني الحروف الحلقية، لا يصفها الكتبة ويعرفها من يتأمل. وإذا كان كذلك، فلا فرق بين حالة التطبيق وحالة الفتح.
913 - ولو قرأ المصلي آيةً أو بعضاً من آية، فأفهم بها كلاماً، مثل أن يقول: "خذها بقوة"، أو يقول -وقد حضر جمع فاستأذنوا-: "ادخلوها بسلام"، فإن لم يخطر له قراءة القرآن، ولكن جرد قصدَه إلى الخطاب، بطلت صلاته.
وإن قصد القراءة، ولم يخطر له إفهامَ أحد، بحيث لو دخلوا لم يُرد دخلوهم من معنى قوله، [فلا شك أن صلاته لا تبطل، وإن قصد قراءة القرآن وقصد إفهامهم] (1)، فالذي قطع به الأئمة أن الصلاة لا تبطل؛ فإنه لا يُجدّ متكلماً، والحالة هذه. وقال أبو حنيفة (2): تبطل الصلاة بهذا.
914 - ولو دعا بالفارسية، بطلت صلاته، وكذلك لو أتى بترجمة القرآن. وقد ذكرنا أن ترجمة القرآن لا تقوم مقام القراءة، وخلاف أبي حنيفة مشهور فيه (3).
ومعتمدنا في وجوب الرجوع إلى الأذكار عند تعذر القراءة، ما روي عن رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة، فإن كان يحسن شيئاًً من القرآن، قرأ، وإن كان لم يحسن شيئاًً، فليحمد الله وليكبر" (4).
فهذا تمهيد المذهب فيما يأتي به المصلي من الكلام من غير عذر.
__________
(1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(2) ر. الهداية مع فتح القدير: 1/ 349، تبيين الحقائق: 1/ 157، حاشية ابن عابدين: 1/ 417.
(3) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 260 مسألة 211، رؤوس المسائل: 157 مسألة: 62، المبسوط: 1/ 37، تبيين الحقائق: 1/ 109، فتح القدير: 1/ 247.
(4) جزء من حديث المسيء صلاته وقد تقدم.

(2/202)


915 - فأما تفصيل القول في المعذور، فنبدأ بالنسيان أولاً، فإذا نسي الرجل كونَه في الصلاة وتعمد الكلام، وهذا هو المعني بكلام الناسي، فهذا غير مبطل للصلاة، خلافاً لأبي حنيفة (1)، والمعتمد فيه من جهة السنة قصة ذي اليدين وهي مذكورة في الخلاف.
ولو كثر الكلام في حالة النسيان، ففي بطلان الصلاة وجهان: أحدهما - وهو القياس أنه لا تبطل الصلاة؛ فإنه لو أبطل الصلاة [كثيرُه، لأبطلها قليلُه، كحالة العمد، والثاني - إذا كثر أبطل الصلاة] (2) لأمرين: أحدهما - أن هيئة الصلاة تزول بكثرة الكلام، وينقطع نظامها، والثاني - أن الناسي يعذر، لأنه قد يبتلى ببادرة، فأما الكثير، فيبعد تصوير النسيان فيه، فإنه يتنبه أو يُنبّه، وما يقع نادراً لا يعتد به، والصائم إذا أكل ناسياً لصومه فإن قل أكله، لم يبطل صومه، وإن كثر، ففي المسألة وجهان مرتبان على الوجهين في الكلام الكثير مع استمرار النسيان، فإن قلنا: لا تبطل الصلاة، فلأن لا يبطل الصوم أولى، وإن قلنا تبطل الصلاة [ففي الصوم وجهان مرتبان على المعنيين المذكورين في التوجيه، فإن قلنا ببطلان الصلاة] (3)، لندور النسيان الطويل، فهذا يتحقق في الصوم أيضاً. وإن اعتمدنا في الصلاة الهيئة وانقطاعَ النظام، فهذا لا يتحقق في الصوم؛ فإنه ليس بعبادة ذات نظام، وإنما هو انكفاف عن أمور معروفة.
916 - ولو تكلّم الرجل جاهلاً بأن الكلام يحرم في الصلاة، وكان قريب عهدٍ بالإسلام، فلا تبطل الصلاة، وجهله يعذره. والأصل فيه الأخبارُ، وقد رويناها في الخلاف (4).
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 269 مسألة: 222، رؤوس المسائل: 159 مسألة: 64، المبسوط: 1/ 170، فتح القدير: 1/ 344، حاشية ابن عابدين: 1/ 413.
(2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(3) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(4) لم يعرض الإمام لهذه المسألة في الدرة المضية، فلعله ذكرها في كتالب آخر من كتبه في الخلاف.

(2/203)


ولو علم أن الكلام محرّم في الصلاة، ولكن لم يعلم كونَه مفسداً، فتفسد صلاته وفاقاً، وهذا يطرد في الصوم وغيره، وهو يناظر مسألة من كتاب الحدود، وهي أن من شرب الخمر، ولم يعلم تحريمَها لم يحدّ، وإن علم تحريمها، ولم يعلم أنه يُحد شاربُها، حُد، ولم يصر جهله بالحدود دارئاً له.
ولو علم أن الكلام على الجملة يحرم، ولكن لم يدْرِ أن الذي جاء به محرم، فقد ذكر بعض المصنفين أن الصلاة تبطل في هذه الصورة، وهذا محتمل عندي، ويظهر المصير إلى أنها لا تبطل الصلاة.
فهذا بيان تمهيد عذر الناسي والجاهل.
917 - ومما يلتحق بالنسيان والجهل وهو أولى منها، وهو أنه لو التف لسان الذاكر والقارىء، فجرى بكلام جنسه مبطل للصلاة، فلا تبطل صلاته أصلاً، وعندي أن أبا حنيفة يوافق في هذا، مع مصيره إلى أن الناسي لا يعذر؛ فإن سبق اللسان إلى هذا لا يزيد على سبق الحدث، ومن سبقه الحدث، لا تبطل صلاته.
918 - ومما نذكر في المعاذير أن المصلي لو أكره على أن يتكلم في الصلاة، فتكلم مكرهاً، فهذا كما لو أكره الصائم على الأكل مع ذكره للصوم، وفيه قولان، سأذكر حقيقتهما في كتاب الصوم إن شاء الله تعالى، والغرض الآن تنزيل المصلي منزلة الصائم.
919 - ومما نذكره متصلاً بالكلام السكوت، فإذا أطال الرجل سكوته، وهو لا يؤمر باستماع وإصغاء، فإن تعمد ذلك في ركن طويل، فقد ذكر القفال وجهين في بطلان الصلاة، أصحهما (1) أنه لا تبطل؛ فإن السكوت ليس خارماً لهيئة الصلاة وما فيها من رعاية الخضوع والاستكانة.
والثاني - أنه تبطل الصلاة؛ فإن اللائق بالمصلي الذكر والقراءة، والسكوتُ في حكم الإضراب عن وظائف الصلاة وما شرعت الصلاة لأجله.
والدليل عليه أنَّ من رأى رجلاً على البعد يتكلم، يسبق إلى اعتقاده أنه ليس في
__________
(1) في (ت 2): أحدهما.

(2/204)


الصلاة، كذلك إذا رآه في سكتة طويلة؛ فإنه يعتقد أنه ليس في الصلاة.
وإن سكت سكوتاً طويلاً ناسياً للصلاة. [فالسكوت الطويل إن قيل: لا يُبطل الصلاة واقعُه على العمد] (1)، فلا شك أن واقعَه على النسيان [لا يبطل، وإن قلنا: عمدُه مبطل للصلاة، ففي واقعه على النسيان] (2) طريقان: منهم من قال: هو كالكلام الكثير الصادر من الناسي، وفيه الخلاف المقدم، فيعتبر طويل السكوت بكثير الكلام، ومنهم من قال: السكوت الطويل من الناسي -حيث انتهى التفريع إليه- كالكلام اليسير؛ فإن قليل الكلام من العامد مبطل، وقليل السكوت من العامد غيرُ ضائر، فاعتبرنا طويل السكوت بقليل الكلام.
فصل
قال: "وإن عمل عملاً قليلاً مثل دفعه المارّ بين يديه ... إلى آخره" (3).
920 - العملُ القليل على عمد وذِكْرِ الصلاة غيرُ مبطل لها، والعمل الكثير على وجه التوالي والاتصال عمداً - مبطل للصلاة، والدليل على أن القليل غير مبطل للصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في الصلاة أذُنَ ابن عباس، وأداره من يساره إلى يمينه (4).
ودخل أبو بكرة المسجد، فصادف رسول الله في الركوع، فخاف أن تفوته الركعة فركع منفرداً، ثم وصل إلى الصف بخطوة، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة، قال: "زادك الله حرصاً ولا تَعُد" (5) ولم يأمره بإعادة الصلاة.
__________
(1) زيادة من (ت 1)، (ت 2).
(2) زيادة من (ت 1)، (ت 2).
(3) ر. المختصر: 1/ 81.
(4) حديث ابن عباس متفق عليه. (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 145 ح 437).
(5) حديث أبي بكرة: رواه البخاري: الأذان، باب إذا ركع دون الصف، ح 783، وأبو داود: الصلاة، باب الرجل يركع دون الصف، ح 683، 684، والنسائي: الإمامة، باب الركوع دون الصف، ح 871، وأحمد: 5/ 39، 45، والطحاوي: 1/ 395، والبغوي في شرح =

(2/205)


وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مر المار بين يدي أحدكم وهو في الصلاة، فليدفعه، فإن أبى، فليدفعه، فإن أبى، فليقاتله، فإنه شيطان" (1).
وقيل في تفسير قوله شيطان، معناه المارّ من شياطين الإنس. وقيل: إنه ليس المقصود من دفعه منعَه، ولكن الشيطان لا يجسر أن يمر بين يدي المصلي وحده، فإذا مر بين يديه إنسي، رافقه، فقوله: "فإنه شيطان" معناه، "فإن معه شيطاناً".
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو علم المارّ بين يدي المصلي ما فيه لوقف أربعين" (2) وقد اختلف فيه فقيل: أربعين سنة، وقيل: أربعين شهراً، وقيل: أربعين يوماً، وقيل: أربعين ساعة.
921 - فإن قيل: هل من ضبطٍ في الفرق بين العمل القليل والكثير؟ قلنا: لا شك أن الرجوع في ذلك إلى العرف وأهله، ولا مطمع في ضبط ذلك على التقدير والتحديد؛ فإنه تقريب، وطلب التحديد في منزلة التقريب مُحال، ولكن كل تقريب له قاعدة، منها التلقي، وإليها الرجوع، فمطلوب السائل إذاً القاعدة التي عليها التحويم (3) في ذلك.
فنقول: الآدميُّ ذو حركات وسكنات، ويعسر عليه تكلفُ السكون على وتيرة في زمان طويل، ولا شك أن المصلي مؤاخذ بالخشوع، والخشوع هو إسكان الجوارح، ورأى رسول الله رجلاً يعبث بيديه في الصلاة، فقال: "هذا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه" (4). فالقدر الذي يُحمل صدورُه على ضرورة الخلقة والجبلة، ولا يحمل على الاستهانة بهيئة الخشوع والاستكانة مُحتمل، بل لا بد منه، وما فوقه إلى
__________
= السنة: 822، 823، وانظر (الإحسان: 5/ 568، 569، 2194، 2195، وتلخيص الحبير: 1/ 457).
(1) حديث: "إذا مر المار بين يدي أحدكم ... " متفق عليه من حديث أبي سعيد الخدري، في قصة له، مع تفاوت يسير في اللفظ. (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 100 ح 283).
(2) حديث: "لو علم المار": متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 101 ح 284).
(3) (ت 1)، (ت 2): التحريم.
(4) "لو خشع قلب هذا .. " حديثٌ موضوع. (ر. إرواء الغليل: 2/ 92 ح 373).

(2/206)


الانسلال عن الهيئة المطلوبة مضطرب، والفعل فيه تركٌ للأولى، وإذا تعدى الفعلُ هذا المسلك أيضاً، وانتهى إلى الانسلال عن السكون الذي يتميز فيه المصلي عن غير المصلي، فهو المبطل.
وعبَّر القفال عن هذا، فقال: كل مقدار من الفعل إذا رآه الناظر من بُعدٍ، غلب على ظنه أن صاحبه ليس في الصلاة، فهو الكثير، فهذا هو المعتبر، وقد ثبت في مضمون الآثار وقول الأئمة أن الصلاة لا تبطل بخطوتين متواليتين، وتبطل بالثالثة وِلاءً، وكذلك لو فرضت ضربتان، فالضربة الثالثة كالخطوة الثالثة.
فليتخذ الناظر هذا معتبرَه. وليس الرجوع في هذا التقريب إلى العدد؛ فإن من حرّك إصبعه مراراً كثيرة، لم يقابل ذلك خطوة، ولست أنكر أن التعديد والتقطيع أمر معتبر في هذا الباب؛ فإن الخطوة الواحدة لا تبطل، ولو قطَّعها المصلي، فجعلها ثلاث خطوات متواليات، لبطلت، فإن الخطو الوساعَ إن اتحد لا يعد كثيراً، وإذا تقطع عُدّ كثيراً، ولست أنكر أنه إذا خطا خطوتين واسعتين جداً وِلاءً، فإنهما في العرف قد يوازنان ثلاث خطوات. وقد اضطرب جواب القفال في أن الحركات الكثيرة في إصبع أو كفّ كحركات من يعقد ويحل، أو كحركات من يدير المسبحة هل تبطل الصلاة؟ فقال مرّة: جنس هذه الأفعال لا تبطل الصلاة؛ فإنها في طرف وكُثْر البدن (1) ساكن، وهيئة الخشوع غير مختلة.
وقال مرة: كثيرها يبطل. معتبراً برتبة الخطى والضربات.
922 - ثم تمام القول في ذلك أن ما استبنَّا بلوغَه حدَّ الكثرة، فمبطل، وما استبنَّا وقوعَه في حدّ القلة، فهو غير مبطل، وما ترددنا فيه، فينقدح فيه أوجه: أحدها - استصحاب صحة الصلاة.
والثاني - الحكم بالبطلان؛ فإنا مؤخذون بالإتيان بهيئة مطلوبة، ونحن شاكون في الإتيان بها وامتثال الأمر فيها.
والثالث - أنا نتبع غلبة الظن، فإن استوى الظنان، فالأصل دوام صحة الصلاة،
__________
(1) في (ت 2): اليدين.

(2/207)


والأظهر استصحاب الحكم بدوام الصلاة؛ فإن الهيئة التي ذكرناها وبنينا الكلامَ عليها ليست ركناً مقصوداً في الصلاة، كالركوع والسجود ونحوهما، وكأنها النظام والرابطة لأركان الصلاة، فإذا لم يتحقق انقطاعها، دامت، وسيأتي هذا ومثله مستقصىً في باب سجود السهو، إن شاء الله تعالى.
ثم إذا كثر الفعل في الصلاة، ولكنه وقع مقطعاً غيرَ متوالٍ، فلا تبطل الصلاة به، ويمكن أن يفرض في ركعة واحدة طويلة مائة خطوةٍ فصاعداً مع تخلل الفصول الطويلة. ثم المعتبر في الفصل المتخلل بين الفعل والفعل أن يُشعِر بالإضراب عن الفعل، ويتجاوز حد الثاني في قبيلٍ من الفعل يتمادى المرءُ عليه،، فهذا كله في الفعل الكثير الواقع عمداً.
923 - فأما إذا نسي الرجل الصلاة، وأوقع أفعالاً كثيرة، فللأئمة طريقان: أحدهما - أن القول فيها كالقول في الكلام الكثير الصادر من الناسي، وفيه وجهان مذكوران.
ومن أئمتنا من قال: أول مبلغ الكثرة في الفعل هو الذي يُبطل الصلاة عمدُه، فإذا وقع هذا من الناسي، لم تبطل الصلاة، وهذا المبلغ من العامد كالكلام اليسير من العامد، فإنَّ يسير الخطاب يَخْرِمُ أُبّهة الصلاة، كما أن كثير الفعل يخرِمُها، وما يجاوز مبلغَ أول الكثرة وينتهي إلى السَّرف، فهو من الناسي كالكلام الكثير في حالة النسيان، فهذا تمام القول في ذلك.
فرع:
924 - كان شيخي يذكر في الدروس خلافَ الأصحاب في أن الصوم هل يُشترط في الصلاة؟ حتى لو أكل المصلي أو شرب ولم يفعل فعلاً، تبطل صلاته، وكان يصحح اشتراط الصوم في الصلاة، وهذا الذي قطع به الأئمة في طرقهم، ولم يشر إلى الخلاف كما ذكره غيرُ العراقيين.
والوجه الحكم ببطلان الصلاة؛ فإن قليل الأكل كقليل الكلام في منافاة هيئة الصلاة.
وبالجملة الغرض الكلي من العبادات البدنية التي لا تتعلق بأغراض ناجزة -كسد الحاجات بسبب بذل الزكوات- تجديدُ الإيمان، ومحادثة القلوب بالمعرفة، والرجوع

(2/208)


إلى الله، وأجمعها لهذا الغرض الصلاة، ولذلك وجب فيها الانقطاع عن أفعال العادة، والانكفافُ عن خطاب الآدميين، والاستواء في صوبٍ واحد وتلقاءٍ واحد، وهو القبلة؛ فإن الانكفاف عن هذه الملهيات والانكبابَ على الأذكار يحصر الذهن ويذكر الحقائق، وقليل الأكل ينافي هذا الغرض، فإن لم نوجب الصوم، ألحقنا الأكل في الصلاة بالأفعال، وقد تفصَّلَ المذهب فيها. وهذا بعيد جداً، فإن أوجبنا الصوم، فكل ما يفسِد الصوم يفسِد الصلاة، وسيأتي تفصيل مفسدات الصوم في كتابه إن شاء الله تعالى.
925 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن المصلي لو زاد ركوعا أو سجوداً عمداً، بطلت صلاته عندنا، وإن كان الركوع الواحد لا يبلغ مبلغ العمل الكثير، وأبو حنيفة (1) لا يُبطل الصلاةَ بزيادة ركن، ويرعى فيها كثرةَ الفعل وقلَّته، ومعتمدنا أن الكثرة والقلة لا تُعنيان لأعيانهما، وإنما المتبعُ المعنى، فزيادة ركن يُظهر مخالفة النظم، ويعتبر بضدّ الأركان، وأما الأفعال، فلا بد من جريان قليلها في ضرورة الجبلّة، والقول في كثيرها ما سبق، وسنعود إلى هذا في باب السجود إن شاء الله تعالى.
فصل
926 - ما أدرك المسبوق، فهو أولُ صلاة المأموم، وإن كان آخر صلاة الإمام، وقد يخالف أبو حنيفة (2) في هذا، ويقول: ما أدركه محسوب له آخراً، وهو يتدارك الأول، وما ذكرناه له آثار، نشير إليها، فنقول: إذا أدرك المسبوق الركعة الأخيرة من صلاة الصبح، وقنت الإمام فيها، فإذا قام المقتدي واستدرك ما فاته، قنت ثانياً؛ فإن القنوت وقع في أول صلاته، ولكنه وقف (3) اتباعاً للإمام، ووفاء بما نواه والتزمه من المتابعة.
__________
(1) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 315، 316.
(2) ر. المبسوط: 1/ 190، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 293 مسألة: 251، رؤوس المسائل: 166 مسألة: 69.
(3) كذا في جميع النسخ الأربع (وقف) ولعل الصواب: "وقع" أو "قنت".

(2/209)


وإذا أدرك ركعة من صلاة المغرب، وقعد مع الإمام في التشهد الأخير، فإذا سلم الإمام، قام المسبوق، وصلى ركعة أخرى، وجلس للتشهد، وهذا تشهده الأول المحسوب، ثم يصلي ركعة ثالثة ويتشهد مرة أخرى، وهذا مطرد واضح.
927 - ولكن نقل المزني عن الشافعي أنه قال: إذا أدرك المسبوق الإمام في الركعتين الأخيرتين من الظهر أو العصر أو غيرهما، وصلّى مع الإمام ركعتين، ولما سلّم الإمام، قام ليصلي ركعتين، قال الشافعي: يقرأ في الركعتين اللتين يتداركهما السورة مع الفاتحة؛ فاعترض المزني، وقال: ما يدركه المسبوق أول صلاته على مذهب الشافعي، وما يقضيه من الركعتين آخرُ الصلاة، فلِمَ أمر المسبوق بقراءة السورة في الركعتين الأخيرتين من صلاته؟
فاختلف أئمتنا في الجواب، فقال بعضهم: أجاب الشافعي على استحباب قراءة السورة في كل ركعة، ولو أجاب على تَخْلِية الأخيرتين [عن قراءة السورة، لما أمر المسبوقَ بقراءة السورة، كما ذكره المزني] (1) وهذا غير مرضي عند المحققين؛ فإن فحوى كلام الشافعي دليلٌ على أنه لم يفرع على الأمر بقراءة السورة في كل ركعة؛ فإنه اعتنى بتصوير هذه (2 الصورة على التخصيص، وأمر فيها بقراءة السورة، فلو كان يأمر بها عموماً، لما كان لاعتنائه لتخصيص هذه الصورة 2) بالذكر معنى، فالصحيح أنه مع التفريع على اختصاص قراءة السورة بالأوليين يأمر المسبوق في هذه الصورة بقراءة السورة. والسبب فيه أن إمامه لم يقرأ السورة في الركعتين الآخرتين اللتين أدركهما المسبوق حتى يقع وقوفُ المأموم لقراءته واستماعه موقع قراءته في نفسه، فقد فاتته قراءة السورة، فليتداركها في الركعتين المقضيتين، فهو إذن قاضٍ لقراءة السورة، وليس مُقيماً وظيفة الركعتين الأخيرتين.
وهذا يناظر نص الشافعي في الجمعة، حيث قال: إذا ترك الإمام قراءة سورة الجمعة في الركعة الأولى أعادها في الركعة الثانية مع سورة المنافقين.
__________
(1) سقط من الأصل، و (ط).
(2) ما بين القوسين سقط من (ت 2).

(2/210)


فإن قيل: قد قال الشافعي: لو ترك الطائف الرَّمَل في الأشواط الأُوَل من الطواف، لا يتدارك الرمل في الأشواط الأخيرة، فما الفرق؟ قلنا: المشي على الهينة والسكينة سنة في الأشواط (1 الأخيرة، كما أن الرمل سنة في الأشواط 1) الأول، فلو رمل في الأخيرة، لترك سنة ناجزة لتدارك سنة فائتة، وتركُ القراءة في الركعتين الآخرتين لا نعده من السنن، ولكنه من التخفيف الذي تأكد بالاتباع، فليس ترك قراءة السورة هيئة مقصودة، والمشي والسّكينة في الأشواط الأخيرة هيئة مقصودة مأمور بها. فهذا منتهى الإمكان في الفرق، والاحتمال ظاهر في مسألة المسبوق، كما ذكره المزني وتابعه من تابعه.
فصل
قال: "ويصلي في الجماعة كلَّ صلاة صلاها ... إلى آخره" (2).
928 - من صلى صلاة من الصلوات الخمس منفرداً، ثم أدرك جماعة، استحببنا له أن يعيدها في الجماعة، ولا فرق بين صلاة وصلاة.
وقال أبو حنيفة (3): يعيد الظهر والعشاء، فأما الصبح، والعصر، والمغرب، فلا يعيدها، وبنى مذهبه في الصبح والعصر على أنهما يستعقبان وقتاً مكروهاً، وعنده أن الصلوات، وإن كان لها أسباب، لا تقام في الأوقات المكروهة، وأما المغرب؛ فإنه لم ير إعادتها؛ لأنها وتر النهار، وإذا أعيدت صارت شفعاً.
وقد ذكر شيخي في درسه وتعليقه وجهاً عن بعض أصحابنا مثلَ مذهب أبي حنيفة، في أنه لا يعيد هذه الصلوات الثلاث، وإن انفرد بها أولاً وأدرك جماعة ثانياً. وهذا لست أعده من المذهب، ولا أعتد به.
فالمذهب القطع بأنه لو انفرد بالصلاة، ثم أدرك جماعة [أعادها، ولا فرق بين صلاة وصلاة.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) ر. المختصر: 1/ 282.
(3) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 480.

(2/211)


929 - ولو صلى في جماعة، ثم أدرك جماعة] (1) فهل يعيدها مرة ثانية؟ فيه وجهان مشهوران، ذكرهما الصيدلاني وغيره، أحدهما - أنه يعيدها لينال فضيلة الجماعة الثانية أيضاً.
والثاني -وهو الأصح عند الصيدلاني- أنه لا يعيدها؛ فإن ذلك لو قيل به، لزم مثله في إدراك جماعة ثالثة ورابعة، وهذا يخالف ما كان عليه الأولون.
فإن قلنا: يعيدها، فلا فرق بين صلاة وصلاة؛ فإنا على هذا الرأي نراها صلاة لها سبب، والصلوات ذوات الأسباب لا يكره إقامتها في الأوقات المكروهة، وتكون كما لو انفرد أولاً ثم أدرك جماعةً، وإن لم نر إعادتَها مقصودة، فهو في حكم متنفل متطوّع بصلاة لا سبب لها، فعلى هذا لا يكره ذلك في الظهر والعشاء، ويكره في الصبح والعصر؛ فإنهما يستعقبان وقتا مكروهاً. والصلاة لا سبب لها فيما نفرع عليه. فأما المغرب، فلا تستعقب وقتاً مكروهاً، ولكن التنفل بثلاث ركعات مما لا نراه في غير وتر الليل، فَلْيَزِدْ ركعةً أخرى حتى تصير الصلاةُ أربعَ ركعات.
ثم نقول: لا ينبغي أن ينوي الفرض أصلاً في هذا التفريع، بل ينوي صلاة التطوع.
930 - وإذا انفرد بالصلاة أولاً، ثم وجد جماعة، فأعاد الصلاة، فالفريضة أيتهما؟ فعلى قولين: أحدهما - أن الفريضة هي الأولى؛ فإنها لو اقتصر عليها، كفته.
والثاني - أن الفريضة إحداهما لا بعينها، والله يحتسب بأكملهما.
وذكر شيخي عن بعض الأصحاب أن الفريضة هي الثانية؛ فإنها الكاملة بالجماعة، ويتبين بالأخرة أن الأُولى وقعت نفلاً، وهذا مزيف مردودٌ، ولا أعده مذهباً.
ثم قال الصيدلاني: إذا حكمنا بأن الفريضة هي الأولى، فَنَنْدُبُ إلى الثانية في الصبح والعصر؛ فإن هذه صلاة لها سبب، وأما المغرب، فإنه تُعاد أيضاً، ولكن
__________
(1) ساقط من الأصل، وأثبتناه من (ت 1)، (ت 2).

(2/212)


ينبغي أن يضم إليها ركعة أخرى؛ فإن التنفّل بالثلاث في هذا الوقت غيرُ مأثور ولا مأمور به، وهذا حسن بالغ.
ثم إن حكمنا بأن الفرض إحداهما لا بعينها، فلا شك أنا نأمره بأن ينوي الفريضة فيهما جميعاًً، وإن حكمنا بأن الفريضة هي الأولى، فهل ينوي بالثانية المقامة في الجماعة الفريضة؟ تردَّد الصيدلاني فيه، واختار أن ينوي الفريضة، وهذه هفوة؛ فإن أمره بنية الفريضة مع القطع بأن الصلاة التي يقيمها ليست فريضة محال.
نعم الوجه أن يقال: وإن حكمنا بأن الصلاة الثانية ليست فريضةً، فينبغي أن ينوي تلك الصلاة، وهي الظهر والعصر، ولا يتعرض للفريضة، فيكون ما جاء به ظهراً مسنوناً، كالظهر من الطفل، وفيما ذكرته احتمال. ولو نوى النافلة، ولم يعيّن الظهر، فيبعد أن يصير بالجماعة في النافلة مستدركاً لِما فاته من الجماعة في صلاة الظهر، فعلى هذا إذا كان ينوي المغرب، فما ذكره الصيدلاني من ضم ركعة رابعة لا أصل له؛ فإن المغرب لا يكون أربع ركعات، ولا تبعُد صلاة مغرب غيرِ مفروضة، والعجب منه مع حسن إيراده في هذا الفصل أنه قال: إذا حكمنا بأن الصلاة الثانية نفل، فيضم ركعةً إلى المغرب، ثم قال: وعلى كلا الوجهين ينبغي أن ينوي الفرض، وهذا خبط وخروج عن الضبط، وقد لاح ما يكتفي به الفطن، والحمد لله وحده.
فصل
قال: "ومن لا يستطيع إلا أن يومىء أومأ ... إلى آخره" (1).
931 - القيام في الصلاة المفروضة ركن مقصود عندنا، فإن عجز عنه المكلّف قعد، فلو اعتمد القادر على شيء في قيامه من غير حاجة وضرورة، أو اتكأ، لم تصح، فليكن مستقلاً في قيامه مقلاًّ نفسه، ولو كان لا يتمكن من القيام إلا متكئاً أو معتمداً، فلا يجوز له أن يقعد، من حيث إنه عجز عن القيام على صفة الاستقلال، بل
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 83.

(2/213)


قيام المتكىء أولى من القعود، فلا يجوز الانتقال إلى القعود إلا عند العجز عن صورة القيام، وإذا عجز عن القيام، قعد حينئذ، ولا يجب في القعود هيئة مخصوصة، فلو قعد مفترشاً، أو متوركاً، أو متربعاً، أو مُقْعياً رافعاً ركبتيه، فكل ذلك جائز.
932 - ولو قدر على القيام ولكن لا يقدر على الركوع والسجود أصلاً، فيلزمه القيام، ثم يومىء بالركوع والسجود.
وأبو حنيفة (1) يُسقط القيامَ في هذه الصورة، وهذا يدل على أن مذهبه أن القيام ليس ركناً مقصوداً، وهذا ساقط؛ فإنه وإن اعتقده محلاً، فكان يلزمه ليقرأ قائماً.
أما نحن، فنوجب القيام لنفسه وعينه، وإذا لم يتمكن من القيام على هيئة الانتصاب، فَلْيَقُم على انحناء، وليتخِذْ في هذا حديثَ النبي صلى الله عليه وسلم معتمده حيث قال: "إذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما اسْتطعْتم" (2)، ولو كان لا يقدر على الارتفاع من حد الراكعين، فالذي دل عليه كلامُ الأئمة أنه يقعد، ولا يجزئه غيره؛ فإن حد الركوع مفارقٌ لحد القيام وحكمه، وهو أيضاً هيئة ركن في نفسه يخالف هيئة القائمين.
933 - ولو عجز عن الانتصاب على قدميه، لكن قدر على الانتهاض على ركبتيه، كان شيخي يتردد في وجوبه، وهو محتمل من جهة أن هذا لا يسمىَ قياماً، والانحناء فوق حد الراكعين يسمى قياماً.
934 - فإذا أراد القعود عند العجز عن القيام، فقد اختلف أئمتنا في الهيئة المختارة المطلوبة، فنقل المراوزة نصين: أحدهما - يفترش كما يفترش القاعد في التشهد الأول، والثاني - أنه يتربع، ثم جعلوا ذلك قولين، ووجهوا قول التربع بأنه لو افترش، لالتبس جلوسه في التشهد الأول بقيامه، ونحن نرى الفصل بين التشهدين في
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 324 مسألة: 288، الهداية مع فتح القدير: 1/ 460، حاشية ابن عابدين: 1/ 299.
(2) متفق عليه من حديث أبي هريرة (اللؤلؤ والمرجان: 2/ 73 ح 846).

(2/214)


حق القادر، بالافتراش والتورك، فينبغي أن يقع الفصلُ بين القعود الواقع بدلاً عَن القيام، وبين القعود للتشهد.
والقول الثاني - وهو الذي ارتضاه شيخي: أنه يفترش، فإن التربع ليس يليق بهيئة الخاضعين لله عز وجل في الصلاة، وذكر بعض المصنفين أنه يتورك في القعود الواقع بدلاً، وهذا عندي غلط صريح لا يتوجه.
وقد سمعت من أثق به أن القاضي حسين كان يرى الأَوْلى أن ينصب ركبته اليمنى [ويحتبي عليها] (1)، كالذي يجلس في اعتيادنا قارئاً على من يقرئه، فهذا خارج عن الإقعاء؛ (3 فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: "لا تُقعوا إقعاء الكلاب" (2). وهو منفصل عن الافتراش والتورك، وليس جلسة المتنعمين كالتربع، وإذا لم يرد ثَبَت شرعي، ورُدَّ الأمر إلى نظرنا، وبان أن المطلوب الفصلُ، وتوقَي هيئات أصحاب الترفه والتنعم، فالذي ذكره قريب في ذلك.
ولو قعد على رجليه جاثياً على الركبتين، فلست أرى به أيضاً بأْساً، وليس ذلك إقعاء 3)؛ فإن الإقعاء هو الجلوس على الوركين ونصب الفخذ والركبتين وهكذا يكون الكلب إذا أقعى.
935 - فإن عجز عن القعود أيضاً، واضطر إلى الانبطاح، فعل ذلَك، وفي كيفية هيئته اختلاف. فالمذهب المشهور الذي عليه التعويل أنه يقع على جنبه الأيمن مستقبلاً بجميع مقاديم بدنه القبلة، كالذي يوضع في قبره.
__________
(1) في الأصل وفي (ط): ويحنو على اليسرى، وفي (ت 2)، ومختصر ابن أبي عصرون: يحني على اليسرى. ومطموسة تماماً في (ت 1)، والمثبت في نسخة أخرى: بهامش (ت 2). وهو الصواب -إن شاء الله- فإن الاحتباء هو أن يجلس على إليتيه، ويضم فخذيه وساقيه إلى بطنه.
(2) حديث النهي عن إقعاء الكلب على نحو ما ساقه إمام الحرمين، رواه ابن ماجه من حديث علي وأبي موسى. وتكلم الحافظ في بعض رواته، وصحح الألباني حديث علي رضي الله عنه.
(ر. تلخيص الحبير: 1/ 225 ح 335. وابن ماجه: إقامة الصلاة، باب الجلوس بين السجدتين، ح 895، وصحيح ابن ماجه: 1/ 47 ح 730).
(3) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2). ومطموس تماماً في (ت 1)، وهو نحو سبعة أسطر.

(2/215)


وقال أبو حنيفة (1): ينبغي أن يكون مستلقياً وأخمصاه إلى القبلة على الهيئة المعتادة في المحتضرين، وصار إلى ذلك بعض أصحابنا، وهذا الخلاف ليس راجعاً إلى الأولى، بخلاف ما فرعنا الآن من هيئة القاعد، بل هو اختلاف فيما يجب، وإنما قلنا ذلك؛ لأن أمر الاستقبال يختلف به اختلافاً ظاهراً.
وفي بعض التصانيف وجة ثالث، وهو أنه يكون على جنبه الأيمن، ولكن أخمصاه إلى القبلة، وهذا غلط غير معتد به. ولست أرى له وجهاً، والأصل فيما ذكرناه حديث رواه من يُعْتَمَدُ في رؤوس (2) مسائله عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يصلّي المريض قائماً، فإن لم يستطع صلى جالساً، فإن لم يستطع القعود (3) أومأ، وجعل السجود أخفض من الركوع، فإن لم يستطع صلى على جنبه الأيمن مستقبل القبلة وأومأ بطرفه، فإن لم يستطع، صلّى على قفاه مستلقياً، وجعل رجليه مستقبل القبلة" (4)، فهذا حديث ساقه عليّ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيجب القطع باتخاذه مرجعاً، ثم الاستلقاء وإن كان مذكوراً في الحديث، فهو بعد العجز عن الاضطجاع مع الاستقبال بجميع البدن كما نص عليه، ولكنه على الجملة مذكور.
وفي الاستلقاء معنى لا يبعد تخيله إذا سبق إليه من لم يبلغه الخبر، وهو أن العاجز يومىء بالركوع والسجود، كما سنذكره، فإذا كان مستلقياً، وقع إيماؤه في صوب القبلة، ولا يكون الأمر كذلك إذا أومأ على جنب، (5 فأما إذا كان على جنب 5)
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 1/ 106، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 256 مسألة: 206، الهداية مع فتح القدير: 1/ 458.
(2) رؤوس المسائل: لعله اسم كتاب لأحد الأئمة ولم نصل إلى اسم صاحبه.
(3) كذا في الأصل. وفي ط، و (ت 1)، وفي متن الحديث: "إذا لم يستطع أن يسجد أوْمأ" أما (ت 2) فقد سقط منها ذكر حالة القعود، وحالة الاستلقاء.
(4) حديث علي "يصلي المريض قائماً ... " رواه الدارقطني: 2/ 42 باب صلاة المريض، ومن رعف في صلاته كيف يستخلف. وقد ضعّف الحافظ إسناده. (ر. تلخيص الحبير: 1/ 226 ح 337).
(5) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(2/216)


وأخمصاه إلى القبلة، فليس لهذا ذكر في الخبر، ولا يشير إليه معنى متخيل.
فهذا كله في القيام والعجز عنه وعن القعود.
936 - ونحن نذكر بعد ذلك الإيماءَ بالركوع والسجود، فأما القاعد إن قدر على الركوع والسجود، وجب عليه الإتيان بهما، وسجوده كسجود القادر على القيام، فأما الركوع، فنذكر حد أقله، قال صاحب التقريب: ينثني مقداراً يناسب انحناءه بالإضافة إلى القيام، فيجعل كأن قامته مقدار انتصابه في قعدته، ويعتبر نسبة انحنائه من قيامه لو كان قائماً، ثم ينثني مثل تلك النسبة في قعوده، وقد رأيت في حد الركوع في ألفاظ الأخبار أنه ينحني بحيث تنال راحتاه ركبتيه، وليس ذلك بيانَ الكمال. فإنا ذكرنا أن الأكمل وراء هذا، فيتعين صرف هذا في الحديث إلى بيان الأقل، ثم يعتبر اعتدال الخلقة في طول البدن وقصرها، ثم نتخذ هذه النسبة معتبرنا في حق القاعد.
وقد ذكر بعض الأئمة في أقل ركوع القاعد أنه ينحني بحيث يقابل وجهُه ما وراء ركبتيه من الأرض، ثم بأدنى المقابلة يكون مؤدياً لأقل المفروض عليه، وعند تحصيل هذه المقابلة يكون متشوفاً إلى طلب الكمال. وهذا ليس مخالفاً لما ذكرناه قبلُ.
937 - وتمام البيان عندي في ذلك، أنه إذا جاوز وجهه الحد الذي يسامت ركبتيه، فذقنه يحاذي الأرضَ، وليس يبعد أن يقال: طلب الكمال في ذلك بأن يفعل ذلك، ويطأطىء وجهَه حتى يحاذي جبهتُه موضعَ سجوده، وهذا يناظر في هيئة الكمال مدَّ القادر الذي لا مانع به في الركوع ظهره ورقبته على استواء، غير أن الاستواء غيرُ ممكن من القاعد.
ولو كان يعجز عن القيام، فأقام القعودَ مقامه، وكان لا يعجز عن هيئة الركوع، تعين عليه أن يرتفع إلى حد الراكعين؛ فإن المقدور عليه لا يسقط بسقوط المعجوز عنه.
938 - ومما يتعلق بذلك أنه إذا كان لا يقدر على إتمام السجود، لزمه أن يأتي بما يقدر عليه اعتباراً بما مهدناه من وجوب الإتيان بالمقدار المقدور عليه، فلو كان يقدر على مقدارِ أقل الركوع في حق القاعد، فلا نقول: نقسم ذلك المقدار بين الركوع

(2/217)


والسجود، ونصرف شيئاًً إلى الركوع والزيادةَ عليه إلى السجود، فإنا لو فعلنا هذا، كنا مسقطين عنه أقلَّ الركوع مع قدرته عليه، ولكن يأتي بالركوع عما عليه من وظيفة الركوع، ثم ينحني مرةً أخرى عن السجود، ولا يضر استواؤهما، كما يستوي فرضُ القيام في حق القاعد، وفرضُ القعود للتشهد الأخير، ولا يجوز غيرُ هذا، ولو كان يقدر على انثناءٍ يزيد على مقدار الأقل، وكان يزيد على مقدار الكمال أيضاً، فالوجه أن يأتي بما هو على حد الركوع، ثم يأتي بالزيادة على حد الكمال عن السجود؛ فإن الفرق على حسب الإمكان بين الركوع والسجود واجب، وذلك ممكن في الصورة التي ذكرناها، ولا يجب الفرق بين القعود الواقع بدلاً عن القيام، وبين قعود التشهد، وهذا ظاهر، وليس عرياً عن الاحتمال، فَلْيتأمله الناظر.
ولو كان يقدر على أقل حد الركوع، وعلى ما ينتهي إلى حد الكمال، فليس يظهر عندي تكليفه الاقتصار على حد الأقل، ليكون الزائد عليه عن السجود، وليترتب عليه تحصيلُ الفرق بين السجود والركوع - ظهورَه (1) في الصورة التي قبل ذلك؛ فإن تلك مفروضة في زيادةٍ مجاوزةٍ حدَّ الراكعين، وهاهنا الكلُّ واقع في حد الركوع، ومنعُه من الركوع التام حالةَ الركوع بعيد.
939 - ولو كان يصلي مضطجعاً، أو على قفاه، كما ذكرناه، وكان لا يقدر على الركوع والسجود أصلاً، فقد قال الأئمة: يلزمه أن يومىء بطرفه إلى الركوع والسجود، والذي ذكروه معتضده الحديث الذي رويناه عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه نص على الأمر بالإيماء، فليعتقد الفقيه أن الإيماء بالطرف حتمٌ.
940 - فإن لم يبق في أجفانه حراك، لزمه أن يُجريَ صورةَ الركوع والسجود على قلبه، وذلك أيضاً حتمٌ عند الأئمة، وذلك بأن يمثِّل نفسَه راكعاً وساجداً، ثم يجريهما على الذكر تامَّيْن؛ فإنه لا يعجز عن ذلك فكراً إن عجز فعلاً.
941 - ثم إن لم يكن لسانه معتقلاً، أتى بالقراءة وبالأركان، وإن اعتُقل لسانُه،
__________
(1) "ظهورَه" متصل بقوله: "فليس يظهر"، فهو مفعولٌ مطلق.

(2/218)


لزمه (1 إجراءُ تكبير العقد، والقراءة، والتشهد والصلاة في أوقاتها على قلبه، وهذا أظهر من 1) إجراء الأركان الفعلية على القلب؛ فإن حقيقة الكلام عند أقوامٍ هي الفكر القائم بالنفس، فإن اقمنا كلام النفس مقام قراءة اللسان، لم يبعد (2).
فإن قيل: ما الذي اعتمدتموه في إجراء ذكر الأركان وتمثيلها في الفكر؟ قلنا: قد ثبت في الحديث أنه أمر المستلقي بالصلاة، والصلاة في الشريعة عبادة مخصوصة، ذاتُ أركان قولية، وفعلية، فلا يُتصور اعتقادها عند سقوط الأفعال الظاهرة إلا بإجرائها في الفكر، وهذا حسنٌ لطيف.
فإن قيل، فأسقطوا فريضة الصلاة، لعدم تصوّرها، ولا توجبوا [تخيلها] (3)، كما أسقطها أبو حنيفة (4)، قلنا: منعنا من ذلك الحديث؛ فإنه عليه السلام أمر المستلقي بالصلاة، وهو ساقط الحركات، ثم إذا اضطررنا إلى الإيجاب، فلا يوجد (5) إلا بما ذكرناه، وليس يبعد أن يقال: صلى فلان بقلبه.
942 - ومما يتعلق بإتمام ذلك أن القادر على بعض الركوع وبعض الانحناء للسجود، مأمور بأن يأتي بما يقدر عليه، كما ذكرناه، وهل يجب أن يتخيل تمامه بقلبه ويجريه على ذكره؟ هذا محتمل عندي، يجوز أن يقال: الفكر للعاجز عن أصل الفعل بالكلّية، فأما إذا كان يقدر على شيء من الفعل، أغناه ذلك عن الفكر، وهذا هو الظاهر عندي؛ إذ لا خلاف أن القاعد العاجز عن القيام، لا يلزمه أن يُجري القيام في ذكره، وقد ينقدح فرقٌ في هذا بين القيام المعجوز عنه، وبين الركوع والسجود.
فرع:
943 - المفترض إذا عجز عن القيام صلى قاعداً. والمتنفل يصلّي قاعداً مع القدرة على القيام، وهل يتنفل على جنب، أو مستلقياً مومياً، كما يفعله المريض
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) في (ت 2): ينعقد. وهو تحريف ظاهر.
(3) في الأصل، و (ط)، و (د 4): تخليها. والمثبت من (ت 2).
(4) ر. بدائع الصنائع: 1/ 107، الهداية مع فتح القدير: 1/ 459.
(5) في (ل): "فلا وجه".

(2/219)


المضطر في صلاة الفريضة؟ فيه اختلاف. ولعل الأصحَّ المنعُ؛ فإنه خروج عن هيئة المصلّين بالكلية.
قلت: ومن جوَّز ذلك في النفل، فما عندي أنه يجوز الاقتصار على ذكر القلب في القراءة والتكبير والتشهد والتسليم، وهذا يُضعف أصلَ الوجه؛ فإن ذكر القلب إلى قراءة اللسان أقرب من إجراء أمثال الأفعال في الفكر مجرى صورها فعلاً. ولو ارتكب المفرع على هذا الوجه الضعيف جواز الاكتفاء بقراءة القلب، كان طارداً للقياس، ولكنه مسرفٌ في الخروج عن الضبط، منتسب إلى الاقتحام.
944 - وأنا أذكر في ذلك تحقيقاً ينتجح به طالب الفقه، فأقول: قد ذكرنا فيما تقدم في كتاب الطهارة من تقاسيم الضرورات والمعاذير، أنا لا نشترط في القعود في الصلاة المفروضة - بدلاً عن القيام نهايةَ الضرورة، وعدمَ تصوّر القيام في الإمكان. وأنا أقول الآن: ينبغي أن يُشترط في الاضطجاع في الفريضة الضرورةُ، وعدمُ تصور القعود، أو خيفةُ هلاك، أو مرضٍ طويلٍ، وأرى أقربَ المراتب شبهاً بهذا رتبةَ المتيمم في مرض وجُرحٌ به، وقد سبق ذلك مفصلاً.
وعلى الجملة لا أكتفي في ترك القعود بالاضطجاع بما أكتفي به في ترك القيام بالقعود.
ولعل الشرع جوز التنفل قاعداً تهويناً لأمر القيام، والذي يوضّح الغرضَ في ذلك أن الأئمة لما قسموا الأعذار إلى العامة والنادرة، عَدّوا ما يقعد المصلي لأجله من الأعذار العامة، والمرض الذي لا يتصور معه القيام ليس بعام، ولكنهم لما اعتقدوا أنه يُكتفى في القيام بما دون الضرورة، ألحقوا ذلك بما يعم، وأما ما يضطجع المصلي لأجله، فإنهم ألحقوه بما يندر ويدوم، وهذا مشعر بما ذكرته من اشتراط مزيد ضرورة في الاضطجاع (1). ثم إذا صلّى المريض على حسب الإمكان، لم يلزمه القضاء، فإنه إن قعد، فالعذر عام، وإن اضطجع، فالعذر نادرٌ دائم، وقد ذكرنا أنه لا قضاء في القسمين جميعاًً.
__________
(1) عبارة (ت 2) فيها زيادة وسقط، هكذا: ... في الاضطجاع (فالعذر نادر دائم) وقد ذكرنا.

(2/220)


فصل
945 - إذا كان بالإنسان رمدٌ متمكن مؤلمٌ مؤذٍ، فقال من يوثق به: لو اضطجعت أياماً، وعولجت، برَأت، فهل يصلي مضطجعة لهذا العذر؟ قال العراقيون: هذه المسألة ليست منصوصة للشافعي، وللعلماء فيها اختلاف، ونقلوا خلاف العلماء في جواز ذلك، ثم قالوا: وما يقتضيه أصل الشافعي أنه لا يجوز الاضطجاع لهذا، واستدلوا بما روي أنه لما قرب ابن عباس من العمى، قال له بعض الأطباء: لو صبرت سبعةَ أيامٍ مضطجعاً، وعالجتُك برَأت عينُك، فاستفتى ابنُ عباس رضي الله عنه عائشةَ وأبا هريرة، فلم يرخّصا له في ذلك، وكُفَّ بصرُه (1).
قلت: إذا لم يكن للشافعي في ذلك نص، وقد نقلوا في ذلك خلاف العلماء، فالمسألة محتملة، وفساد البصر شديد، وتكليف المصلي ما يغلب على الظن منه عماه بعيد، وما ذكروه من حديث ابن عباس واستفتائه تعلقٌ بمذهب آحادٍ من الصحابة، وهو حكاية حال، فلعلهم لم يثقوا بقول الطبيب، ورأَوْا الأمرَ شديداً، والعلاجَ غيرَ مجد، والله أعلم.
ثم إن قال قائل: القيامُ في نفسه مقدور عليه، وليس في عينه عجزٌ؟ قيل: إيصال الماء إلى محل الجروح ممكن، ولكن مخوفُ العاقبة (2)، ثم إن صح ما قاله
__________
(1) هذا الأثر عن ابن عباس رواه البيهقي، وفيه أنه سأل عائشة، وأم سلمة، وقد علق عليه النووي في المجموع قائلاً: رواه البيهقي بإسنادين أحدهما صحيح، والآخر ضعيف، ثم تعقب روايتنا هذه قائلاً: "وقع عند الغزالي في الوسيط: أن ابن عباس استفتى عائشة، وأبا هريرة، وهو باطل فلا أصل لذكر أبي هريرة" ا. هـ. وقد تبع النوويُّ ابنَ الصلاح في إنكاره على الغزالي، والحق مع إمام الحرمين وتلميذه الغزالي، فقد قال الحافظ "فأما استفتاؤه لأبي هريرة، فأخرجه ابن أبي شيبة، وابن المنذر" ا. هـ. (ر. السنن الكبرى: 2/ 309، والتلخيص: 1/ 228 ح 339، ومشكل الوسيط لابن الصلاح والتنقيح للنووي - بهامش الوسيط: 2/ 108، 109).
(2) المعنى أنه كما يجوز التيمم مع وجود الماء وإمكان إيصاله إلى محل الجروح؛ خوفاً من العاقبة وفساد الجرح، فيجوز الاضطجاع مع القدرة على القيام إذا كان القيام مخوف العاقبة.

(2/221)


العراقيون، فالذي أراه في ذلك أن القعود إذا كان مُغْنياً في دَرْء غائلة الرمد، قعد بلا خلاف؛ فإنا نكتفي فيما يجوز القعود لأجله بما يُضجر ويُقلق، ويسلب خضوع الصلاة، وهذا المعنى دون خوف فوات البصر، وقد نصّوا على تخصيص المسألة بالاضطجاع، فليتأمل الناظر الفطن مواضع النظر.
946 - ومما يتعلق بصلاة العاجز، أن القادر على القيام إذا طرأ عليه عجز، قعد وبنى، والعاجز عن القيام إذا وجد خفة في أثناء قعوده، قام وانتصب، وبنى على صلاته، ثم إن كان القائم في أثناء قراءة الفاتحة، فعجز، فليختتم القراءة في هُويه إلى القعود؛ فان ذلك أقرب إلى حد القيام، وليس ما ذكرناه استحباباً، بل يجب مراعاة ذلك، بناء على ما ثبت من رعاية الأقرب إلى الامتثال.
ولو وجد القاعد في أثناء الفاتحة خفة، وأراد القيام، فلا يقرأ في طريقه إلى القيام؛ فإنه إذا تمكن من إيقاع القراءة في القيام، لم يكتف بما دونه، ثم إذا قام، لم نوجب عليه إعادةَ الفاتحة في القيام، بل يقرأ بقيةَ الفاتحة؛ فإنه إذا كان يبني بعض [الصلاة على بعض، في طوْري النقصان والكمال، فكذلك يبني بعض] (1) القراءة على بعض.
ومما نذكره في ذلك أن العاجز إذا وجد خفّة، وكان قد فرغ من القراءة، ولم يركع بعدُ، فيلزمه أن يقوم، ثم يهوي راكعاً؛ فإن الهُويَّ من القيام إلى الركوع مأمور به، وقد تمكن هو من ذلك، فَلْيَأْتِ به وكذلك إذا كان فرغ من الركوع، ثم وجد من نفسه خفة لمَّا اعتدل قاعداً، فَلْيَقم ولْيسجد عن قيام تام.
947 - قلت: في هذا المقام لطيفة يقضي الفطِن منها العجَبَ، وأنا أقول فيها: إذا اعتدل العاجز عن الركوع قاعداً، فوجد خفة، فليقم كما ذكرته، ويجب والحالة هذه الطمأنينةُ، على ما ذكره الأئمة في اشتراط الطمأنينة في الاعتدال عن الركوع.
فأمّا إذا وجد خفة، وقد قرأ قاعداً، فأمرناه بالقيام ليهوي راكعاً، فأمرُ الطمأنينة في هذا القيام متردد عندي؛ فإنه إن ظن ظان أن الاعتدال عن الركوع ركن مقصود،
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من (ت 1)، (ت 2).

(2/222)


فما أرى ذلك ظاهراً في هذه القومة، التي وجبت لأجل الهوي منها إلى الركوع؛ فإنها غير مقصودة قطعاً، ولا يمتنع أيضاً أن يقال: ينبغي أن يكون الركوع عن سكون وقيام، وإذا لم نجد نصاً، فالرجوع إلى قضايا النُّهى، وليس لنتائج القرائح منتهى.
ولو ركع الراكع، ثم وجد في الركوع خفة، فلا نأمره أن يقوم ويهوي راكعاً، بل نقول: لو فعل ذلك، بطلت صلاته؛ فإنه يكون آتياً بركوعين بينهما قيام في ركعة واحدة، ولكنه إذا وجد خفة كما ذكرناها في الركوع، ففد قال الأئمة: يجوز أن يرتفع راكعاً حتى ينتهي إلى ركوع القادرين على القيام، ولم ينصُّوا على أنه يجب ذلك.
وأنا أقول فيه: إذا وجد الخفة قبل حصول الطمأنينة، فالظاهر أنه يجب عليه الارتفاع إلى ركوع القائمين.
فإن قيل: قد لابس البدلَ، فهلاَّ جاز إتمامه والاكتفاء به؟ قلنا: نصبُ القدمين إلى معقد النطاق حتمٌ في الركوع كما مضى في فصل الركوع، فَلْيَأت به، وبالجملة، القول في ذلك متردّد محتمل.
وإن ركع واطمأن عن قعوده، ثم وجد بعد ذلك خفة، فالظاهر أنه لا يجب الانتهاء إلى ركوع القائمين؛ فإنه وجد الخفة بعد كمال الركوع، ولا يمتنع أن يقال: يجب ذلك، مادام ملابساً للركن، تخريجاً على أن الركن إذا مدّ، فجميعه فرضٌ، أم الفرض منه مقدار الاكتفاء أولاً؟ وقد سبق في هذا كلامٌ تام، في الأمّي إذا تعلم الفاتحة وهو قائم.
فلينعم الطالبُ فكره جامعاً وفارقاً في هذه المسائل. ولن ينتفع بهذا المجموع إلاّ من هو في الفقه مطلع على مسالكي في المذهب والخلاف والمأمول من فضل الله أن يُعمّمَ النفعَ به، ويجعلَه خالصاً لوجهه، إنه على ما يشاء قدير، وبإسعاف راجيه جدير.
948 - ولو قدر العاجز عن القيام في أثناء القعود، لم يجز له أن يلبث قاعداً؛ فإن القعود في هذا الوقت مشروط بالعجز، وقد زال العجز، فليترك القعودَ.

(2/223)


ثم قد ذكرنا أنه إن لم يكن ركع، قام وهوى منه راكعاً، وإن كان ركع، قام وهوى ساجداً. فإن كان هذا بين السجدتين، فهذا أوان القعود، فلا يقوم؛ إذ الفاصل بين السجدتين في حق القادر هو القعود.
وغرض هذا الفصل أنا حيث نأمره بالقيام لا يجوز له أن يلبث قاعداً، ولو لبث، وقد كان تمم القراءة، فإنما نأمره الآن بالقيام ليهوي راكعاً أو ساجداً، فعلى ماذا يترك قعودَه، ومَا المعتبر فيه؟ فالوجه أن يقدر كأنه قعد [بسبب وقد زال، فليبتدر قطعَ قعوده، ولو مكث كان كما لو قعد] (1) قعدةً في أثناء قيامه في حال قدرته، وإن فرض ذلك، بطلت الصلاة به، وكل ذلك إن فرض مع العمد والعلم؛ فإنه لا يجوز.
ثم إن أمرناه بأن يقوم، فاشتغل بحركات الانتهاض، وواصلها، كما يفعله في انتقالاته، كفاه ذلك، والمكث الذي ذكرناه وحكمنا بكونه مبطلاً هو الطمأنينة التي وصفناها، فإذا قصد مثلَها مع العلم، كان مبطلاً للصلاة.
فهذا منتهى ما نراه في ذلك.
949 - ثم يجوز اقتداء القادر بالعاجز، وكل واحد منهما يصلّي على حسب حاله، فيقوم المقتدي القادر على القيام خلف العاجز، وسيعود ذلك في أحكام الجماعات، إن شاء الله تعالى.
فصل
950 - قد ذكرنا (2) في خلال الكلام النهيَ عن المرور بين يدي المصلي، وروينا فيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال الأئمة: ينبغي أن يكون بين يدي المصلي شيء من جدار، أو سارية، أو مصلَّى، ولْيقع بين موقفه وبين ما بين يديه، ما يكون بين يدي الصفين في توافر الناس، وهو مقدار ذراعين إلى ثلاثة، وفيه
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من (ت 1)، (ت 2).
(2) فقرة 920.

(2/224)


مسجد (1) على توسع، وإنما رأَوا ذلك، حتى يبين حدّ السجود. وحد مصلَّى المصلِّي، ثم المار يجتنب المرور في ذلك؛ فإنه بمثابة المستحَق لاضطراب المصلّي في حركاته وانتقالاته.
ولو كان الرجل يصلّي في صحراء، فحسن أن يغرز بين يديه عَنَزَة (2) أو سوطاً، أو ينضد شيئاًً من رَحْله، أو ما شاء، ولعل السر في ذلك أن يبيّن للمار الحدَّ الذي يجتنب المرورَ فيه، فيتنكّبه.
وإذا لم يكن بين يديه شيء يُعلِم حدَّه، والمار في مروره يعسر عليه الاشتغال برعاية ذلك، فيكون المصلي في ترك ما يتستر به كالمقصر في الاهتمام بحماية حد صلاته.
ثم ليس المرور حراماً في حده، وإن تستر، وإنما هو مكروه، ولا ينتهي دفعُ المصلّي إياه إلى منعٍ محقق، بل يومىء ويشير برفق في صدرِ (3) من يمرّ ويبغي تنبيهَه.
وهذا كذلك. وإن ورد لفظ القتال حيث قال: "فَلْيُقَاتل"، فهو محمول على إبداء الحدّ (4) في محاولة الدفع، والساتر الذي يرعاه، إنما هو إعلام كما ذكرناه، وهو الغرض منه، وليس المقصود التستر الحقيقي به، وليس كما ذكرناه في نصب شيء في سطح الكعبة يستقبله المصلّي؛ فإن ذلك الشاخص قبلةُ المصلّي، ففصّلنا القول في استقباله، وهذا لإعلام الحد.
951 - ولو قصَّر المصلّي ولم يبيّن عَلَماً، ثم أراد أن يمنع المار في حدّه، فهل له ذلك؛ فعلى وجهين: أحدهما - لا؛ لأنه المقصر، والثاني - يمنعه، ويصير دفعه الآن إعلاماً، فَلْيَكتف به المدفوع، فعلى هذا يعود أمرنا المصلّي بنصب عَلَم إلى أَنْ لا يحتاج في أثناء الصلاة إلى الدفع، فإن لم يتفق مست الحاجة إليه، واكتفى المدفوع
__________
(1) أي مكان سجود وفي (ت 2): وفيه يسجد.
(2) عَنَزَة بثلاث فتحات: عصا أقصر من الرمح ولها زُج من أسفلها. "المصباح".
(3) (ت 2): في صده. وفي (ل) "في صلب من يمر".
(4) كذا في النسخ كلها بالحاء واضحة تماماً. ولعلها: (الجَد) بالجيم، وإلا فالحدّ (بالحاء) تكون بمعنى الحدة.

(2/225)


به، فكأن العلَمَ لو نصب، في حكم الإشارة إلى الدفع، فإذا لم ينصب، فإنشاء الدفع في حكم التصريح بالمقصود.
952 - ثم قال الأئمة: ما ذكرناه من النهي عن المرور [و] (1) دفع المار فيه إذا وجد المارّ سبيلاً سواه، فإن لم يجد، وازدحم الناس، فلا نهي عن المرور، ولا يشرع الدفع.
953 - ولو كان الرجل في صحراء، وخطَّ خطاً بين يديه مُعلماً به حدّه، فقد تردّد في هذا كلام الشافعي في القديم، وأن هذا هل يكون ساتراً؟ فمال إلى الاكتفاء به قديماً، ثم رُئي ذلك القول في الجديد، قد خَطّ عليه الشافعي، فالذي استقر عليه أن الخطَّ لا يكفي؛ إذ الغرض منه الإعلام، وهذا لا يحصل بالخط.
فصل
قال: "وأحب إذا قرأ آية رحمة أن يسأل ... إلى آخره" (2)
954 - الإمام إذا مرّ في أثناء القراءة بآية رحمة، فحسنٌ أن يسأل، وإذا مر بآية عذاب، فحسن أن يستعيذ، وكذلك يفعلُ المأموم المستمع.
وقد رُوي عن حذيفة بن اليمان أنه قال: "صليتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين، فقرأ فيهما سورةَ البقرة، وكان إذا مر بآية رحمة سأل، وإذا مر بآية عذاب استعاذ، وإذا مر بآية تنزيه سبح، وإذا مرّ بآية مثَلٍ فكَّر" (3).
__________
(1) ساقطة من جميع النسخ، وزدناها رعاية للسياق. ثم وجدناها في (ل).
(2) ر. المختصر: 1/ 83.
(3) حديث حذيفة رواه أصحاب السنن، وصححه الألباني، ورواه البيهقي من حديث عائشة (ر. أبو داود: الصلاة، باب ما يقول في ركوعه وسجوده، ح 871، الترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في التسبيح في الركوع والسجود، ح 262، النسائي: الافتتاح، باب تعوذ القارىء إذا مرّ بآية عذاب، وباب مسألة القارىء إذا مرّ بآية رحمة، ح 1008، 1009، ابن ماجه: إقامة الصلاة، باب ما جاء في القراءة في صلاة الليل، ح 1351، البيهقي: 2/ 310، تلخيص الحبير: 1/ 240 ح 359، وصحيح أبي داود: 1/ 165 ح 774).

(2/226)


955 - ويتصل بذلك من مذهبنا أن المصلي يدعو بما شاء في صلاته، ولا يشترط أن تكون دعوته واردة في الصلاة، أو مأثورة شرعاً في غير الصلاة، ولكن شرطها أن تكون عربية، ولا يكون فيها خطاب آدمي.
وقد ذكرنا أن من عجز عن التكبير العربي أو عن التشهد، فإنه يأتي بمعنى ما عجز عنه بالأعجمية، وذكرنا الآن أنه لا يأتي بدعوة يخترعها بالعجمية.
فأمّا الأذكار المسنونة كتكبيرات الانتقالات، وتسبيحات الركوع والسجود وغيرها، فهل يأتي الأعجمي بمعناها؟ تردد الأئمة فيه، وحاصل التردد في الاحتمالات ثلاثة أوجه: أحدها - المنع؛ فإنها مسنونة، وتركُ لسان العجم حتم.
والثاني - يأتي بمعناها ويقيمها مقام الأذكار العربية.
والثالث - ما يجبر منها بالسجود لو ترك، فيأتي ببدلها بلسانه، وما لا يجبر لا يأتي له ببدل أعجمي.
وكان شيخي يتردد في دعاء مخترع يشتمل على وصفِ مسؤول، مثل أن يقول: اللهم ارزقني جاريةَ صفتها كذا وكذا، ويميل إلى المنع من ذلك، والمصير إلى أنه من المبطلات؛ فإنه ينافي تعظيمَ الصلاة.
وهذا غير سديد، والوجه ألا يمنع منه؛ فإنه قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول أحياناً في قنوته، "اللهم أنج الوليد واشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" (1) فتسمية الواحد منا في دعائه شخصاً وشيئاًً بمثابة ما صحت الرواية فيه، فأما الأعجمي، فالترتيب فيه أنه لا يأتي بأعجمي مخترع، ويأتي بمعنى ما يجب من الأذكار، وفي معنى ما يسن ولا يجب، ما ذكرناه من الاحتمال.
__________
(1) حديث: اللهم أنج الوليد. متفق عليه من حديث أبي هريرة. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 133 ح 392).

(2/227)


فصل
قال: "فإذا قرأ آية السجدة، سجد ... إلى آخره" (1).
956 - السجود عند الآيات المشتملة على السجود، كما سنذكرها مأمورٌ به، يشهد له السنة المتواترة، وأجمع عليه المسلمون، وليس واجباً، ولكنه مسنون. خلافاً لأبي حنيفة (2).
957 - ومضمون الفصل يحويه القول في مقتضي السجود، وفي كيفية السجود، وفي قضائه:
فأما، مقتضيه، فتلاوة أربعةَ عشرَ آية معروفة، وموضع السجود فيها مبين.
ووافق أبو حنيفة (3) في العدد، ولكنا اختلفنا في سجدتين على البدل، فلم نُثبت في " ص " سجدة، وأثبتها أبو حنيفة (4)، وأثبتنا في سورة الحج سجدتين، ونفى أبو حنيفة السجدة الأخيرة. ومعتمدنا ما روى عقبةُ بن عامر قال: "سألتُ النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت: في الحج سجدتان؟ فقال: نعم، ومن لم يسجدهما، فلا يقرأهما" (5).
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 83.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 29، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 240 مسألة: 185، بدائع الصنائع: 1/ 180، تبيين الحقائق: 1/ 205، فتح القدير: 1/ 465.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 29، بدائع الصنائع: 1/ 193، تبيين الحقائق: 1/ 205، فتح القدير: 1/ 464.
(4) ر. مصادر الأحناف في الهامش السابق.
(5) حديث عقبة بن عامر رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، والدراقطني، والبيهقي، والحاكم (ر. أبو داود: الصلاة، باب تفريع أبواب السجود وكم سجدة في القرآن، ح 1402، الترمذي: أبواب الصلاة، ما جاء في السجدة في الحج، ح 578، المسند: 4/ 151، 155، البيهقي: 2/ 317، وفي المعرفة: 1/ 152، 153، ح 1106، الحاكم: 1/ 221، التلخيص: 2/ 9 ح 487).

(2/228)


ومذهب مالك (1) أن سجدات التلاوة إحدى عشرة، ولم يُثبت في المفصل سجدة، وهذا قول للشافعي في القديم، والمعتمد في نُصرته ما روي عن ابن عباس أنه قال: "لم يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المفصّل بعد ما هاجر" (2). واعتمد الشافعي في الجديد ما رواه أبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد لما تلا: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (3) [الانشقاق: 1] وكان إسلام أبي هريرة بعد الهجرة بسنين (4)، ورأى ما أثبته أولى من نفي ابن عباس.
وفي بعض التصانيف أن ابن سريج أثبت سجدة "ص"، فصارت السجدات على مخرجه خمسَ عشرةَ سجدة.
958 - ثم إن تلا الرجل آية سجدة، سجد، وإن لم يتل بنفسه، ولكنه كان يستمع إلى قراءة غيره، فتلا وسجد التالي، يسجد المستمع، فالاستماع إذاً يقتضي السجود إذا سجد التالي، فأما إذا لم يسجد التالي، فالذي ذهب إليه معظم الأئمة، أن المستمع لا يسجد، ويشهد لذلك ما روي: "أن طائفة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يتدارسون القرآن بين يديه، فقرأ قارىء آية سجدة وسجد، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقرأ آخرُ آيةَ سجدة، فلم يسجد، فلم يسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، قرأ فلان فسجدتَ، وقرأتُ فلم تَسجد، فقال صلى الله عليه وسلم: كنت إمامنا فلو سجدتَ، لسجدنا" (5).
__________
(1) ر. حاشية العدوي: 1/ 318، حاشية الدسوقي: 1/ 307، جواهر الإكليل: 1/ 71.
(2) حديث ابن عباس: رواه أبو داود، وأبو علي بن السكن في صحيحه، وفيه راويان مضعفان.
(ر. أبو داود: الصلاة، باب من لم ير السجود في المفصل، ح 1403، البيهقي: 2/ 312، 313، تلخيص الحبير: 2/ 8 ح 484).
(3) حديث أبي هريرة: رواه مسلم، وأصله في البخاري (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 116 ح 341، والتلخيص: 2/ 8 ح 485).
(4) ومن يقرؤها بسنتين، فقد صحف؛ فإن إسلام أبي هريرة كان عام خيبر باتفاق.
(5) الحديث رواه أبو داود في المراسيل عن زيد بن أسلم، وكذا رواه الشافعي، ونظيره عند البخاري معلقاً عن ابن مسعود من قوله. وقد ذكر الحافظ من وصله فى تغليق التعليق. (ر. التلخيص: 2/ 9 ح 490).

(2/229)


وذكر صاحب التقريب هذا، وذكر معه شيئاًً آخر، وهو أنه قال: نقل البويطي عن الشافعي في مختصره أنه قال: إن سجد القارىء، تأكد السجود على المستمع، وإن لم يسجد القارىء، فسجد المستمع، كان حسناً، وكان مقيماً للسنة، فصار هذا قولاً، وليس يبعد توجيهه، وحُمل ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تدارس أصحابه القرآن على استحثاث التالي على السجود.
ولو لم يقصد الاستماع، فلا يسجد وإن سجد التالي، وإن كان قرع سمعَه ما تلاه؛ فإنه إذا لم يقرأ في نفسه، ولم يجرّد قصداً إلى الاستماع، فتقع سجدتُه لو وقعت منقطعةً عن سبب يختاره وينشئه.
وكان شيخي يقول: المصلي يسجد إذا سجد إمامه سجودَ التلاوة، لا محالة.
ولو كان المصلي يُصغي إلى قراءة قارىءٍ في غير الصلاة، أو إلى قراءة مصل ليس إمامَه، فلا ينبغي أن يسجد أصلاً؛ فإنه ممنوع عن إصغائه، فلا حكم له، وحق الصلاة أن تُحرسَ عن سجودٍ زائدٍ لا يقوى سببُه.
فإذاً إنما يسجد المصلي إذا تلا إماماً أو منفرداً، أو إذا سجد إمامُه لما تلا، فيتابعه، فلو تلا الإمامُ، ولم يسجد، لم يسجد المقتدي، ولو سجد، بطلت صلاته. ولو تلا المقتدي، فلا يسجد، كما إذا سها، فإنه لا يسجد للسهو.
وذهب أبو حنيفة (1) رضي الله عنه أن المصلي المنفرد، والإمامَ إذا سمع غيرَه يتلو، فإنه يسجد إذا سمع خارجاً من الصلاة. وفي بعض طرقنا ما يشير إلى هذا، وهو بعيد جداً.
فهذا بيان ما يقتضي سجودَ التلاوة قراءةً واستماعاً، وذِكْرُ أعداد السجدات.
959 - فأما كيفية السجود، فنذكر سجود من ليس في الصلاة، ثم نذكر سجود التالي في الصلاة.
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 1/ 187، فتح القدير: 1/ 468، تبيين الحقائق: 1/ 206، حاشية ابن عابدين: 1/ 519.

(2/230)


فأما من ليس في الصلاة، فالكلام في الأقل والأكمل نأتي به ممتزجاً؛ لاختلاف المذهب فيه.
فأما الشرائط المعتبرة في الصلاة، فهي بجملتها مرعية في سجود التلاوة، وهي الستر، وطهارة الحدث، والطهارة عن الخبث، واستقبال القبلة.
وأما ما لا بد منه، فالاختلاف الظاهر فيه يحويه ثلاثة أوجه: أحدها - أنه لا بد من التحرم بالتكبير والنية والتحلل، فأما السجدة الفردة لا يسوغ تصحيحها.
والثاني - ألا يُشترطَ واحدٌ منها، ويكفي الإتيان بصورة السجود مع استكمال الشرائط التي قدمناها، وهذا ما كان لا يذكر شيخي غيرَه.
ووجهه أنه لو فرض فيه تحرُّم وتحلل، لكان صلاة، والسجدة الفردة لا يجوز أن تكون صلاة.
والوجه الثالث - أن التحرم لا بد منه، فأما السلام، فلا يشترط الإتيان به، ولكن رفع الرأس ينهيه نهايته، وجريان سجود التلاوة في الصلاة شاهد لما كان يذكره شيخي؛ فإنه لا يتصور في الصلاة تحرّم وتحلل.
وذكر صاحب التقريب وجهاً زائداً، فقال: إذا قلنا لا بد من التسليم، فمن أصحابنا من أوجب التشهد بعد رفع الرأس ليقع السّلام بعد نجازه، وهذا بعيد.
ونص الشافعي يوافق من هذه الوجوه ما كان يذكره شيخي.
فهذا ما نذكره الآن في سجود من ليس في الصلاة.
وأما من كان يسجد في الصلاة على التفصيل المقدم، فلا يشترط أن يكبر؛ فإنه لا يُتصور التحرمُ عقداً ونيةً وشروعاً، وإذا امتنع ذلك، فاشتراط التكبير، لا معنى له، ولكن ما ذكره الأئمة، أن الساجد يُستحب له أن يكبر إذا هوى ساجداً، ويكبر إذا ارتفع، كما يفعله في سجدات الصلاة.
وذكر العراقيون أن ابن أبي هريرة لا يستحب التكبير، لا عند الهوي، ولا عند رفع الرأس، وزعم أن ذلك يشبهها بالسجدات الراتبة.
وهذا بعيد لا يعوّل عليه، وعمل السلف على خلافه.

(2/231)


960 - ومما بقي علينا في كيفية السجود كلام يتعلق بالأَوْلى في سجود من ليس في الصلاة. فإن قلنا: التكبير ليس مشروعاً (1)، فالمذهب المبتوت أنه مستحب، وحكى العراقيون عن أبي جعفر الترمذي (2) من أصحابنا أنه كان يكرهها ولا يراها، ويقول: التكبير شرع لصلاة معقودة، وليست هي صلاة، بل هي سجدة فردة، وهذا بعيد.
وإتمام هذا أن نقول: مَنْ شَرطَ التحللَ بالسلام، فلا شك أنه يرعى التحريم؛ [فإن التحلل مترتب على التحرّم،] (3) وعلى هذا لا بد من النية، وهي العاقدة في الحقيقة.
فأما من لا يشترط التحلّل، فلعله لا يشترط التحرم بالنية أيضاً، كما ذكرناه في السجدة الواقعة في الصلاة، ولكن إيجابَ التكبير واشتراطَه من غير نية بعيد. فهذا تمام البيان في ذلك.
ومن لم يشترط التشهد اضطربوا في أن التشهد هل يستحب؟ وهذا لعمري محتمل.
وكان شيخي يقوم ويكبر ويهوي عن قيام، ولم أر لهذا أصلاً ولا ذكراً.
فهذا منتهى القول. في صفة السجود.
961 - فأما القضاء، فمن تلا آية سجدة، ولم يسجد حتى طال الفصل، فقد فات أوان السجود، فهل يقضيها؟ ذكر صاحب التقريب قولين في قضائها [وقرَّبهما] (4) من الاختلاف في أن النوافل إذا فاتت، هل تقضى أم لا؟ وسيأتي ذلك مشروحاً إن شاء الله في باب النوافل. وسجود التلاوة أبعد عندي من قبول القضاء من وجهين: أحدهما - أن ما يتعلق بأسباب، لا بأوقات من النوافل لا يُقضى، كصلاة الخسوف، وسجود التلاوة شبيه بها.
__________
(1) في (ت 1)، (ت 2): مشروطاً.
(2) أبو جعفر الترمذي، محمد بن أحمد بن نصر، شيخ الشافعية بالعراق قبل ابن سريج، وهو ممن اجتمع له إمامة العلم والعمل. ت 295 هـ عن أربعٍ وتسعين سنة (طبقات السبكي: 2/ 187، 188).
(3) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(4) في (ت 1)، (ط): "وقرنهما" وفي (ت 2): "وقربها".

(2/232)


والثاني - أن الصلاة قُربة كاملة مقصودة، فتقدير القضاء فيها أقرب من تقديره في السجود.
وذكر صاحب التقريب في هذا ضبطاً حسناً، وذلك أنه قال: ما لا يجوز التطوع به ابتداءً، فلا يجوز شرع (1) قضائه، إذا فات.
وقد ذكرنا أن المذهب، أن من أراد أن يسجد من غير سببٍ خشوعاً وتواضعاً لله، لم يجز. فلو قضى سجوداً من غير تلاوة، كان ذلك على صورة سَجْدةٍ لا سبب لها، وهذا ضبط حسن، إذا تدبره الطالب.
ثم من تمام البيان في ذلك أن [طول] (2) الفصل الذي ذكرناه في تصوير الفوات ليس بخافٍ في الجملة.
وبالجملة سجود التلاوة من توابع القراءة، فَلْيَقع متصلاً بها، والمعتبر في انقطاعها أن يغلب على الظن إضراب التالي عنها بسببٍ، أو بغير سبب. ولسنا ننظر في ذلك إلى مفارقة المجلس الذي حوى التلاوة أو ملازمته، وإنما النظر إلى الزمان، كما ذكرناه.
وقال صاحب التقريب: إذا كان الرجل في الصلاة، فقرأ قارىء ليس في الصلاة، أو لم يكن إماماً آيةَ سجدة، فالمصلي لا يسجد أصلاً، كما ذكرناه، ولكن إذا تحلَّل، ففي القضاء ما ذكرناه، وهذا فيه نظر؛ فإن الظاهر أن ما جرى، لم يكن مقتضياً لسجوده، وإذا لم يجر ما يقتضي أداء السجود، فالقضاء بعيد، ولكن صاحب التقريب يرى ذلك مقتضياً، ويرى الصلاة مانعة من الأداء، وينزل ذلك منزلة ما لو استمع الرجل وهو محدث، فإذا تطهر؛ فإنه في القضاء يُخرَّج عند الأصحاب على الترتيب المقدم.
فرع:
962 - ذكر صاحب التقريب عن الأصحاب، أن الرجل لو خضع لله، فسجد من غير سبب، فله ذلك، ولا بأس. وهذا لم أره إلا له، وكان شيخي يكره ذلك ويشتدُّ نكيره على من يفعل ذلك. وهو الظاهر عندي.
__________
(1) في (ل): "فرض قضائه".
(2) في الأصل: " ... في ذلك أن نفول: الفصل الذي ذكرناه .. " والمثبت من باقي النسخ.

(2/233)


فصل
قال: "ويقضي المرتد كل ما ترك في الردة ... إلى آخره" (1).
963 - من ارتد واستمر، ففاته صلوات في ردته، فيلزمه قضاؤها إذا أسلم، ولو كان قد فاتته صلواتٌ في إسلامه، فارتد، لم يسقط عنه قضاؤها، ولا يخفى مذهب أبي حنيفة (2) فيها.
وحقيقة مذهبنا أن الردة لا تقطع الخطاب عن المرتد، ولا تخرجه عن التزام أحكام الإسلام، وأبو حنيفة يلحق المرتد بالكافر الأصلي.
ولو ارتدت المرأة، فالصلوات التي تمر عليها مواقيتُها في زمان الحيض لا يلزم قضاؤها إذا أسلمت.
ولو جن المرتد، ثم أفاق وأسلم، فالظاهر من كلام الأصحاب أنه يلزمه قضاء تلك الصلوات، وفرقوا بين الحائض والمجنون، بأن إسقاط الصلاة عن الحائض ليس رخصة، وإنما هي لأن حالها لا يقبل الصلاة.
وكان شيخي يعبر عنه بعبارة رشيقة ويقول: الحائض مكلفة بترك الصلاة، وهذا يتأتى منها في الردة، فكأنها أقامت حكم التكليف في الردة، فلا تدارك له، والمجنون ليس [مُخاطباً بترك الصلاة، وإنما سقط قضاء الصلاة عنه تخفيفاً، والمرتد ليس] (3) ممن يخفف عنه.
وتمام البيان في ذلك، أن ما ذكروه من إسقاط القضاء في حق الحائض واضح لا شك فيه، وأما إذا جُن المرتد، فيظهر فيه خلاف سيأتي أصله مقرراً في باب صلاة المسافر، وهي أن المعاصي إنما تنافي الرخص إذا كانت في أسباب الرخص
__________
(1) ر. الأم: 1/ 61.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 29، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 369 مسألة: 278، رؤوس المسائل: 167 مسألة: 70.
(3) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

(2/234)


كالعبد الآبق لا يترخص برخص المسافرين، فأما إذا لم تكن المعصية في سبب الرخصة، فلا تسقط الرخص؛ فإن المسافرين إذا كانوا يفسقون [بالشراب] (1)، فإنهم يترخصون؛ إذ لا معصية في السفر نفسه، كذلك سبب الرخصة الجنون، وهو كائن لا معصية فيه، وسيأتي تمهيد ذلك على أبلغ وجه من البيان في موضعه. إن شاء الله تعالى.
964 - ثم قال الأئمة: السكران إذا فاتته صلوات في سكره، يلزمه قضاؤها، وهذا متفق عليه، فلو جُن السكران، فقد ذكر الأصحاب وجهين في قضاء الصلوات: أحدهما - أنه لا يقضي إلا صلوات أيام السكر.
والثاني - أنه يقضي صلوات أيام الجنون؛ فإن جريان الجنون في السكر بمثابة جريانه في الردة؛ إذ السكران مغلّظ عليه في أمر الصلاة، كما أن المرتد مغلظ عليه.
وهذا كلام ملتبس لا حقيقة له، والوجه أن يقال: إذا زال السكر والجنون متصل، فلا يجب قضاء الصلوات التي تمضي مواقيتُها في الجنون بعد زوال السكر وجهاً واحداً، بخلاف المرتد يجن؛ فإن المجنون الذي جنّ في ردته مرتد في حال جنونه حكماً، وليس بسكران قطعاً. فأما الزمان الذي اجتمع فيه السكر والجنون، فيجوز أنْ يُقال: هو فيه كالذي يجن وهو مرتد.
والذي ذكرناه إذا لم يكن شُربُه سببَ جنونه، فإن كان كذلك، فهذا رجل جنن نفسه، ولو جرى ذلك وفاتت صلوات في الجنون، ففي وجوب قضائها وجهان، سنذكرهما في باب القصر عند جمع المعاصي المؤثرة في الرخص. والله المستعان.
...
__________
(1) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

(2/235)


باب سجود السهو
قال الشافعي رحمه الله: "ومن شك في صلاته، فلم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً ... إلى آخره" (1).
965 - إذا شك في الصلاة، فلم يدر أنه صلى ثلاث ركعات، أم صلى أربعاً، وكان رفع رأسه من السجدة الثانية، وتردد بين أن يجلس ويتشهد، وبين أن يقوم إلى الركعة الرابعة، فمذهب الشافعي أنه يأخذ بالأقل المستيقن ويبني عليه، ويقوم إلى الركعة التي شك فيها، ولا يأخذ بالظن، ولا يجتهد.
ثم الركعة التي جاء بها عنده مترددة بين أن تكون رابعة كما يقتضيه ترتيب الصلاة، وبين أن تكون خامسة زائدة، وقد تمت الركعات كلّها.
ثم يسجد للسهو في آخر الصلاة، كما سنصفه، ولا مجال للاجتهاد والتحري أصلاً؛ إذ التعويل في الاجتهاد على التعلق بالأمارات والعلامات المغلبة على الظن، وليس فيما شك عليه علامة يستشهد بها.
وقال أبو حنيفة (2): إن كان يتكرر ذلك منه، فيجتهد ويبني على ما يغلب على ظنه، وإن كان يندر ذلك منه، فيقضي الصلاة ويستأنفها.
ومعتمدنا في المذهب ما رواه عبد الرحمن بنُ عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا شك أحدكم، فلم يدر أواحدة صلى أم اثنتين، فَلْيَبْنِ على واحدة، وإن لم يدر ثنتين صلّى أم ثلاثاً، فليبن على ثنتين، وإن لم يدر ثلاثاً صلى أم أربعاً، فليبن على
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 84.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 30، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 277 مسألة: 232، بدائع الصنائع: 1/ 165، حاشية ابن عابدين: 1/ 506.

(2/236)


ثلاث، ويسجد سجدتين قبل أن يسلم" (1).
والضابط المعنوي للمذهب أن الركعة التي جاء بها إن كانت رابعةً، فذاك، وإن كانت زائدةً، فالغلطُ بالزيادة لا يفسد الصلاة، والغلط بترك ركعة يفسد الصلاة.
ولا علامة يستند إليها الاجتهاد، فتعين من مجموع ذلك وجوبُ البناء على المستيقن.
966 - ثم من غوامض المذهب في التعليل ما نشير إليه، وسيأتي تفصيله في أثناء الباب أن من شك، فلم يدر أتكلمَ ساهياً أم لا؟ فالأصل أنه لم يتكلم، ثم لا يسجد للسهو؛ فإنه لم يستيقن السهو، وإذا شك في عدد الركعات، فيبني على المستيقن، فإنه يجوِّز أن الركعة الأخيرة هي الركعة (2) الجارية على الترتيب المقتضى، فهو غير مستيقن بصدور السهو منه، فأمره بسجود السهو خارج عن القاعدة التي أشرنا إليها من أن السهو إذا لم يكن معلوماً، فلا سجود.
والذي يُعضّد الإشكال في ذلك النظرُ إلى حالة العَمْد، فإن من أمرناه بالسجود للسهو، وتَرَك السجود عمداً، لم تبطل صلاته، ولو سجد حيث ننهاه عن السجود عمداً، بطلت صلاته. ولمكان هذا الإشكال استثنى العراقيون هذه المسألة، وقالوا: من شك، فلم يدر أَأتَى بشيء من المنهيات، فالأصل أنه لم يأت به، ولا نأمره بسجود السهو إلا في مسألة واحدة، وهي إذا شك، فلم يدر أثلاثاً صلى، أم أربعاً؛ فإنه يبني على اليقين ويسجد، فهذا هو التنبيه على وجه الإشكال.
967 - وقد اختلف علماؤنا في تنزيل ذلك، فقال شيخي، وطائفة من أئمة المذهب: إن متعلق السجود الخبر، ولا اتجاه له في المعنى أصلاً، وقال الشيخ أبو علي: المقتضي لسجود السهو، أن الركعة التي أتى بها آخراً إن كانت زائدةً، فهي
__________
(1) حديث عبد الرحمن بن عوف، رواه الترمذي، وابن ماجة، من حديث كريب عن ابن عباس، قال الحافظ: وهو معلول. (ر. الترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في الرجل يصلي فيشك في الزيادة والنقصان، ح 398، ابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن شك في صلاته فرجع إلى اليقين، ح 1209، تلخيص الحبير: 2/ 5 ح 476).
(2) (ت 1)، (ت 2): الرابعة.

(2/237)


سهو، فيقتضي السجود، وإن كانت رابعةً أتى بها المصلي ولا يدري أصليَّة هي أم زائدة، فتضعف النية فيها، فاقتضى ذلك نقصاناً مجبوراً بسجود.
وينشأ من التردد في التعليل مسألة مذهبية، وهي أنه لو صلى هذه الركعة، ثم استيقن في آخر الصلاة أنه ما زاد شيئاًً، وإنما أتى بالركعات الأربع، فقد قال الشيخ أبو علي رحمه الله: إنه يسجد وإن زال الشك؛ لأن تلك الركعة جرت وضعْفُ النية مقارن لها، فلئن زال الشك آخراً، فذلك التردد، قد تحقق مقارناً لما مضى، وكان شيخي يقطع في هذه الصورة بأنه لا يسجد للسهو؛ فإنه كان لا يعتمد معنىً في الأمر بالسجود، وإنما كان التعويل على الحديث، وظاهر الحديث في دوام الشك والتردد.
والذي ذكره الشيخ أبو علي منقوض عليه، بما إذا لم يدر الرجل أقضى فائتة كانت عليه أم لا، فأمرناه بقضائها، فإنه يقضيها ولا يسجد للسهو، وإن كان على التردد في أن الصلاة مفروضة عليه أم لا، من أول الصلاة إلى آخرها.
ثم الشيخ أبو علي إنما يأمر بالسجود إذا انقضى ركن مع التردد، فأما إذا خطر الشك، ولم يدم وزال، ولم ينقض معه ركن تام، فلا أثر له أصلاً.
وقد قدمت تفصيل القول في الركن التام ومقارنة الشك إياه في فصول النية في أول باب صفة الصلاة.
فصل
قال: "إذا فرغ من صلاته بعد التشهد، سجد سجدتين للسهو، قبل السلام ... إلى آخره" (1).
968 - مقصود هذا الفصل بيان محل سجود السهو، فالظاهر المشهور من المذهب أنه يسجد قبل السلام إذا فرغ من التشهد والصلاة وما تخيره من الدعاء، فيسجد سجدتين، ثم يسلم.
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 85.

(2/238)


وأبو حنيفة (1) يقول: يسلم ويسجد بعد السلام.
وقال مالك (2): إن كان السهو نقصاناً من الصلاة، فإنه يسجد قبل السلام جَبراً لذلك النقصان، وإن كان السهو زيادةً في الصلاة، فإنه يسجد بعد السلام، وهذا قول الشافعي في القديم، ثم لا شك أنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالسجود قبل السلام، وصح أنه قال: "ويسجد سجدتين بعد السلام" (3)، ولا شك في صحة الروايتين، ثم إنه كان مالك حمل إحدى الروايتين على ما إذا كان السهو نقصاناً في الصلاة، وحمل الثانية. على ما إذا كان زيادة في الصلاة.
وقال الشافعي: كان مالك لا يدري (4) الناسخ من المنسوخ (5)، وكان آخر ما فعله
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 30، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 274 مسألة: 227، بدائع الصنائع: 1/ 172.
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 275 مسألة: 300، حاشية الدسوقي: 1/ 274، 275، حاشية العدوي: 1/ 277، 278، جواهر الإكليل: 1/ 60.
(3) سجود السهو قبل السلام ثبث في حديث متفق عليه من حديث عبد الله بن بُحَيْنة (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 114 ح 335. وأما بعد السلام، فقد ثبت في حديث ذي اليدين، وحديث ابن مسعود، وهما في المتفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 114 - 115، ح 336، 337. وانظر تلخيص الحبير: 2/ 2 - 6 ح 469، 470، 481).
(4) بدأ من هنا خرم من نسخة (ت 2). وهو عبارة عن ورقة بوجهيها.
(5) نقلُ إمام الحرمين هنا عن الشافعي موهمٌ وغير دقيق؛ فهو يوحي بالعموم وبالقطع، مع أن نص الشافعي -كما سننقله بعد قليل- خاص بالنسخ في سجود السهو بعد السلام، وجاء بأسلوب الاحتمال لا بالقطع؛ إذ قال: "لعل مالكاً"، وتمام عبارته بنصها في كتاب سجود السهو في الأم: "سجود السهو كله عندنا في الزيادة والنقصان قبل السلام، وهو الناسخ والآخِرُ من الأمرين، ولعل مالكاً لم يعلم الناسخ والمنسوخ من هذا" (ر. الأم (الطبعة البولاقية): 1/ 114).
هذا، وباب سجود السهو الموجود في الأم من جمع وترتيب السراج البلقيني، وهذه العبارة المذكورة آنفاً أخذها من جمع الجوامع لأبي سهل بن العِفْريس الذي جمع فيه نصوص الشافعي.
ومما ينبغي تسجيله أننا احتفينا بتحقيق الأخ الدكتور رفعت فوزي لكتاب الأم، ولكن عجبنا أشد العجب حينما وجدناه أسقط باب سجود السهو من هذه الطبعة بحجة لا تُسلّم له، فحرم قراء طبعته من نصوص للشافعي في هذا الباب لن يصلوا إليها، فأين سنجد كتاب جمع =

(2/239)


النبي صلى الله عليه وسلم السجود قبل السلام، وروى عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد قبل السلام وبعد السلام، وكان آخر الأمرين أنه سجد قبل السلام (1)، فهذا كلام الشافعي.
وقد جرى للشافعي تردد في بعض المواضع، لما رأى الأخبار صحيحة في التقديم والتأخير تُشير إلى جواز الأمرين جميعاًً، وهذا يعضده أمر في الأصول، وهو أن فِعلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يتضمن الإيجاب عند المحققين، ولكنه يتضمن الجواز والإجزاء، فلئن صح ما ذكره الزهري أنه سجد قبل السلام آخراً، فهذا لا يُعيِّن ذلك، ولا ينفي جواز ما تقدم.
969 - فإذا لاح مأخذ الكلام، فنذكر ما تحصل من المذهب: فذكر ذاكرون ثلاثة أقوال: أحدها - وهو الظاهر: أن السجود قبل السلام، وإذا وقع بعده، لم يعتد به.
والثاني - أن الساهي بالخيار إن شاء قدم، وإن شاء أخّر.
والثالث - أنه يفصل بين أن يكون السهو زيادة، وبين أن يكون نقصاناً، وهو المنصوص عليه في القديم، وهو مذهب مالك.
وقال بعض أئمتنا: لا خلاف أنه يُجزىء التقديمُ والتأخير، وإنما التردد في بيان الأوْلى والأفضل، ففي قولٍ نقول: الأفضل التقديم، وفي قول: لا نفضل ولا نفرق ويجوز الأمران جميعاًً، وفي قول: يفصل بين الزيادة والنقصان في الأفضل، لا في الإجزاء؛ فإن الأمرين جميعاًً جائزان مُجزيان في الحالتين جميعاًً.
فهذه طريقة. وتوجيهها صحةُ الأخبار في التقديم والتأخير جميعاًً.
والطريقة المشهورة ردّ التردد إلى الإجزاء والجواز، كما تقدم. [وهذه] (2) يظهر توجيهها في طريق المعنى؛ فإن السجود إذا وقع في الصلاة، كان زيادة في الصلاة،
__________
= الجوامع لابن العفريس؟ مع أن الباب موجود كاملاً في الطبعة البولاقية.
(1) حديث الزهري، رواه الشافعي، والبيهقي في السنن: 2/ 341. وانظر التلخيص: 2/ 6، 7 ح 481.
(2) في الأصل، وفي (ط)، وفي (ت 1): وهذا. وفي (ت 2): سقطت الورقة كاملة.
والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. وجاءتنا أخيراً (ل) مثل أخواتها.

(2/240)


وإذا وقع وراء ذلك، كان منفصلاً عن تحريمة الصلاة وحكمها، وهما أمران متباعدان، والتخير بينهما بعيد، فرأى الشافعي في ظاهر المذهب؛ التمسك بآخر أفعال النبي صلى الله عليه وسلم.
ونحن نعتمد في التفريع هذه الطريقة الأخيرة، ونبني الأمرين على التردد في الإجزاء، لا في الفضيلة، فإن فرعنا على المشهور، وهو (1) أن السجود قبل السلام، فإن وقع ذلك، فلا كلام، وإن سلم الساهي، ولم يسجد، لم يخل: إما أن يسلم ساهياً ناسياً لسجود السهو، وإما أن يسلم عامداً ذاكراً لسجود السهو، فإن تعمّد وسلم، فقد فوت سجدتي السهو على نفسه، وتركهما عمداً، فالصلاة صحيحة، وقد فاتت السجدتان، وليس سجود السهو واجباً عندنا، بل هو سنة كسجود التلاوة.
وإن سلم، وتحلّل ناسياً، ثم تذكر: لم يخل، إما أن يتذكر على القرب، أو يتخلل فصل طويل. فإن تذكر على القرب، فهل يسجد على هذا القول؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - يسجد، ويجعل كأن السلام لم يكن، وهو بمثابة ما لو نسي ركعة وسلم، ثم تذكر على القرب؛ فإنه يبني على صلاته، ويعد السلام الجاري في غير محله سهواً مقتضياً للسجود.
والوجه الثاني - أنه لا يسجد، وإن كان سلامه ناسياً؛ فإن السجود مما يجوز تركه قصداً، والسلام ركن جرى في محل جوازه، فاعتقاد خروجه عن وقوعه موقعه لمكان سنة لو تركها قصداً، لجاز، بعيدٌ.
والذي يحقق ذلك، أنه بعدما سلم ساهياً، قد يبدو له ألا يسجد إذا تذكر، وسأذكر السر في ذلك الآن.
التفريع على هذين الوجهين:
970 - إن حكمنا بأنه لا يعود إلى السجود، فقد تحقق فوات السجود إذا سلم ناسياً.
وإن قلنا: يعود، فإن عاد، فهو في الصلاة ولو أحدث بطلت صلاته، ويقدّر
__________
(1) آخر الورقة الساقطة من (ت 2).

(2/241)


كأنه لم يسلم، ويعتقد أن السلام لم يقع معتداً به، فيسجد سجدتين، ويسلم الآن، ولا وجه غيره. فلو بدا له ألا يسجد أصلاً بعدما تذكر، فقد رأيتُ في أدراج كلام الأئمة تردداً في ذلك، وهو محتمل جداً.
والظاهر أنه إذا أراد ذلك، قلنا له: فسَلِّم مرة أخرى، وإن السلام الذي تقدم لم يكن معتداً به، وآية ذلك أنه لو أراد السجود، لكان في الصلاة، ويستحيل أن يخرج من الصلاة، ثم يعود إليها.
ويحتمل أن يقال: أمر السلام الذي تقدم على الوقف والتردد، فإن سجد تبيّنا أنه لم يقع التحلل به، وإن أضرب عن السجود لما تذكر، تبَيّنَّا وقوعه موقعه.
فهذا كله إذا سلم ناسياً، ثم تذكر أمرَ السجود على القرب.
فأما إذا طال الفصل، كما سنذكر الضبطَ فيه، والتفريع على أن حق السجود أن يقدم، فلو جاء بالسجود بعد تخلل الفصل الطويل، فلا يعتد به أصلاً، وقد لاح فواته.
والمشكل الآن أن السلام هل وقع ركناً؟ فإن قدرناه ركناً محللاً على الصحة، فلا إشكال، ولو قدره مقدر غيرَ واقع ركناً، فكيف الوجه؟ فأقول: الوجه القطع بصحة التحلل في هذه الصورة، وهذا يعضده ما ذكرناه الآن، من أنه إذا تذكر، ثم بدا له ألا يسجد، أنه لا يعيد السلام.
فَلْيتَأمل الفقيه هذا الموضع، فلا وجه غيره.
هذا كله تفريع على أن شرط سجدتي السهو وقوعهما في الصلاة.
971 - فأما: إذا قلنا: يجوز إيقاعهما خارجاً من الصلاة، فلو تعمد وسلَّم ذاكراً، وأراد أن يسجد بعد السلام، جاز على هذا [القول] (1) إذا كان سجد على القرب.
ثم إذا سجد سجدتين، فهل نأمره أن يتشهد؟ القول الوجيز في ذلك، أنهما سجدتان منفصلتان عن الصلاة، فحكمهما حكم سجدة التلاوة، إذا وقعت خارجة من الصلاة، وقد ذكرنا تفصيل القول في أنه هل يتشهد، وهل يتحرم ويتحلل؟ فلا فرق
__________
(1) زيادة من (ت 2).

(2/242)


بين سجدتي السهو، وبين سجدة التلاوة في هذا، إلا أن سجدة التلاوة فَرْدة، والسهو سجدتان. ونحن نقطع بأن لا يعود الساجد على هذا القول إلى الصلاة. ولو أحدث، لم تبطل صلاته أصلاً.
وقد قال أبو حنيفة (1): إنه يسلم، ثم يسجد، وزعم أنه يعود إلى الصلاة، فلو أحدث، بطلت صلاته، وهذا كلام متناقض، ولا معنى للخروج من الصلاة والعود إليها، وهذا مذهب لم يصر إليه أحد من أصحابنا في التفريع على هذا القول. فإن رأينا أن يتشهد: اشتراطاً، أو استحباباً، كما يفعل ذلك في سجدة التلاوة، فإنه يتشهد بعد السجدتين، كما ذكرناه في سجود التلاوة.
وحكى الشيخ أبو علي عن الأستاذ أبي إسحاق أنه كان يقول حيث انتهينا إليه في التفريع: إنه يتشهد قبل السجدتين، لتقع السجدتان آخراً، وفي سجود التلاوة يتشهد بعد السجود. وهذا متروك عليه، وهو غير معدود من المذهب. وقد اعتمد فيه على تقديم السجود على السلام؛ إذ تخيل تقديمَ التشهد على السجود، هذا إذا أراد السجود متصلاً.
فأما إذا سلم وطال الفصل، ثم أراد أن يسجد سجدتي السهو بعد طول الفصل، فقد ذكر الصيدلاني وجهين: أحدهما - أنه لا يقع الموقع، وطول الفصل يفوّته؛ فإن السجود وإن كان يقع بعد التحلل، فهو متصل بالصلاة، فيجب رعايةُ حقيقة الوصل فيهما، وهذا كالتسليمة الثانية إذا أمرنا بها، فإنها تقع بعد التحلل بالتسليمة الأولى، ولكن شرط الاعتداد بها أن تكون متصلة.
والثاني - أنه يقع الموقع وإن طال الفصل؛ فإنه في حكم الجُبران لما وقع في الصلاة وهو مشبه بجبرانات الحج، ثم الجبرانات إن وقعت في الحج أجزأت، وإن وقعت بعده متصلة، أو منفصلة أجزأت.
ثم إن قلنا: إذا انفصل وطال الفصل، فقد فات السجود، فينزل هذا منزلة سجدة التلاوة إذا فاتت، وقد ذكرنا قولين، في أنها هل تقضى أم لا؟ ويجري القولان في سجود السهو لا محالة.
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 1/ 174.

(2/243)


فآل حاصل الكلام إلى أنا في وجه نحكم بفوات السجود، ونخرّج قولين في القضاء. وفي قول نحكم بأنه لا يفوت، فهذا منتهى البيان في ذلك.
972 - والذي نتعلّق به الآن ضبط القول في الاتصال والانفصال، وهذا فن التزمناه في هذا المذهب (1) مستعينين بالله.
فالمذهب أن الرجوع فيه إلى العرف في الفصل بين الاتصال والانفصال، ثم الذي ظهر لنا من العرف، أنه إن تخلل زمانٌ يغلب على الظن أنه قد أضرب عن السجود قصداً أو نسيه، فهذا حدّ الانفصال، وما دون ذلك اتصال. ولا يعتبر في ذلك غيرُ الرجوع إلى العرف، فلو طال الزمان على ما ذكرناه مع اتحاب المجلس، فقد تحقق الانفصال، ولو سلم، وفارق المجلس، ثم تذكر على قُرب من الزمان، فهذا محتمل عندي، فإن نظرنا إلى الزمان، فهو قريب، وإن نظرنا إلى العرف، فمفارقة المجلس، [قد] (2) يُغَلِّب على الظن الإضرابَ عن السجود كما يُغلّب طويل الزمان على الظن ذلك.
والعلم عند الله.
وقد ذكر العراقيون في ذلك قولين عن الشافعي، أحدهما - أن المعتبر في ذلك قرب الزمان وبعده، وطوله وقصره.
والقول الثاني - قالوا: نص عليه في القديم، أنه يعتبر المجلس، فإن لم يفارقه، فهو متصل، وإن طال الزمان. وإن فارقه، فهو منفصل وإن قرب الزمان.
هذا ما أردناه من التفريع في محل سجود السهو.
فإن قيل: لو صلى، وأحدث، ثم انغمس في ماء على قرب من الزمان متصل، قلنا: الظاهر أن الحدث يفصل السجود، وإن قرب زمان الطهارة.
ثم قد مضى القول فيما يتصل وينفصل على الاستقصاء.
973 - وإن فرعنا على القول القديم الموافق لمذهب مالك، فإن كان السهو
__________
(1) المذهب: المراد به هذا الكتاب. فهو يسميه: المذهب الكبير.
(2) في جميع النسخ: "فقد" والمثبت تقدير منا. ثم جاءت به (ل).

(2/244)


نقصاناً، فالتفريع في هذه الحالة كالتفريع على قولنا باشتراط إيقاع السجود في الصلاة، وإن كان السهو زيادة، فالتفريع في هذه الحالة كالتفريع على إيقاع السجود بعد التحلل.
فصل
إذا شك في أعداد الركعات في أثناء الصلاة، فقد مضى القول فيه مفصلاً، فلو سلم وتحلل، ثم شك بعد التحلل في أنه صلى ثلاثاً أم أربعاً، ففي المسألة قولان مشهوران: أحدهما - أن ما يطرأ من الشك بعد التحلل لا حكم له، وقد مضت الصلاة ظاهراً محكوماً بصحتها.
وهذا يوجَّه بأنا لو غيّرنا حكم الصلاة التي اتفق التحلل عنها بالشك، لما سلمت صلاةٌ في الغالب عن شك وتردد بعدها، على قرب من الزمان أو بُعْد، فوقع ذلك محطوطاً عن المصلي.
والقول الثاني - أنه مؤاخذ بحكم الشك -كما سنوضحه- اعتباراً بطريان الشك في أثناء الصلاة. وهذا القائل يمنع بلوغ هذا الأمر في طريان الشك مبلغ العموم، بل هو مما يندر ولا يعم، فإن فرض موسوس، فالحكم لا يبنى على حالة، وإنما يُبنى على أعم أحوال الناس.
ثم قال بعض المصنفين: لو جرى هذا التردّد بعد انفصال الزمان، جرى القولان أيضاً [فإن نحن أسقطنا أثر التردد متصلاً، أسقطناه منفصلاً أيضاً] (1) وإن أمرنا المتردد على الاتضال بالتدارك، فإذا انفصل الأمر، فلا تدارك إلا باستئناف الصلاة.
وكان شيخي أبو محمد يقول: إنْ جرى التردد بعد انفصال الزمان، فهو محطوط غيرُ معتبر قولاً واحداً، فإن هذا الآن صورة لا مستدرك لغائلتها؛ إذ الإنسان لا يدرك كيف صلى في أمسه، ولو أُمر إذا شك بالقضاء، فسيعود هذا بعينه -إذا طال الزمان- في القضاء، فلا يسلَم من هذا عاقل قط. ولا يجوز فرض الخلاف في هذا.
__________
(1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

(2/245)


فأما إذا قرب التردد، ففيه القولان، كما قدمنا ذكرهما.
وهذه الطريقة حسنة بالغة.
974 - وعندي كلام وراءها، وبه تتبين حقيقةُ الفصل.
فأقول: لو عرض للإنسان فكرٌ في صلوات أيامه السابقة، فإنه لا يتخيل جريانَها ووقوعَ أركانها في مظانها، فإنها انسلت بجملتها عن ذكره وغابت عن فكره، وإذا كان كذلك، ففرض التردد في تمامها ونقصانها، مع الذهول عن تفصيلها مما لا نعتقد المؤاخذةَ به أصلاً، فأما إذا تحلل عن الصلاة، وتخلل زمان متطاول، ولم يغب عن ذكره تفصيل صلاته، وتردّد مع ذلك في زيادة ونقصان، فتخريج ذلك على القولين [ليس بعيداً على ما تقدم، ولا يمتنع أيضاً إخراج هذا عن القولين] (1) من حيث إنه يغلب مع طول الزمان الذهولُ، ويعم الضرر، ثم إذا لم نَحطّ حكم التردد، وقد اتصل، فيجعل كأنه لم يسلّم، وكأنه تردد في الصلاة، فيقوم، ويبني على صلاته، كما سبق. وإذا طال الفصل، ورأينا مؤاخذته، فليس إلا إعادة الصلاة واستئنافها، وقد تم ما نريد من ذلك.
فصل
قال: "وإن ذكر أنه في الخامسة ... إلى آخره" (2).
975 - إذا قام المصلي إلى ركعة، ثم علم أنها خامسة، فمذهبنا أنه كما (3) علم ذلك يقطع تلك الركعة، ويعود إلى هيئة القعود، ولا فرق بين أن يتذكر ذلك وهو في قيام الركعة الزائدة، أو في ركوعها، أو كان انتهى إلى سجودها، فعلى أي وجه فُرض، فما جاء به غلط غيرُ محسوب، ولا قادح في صحة الصلاة.
__________
(1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(2) ر. المختصر: 1/ 85.
(3) "كما": بمعنى (عندما).

(2/246)


976 - ومن دقيق ما ننبه عليه في ذلك، أنا ذكرنا خلافاً في أن الكلام من الناسي، إذا كثر هل يبطل الصلاة؟ وردّدنا القول في الفعل الكثير من الناسي، كما سبق، والزيادة في الصلاة وإن كثرت، فإنها لا تبطل الصلاة وفاقاً، والسبب فيه أن الذي اعتمده من صار إلى أن الكلام الكثير من الناسي يبطل الصلاة، أنه يخرم نظمَ الصلاة، (1 والزيادة الكثيرة من جنس الصلاة إذا صدرت من الناسي لا تخرم نظم الصلاة 1).
976/م- ومن دقيق القول فيه أن من زاد ركوعاً عامداً، بطلت صلاته عندنا، وإن لم يكن في مقداره موازياً لما يُعد كثيراً من الأفعال، والزيادة وإن قلّت -أعني زيادة ركن- مبطلة، فإنه [اعتماد] (2) تغيير الصلاة بما يجانسها، والزيادة الكثيرة مع النسيان لا أثر لها.
فليفهم الفاهم ما نبديه من بدائع الفقه.
977 - ثم إذا أمرناه بالعود إلى القعود، فننظر وراء ذلك، فإن لم يكن قد تشهد، قعد وتشهد، وسجد للسهو، وسلم.
وإن كان قد تشهد، لم يخل: إما إن كان تشهد على قصد التشهد الأخير، ثم طرأ من الغلط ما طرأ، أو كان تشهده ظاناً أنه التشهد الأول، فإن كان تِشهد على قصد التشهد المفروض، ثم أمرناه بالعَوْد، فهل يتشهد مرة أخرى؟ فيه وجهان معروفان: أحدهما - أنه لا يتشهد، وهذا هو الذي لا ينقدح في المعنى والقياس غيرُه؛ فإنه قد تشهد مرة؛ فإيجاب الإعادة مرةً أخرى لا معنى له، ولكنه غلط لما قام إلى ركعة زائدة، فليعد، وليتدارك غلطته بسجدتين جابرتين للسهو.
والوجه الثاني - أنه يتشهد مرة أخرى، وهذا ظاهر النص في السواد (3)؛ فإنه قال: سواء قعد في الركعة، أو لم يقعد؛ فإنه يجلس للرابعة ويتشهد.
فذهب ابن سُريج إلى موافقة ظاهر النص، وأوجب على الراجع القاطع الركعة
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).
(2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(3) نُذكر أن المراد بـ " السواد " مختصر المزني.

(2/247)


الزائدة أن يتشهد، وعلل بعلتين: إحداهما - أن الموالاة شرط في الأركان فَلْيَلِ السلامُ تشهداً، وقد انقطع ذلك التشهد الذي جرى قبل القيام إلى الركعة الزائدة عن السلام.
فهذا معنى.
والثاني - أنه لو لم يعد للتشهد، لوقع السلام فرداً، لا يتصل بركنٍ قبله، ولا يعقبه ركن بعده.
وهذان المعنيان جميعاًً فاسدان عندي، أما الموالاة، فلا معنى لذكرها هاهنا، فإن من طوّل ركناً قصيراً ساهياً، فقد ترك الوِلاء ولا تبطل صلاته، وقد بنى الفقهاء الأمر على أن الموالاة إذا اختلت بذلك، وأخطأ في الصلاة، فلا أثر لاختلالها.
ثم يجرّ مساق هذا الكلام خبلاً وفساداً؛ فإن التشهد الأول، قد وقع معتداً به، فإن أخرجناه من الاعتداد به، فقد انقطع التشهد الذي نعتدُّه عن الأركان المتقدمة قبلُ، وهذا إن كان اختلالاً، فلا مستدرك لها (1) أصلاً، ويجب من مساقه أن تبطل الصلاةُ أصلاً، فإن لم يجز ذلك، فليس إلاّ أن يُحتمل بقطع (2) الوِلاء بسبب النسيان. وأما وقوع السلام فرداً، فهو مفرع على النظر إلى الموالاة، وإلا فليس فرداً، فهو منتظم مع الأركان المتقدمة.
978 - ثم فرع ابن سُريج على معنييه مسألة، وهي أنه قال: لو هوى القائم إلى السجود، وقد ترك الركوعَ ناسياً، ثم تذكر، فإن نظرنا إلى مراعاة الموالاة، فلينتصب قائماً، وليركع ليلي الركوعُ القيامَ، ثم يرفع معتدلاً ويسجد، وإن نظرنا في مسألة العود من الركعة الزائدة إلى أن السلام ينبغي ألا يقع فرداً، (3 فالذي يركع يرتفع إلى حد الراكعين، ولا ينتصب قائماً؛ فإن الركوع لا يقع فرداً 3)؛ إذ بعده السجود وغيره من الأركان.
979 - قلت: هذا أوان التنبيه لدقيقة، وهي أنا قد ذكرنا في تفريع صلاة العاجز أنه
__________
(1) كذا في جميع النسخ، والمتبادر إلى الذهن: "له" فلعله أنث الضمير على معنى الواقعة، أو الحالة مثلاً، والله أعلم.
(2) كذا في النسخ كلها. ولعلها: (قطع).
(3) ساقط من: (ت 2).

(2/248)


لو قرأ الفاتحة قاعداً، ثم وجد خفة، فإنه يقوم ليركع عن قيام، ولم نذكر فيه تردداً، فإن كان ما ذكرناه كذلك، فليجب أيضاَّ عَلى من هوى ساجداً، وترك الركوع أن يقوم لا لموالاةٍ، ولكن ليكون ركوعه عن قيامه. وإن قلنا: لا يقوم من هوى ساجداً، ويكفيه أن يرتفع راكعاً، فيجب أن نقول: من وجد خفة، وقد أقام فرض القراءة في القعود يكفيه أن يرتفع راكعاً؛ فإن القعود الذي جاء به في حال العجز قائم مقام القيام، ولا فرق في ذلك. فلا يؤتينَّ ناظر عن خبالٍ لا حاصل له.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان تشهد على قصد التشهد الأخير، فأما إذا كان تشهد ظاناً أنه التشهد الأول، فالفرض هل يتأدى بذلك أم لا؛ فيه وجهان مشهوران.
ومن نظائر هذه الصورة، ما لو أغفل المتوضىء لمعة من وجهه في الغسلة الأولى، ثم تداركها بالثانية، وهو يقصد بها إقامة السنة، فهل يسقط الفرض عن تلك اللمعة؟ فعلى وجهين، فإن قلنا: لا يسقط الفرض، فهو رجل قام إلى ركعة زائدة، ولم يتشهد، فيعود ويتشهد لا محالة، وإن قلنا يسقط الفرض، فليلتحق هذا بالصورة التي تقدم الفراغ منها، وهي إذا تشهد على قصد الأخير، ثم قام. وقد مضى ذلك كافياً.
ولو لم يكن له قصد في التشهد، فهو كما لو قصد التشهد الأخير، وتعليل ذلك لا حاجة إلى إيضاحه.
فصل
قال: "وإذا ترك التشهد الأول حتى قام منتصباً، لم يَعُد ... إلى آخره" (1).
980 - التشهد الأول من أبعاض الصلاة، ويتعلق بتركه سجود السهو، وهو من أركان الصلاة (2 عند أحمد بن حنبل 2).
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 86.
(2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2). ووصفُ التشهد الأول بأنه ركن قولٌ في مذهب أحمد، وعنه أنه سنة، ولكن المذهب أنه واجب، ر. الإنصاف: 2/ 115. وسيأتي بعد ذلك أن إمام الحرمين يصف التشهد الأول عند أحمد بأنه فرض، وبأنه واجب.

(2/249)


ومعتمد المذهب حديث عبد الله بن مالك ابن بُحَيْنَة، قال: "صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي: الظهر أو العصر، فقام عن اثنتين، فسبحنا به، فلم يرجع، فلما بلغ آخر الصلاة، انتظرنا تسليمه، فسجد سجدتين، ثم سلم" (1) فدل عدمُ رجوعه على أنه ليس ركناً، وسجوده للسهو ناصٌّ على ما ذكرناه من كونه من الأبعاض.
981 - ثم ترتيب المذهب في تركه أنه إن قام المصلي، فاعتدل في وقت التشهد الأول، ثم تذكر ما كان منه، فليس له أن يعود لاستدراك التشهد الأول؛ فإنه قد تلبس بالقيام المفروض، فلا يجوز له أن يقطعه لاستدراك سُتةٍ، هذا إذا اعتدل.
والدليل على ذلك عدمُ رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رويناه.
981/م- ولو نهض نحو القيام، ولم يعتدل فتذكر، فقد اختلفت عبارات الأئمة، فذكروا عبارتين نذكرهما، ثم نذكر ما عندنا من التحقيق فيهما إن شاء الله تعالى.
قال الشيخ أبو بكر (2): إذا لم ينته إلى حد القيام، رجع وتشهد؛ فإنه لم يلابس فرضاً حتى تذكَّر، ثم إذا رجع، وتشهد، فهل يسجد للسهو؟ قال: إن كان انتهى في انتهاضه إلى مبلغ كان أقرب إلى القيام منه إلى القعود، فإن الذي صدر منه فعل كثير أتى به ساهياً، وسنذكر أنه مما يقتضي السجود.
وإن كان إلى القعود أقرب، فتذكر ورجع، فلا يسجد، وما أتى به في حكم الفعل القليل، الذي لا يؤثر في الصلاة. فهذا كلامه.
وقال شيخي وغيره: إن لم ينته في ارتفاعه إلى حدّ الراكعين بعْدُ، فتذكر ورجع، فالذي صدر منه محطوط عنه، ولا سجود، وإن انتهى إلى حد الراكعين، أو جاوز، ولم يلابس القيام، فإذا تذكر ورجع، سجد للسهو.
__________
(1) حديث ابن بحينة متفق عليه، وقد مضى آنفاً.
(2) الشيخ أبو بكر: أي الصيدلاني، كما سيذكره قريباً.

(2/250)


982 - وأنا الآن أذكر مسالك كل فريق، فأقول: اعتمد الصيدلاني كثرةَ الفعل وقلَّته، وأنا أُجري ما قاله في صورة ليس فيها انتهاء إلى هيئة الراكعين، وإن قدّر ملابسة القيام مثلاً، فأقول:
إذا كان المصلي قاعداً، وانتصب من غير انحناء، وذهب ناهضاً إلى القيام، فهذا له ممر على هيئة الراكع، فالمرعي في هذه الصورة -على ما ذكره- النظرُ إلى الفعل.
ثم الضابط عنده (1) في الكثرة أن يكون أقرب إلى القيام، فإذا رجع، سجد للسهو.
فإن قيل قد ذكرتم أنه لو خطا خطوتين عمداً، لم يضره، وخطوتان أكثر من الانتهاء إلى القيام في حركات الناهض؟ قلنا: لا نعرف أولاً خلافاً بين أئمتنا في أنه إذا قرب من القيام في الصورة التي ذكرناها فلم يلابس هيئة الراكعين، ورجع، أنه يسجد للسهو.
وإذا كان كذلك، فلا ينقدح في ذلك تعليل إلا مجاوزة الفعل حدَّ القلة.
ثم الممكن في ذلك عباراتان: إحداهما - أن من حرَّك يداً وسائرُ بدنه قار، فليس فعله على رتبةِ فعل من يحرك جملةَ بدنه. والناهض صعُداً يحرك جملة بدنه.
فإن قيل: الماشي كذلك؟ قلنا: ولكن التعويل في الماشي على حركة الرجلين والبدن محمولهما ومنقولهما، فوقع التعويل على حركة الرجلين، والناهض يحرك بدنه قصداً، وهذا ما أراه شافياً للغليل.
والمعتمدُ العبارة الثانية، وهي: أن القرب من القيام يُفيد من تغيير هيئة الصلاة على الاختصاص بها ما يفيده الفعلُ الكثير، ولذلك قلنا: إن من ركع ركوعاً زائداً عمداً، بطلت صلاته، وإن لم يبلغ مبلغ الفعل الكثير، لأنه يؤثر في تغيير نظم الصلاة (2 فكذلك القرب من القيام، وإن لم يكن إتياناً بصورة رُكن، فهو مختص بتغيير نظم الصلاة 2)، فكان كالفعل الكثير. وإن كان الناهض أقرب إلى القعود، فهذا يوازي
__________
(1) ساقطة من: (ت 1).
(2) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(2/251)


الفعلَ القليل الذي لا يغير نظم الصلاة، فأما الخطوة، فليست في جهة نظم الصلاة وانتقالاتها، فروعي فيها المقدار الكثير، وهذا في نهاية الحسن.
983 - والذي أراه: أنه إن صوَّر متكلف كونَ الناهض على حد يستوي فيه نسبته إلى القعود والقيام، فلو رصع من هذا الحد، لم يسجد، كما لو كان أقرب إلى القعود، وهذا لا شك فيه.
هذا كله ترداد على عبارة الشيخ أبي بكر، وقد فرضنا في تنزيل عبارته انتهاضاً لا انحناء فيه.
984 - وأما من ذكر حد الراكعين، فيصور انتهاضاً على هيئة الانحناء، حتى يقدر الانتهاء إلى القيام، فعلى هذا الوجه نُبين معظم أحوال الناهض في العادة، فنقول: إن انتهى إلى حد الراكعين، فتذكر، رجع وسجد للسهو، والسبب فيه أنه أتى بصورة ركن، وقد ذكرنا أن الإتيان بصورة ركن يؤثر في الصلاة، فيبطل عمدُه الصلاة، ويقتضي سهوهُ سجودَ السهو.
985 - وهاهنا لطيفة لا بد من ذكرها، وهي أن الركوع الواقع ركناً شرطُ صحة الاعتداد به الطمأنينة، ولو لم تقع، لم يصح. والركوعُ الزائد المفسد للصلاة، لو فرض على وِفازٍ (1) من غير طمأنينة، فهو مبطل للصلاة، فلا يتوقف بطلانُ الصلاة بالركوع الزائد على الطمأنينة، وإن كان يتوقف الاعتداد به ركناً على الطمأنينة.
والسبب فيه من جهة المعنى أن المفسد للصلاة إنما يفسدها من جهة أنه يغيّر نظمها، وهذا المعنى يحصل وإن كان الركوع على وفاز.
وأما الركوع الذي يقع معتداً به، فالغرض منه، ومن كل حالة من حالات المصلي الخضوع، ولا يتأتى إيقاع الخضوع من غير لبث ومكث، يفصل الركنَ عن الركن.
986 - ومما نقدمه قبل [الخوض] (2) في المقصود، أن من يهوي من قيامه إلى
__________
(1) وِفازْ من وَفَزَ، يفز بكسر العين إذا عجل. ومنه وافزه: أي عاجله، والوفَز: العجلة. (المعجم).
(2) في الأصل، و (ط)، و (ت 1): الخضوع قبل المقصود.

(2/252)


السجود على هيئة الانحناء ماراً، فليس يحصل في هويه صورة الركوع.
وقد ظن أبو حنيفة (1) أنها تحصل، فزعم أن القائم إذا هوى ساجداً، فقد حصل الركوع في ممره وهويه، وكفى ذلك، والطمأنينة ليست شرطاً. والأمر على خلاف ما قدر.
987 - وأنا أقول: وإن ذكرت أن الركوع الزائد على وفاز يُفسد، فلا بد من فرض إفراده بصورته، فالقاعد إذا قام قصداً إلى هيئة الراكعين، ولم يطمئن ورجع، فهذا يفسد الصلاة عمدُه، لأنه وإن لم يسكن، فقد صور الركوع لما انتهى إليه، ثم انصرف عنه، فيمثل الركوع، والذي يهوي من قيام، لم يمثل الركوع بوقفةٍ ولا انصراف.
988 - وإذا ثبتت هذه المقدمات، فنحن نتكلم فيما ذكره شيخي وغيرُه من الانتهاء إلى حد الراكعين، فَلْيعلم الطالب أن إدراك هذا ليس باليسير الهين، وأنا بعون الله أذكر فيه ضابطاً حسناً، فأقول:
القائم إذا كان يبغي الركوع الكامل والحد الفاصل، فقد وصَفْته في فصل الركوع، وإنما يتبين سره الآن، وقد مضى أن الأوْلى في هيئة الراكع أن يستوي ظهره ورقبته، ولا يخفض شيئاًً عن شيء ولا يرفع، وهذا عندي على نصف حد القيام، وكأنه الوسط بين الانتصاب التام وبين السجود، فلنعتقد ذلك، ولنتخذه معتبرنا.
فأقول: قد مضى أن أقل الركوع أن ينحني المصلي حتى يصير بحيث لو مد يديه، نالت راحتاه ركبتيه، مع اعتدال الخلقة.
وأنا أقول الآن: بين القيام التام وبين الانتهاء إلى الوسط الذي هو رتبة الكمال مسافة، فأقل الركوع هو أن يصير أقرب إلى الوسط [في انحنائه منه إلى انتصابه، فهذا حدُّ أقلّ الركوع قطعاً. ثم كما تنقسم المسافة من هيئة الانتصاب إلى الوسط] (2) في جهة الهوي، فكذلك إذا فرض انتهاض القاعد إلى حد الركوع، فبين قعوده
__________
(1) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 334. وبدائع الصنائع: 1/ 162.
(2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

(2/253)


والوسط الذي جعلناه معتبرنا في هذا الفصل مسافة، فإن نهض منحنياً، وكان أقرب إلى حد الوسط، فهذا من هذه الجهة انتهاء إلى حد الراكعين، وهو أنقص من الكمال، ولكنه في حد الركوع [فإذا انتهى إلى حد الركوع] (1) من قعوده، ثم رجع، سجد، فإن انتهض، ولم يصر أقرب من حد الوسط، فليس منتهياً إلى حد الركوع، فيرجع ولا يسجد.
فهذا كشف الغطاء في ذلك كلِّه، وأين يقع هذا الفصل من غوامض الفقهِ؟ فلينظر الطالب في أسراره وليُكْبر الفقهَ في نفسه.
989 - ثم أقول وراء ذلك: من راعى من أصحابنا الانتهاض إلى حد الراكعين، فلو فرض عليه الانتصاب من غير هيئة الانحناء إلى القرب من القيام، فإنه يثبت السجود هاهنا، ولا شك أنه لو فرض على من يراعي الانتهاء إلى قرب القيام أن ينتهي إلى حد الراكعين وصورتهم، ثم يرجع، فإنه يقول: إنه يسجد، فإنه أتى بصورة الركوع وانصرف، فكان هذا ركوعاً زائداً أتى به ساهياًً، فاقتضى سجوداً لا محالة.
فهذا نجاز الفصل بما فيه.
فصل
990 - قد ذكرنا أن من ترك التشهد الأول ساهياً وانتصب قائماً، فليس له أن يقطع القيام بعدما لابسه؛ فإنه لو فعله، كان قاطعاً فرضاً لاستدراك مسنون، ولو عاد، نُظر: فإن كان معتقداً امتناع الرجوع والقطع، فخالف عقدَه ورجع، بطلت صلاته.
وإن كان يعتقد مذهب أحمد بن حنبل في فرضية (2) التشهد الأول، فرجع، لم تبطل صلاته.
__________
(1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(2) إمام الحرمين يقصد بالفرضية هنا الوجوب، كما هو اصطلاح الشافعية (لا يفرقون بين الفرض والواجب) وسيأتي بعد قليل ما يؤكد هذا حيث وصف إمامنا التشهد الأول بالوجوب عند أحمد، والقول بوجوبه هو مذهب أحمد كما أشرنا في تعليق سابق. وقد سبق في كلام إمام الحرمين أنه ركن عند أحمد.

(2/254)


ولو التبس عليه مع انتحاله مذهب الشافعي أن الرجوع ممنوع، فرجع على ظن جواز الرجوع، لم تبطل صلاته، وأُمر بسجود السهو على ما ذكرناه.
991 - ولو كان مقتدياً بإمامٍ، فهمّ إمامُه بالقيام ونهض إليه، فبادره المأموم بحق القدوة، واتفق سبقُه إلى حد القيام، ثم علم الإمام أنه غالط، وما كان انتهى إلى حد القائمين، فرجع إلى التشهد، والمأموم قد انتهى إلى حد القيام التام، فهل يرجع إلى القعود للاقتداء بإمامه؟
اختلف أئمتنا في هذه المسألة، فذهب بعضهم إلى أنه يرجع، وفاء بالقدوة التي نواها والتزمها، فان ذلك واجب، وإذا فعل ذلك، لم يكن قاطعاً واجباً لمكان سُنَّة، وإنما يقطع قياماً غلط في ملابسته، بسبب تحقيق موافقته لإمامه.
والثاني - أنه لا يقطع القيام، بل يصابره إلى أن يلحقه إمامه فيه، وهذا لا يبين إلا بأن يعلم أن المقتدي لو تقدم على إمامه بركنٍ واحد قصداً، لم تبطل صلاتُه، ولم تنقطع قدوته، وكان ذلك بمثابة ما لو تخلف عن إمامه بركن. وسنذكر ذلك في أحكام الجماعة، ونذكر خلافاً فيه.
992 - فليقع التفريع على ظاهر المذهب.
فيخرج عن ذلك أن الخلاف الذي ذكرناه في جواز الرجوع إلى متابعة الإمام، فمن أئمتنا من منعه، وقال: لو رجع مع العلم بامتناع الرجوع، بطلت صلاته.
ومنهم من قال: يجوز له الرجوع.
ولم يوجب أحد الرجوع؛ فإنه لو قام قصداً، وترك متابعة إمامه في التشهد، لم نقض ببطلان صلاته، وكان في حكم من تقدم على إمامه بركن، فانتظره فيه حتى لحقه.
وهذا يتضح بصورة أخرى، وهي أنه لو قام قصداً إلى القيام من غير فرض زلل، وتقدير غلطٍ منه، فالوجه القطع بأنه لا يجوز له قطع القيام في هذه الصورة. وسنذكر نظيراً لذلك على الاتصال، فنقول: إذا رفع المأموم رأسه عن الركوع قبل ارتفاع الإمام قصداً، وانتصب قائماً، فلو أراد أن يرجع، لم يكن [له] (1) قطعاً، ولو فعله على علم
__________
(1) زيادة من: (ت 2).

(2/255)


بامتناع ذلك الرجوع، بطلت صلاته؛ فإنه يكون راكعاً ركوعين في ركعة واحدة، وهو مبطل للصلاة.
993 - ولو كان موقف الإمام بعيداً، فسمع المأموم صوتاً، وحسب أن الإمام قد انتصب، فارتفع، ثم تبين له أن الإمام بعدُ في الركوع، فهل له أن يرجع ويركع؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا يجوز الرجوع، كما لو تعمد رفع الرأس من الركوع؛ لأنه لو رجع، كان آتياً بركوعين، وذلك غير سائغ، كما تقدم ذكره في العامد، ومنهم من قال: يجوز الرجوع؛ فإن قيامه كان من غلط، فإذا رجع، كان كما لو لم يقم واستدام الركوع.
994 - ثم إذا قلنا: يجوز الرجوع إلى التشهد، فلو قيل لنا: ما الأولى؟ لم يتجه إلا القطع بأن الأولى ألا يرجع، ويصابر القيام، فلو لم يستفد بذلك إلا الخروج عن الخلاف، لكان ذلك كافياً، فإنه لا يجب عليه الرجوع، وفي العلماء من يصير إلى أنه لا يسوغ الرجوع، فكان إيثار الخروج عن الخلاف أمثل.
995 - ولو رفع رأسه عن الركوع غالطاً كما ذكرناه، ثم هم بالرجوع، فكما (1) هم به، ارتفع إمامه من حد الراكعين، فليس له أن يرجع، فإنه إنما كان يرجع لإيثار متابعة الإمام، والآن لا يصادف الإمامَ راكعاً، فلا محمل لعوده إلا تثنية الركوع صورة في ركعة واحدة، وذلك غير سائغ، وتعمده مبطل للصلاة، كما تقدم تقريره.
فإن قيل: هلا قلتم: إنه انتصب قائماً غالطاً، فلا يُعتد بانتصابه، فليعد -وإن لم يصادف إمامَه- قطعاً للغلط، ثم يفتتح انتصاباً بعد ذلك؟ قلنا: لا أصل لهذا الكلام؛ فإنه إذا كان يجوز أن يتعمّد فينتصب سابقاً للإمام، فالإصرار على إدامة هيئة القيام، وإن اقترن بالانتصاب غلطٌ (2) هو (3) الوجه، فإن تعديد الركوع من
__________
(1) "فكما" بمعنى (عندما)، فتنبه لذلك؛ لأننا لا ننبه إليها دائماً، بل مرة بعد مرة.
(2) غلطٌ: فاعل "اقترن".
(3) "هو الوجه" خبرٌ لقوله: "فالإصرار على الانتصاب ... " هذا وعبارة (ت 2): "وهذا هو
الوجه".

(2/256)


المبطلات، وتقدّم الإمام بركن من جملة ما يحتمل.
فقد تقرر ما حاولناه.
ولو كان وقوع مثل ما ذكرناه على وجه الغلط يُثبت الرجوع، لوجب أن يقال: الإمام أو المنفرد إذا قام غالطاً، ولم يتشهد التشهد الأول، فإنه يعود بعد التلبس بالقيام، فإن انتصابه كان على حكم الغلط، فدل على أن التعويل في صورة الخلاف المذكورة في هذا الفرع على المتابعة، والجريان على موجب القدوة، والعود إلى التأسي والاقتداء، وهذا إنما يتحقق إذا كان يصادف الإمام فيما تركه وتقدمه.
فهذا حاصل القول في ذلك.
فصل
996 - رعاية الترتيب واجبة في أركان الصلاة، فلو أخلّ المصلي بالترتيب قصداً، بطلت صلاته، وإن ترك الترتيب ساهياً، لم يُقْض ببطلان صلاته، ولكن لا يُعتد بما يأتي به على خلاف الترتيب، ثم قد يقتضي ذلك إحباطَ بعض ما يأتي به في الأوساط، كما سنوضحه بالأمثلة والصور.
997 - فنقول: إذا ترك الرجل سجدة في الركعة الأولى، وقام إلى الثانية ناسياً، فما يأتي به من قيام، وقراءة، وركوع في الركعة الثانية، فغير محسوبٍ، ولا مُعتد به؛ فإن الركعة الثانية مرتبة على الركعة الأولى، فما لم يؤدِّ جميعَ أركان الركعة الأولى، لا يحتسب بما يأتي به في الركعة الثانية.
وكذلك لو أتم الركعة الأولى، وأخل بركن في الثانية، وقام إلى الثالثة، فلا يعتد بشيء من أعمال الثالثة حتى يتدارك ما أخل به في الثانية.
فيخرج من ذلك أن الترتيب مستحق، وتَرْكُه عمداً قاطع للصلاة، مبطل لها، وتركه ناسياً لا يبطلها، ولكن يتضمن ألا يُعتدَّ بما يأتي به على خلاف الترتيب.

(2/257)


998 - ونقل بعض الناس من مذهب أبي حنيفة (1) أن الترتيب ليس بمستحق، وهذا غير صحيح من مذهبه، ولكنه يقول: لو ترك أربع سجدات من أربع ركعات، فأعمال الركعات محسوبة، وعلى من ترك السجدات الأربع أن يأتي بأربع سجدات وِلاء في آخر الصلاة، فإذا فعل ذلك، انجبر النقصان، وانقطعت السجدات على مواقعها. وحقيقة مذهبه أن يقول: إذا أتى في كل ركعة بسجدة واحدة، فقد تقيدت كل ركعة بسجدة، والركعة المتقيدة بسجدة في حكم ركعة تامة عنده، ولو أخَّر أربع سجدات قصداً من الركعات، فإنه يأتي بها وِلاء عنده في آخر الصلاة، وتصح الصلاة.
ولو أخلى الركعات عن السجدات كلها، فإن كان ذلك عمداً، بطلت صلاته، وإن كان سهواً، لم يعتد بشيء من أعمال تلك الركعات، ومذهبه كمذهبنا في هذه الصورة.
وكذلك لو أخلى كل ركعة عن ركوعها، أو قراءتها، فهذا عمدُه مبطل، وسهوه مقتضٍ ألا يحتسب بما يأتي به على خلاف الترتيب، كل هذا مما وافقنا فيه.
فخرج عن مجموع ما ذكرناه أن الترتيب مستحق بالاتفاق، فليقع التعويل في الدليل على اشتراط الترتيب بالإجماع.
وما ذكره أبو حنيفة في إخلاء كل ركعة عن سجدة واحدة، لم يذكره، لأنه لا يراعي الترتيب، ولكنه اعتقد أن الركعة إذا تقيدت بسجدة، كانت في حكم الركعة التامة، وهذا زلل بيّن؛ فإن الركعة لو تمت، لما وجب تدارك السجدة المتروكة، وأنزلت الركعة المقيّدة بسجدة منزلةَ الركعة التي تدارَك المسبوقُ فيها إمامَه في الركوع؛ فإنها محسوبة، وإن لم يجر فيها القيام على ما يجب عند التمكن.
فقد تمهد إذن ادعاء الإجماع في اشتراط الترتيب، وحُمل مذهب أبي حنيفة في ترك أربع سجدات من أربع ركعات على أمر تخيله في تمام كل ركعة واستقلالها بالسجدات المفردات.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 30، بدائع الصنائع: 1/ 167، 168، تحفة الفقهاء: 1/ 392، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 281 مسألة: 236، حاشية ابن عابدين: 1/ 309، 310.

(2/258)


999 - فإذا تمهد ذلك، فنحن نذكر صوراً في ترك سجدات من ركعات على حكم السهو، ونذكر مقتضى المذهب فيها إذا تَفصَّل (1) للمصلي بعد السهو كيفية الأمر، ثم نذكر ترك سجدات مع التباس الأمر في الكيفية.
فلو ترك سجدةً من الركعة الأولى، وجرى في صلاته على حكم السهو، ثم تذكر كيفية الحال في آخر الصلاة، فنقول: يحصل له من الركعتين الأوليين في الصلاة الرباعية ركعةٌ واحدةٌ؛ فإنه لما قام إلى الركعة الثانية وعليه سجدة من الأولى، فالقيام والقراءة والركوع والاعتدال عنه غير محسوب في الركعة الثانية، لما تقدم تقريره من ترك الترتيب، فلما انتهى إلى السجدتين، احتسبنا له منهما بسجدة واحدة، وتممنا الركعة الأولى، والسجدة الثانية غير معتد بها، وكأنه صلى ركعة واحدة، وأتى لها بثلاث سجدات ساهياً، فيُعتدّ بسجدتين. وتلغى الثالثة.
1000 - ولو ترك سجدة من الركعة الأولى، ثم قام إلى الركعة الثانية ساهياً، ونسي السجدتين جميعاً في الركعة الثانية، ثم أتى في الركعة الثالثة بسجدتين فيحسب له من الركعات الثلاث ركعةٌ واحدة؛ فإن عمله في الركعة الثانية كلا عمل، وما أتى به في الركعة الثالثة قبل السجدتين، فغير محسوب ولا معتد به، فلما انتهى إلى السجدتين، احتسبنا إحداهما، وكملنا به الركعة الأولى، وأحبطنا الثانية، فتحصل له من المجموع ركعةٌ واحدة تامة.
1001 - ولو تبين للذي يصلي أربع ركعات في آخر صلاته أنه ترك من كل ركعة سجدة، فنقول: حصل له ركعة واحدة من الأولى والثانية، وحصلت له ركعة ثانية من الثالثة والرابعة، فيقوم ويضم إليها ركعتين كاملتين ويسجد للسهو، لمكان الزيادة التي يعتد بها.
1002 - ولو ترك سجدة من الأولى، وسجدتين من الثانية، وأتى بسجدتين في الثالثة، وأتى بسجدة واحدة في الرابعة وأخذ يتشهد على أنه أتى بالركعات الأربع على
__________
(1) المعنى أننا نذكر مقتضى المذهب في حالة تفصل الأمر، أي اتضح عند المصلي الساهي، وكذلك في حالة التباس الأمر عليه.

(2/259)


كمالها، ثم تذكر حقيقةَ الحال، تبين أنه حصل له من ثلاث ركعات ركعة واحدة، والرابعة ناقصة بسجدة، وإذا تذكر ذلك، فعليه أن يكمل الركعة الأخيرة بسجدة، فإذا فعل، فقد حصلت له الآن ركعتان، فيقوم ويصلي ركعتين تامتين، ثم يتشهد ويسجد سجدتي السهو.
1003 - ومن القواعد الواضحة في مذهب الشافعي في ذلك، أنه لو ترك المصلي سجدات من ركعات، وأشكل عليه مواضعها، وكيفيةُ الأمر في تركها، واستمر الإشكال، فحق عليه أن يأخذ بأسوأ الأحوال، وما يقتضي مزيدَ العمل على أقصى التقدير في التدارك؛ فإن مذهب الشافعي وجوبُ بناء الأمر عند وقوع الإشكال على الأقل المستيقن، وتدارك المشكوك فيه.
1004 - وبيان ذلك بالتصوير، أنه لو علم في آخر الصلاة الرباعية أنه نسي أربع سجدات، ولا يدري كيف جرى تركها، فنقول: لو كان تمم الركعتين الأوليين وترك أربع سجدات من الثالثة والرابعة، وأخلاهما عن السجود وتشهد، وتذكر، لكُنا نقول: اسجد سجدتين وقد تمت لك ثلاث ركعات، فقم إلى الركعة الرابعة، فهذا حكم هذه الحالة لو كانت.
ولو كان ترك من كل ركعة سجدة، وبان له ذلك بالأخرة، لكُنا نقول: أنت على ركعتين، فقم إلى ركعتين كاملتين: هما ثالثتك ورابعتك.
ولو كان ترك سجدة من الأولى، وسجدتين من الثانية، وسجدة من الرابعة، لكُنا نقول: إذا بان ذلك، أنت الآن على ركعتين إلا سجدة، فاسجد سجدة وقد حصلت ركعتان، وقم إلى تمام ركعتين.
فهذا بيان وجوه الكلام في ترك أربع سجدات [من أربع ركعات، لو تبينت الكيفية، وتفصل الأمر.
فإذا علم أنه ترك أربع سجدات] (1)، ولم يدر كيف تركها، وكيف انقسم تركها على الركعات، فوجه الأخذ بالأسوأ والبناء على الأقل المستيقن، أن نأخذ بترك
__________
(1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

(2/260)


سجدة من الأولى، وسجدتين من الثانية، وسجدة من الرابعة، فيسجد سجدة، وقد تمت ركعتان على قطع، ويقوم إلى ركعتين تامتين، ثم يتشهد بعدهما، ويسجد للسهو، ويسلم.
1005 - وكان شيخي أبو محمد يذكر حيث انتهينا إليه أنه إذا ترك أربع سجدات وأشكل عليه كيفية الأمر، فيسجد سجدتين، ويقوم ويصلّي ركعتين تامتين، وكان يعلل ذلك ويقول: يحتمل أنه ترك السجدتين من الثالثة، والسجدتين من الرابعة، وتمَّمَ الركعة الأولى والثانية. ولو كان الأمر كذلك، لكان الحكم أن يسجد سجدتين، وقد تمت له ثلاث ركعات، ويقوم إلى الرابعة، فإذا أشكل الأمر، فلا يأمن أن يكون الأمر كذلك، فتنحتم سجدتان في الحال، ولو قام، ولم يأت بهما والحالة هذه، بطلت صلاته، فنأمره أن يأتي بسجدتين، ولا يحتسب له إلاّ ركعتان مما أتى به، فيقوم ويصلي ركعتين، فيكون قد أتى بكل ما يقدر وجوبه.
وهذا الذي ذكره غير سديد عندي؛ فإن السجدة الثانية لا تقع موقع الاعتداد في حسابٍ أصلاً، وإنما يقدر الاعتداد بسجدةٍ واحدة، وحيث قدر رحمه الله ترك السجدات الأربع من الثالثة والرابعة، فلو سجد سجدتين، حصل له ثلاث ركعات، وإذا كان الإشكال مستمراً، لا يحصل إلاّ ركعتان، والركعتان تحصلان بسجدة واحدة يأتي بها، ثم يقوم إلى ركعتين أخريين تامتين، والسجدة الثانية إنما أوجبها الشيخ أخذاً من تقدير ترك الأربع من الثالثة والرابعة، وفي هذا التقدير لو سجد سجدتين، لحصلت ثلاث ركعات، فلا وجه لما قاله، إلا أنه قد يجب سجدتان في هذا المقام، ولا يجوز تأخيرهما، فَلْيأتِ بهما، وإن كان لا يستفيد بالثانية شيئاًً معتداً به، وهذا مدخول؛ فإن ما لا يُعتد به قطعاً لا معنى للإتيان به، ولئن كان في الاقتصار على سجدة متعرضاً لإمكان تأخير سجدة في حساب، فليحتمَل ذلك في حال الإشكال إذا كان الإتيان بالكمال يحصل.
والذي يكشف الغطاء في ذلك أنه إن وجب سجدتان لا يعتد بإحداهما لتقدير أنهما قد يقدر وجوبُهما الآن مع تقدير تحريم تأخيرهما، فهذا يعارضه أن السجدة الثانية قد تكون زائدة والإتيان بسجدة في غير أوانها مبطلٌ للصلاة، وهذا يعارض ما ذكره،

(2/261)


وإذا تعارضا، تعين صرفُ الأمر عند الإشكال إلى ما يقدّر أن يقع معتداً به.
وإنما زدت الكلام في ذلك؛ لأن شيخي كان يتولع بما حكيته، ويكرره في دروسه، وهو عندي زلل غير معدود من المذهب أصلاً.
وكل ما ذكرناه فيه إذا استمر الإشكال إلى آخر الصلاة على ما يقدره صاحب الواقعة آخر صلاته، ثم تبين الأمر، أو دام الإشكال في الكيفية.
1006 - فأمّا إذا نسي سجدة من الركعة الأولى، وقام إلى الثانية، ثم تذكر في الثانية ما جرى، نُظر، فإن تذكر وهو في أثناء القيام، فلا شك أنه يقطع القيام، ويعود فيستدرك السجدة المنسية. ثم نفصل القول. فنقول: إن سجد في الأولى سجدةً، فلا يخلو إما أن ينتصب عَقِيبَها (1) قائماً من غير جلوس، وإما أن يجلس، ثم يقوم إلى الركعة الثانية، فإن لم يجلس، وانتصب قائماً، ثم تذكر وأمرناه بالعود، فيعود ويجلس، ثم يسجد عن جلوسٍ، أم يكفيه أن يسجد عن قيام من غير جلوس؟ ذكر أئمتنا في ذلك وجهين في الطرق كلها: أحدهما - أنه يجلس ثم يسجد، فإن المسألة مفروضة فيه إذا لم يكن جلس على إثر السجدة الأولى، والجلوس بين السجدتين ركن كالسجدة نفسها، وهذا ظاهر المذهب.
والوجه الثاني - أنه لا يلزمه الجلوس؛ فإن الغرض من الجلوس الفصلُ بين السجدتين [بانتصابٍ تام، والقيام الذي جرى أفاد ذلك الفصلَ، فليقع الاكتفاء به، وكل هذا في التحقيق يؤول إلى أن الجلسة بين السجدتين ركنٌ مقصود أم الغرض منها الفصل بين السجدتين] (2)؟ وسيأتي بعد ذلك من التفريع ما يشهد لهذا الاختلاف.
__________
(1) "عقيب" بوزن كريم اسم فاعل من قولهم: (عاقَبَه معاقبة، وعقبه تعقيباً)، فهو (معاقب) و (معقب) و (عقيب): إذا جاء بعده، وقال الأزهري: والليل والنهار يتعاقبان، كل واحد منهما عَقِيبُ صاحبه، والسلام يعقب التشهد أي يتلوه، فهو (عقيب) له ... فقول الفقهاء: يفعل ذلك (عَقيبَ) الصلاة، لا وجه له إلا على تقدير محذوف، والمعنى في وقت (عقيب) وقت الصلاة: أي معاقب لها، فيكون (عقيب) صفةَ وقتٍ، ثم حذف من الكلام حتى صَار (عقيب) الصلاة، انتهى بتصرفٍ يسير جداً من (المصباح) فعلى هذا يكون قوله: "ينتصب عقيبها قائماً" معناه ينتصب في الوقت المعاقب لها.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، (ط).

(2/262)


ثم من يكتفي بالقيام فاصلاً، فلا شك أنه يمنع الإتيان بذلك عن الجلوس في حال الذكر، وإنما يقيم القيام مقام الجلسة إذا جرى وفاقاً مع النسيان، والسبب فيه أن القيام ركنٌ مقصود في نفسه، فالإتيان به إقدامٌ على زيادة ركن على نظم الصلاة وترتيبها، فيكون كزيادة ركوع أو سجود.
ولو قيل: الجلوس أيضاً يقع في أوانه ركناً، ويقع به الفصل بين السجدتين؟ فالجواب أن القيام يخالف مورد الشرع، ففي الإتيان به إتيان بصورة ركن على خلاف الشرع، والمتَّبع الشرعُ في العبادات، هذا أصل الشافعي في قاعدة العبادات.
فهذا إذا لم يكن جلس عَقِيب السجدة الأولى من الركعة الأولى، فأما إذا كان جلس، ثم قام قبل أن يسجد السجدة الثانية، نُظر: فإن جلس على قصد الفصل بين السجدتين، ثم طرأت غفلة أذهلته عن السجدة الثانية، فقام، فإذا تذكر، وقطع القيام، فلا يجلس، بل يهوي ساجداً؛ فإن الجلوس قد أتى به على وجهه، ثم قام.
وإن جلس على قصد جلسة الاستراحة وقام، فقد أتى بصورة الجلوس، فإن كنا نقيم القيام مقام الجلوس بين السجدتين، فلا كلام، وإن لم نُقمْه مقام الجلوس، ففي الجلوس الذي أتى به على قصد الاستراحة وجهان: أحدهما - أنه كافٍ ولا حاجة إلى الجلوس عند العود.
والثاني - أنه لابد من الجلوس؛ فإن الجلوَس الذي أتى به قبل السهو نوى به إقامة السنة، والفرض لا يتأدى بقصد السنة، وهذان الوجهان كالوجهين فيما إذا أغفل المتوضىء لمعةً من وجهه في الغسلة الأولى، ثم تداركها في الغسلة الثانية، وقصد بالغسلة الثانية إقامةَ السنة، ففي سقوط الفرض عن اللمعة التي أغفلها وجهان، تقدم ذكرهما في الطهارة.
ولو ترك سجدة من الركعة الأولى، وقام إلى الركعة الثانية، ثم تذكر بعدما انتهى إلى الركوع، فإنه يقطع الركوع ويهوي منه إلى السجود، كما تقدم، ثم التفصيل في القعود كما تقدم.

(2/263)


فصل
1007 - يجمع مجامع الكلام فيما يقتضي سجود السهو، فنذكر ما رسمه أئمة المذهب في التقسيم، ثم نذكر حقيقةً تُطلع الناظرَ على سرّ الفصل إن شاء الله تعالى.
قال الأئمة: سجود السهو يتعلق بترك مأمور به، وارتكاب منهي عنه: فأما المأمور به الذي يتعلق به سجود السهو، فلا شك أن من ترك ركناً من صلاته، لم ينجبر ما تركه بسجود السهو، ولا بد من تدارك ما تركه؛ فإذاً لا يتعلق السجود إلا بترك بعض السنن، ولا خلاف أنه لا يتعلق بترك جميعها، وإنما يتعلق ببعضها.
فالسنن التي يتعلق السجود بتركها: الجلوسُ للتشهد الأول، والقنوت في صلاة الصبح، وإن عُدَّ الوقوف للقنوت، ثم ذُكر القنوت لم يبعد، والصلاة على الرسول في التشهد الأول مختلف فيه، كما مضى في باب صفة الصلاة، فإن لم نرها، فلا كلام، وإن أمرنا بها، فهي من الأبعاض التي يتعلق السجود بها، والصلاة على الآل مختلف فيها أيضاً، ثم إن اعتبرناها، وأمرنا بها، يتعلق بتركها سجود السهو.
ثم سمى الأئمة هذه المأمورات أبعاضاً، ولست أرى في هذه التسمية توقيفاً شرعياً، ولعل معناها أن الفقهاء قالوا: يتعلق السجود ببعض السنن، ثم قالوا: هذه السنن هي الأبعاض التي يتعلق بها السجود، والأبعاض تنطلق على الأقل، وما يتعلق به سجود السهو أقل مما لا يتعلق به السجود من السنن.
ثم من أثبت التشهد الأول سنة، ولم يقض بكونه فرضاً، مجمعون على تعلق سجود السهو به، وكذلك من رأى القنوت مأموراً به، رآه من الأبعاض التي يتعلق بتركها السجود.
وأبو حنيفة (1) لمّا أثبت القنوت في الوتر، علق بتركه السجود، كذلك من رأى القنوت في صلاة الصبح، وفي ذلك آثار عن جهة (2) الصحابة.
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 30، بد ائع الصنائع: 1/ 167، حاشية ابن عابدين: 1/ 315.
(2) في (ل): "جلّة".

(2/264)


ويستمر (1) على مذهبنا في غير القنوت شيء، وهو أن كل سنة ذهب إلى وجوبها طائفة من الأئمة، فهو (2) من الأبعاض، وأحمد بن حنبل أوجب الجلوس الأول، والتشهدَ والصلاة (3)، فجرى ما ذكرناه. والقنوتُ في صلاة الصبح لم يبلغني فيه خلاف في الوجوب، فلعل المتبع فيه الآثار.
ثم من ترك بعضاً من هذه الأبعاض سهواً، سجد، ومن تركها عمداً، فهل يسجد؟ فعلى وجهين: أحدهما - يسجد؛ لتحقق الترك، وهذا القائل يرى العمدَ أولى بالجبران، وأبعد بالعذر (4).
والوجه الثاني - أنه لا يسجد، وهو مذهب أبي حنيفة (5)، ووجهه أن الساهي معذور، فأثبت له الشرع مستدركاً. ومن تعمّد الترك، فقد التزم النقصان، فلم يثبت له الشرع سبيلَ الجبران.
فهذا تفصيل القول في المأمور به الذي يتعلق بتركه السجود.
1008 - فأما المنهي عنه، فقد قال الأئمة: كل منهي عنه لو تعمده المصلي، بطلت صلاته، ولو وقع منه سهواً، لم تبطل صلاته، فنأمره إذا سها، وأتى به، بالسجود.
__________
(1) كذا في جميع النسخ: "ويستمر" وأكاد أقطع أن الصواب هو: "يستد" بمعنى يستقيم؛ فهي الأوفق للمعنى، والأنسب للسياق، ثم هي جارية في لسان إمام الحرمين كثيراً، ثم تصحيفها إلى يستمر من أقرب التصحيفات. والله أعلم. ثم جاءت (ل) بنفس الخطأ: "يستمر".
(2) كذا بضمير المذكر في جميع النسخ.
(3) وجوب التشهد الأول، والجلوس له من مفردات مذهب الإمام أحمد، أما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فواجب، أو ركن في رواية أخرى، في التشهد الأخير. أما في التشهد الأول، فما رأيناه في كتب الحنابلة أن الصلاة لا تُشرع ولا تُستحب فيه، هذا هو المذهب، واختار بعض أئمة الحنابلة مشروعيتها ولكن دون القول بوجوبها.
(ر. المنح الشافيات: 1/ 201، الإنصاف: 2/ 76، 115، 116، المغني: 1/ 606، 610، كشاف القناع: 1/ 388، 390، شرح منتهى الإرادات: 1/ 206، 257، الفروع، 1/ 441، 466، المبدع: 1/ 497، 465، الفتح الرباني بمفردات الإمام أحمد: 1/ 142، 144).
(4) (ت 1)، و (ت 2): أبعد من العذر.
(5) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 306، 497.

(2/265)


وطمع المحققون في طرد هذا الحد وعكسه، في قبيل المنهيات، وقالوا: ما كان عمدُه مبطلاً وفاقاً، فسهوه مقتضٍ للسجود وِفاقاً، وما لا فلا، وما اختُلف في أن عمدَه هل يبطل الصلاة؟ اختُلف في أن سهوه هل يقتضى السجود؟ وسنوضح الوفاء بهذا في الطرد والعكس.
1009 - ومما يخرج على الطرد ترك ترتيب الأركان؛ فإن من قام إلى الركعة الثانية ولم يأتِ بسجدة في الأولى، فإن تعمد ذلك، بطلت صلاته، وإن كان ساهياً، استدركَ الركنَ، كما تقدم تفصيله، وسجد للسهو كما تقدم، وكذلك من زاد ركوعاً أو سجوداً عمداً، بطلت صلاته، ومن سها به سجد، ومن تكلم عامداً، بطلت صلاته، ومن سها به سجد.
ثم من الأصول التي تلتحق بذلك فيما زعموه، أن من طوَّل ركناً قصيراً، أو نقل إليه ركناً، فجمع بين التطويل، ونقْل الركن، [كمن يقرأ] (1) في رفع الرأس من الركوع الفاتحة. قالوا: هذا إذا سها بذلك، يسجد للسهو، وجهاً واحداً، ولو تعمد، بطلت صلاته.
ولو قرأ التشهد في القيام، أو الركوع، أو السجود، أو قرأ الفاتحة في القعود في التشهد، فإن جرى ذلك سهواً، ففي الأمر بسجود السهو وجهان، فإن جرى عمداً، ففي بطلان الصلاة وجهان.
ولو طول القومة عن الركوع بسكوتٍ، أو ذكرٍ ليس بفرض، ففي كونه مبطلاً عند التعمد وجهان، وكذلك في اقتضائه سجودَ السهو عند السهو وجهان، وقال هؤلاء: إن وُجد تطويل الركن القصير، ونقْلُ ركنٍ إليه، فهذا أوان القطع بالبطلان في العمد، والأمر بالجبران في السهو، وإن وجد تطويلٌ بلا نقلٍ؛ كتطويل القيام عن الركوع من غير نقلٍ، أو وجد نقل بلا تطويل ركن قصير، كالذي يقرأ الفاتحة في التشهد، أو التشهد في القيام، ففي المسألة وجهان في البطلان عند التعمد، والجبران بالسجود عند السهو.
__________
(1) في الأصل، (ط)، (ت 1): كما تقرر. والتصويب من: (ت 2).

(2/266)


1010 - فهذه طريقة مشهورة للأئمة، ثم إنا نستتمها ونخوض بعد نجازها في طريقة أخرى.
قال العلماء: القَوْمةُ عن الركوع قصيرة، لا تطويل فيها، إلا القومة التي شُرع القنوت فيها، وكذلك القَوْمةُ عن الركوع في صلاة التسبيح مطولة بالتسبيح، وقد صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، والقيام، والركوع، والسجود، والقعود، والتشهد، كل ذلك طويل. والقعود بين السجدتين مختلف فيه، فالذي ذهب إليه الجمهور، وهو اختيار ابن سريج أنه من الأركان الطويلة، بخلاف القيام عن الركوع، وقال الشيخ أبو علي: هو عندي كالقيام عن الركوع؛ فإن الظاهر أنه مشروع للفصل بين السجدتين، كما أن الاعتدال عن الركوع مشروع للفصل. وهذا الذي ذكره في شرح التلخيص، وهو منقاس حسن، وظاهر قول الأئمة يخالفه.
فهذه طريقة ظاهرة سردناها على وجهها، ومغزاها ربط الجبران في حالة السهو بالبطلان في حالة العمد، وفاقاً، وخلافاً، في النفي والإثبات جميعاًً.
1011 - وذكر بعض الأئمة مسلكاً آخر حسناً، وهو حقيقة الفصل عندي، فقال: من قرأ التشهد في قيامه، أو الفاتحة في تشهده عمداً، لم تبطل صلاته وجهاً واحداً، وفي اقتضاء ذلك سجود السهو عند السهو وجهان مشهوران، وقد ذكر بعض أئمتنا: أن من قرأ الفاتحة، أو بعضاً منها في قيامه من الركوع عمداً، لا تبطل صلاته أيضاً.
1012 - والآن ازدحمت المسائل واختلاف الطرق، فالوجه ذكر ما قيل، ثم اختتام الفصل بترجمة تضبط الطرق.
فأقول أولاً: المصير إلى بطلان الصلاة على من تعمد، فقرأ التشهد في القيام، أو الفاتحة في التشهد بعيدٌ عن القانون، وسبيل الكلام أن نقول: قد قدمنا أن من قرأ
__________
(1) صلاة التسبيح، ورد فيها أكثر من حديث مختلف في صحتها، ما بين ذكر حديثها في الموضوعات، كصنيع ابن الجوزي، وبين تصنيف جزء في تصحيحها كصنيع أبي موسى المديني، بل اختلف فيها كلام إمام واحد من أئمة الفقه والحديث كصنيع الإمام النووي. (ر. التلخيص: 2/ 7، ح 482).

(2/267)


الفاتحة مرتين قصداً في القيام، لم تبطل صلاته، وعُدَّ مصير أبي الوليد النيسابوري في ذلك إلى البطلان من هفواته، وعندي أن المصير إلى بطلان الصلاة بسبب قراءة التشهد على وجه التعمد في القيام، أو القراءة في القعود، قريب من مذهب أبي الوليد في الفاتحة؛ فإن قراءة الفاتحة ركنٌ، فإذا [زيدت وأُعيدت] (1)، لم يجعلها الأئمة كزيادة ركوع أو سجود.
وأما ما حكيته من أن تطويل القيام عن الركوع لا يُبطل الصلاة عند بعض الأصحاب، فالنقل فيه صحيح، ولكن القول فيه يتعلق بترك الموالاة في الصلاة، وهذا أوان بيانه، فأقول:
1013 - ظاهر المذهب أن تطويل الاعتدال عن الركوع غيرُ سائغ؛ فإنه لو ساغ، لم يكن لمصير الأصحاب إلى أن الموالاة شرط في الصلاة معنى؛ فإن الأركان الطويلة إذا كانت تقبل التطويل من غير رعاية [ضبطٍ في ذلك وحدّ، فلا يستقر في رعاية] (2) الموالاة كلامٌ، إلا في الاعتدال عن الركوع، وكان السرّ فيه أنه غير مقصود في نفسه، وأن الغرض منه -وإن كان فرضاً- الفصلُ بين الركوع والسجود، فينبغي ألا يطول الفصل فيما لا يقصد به إلا الفصل، فإن تطويلَه تركٌ لوِلاء الأركان في الصلاة. فمن قال: تطويلة لا يبطل الصلاة أصلاً، فلا يبقى عنده للوِلاء في الصلاة معنى.
والجلسة بين السجدتين عدها الأكثرون من الأركان المقصودة، فهي مطولة إذن، وقال الشيخ أبو علي: هي كالاعتدال من الركوع.
1014 - وقد قدمنا خلافاً في تطويل الاعتدال عن الركوع من غير نقل ركنٍ إليه، ونحن الآن نزيد طريقة أخرى، صح عندنا النقل فيها، فحاصل القول أن في تطويل قَوْمة الاعتدال عن الركوع أوجه: قال قائلون: عمد التطويل مبطل إلا في محل القنوت، وصلاة التسبيح؛ فإنه تَرْكٌ للوِلاء، والموالاة لا بد منها في الصلاة، والتطويل المجرّد عند هذا القائل من المبطلات.
__________
(1) في الأصل، (ط)، (ت 1): ارتدّت، واعتدت.
(2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

(2/268)


وقال آخرون: التعمد بالتطويل المجرد لا يبطل، حتى ينضمَّ إليه نقلُ ركن إليه، وهذ لست أعرف له وجهاً سديداً منقحاً كما أحب.
وقال القفال فيما نقل بعضهم عنه: إن قنت في غير موضعه عامداً في اعتداله، بطلت صلاته، فإن طوّل بذكرٍ آخر، ولم يقصد به القنوت، لم تبطل صلاتُه، فصار ذلك طريقة أخرى.
وقال طوائف من محققينا: لا تبطل صلاتُه بتطويل الاعتدال على أي وجهٍ فُرض، وهذا وإن أمكن توجيهه، ففيه رفْع معنى الموالاة في أركان الصلاة، كما تقدم.
فهذه طرق مختلفة.
1015 - ومن تمام القول في الموالاة أن بعض أصحاب القفال حكى عنه أن من طول السكوت وهو منفرد أو إمام في ركن طويل، بطلت صلاته إذا تعمد، وهذا يختص به إن صح النقل فيه، وهو غريب، فإن أمكن توجيهه؛ فإنه خروج عن هيئة المصلين، فكان كالأفعال الكثيرة المتوالية، ويمكن أن يقال أيضاً، هو في حكم ترك الموالاة؛ فإن الصلاة مبناها على تواصل القراءة، والأذكار والدعوات، فَلْيَتَأمل الناظر اختلاف الطرق.
1016 - وأنا أقول: من ربط الأمر بالسجود بتقدير البطلان عند العمد، فقد طرد قياساً، وإن كان فيه من البعد ما وصفته، من أن المصير إلى بطلان الصلاة بقراءة التشهد في القيام فيه بعض [البعد] (1)، ومن قال: لا تبطل الصلاة بذلك وجهاً واحداً، وفي سجود السهو وجهان، فقد يقول: لا تبطل الصلاة بالقراءة في الاعتدال من الركوع، فكأن هذا القائل نحا في السجود نحواً آخر، وهو السرّ الموعود.
فقال: التشهد الأول وإن لم يكن ركناً، ولم يكن تعمد تركه مبطلاً للصلاة، ففي تركه سجود السهو، فلا يبعد أن يكون في المنهتات ما ينزل تركه منزلة الإتيان بالتشهد في المأمورات.
__________
(1) في الأصل، (ت 1)، (ط): "النقد" وفي (ت 2): "التعبد" والمثبت تقديرٌ منا والحمد لله صدقته (ل).

(2/269)


وحاصل القول يرجع عند هذا القائل إلى أمرِ بديع، وهو أن المصلي مأمور بالتصوّن والتحفظ، وإحضار الفكر والذهن، حتى لا يتكلم ولا يفعل فعلاً كثيراً، والأمر في ذلك مؤكد عليه حسب تأكد الأمر بالتشهد، وإن سها وتكلم، فالساهي على الجملة معذور غير مكلف في حالة اطّراده بسهوه، ولكنه يؤمر بالسجود، لتركه التحفظ عن الغفلات بإدامة الذكر، فكأنَّ كلَّ سجوب منوطٌ بترك أمر مؤكد غير محتوم، فالأمر بالتشهد وما في معناه من الأبعاض، والأمر بالتحفظ إذا ظهر تركه والهجوم على منهي عنه من هذا القبيل.
فلينعم الناظر نظرَه في ذلك، وليعلم أن المعتمد عند هذا القائل تركُ ما يغير نظمَ الصلاة تغييراً ظاهراً؛ فإنّ ترك التشهد الأول يغير النظمَ الظاهر المألوف في الصلاة، كذلك تركُ التحفظ حتى يؤدي إلى تطويل ركن، أو نقل ركن مما يغير النظمَ الواضح، والشعارَ البيّن فتعلق به على الوفاق والخلاف السجود.
وأما ترك تسبيح الركوع والسجود، وتكبيرات الانتقالات، والجهرِ في الجهري، والإسرارِ في السري، فلا تبلغ هذه الأشياء مبلغ تغيير الشعار الظاهر، والنظم المألوف
وقد خالف أبو حنيفة (1) في بعض ما ذكرناه، فأثبت السجود في الجهر بالقراءة في الصلاة السرية، وفي الإسرار بها في الصلاة الجهرية، وسبب مصيره إلى ذلك تغيير الشعار.
1017 - وقال أبو حنيفة (2): على من ترك التكبيرات الزائدة في صلاة العيد السجود، وكنت أود أن يصير إلى ذلك صائر من أصحابنا، من جهة أن التكبيرات الزائدة في صلاة العيد قريبة الشبه بالقنوت في الصلاة المختصة بالقنوت، ولكن قد ينقدح في ذلك فرق لا بأس به، وهو أن التكبير في يوم العيد من شعار اليوم، ولذلك
__________
(1) ر. بدائع الصنائع: 1/ 166، تحفة الفقهاء: 1/ 396، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 275 مسألة: 229. حاشية ابن عابدين: 1/ 498.
(2) ر. مختصر الطحاوي: 30، بدائع الصنائع: 1/ 167، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 275 مسألة: 229، تحفة الفقهاء: 1/ 395.

(2/270)


نستحبه في الطرق والمساجد، وفي أثناء الخطبة، وفي الصلاة، فكأن التكبيرات ليست من خصائص الصلاة بخلاف القنوت. ثم في السجود لترك القنوت آثارٌ عن الصحابة ذكر المزني بعضها.
1018 - ثم نقول: إن صار أصحابنا إلى ربط سجود السهو ببعض السنن المؤكدة، فالذي ذكروه لا يبعد، مع مصيرهم إلى أن سجود السهو سنة، فلا يبعد أن يُجبرَ مسنون بمسنون، وأما أبو حنيفة، فقد علق سجود السهو بسنة، ثم أوجب سجود السهو (1)، وإيجاب الجبران في مقابلة ترك المسنون بعيد عن التحصيل.
وقد انتهى تفصيل المذهب فيما يقتضي سجود السهو على اختلاف الطرق وتباين المسالك، فإن شذ عن الضبط شيء، تداركناه برسم فروع وفصول إن شاء الله تعالى.
فرع (2):
1019 - إذا رفع المصلي رأسه عن السجدة الثانية في الركعة الأولى، فظن أنها الثانية، فقعد ليتشهد، فالذي ذكره الأئمة: أنه إن افتتح التشهد، أو طول هذه الجلسة، سجد للسهو.
قال الصيدلاني: المقتضي للسجود أحد الأمرين: إمّا الأخذ في التشهد، وإما تطويل القعود، ولم أر في ذلك خلافاً، وكأن التشهد في غير موضعه في تغيير هيئة الصلاة ينزل منزلة ترك التشهد المشروع المسنون في أوانه، وجلسةُ الاستراحة لا تطول وفاقاً، وليس فيه من التردد ما حكيناه في الجلسة بين السجدتين.
ثم من قال من أئمتنا: من طوَّل الاعتدال عن الركوع قصداً، أو قنت فيه عمداً، بطلت صلاته، فلا بد وأن يقول: إذا تشهد في جلسة الاستراحة قصداً أو طولها، كان الحكم في بطلان الصلاة عند التعمد، كالحكم في تطويل الاعتدال عن الركوع.
فرع:
1020 - نقل الشيخ أبو علي في شرح التلخيص عن ابن سريج أنه قال: من جلس عن قيام في الركعة الأخيرة، فسها، وظن أنه قد سجد، فتشهد، ثم تذكر،
__________
(1) الذي رأيناه عند الحنفية أنهم يعلقون سجود السهو بواجب، ر. بدائع الصنائع: 1/ 163، 164، تحفة الفقهاء: 1/ 388، حاشية ابن عابدين: 1/ 497.
(2) في (ت 1)، (ت 2): (فصل) بدل (فرع).

(2/271)


فلا شك أنه لا يعتد بالتشهد، وأنه يسجد ويتشهد مرة أخرى، ثم يسجد للسهو، فإنا نأمر من طوَّل جلسة الاستراحة، أو تشهد فيها بالسجود، وذلك الجلوس مشروع على الجملة، فأما الجلوس عن القيام، فغير مشروع، وإذا تشهد فيه قبل السجود الركن سجد للسهو.
1021 - وقال: لو سجد في الركعة الأخيرة سجدة واحدة، واعتدل جالساً، وظن أنه فرغ من السجدتين وتشهد، ثم تذكر، فيسجد السجدة الثانية، ويعيد التشهد، لا محالة؛ رعايةً للترتيب، ولا يسجد للسهو؛ فإن الجلسة بين السجدتين طويلة، وهي محل الذكر، فلم يطوّل ركناً قصيراً، ولم يأت بجلوس في غير موضعه، والتشهد الذي أتى به بمثابة ذكرٍ آخر من الأذكار يأتي به.
فقال أبو علي: يحتمل أن أقول: الجلسة بين السجدتين قصيرة، وهي للفصل كالاعتدال عن الركوع، وهذا قد مضى ذكره، ثم قال: إن سلّمنا أنها طويلة، فقد أتى فيها بالتشهد، وهو على الجملة ركن أتى به في غير أوانه، وقد ذكرنا خلافاً ظاهراً للأصحاب فيمن نقل ركناً إلى ركن طويل، كالذي يتشهد في قيامه، أو يقرأ في قعوده، وهل يسجد للسهو؟ والذي ذكره الشيخ أبو علي حسن بالغٌ جارٍ في قاعدة المذهب.
1022 - وأنا الآن أذكر شيئاًً لا بدّ من التنبيه له، فأقول: الركوع لا يعهد في الصلاة إلا ركناً، فلا جرم نقول: من زاد ركوعاً قصداً، بطلت صلاته، وكذلك القيام لا يكون إلا ركناً، فلو زاد قياماً قصداً، بطلت صلاته، فأما الجلوس، ففي الصلاة جلوس مشروع، وهو الجلوس للتشهد، وجلسة الاستراحة بين السجدتين، فلو جلس المصلي لمَّا انتهى إلى السجود من القيام جلسةً خفيفة، وسجد منها، لم تبطل صلاته؛ فإنه ليس آتياً بما لا يعهد إلا ركناً، وهو في نفسه ليس في حد الفعل الكثير أيضاً. ولكن لو طال الجلوس أو ابتدأ التشهد، فقد أتى بما يغير نظمَ الصلاة تغييراً ظاهراً، فنأمره بسجود السهو.
فإن قيل: في الصلاة سجود ليس بركن وهو سجود التلاوة، وسجود السهو؟

(2/272)


قلنا: هما يقعان لعارض يعرض، فكأنهما ليسا من الصلاة، والجلسة المستحبة تقع من نفس الصلاة، وهذا بين.
ولو كان قائماً، فجلس، ثم قام عمداً، بطلت صلاته، لا لعين الجلوس، ولكن لأنه قطع القيام ثم عاد إليه، فكان آتياً بقَوْمَتين. فهذا منتهى ما أردناه في ذلك.
فرع:
1023 - ذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: أن القاعد للتشهد لو قرأ سورةً أخرى سوى الفاتحة، كما لو قرأ الفاتحة. وهذا الذي ذكره متجه حسن، من جهة أن المعتبر تغيير الشعار الظاهر في الصلاة، ولكن ينقدح على مذاهب طوائفَ خلافُ ذلك، من جهة أن هذا ليس نقلَ ركن من محله إلى غيره.
فصل
1024 - قد ضبطنا فيما تقدم طرقَ الأصحاب فيما يتعلق به سجود السهو تفصيلاً وتعليلاً، ومضمون هذا الفصل الآن شيئان: أحدهما - لو شك هل سها أم لا كيف يكون حكمه؟
والثاني - أنه لو استيقن السهوَ، وشك في سجود السهو فبماذا يؤمر؟
1025 - أما الشك في السهو، فقد قال الأئمة: السهو ينقسم إلى ترك مأمورٍ، وارتكاب منهي، أما المأمورات، وهي الأبعاض، فإن شك هل ترك شيئاًً منها، (1 فالأصل أنه لم يأت به، فيسجد للسهو.
وأما المنهيات، فإن شك في ارتكاب شيء منها 1)، فقد أجمع أئمتنا أنه لا يسجد، كالذي شك هل سلم أو تكلم في صلاته، فلا يسجد، والأصل أنه لم يأت بذلك المنهي، فالمتبع إذاً في الأصلين بناء الأمر على أنه لم يأت بما شك في الإتيان به.
قال العراقيون: من شك في الإتيان بمنهي، فلا سجود عليه إلا في مسألة واحدة،
__________
(1) ما بين القوسين ساقطة من: (ت 2).

(2/273)


وهي أنه لو شك المصلي في أعداد ركعات الصلاة، فلم يدرِ أثلاثاً صلّى، أم أربعاً؟ وبنى على المستيقن، فإنه يسجد. وسبب السجود أنه شك هل زاد في صلاته، والزيادة منهي عنها، وقد شك هل أتى بها أم لا، ومع ذلك أجمع الأئمة على أنه مأمور بالسجود، ونطق به الخبر.
وذكر الشيخ أبو علي: أن السجود في حق من شك وبنى على المستيقن معلل بأن الركعة التي أتى بها (1 إن كنت زائدة، فقد زاد ساهياً، وإن كانت رابعة، فقد أتى بها 1) وهو على التردد فيها، فوهى بهذا السبب قصدُه في إقامة الفرض، فهذا هو المقتضي للسجود.
ثم يتفرع على ما ذكرناه في ذلك:
فرع:
1026 - وهو أنه لو بنى على الأقل، وقام إلى ركعة يجوز أن تكون خامسة، فلما انتهى إلى آخر صلاته، تبين أنها كانت رابعة قطعاً، فالذي قطع به الشيخ أبو علي أنه يسجد للسهو. وهو مستقيم على طريقه؛ فإنه قد أدى الركعة الرابعة وهو متردد في فرضيتها.
وكان شيخي يقول: لا يسجد في هذه الصورة؛ فإنه لو سجد، لكان ذلك السجود على مقابلة خَطْرة محضة تحقق زوالها، وكان يقول: الوجه في الأمر بالسجود في قاعدة المسألة الخبرُ الصحيح، ولا يستقيم ذلك على وجه من المعنى، ثم الحديث ورد فيه إذا دام الشك، ولم يزُل، فالوجه الاقتصار على مورد الخبر.
نعم، لو استيقن أنه زاد ركعةَّ فَي آخر صلاته، فالأمر بالسجود في هذه الصورة مترتب على أصل مجمع عليه مقطوع به؛ فإنه زاد في صلاته أركاناً ناسياً، وهذا مما يقتضي السجود.
فهذا كله فيه إذا شك هل سها أم لا.
1027 - فأما إذا استيقن السهو، وشك قبل السلام، فلم يدر أسجد للسهو، أم لا، فَلْيَسْجد؛ فإن سجود السهو مشكوك فيه، والأصل عدمه، فيتعين الإتيان به،
__________
(1) ما بين القوسين ساقطة من: (ت 2).

(2/274)


وكذلك لو شك، فلم يدر أسجد سجدةً أو سجدتين، فيأخذ بأنه سجد سجدة واحدة، ويأتي بسجدة أخرى.
ثم أجمع الأئمة قاطبة في أنه بهذا السبب الذي جرى، وهو بناؤه على الأقل وإتيانه بسجده أخرى لا نأمره بسجدتي السهو ابتداءً، وإن كان قياس البناء على الأقل في ركعات الصلاة يوجب أن يسجد هاهنا؛ فإنه يجوز أن تكون السجدة التي أتى بها أو السجدتان جرتا على حكم الزيادة، وأنه قبلهما سجد سجدتين، وحكى الأئمة الوفاق في ذلك من المذاهب كلها.
وفي هذه المسألة جرت مفاوضة بين الكسائي (1) وأبي يوسف (2)، فإن الكسائي قال: من تبحر في صنعةٍ يهتدي إلى سائر الصنائع، فقال أبو يوسف: فأنت متبحر في العربية، فما قولك فيمن شك هل سجد للسهو أم لا؟ فأَخَذَ (3) بأنه لم يسجد، فسجد، هل يلزمه السجود لجواز أن السجدة التي أتى بها بعد التردد زائدة؟ فقال الكسائي: لا يسجد، فسأله العلّة، فقال: لأن المصغَّر لا يصغر. فذكر العلة في صيغة مسألة من العربية، وذلك لأن التصغير لو صغر، لصغر تصغير التصغير، ثم هذا يتسلسل إلى غير نهاية.
كذلك الذي سجد للسهو في السجود، فلو أمرناه بالسجود لذلك، فقد يسهو على النحو الأول، فلو سجد السجدتين الأخريين اللتين أمرناه بهما، فيحتاج إلى أن يسجد مرة أخرى، ثم يفرض مثل هذه الوسوسة أبداً. فعُدَّ هذا من محاسن آثار فطنة الكسائي؛ فإنه أصاب أولاً في الجواب، ثم طبق مفصل التعليل، وأتى بمسألة من
__________
(1) الكسائي: علي بن حمزة بن عبد الله الأسدي بالولاء. الكوفي، مؤدب الرشيد، وابنه الأمين، وجليس الخلفاء، إمام اللغة، والنحو، والقراءات. ت 189 هـ (الأعلام للزركلي).
(2) أبو يوسف: يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري. صاحب الإمام الأعظم أبي حنيفة، وقاضي القضاة، وناصح هارون الرشيد، ومؤلف كتاب الخراج له. (ر. الجواهر المضية في طبقات الحنفية: 2/ 220، والبداية والنهاية: 10/ 180).
(3) كذا في جميع النسخ، وفي (ت 2): "فأخبر" وهي واضحة المعنى، أما "أخذ" فمعناها: رأى واختار، ثم جاءتنا (ل) فكانت مثل سابقاتها: "فأخذ".

(2/275)


العربية وفاء بما كان ادعاه أولاً، من أن التهدّي في صنعةٍ مرشدٌ إلى غيرها.
وتمام الحكاية أنه سأله في المجلس بعد إصابته في المسألة الأولى عن الطلاق قبل النكاح في المسألة المشهورة، فقال: لا يقع ويلغو، فسأله العلة، فقال: لا يسبق السيلُ المطر، فاستعمل مثلاً سائراً، وأشار إلى معتمد من يُبطل تعليق الطلاق قبل النكاح؛ فإنه يقول: الطلاق تصرُّفٌ في النكاح فترتب عليه، فتقديره سابقاً غير مستقيم.
فرع:
1028 - إذا اعتقد المصلِّي أنه سها، وما كان عَقْدُه متردداً، فسجد سجدتي السهو، ثم تبين له قبل أن يسلم أنه ما كان ساهياً، فقد قال بعض المحققين: يسجد الآن قبل أن يسلم سجدتين، من جهة أن سجدتي السهو المعتقد أوّلاً عينُ السهو، فقد تحقق قبل أن يتحلل عن صلاته أنه زاد في الصلاة سجدتين، وهذا يقتضي السجود.
وكان شيخي يقول: لا يسجد في هذه الصورة، وهذا فيه فقه، فلا يمتنع أن يقال: سجدتا سهوه سهوٌ من وجه وجبرانٌ من وجه، فهما يجبران أنفسهما، كما يجبران كل سهو يقع، وهذا كإيجابنا شاة في أربعين شاة، فإذا أخرجها المكلّف فهي تطهر النصاب، والنصاب أربعون، فقد طهرت ما بقى، وطهرت نفسها، وهذا يعتضد بما تمهد من أن السجود يتداخل وإن تعدد السهو.
فرع:
1029 - إذا سها وسجد سجدتي السهو، فلما رفع رأسه عن السجدة الثانية، تكلم ناسياً؛ فإنه لا يسجد لمكان هذا السهو، وقد اتفق الأئمة عليه، وهو يقرب من صورة التسلسل من جهة أنه يتوقع أن يسهو مرة أخرى لو أمرناه تقديراً بالسجود ثانياً، والتحقيق فيه أن سجود السهو لا يتعدد بتعدد السهو عند العلماء، ولذلك أخرنا سجدتي السهو إلى آخر الصلاة، حتى يتقدم عليه كل ما يفرض من سهو، ولما كان السجود يتعدد بتعدد تلاوة الآيات التي تقتضي سجودَ التلاوة، استعقبَ كلُّ تلاوة سجدتَها.
فإذا تمهد ذلك، فإن سجد للسهو المتقدم، ثم سها قبل السلام، فيقدر كان هذا السهو تقدم على السجود؛ إذ مبنى الباب على أن السجود لا يتعدد بتعدد السهو، ولهذا أخرنا سجود السهو، فإن اتفق وقوع سهو بعد السجود، فذاك في حكم المجبور بالسجود المقدم.

(2/276)


1030 - وذهب ابن أبي ليلى (1). إلى أنه يقتضي كلُّ سهوٍ سجدتين، وهو مع ذلك لا يُعقب كلَّ سهو سجدتين، بل يؤخر السجدات، وقد احتج بما رواه عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل سهو سجدتان" (2)، واعتمد الشافعي حديث ذي اليدين، فإنه تعدَّدَ السهو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه سلم ناسياً، ثم استدبر القبلة، ثم تكلم، ثم سجد سجدتين.
وأما حديث ثوبان، فقد رأى الشافعي فيه محملاً، وذلك أنه أراد عليه السلام أن يبين أن سجود السهو يتعلق بأصناف من السهو بعضها تَرْك، وبعضها فعل، فلا يختص ثبوت السجود بصنف، وهو بمثابة قول القائل: لكل ذنب توبة، أي لا يختص وجوب التوبة بنوع دون نوع.
والذي ذكره الشافعي تأويل محتمل، وحديث ذي اليدين لا يقبل وجهاً من التأويل في الغرض الذي نحن فيه.
1031 - ثم قال صاحب التلخيص: لا تتعدد سجدتا السهو إلا في مسائل منها: أن القوم إذا كانوا يصلون الجمعة، فسَهَوْا، وسجدوا، ثم بان لهم أن الوقت خارج، فإنهم يتمون الصلاة ظُهْراً ويسجدون مرة أخرى.
وكذلك المسافر إذا سها في صلاة مقصورة وسجد، ثم بان له قبل التحلل أن السفينة قد انتهت إلى دار الإقامة؛ فإنه يتمم الصلاة، ويعيد السجود.
والسبب في هذا الجنس أن الصلاة إذا زادت، وانقلبت عن العدد المقدر فيها، فالسجود يقع في وسط الصلاة غيرَ معتد به، فإذا بطل، فلا بدَّ من الإتيان بالسجود في آخر الصلاة، وإن كان يصح الاستثناء لو كان يعتد بالسجودين، ولا يبطُل واحد منهما.
__________
(1) ابن أبي ليلى: عبد الرحمن بن أبي ليلى أبو عيسى. من أكابر تابعي الكوفة. ت: 82 هـ (وفيات الأعيان: 3/ 126).
(2) حديث ثوبان: أخرجه أبو داود، وابن ماجة، وأحمد، وصححه الألباني (ر. أبو داود: 1/ 630، كتاب الصلاة، باب من نسي أن يتشهد وهو جالس، ح 1038، وابن ماجة: 1/ 385، كتاب إقامة الصلاة، باب ما جاء فيمن سجدهما بعد السلام، ح 1219، والمسند: 5/ 280).

(2/277)


ومما استثناه أن المسبوق إذا سجد مع إمامه، وكان سها إمامه، فإذا قام وتدارك ما فاته، فإنه يسجد في آخر صلاة نفسه.
وهذا سببهُ أن ما أتى به مع إمامه كان لأجل المتابعة، وسجود السهو ما يأتي به في آخر الصلاة.
فصل
1032 - مضمون هذا الفصل أمران: أحدهما: تفصيل القول في أن المقتدي إذا سها وراء الإمام كيف يكون حكمه؟
والثاني - أن الإمام إذا سها، فكيف يجري الأمر في حق المأموم؟
فأما المأموم إذا سها في حال كونه مقتدياً، فالإمام يحمل عنه سهوه، ولا يسجد الإمام بسهو المأموم، ولا يسجد المأموم بسهو نفسه (1 وهذا متفق عليه.
ولو كان مسبوقاً، فسها مع إمامه، ثم انفرد بتدارك ما فاته، فلا يسجد في آخر صلاة نفسه 1)؛ فإن السهو الذي جرى مع الإمام محطوط، لا حكم له.
1033 - ثم ذكر صاحب التلخيص جوامع القول فيما يتحمله الإمام عن المأموم، فعدّ من جملتها سجودَ السهو، كما ذكرناه.
ومما يتحمله: سجود التلاوة، فإن المأموم لو قرأ آية فيها سجود التلاوة، لم يسجد.
ويتحمل عن المقتدي قراءةَ السورة، ودعاء القنوت على التفصيل المذكور في صفة الصلاة.
ويتحمل عن المسبوق الذي أدركه في الركوع قراءةَ الفاتحة، واللُّبث في القيام، ولا يتحمل أصل القيام، فلو أوقع المسبوق التكبيرة في الركوع، لم تنعقد صلاته.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).

(2/278)


ومما عده الجهرُ؛ [فإن المأموم لا يجهر بالقراءة] (1) في الصلاة الجهرية، ثم قال: لا يجهر المأموم بشيء إلا بالتأمين، وفيه الخلاف المذكور فيما سبق.
ومما يتحمله القعدة الأولى في صورةٍ، وهو أن يدرك المسبوق الإمامَ في الركعة الثانية، فإذا قعد الإمام للتشهد، فالمأموم يتابعه، وهو غير محسوب للمقتدي في صلاته، ثم يقوم الإمام إلى الثالثة، فإذا فرغ، لم يقعد، وهذا أوان قعود المأموم لو كان يتمكن، لكنه لا يجلس، فجلوسه في أوانه متحمّلٌ محطوطٌ عنه.
فرع:
1034 - المسبوق إذا اقتدى، فلما سلم إمامُه، سلم هذا المقتدي غالطاً، فتذكر، بنى على صلاته، وسجد للسهو؛ فإن سهوه -وهو سلامه- وقع بعد سلام إمامه، فقد سها منفرداً، فكان عليه أن يسجد.
1035 - ولو كان مسبوقاً بركعة، فجلس إمامه للتشهد الأخير، فسمع المسبوق صوتاً، وظن أن إمامه قد تحلل عن صلاته، فبنى الأمر عليه، وقام، وتدارك الركعة، ثم جلس، والإمام بعدُ في الصلاة، فقد قال الأئمة: لا يعتد له بهذه الركعة، فإنه أتى بها مع إمامه، وحكم القدوة متعلّق به، وما نوى الانفراد وقَطْع القدوة، ولكنه ظن أن القدوة [زايلته، وما كان الأمر كما ظنه، ولا يتصور مع بقاء القدوة] (2) أن يحتسب بركعة (3) للمقتدي، وهو في الصورة منفردٌ فيها - ولو أنه سها في هذه الركعة بأن تكلم ساهياً مثلاً، ثم بان بالأخرة ما بان، فذلك السهو محمول عنه، وهذه الركعة سهو كلها، ولا نأمره أن يسجد بسببها، لأن حكم القدوة باقٍ، ولو كانت المسألة بحالها، فعادَ والإمامُ بعدُ في الصلاة، فإذا سلّم الإمام، قام، وتدارك تلك الركعة، بعد تحلل الإمام، والذي جاء به غير محسوب.
1036 - ولو ظن أن الإمام قد سلم، فقام على هذا الظن، ثم تبين في أثناء القيام أن الإمام لم يتحلل بالسلام، فإن آثر أن يرجع لما تبيّن، فهو الوجه، وإن بدا له أن
__________
(1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(3) (ت 2): ركعة.

(2/279)


يتمادى ويقصد الانفراد قبل تحلل الإمام، فهذا أولاً مبني على أن المقتدي إذا أراد الانفراد ببقية الصلاة، وقطْعَ القدوة، والإمام بعدُ في الصلاة، فهل له ذلك؟ فيه خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى. فإن منعنا ذلك، تعين على الذي تبين له حقيقةُ الأمر أن يرجع إلى حكم القدوة.
وإن جُوِّز له الانفرادُ وقطْعُ القدوة، فإذا قام ساهياً، كما تقدم، ثم بدا له أن يتمادى، ففي المسألة وجهان: أحدهما - ليس له ذلك؛ لأن نهوضه إلى القيام وقع غيرَ معتد به، فينبغي أن يعود، ثم يبتدىء انتهاضاً على بصيرة، ويقطع القدوة، إن أراد قطعها.
والثاني - أنه لا يلزمه ذلك؛ فإن الانتهاض إلى القيام في عينه ليس بمقصود، وإنما الغرضُ القيامُ نفسه، وما عداه من الأركان، وقد تمادى الآن فيه، فكان كما لو قصد ذلك عند ابتداء النهوض.
ولا شك أن هذا مفروض فيه إذا لم يكن قرأ في القيام، فإنه لو قرأ، ثم تبين له الأمر، فتلك القراءة لا يعتد بها؛ فإذا تمادى وشرعنا له ذلك، فيلزمه أن يقرأ مرة أخرى.
فهذا كله في سهو المأموم وتحمّل الإمام عنه.
1037 - وأما تفصيل القول في سهو الإمام، فسنذكر تفصيل القول في المقتدي الذي ليس مسبوقاً، ثم نذكر حكم المسبوق.
فأما غير المسبوق، فنقول فيه: إذا سها إمامه سهواً يقتضي السجود، نُظر: فإن سجد الإمام، فعلى المقتدي أن يسجد متابعة له، فلو لم يسجد على قصد، بطلت صلاته، لمخالفته مع بقاء حكم القدوة.
فأما إذا لم يسجد إمامه، فالنص أن المقتدي يسجد ثم يسلم.
وقال المزني والبويطي: لا يسجد؛ فإنه ما سها هو في نفسه، وإنما كان يسجد متابعة للإمام. وقد ذهب إلى هذا بعضُ أئمتنا، وعبّر عن الخلاف بأن المقتدي يسجد لسجود الإمام (1 أو يسجد لسهوه؟ فظاهر النص أنه يسجد لسهوه، ولما يلحق صلاتَه

(2/280)


من حكم النقصان بسبب اقتدائه، والإمام قَدْ سها، ومذهب المزني والبويطي أنه يسجد لسجود الإمام 1)، وهو مذهب [بعض] (2) أصحابنا، وهو منقاس حسن، وإن كان ظاهر النص بخلافه.
فهذا إذا لم يكن المقتدي مسبوقاً.
1038 - فأما إذا كان مسبوقاً، فإن سها الإمام بعد اقتدائه، فإن سجد، فظاهر المذهب أنَّ المقتدي المسبوق يسجد معه؛ (3 رعاية للمتابعة.
وذكر الشيخ أبو بكر عن بعض الأصحاب أن المسبوق لا يسجد مع الإمام 3)؛ فإن هذا ليس وقتَ السجود في حق المسبوق؛ إذ موضع سجود السهو آخر الصلاة، وهذا غريب، ولكن حكاه الصيدلاني.
فإذا جرينا على الأصح وهو أن يسجد، فلو سجد، ثم قام إلى استدراك ما فاته، فهل يسجد في آخر صلاته مرة أخرى؟ فعلى قولين: أحدهما - أنه يسجد؛ لأن السجود الذي أتى به مع الإمام لم يكن في آخر صلاته، وإنما أتى به رعاية للمتابعة، فإذا انتهى إلى آخر صلاة نفسه، فليسجد الآن.
والثاني - أنه لا يسجد؛ فإنه قد أتى بحق المتابعة؛ إذ سجد مع الإمام، وليس هو الساهي في نفسه حتى يسجد.
فهذا إذا سها الإمام وسجد.
فأما إذا لم يسجد الإمام، فظاهر النص أن المسبوق يسجد في آخر صلاة نفسه.
وقال المزني والبويطي: لا يسجد، ووافقهما بعض الأصحاب كما تقدم.
ثم لا شك أن الإمام إذا لم يسجد، فالمسبوق لا يسجد في آخر صلاة الإمام، فإن هذا سجودٌ في غير موضعه، إذا نظرنا إلى نظم صلاة المسبوق، ولم يسجد الإمام حتى يتابعه. وإنما الخلاف في أنه هل يسجد في آخر صلاة نفسه؟.
وهذا كله فيه إذا كان المقتدي مسبوقاً، وقد سها إمامه بعد اقتدائه.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).
(2) مزيدة من: (ت 1).
(3) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).

(2/281)


1039 - فأما إذا كان سها الإمام قبل اقتدائه، فظاهر المذهب أنه يلحق المقتدى حكمُ السهو، ويكون كما لو سها بعد اقتدائه؛ فإن الصلاة واحدة.
ومنهم من قال: لا يلحقه حكم هذا السهو لأنه جرى وهو غير مقتدٍ، وهذا بعيد ضعيف، ولكن حكاه الصيدلاني على ضعفه، فإن قلنا: يلحقه حكم هذا السهو، فهو كما لو سها الإمام بعد اقتدائه، وقد سبق التفصيل فيه.
وإن قلنا لا يلحقه، فمما يتفرع عليه، أنه لو لم يسجد الإمام، فلا يسجد هو، وجهاً واحداً، وإن سجد الإمام، فالظاهر في التفريع أنه لا يسجد مع إمامه متابعاً، وقال بعض أصحابنا: يسجد معه متابعاً، ولكن لا يسجد في آخر صلاته.
هذا تفصيل القول في سهو الإمام في حق المقتدي [المسبوق] (1).
فرع:
1040 - المسبوق إذا سها إمامه بعد اقتدائه وسجد، فسجد المقتدي متابعاً، وفرعنا على أن المسبوق يُعيد السجودَ في آخر صلاة نفسه، فلو تحلل الإمام واشتغل بقضاء ما فاته، فسها بعد انفراده سهواً يقتضي السجود، وقد كان لحقه من جهة الإمام سهو، فالمذهب أنه يكفيه عن الجهتين سجدتان؛ فإنَّ مبنى السجود على التداخل كما ذكرناه.
وذكر العراقيون وجهاً آخر، فقالوا: من أصحابنا من قال: يسجد أربع سجدات، سجدتين عما لحقه من جهة الإمام، وسجدتين عما وقع له لمّا انفرد، والسبب فيه اختلاف جهة السهو، وهو غير سديد، والوجه القطع بأنه يكفي سجدتان عن الجهتين جميعاًً.
فصل
1041 - سجدة الشكر مسنونة عندنا، ووقتها إذا فاجأت الإنسانَ نعمة كان لا يتوقعها، أو اندفعت عنه بليةٌ، من حيث لا يحتسب اندفاعَها، فمفاجأة النعمة دفعاً ونفعاً يقتضي سجودَ الشكر، وفيه أخبار مشهورة، والسجود على استمرار النعمة
__________
(1) زيادة من: (ت 2).

(2/282)


لا يستحب، وإذا رأى الإنسانُ صاحبَ بلاء، فهاله ما به، فحسنٌ أن يسجد، وقد روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى نُغَاشِياً (1) فسجد شكراً لله تعالى" (2)، والنغاشي الناقص الخلق.
ثم قال الأئمة: إن رأى مبتلىً - معذوراً فيما به؛ فلا ينبغي أن يسجد بمرأى منه، فإنه قد يتداخله من ذلك غضاضة، وإن رأى فاسقاً مبتلىً بما يعانيه، فينبغي أن يسجد بحيث يراه، فعساه يرعوي عما يتعاطاه.
ثم لا يجوز أن يسجد في الصلاة شكراً، ولو سجد، بطلت صلاته، وإنما جازت سجدةُ التلاوة في الصلاة، لتعلق التلاوة بالصلاة.
1042 - فالسجدات إذن عندنا أربعة أصناف: سجدةُ الصلاة، وسجدة التلاوة، وسجدة السهو، وسجدة الشكر.
وسجدة الشكر من جملتها لا تقام في الصلاة. وسجدة الصلاة من أركانها المختصة بها. وسجدة السهو مختصة بها أيضاً، وفي محلّها التفصيل المقدّم في صدر الباب. وسجدة التلاوة تقع في الصلاة وفي غيرها. وسجدة الشكر لا تقع في الصلاة.
ثم كيفية سجود الشكر في الأقل والأكثر بمثابة كيفية سجود التلاوة.
فرع:
1043 - اختلف أئمتنا في أن سجود الشكر هل يقام على الراحلة إيماء، وماشياً كذلك؟ وهذا الاختلاف بمثابة الاختلاف في أن صلاة الجنازة هل تقام على
__________
(1) في الأصل، و (ط)، (ت 1): نُغَاشاً. والنُّغاشي: بضم النون، والغين والشين معجمتان، هو القصير جداً الضعيف الحركة، الناقص الخلق. قاله ابن الأثير. (ر. التلخيص: 2/ 11).
(2) حديث رؤية النغاشي: ذكره الشافعي في المختصر، ولم يذكر إسناده، وكذا صنع الحاكم في المستدرك. وأسنده الدارقطني، والبيهقي وابن أبي شيبة من حديث جابر الجعفي مرسلاً وفيه أن اسم الرجل: زنيم. ا. هـ ملخصاً من كلام الحافظ. وفي سجدة الشكر أحاديث غير هذا. (ر. مختصر المزني: 1/ 90، الحاكم: 1/ 276، الدارقطني: 1/ 410، البيهقي: 2/ 371، مصنف ابن أبي شيبة: 2/ 482، تلخيص الحبير: 2/ 11 ح 494، 495).

(2/283)


الراحلة. وسبب الاختلاف في الموضعين جميعاًً أن الركن الأظهر في صلاة الجنازة القيام، فلو أقيمت على الراحلة، لسقط أظهرُ أركانها، كذلك السجدة الفردة إذا اكتفي فيها بالإيماء، كان ذلك في حكم الإسقاط، وذلك كله يشابه إقامة النافلة (1 مضطجعاً إيماء في حالة القدرة، وسيأتي ذلك مشروحاً.
وسجدة التلاوة وإن جرت في صلاة النافلة 1) المقامة على الراحلة، فإنها تقع إيماء؛ فإنها تتبع الصلاة، وليست مستقلة بنفسها، وكذلك سجود السهو، وإن أقيمت سجدة التلاوة في غير الصلاة إيماءً على الراحلة، فهي كسجود الشكر.
...
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).

(2/284)


باب أقل ما يجزىء من عمل الصلاة
1044 - مقصود هذا الباب ذكر أقل ما يجزىء من عمل الصلاة، إذا فرض الاقتصار عليه، وأقل المجزىء هو الأركان مع الشرائط.
وقد عد صاحب التلخيص أركان الصلاة أربعة عشر، فقال: هو (1) النية، وتكبير الإحرام، واستقبال القبلة، والقيام، وقراءة الفاتحة. فهذه خمسة، والركوع (2)، والاعتدال عنه، والسجود، والاعتدال عنه على هيئة الجلوس، والسجدة الثانية، فهذه خمسة أخرى، ثم الجلوس الأخير، والتشهد، كما مضى ذكر أقلّه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والسلام. فهذه أربعة أخرى، مجموعها أربعة عشر.
ولم يخالَف فيما ذكره إلا في شيئين: أحدهما - أنه عد استقبال القبلة من الأركان، وقد قيل: إنه من الشرائط، وما ذكره أقرب؛ فإن الطهارة تتقدم على الصلاة، وستر العورة لا يختص وجوبه بالصلاة، وكذلك الإيَمان، فلم تكن هذه الخصال أركاناً، بل هي شرائط، ووجوب استقبال القبلة يختص بالصلاة، ولا يجب تقديمه على عقد الصلاة.
ومما عورض فيه أنه عد السجدة الثانية، وهي متكررة، ويلزم من ذلك أن يعد الركوع على التكرر في ركعتي صلاة الصبح، وهذا قريب، فإنه أراد أن يذكر ما يجب في الركعة الواحدة، ثم ذكر ما يتعلق بآخر الصلاة، وهو القعود، والتشهد، والصلاة، والسلام.
__________
(1) كذا بتذكير الضمير في النسخ الأربع، فهل على معنى " الركن " المفرد؟ ثم جاءتنا (ل) وفيها تأنيث الضمير، كما هو المتبادر.
(2) من هنا بدأ خرم في نسخة (ت 2).

(2/285)


وقد زاد بعض الأئمة الصلاة على الآل، ونية الخروج، كما مضى مفصلاً، ولم يعدّ صاحب التلخيص الطمأنينة في محالها، لأنه رآها هيئة، وإن كانت واجبة، وعدها بعضُ الأئمة ركناً، فهذا مضمون الباب.
***

(2/286)


باب طول القراءة وقصرها
قال الشافعي: "يقرأ في صلاة الصبح بعد أم القرآن بطوال المفصَّل، وفي الظهر شبيهاً بالصبح، وفي العصر نحو ما يقرأ في العشاء، وفي المغرب بقصار المفصل" (1).
1045 - وفي كلام الشافعي ما يشير إلى أن الأوْلى في قراءة الصبح طوال المفصل، وفي المغرب القصار، وفي الظهر والعصر والعشاء الأوساط، ولعل السبب فيه أن وقت الصبح طويل، والصلاة ركعتان، فحسنٌ تطويلهما، ووقت صلاة المغرب ضيق؛ فشرع فيها القصار، وأوقات صلاة الظهر والعصر والعشاء طويلة، ولكن الصلوات كاملة الركعات، [فقد اجتمع في الصبح سعة الوقت، ونقصان الركعات] (2) فاقتضى ذلك تطويل القراءة، وقِصَرُ وقت المغرب يقتضي [تقصير القراءة، وسعة الوقت في الصلوات الثلاث يقتضي التطويل] (3)، وكمالها بالركعات يعارض ذلك، فترتب عليه التوسط (4).
قال ابن عباس: "صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح يوم الجمعة، فقرأ في الركعة الأولى سورة السجدة {الم (1) تَنْزِيلُ} [السجدة: 1، 2] وفي الثانية: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ} [الإنسان: 1]، وقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة، والسورة التي فيها ذكر المنافقين" (5). وعن جابر بن سَمُرَة قال: "قرأ رسول الله
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 92.
(2) زيادة من (ت 1) حيث سقط من كل النسخ.
(3) زيادة من (ت 1).
(4) آخر الخرم في (ت 2). وهو ورقة كاملة.
(5) حديث ابن عباس عن قراءة (السجدة) و {هَلْ أَتَى}. رواه مسلم بتمامه: الجمعة، باب ما يقرأ في الجمعة، ح 879، وأبو داود: الصلاة، باب ما يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة، ح 1074، 1075، والنسائي: الجمعة، باب القراءة في صلاة الجمعة، =

(2/287)


صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح {يس} و {حم} " (1) وعن عمران بن حصين قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الظهر {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}، وكان يسمعنا الآية والآيتين" (2)، وعن بُريدة الأسلمي، قال: "قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} (3)، وروي أنه قرأ في صلاة العصر {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ".
1046 - ثم الأمر في تقصير القراءة في المغرب يعمُّ الإمامَ والمنفردَ، لتعلق ذلك بالوقت، وأما ما عداها، فما ذكرناه في حق الإمام؛ حتى لا يتعدى ما رسم له، ولا يتجاوز الحد في التطويل على من خلفه، وقد قال عليه السلام: "إذا صلى أحدُكم بالناس، فليخفف؛ فإن فيهم السقيم والضعيف وذا الحاجة" (4)، وقال أنس ابن مالك: "ما صلّيتُ خلف أحد أخف صلاة، ولا أتم من صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم" (5).
وأما المنفرد، فإن رأى تطويلَ الصلاة الراتبة الواسعة المواقيت، فلا حرج.
...
__________
= ح 1422، والترمذي: الجمعة، باب ما جاء فيما يقرأ به في صلاة الصبح يوم الجمعة، ح 520، وأحمد: 1/ 226.
(1) حديث جابر بن سمرة هذا لم أصل إليه، ولكن عند مسلم في صحيحه: عن جابر بن سمرة أنه صلى الله عليه وسلم قرأ في الصبح ق والقرآن المجيد (الصلاة، باب القراءة في الصبح، ح 458)، ورواه البيهقي في سننه: 2/ 382.
(2) حديث عمران بن حصين: رواه مسلم، ح 398.
(3) حديث بريدة رواه الترمذي وقال: حديث حسن. ولفظه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العشاء الآخرة بالشمس وضحاها، ونحوها من السور". ورواه النسائي، وصححه الألباني. (ر. الترمذي: الصلاة، باب ما جاء في القراءة في صلاة العشاء، ح 309، النسائي: الافتتاح، باب القراءة في العشاء الآخرة بـ " والشمس وضحاها " ح 1000).
(4) حديث إذا صلى أحدكم بالناس ... متفق عليه من حديث أبي مسعود الأنصاري، وحديث أبي هريرة، بمعنى ما ساقه به إمام الحرمين: (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 97 ح 267، 268).
(5) حديث أنس متفق عليه (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 97 ح 270).

(2/288)


باب الصلاة بالنجاسة (1)
قال الشافعي: "وإذا صلى الجنبُ بقومٍ أعاد، ولم يعيدوا" (2).
1047 - هذا الفصل بأوصاف الأئمة ألْيق، وسيأتي بابُها، ولكنه صدَّرَ الباب بهذا.
فمن اقتدى بإنسان ثم تبيّن أنه كان محدثاً أو جنباً، فالإمام يعيد الصلاة، وليس على القوم إعادة عندنا، إذا لم يعلموا بطلان صلاة الإمام.
وخالف أبو حنيفة (3) فيه.
وقال مالك (4): إن كان الإمامُ عالماً ببطلان صلاته، [فأمَّ الناسَ] (5) على علم، فلا يصح اقتداؤهم به، ويلزمهم إعادة الصلاة؛ فإن الذي جاء به عبث لا حرمة له، وإن كان جاهلاً، فصلاته فاسدة، ولكنه من حيث إنه معذور لا يبعد أن يثاب على عمله، وإن كانت الإعادة تلزمه.
وقد ذكر صاحب التلخيص قولاً للشافعي مثلَ مذهب مالك.
وسر المذهب المشهور ومُعَولُه، أن المقتدي لو علم أن صلاة إمامه باطلة، واقتدى به، لم تصح صلاته وفاقاً، وكان كما لو استدبر المصلّي القبلة على علم من غير ضرورة، ولو طلب القبلة في محل الاجتهاد، ولم يستيقن إصابةً ولا خطأ،
__________
(1) من هنا بدأت نسخة (د 1)، فصارت النسخ المساعدة أربعاً مع نسخة الأصل.
(2) ر. المختصر: 1/ 92.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 31، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 246 مسألة 194، رؤوس المسائل للزمخشري: 170 مسألة: 72.
(4) ر. المدونة: 1/ 37، الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 1/ 279 مسألة: 308، القوانين الفقهية: ص 70، تهذيب المسالك للفندلاوي: 2/ 189 مسألة: 35.
(5) في الأصل، وفي (ط): قام الناسُ، وفي (ت 1): قام بالناس. والمثبت من (ت 2).

(2/289)


فصلاته محكوم بصحتها. وهذا يناظر ما لو اقتدى بإمام، ولم يعلم صحةَ صلاته ولا فسادها.
ولو اجتهد، فتبين آخراً أنه كان استدبر القبلة، ففي وجوب القضاء [قولان] (1) مشهوران سبقا.
وإذا تبين جنابة الإمام وحدثَه، فالذي يقطع به أنه لا قضاء على المأموم، والفرق أنه لا يجب على المقتدي البحثُ عن طهارة إمامه، بل إنما كُلف البناء على الظاهر، فلا ينسب إلى التقصير في طلب مأمور به، ولا تعلق لصلاة إمامه بصلاته على التحقيق، بل كلّ يصلّي لنفسه، والمجتهد في القبلة إذا أخطأ منسوبٌ إلى التقصير في الاجتهاد والطلب، ولو تمم الاجتهاد، لأصاب.
ثم لو صلّى وراء الإمام، فتبين أنه كان كافراً، فعلى المأموم إعادة الصلاة هاهنا قولاً واحداً، وذلك لأن الكافر يتميز بالغِيار (2) غالباً، ويندر جداً أن يقيم مصرّاً على كفره الصلاةَ على شعار الإسلام، فألحق هذا بما لو اتفق ميلُ الإنسان في مسجد أو دارٍ عن قُبالة القبلة في صلاته لظُلمة أو وجهٍ نادر من وجوه الغلط، فالصلاة تفسد، ولا حكم لما طرأ من الغلط؛ فإن البناء على غالب الأمر.
وكذلك لو اقتدى رجل بامرأة على ظن منه أنها رجل، فالصلاة فاسدة بمثل ما قررناه.
1048 - واختلف أئمتنا فيمن اقتدى برجل ثم تيقن أنه موصوف بصنف من صنوف الكفر يستسرّ به غالباً كالزندقة، فمنهم من قال: الاقتداء به على حكم الغلط كالاقتداء بالجنب والمحدِث. ومنهم من قال: الكفر لا يختلف -فيما نحن فيه- حكمه، بل نعمِّم البابَ بإيجاب القضاء على المقتدي فيه؛ فإن التزام تفصيل الأمر بحسب تفصيل الكفر يطول، فالوجه تعميم الباب.
ولو اقتدى رجل بمن ظنه رجلاً، فتبين أنه خنثى، فالذي قطع به الأئمةُ وجوبُ
__________
(1) بياض بالأصل، و (ط)، وساقطة من: (ت 1). وأثبتناها من (ت 2).
(2) الغيار علامة أهل الذمة، كالزنار للمجوسي ونحوه، يشدُّ على الوسط. (المعجم).

(2/290)


القضاء، وإن وقع ذلك خطأً؛ فإن هذا الشخص لا يخفى حاله، والنفوس مجبولة على إشاعة الأعاجيب، وإن حرص الحارصون على كتمانها. وألحق صاحبُ التقريب هذه الحالة بالجنابة والحدث؛ من حيث إنها تخفى، ورد عليه الكافة ما قاله لما ذكرناه.
ولو اقتدى بالرجل، ثم تبين له أنه كان على بدنه أو ثيابه نجاسة خفية، فهذا كالحدث والجنابة، وإن كان عليه نجاسة ظاهرة لا تكاد تخفى، ولكن لم يتفق تأملها، ثم لاحت بعد الصلاة مثلاً، فهذا فيه احتمال عندي؛ فإنها من جنس ما يخفى بندور الظهور وعدم الاطلاع فيه، فشابه هذا الكفرَ الذي يُستتر به غالباً، وقد ذكرنا الخلاف فيه.
1049 - ولو طرأ حدث على الإمام، وبطلت صلاته، لم تبطل صلاة المقتدي عندنا، بل ينفرد ببقية صلاته، وأبو حنيفة يبطل صلاة المقتدي بطريان بطلان صلاة الإمام.
فصل
1050 - دم البراغيث وما يسيل من دماء البثرات، يتطرق العفو إليه على الجملة، فنذكر ما يتعلق بذلك، ثم نذكر قاعدة المذهب فيما عداه من النجاسات.
فما يخرج من بثرة ببدن الإنسان، أو يتصل به من دماء البراغيث. والبراغيثُ والبقُّ والبعوضُ لا دماء لها في أنفسها ولكنها تقرُص، وتمص الدم، ثم قد تمجها (1)، فهو المعنيُّ بدم البراغيث، فإذن القليلُ من ذلك معفو عنه، إذا لم يمكن التحرز والتصون عنه، وهو مما تعم به البلوى، فيتطرق العفو إليه، ثم يتحقق فيما يقل منه شيئان:
__________
(1) "تمجها": كذا في جميع النسخ بتأنيث الضمير؛ فالأصل: "قد تمجه" ولكن جاء الضمير هنا مؤنثاً على خلاف الأصل، وهو وارد وعليه شواهد، منها ما جاء في صحيح البخاري: " أسرعوا بالجنازة، فإن تك صالحة، فخيرٌ تقدمونها إليها " بتأنيث الضمير العائد إلى لفظ (خير). وانظر (شواهد التوضيح والتصحيح لمشكلات الجامع الصحيح: 143).

(2/291)


أحدهما - عمومُ البلوى؛ فإن قليلَه يعم. والآخر - أن المرعيّ في تنزيه البدن والثياب عن النجاسات في الصلاة، تعظيمُ أمرها، وتوقيرُها، وحمل المكلف على إقامتها على أحسن هيئة، وأنظف زينة.
والكثير (1 من الفن الذي نحن فيه قد لا يعم وقوعاً، ولا يظهر الابتلاء به، ويفحش أيضاً في النظر، ولكن 1) من حيث لا ينضبط المَيْزُ بين القليل والكثير، بتوقيفٍ شرعي ولا بوجهٍ من الرأي، قال فقهاؤنا: القليل معفو عنه، وفي الكثير وجهان: أحدهما - لا يُعفى عنه لما ذكرناه، والثاني - يُعفى عنه نظراً إلى الجنس، ولما أشرنا إليه من عسر التمييز بين القليل والكثير، وإذا كان كذلك، فَلَوْ لم يُعفَ عن الكثير، لجرَّ ذلك تنغيصاً في العفو عن القليل، من جهة أنه قد يعتقد المعتقد أن ما يراه قليلاً في أوائل حد الكثرة.
والظاهر في المذهب الفرق بين القليل والكثير، فليقع التعويل عليه.
1051 - ثم سر هذا الفصل الكلام في ضبط القليل وتمييزه عن الكثير.
نقل الرواة عن الشافعي في القديم أنه قال مرة: "القليلُ من دم البراغيث، وما في معناه، قدرُ الدينار"، وقال مرة أخرى: "قدرُ كف"، وهذا مشكل لا نعرف له مستنداً، وهو في حكم المرجوع عنه، فليعتمد مسلكه في الجديد، [وقد استنبط الأئمة وجوهاً من الكلام من مسالكه في الجديد] (2)، ونحن نأتي عليها إن شاء الله تعالى.
فقال قائلون: إن كان موضع التلطخ بحيث يلوح ويلمع للناظر من غير احتياج إلى تأمل، فهذا في حكم الكثير، وهذا يستند إلى خروج رتبة الصلاة عن الجهة المبتغاة في التحسين، ورعاية النظافة، فهذا مسلك.
والمسلكُ الأفقه في ذلك: أن المقدار الذي يجري التلطخ به غالباً، ويتعذر التصون منه هو القليل المعفوّ عنه، فنأخذ القليل مما نأخذ منه أصلَ الفصل، وهو
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).
(2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

(2/292)


تعذّر الاحتراز عنه، وهذا أمثل من رعاية اللمعان والظهور؛ فإن ذلك [لا] (1) يستقل بنفسه دون أن يعتبر تعذّر الاحتراز، فإنا سنوضح أن هذا العفو لا يجرى فيما لا يعم وقوع التلطخ به من النجاسات، فإذاً تعذُّر الاحتراز ينبغي أن يتخذ معتبراً في الأصل والتفصيل، وفي تمييز القليل من الكثير.
1052 - ثم من سلك هذا المسلك اضطربوا في أن الأمر هل يختلف باختلاف الأماكن والبقاع، وباختلاف الأزمنة، وفصول السنة؟ والذي ذهب إليه المحققون: أن الأمر يختلف باختلاف الأماكن والأزمنة؛ فإن التفاوت بهذه الجهات غالب بيّن، فمن الوفاء برعاية الاحتراز النظر إلى تفاوت الأسباب.
ونقل عن بعض أصحابنا التزامُ التفاوت، ولم يعتبر أقل ما يتوقع في أنقى الأزمنة والأمكنة، ولا أكثرها، ولكن اعتبر وسطاً من الطرفين، وهذا ليس بشيء؛ فإن ضبط هذا الوسط أعسرُ من التزام تتبع الأحوال، فهذا قاعدة الفصل.
1053 - ثم الذي أقطع به أن للناس عادةً في غسل الثياب في كل حين، فلا بد من اعتبارها؛ فإن الذي لا يغسل ثوبه الذي يصلي فيه عما يصيبه من لطخٍ سنةً مثلاً، يتفاحش مواقعُ النجاسة من هذه الجهات عليه، وهذا لا شك في وجوب اعتباره.
ومما أتردد فيه أن الثوب السابغ إذا تبددت عليه النجاسةُ فلتفرقها [أثر] (2) في العفو -فيما أحسب- ولاجتماعها، حتى يكون ظاهراً لامعاً للناظر أثر في وجوب الغسل، سيما على رأي من يرعى في ضبط القلة الظهورَ واللمعان.
وفد نجد في هذا أصلاً قريباً؛ فإن من توالت منه أفعالٌ كثيرة تبطل صلاته، فإن فرقها وتخلل بينها سكينة، لم تبطل صلاته، والاحتمال في هذا ظاهر.
1054 - ومما نختم به مواقع الإشكال في ذلك، أنه لو ارتاب المصلي: فلم يدر أن اللطخ الذي به في حد ما يعفى عنه، أو في حد الكثير الذي لا يعفى، فهذا فيه احتمال
__________
(1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(2) في الأصل، (ط)، (ت 1): أثراً. ولا أدري له وجهاً، والمثبت من (ت 2) ثم جاءت بمثلها (ل).

(2/293)


عندي، من جهة أن القليل معفوّ عنه، وقد أشكل أن ما فيه الكلام هل تعدى الحدَّ، أم لا؟ فهذا وجه.
ويجوز أن يقال: الكثير فيما عليه التفريع غيرُ معفوٍّ عنه، وقد أشكل أن الذي فيه الكلام هل هو منحط عن الكثير أم لا؟ والأصل إيجاب إزالة النجاسة.
ويمكن أن يقرب هذا من صلاة المرء وهو ناسٍ للنجاسة، كما سنذكره في آخر الفصل.
ثم يعتضد هذا الكلام بظهور العفو عن النجاسات.
فهذا منتهى الكلام في هذا الطرف.
ثم قال الأئمة: ما ذكرناه من تفصيل العفو في دم الإنسان نفسه وصديده الخارج من بثراته، وفيما يناله من آثار البراغيث.
1055 - فأما إذا أصابه دم غيره، فالكثير لا يعفى عنه، وفي القليل وجهان. وهذا وإن اشتهر نقلُه، فلست أرى له وجهاً، والذي يقتضيه قاعدة المذهب القطعُ بإلحاق دم الغير بسائر النجاسات.
وكان شيخي يلحق لطخ الدماميل والقروح -إن كان مثلها يدوم غالباً- بدم الاستحاضة، وإن كان مثله لا يدوم غالباً، [كان يُلحقه] (1) بدم أجنبي فيما ذكرناه.
وهذا ظاهر حسن؛ من جهة أن البثرات تكثر، وقد لا يخلو معظم الناس في معظم الأحوال عنها، ولا يكاد يتحقق ذلك في الدماميل والجراحات، وفي المسألة على الجملة احتمال؛ فإن الفصل بين البثرات، وبين الدماميل الصغار عسر، لا يدركه إلا ذَوُو الدراية، وكبارها مما يدوم الابتلاء بها زماناً.
وقد ذكر صاحب التقريب تردداً في هذه الدماميل، وما يخرج من دم الفصد، ومال إلى إلحاقه بدم البراغيث، وصحَّحه على خلاف ما كان يراه الإمام، فاعلم.
فهذا كله تفصيل القول في الدماء، وما في معناها من القيح والصديد؛ فإنه دم حائل.
__________
(1) في الأصل، (ت 1)، (ط): "كان لا يلحقه"، والمثبت من (ت 2)، وصدقتها (ل).

(2/294)


1056 - فأما ما عدا ذلك من ضروب النجاسات، كالبول، والعذرة، وغيرهما، فلا عفو فيها، قلَّت، أو كثرت، ولا يستثنى منها إلا عفو الشرع عن الأثر اللاصق بسبيل الحدث، عند الاقتصار على الأحجار في الاستجمار، وذلك عند الشافعي مخصوص عن جميع جهات النظر، والمتّبع فيه الخبر فحسب.
واتخذ أبو حنيفة (1) ذلك (2) أصلاً في جميع النجاسات المغلّظة عنده، ورَاه قدر الدرهم البغلي. وهذا نظرٌ حائد عن جهة قطْعِنا بأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطرُدوا هذا العفو في كلِّ نجاسةٍ في كلِّ محل، وكانوا أوْلى من يفهم ذلك من الشارع، لو كان صحيحاً؛ فإذن لا قياس على الاستنجاء، ولا عفو فيما عدا الدم الموصوف.
1057 - وتردد نص الشافعي رحمه الله فيما لا يدركه الطرف لا لخفاء لونه، ولكن لصغر قدره، فقال مرة: لا عفوَ مع تيقن الاتصال. وقالى في موضعٍ: إنه يعفى عنه.
وقيل: إنه استشهد عليه بأن السلف كانوا لا يحترزون عن عَوْد الذباب الواقعة على النجاسة وقت قضاء الحاجة إلى ثيابهم، وفي هذا الاستشهاد نظر، من جهة أن أرجل الذباب تجف في الهواء بين ارتفاعها من النجاسة، ووقوعها على الثوب، وآية ذلك أنه لا يظهر لذلك أثر على الثوب، وإن كثر، والقليل إذا توالى، وكثر، ظهر كوَنيم (3) الذباب؛ فإن ما يتوالى منه يظهر على الثوب، وأيضاً، فإن التزام ذب الذباب عسر، وهو ملحق بالغبار الذي يلحق بدنَ الإنسان، وهو ثائر من الدِّمَن والمزابل، والمواضع النجسة، فهذا معفو عنه، وإن كان واقعاً قطعاً؛ من جهة أن التحرز لا سبيل إليه.
1058 - ومما يتصل به أن الذي لا يُعفى عنه من النجاسات، إذا صلى الإنسان معها، وهو غير شاعر بها، فإذا تحلل عن الصلاة، واستبان الأمر، فالمنصوص في الجديد
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 21، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 131 مسألة: 20، الهداية مع فتح القدير: 1/ 177.
(2) "ذلك" إشارة إلى العفو عن نجاسة موضع الاستجمار.
(3) الوَنِيم: خُرء الذباب. (المعجم).

(2/295)


وجوب إعادة الصلاة اعتباراً بالمحدِث، ولا خلاف أن من صلّى ظاناً أنه متطهر، ثم تبين له أنه كان محدثاً يلزمه إعادة الصلاة، ونص في القديم على أن النسيان عذر في النجاسة؛ فإن العفو إليها أسرع منه إلى الحدث، ولا يمكن إنكار ذلك، ولا يبعد أن يعتقد النسيان من المعاذير.
1059 - ولو علم الرجل أن به نجاسة، ثم نسيها، فقد ذكر الأئمة فيه طريقين: أحدهما - القطعُ بأنه لا يعفى عنه. والآخر: تخريج العفو على القولين، كما إذا لم يكن عَلِمه أصلاً.
وقال مالك: إن تذكر وعلم ما به من نجاسة، ووقتُ الصلاة قائم بعدُ، قضى، وإن خرج عن الوقت، لم يقض. وقد تحققت من أئمة مذهبه أن مالكاً مهما قال ذلك فليس يوجب الإعادة في الوقت، وإنما يستحبها (1).
واحتج الشافعي في القديم بما رواه أبو سعيد الخدري رحمه الله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي لابساً نعله، فخلع في الصلاة نعله، فخلع الناس نعالَهم، ثم قال: أخبرني جبريل عليه السلام أن على نعلك شيئاًً" (2)، ووجه الدليل من بقائه على صلاته، وما كان على علم حتى أخبره جبريل عليه السلام، وقد يمكن أن يقال: لم تكن نجاسة، وإنما كان بلغماً أو غيره مما يليق بالمروءة التحرز عنه.
فرع:
1060 - لو وقعت لطخة من بثرة، وقلّت فقد تمهد العفو، ولو اعتمد الرجل إخراج شيء منها ولكنه قليل، ففيه احتمال من طريق المعنى، والظاهر العفو لما روي: "أن ابن عمر حك بثرة بوجهه، فخرج منها شيء، فدلكه بين إصبعيه وصلى" (3)
__________
(1) ر. جواهر الإكليل: 1/ 11، وحاشية الدسوقي: 1/ 68، وشرح زروق: 1/ 94.
(2) حديث أبي سعيد الخدري: رواه أبو داود، وأحمد، والحاكم، وابن خزيمة، وابن حبان، ورواه الحاكم أيضاً من حديث أنس وابن مسعود، ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس.
(ر. أبو داود: الصلاة، باب الصلاة في النعل، ح 650، أحمد: 3/ 20، 92، الحاكم: 1/ 260، 139، ابن خزيمة: 1017، الدارقطني: 1/ 399، تلخيص الحبير: 1/ 278 ح 436).
(3) حديث ابن عمر: رواه الشافعي، وابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي، وعلقه البخاري.
(ر. البخاري: الوضوء، باب من لم ير الوضوء إلا من المخرجين من القبل والدبر =

(2/296)


ولا يبعد أن يقال: لعله جرت يده بذلك في غفلة، وقد تطوف اليد على البدن في النوم وأوقات الغفلات، والله أعلم.
فهذا منتهى القول، وليس علينا إلا أن نبلغ كلَّ فنٍّ غايته جهدنا، ومن طلب في مواقع التقريب الحد الضابط، فقد طلب الشيء على خلاف ما هو عليه.
فصل
قال الشافعي: "إذا كان مع الرجل ثوبان أحدهما طاهرٌ والثاني نجس، تحرَّى" (1).
1061 - مذهب الشافعي أن من كان معه ثوبان أحدهما طاهر، والثاني نجس، والنجاسة طارئة على النجس منهما، فإنه يتحرى ويجتهد، ويصلي في الذي يؤدي اجتهاده إلى طهارته.
وتفصيل القول في الاجتهاد في الثياب عندنا كتفصيل المذهب في الاجتهاد في الأواني، وقد مضى مفصلاً؛ فلا نعيد ممّا تقدم شيئاًً جهدنا.
وقال المزني في الثوبين: يصلي مرتين، مرة في هذا الثوب، ومرة في الآخر، فيخرج عما عليه يقيناً، وقال في الإناءين: لا يجتهد، ولا يستعمل دفعتين، بل يتيمم.
وعند الشافعي لو صلى في الثوبين دفعتين من غير اجتهاد، كما رآه المزني، فالصلاتان جميعاًً باطلتان.
ومعتقد المذهب أن الصلاة بالنجاسة ممنوعة، والإقدام عليها محظور، والاجتهاد ممكن، والعلامات في النجاسات ليست بعيدة، والاجتهاد مرجوع الشريعة في معظم الوقائع.
__________
= (1/ 336)، البيهقي في الكبرى: 1/ 141، ومعرفة السنن والآثار: 1/ 236، التلخيص: 1/ 287 ح 466).
(1) ر. المختصر: 1/ 92.

(2/297)


فإن قيل: قد ذكرتم وجهين فيمن أشكل عليه الأمر في ثوبين كما ذكرتموه، وكان معه ما يتأتى غسل أحد الثوبين به، فهل يلزمه ذلك، أم له أن يعتمد الاجتهاد؟ وسبب الخلاف أن الوصول إلى اليقين، ممكن، وما ذكره المزني وصولٌ إلى اليقين، فهلا خرجتم مذهبه وجهاً؟
قلنا: لا سواء؛ فإن من غسل أحد ثوبيه وصلى فيه، فقد أقدم على الصلاة على يقين من الصحة، ومن صلى مرتين في ثوبين، كما يراه المزني، فكل صلاة مشكلة في نفسها لا مُستند لها من يقين ولا اجتهاد.
والذي يحقق ذلك أنه لو كان يكفي اليقين من غير رعاية حالة الإقدام، للزم على مساق ذلك أن من التبست عليه جهات القبلة في السفر، فصلى كما اتفق من غير اجتهاد ولا تقليد مجتهد، ثم تبين أنه كان مستقبلَ جهة القبلة وفاقاً، فلا يلزمه القضاء. وليس كذلك، فدل على فساد ما اعتمد المزني، وهو حسن لطيف، فافهم.
1062 - ولو أصاب ثوبَ الإنسان نجاسةٌ، وأشكل مورد النجاسة، فالوجه غسل جميع الثوب، فإن صب عليه الماء صباً معمّماً مستغرقاً، أو غمسه في ماءٍ جارٍ، أو كثير، فلا شك أنه يحكم بطهارة الثوب، على ما سيأتي بعدَ هذا تفصيل القول في النجاسة الحُكمية والعينية.
1063 - ولو غسل من الثوب نصفه مثلاً، ثم قلَبه، وغسل نصفه الثاني، ولا يصب الماء على جميعه أولاً ولا آخراً، فقد قال صاحب التلخيص: لا يجزئه ذلك؛ فإنَّ ورود النجاسة مستيقن، والغسل على هذه الصفة لا يفيد إزالة النجاسة بيقين؛ فإنه لا يمتنع تقدير النجاسة على منتصف الثوب مثلاً، ولو فرض الأمر هكذا، لكان الغَسل المفروض فاسداً؛ فإنه أتى في النصف الأول على نصف النجاسة تقديراً، فإذا غسل النصف، تعكَّس أثرُ النجاسة من ذلك النصف على النصف الآخر، ويغمض إذْ ذاك مُدركُ الأمر، والأصل بقاء النجاسة، فهذا مذهب صاحب التلخيص.
وقال صاحب الإفصاح (1): لو غسل الثوب الذي يشكل نصفين في دفعتين، جاز؛
__________
(1) صاحب الإفصاح: أبو علي الطبري، الحسين بن القاسم، وقد سبقت ترجمته.

(2/298)


فإنه قد حصل الاستيعاب، وهذا مزيف متروك عليه غير معدود من المذهب. والوجه القطع بما ذكره صاحب التلخيص.
1064 - لو أشكل عليه مورد النجاسة من ثوبه، وكان يعلم أنها على أحد كميه مثلاً، واجتهد، فأدى اجتهاده إلى النجس منهما، فغسله، وأراد الصلاة في الثوب، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أن ذلك لا يجوز، وهذا ما كان يختاره شيخي، والثاني: أنه يجوز، وقد صححه الصيدلاني، وهو الظاهر عندي.
توجيه الوجهين: من منع، احتج بأن ورود النجاسة مستيقن، فليكن زوالها عن الثوب مستيقناً، وليس كما لو اجتهد في ثوبين أحدهما نجس، وصلى فيما أدى اجتهاده إلى طهارته؛ فإنه ما استيقن نجاسة الثوب الذي صلى فيه قط، ولكن ترددت النجاسة بين الثوبين أولاً وآخراً، والأصل طهارة الثوب الذي صلى فيه، والثوب الواحد قد تحقق نجاسته، فليتحقق طهارته، وذلك بغسل جميعه.
ومن جوّز الصلاة في الثوب الواحد على الترتيب الذي ذكرناه، قال: طلب اليقين ليس شرطاً في التوقي من النجاسة، بل الظاهر كافٍ، وإذا فعل بالثوب الواحد ما وصفناه، فالظاهر أنه طاهر؛ فإنه طهّر أحد الكمين بالغسل، والظاهر بحكم الاجتهاد طهارة الكم الثاني.
وما ذكرناه في الكمين لا يختص بهما، بل مهما انحصر عنده النجاسة في موضعين من الثوب، ثم اجتهد فيهما، وغسل ما اقتضى الاجتهاد غسلَه، فهو على الخلاف المذكور.
1065 - ولو كان معه قميصان، أحدهما نجس، وأدى اجتهاده إلى أن أحدهما نجس بعينه، فغسَلَه ثم لبسه مع القميص الآخر، وصلى فيهما جميعاًً، فالمسألة على الوجهين المذكورين في الثوب الواحد إذا أشكل مورد النجاسة منه، فغسل بالاجتهاد موضعاً منه، وليس كما لو اجتهد وصلى في أحد الثوبين؛ فإن هذا الثوب لم يكن مستيقن النجاسة قط، والثوبان إذا جُمعَا، فيقين النجاسة فيهما مجموعين، كيقين النجاسة في ثوب واحد.

(2/299)


1066 - ومما لا بد من التنبيه له أنه إذا كان معه ثوبان، نجس وطاهر، وقد أشكل الأمر، فلو غسل أحدهما، ثم صلى من غير اجتهاد في الثاني الذي لم يغسل، ففي صحة صلاته وجهان، فإنه لما صلى كما صورنا، لم يكن على يقين في نجاسةِ أحد الثوبين، وقد مهدنا أصل ذلك في كتاب الطهارة.
ولو أصابت نجاسة ثوباً، فغسل موضعاً وفاقاً من غير اجتهاد، ثم أراد الصلاة فيه، لم يجز ذلك وجها واحداً؛ [فإن النجاسة مستيقنة أولاً، ثم لم يوجد قطع ويقين ولا اجتهاد،] (1) ولكن أفاد غسل موضع من الثوب، أنّ أمر النجاسة صار مشكُوكاً فيه، والشك المحض لا يعارض اليقينَ السابق، إذا لم يكن صدَرُه عن اجتهاد.
فصل
قال الشافعي رحمه الله: "إذا أصاب دم الحيض ثوب المرأة ... إلى آخره" الفصل (2)
1067 - النجاسة تنقسم إلى حكمية وإلى عينية: والعينية هي التي تشاهد عينُها، والحكمية هي التي لا تشاهد عينُها، مع القطع بورودها على موردها المعلوم.
فأما العينية فالغرض إزالة عينها، فلو بقي لونها، أو طعمها، أو ريحها، مع تيسر الإزالة، فالمحل نجس، وإن عسر ذلك في بعض الصفات، فقد قال الأئمة: أما الطعم، فلا يعسر قط إزالته، فما دام باقياً، فالنجاسة باقية، وأما اللون؛ فإن بقي أثر منه مع الإمعان، وبذل الإمكان، فهو معفو عنه.
فلو اختضبت المرأة بالحناء وكان نجساً، فإذا غسلت العضو واللونُ باق، فقد زالت النجاسة، والشاهد في ذلك من جهة الخبر، ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان الحيض يصيب ثوباً (3) فنغسله، فيبقى لطخة منه، فنلطخه بالحناء
__________
(1) زيادة من (ت 1)، (ت 2).
(2) ر. المختصر: 1/ 94.
(3) كذا في جميع النسخ، ولعلها: "ثوبنا" وبها جاءت (ل).

(2/300)


ونُصلي فيه" (1) فدل على أن ما يبقى من أثر اللون اللاصق معفو عنه.
فأما الرائحة إذا كانت ذكية (2) بحيث يعسر إزالتها كرائحة الخمر العتيقة، وبول المبَرْسم (3)، وما أشبههما، فإذا بقيت مع الإمعان في الغسل، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن بقاءها كبقاء الطعم.
والثاني - أنها كاللون.
ومما يجب التنبيه له أن رائحة الشيء الذكي الرائحة قد تبقى في فضاء بيت، فإن الخمر الذكية (4) إذا نقل ظرفها من بيت، وما رشح شيء منها، فقد يبقى رائحتها في فضاء البيت أياماً، فلا اعتبار بمثل هذا، والذي هو في محل القولين أن الخمر إذا أصابت أرضاً، أو ثوباً، ثم غسل، وكان المحل بحيث لو اشتم، لأدركت الرائحة منه، فهذا محل القولين.
فأما إذا كانت الرائحة لا تدرك من المحل، وإنما تدرك من هواء البقعة، فلا خلاف في حصول الطهارة.
فهذا تفصيل إزالة النجاسة العينية.
1068 - وأما النجاسة الحكمية التي لا تبين عينها، ففي الحديث أن محلّها يُغسل ثلاثاً، ثم أجمع أصحابنا على أن رعاية العدد فيها لا تجب، ويكفي مرور الماء على مورد النجاسة مرةً واحدة، والزيادة احتياطٌ، والسبب فيه أن ما لطف حتى لا يظهر له
__________
(1) هذا الأثر عن عائشة رواه الدارمي عن معاذة عن عائشة أنها قالت: إذا غسلت الدمَ فلم يذهب، فلتغيره بصفرة أو زعفران، ورواه أبو داود بلفظ: "قلت لعائشة في دم الحائض يصيب الثوب، قالت: تغسله، فإن لم يذهب أثره، فلتغيره بشيء من صفرة" (ر. أبو داود: الطهارة، باب المرأة تغسل ثوبها الذي تلبسه في حيضها، ح 357، الدارمي: ح 1011، التلخيص: 1/ 36 ح 27).
(2) ذكت الريح: فاحت وانتشرت. (طيبة كانت أو منتنة).
(3) "المبرْسَم": الذي أصابه البرسام، والبرسام داء يسمى أيضاً: "ذات الجنب"، وهو التهاب في الغشاء المحيط بالرئة. (المعجم).
(4) أي الشديدة الرائحة.

(2/301)


لونٌ، ولا طعم، ولا رائحة، [ولا جرم، فمرور الماء عليه بمثابة زوال اللون والطعم والرائحة] (1) من النجاسات العينية.
ثم لا يخفى على الفطن أنه إذا زالت الصفات، فقد يبقى للظن والتجويز مجال في بقاء شيء خفي على إدراك الحواس، ولكن لا مبالاة به.
1069 - والذي يطلقه الفقيه من أن النجاسة زالت يقيناً كلام فيه تساهل، واليقين الحقيقي ليس شرطاً، وإنما المرعيُّ زوالُ ما نُحسُّه من الصفات.
1070 - ثم قد ذكرنا الإمعان، ونعني به الجريان على المعتاد في قصد إزالة النجاسة من غير انتهاءٍ إلى المشقة الظاهرة، ولا اكتفاءٍ بالغسل القريب.
ولما سألت أسماء بنت أبي بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دم الحيض يصيب الثوبَ، فقال عليه السلام: "حُتِّيه، ثم اقرُصيه، ثم اغسليه بالماء" (2) استفدنا أمرين: أحدهما - التسبب إلى الإزالة بالحت والقرص، فليعتمد الغاسل من هذا الفن ما يُعين على الإزالة، كالتخليل والدلك بالماء. والفائدةُ الأخرى أنه نص على الماء، فأشعر بأنه لا يجب استعمال غيره.
1071 - ثم في هذا ضبط وتقريب عندي.
فأقول: ليدم الغسلُ إلى زوال الطعم وإلى زوال الرائحة من مورد النجاسة على الأصح، فيبقى النظر في اللون، والوجه فيه أنه إن كان سهلَ الإزالة فَلْيُزَل، وإن كان اللون قائماً لا يزول إلا على طول الزمن، فالمعتبر فيه النظر إلى الغُسالة، فما دامت تنفصل متلونة، فهي تقطع من أعيان النجاسة، وإذا انفصلت صافية مع إمعانٍ وتحامل، فهذا كافي، والأثر الباقي معفوّ عنه.
__________
(1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(2) حديث أسماء متفق عليه، بلفظ: أن امرأة سألت النبي صلى الله عليه وسلم .. فقال: "تحته ثم تقرصه بالماء، وتنضحه، ثم تصلي فيه" (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 65 ح 161) وأما رواية: أن أسماء هي السائلة على نحو ما ساقه إمامنا، فهي أيضاً صحيحة، رواها الشافعي، وتعقب الحافظُ النووي وابنَ الصلاح في تضعيفهم إياها قائلاً: بل إسنادها في غاية الصحة. والذين ضعفوها هم الغالطون. (ر. الأم: 1/ 58، التلخيص: 1/ 35 ح 26).

(2/302)


وهذا فيه نظر؛ فإن الثوب إذا صبغ بصبغ نجس، فالصبّاغون لا يحسنون تعقيد الصبغ حتى لا ينفصل في هذه الديار (1)، فربما لا ينقطع انصباغ الغُسالات عن الثوب المصبوغ ما بقي منه سِلْك (2)، فتكليف ما ذكرناه، عسر جداً في ذلك، ومن يُحسن عقدَ الصبغ، فسبب عدم انفصاله انعقاده، وإلا فالثوب كان قبل الصبغ على وزنٍ، وهو مصبوغاً أكثر وزناً، وإن كان الصبغ معقوداً.
وهذا فيه نظر، ويظهر عندي اجتناب مثل هذا الثوب إذا كان الصبغ نجساً؛ فإن العين مستيقنةٌ حساً، والذي ذكره الأصحاب من المعفو عند الأثر أراه فيه إذا لم يُقدّر له وزن، ويسبق السابق إلى أنه لون بلا عين، وإن كان ذلك غير ممكن، ولكن الشرع مبناه على ظواهر الأمور، والله أعلم.
وقد قال صاحب التلخيص: إن بقي لون النجاسة أو طعمها، فالنجاسة باقية، وفي الرائحة قولان، وهذا مأخوذ عليه باتفاق الأصحاب، فاللون على التفصيل لا يضر بقاؤه قولاً واحداً، وحديث عائشة نص قاطع في الرد عليه.
فصل
يجمع النجاسات بأنواعها
1072 - إذا أردنا ضبط القول في النجاسات، ذكرنا تقسيماً يجمع شتات [النظر] (3)، وقلنا: ننظر في الجمادات التي ليست خارجة مِن حيوان، ثم ذكرنا الحيوانات، ثم ذكرنا الميتات، ثم نذكر ما يخرج من الحيوانات.
فأما الجمادات في القسم الأول، فكلها طاهرة إلا الخمر؛ فإن الشرع نجّسها؛ تأكيداً لاجتنابها، وزجراً عن مخامرتها، وذكر الشيخ أبو علي في المثلَّث (4) المسكر
__________
(1) يعيب الإمامُ صناعة الصبغ في بلاده في ذلك الزمان.
(2) السلْك: الخيط (المعجم).
(3) زيادة من (ت 1).
(4) المثلّث: شرابٌ، وسمي كذلك، لأنه طبخ حتى ذهب ثلثاه. (المعجم).

(2/303)


الذي نحرِّمه ويبيحه أبو حنيفة (1) -خلافاً في النجاسة مع القطع بالتحريم، ولست أعرف المصير إلى طهارته، وهو مسكر، مشتدٌّ محرمٌ ملحقٌ بالخمر- وجهاً (2).
فهذا بيان الجمادات.
1073 - وأما الحيوانات، فكلها طاهرة العيون إلا الكلب، والخنزير، والمتولّد منهما، أو من أحدهما وحيوان طاهر.
فكأن الأصلَ طهارة الجمادات والحيوانات إلا ما استثناه الشرع، وسببُ استثناء الخمر من الجمادات كسبب استثناء الكلب والخنزير من الحيوانات، وهو تأكيد قطع الإلف.
1074 - وأما الميتات فالقياس، الحكم بنجاستها؛ فإن الحياة مدرأةٌ للاستحالات، والعفن، والموت مجلبة لها. وقد استثنى الشرعُ من جملة الميتات السمك والجراد، ولا خلاف فيهما.
وظاهر المذهب أن جثة الآدمي لا تنجس بالموت، وفيه وجهٌ معروف، وسنذكره في كتاب الجنائز إن شاء الله تعالى.
فأما سائر الحيوانات إذا ماتت، فكل حيوان له نفس سائلة، (3 فإذا ماتت، فميتاتها نجسة، وكل ما ليس له نفسٌ سائلة 3)، ففي نجاسة ميتاتها خلاف وتفصيل، سبق في كتاب الطهارة مستقصىً.
1075 - وأما القسم الرابع وفيه يتسع الكلام، فهو ما يخرج.
فنقول: القول في ذلك: ينقسم إلى رشحٍ، لا يبين -في ظاهر الأمر- فيه اجتماع واستحالة، وهو اللعاب والعرق، والمتبع فيها طهارة عين الحيوان ونجاستها، فإذاً
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 281، مختصر اختلاف العلماء: 4/ 365 مسألة: 2058، حاشية ابن عابدين: 5/ 292.
(2) وجهاً: مفعول ثانٍ لـ (أعرف)، ثم جاءتنا (ل) وفيها: "وجهاً واحداً".
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(2/304)


عرق الحيوانات كلها، ولعابُها طاهر، إلا عرقَ الكلب والخنزير، ولعابهما، وقد تفصل ذلك.
1076 - فأما ما يجتمع ويستحيل في الحيوانات ثم يخرج، فالقياس في جميعها النجاسةُ، إلا ما استثناه الشرع، فالأبوال، والأرواث، والدماء، كلها نجسة من جميع الحيوانات، سواء كانت مأكولة اللحم، أو لم تكن، وخلاف أحمدَ بنِ حنبل (1) وغيرِه من علماء السلف، ومصيرُهم إلى طهارة أبوال الحيوانات المأكولة مشهور، والأرواثُ في معنى الأبوال عندهم.
وقد تكلم الشافعي على أحاديثَ تعلق بها أحمدُ، وهي صحيحة، منها حديث العُرينيين، فإنهم دخلوا المدينة، واجْتَووها واصفرّت ألوانهم، وأسلموا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو خرجتم إلى إبلنا، فأصبتم من ألبانها وأبوالها، ففعلوا، فصحّوا، فمالوا على الرعاة، فقتلوهم، واستاقوا الإبل، فألحق النبي صلى الله عليه وسلم الطّلب بهم، فأدْرِكوا، فأمر بهم حتى قطعت أيديهم وأرجلُهم، وسُملت أعينُهم، وألقوا بالحَرَّة يستسقون، فلا يُسقَوْن، حتى ماتوا عطشاً وجوعاً" (2).
ووجه الدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم جوّز لهم أن يصيبوا من أبوالها.
قال الشافعي: هذا الحديث منسوخ (3)؛ إذ فيه أنه مثَّل بهم، ثم ما قام في مقامٍ إلا أمر بالصدقة، ونهى عن المَثُلَة، ثم قال: أذِن لهم في التداوي عند الضرورة، والتداوي جائز عندنا بجملة الأعيان النجسة إلا الخمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) ر. الإنصاف: 1/ 339.
(2) قصة العرينيين في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه. (ر. اللؤلؤ والمرجان: القسامة، باب حكم المحاربين والمرتدين، ح 10860).
(3) في هامش (ت 1) ما يمكن أن نقرأ منه ما يلي: "جاء في غاية البيان: كان ذلك في أول الأمر، ثم نسخ بعد أن نزلت آيات الحدود ألا ترى .. " ثم عدة جمل غير مقروءة، وكل ما يفهم منها أنها شرح لألفاظ الحديث. مثل (سمل) .. وشرح لألفاظ إمام الحرمين مثل: (المثلة) ثم نقرأ بوضوح ما نصه "وذكر في غاية البيان تفصيل ذلك، وأجاب ابن حجر في شرح البخاري بأن نَسْخَ بعض الحديث لا يوجب نسخ كله". ا. هـ.

(2/305)


سئل عن التداوي بالخمر، فقال: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" (1).
وقد حكى شيخي عن بعض الأصحاب جواز التداوي بالخمر عند ظهور الضرورة، وإذا انتهت التفاصيل إلى ذلك فتذكر فيه (2).
وهذا القائل يحمل حديث الخمر على علم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن السائل عن التداوي بها كان لا ينتفع بها، وهذا بعيد في التأويل، ولكن إذا تمهد في الشرع تحليلُ الميتة حالة المخمصة، وهذا في التحقيق مداواة للضرورة ودَرْء للمخمصة. ثم أجمع الأئمة على جواز التداوي بجملة الأعيان النجسة، [وإن] (3) كان في التداوي نوع من الإشكال؛ من جهة أن درءَ الجوع بالميتة معلوم، والاطلاع على أن الأدوية تنفع وتنجع بعيد، وحذاق الصناعة لا يجزمون القولَ بنفع الأدوية وإن تناهَوْا في علومهم، وسنذكر ذلك في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى.
وقد نص الشافعي رحمه الله على أن من غُصّ بلقمة، ولم يجد إلا خمراً يُسيغها، فإنه يستعمل منها ما يسيغها، وإنما قال ذلك؛ لأن إساغة الغُصة معلومة، بخلاف نفع الدواء.
ومما يتعلق به أحمد ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في أبوال الإبل وألبانها شفاء الذَّرب" (4) وهذا لا دليل فيه؛ لأنه مخصوص بالمداوة.
__________
(1) حديث "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم" رواه الطبراني في الكبير من حديث أم سلمة، ورمز له السيوطي بالصحة، ورجاله رجال الصحيح، ورواه أبو يعلى، وابن حبان، والبيهقي، قال في المهذب " وإسناده صويلح " وقال ابن حجر: ذكره البخاري تعليقاً عن ابن مسعود، قال: وقد أوردته في تغليق التعليق من طرق صحيحة" ا. هـ. (ر. البخاري: الأشربة، باب شراب الحلواء مع العسل، الطبراني في الكبير: 23/ 356، ابن حبان: 2/ 335 ح 1388، أبو يعلى: ح 6966، البيهقي: 10/ 5، التلخيص: 4/ 140، 141، ح 2112، فيض القدير للمناوي).
(2) "فتذكّر": ضبطت في (ت 1) بفتح الكاف مشددة. وفي (ت 2): "فنذكر" بالنون، ومثلها جاءت (ل).
(3) في جميع النسخ: "فإن" والمثبت تبعنا فيه نسخة (ل).
(4) رواه أحمد في مسنده من حديث ابن عباس رضي الله عنه، بلفظ: "إن في أبوال الإبل وألبانها شفاء للذرية بطونهم". (ر. المسند: 1/ 293). =

(2/306)


ومما احتجوا به ما روى البراء ابنُ عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أكل لحمه، فلا بأس ببوله" (1) وهذا يعسُر تأويلُه حملاً على المداوة؛ فإنَّ جواز ذلك لا يختص بما يؤكل، ولكن أقرب مسلك فيه، أنه صلى الله عليه وسلم بيَّن أنه لا ينفع شيء من الأبوال، إلا بول ما يؤكل لحمه، والعلم عند الله.
1077 - ثم لا فرق عندنا في التنجيس بين ذرق الطيور ورجيع الحيوانات ومذهب أبي حنيفة معروف في ذرق الحمام وغيرها (2)، واختلاف أئمتنا معروف في خُرء السمك والجراد، وكلِّ شيء يخرج منهما، وسبب هذا الاختلاف أنها مستحَلّة الميتات، فإذا فارقت الحيواناتِ في هذه الجهة، ظهر الخلاف فيما ذكرناه.
وذكر الصيدلاني وغيره: إنا إذا حكمنا بطهارة ميتات ما ليس لها نفس سائلة، فهل نحكم بطهارة هذه الأشياء منها؟ فعلى وجهين، وهذا أبعد عندي مما ذكرناه في السمك والجراد؛ فإن ميتات هذه الأشياء لا تحل، وإذا حكمنا بأن الآدمي لا ينجس بالموت، لم يقتض ذلك الحكمَ بطهارة فضلاته، ولكن الفرق واضح؛ فإن سبب الحكم بطهارة ما ليس له نفس سائلة أنها إذا ماتت لا تفسد، بل تعود كأنها جمادات، والآدمي بخلاف ذلك، فإنه ينتن إذا مات ويفسد، وسبب الحكم بطهارته ما يتعلق به من تعبُّد الغُسل والحرمة، ولا يظهر في تنجس فضلاته ما يخالف موجَب الحرمة.
واختلاف الأئمة في فضلات بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد سبق ذكره في كتاب الطهارة.
فهذا تمهيد القول فيما يستحيل في الحيوانات.
1078 - ونذكر الآن ما استثناه الشرع، فنقول أما ألبان الحيوانات المأكولات اللحوم، فلا شك في حلها وطهارتها، وذلك عندي في حكم الرخص؛ فإن الحاجة
__________
= والذرَب: داء يعرض للمعدة، فلا تهضم الطعام، ويفسد فيها ولا تمسكه (المعجم).
(1) حديث البراء بن عازب، رواه الدارقطني بلفظ: "لا بأس ببول ما أكل لحمه" ورواه عن جابر باللفظ الذي ساقه به إمام الحرمين. قال الحافظ: "وإسناد كل منهما ضعيفٌ جداً" (ر. التلخيص: 1/ 43 ح 37).
(2) ر. البدائع: 1/ 76، حاشية ابن عابدين: 1/ 213، 214.

(2/307)


ماسة إلى الألبان، وقد امتن الله تعالى بإحلالها، فقال: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ} [النحل: 66].
1079 - ومما يتعلق بقسم الاستثناء القول في المني، فظاهر مذهب الشافعي أن مَنِي الرجل طاهر، ومعتمد المذهب الأخبار، وهي مذكورة في الاختلافات (1).
وفي منيّ المرأة خلاف، وسببه تردد الأئمة في طهارة بلل باطن فرج المرأة، فلعل من يحكم بنجاسة منيها يقول: هو ليس نجس العين، وإنما ينجس بملاقاة رطوبة باطن فرجها.
[وقال صاحب التلخيص: مني المرأة نجس، وفي مني الرجل قولان] (2).
وهذا أنكره الأصحاب عليه، ورأوا القطع بطهارة مني الرجل.
ومن غوامض المذهب ما أبهمه الأصحاب من التردد في رطوبة باطن فرج المرأة، وليس يخفى أن الرطوبة التي في منفذ الذكر إلى الإحليل في معنى رطوبة باطن فرج المرأة، وممرّ المنِيين على الرطوبتين على وتيرة واحدة، فلست أرى بين الرطوبتين والممرّين فرقاً إلا من جهة واحدة، وهي أن ما في الذكر رطوبة لَزِجَة لاحِجة (3) لا يخرج منها شيء؛ فلا حكم لها، ولا يمازجها ما يمر بها، وأمثال هذه الرطوبات لا حكم لها في الباطن، وبلل باطن فرج المرأة كثيرٌ يمازج، وقد يخرج، ويكاد أن يكون كمذي الرجل، فإذاً ليس ينقدح في ذلك إلا ما ذكره من تصوير الممازجة في إحدى الرطوبتين، وعدم ذلك في الثانية، فكان مَنيَّها يخرج مع شيء من الرطوبة لا محالة، بخلاف منيه.
ثم يبقى بعد هذا تساهل أئمة المذهب في العبارة، وذلك أنهم يقولون: رطوبة باطن فرج المرأة نجسة أم لا؟ وهم يريدون بذلك أن تلك الرطوبة هل يثبت لها
__________
(1) كذا في جميع النسخ، ولعلها: "الخلاف": أي كتب الخلاف، ثم جاءت (ل) فإذا بها سقطت منها.
(2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(3) لاحِجَة: في هامش (ت 1): "لَحِجَ في الشيء إذا نشب فيه، ولزمه" مجمل اللغة. ا. هـ.
هذا. وقد سقطت اللّفظة من: (ت 2)، وكذا من (ل).

(2/308)


حكمٌ، وهل تنجّس ما يخرج؟ وهل يعتقد في الخارج الامتزاج بها؟ فهذا وجه القول في ذلك.
1080 - فأما منيّ سائر الحيوانات: اختلف أصحابنا فيها على ثلاثة أوجه: أحدها - أن جميعها نجس إلا منيّ الآدمي، فإن طهارته أُثبتت تكريماً على التخصيص، ليكون أصل فطرته من طاهر.
والثاني - أنه يحكم بطهارة مني ما يؤكل لحمه من الحيوانات أيضاً، لأن منيّها يضاهي بيضَ الطائر المأكول.
والثالث - أن جملة مني الحيوانات الطاهرة العيون طاهر، نظراً إلى طهارة الحيوانات في أنفسها، فهذا تمام القول في المني.
1081 - وممّا يتعلق بذلك: القول في ألْبان ما لا يؤكل لحمه: فلبن الآدميات حلالٌ طاهر، ولبن غيرهن مما لا يؤكل لحمه حرام، وفي ظاهر المذهب أنه نجس؛ فإن الألبان إنما أبيحت للحاجة، ووقع الحكم بطهارتها تبعاً لمسيس الحاجة إلى تحليلها، وأبعد بعضُ أصحابنا، وحكم بطهارة ألبان الحيوانات الطاهرة العيون، وهذا ساقط غير معدود من المذهب.
1082 - ومما يتعلق بذلك القول في البيض: فكل بائضٍ مأكولِ اللحم، فبيضه مأكول، وما لا يؤكل لحمه من الطير لا يؤكل بيضه، والكلام في طهارته كالكلام في مني الحيوانات التي لا يؤكل لحمها، وهي طاهرة العيون.
ومما ذكره الأئمة أن البيضة الطاهرة المأكولة إذا صارت مذرة في الاحتضان، ففيها خلاف، وظاهر المذهب أنها نجسة؛ فإنها دم، ومن أئمتنا من حكم بطهارتها؛ فإنها أصل الفطرة.
وكذلك اختلف الأئمة في أن المني إذا استحال في الرحم عَلقة ومُضغةً، فهي نجسة أم لا؟ والخلاف في ذلك أظهر عندي؛ من جهة أن الحكم بطهارة مني الرجل مأخوذ عندي من كرامةْ الآدمي، وهذا يطرد في المضغة، وأما البيض، فليس فيه هذا المعنى، وإنما الطهارة فيه تبع الحل.

(2/309)


قال الشيخ أبو علي: الخمرة المحترمة التي الغرض منها الخَل، تخرّج على هذا الخلاف، فمن أئمتنا من حكم بطهارتها، وبنى على ذلك أنها مضمونة. وهذا بعيد جداً؛ فإن الخمرة المحترمة التي يجب الحدُّ على شاربها يبعد الحكم بطهارتها، والمصيرُ إلى إيجاب الضمان بإتلافها، فالوجه [القطع] (1) بأنها ليست مضمونة، وإن حرم إتلافها، كالجِلد الذي لم يدبغ بعدُ.
فإذاً انحصر الاستثناء في الألبان، والمني، والبيضُ في معنى المني، فأما ما سوى ذلك من المستحيلات، فنحكم بنجاستها.
1083 - والدماء نجسة، وكذلك القيح والصديد، والمِرّة الصفراء والسوداء.
قال الشيخ أبو علي: المشيمة إذا خرجت على الولد، فهي نجسة، وقال: إذا خرج الولد وعليه بلل، فهو نجس، وإن حكمنا بطهارة رطوبة باطن فرج المرأة؛ فإن الولد يخرج من الرحم وعليه رطوبات الرحم، ولو أرخى الرحم رطوبةً، فهي نجسة.
وهذا الذي ذكره صحيح، ولكن فيه ذهول عن الحقيقة التي نبهنا عليها في رطوبة باطن فرجها.
ولو خرج من باطن فرج المرأة رطوبة، فلا شك في نجاستها، ولكن إذا خرج منه المني، فليس نقطع بخروج رطوبة فرجها، عند بعض الأصحاب، وإذا خرج الولد مبتلاً، فهذه رطوبة خارجة قطعاً متميزة عن الولد.
1084 - وذكر الشيخ أبو علي وجهين في البلغم الذي ينقلع من منفذ المريء:
أحدهما - أنه نجس، لأنه مستحيل في الباطن.
والثاني - أنه طاهر، كالذي ينزل من الرأس؛ فإنه لا خلاف في طهارته.
فرع:
1085 - البلل الذي ينفصل من جرحٍ، لا دمَ ولا صديدَ فيه، أو ينفصل من نَفَّاطَة (2) تنفطر، فإن كانت رائحته كريهة، فهو نجس كالصديد، وإن لم تكن رائحتُه كريهة، فقد ذكر العراقيون أنه طاهر، وحكَوْه عن نص الشافعي، وقالوا: إنه
__________
(1) ساقطة من الأصل، و (ط)، و (ت 1).
(2) النَّفَّاطة: بثرة مملوءة ماء، تظهر في اليد من أثر العمل. (معجم).

(2/310)


كالعرق، وظاهر كلام الشيخ أبي علي أنه نجس، وهو فيما أظن سماعي عن شيخي.
فرع (1):
1086 - اختلف أئمتنا في الإنفحة، فقال قائلون: إنها نجس، وهو القياس، فإنها لبن مجتمعٌ في باطن الخروف، ويستحيل، فيخرج إذا ذبح الخروف، ويجبَّن به اللبن، والمستحيل نجسٌ.
وقال قائلون: إنها طاهرة لإطباق الأمَّة على استحلال الجُبن، مع علمهم بأن انعقاده بالإنفحة، فنزلت الإنفحة من جهة الحاجة منزلة أصل اللبن الذي أبيح لأجل الحاجة، والقياس الحكم بنجاسة الإنفحة، ولكن عمل الناس، وعدم الإنكار من علماء الأعصار (2) يدل على الطهارة.
1087 - ومما يتعلق بما ينفصل عن الحيوان، أن كلّ ما أُبين عن الحي فهو ميت، فإن كان الحيوان لو مات لتنجّس، فينجُس الجزء المبان من هذا الأصل، إلا الأصواف والأوبار إذا جُزَّت من الحيوانات المأكولة، على رأي من يُثبت لها حكمَ الحياة في اتصالها.
والسبب في ذلك مسيس الحاجة إليها في الملابس والمفارش، مع استبقاء الأصول، فهي نازلة منزلة الألبان التي استثنيت -في الحل والطهارة- من قياس المستحيلات للحاجة.
ولو أُبين عضو من آدمي، فإن حكمنا بنجاسة الآدمي لو مات، فالمبان منه نجس، وإن حكمنا بأن الآدمي لا ينجس بالموت، ففي العضو المفصول منه وجهان:
أصحهما - الطهارة، اعتباراَّ بَالأصل لو مات. ومنهم من قال: ينجس لسقوط حُرْمته بالانفصال عن جملته، وهذا بعيد، ولكنه قريب من خلاف أئمتنا في أن من قطع فِلْقة من سمكة، فهل تحل أم لا؟ فإن ميتةَ السمك حلال وفي الفِلْقة المُبانة من الخلاف ما ذكرناه.
فهذا معاقد المذهب فيما نحكم بنجاسته وطهارته.
__________
(1) في (ل): فصل.
(2) كذا في جميع النسخ، وجاءتنا (ل) وفيها: "الأمصار".

(2/311)


فصل
قال: "وكل ذلك نجس إلا ما دلت عليه السُّنة من الرش ... إلى آخره" (1).
1088 - بول الصبي الذي لم يطعم إلا اللبن نجس، كسائر الأبوال، ولكن ورد فيه تخفيفٌ في كيفية إيصال الماء إلى مورده، وروي عن لبابة بنت الحارث أنها قالت: "أُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحسن أو (2) الحسين، فأجلس في حجره، فبال في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت لبابة: قلت يا رسول الله: أَغسلُ إزارك؟ فقال: لا، إنما يغسل الثوب من بول الصبيّة، ويرش على بول الغلام، ودعا بماء فرشَّ عليه" (3)، فإذاً يجوز الاقتصار على الرش في بول الغلام الذي لم يطعم الخبز، ولا مجال للقياس فيه.
ثم ليس في الحديث تعرّض لتطعم الغلام، وإنما فهم الفقهاء ذلك من جهتين: إحداهما - أنه قد نُقل: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بالحسن ليسميه ويطعمه" وهذا على قرب العهد بالولادة.
والثاني (4) - أنه لا يتوهم امتداد هذا الحكم على الدوام، ولا نرى فيه
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 94.
(2) في النسخ الأربع: (و) والذي في حديث لبابة: الحسين من غير ترديد. ولبابة هي أم الفضل زوجة العباس رضي الله عنه. أما الترديد بلفظ " أو " فقد ورد في أحاديث أخرى، منها حديث أبي السمح عند أبي داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم (ر. أبو داود: الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب، ح 376، النسائي: الطهارة، باب بول الجارية، ح 304، ابن ماجة: الطهارة، باب ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم، ح 526، التلخيص: 1/ 60 ح 33).
(3) حديث لبابة رواه أبو داود: الطهارة، باب بول الصبي يصيب الثوب، ح 375، بلفظ: "إنما يغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر" وأخرجه ابن ماجة: الطهارة، باب ما جاء في بول الصبي الذي لم يطعم، ح 522، ورواه الحاكم: (1/ 166)، وأحمد: (6/ 339)، والطبراني في الكبير: (25/ 25، 26)، وصححه الألباني في المشكاة: (501)، وفي صحيح أبي داود: (399)، وفي صحيح ابن ماجة: (421) (وانظر التلخيص: 1/ 37، 38 ح 33).
(4) كذا في جميع النسخ، وفي (ل): "والثانية": أي الجهة الثانية.

(2/312)


مردّاً (1) إلا أن يطعم ويحتوي جوفه على ما يستحيل، واللبن لا يبالى به، ولا يستحيل استحالة متكرّهة.
وأما بول الصبية، فمقتضى الخبر أنه يجب غسل الثوب عنه، والمذهبُ إلحاقه بالنجاسات؛ فإنّ ما ذكرناه في الغلام تلقيناه من الحديث، وفي الحديث الفصل بين الصبية والغلام.
وذكر الأئمة في الطرق قولاً آخر، أن الصبية كالغلام في جواز الاقتصار على الرش على بوله، وهذا لست أعرف له وجهاً، مع مخالفة القياس والخبر، ولكنه ذكره الصيدلاني وزيَّفه، وذكره غيره أيضاً.
ثم لا خلاف في نجاسة بول الغلام، وإنما يختص من بين النجاسات بالاكتفاء بالرش فيه، ثم الذي ذكره الأئمة، أن الرش لا يشترط أن ينتهي إلى جريان الماء، بل يكفي أن يعم الماء موضع البول رشاً، وإن لم يتردد ولم يَقْطُر (2).
وذكر شيخي: أنه لا يكتفي بنضحٍ وأدنى رش، ولكن يجب أن يكاثره بالماء حتى ينتقع، ولا يجب عصر الغسالة، وبهذا يقع الفرق، وفي وجوب العصر في سائر النجاسات خلاف سيأتي.
وهذا الذي ذكره لا أعده من المذهب؛ فإن هذا ليس رشاً، بل هو مكاثرةٌ وغَمرٌ، وتَرْكُ عصر، وقد نذكر أن الأصح أن العصر لا يُشترط في إزالة جميع النجاسات؛ إذا اتفق الزوال.
فصل
1089 - نذكر في هذا الفصل شيئين: أحدهما - وصْل العظم المنكسر بعظم نجس.
والثاني - وصل المرأة شعرها.
فأما الأول - فإذا انكسر عظمٌ من الإنسان، فوصله بعظمٍ نجس، فقد قال الأئمة:
__________
(1) "مرداً": أي نهاية، ومرجعاً.
(2) "يَقْطُر": من قطر الماء والدمع قطراً (من باب ضرب): أي سال. (المعجم).

(2/313)


إن لم يتصل، ولم يلتحم، وجب تنحيته، وإن التحم واتصل، ولم يكن في إزالته وقلعه خوف، وجب إزالته، لمكان الصلاة.
وإن كان في إزالته خوف، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يُزال إبقاءً على المهجة.
والثاني - أنه يزال لحق الصلاة، ونحن نرى سفكَ الدم على مقابلة ترك صلاةٍ واحدة.
وهذا بعيد عن القياس؛ فإن المحافظة على الأرواح أهم من رعاية شرط الصلاة.
ومما يعترض على ذلك: أن من أخذ خيطاً لغيره، وخاط به جرحه، فلا نكلفه نزعه عند الخوف، قطع الأئمة جوابَهم به، وذلك لأنا نأخذ طعامَ الغير لشدة المخمصة، ونغرَم له القيمة، ونَقِي الأرواحَ بالأموال على شرط الضمان، واستصحاب النجاسة يقدح في الصلاة، ولا مساهلة في الأديان.
وهذا عندي تكلّف، والقياس القطعُ بأنه لا ينزع العظم إذا خيف؛ فإنا نحرِّم إمساس الجرح ماء لإزالة نجاسة عليه، وإن كان في إبقائها حملٌ على إقامة الصلاة مع النجاسة، (1 وكل نجاسة يعسر الاحتراز عنها، فإن الشرع يعفو عنها، كما مضى التفصيل فيه.
وإن قال قائل: المصلي مع النجاسة 1) يقضيها؛ فإنها مرجوّة الزوال، والعظم النجس الملتحم قائم أبداً. فلا أصل لهذا، [والمستحاضة لا تقضي الصلوات التي أقامتها في زمان الاستحاضة] (2)، وقد يقال: ذلك دمٌ جارٍ من غير اختيار، وهذا أدخل العظمَ على عضوه، ولا ثبات لمثل هذا.
1090 - ومما يعنُّ في المسألة من وجوه الإشكال، أن التداوي بالأعيان النجسة جائزٌ وفاقاً، وإنما التردد في التداوي بالخمر. وقد قال الأئمة: لو ألصق ضماداً نجساً على جرحه، نُزع لأجل الصلاة، والسبب فيه -مع الإشكال- أن تحريم أكل النجاسة
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).
(2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

(2/314)


من باب الأمر بتخير الطيبات في الأغذية، فإذا خيف الهلاك، زال ذلك، ولا تعلق له بالصلاة؛ فإن ما يحويه البطنُ يسقطُ اعتبار طهارته، وإلصاق الضماد النجس بظاهر الجرح يؤثر في الصلاة.
1091 - ومما يشكل أن العظم النجس إذا اكتسى بالجلد واللحم، فقد بَطُن، فتكليفُ إظهارِه ونزعِه بعيد، وقد التحق بالباطن.
والذي ذكره الأصحاب من الالتحام عَنَوْا به الاتصالَ، فأما الاكتساء بالجلد واللحم، فالقياس فيه ما تقدم.
ولولا أنَّ المذهب نَقْل، وإلاّ لكان القياس، بل القواعد الكليّة تقتضي أن أقول: لا ينزع عند الخوف وجهاً واحداً، ولا عند الاكتساء بالجلد، وحصول التستّر والبطون (1)، فكان لا يبقى [احتمال] (2) إلا في صورة، وهي أنه إذا أمكن الوصلُ بعظم طاهر، واعتمد الوصلَ بالنجس، واعتدى، فهل ينزع والحالة هذه؟ الظاهر أنه لا ينزع مع الخوف، وفيه احتمال بسبب تفريطه وتسببه إلى هذا.
ثم خوفُ فساد العضو عندي في التفاصيل، ينزل منزلة خوف الهلاك، وتلف المهجة.
وإذا عسر عليَّ في فصل تخريجُ المذهب المنقول على قياس أو ربطه بخبر، فأقصى ما أقدر عليه استيعابُ وجه الإشكال، وإيضاح أقصى الإمكان في الجواب عن توجيه الاعتراضات.
1092 - ومن تمام الكلام في المسألة: أنه إذا كان رقَع عظمَه بعظم نجسٍ ومات، فقد قال الشافعي: صار ميتاً كلُّه والله حسيبُه، وظاهره يشعر بأنه لا يقلع منه إذا مات؛ فإن التكليف انقطع، وكله ميت، وذلك إشارة إلى نجاسة الميت، وقد اختلف أئمتنا في ذلك، فقال قائلون: لا يقلع لما أَشْعر به ظاهرُ كلام الشافعي، وفيه تقطيع الميت وهتك حرمته.
__________
(1) أي عندما يصير تحت اللحم والجلد، فيصبح باطناً.
(2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

(2/315)


ومن أئمتنا من قال: يقلع؛ فإنا تُعبّدنا بغسله، وذلك العظم يمنع من وصول الماء إلى ما اتصل العظم به، وهذا إن كان يتحقق ففي العظم الظاهر، وأما إذا اكتسى بالجلد، فيبعد كلُّ البعد أن يكشطَ الجلد، ويخرجَ العظم منه، وقد انقطعت وظائفُ الصلاة، والماءُ يجري على بشرة طاهرة، ومصيره إلى البلى، وظهور النجاسات.
فهذا بيان ترقيع العظم بالعظم النجس.
1093 - وأما وصل المرأة شعرها بشعر امرأة أو رجل، فقد قال (1): والذي إليه الرجوع في ذلك، وهو معتمد الفصل، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، والواشرة والمستوشرة" (2).
وقال ابن مسعود: ألا ألعن من لعنه الله في كتابه، لعن الله الواصلة، فرجعت امرأة وقرأت القرآن، فلم تجد ذلك، فرجعت إلى ابن مسعود، وقالت: قرأتُ ما بين الدفتين، فلم أجد ما قلتَ. قال: لو قرأتيه (3) لوجدتيه، ألم تسمعي الله تعالى يقول: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، ثم روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اللعنَ، وساق الحديث (4). واللعنُ من أظهر الوعيد، وما اتصل الوعيدُ به اقتضى ذلك التحريم في النهي، والإيجاب في الأمر.
فهذا أصل الفصل.
1094 - ثم أذكر تفصيل مذهب الأئمة، فقالوا: إن قلنا: إن الشعر نجس، فاستصحابُ النجاسة في الصلاة محرم، ولا يتلقى من ذلك التحريمُ في غير الصلاة،
__________
(1) أي الشافعي، وهذا معنى كلامه. ر. الأم: 1/ 46، والمختصر: 1/ 95.
(2) حديث لعن الله الواصلة ... متفق عليه، فمعناه في جملة من الأحاديث. (ر. اللؤلؤ والمرجان: كتاب اللباس والزينة، باب تحريم فعل الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات والمغيرات خلق الله، ح 1375 - 1378).
(3) كذا في جميع النسخ، بإثبات الياء في (قرأتيه) و (وجدتيه) وهي لغة أشار إليها سيبويه، في الكتاب: 4/ 200 قال: "وحدثني الخليل أن ناساً يقولون: ضربتيه، فيلحقون ... ". وفي خزانة الأدب للبغدادي بتحقيق أستاذنا عبد السلام هارون: 5/ 268، 269 أتى بالشاهد رقم 382 على أن أبا علي قال: "تلحق الياء تاء المؤنث مع الهاء" فراجعه إذا شئت.
(4) حديث ابن مسعود متفق عليه أيضاً (ر. اللؤلؤ والمرجان: ح 1377).

(2/316)


وإن كان الشعر طاهراً، نظر، فإن كان شعرَ آدمي، فلو أبرزته لزوجها، وكان شعر امرأة، فذلك حرام؛ فإن النظر إلى عضو من أجنبية حرام. وإن كان شعرَ رجل، فنظرها إلى شعر أجنبي، ومسها إياه حرام. فهذا مأخذٌ.
[وللنظر] (1) فيه مضطرَب؛ فإن الأئمة اختلفوا في النظر إلى جزءٍ مفصول من امرأة أجنبية؛ من جهة سقوط الحرمة، وعلى هذا (2) بنَوْا بطلانَ الطهارة بمس الذكر المبان، فهذا فنٌّ.
وقد يرد عليه أنها لو وصلت بشعرها شعرَ امرأة من محارم الزوج والزوجة، وينتشر الكلام ويخرج عن الضبط.
وذهب بعض الأئمة في مذهب آخر فقالوا: إن لم تكن ذات زوج (3 فهذا التزيّن تعرض منها للتهم، وتهدُّف للرّيب، فلا يجوز، وإن كانت ذات زوج 3) ولبّست على زوجها، وخيلت إليه أنه من شعرها، لم يجز.
وإن ذكرت له وكان الشعر شعرَ بهيمة، وكان طاهراً في نفسه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - لا يجوز؛ لعموم نهيه ولعنه.
والثاني - وهو الأصح أنه يجوز؛ لأنه تزيّنٌ منها بحلال، واستمالة لقلب الزوج.
قال الصيدلاني: وكذلك ما يشبه هذا من تحمير الوجنة، وما يشبهه مما يخيّل أمراً في الخلقة.
1095 - والذي يتحصل من مجموع ذلك أن ما يقع من مجموع هذه الصورة مستنداً إلى أصلٍ، كاستصحاب نجاسةٍ في الصلاة، أو كإبداء عضوٍ لمن يحرم عليه النظر،
__________
(1) كذا في جميع النسخ والمثبت تقديرُ منا، صدقته (ل).
(2) "وعلى هذا" أي على الخلاف في حكم النظر إلى جزء مفصول من امرأة أجنبية، وسقوط حرمة الجزء، وأنه لا يطلق عليه اسم امرأة، ولا يقال لمن مسّه: إنه مس امرأة. بخلاف الذكر المبان؛ فإنه يطلق عليه الاسم، فتبطل الطهارة بمسه عند القائلين بهذا الوجه.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(2/317)


على ما سبق الإيماء إليه، فلا شك في التحريم، وإن كانت برزة [مُربَّأةً] (1) للأجانب، فلا شك في تأكّد الوعيد والتحريم.
فيبقى أن تتزين وتستحلي، ولا تكون ذات زوج، [أو كانت ذات زوج، فتلبِّس عليه أو تذكر له، فإن لم تكن ذات زوج] (2) فقد حرَّم الأئمة لما فيه من الريبة؛ إذ يستحيل أن يُحمل نهيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على التي تتبرج؛ فإنها متعرضة من جهة تبرجها لسخط الله ولعنته، فلا يليق بنظم الكلام أن يذكر من أمرها التبرج، ويذكر الوصل. ويمكن أن نتمثل في ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس للقاتل من الميراث شيء" (3) ثم قال الأئمة: من قتل مورثه خطأ حُرم ميراثَه؛ من حيث إنه متعرض للريبة، كذلك المستحلية، بل هي أقرب إلى التهمة وإن فعلت ذلك ملبِّسة، فقد قطع الأئمة بالتحريم؛ من جهة أنها مُحْتَكِمة على قلب الزوج بزور وغرور وباطل، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور" (4) وأراد
__________
(1) المرأة البرزة: أي التي تجالس الرجال. والمربأة للرجال: بمعنى البرزة أيضاً، من: ربأ الشيء أعلاه ورفعه. (المعجم).
هذا وهي في الأصل، (ط)، (ت 2): مرتابة. والمثبت من: (ت 1). وهي فيها واضحة مضبوطة بضم الميم، وبفتح الباء المشدّدة. والله أعلم. ثم جاءتنا (ل) وفيها: "مرئية".
(2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(3) حديث: "ليس للقاتل من الميراث شيء" رواه النسائي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده بلفظ: "ليس للقاتل ميراث"، ورواه ابن ماجة ومالك في الموطأ، والشافعي، وعبد الرزاق، والبيهقي، وروي بلفظ مغاير، عن ابن عباس، وعن أبي هريرة، وممن أخرجه: الترمذي، وأبو داود، والدارقطني، (ر. التلخيص: 3/ 184 ح 1406 - 1408، والنسائي في الكبرى: الفرائض، باب توريث القاتل، ح 6368، والترمذي: كتاب الفرائض، باب ما جاء في إبطال ميراث القاتل، ح 2109، وأبو داود: كتاب الديات، باب ديات الأعضاء، ح 4564، وابن ماجة: كتاب الفرائض، باب ميراث القاتل، ح 2735، ومالك في الموطأ: 2/ 867).
(4) حديث: "المتشبع بما لم يُعْطَ ... " متفق عليه من حديث أسماء (ر. اللؤلؤ والمرجان، كتاب اللباس والزينة، باب النهي عن التزوير في اللباس وغيره والتشبع بما لم يعط، ح 1379).

(2/318)


صلى الله عليه وسلم أن الذي يتزيا للشهادة (1) بالزور كالذي يُري من نفسه بتغيير الخلقة ما لم يخلقه الله تعالى.
ويمكن أن يقرب ذلك من تحريم التصوير.
وأما إذا ذكرت للزوج، فهو على الخلاف، وينبغي عندي أن يختص الخلاف بالوصل لمكان النهي، ثم تردُّدُ الأئمة فيه يشبه تردَّدَهم في أن من قتل قصاصاً مورِّثه هل يُحرَم؟ ووجه الشبه أن من أصحابنا من يتعلق بظاهر الخبر، إذ قال صلى الله عليه وسلم: "ليس للقاتل من الميراث شيء"، ومنهم من يتعلق بالمعنى، ولا يرى للتهمة في قتل القصاص موضعاً. ثم يبعد الخلاف في تحمير الوجه بإذن الزوج؛ إذ ليس فيه خبر، وقد يحمرُّ الوجه لعارضِ غضبٍ أو فرع أو كدًّ وإسراع في المشي.
وأما تطويل الشعر، فإنه تغيير في الخلقة في الحقيقة.
ولست أرى تسويةَ الأصداغ، وتصفيفَ الطُرر محرَّماً. وتجعيد الشعر قريب من تحمير الوجه.
والصيدلاني أجرى الخلاف في التحمير كما ذكرته.
فهذا منتهى الكلام في ذلك.
فصل
قال: "وإذا أصاب الأرضَ بول طهُر بأن يُصبَّ عليه ذنوب من ماء ... إلى آخره" (2).
1096 - مضمون هذا الفصل القول في الأسباب التي تُزيل النجاسة.
وأما إزالة النجاسة عن الثوب والبدن، فيتعين لها استعمال الماء، بحيث يقلع آثار
__________
(1) سببُ ورود الحديث أخرجه مسلم، فتمام الحديث من أوله بلفظ مسلم عن عائشة رضي الله عنها: "أن امرأة قالت: يا رسول الله أقول: إن زوجي أعطاني ما لم يعطني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المتشبع بما لم يُعطَ كلابس ثوبي زور" وقد حكى النووي في شرح مسلم أقوالاً منها قولٌ للخطابي، قال: المراد أن الرجل الذي تطلب منه شهادة زور، فيلبس ثوبين يتجمل بهما، فلا ترد شهادته لحسن هيئته.
(2) ر. المختصر: 1/ 95. وهو بمعنى كلام الشافعي.

(2/319)


النجاسة، كما سبق التفصيل فيه، في كتاب الطهارة، وفي هذا الباب.
وقد ذكرنا الصفاتِ التي تراعى: من اللون، والطعم، والرائحة.
ومما ذكرناه في الطهارة -والحاجةُ الآن ماسة إلى تجديد العهد به إيماء- غسالة النجاسة إذا انفصلت، وحكمُ طهارتها ونجاستها، وقد مضى ذلك مبيناً في كتاب الطهارة.
ثم ظهر اختلاف أئمتنا في أنه هل يجب عصرُ الثوب المغسول عن الغسالة على حسب العادة في مثله؟ وقد قال شيخنا أبو علي: هذا الخلاف بعينه، هو الخلاف في نجاسة الغُسالة وطهارتها. فإن حكمنا بنجاستها، فبالحري أن نوجب العصرَ، لفصلها على حسب الإمكان، مع الاقتصاد في الاعتياد، وإن قلنا: الغسالة التي تنفصل بالعصر طاهرةٌ، فلا معنى لإيجاب العصر مع المصير إلى أنّ ما يعصر لو رُدّ إلى الثوب ساغ.
فهذا تفصيل القول في العصر.
ثم وإن حكمنا بنجاسة الغسالة وأوجبنا العصر، فالبلل الباقي بعد الإمعان في العصر طاهر، وكان من الممكن أن يتوقف الحكم بطهارة الثوب على جفافه عن البلل، فإن معنى الجفاف خطف الهواء أجزاء البلل، ولم يصر إلى اشتراط ذلك أحد.
1097 - ثم ذكر الشافعي في صدر الفصل تفصيلَ إزالة النجاسة التي تصيب الأرضَ. ومعتمد المذهب فيها حديث الأعرابي الذي دخل المسجد، وجلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يختص بتكريمه، والرفق به، فقال لذلك في صلاته: اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم بعد التحلل: "لقد تحجَّرت واسعاً" ثم قام الأعرابي إلى ناحيةٍ من المسجد، فبال فيها، فهمّ به بعضُ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضربه، فقال صلى الله عليه وسلم: "لا تُزْرِموه" أي لا تقطعوا عليه بوله، ثم قال صلى الله عليه وسلم "صبوا عليه ذَنُوباً من ماء" (1) ولعله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) حديث الأعرابي. أصله في الصحيحين، متفق عليه من حديث أنس (اللؤلؤ والمرجان: =

(2/320)


علم أنهم لو أزعجوه، لانتشر اللطخ وزاد، فأراد أن تكون النجاسة مجموعة في موضع واحد.
وغرضنا الآن أنه قال: "صبوا عليه ذنوباً من ماء"؛ فمذهبنا أن الأرض إذا أصابها بول، أو نجاسة أخرى مائعة، فكوثر موردُ النجاسة بالماء، حتى غلب على عين النجاسة، ولم يُبق شيئاًً من آثاره إلاّ غمَره، كان ذلك تطهيراً.
1098 - وزعم أبو حنيفة أن الأرض لا تطهر بهذا، ما لم يحفر موضعَ النجاسة، وينقل ترابَها (1). والحديث ناصٌّ في الرد عليه، وإنما قال ما قال من جهة حكمه بنجاسة الغُسالة، فالماء المتردد الحائر في مورد النجاسة نجس وفيه النجاسة، وقد قال أبو حنيفة: صبُّ الماء على مورد النجاسة نشر لها، وسعي في زيادة التنجيس، وتوسيعٌ لمكانه.
فإن قيل: إذا حكمتم بنجاسة الغُسالة، وأوجبتم عصر الثوب المغسول، فماذا ترون في الأرض؟ قلنا: نقول مادام الماء قائماً حائراً، فهو نجس، والأرض نجسة، فإذا نضب الماء، كان بمثابة العصر في الثوب. ثم لا يتوقف الحكم بالطهارة على الجفاف، بل الأرض طاهرة، وإن كانت مبتلة إذا غاض الماء.
ثم هذا القياس يقتضي لا محالة (1 أن يقال: إذا أوجبنا عصرَ الثوب، فلو لم يعصر، وترك حتى جف بالهواء، أو قارب الجفاف، ينزل هذا منزلة العصر، بل هو أبلغ منه.
__________
= 1/ 64 ح 162) أما صورة القصة، فعند أبي داود: كتاب الطهارة، باب الأرض يصيبها البول، ح 380، 381، والنسائي: الطهارة، باب ترك التوقيت في الماء، ح 52 - 56، والترمذي: الطهارة، باب ما جاء في البول يصيب الأرض، ح 147، وابن ماجة: الطهارة، باب الأرض يصيبها البول كيف تغسل؟ ح 528 - 530.
وتُزرموه أي تقطعوا عليه بولته. من زرم البول: انقطع، وأزرم الشيء: قطعه (المعجم).
(1) ر. مختصر الطحاوي: 31، بدائع الصنائع: 1/ 89، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 133 مسألة: 22، فتح القدير: 1/ 174، وتحفة الفقهاء: 1/ 145، 146.

(2/321)


فإن قيل 1): إذا أوجبتم الحكم بنجاسة الغُسالة، وعلى هذا القول توجبون العصر، فلو أصاب من تلك الغسالة شيء ثوباً، ثم جف عليه، فلا يطهر ذلك الثوب، فأي فرق بين أن يجف على هذا الثوب، وبين أن يصيب ثوباً آخر، ويجف عليه؟
قلت: الفرق هو ضرورة الغسل، ونحن نعترف أن القياس يقتضي ألا نحكم بطهارة الثوب بالماء القليل، فإن الماء ينبغي أن ينجس بملاقاة النجاسة أول مرة، ثم لا يفيد إذا تنجس تطهيرَ المحل، ولكن جرى حكم الشرع بطهارة الثوب مجرى الرخص كما قررتُه في أساليب (2) مسألة إزالة النجاسة فإذا أصاب شيء من الغسالة ثوباً آخر على حُكْمنا بنجاسة الغسالة، لم يطهر ذلك الثوب بالعصر والجفاف، بل سبيل ما أصاب، كسبيل النجاسة تُصيب ثوباً، وإذا جف عن الثوب الذي ورد عليه، يجب الغسلُ عن هذا، عصراً وفصلاً للغسالة.
1099 - ثم المتبع في نجاسة الأرض أن تصير مغمورة، وذلك يختلف بمقدار النجاسة وكيفيتها، وليكن مقدار الماء المصبوب، من الذنوب، أو القربة على حالة النجاسة.
وذكر الصيدلاني: أن من أصحابنا من قال: ينبغي أن يكون الماء المصبوب سبعة أمثال النجاسة، وهذا لست أعرف فيه توقيفاً، ولا له تحقيقاً من جهة المعنى، بل الذي أراه أنه لا يكتفى في المكاثرة والمغالبة بهذا أصلاً.
ثم من ركيك ما فرعه المفرعون أن قالوا: قد قال الشافعي: "وإن بال اثنان لم يطهرها إلا دلوان"، فذهب ذاهبون إلى أنه يجب رعاية ذلك، وهذا الفن من الكلام مما لا يقبله لبُّ عاقل، فأي معنىً لتعدد الدَّلو والغرضُ المكاثرة؟ وأي فرق بين أن يجمع ملء دلوين في دَلوٍ عظيم ويصب، وبين أن يكون في دَلوين فيصبان؟ فأي أثر لصورة الدلو؟ وقد يكثر بول بائل، ويقلُّ بولُ بائلين، فاعتبار مقدار النجاسة، وتنزيلُ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) إشارة إلى كتابه (الأساليب) وهو في علم الخلاف.

(2/322)


مقدار الماء على مقدارها بنسبة المغالبة مقطوعٌ، لا مراء فيه.
1100 - وكل ما ذكرناه والنجاسة التي أصابت الأرضَ مائعة، فأمّا إذا كانت جامدةً، فلا يُحكم بطهارة موردها، مادامت النجاسة شاخصة قائمة، فالوجه نقل تلك الأعيان، ثم صب الماء، والمغالبة بعد ذلك.
فهذا بيان استعمال الماء في الأرض، وتنزيل نضوب الماء منزلة العصر في الثوب.
1101 - ثم قال الشافعي: إذا أصاب الأرضَ بول، ثم حميت الشمس عليها أياماً، وزالت آثار النجاسة، لم تطهر الأرض، ما لم يُستعمل الماء على الترتيب المذكور.
ونص في القديم على أن الأرض تطهر إذا زالت النجاسة بهذه الجهة، فاتخذ المفرّعون هذا القول القديمَ أصلاً، وخرجوا عليه أشياء كما سنذكرها وِلاءً إن شاء الله.
منها أن الزبل (1) إذا اختلط بالتراب وتطاول الزمان، وخرج عن صفته، وانقلب إلى صفة التراب، والتفريعُ على القول القديم، ففي الحكم بطهارته وجهان: أحدهما - نجس؛ فإنَّ عين النجاسة قائمة.
والثاني - أنه طاهر لانقلابه تراباً، وللاستحالة أثر في تغيير الأحكام؛ فإن العصير إذا اشتدّ ينجُس، ثم إذا انقلبت الخمر خلاً، فالخل طاهر في نفسه.
وقالوا: إذا وقع كلب في المملحة، فانقلب على مر الزمان، ملحاً ظاهراً وباطناً، فهل يطهر؟ وهل نحكم له بما نحكم به للملح، لمكان هذه الاستحالة؟ فعلى الوجهين المذكورين في انقلاب الزبل تراباً.
1102 - ثم مذهب أبي حنيفة أن رماد كل عين نجسة طاهر (2)، وهذا بعيد على مذهب الشافعي، وقد صار إليه أبو زيد المروزي والخِضري (3) من أصحابنا، تفريعاً على القول القديم.
__________
(1) في (ت 2): البول.
(2) ر. فتح القدير: 1/ 200، بدائع الصنائع: 1/ 85.
(3) "الخِضري" جاء في (ت 1) بالحاء المضمومة، والضاد مفتوحة، وهو سبق قلم من الناسخ.
عفا الله عنا وعنه.

(2/323)


1103 - ومما أجراه الأصحاب على ذلك أن قالوا: إذا ضُرب اللَّبِن (1) بماءٍ نجس، وجف، فهو نجس، فلو صب على ذلك ماء طهور حتى انتقع ووصل الماء إلى أجزائه، كان هذا بمثابة ما لو أصاب الأرضَ نجاسة فصب الماء عليها، وكوثرت به.
ولو اتخذ من ذلك اللَّبِن آجُراً، فهل يطهر؟ قالوا: إن حكمنا بأن الشمس لا تطفر، فالآجر نجس، وإن قلنا: بأن الشمس تطهر، فالنار أقوى أثراً وأبلغ، فينبغي أن يطهر الآجُر.
وحاصل هذا القول فيما ذكرناه: أنا على الجديد لا نحكم لشيء أصابته نجاسة بالطهارة، حتى يُصبَّ عليه الماء، كما تفصل، وإن احتُفر الترابُ، ونقل، فهذا من باب إعدام محل النجاسة، وهو كما لو أصابَ ثوباً نجاسة، فقُرض موردها بمقراض ونُحي.
فهذا قاعدة المذهب.
1104 - ونصَّ الشافعي في القديم أن الشمس إذا حميت وأزالت عينَ النجاسة، طهر المكان، ونزل منزلة ما لو احتُفر التراب ونُقل، وقد تحقق عدم النجاسة، فخرج أصحابنا على القول القديم فرعين: أحدهما - انعدام العين [بتأثير النار، وهذا التخريج متجه منقدح لا بد منه] (2).
والثاني - تغير صفات النجاسة بانقلابها تراباً، أو ملحاً، أو رماداً، كما ذكرناه، وهذا أبعد من جهة أن عين النجاسة قائمة، وإنما تغيرت الصفات، وحالت من نعت الإنتان، وصفة الاستقذار إلى نعتٍ آخر، وكان هذا تخريجاً على التخريج تقريباًً.
والذي يقتضيه الترتيب أن يقال: إذا جعلنا خطفَ الشمس والنار لعين النجاسة تطهيراً، ففي تغيّر الصفات وجهان. ثم ينبغي أن تتغير إلى صفات أعيان طاهرة النوع كالذي ينقلب تراباً، أو ملحاً، أو رماداً، فإن هذه أنواع طاهرة في أنفسها.
__________
(1) "اللبن" هو القوالب التي تصنع من الطين المخلوط بالتبن ونحوه، ويجفف ويبنى به، وقد يحرق بالنار ويطبخ بها حتى يستحيل إلى آجر، وصناعته تسمى (الضرْب).
(2) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

(2/324)


وعندي أن جميع ذلك غيرُ معدود من مذهب الشافعي؛ فإنه ينشأ من قول قديم له في الشمس، وقد ذكرنا أن القول القديم مرجوع عنه، غيرُ معدود من المذهب.
والذي يحقق ذلك أنا لو فتحنا هذا الباب في النجاسات، فليت شعري ماذا نقول في صخرة صماء أصابتها قطرة من بول، ثم صب عليها دُفعُ الخلِّ الرقيق الثقيف (1) في حدورٍ وصبب! فنعلم قطعاً أن تلك القطرة قد زالت، ولم يبق منها أثر، فإن كنا نرعى زوال عين النجاسة، فينبغي أن نحكم بطهارة تلك الصخرة [على هذه الصورة، ولا يسمح بها أحد ينتحل مذهب الشافعي،] (2) وهذا لازم قطعاً على هذا القياس.
فرع:
1105 - إذا فرعنا على القديم، وقلنا: الشمس تطهّر الأرض، وكذلك النار، فلو أصابت النجاسةُ ثوباً، ثم أثرت الشمس فيها، فانقلعت آثار النجاسة، فقد قال أبو حنيفة: لا يطهر الثوب بهذا، وإنما تطهر الأرض؛ فإن في أجزاء. التراب قوة محيلةً تحيل الأشياءَ إلى صفة نفسها، وهذا لا يتحقق في الثياب.
وأصحابنا نزلوا الثوب منزلة الأرض، وما ذكره أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه غيرُ بعيد، فليخرج الثوب على وجهين -إن قلنا الشمس تطفَر الأرض- لما ذكرته من الفرق بينهما (3).
ثم ذكر بعض المصنفين: أنا إذا حكمنا بأن الثوب يطهر بالشمس، فهل يطهر بالجفاف في الظل؟ فعلى وجهين. وهذا في نهاية البعد، ثم لا شك أن نفس الجفاف لا يكفي في شيء من هذه الصور؛ فإن الأرض تجف بالشمس على قرب، ولم تنقلع بعدُ آثار النجاسة، والمرعي انقلاع الآثار على طول الزمان (4) بلا خلاف، وكذلك القول في الثياب.
فرع:
1106 - الآجُرُ الذي كان عُجن بالماء النجس في طهارته كلام، فإن قلنا: إنه نجس -وهو المذهب والقول الجديد- فلو نقع في الماء زماناً، لم يطهر باطنه، فقد
__________
(1) ثقف الخل اشتدت حموضته، فصار حريفاً لاذعاً، فهو ثقيف.
(2) زيادة من: (ت 1)، (ت 3).
(3) ر. الدرة المضية: مسألة رقم 102، 103.
(4) في (ت 2): (فلا).

(2/325)


استحجر، ولا يتغلغل الماء إلى أجزائه الباطنة، بخلاف اللَّبِن الذي عجن بماء نجس، ثم صُب عليه الماء، فنفذ؛ فإن هذا ينزل منزلة الأرض النجسة يُصبُّ عليها الماء كما تقدم، فإذا تبين أن باطن الآجُر لا يطهر، حيث انتهى التفريع إليه، فهل يطهر ظاهره إذا أفيض الماء عليه حتى تصح الصلاة عليه؟ قال القفال: يطهر ظاهره؛ فإن الماء يصل إليه، وقال الشيخ أبو حامد: لا يطهر؛ فإنه صار بتأثير النار مستحجراً، فلا يؤثر صب الماء في قلع شيء منه، فلا تزول نجاسة ظاهره بجريان الماء عليه.
والأمر في ذلك مفصل عندي: فإن كانت نجاسة الآجر بسبب أنه عُجن ببول أو ماء نجس، فالوجه القطع بأنه يطهر من ظاهره؛ فإن النار قد سلبت الماء، وطيرته قطعاً، ولكنا في التفريع على الجديد لا نحكم بطهارته تعبُّداً، حتى يستعملَ الماء، فإذا جرى الماءُ على ظاهره، فلا يبقى بعد ذلك عذر.
فأما إن كان سببُ نجاسة الآجر أنه كان خُلط ترابه بالزبل أو الرماد النجس -على الجديد- فلا يطهر ظاهرُه بصب الماء عليه؛ فإن تلك الأعيان مستحجرة لا يزيلها الماء من ظاهر الآجر.
وهذا التفصيل لا بد منه، فإن كان أبو حامد يخالف في طهارة ظاهر الآجرّ وسببُ نجاسته ماءٌ نجس، فلا وجه لخلافه، وإن كان القفال يقول في الآجر الذي سبب نجاسته الزبل والرماد النجس: إنه يطهر ظاهره، فلا وجه لقوله. وإن كانا يُفصِّلان، فلا خلاف بينهما إذاً.
هذا تفصيل القول في الأسباب التي تُزيل حكمَ النجاسة، على الوفاق والخلاف.
فصل
قال: "والبساط كالأرض ... إلى آخره" الفصل (1)
1107 - ذكرنا فيما تقدم تقاسيمَ القول في النجاسات، ثم ذكرنا بعدها ما يزيلها، ومضمون هذا الفصل ما يجب التوقي عنه في البدن، والثوب، والمصلَّى.
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 96.

(2/326)


1108 - فإن كان على بدنه نجاسة لا يُعفى عنها، لا تصح صلاته، وإن كان حاملاً نجاسة، لا تصح صلاته، فإن حمل حيواناً طاهر العين، جاز، ولا حكم للنجاسات التي يحتوي عليها جوفُه. نعم منفذ ذلك الطائر قد لاقته النجاسة البارزة منه، وذلك جزء ظاهر نجس. فمن أئمتنا من قال: يُعفى عن هذا القدر إذا لم تكن النجاسة باديةً. ومنهم من جرى على القياس، ومنع صحة الصلاة.
فعلى هذا قالوا: إذا اقتصر الرجل على الأحجار في الاستنجاء، فالأثر اللاصق بمحل النجو نجس، ولكنه نجس معفوٌّ عنه في حق المستنجي، فلو حمل مصل هذا الشخصَ في صلاته، ففي صحة صلاته وجهان: أحدهما - الصحة؛ فإن الأثر معفو عنه، ولا حكم له.
والثاني - أنه لا يصح؛ فإن العفو مختص بالمستنجي، فلا يتعدى إلى الحامل، والخلاف في المقتصر على الأحجار أظهر، من جهة أن الشرع طهَّر أثرَه بالعفو عما به، ولم يُطَهِّر ذلك في الحيوانات المحمولة، فالوجه القطع فيها بالمنع.
1109 - ولو حمل المصلي بيضة مَذِرةً، حشوها دمٌ، فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: النجاسة المستترة بالقيض (1) لا حكم لها؛ فإنها مستترة استتار خلقة، فأشبه النجاسات الكائنة في جوف الحيوان المحمول.
ومنهم من قال: حكمها حكم النجاسة البادية؛ فإن نجاسة الحيوان تدرأ حكمها حياةُ ذي الروح، وللحياة أثر في دفع النجاسات، والبيضة جماد.
وهذا الخلاف يجري فيمن حمل عنقوداً، قد استحال باطن حباته خمراً، ولكنها مستترة بالقشور من غير رشحٍ.
ولو حمل المصلي قارورة مُصَمَّمَة الرأس فيها نجاسةٌ، فظاهر المذهب أن صلاته تبطل؛ فإن هذا الاستتار ليس من جهة الخلقة، وخرّج ابن أبي هريرة (2) ذلك على
__________
(1) القيض: القشرة العليا على البيضة. (معجم).
(2) ابن أبي هريرة: الإمام القاضي أبو علي الحسن بن الحسين، تففه على ابن سريج، وأبي إسحاق المروزي، وشرح المختصر. ت 345 هـ (طبقات السبكي 3/ 256، البداية والنهاية: =

(2/327)


وجهين كالبيضة المذرة، وهذا مردود عليه.
ولو حمل نجاسةً ملفوفة في خرقة أو قرطاسٍ، أو ما أشبههما، فلا أتخيل في ذلك خلافاً، وإنما ذكر ابن أبي هريرة الخلاف فيما يضاهي سترُه للنجاسات سترَ البيض، بحيث لا يتوقع بروزها وظهورها بوجه.
فإذا قد ظهر أنا نشترط طهارةَ بدنِ المصلي وثيابِه، التي هو لابسها، وكل ما يلقاه عضو من أعضائه في الصلاة، فلا بد من طهارة موطىء قدميه وموضع أعضاء سجوده؛ فإن الثوب الذي هو لابسه منسوب إليه في الصلاة ملبوساً، والذي يلقاه منسوب إليه ممسوساً، وإذا تحققت الملاقاة بين المصلي والنجاسة، فاختلاف السبب بعد ذلك لا أثر له، ولا بد للمصلي من مكانٍ يصلي عليه، كما لا بد من ثوب يلبسه.
1110 - ولو كان يحاذي بدنَ المصلِّي في سجوده نجس [وكان لا يلاقيه بدنُه ولا ثوبُه، مثل أن يكون على حيال صدره في السجود نجس،] (1) ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الصلاة صحيحة لانتفاء الملاقاة.
والثاني - أنها باطلة؛ فإن القدرَ الذي يوازي الساجد ويسامته منسوب إليه (2 مختص به، كما أن قميصه الفوقاني الذي لا يلقَى بدنَه منسوب إليه 2) على الاختصاص باشتراط طهارته، وإن كان لا يلقاه، فهذه الأصول التي تشترط فيها الطهارة.
1111 - وإذا كان يصلي على بساط، وكان يلاقي أعضاؤه في السجود، ويسامتُ بدنُه وثيابُه طاهراً (3)، وكان طرف ذلك البساط نجساً، فلا يضرّ نجاسةُ ذلك الطرف، ولا فرق بين أن يكون ذلك الطرف بحيث يتحرك بحركة المصلي أو لا يتحرك، ولا حاجة إلى تعليل البينات.
__________
= 11/ 304، تاريخ بغداد 7/ 298 وشذرات الذهب: 2/ 370، وطبقات الشيرازي: 112).
(1) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).
(2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).
(3) (طاهراً) مفعول لفعلي: يلاقي، ويسامت.

(2/328)


1112 - ولو كان يصلي على بساطٍ صفيق، وكان الوجه الذي يلي الأرض نجساً، ولا نجاسة على الوجه الذي يلي المصلي، صحت الصلاة، ولا يضر نجاسةُ الوجه الذي لا يلي المصلي، وهو بمثابة ما لو كان يصلي المصلي على طبقة طاهرة من أرض، وكان وراءها نجاسة مستترة، بالطبقة العالية، فلا أثر لها، فالصلاة صحيحة.
1113 - ولو كان المرء يصلّي، وكان يحتك في قيامه بجدار نجس، فصلاته باطلة، لملاقاة النجاسة.
ولو كان على رأسه طرف عمامة وكان طاهراً، وكان الطرف الآخر من العمامة نجساً، وكان ملقى على الأرض متضمخاً بالنجاسة، فالصلاة باطلة، فاتفق (1) أصحابنا عليه؛ فإن تلك العمامة تعد من ملبوساته، وإن كان ذلك الطرف بعيداً عنه، ولا فرق بين أن يتحرك ذلك الطرف بحركته وبين أن يكون بحيث لا يتحرك بحركته.
وهو كما (2) لبس قميصاً طويلاً عليه، وكان بحيث لا يرتفع طرف ذيله بارتفاعه، (3 وكان نجساً، فالصلاة باطلة.
ولو كان بيد المصلي طرف طاهر من حبل والطرف الآخر نجس، وهو بحيث لا يتحرك بارتفاعه 3) وانخفاضه، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا تصح صلاته، كطرف العمامة.
والثاني - تصح؛ فإن العمامة منسوبة إليه لبساً؛ إذ أحد طرفيه مُكوّر على رأسه، والملبوس وإن طال، فالمصلي مأخوذ بطهارته كالقميص وإن كان مستمسكاً بطرف الحبل؛ فليس الحبلُ ملبوسَه، وليس الطرف النجس محمولَه، فإنه لا يرتفع بارتفاعه.
ولو استمسك بطرف عمامة على هذه الصورة، لكانت المسألة مختلفاً فيها كالحبل.
__________
(1) في (ل) وحدها: "اتفق".
(2) في (ل) وحدها: "وهو كما لو لبس".
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).

(2/329)


ولو كان شد الطرف الطاهر من الحبل على حبله (1)، أو وسطه، والطرف النجس مُلقىً على الأرض، لا يتحرك، فقد ذكر العراقيون وغيرهم في هذه الصورة وجهين أيضاً؛ فإنه ليس للحبل إليه انتسابٌ، إلا من جهة التمسك، وإن شده على يده (2) أو وسطه، فهو استيثاق للإمساك، وليس بلُبس. ولو كان طرف الحبل بيده والطرف الآخر ملقى على نجاسة يابسةٍ، فهو كما لو كان ذلك الطرف البعيد نجساَّ، فيخرّج على الخلاف المقدم، فلا فرق بين نجاسة الشيء وبين وقوعه على الشيء النجس.
1114 - ولو تمسك بطرف حبل، والطرف الآخر مشدود في عنق كلب، فهو كما لو كان ملقى على نجاسة يابسة، ولو كان الطرف المشدود على الكلب غيرَ بعيد من المصلي، وكان بحيث لو مشى الكلب به، لكان المصلي حامله، فهذه الصورة مرتبة على ما إذا كانت بعيدة، وهي أولى باقتضاء البطلان، وفيها احتمال من جهة أن المصلي ليس حاملَه، ولو كان الطرف الآخر متعلقاً بساجور (3)، والساجور في عنق كلب، ففي هذه الصورة وجهان مرتبان على الوجهين، فيه، إذا كان الحبل يلقى جِرم الكلب، وصورة [الساجور] (4) أولى بالصحة؛ فإن بين الكلب وبين طرف الحبل واسطة وهي الساجور.
ولو كان طرف الحبل في عنق حمار، وعلى الحمار نجاسة، فهذه الصورة مختلف فيها، وهي أولى بالصحة من صورة الساجور؛ فإن الساجور لا يبعد أن يعد
__________
(1) كذا في جميع النسخ، والحبل يطلق في اللغة على معانٍ عدة منها: حبل العاتق وهو عصب بين العنق والمنكب، فلعله المراد هنا، فالمعنى: "لو شدَّ الطرف الطاهر على عاتقه أو وسطه" فالكلام على التوسع في العبارة أو على حذف مضاف (ر. لسان العرب - مادة: ح. ب. ل). ثم جاءتنا (ل) وفيها: "على يده" فالله أعلم بما قاله المؤلف. وإن كنت أرجح ما في النسخ الأخرى، على (ل)؛ فإن الأصل أن لغة القرن الخامس غير لغتنا، ودائما النساخ يغيرون الكلمات غير المألوفة عندهم إلى كلمات أخرى تناسب السياق. والعلم عند الله.
(2) هنا قابل بين يده ووسطه، وفيما مضى من عدة أسطر قابل بين حبله ووسطه، فهل الحبل بمعنى اليد؟
(3) الساجور: القلادة التي توضع في عنق الكلب. (المعجم).
(4) ساقطة من الأصل، ومن (ط).

(2/330)


جزءاً من الحبل، والحمار ليس جزءاً من الحبل أصلاً.
ولو كان طرف الحبل متعلقاً بسفينة فيها نجاسة، فإن كانت بحيث تنجرّ بالحبل لو جُرّت، فهذه الصورة كصورة الشد على عنق حمار، وإن كانت السفينة بحيث لا تنجر بالحبل لكبرها، فالوجه القطع بصحة الصلاة، فإن الحبل يتعلق بطاهرٍ، ووراء متعلَّقه النجاسة، وليست السفينة جزءاً من الحبل، ولا بحيث تنجر بحركة الحبل، فكان ذلك كما لو كان الحبل متعلقاً بباب بيت، وفي البيت نجاسة.
وذكر العراقيون اختلافاً في السفينة الثقيلة والحبل؛ فإن السفينة على حالٍ تجر بالحبال، وهذا بعيد جداً.
وقد زيف العراقيون الخلاف فيه، وإن حَكوه، والوجه القطع بالصحة.
ولو كان أحد طرفي الحبل متعلّقاً [بالكلب] (1) من غير واسطة، والطرف الآخر تحت قدم المصلي، فتصح صلاته وجهاً واحداً، فإن هذا الطرف في حكم البساط، ولو كان الطرف الذي يصلي عليه المصلي طاهراً، وكان الطرف الذي لا يلاقي المصلّي ولا يسامته نجساً، لم يضر ذلك، وقد قطعنا به فيما تقدم.
1115 - فخرج مما قدمناه أن كل ما ينتسب إلى المصلي ملبوساً، فهو مؤاخذ بطهارة جميعه، فلو كان طرفٌ منه نجساً أو ملقى على نجاسة، لم تصح الصلاة، طال أو قصر.
وإن كان ينتسب إلى المصلي انتساب البساط بأن كان تحت قدمه، فإنما يؤاخذ المصلي بطهارة ما يلاقيه أو يوازيه.
وإن كان ينتسب إليه من جهة الحمل، فمن ضرورة ذلك أن يكون المصلي رافعه وشايله (2)، وإن انتسب إليه بتمسكه به، والطرف الآخر نجس، وما كان المصلي شايله، ففي هذا الاختلافُ [والتفصيل] (3)، والفرقُ بين أن يكون واسطة أو لم يكن،
__________
(1) في الأصل وفي (ط): بالباب.
(2) شايله: رافعه. من شاله يشيله شيلاً: رفعه (المعجم).
(3) زيادة من: (ت 1)، (ت 2).

(2/331)


ثم الفصل بين أن تكون الواسطة الطاهرة ساجوراً، أو حيواناً، أو صفيحةً طاهرة في سفينة، وحشوها نجس.
فصل (1)
1116 - إذا كان المصلي على بساطٍ نجسٍ، وكان فرشَ إزاراً سخيفاً (2) مهلهل النسج، ذكر الأئمة فيه خلافاً، من حيث إنه يُعد حائلاً، والظاهر المنع؛ لأن المصلي وثوبَه الذي هو لابسه يلقى البساط النجس من خلال الفُرَج في أثناء النسج السخيف، والمسألة مصورة في البساط النجس الجاف.
1117 - وإذا منعنا الرجل من الجلوس على الحرير، فبَسَطَ فوقه إزاراً صفيقاً، فجلس عليه، جاز. فلو بسط إزاراً سخيفاً، كما ذكرناه، ففي جواز الجلوس عليه التردد الذي ذكرناه في البساط النجس في حق المصلي.
فصل
1118 - المحدِث يدخل المسجد عابراً وواقفاً، والجنب يدخل المسجد عابراً، ويحرم عليه اللُّبث فيه، والحائض إن كان يُخشى منها تلويث المسجد، فهي ممنوعة من الدخول، وليس ذلك من خصائص أحكام الحيض؛ فإنَ من به سلسُ البول، واسترخاء الأسفل، أو جراحة نضاحة بالدم، بحيث يُخشى منه التلويث، يُمنع من دخول المسجد.
وإن كان لا يخشى منها التلويث، فهي ممنوعة من المكث، وهل تمنع من العبور؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنها تمنع؛ لأن حكم الحيض أغلظ من حكم الجنابة.
والثاني - وهو الذي اختاره الصيدلاني وقطع به، أنها كالجنب في جواز العبور،
__________
(1) في (ل) وحدها (فرعٌ) مكان (فصل).
(2) السخيف غير متماسك النسج.

(2/332)


وإنما اختار هذا؛ لأن إثبات حكم [جزئي] (1) لاعتقاد افتراق كلي لا يتجه. وهو بمثابة قولنا: لا يحرم على الجنب ذكر الله، ولا يحرم أيضاً على الحائض، ولا يجب من افتراقهما في أحكامٍ لا تعلق لها على الاختصاص بما نطلبُه أن يفترقا فيما نحن فيه.
ويمكن أن يقال: المسلمون مستوون في المسجد؛ فإنه بيت الله، والمؤمنون عباد الله على إضافة التخصيص والتشريف، والمُحْدِث يصحُّ اعتكافه، ولا يحرم عليه اللُّبث، والجنب يحرم عليه الاعتكاف، فلم يكن من أهل اللُّبث؛ إذ لو كان من أهله، لكان من أهل الاعتكاف، والعبور لا يحرم عليه؛ فإنه ليس فيه ما يقتضي تحريم العبور، فلتكن الحائض التي لا يخشى عليها (2) التلويث كذلك.
ثم العبور الذي يتّجه هو على الاعتياد والاقتصاد؛ فلا نأمره بالإسراع في المشي، ولعل الضبطَ فيه ألا يعرج في موضع بخط تعريجاً يقضي بأن مثله يكون أقلَّ ما يجزىء في الاعتكاف، إذا جرينا على أن الاعتكاف شرطه اللّبث.
ثم لا نؤاخذ العابر بسلوك أقصد الطرق، وكيف يُظن هذا، وله أن يدخل المسجد ابتداءً عابراً، وإنما يتخيل هذا الفرق على مذهب أبي حنيفة (3)، فإنه لا يرى للجنب أن يدخل المسجد، لكن لو كان فيه، فاحتلم، فيخرج. ثم قال: إنه بالخيار إن شاء انتحى أبعد الأبواب، وإن شاء خرج من السبيل الأقرب. ولكن لا ينبغي للعابر عندنا أن يتردد في أكناف المسجد، معتقداً أن له أن يمشي؛ فإن التردد في غير جهة الخروج في حكم المكث. وهذا بيّن.
1119 - وأما الكافر؛ فإن لم يكن جنباً، فله أن يدخل المسجد بإذن واحدِ من المسلمين، وهل له أن يدخل من غير إذن؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يدخل؛ فإن الكافر ليس من أهل من يقيم في المسجد، فكأن المسجدَ يختص بالمسلمين اختصاصَ دار الرجل به.
__________
(1) في جميع النسخ: "جديد" والمثبت مما أفدناه من (ل).
(2) كذا في جميع النسخ، على التوسع في إنابة حروف الجر بعضها عن بعض، فإن (على) من معانيها المصاحبة. وأما (ل) ففيها: "منها".
(3) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 115.

(2/333)


والثاني - أنه يدخل؛ فإنه بالجزية، صار من أهل دار الإسلام، (1 والمسجد من المواضع العامة في دار الإسلام 1)، فشابه الشوارع التي يطرقها الكافة.
وإن كان الكافر جنباً، فهل يجوز تمكينه من المكث في المسجد؟ اختلف أئمتنا فيه، فمنهم من منع من ذلك؛ فإنه إذا كان يُمنع المسلم الجنب رعايةً لحق المسجد وحرمته، فلأن يمنع الكافر أولى.
ومنهم من قال: لا يمنع؛ فإنه ليس معتقداً لاحترام المسجد، ولا تتعلق تفاصيل التكليف به مادام كافراً، وكان الكافرون يدخلون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم -مع القطع بأنهم يجنبون- ويجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطوّلون مجالسهم، وربط رسول الله صلى الله عليه وسلم ثُمامةَ على ساريةٍ في المسجد في القصة المشهورة (2).
فصل
1120 - صح نهيُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في سبعة مواطن: "المزبلة، والمجزرة، وقارعة الطريق، وبطن الوادي، والحمّام، وظهر الكعبة، وأعطان الأبل" (3)، وقد سبق الكلام على بعض ما اشتمل عليه الحديث.
1121 - والذي نبغيه الآن الحمَّامُ وأعطان الإبل، فأما نهيُه عن الصلاة في الحمّام، فنهيُ كراهية، وذكر الفقهاء معنيين: أحدهما - أنه لا يخلو عن رشاش وبَدْوِ عورات، والثاني أنه بيت الشياطين، وخرَّجوا على ذلك الصلاة في المسلخ، وإن علَّلنا النهي
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).
(2) حديث ربط ثمامة. متفق عليه من حديث أبي هريرة مطولاً. (اللؤلؤ والمرجان: الجهاد، باب ربط الأسير وحبسه وجواز المنّ عليه، ح 1152).
(3) حديث النهي عن الصلاة في سبعة مواطن، رواه الترمذي عن ابن عمر، ورواه ابن ماجة من طريق ابن عمر عن عمر، وفي سند كل منهما راو ضعيف. كذا قال الحافظ، فانظر تفصيل قوله في التلخيص: 1/ 215 ح 320.

(2/334)


بالترشش وبدْو العورات، فهذا لا يثبت في المسلخ، وإن عُلّل بأنه بيت الشياطين، فقد يعم ذلك المسلخ.
ومما نتكلم فيه الصلاة في أعطان الإبل -نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها- وليس المراد بالأعطان المرابط التي يكثر البول والبعر فيها؛ فإنه عليه السلام نهى عن الصلاة في الأعطان، وسوغّ الصلاة في مرابض الغنم، ولو كان النهي للنجاسة، استوى الغنم والإبل. والمراد بالأعطان أن الإبل قد تزدحم على المنهل، فتفرَّق أذواداً (1) كلما شرب ذود نُحِّي، حتى إذا توافت [استيقت] (2)، فلا يكثر فيها الأبوال والأرواث، ومُراح الغنم يصور حسب تصوير أعطان الإبل، ثم سبب الفرق بينهما مذكور في الحديث، والإبل لا يؤمن نفرتها. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الإبل: "إنها جن خلقت من جن، ألا تراها إذا نفرت كيف تشمخ بآنافها، وقال في الغنم: إنها خلقت من السكينة؟ فإنها من دواب الجنة" (3).
...
__________
(1) فتفرق أذواداً: تفرق: تتفرق بحذف تاء المضارعة، والأذواد: جمع ذَوْد، وهو القطيع من الإبل بين ثلاث إلى العشر (المعجم).
(2) في جميع النسخ (استبقت) بالباء. ولكن ابن الصلاح قال في مشكل الوسيط: هي بتاء مثناة مكسورة، ثم بياء مثناة من تحت ساكنة، فعلٌ لم يسم فاعله، يقال: ساقها واستاقها، فاعلمه؛ فإنه تصحف" ا. هـ بنصه. (مشكل الوسيط بهامش الوسيط: 2/ 172).
(3) جزء من حديث، ساقه الإمام على غير ترتيب وروده في كتب السنة، وقد رواه الشافعي، والبيهقي، وروى أحمد، والنسائي، وابن ماجة، وابن حبان، والطبراني نحوه. (ر. مسند الشافعي: 2/ 67 ح 19، البيهقي: 2/ 449، المسند: 5/ 56، 57، وابن ماجة: المساجد، باب الصلاة في أعطان الإبل ومراح الغنم، ح 769، وصحيح ابن حبان: 1702، وشرح السنة: 2/ 404 ح 504، والتلخيص: 1/ 276 ح 432).

(2/335)


باب الساعات التي تكره الصلاة فيها
1122 - قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم النهيُ عن الصلاة في خمسة أوقات، روى أبو ذر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صلاة بعد الصبح، حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس" (1)، وروى عبد الله الصُّنَابحي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الشمس تطلع ومعها قرن الشيطان، فإذا ارتفعت، فارقها، فإذا استوت قارنها، فإذا زالت، فارقها، فإذا دنت للغروب، قارنها، فإذا غربت، فارقها" (2)، ونهى عن الصلاة في هذه الأوقات.
فإذاً الساعات التي تكره فيها الصلوات بلا سبب خمس: ثلاث منها تتعلق بالزمان من غير تأثير فعلى: أحدها - إذا دنا طلوع الشمس، فاختلف في ذلك، فقال قائلون: إذا بدت بوادي الإشراق، دخل وقت الكراهية إلى طلوع القرصة بتمامها، وقيل:
__________
(1) الحديث بقريب من هذا اللفظ متفق عليه من حديث أبي سعيد (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 159 ح 474). وأما عن أبي ذر، فقد أخرجه الشافعي، وأحمد، وابن عدي، ورواه ابن خزيمة في صحيحه والبيهقي في السنن، وفي المعرفة. أما عن أبي هريرة، فقد رواه البخاري ومسلم بلفظ: "نهي عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس .. " الحديث. قاله الحافظ في التلخيص: (1/ 185، 189 ح 265، 275). وانظر البخاري: مواقيت الصلاة، باب لا يتحرى الصلاة قبل الغروب، ح 588، ومسلم صلاة المسافرين، باب الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها، ح 825، ومعرفة السنن والآثار: 2/ 275 ح 1316، والسنن الكبرى: 2/ 461، والمسند: 5/ 165، والكامل: 4/ 137 ترجمة عبد الله بن المؤمل، وصحيح ابن خزيمة: 4/ 126 ح 2748".
(2) حديث عبد الله الصنابحي: رواه مالك في الموطأ، والشافعي عنه، والنسائي، وابن ماجة (ر. التلخيص: 1/ 185 ح 266) وانظر أيضاً الموطأ: 1/ 219 كتاب القرآن، وترتيب مسند الشافعي: 1/ 55 ح 163، والنسائي: المواقيت، الساعات التي نهي عن الصلاة فيها: 1/ 275 ح 559، وابن ماجة: إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في الساعات التي تكره فيها الصلاة ح 1253.

(2/336)


يمتد وقت الكراهية إلى استيلاء سلطان الشمس، فإن الشعاع يكون ضعيفاً في الابتداء، ثم يظهر ويُبهر، كما أنها إذا تطفلت (1) للغروب يضعف نورها، وظاهر الخبر يدلى على الوجه الآخر؛ إذ فيه: "فإذا ارتفعت فارقها"، وهذا يظهر الشعاع.
وأما الساعة الثانية، فوقت الاستواء إلى أن تزول.
وأما الساعة الثالثة، فوقت الغروب، وهذا إذا اصفرت الشمس، وقد ورد في النهي عن تأخير الصلاة إلى اصفرار الشمس أخبار تُحقِّقُ ما ذكرناه.
فأما الساعتان الباقيتان المتعلقتان بالفعل، فمن فرغ من فريضة الصبح، كرهنا بعدها كل نافلةٍ، لا أصل لها، ولا سبب، حتى تطلع الشمس. ومن فرغ من فريضة العصر، كرهنا له إقامة ما لا سبب له (2 من النوافل حتى تغرب الشمس.
ووجه تعلقها بالفعل أن من غلس بصلاة الصبح، طال وقت الكراهية 2)، وإن أسفر بأداء الفريضة، قصر وقت الكراهية، وكذلك صلاة العصر.
1123 - ثم نتكلم بعد ذلك في الصلاة التي تكره في هذه الأوقات والتي لا تكره، ونتكلم في استثناء زمان واستثناء مكان.
فأما القول في الصلوات، فاعلموا أن الصلوات التي لها أسباب كالفوائت المفروضة، (3 وكذلك السنن الراتبة، إن قضيت في هذه الأوقات، لم تكره.
ونذكر أولاً قاعدةَ المذهب من الأخبار 3)، ثم نذكر التفصيل.
فقد وردت ألفاظٌ تدل على تعميم النهي من غير تفصيل، منها ما روى أبو ذر وابن الصنابحي، وقد وردت أخبار تدل على رفع الحرج على العموم من غير تفصيل، منها ما روى جبير بن مطعم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئاًً، فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت، أية ساعة شاء من ليل أو نهار" (4).
__________
(1) تطفلت: من طَفَلَت الشمس (بثلاث فتحات) طَفْلاً وطفولاً، مالت للغروب، واحمرت عنده، وأطفلت وطفلت: طَفَلَت. (المعجم).
(2) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).
(3) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).
(4) حديث: "يا بني عبد مناف .. " رواه الشافعي وأحمد وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن =

(2/337)


وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم إقامة صلاة في وقت مكروه، روت أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها بعد العصر فصلى ركعتين، قالت: فقلت لجاريتي تقدمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقولي أَلستَ كنتَ نهيتنا عن الصلاة في هذا الوقت؟ فإن أشار إليك فاستأخري، فقالت الجارية ما رسمتُ، فأشار إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ، قال: "هما ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر، فشغلني عنها الوفد" (1) وروي أنها قالت: "أنقضيها نحن إذا فاتتنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا" (2) فقيل في ذلك: كان رسول الله إذا أقام نافلة، صارت وظيفة محتومة عليه، فقوله: لا. معناه لا يفترض عليكم كما يفترض عليّ.
وسئل أبو سعيد الخدري عن حديث أم سلمة، فقال: كان صلى الله عليه وسلم يفعل ما يؤمر، ونحن نفعل ما نؤمر، وأشار إلى أن ذلك كان من خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والحديث الدال على التفصيل في النهي ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى قيس بن [قهد] (3) يصلّي بعد الصبح ركعتين، فقال: ما هاتان الركعتان؟ فقال: هما ركعتا الفجر، فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (4) وقد روي
__________
= حبان، والدارقطني، والحاكم، وصححه الترمذي (ر. التلخيص: 1/ 190 ح 276، والأم: 1/ 148، والمسند: 4/ 80، وأبو داود: ح 894 في المناسك، باب الطواف بعد العصر، والترمذي: الحج، باب ما جاء في الصلاة بعد العصر وبعد الصبح لمن يطوف، ح 868، والنسائي: مناسك الحج، باب إباحة الطواف في كل الأوقات، ح 2924، وابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في الرخصة في الصلاة بمكة في كل وقت، ح 1254، والإحسان: ح 1552، 1553).
(1) حديث أم سلمة. متفق عليه (ر. اللؤلؤ والمرجان: 159 ح 477).
(2) هذه الزيادة رواها حماد بن سلمة بسنده عن ذكوان مولى عائشة عنها - أخرجها الطحاوي، وقد ضعفها البيهقي، ولذا جاء بها إمام الحرمين بصيغة التمريض (روي) (ر. التلخيص: 1/ 188).
(3) قيس بن فهد (بالفاء) في النسخ الأربع، وفي التلخيص، وفي الاستيعاب، ولكن الصواب -والله أعلم- قيس بن قهد (بالقاف). (ر. تجريد أسماء الصحابة، والإصابة، والمغني في ضبط الأسماء، وسنن البيهقي).
(4) حديث قيس بن قهد. رواه الشافعي، ومن طريقه البيهقي. (ر. التلخيص: 1/ 188، =

(2/338)


عنه عليه السلام في الحديث الصحيح أنه قال: "من نام عن صلاة أو نسيها، فليصلّها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتُها لا وقت لها غيره" (1).
1124 - فمذهب الشافعي أنه لا يكره في هذه الأوقات إقامةُ الصلاة التي لها أسباب متقدمة، فالفوائت تقضى في هذه الأوقات والجنازة إذا حضرت لم تؤخر الصلاة.
وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا علي لا تؤخّر أربعاً وذكر من جملتها الجنازة إذا حضرت" (2)، ولو اتفق دخول المسجد في وقت من هذه الأوقات، فالذي ذهب إليه الأئمة أنه يقيم تحية المسجد، و (3) هي صلاة لها سبب، وسببها الحصول في المسجد، وهو مقترن بالوقت.
وحكى الصيدلاني عن أبي عبد الله الزبيري أنه كان يكره إقامة التحية في هذه الأوقات، ويصير إلى أنها ليست صلاة مقصودة؛ إذ تقوم إقامة فائتة مقامها، وهذا متروك عليه.
وإذا جريتُ على طريقة الأصحاب، فلو قصد الحصول في هذه الأوقات لا عَنْ وفاق، فيقيم التحية من غير كراهية، كما لو قصد تأخير الفائتة إلى هذا الوقت، والزبيري يكره التحية، وإن كان دخول المسجد وفاقيّاً.
وركعتا الإحرام صلاةٌ وردَ الشرعُ بها، وقد رأيت الطرق متفقة على أنه يكره الإتيان
__________
= وترتيب مسند الشافعي: 1/ 57 ح 169، والسنن الكبرى: 2/ 456).
(1) حديث من نام عن صلاة .. أصله في الصحيحين، ولفظ مسلم: "من نسي صلاة، أو نام عنها، فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" (ر. اللؤلؤ والمرجان: المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة واستحباب تعجيل قضائها، ح 397).
(2) حديث: "لا تؤخر أربعاً .. " قال الحافظ: الذي في كتب الحديث: "لا تؤخر ثلاثاً، الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفؤاً" وقد رواه الترمذي من حديث علي، وقال غريب. (ر. الترمذي: الجنائز، باب ما جاء في تعجيل الجنازة، ح 1075، التلخيص: 1/ 186 ح 267) وسيأتي في الجنائز.
(3) كذا بالواو في جميع النسخ، فلا تظن أنها صحفت عن الفاء، ولكن هكذا أسلوب ولغة الإمام تجد فرقاً بين ما نتذوقه في عصرنا وبين ذاك العصر في الأسلوب والألفاظ، والتعابير، واستخدام أدوات الربط خاصة.
وهنا أيضاً جاءت (ل) مثل أخواتها الأربع. فتأمل.

(2/339)


بها في الأوقات المكروهة، وعللوا ذلك بأن سبب هذه الصلاة متأخر عنها، وهو الإحرام، وحصوله غيبٌ، فلا يجوز الإقدام عليها لتوقع السبب بعدها، فالصلاة التي لها سبب في غرض الفصل هي التي يتقدمها السبب أو يقارنها.
وسجود التلاوة يقام في الأوقات المكروهة لتعلقها بسبب القراءة، وهذا متفقٌ لا كلام فيه.
ومما تردد الأئمة فيه صلاة الاستسقاء، وذهب الأكثرون إلى أنها تقام في الأوقات المكروهة، فإن سببها مقترن بها، ومن أئمتنا من لا يرى إقامتها فيها؛ فإنها لا تفوت، ولا يمتنع تأخيرها، فإيقاعها قصداً في الأوقات المكروهة ممنوعٌ، وهذا عند الأوّلين منقوضٌ بالفائتة؛ فإن قضاءها على التراخي، ثم لا يكره إيقاعها في هذه الأوقات، وقد يقول الفقيه في تأخير الفائتة خطرٌ؛ فإنها فريضة.
فهذا بيان مواضع الوفاق والخلاف فيما ليس له سبب.
1125 - فأما التنفل الذي يبتديه الإنسان، وليس فيه شرع على التخصيص، فهذا الذي نعنيه بالصلاة التي لا سبب لها، فهذا بيان ما يتعلق بالصلوات.
1126 - فأما استثناء الزمان، فقد روى أبو سعيد الخدري: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة نصف النهار، حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة" (1)، فاختلف أئمتنا في ذلك فقال قائلون: هذا مختص بمن راح يوم الجمعة مهجراً (2)، وحضر الجامع، وكان يغشاه النعاس في وقت الاستواء، فيصلي ركعتين لطرد النعاس، ولا كراهية، ولا يجوز في حق غير هذا الشخص للحالة المخصوصة التي ذكرناها.
وحكى الصيدلاني وجهاً آخر: أنه لا كراهية في يوم الجمعة [في شيء من الصلوات
__________
(1) حديث "النهي عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة" رواه الشافعي من حديث أبي هريرة، والبيهقي أيضاً، ثم قال (يعني البيهقي): وروي في ذلك عن أبي سعيد الخدري، وعمرو بن عبسة، وابن عمر مرفوعاً. ا. هـ وأصله عند البخاري من حديث سلمان. (ر. سنن البيهقي: 2/ 464، والتلخيص: 1/ 188 ح 273).
(2) المراد هنا مبكراً، من هجر إلى الشيء بكر إليه (المعجم).

(2/340)


والأوقات، فقد روي أن الجحيم لا تسعر يوم الجمعة (1)] (2) فهذا مختص من بين سائر الأيام، وهذا ضعيف عندي.
1127 - فأما استثناء المكان، فقد روي أن أبا ذر أخذ بعضادتي الكعبة وقال: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني، فأنا جُندب، [صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم] سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، إلاّ بمكة" (3).
وقد اختلف أئمتنا في ذلك، فذهب الأكثرون، إلى استثناء مكة في جميع الصلوات والأوقات، لما روى أبو ذر، وذهب آخرون إلى أن المراد بالاستثناء ركعتا الطواف دون غيرهما من الصلوات.
وهذا فيه نظر؛ فإن صلاة الطواف تقع بعد الطواف، فيصير تقدم الطواف سبباً في اقتضائها، فهي صلاة لها سبب، ولا يظهر بها تخصيص، وأجمع الأئمة على أن إقامة الطواف المتطوع به في الأوقات المكروهة لا كراهية فيه، وقد روينا الخبر الصحيح فيه، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئاًً، فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت في آية ساعة من ليل أو نهار" (4) فهذا تمام القول في ذلك.
__________
(1) حديث "أن الجحيم لا تسعر يوم الجمعة" رواه أبو داود، والبيهقي، وهو ضعيف كما قال إمام الحرمين (ر. أبو داود: الصلاة، باب الصلاة يوم الجمعة قبل الزوال، ح 1083، وضعيف أبي داود للألباني، ح 236، ضعيف الجامع الصغير، ح 1849، البيهقي: 2/ 464، التلخيص: 1/ 339 ح 275).
(2) زيادة من: (ط)، (ت 1)، (ت 2)، (د 1).
(3) حديث أبي ذر، أخرجه البيهقي، بهذا السياق نفسه، وأخرجه أحمد، والشافعي، وابن خزيمة في صحيحه. وقد تقدّم في أول الباب. (ر. السنن الكبرى: 2/ 461، والتلخيص: 1/ 189 ح 275، والمسند: 5/ 165).
(4) حديث: "يا بني عبد مناف ... " رواه الشافعي، وأحمد، وأصحاب السنن، وابن خزيمة، وابن حبان، والدارقطني، والحاكم، وغيرهم. (ر. التلخيص: 1/ 190 ح 276) وقد تقدم آنفاً بأتم من هذا.

(2/341)


1128 - ثم إذا أوقع المرءُ صلاة لا سبب لها في ساعة من الساعات المكروهة، حيث يمنع ذلك وينهى عنه، ففي صحة الصلاة وجهان مشهوران: أحدهما - تصح، فإنَّ الوقت على الجملة قابلٌ لجنس الصلاة، فالنهي عند هذا القائل كراهية في الباب.
والثاني - أن الصلاة لا تصح؛ فإن الصلاة لو صحت، لكانت عبادة، والعبادة مأمور بها، والأمر بالشيء والنهي عنه مقصوداً يتناقضان؛ وليس هذا كالصلاة في الدار المغصوبة؛ فإن النهي عنها مقصود في نفسه، ولهذا تعلقٌ بقاعدةٍ في الأصول وقررناها في موضعها.
1129 - ولو نذر الرجل صلاة في هذه الأوقات، فهو خارج على الخلاف، فمن أصحابنا من أبطل النذر، ونزله منزلة نذر صوم يوم العيد، ومنهم من صححه. ثم الوقت لا يتعين بالنذر في الصلوات. فإن قيل: فهل يجوز إيقاع هذه المِنذورة في الأوقات المكروهة؟ قلنا: لا شك على هذا الوجه في جوازها، فإنها صلاة مفروضة، فضاهت الفائتة وقضاءها.
وفي هذا بقية، ستأتي مشروحة، إن شاء الله عز وجل، في صوم يوم الشك والعيد.
فصل
يتعلق بما نحن فيه
1130 - وهو أن المسبوق إذا دخل المسجد وصادف الإمام في فريضة الصبح، فلا ينبغي أن يشتغل بالسنة، بل يبادر الاقتداء بالإمام في الفريضة، ثم إذا فرغ منها، فليتدارك السنة.
وقال أبو حنيفة: إن علم أنه لو فرغ من السنة، أدرك ركعة من فريضة الصبح، فإنه يشتغل بالسنة. وإن علم أن الجماعة في الفريضة تفوته، فإنه يقتدي حينئذ (1).
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 271 مسألة: 225، حاشية ابن عابدين: 1/ 253 و481.

(2/342)


وقد استدل الشافعي على مذهبه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة" (1).
ثم إذا فرغ من الفريضة، فالسنة مقضية، أو مؤداة؟ سيأتي القول في ذلك في التطوع، على إثر هذا إن شاء الله.
وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة سوى المكتوبة، فالحديث صحيح مسندٌ، والمزني رواه موقوفاً على أبي هريرة.
فصل
في قضاء النوافل
1131 - فنقول: النوافل تنقسم: فمنها ما علقت بأوقات مفردة كصلاة العيد، ومنها ما شرعت تابعة للفريضة كالنوافل التي تتأقت بأوقات الفرائض، ثم منها ما يقدُمُ الفرائض، ومنها ما يعقبها.
فأما ما انفرد منها بأوقات لها، كصلاة العيد، فالأصح أنه يقضى، وللشافعي قول آخر: "أنها لا تُقضى"، وقد ذكره شيخي، وحكاه صاحب التقريب، ولفظ الشافعي فيما حكاه صاحب التقريب عنه: "أن القياسَ والأصلَ أن لا تقضى فائتةٌ أصلاً".
ثم ما يتأقت من النوافل، ولا يتبع فريضة أولى بالقضاء عند الشافعي من النوافل التي تتبع الفرائض.
فتحصل في المؤقتات بأنفسها، وفي توابع الفرائض ثلاثة أقوال: أحدها - أنه
__________
(1) حديث "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة"، أخرجه مسلم وأصحاب السنن من حديث أبي هريرة، ورواه أحمد بلفظ: "إلا التي أقيمت"، (ر. مسلم: صلاة المسافرين، باب كراهة الشروع في نافلة بعد شروع المؤذن، ح 710، وأبو داود: التطوع، باب إذا أدرك الإمام ولم يصل ركعتي الفجر، ح 1266، والترمذي الصلاة، باب ما جاء إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، ح 421، والنسائي: ح 866، 867، الافتتاح، باب ما يكره من الصلاة عند الإقامة، وابن ماجة: إقامة الصلوات، باب ما جاء في إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة، ح 1151، وانظر التلخيص: 2/ 23 ح 544).

(2/343)


لا يقضى شيء منها أصلاً؛ فإن الأصل أن الوظيفة المؤقتة إذا فات وقتها، فقد فاتت، لأن صيغة التأقيت تقتضي اشتراط الوقت في الاعتداد بالمؤقت، فإذا انقضى الوقت، فليس الأمر (1) بالأداء أمراً بالقضاء، فإن ثبت في الصلاة المفروضة القضاءُ فبأمر مجدّد عند الشافعي، ثم الفرائض ديون، فإذا أثبت الشرعُ فيها عند الفوات مستدركاً فسببه (2) أنها لوازم، ولا يتحقق ذلك في النوافل.
والقول الثاني - أنها تُقضى؛ فإنها مؤقتة، فلتقض كالفرائض.
والقول الثالث - أن ما اختص منها بوقت، ولم يكن تابعاً لغيره، قُضي، وما هو تابع لا يقضى.
وكان شيخي يلحق صلاة الضحى بصلاة العيد في الترتيب، من حيث إنها مفردة بوقت، وليست تابعة لفريضة.
وأبو حنيفة (3) يقول في النوافل التابعة: إن فاتت الفرائض معها، قضيت مع الفرائض، كما كانت تؤدى مع الفرائض، وإن كانت فاتت وحدها، لم تقض، وليس في هذا التفصيل أثر ولا قياس.
التفريع:
1132 - إن حكمنا بأن النوافل لا تقضى، فلا كلام، وإن حكمنا بأنها تقضى، (4 فهل تتأقت أم تقضى 4) أبداً؟ فعلى قولين: [أحدهما -وهو اختيار المزني- أنها تقضى أبداً، وهو القياس، قال الصيدلاني: هذا أصح القولين] (5). والأمر على ما ذكره؛ فإن ما فات وقتُ أدائه، وثبت وجوبُ قضائه، فلا وقت أولى بالقضاء من وقت كالفرائض.
ْوالثاني - أنها إذا قُضيت تُقضى إلى أمد معلوم لا يتعدى. ثم على هذا القول قولان في النوافل التابعة للفرائض: أحدهما - أن كل نافلة من التوابع فاتت، فإنها تقضى
__________
(1) في (د 1)، و (ت 2): فالأمر بالأداء أمرٌ بالقضاء.
(2) في (ت 2)، (د 1)، (ط): فيه.
(3) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 482، وبدائع الصنائع: 1/ 287.
(4) ما بين القوسين ساقط من: (ت 1).
(5) ساقط من الأصل، دون النسخ الأربع الأخرى.

(2/344)


ما لم يؤدّ المرءُ الفريضة الأخرى المستقبلة، فإذا دخل وقتُها وأدَّاها، فقد انقطع وقت إمكان قضاء الفائتة.
وبيان ذلك أن من فاته الوتر، فطلع الفجر، قضاه (1)، فإن هو صلى فريضة الصبح، فلا قضاء بعد ذلك.
وهذا القول يجري في التوابع كلها على هذا النسق، ووجهه أن الفريضة الآتية في الوقت المستقبل إذا أُديت، فقد انقطعت التبعية بالكلية باستفتاح الفريضة الآتية (2)، والتوابع ما أثبتت مستقلة، وإنما أثبتت تابعة.
والقول الثاني - أن النظر إلى طلوع الشمس وغروبها في ذلك، فمن فاتته سنة ليلية، فإنه يتداركها، ما لم تطلع الشمس، ومن فاتته سنة نهارية كركعتي الفجر، فإنه يتدارك ما لم تغرب الشمس، واعتبار طلوع الشمس مع العلم بأن النهار الشرعي ابتداؤه طلوع الفجر محال.
فالقول السديد في ذلك أن الأصل أن لا تقضى النوافل، فإن قضيت، تقضى أبداً، كما ذكرناه.
وفي قضاء صلاة العيد، بقيّة ستأتي في كتاب صلاة العيد.
وصلاة الخسوف لا تقضى بعد الانجلاء بلا خلاف؛ فإنها في التحقيق ليست بمؤقتة، وهذا يؤكد (3) نفي القضاء في المؤقتات.
فأما صلاة الاستسقاء (4 فلا معنى لقضائها، فإن الناس وإن سقوا، فإنهم يأتون بصورة صلاة الاستسقاء 4) ويضمنونها الشكر (5).
فهذا تفصيل القول في قضاء النوافل، وقد روى أبو سعيد الخدري قضاء الوتر عن
__________
(1) في (ت 2) وفي (ط): فصلاه.
(2) كذا: "الآتية" بالتاء في النسخ كلها، ولعلها: "الآنية" بالنون.
(3) تعقب ابن أبي عصرون الإمام قائلاً: "قلت: لا وجه لتأكيده، لأن حكم المؤقت يخالف ما ليس بمؤقت" ا. هـ بنصه من مختصر النهاية: 2/ 249.
(4) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2)، ومن (ط).
(5) أي تكون صلاة شكرٍ، لا استسقاء.

(2/345)


النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "قال رسول الله: من نام عن صلاة الوتر أو نسيه فليقضه إذا أصبح" (1) وإذا صح خبر في نوع من النوافل، اتجه قياس الباقي عليه.
فرع:
1133 - كان شيخي يقول: من صادف الإمامَ في صلاة الصبح وابتدأ الاقتداء به، فإذا فرغ من الفريضة، استدرك ركعتي الفجر، ونوى الأداء؛ فإن الوقتَ باقٍ، وتقديم ركعتي الفجر أدب ورعايةُ ترتيب، والوجه ما قاله، ولو كانت مقضية، لاختلف القول في إمكان تداركها، والعلماء متفقون على أنها تستدرك في الصورة التي ذكرناها.
فصل
في ترتيب النوافل في المناصب والمراتب، وبيان الأفضل فالأفضل منها:
1134 - فنقول: اتفق أئمتنا على أن أفضلها صلاةُ العيدين، والخسوفين، والاستسقاء، وهذه مُقدَّمةٌ على السنن التابعة للفرائض.
ثم أفضلها صلاةُ العيد، فإنها جمعت التأقيتَ وفيه مشابهة الفرائض، وشرعت الجماعة فيها، وهو أيضاً وجه بيّن في مضاهات المفروضات، ثم يليها صلاة الخسوف؛ فإن الجماعة مشروعة فيها، وفيها معنى التأقيت من جهة أنها تفوت كما تفوت المؤقتات بانقضاء الأوقات، وآخرها صلاة الاستسقاء، فالمرعي فيها التأقيت وشَرع الجماعة.
1135 - وهذه الصلوات الخمس مقدَّمة على أتباع الفرائض، ثم أفضلها ركعتا الفجر والوتر، وقد اختلف القول فيهما، فأحد القولين: إن الوتر أفضل من ركعتي الفجر؛ فإن وجوبه مختلفٌ فيه، وتركه على خطر.
__________
(1) حديث "من نام عن صلاة الوتر" رواه أحمد بلفظ: فليوتر إذا ذكره، أو استيقظ، ورواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة. كلهم عن أبي سعيد (ر. المسند: 3/ 31، وأبو داود: الوتر، باب في الدعاء بعد الوتر، ح 1431، والترمذي: الوتر، باب ما جاء في الرجل ينام عن الوتر أو ينسى، ح 465، وابن ماجة إقامة الصلوات، باب من نام عن وتر أو نسيه، ح 1188).

(2/346)


والثاني: أن ركعتي الفجر آكد وأفضل، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ركعتا الفجر خير من الدنيا بما فيها" (1)، وقال في صلاة الوتر: "إن الله تعالى زادكم صلاةً هي خير من حمر النَّعَم" (2)، فالصلاة التي قدمت على الدنيا بما فيها آكد وأفضل. وقالت عائشة: "ما كان يتسرع رسول الله إلى شيء تسرعه إلى ركعتي الفجر، ولا إلى غنيمة ينتهزها" (3).
وكان شيخي يؤثر أن يقدم صلاة الضحى -من حيث إنها مؤقتة بنفسها- على النوافل الراتبة. وليس الأمر على ما ذكره؛ فإن السلف ما كانوا يواظبون عليها، حسب مواظبتهم على النوافل الراتبة، فالذي أراه أنها مؤخرة عن جميع النوافل الراتبة التابعة للفرائض.
وقد قال الشافعي في الوتر: يشبه أن تكون صلاة التهجد، وهذا معناه عند المحققين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مأموراً بالتهجد، وقيل: كان فرضاً عليه، فقال الشافعي: المعنيّ بالتهجد في قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: 79] صلاةُ الوتر، وهي التي كانت محتومة عليه، لا يتركها في حضر ولا سفر، وقد ورد في بعض الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كتب علي ثلاثٌ، لم تكتب ْعليكم، وذكر من جملتها الوتر" (4)، فإن قيل: قد سمى الله التهجد نافلة في حقه،
__________
(1) حديث: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" أخرجه مسلم بهذا اللفظ من حديث عائشة.
(مسلم: 1/ 501، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب (14) استحباب ركعتي الفجر، والحث عليهما، ح 725).
(2) حديث: "إن الله زادكم صلاة ... " رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة، والدارقطني، والحاكم من حديث خارجة بن حذافة. وفي الباب عن معاذ بن جبل، وعمرو بن العاص، وعقبة بن عامر، وأبي بصرة الغفاري، وابن عباس، وابن عمر، وعبد الله بن عمر، ولم يسلم واحد منها من مقال. (ر. التلخيص: 2/ 16 ح 523، وانظر: أبو داود: الصلاة، باب استحباب الوتر، ح 1418، والترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء في فضل الوتر، ح 452، وابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في الوتر، ح 1168، والدارقطني: 2/ 30، والإرواء: 2/ 156).
(3) حديث عائشة متفق عليه بلفظ: "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشدَّ تعاهداً منه على ركعتي الفجر". (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 141 ح 422).
(4) يشير إلى حديث ابن عباس "ثلاث هن علي فرائض، ولكم تطوّع: النحر، والوتر، وركعتا =

(2/347)


فقال: {نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]، فقد قال المفسرون: زيادة لك؛ فإن نوافل غيره تقع جبراناً لنقصان الفرائض، وكانت فرائضه مبرأة من النقصان، فيقع تهجده زيادة طاعةٍ.
...
__________
= الضحى" رواه أحمد (واللفظ له) والدارقطني، والحاكم، والبيهقي. وفي كل منها مقال.
(ر. التلخيص: 2/ 18 ح 530، والمسند: 1/ 231، والدارقطني: 2/ 21، والبيهقي: 9/ 264، والحاكم: 1/ 300).

(2/348)


باب صلاة التطوع وقيام شهر رمضان
1136 - السنن الراتبة التابعة للفرائض قد اختلف فيها الأئمة وفي عددها، فقال قائلون: هي إحدى عشرة ركعة، ركعتان قبل الصبح، وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعده، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، والوتر ركعة.
وزاد بعضهم ركعتين أخريين قبل الظهر، فيصير العدد ثلاث عشرة ركعة، ويقع قبل الظهر أربع ركعات.
وزاد بعضهم أربع ركعات قبل العصر، فمجموع الركعات سبع عشرة على حسب عدد الركعات المفروضات، وعلى الجملة المتفق عليه آكد مما تطرق الخلاف إليه، ولم يصح عن رسول الله المواظبة على صلاة قبل فريضة العصر حسب ما كان يواظب على سنة الظهر قبله وبعده.
وذهب بعض أصحابنا إلى استحباب ركعتين قبل فرض المغرب.
وقال أبو عبد الله الخِضْري: ليس لصلاة العشاء سنة ثابتة.
فهذا مجموع ما ذكر الأصحاب في السنن الراتبة.
فصل
1137 - السنن الراتبة كلها مثنى مثنى إلا الوتر على ما سيأتي التفصيل فيه، وإذا أراد الإنسان أن يتطوع بالصلاة ابتداء، فالأولى أن يأتي بها مثنى مثنى، أيضاً ليلاً ونهاراً، هذا مذهبنا. وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلاة الليل (1)
__________
(1) في الأصل، وفي (ت 1): "الليل والنهار". ولفظ والنهار، وارد في غير المتفق عليه في الصحيحين (ر. التلخيص: 2/ 22 ح 543).

(2/349)


مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح فليصل ركعة يوتر بها ما قد صلى" (1).
ثم لا خلاف أن الخِيَرة في التطوع الذي يبتديه المرء إليه في عدد الركعات، فلو أراد أن يصلي مائة ركعة بتسليمة واحدة، جاز، ولو صلى ركعة فَرْدةً، جاز عندنا، وإن كان نهاراً.
ثم إن صلى ركعات بتشهد واحد، جاز، وإن كان يقعد على أثر كل ركعتين، ثم يقوم، جاز، فإن تشهدين في أربع ركعات مفروضة موجودة. فإذا كان عدد الركعات إلى المتطوّع، فكل أربع ركعات من جملة صلاته كأربع ركعات مفروضة.
وإن كان يجلس للتشهد في إثر كل ركعة، فهذا فيه احتمال؛ من جهة أنا لا نَلْقَى صلاة على هذه الصورة في الفرائض، والأظهر عندي جواز ذلك؛ فإن له أن يصلي ركعة فردة متطوعاً ويتحلل عنها، فإذا جاز له ذلك، جاز له القيام عنها، وزيادة ركعة أخرى.
والجملة فيه أن كل ما يجوز الاقتصار عليه والإتيان بتشهد التحلل في آخره، جاز الإتيانُ بالتشهد فيه مع القيام عنها، ولا يشترط أن تكون صورة الصلاة المتطوَّعِ بها مضاهيةً لصورة الصلاة المفروضة.
فعلى هذا لو كان يصلي ثلاثين ركعة بتسليمة واحدة، وكان يقعد للتشهد في كل ثلاث ركعات، جاز ذلك.
1138 - ولكن وراء هذا إشكال سأبديه في آخر الفصل.
فأقول: إذا نوى أن يصلي ركعتين ويتشهد، ثم بدا له أن يزيد ركعتين، فليزد ما شاء، وليقم قاصداً إلى الزيادة على حكم الاستدامة، وهذا في التحقيق نيةٌ في أثناء الصلاة. ولو كان نوى ركعتين، ثم قام إلى الركعة الثالثة ساهياً، ثم تذكر ولم يُرد الزيادة، فليرجع ويسجد للسهو، كما يفعل ذلك في الصلاة المفروضة.
ولو أراد أن يتمادى ويزيد، فله ذلك، ولكن هل يعود جالساً؟، ثم يقوم عن
__________
(1) حديث: "صلاة الليل مثنى مثنى ... " متفق عليه من حديث ابن عمر، بنفس اللفظ الذي ساقه به إمام الحرمين. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 144 ح 432).

(2/350)


قعود قاصداً زيادة أم لا يعود بل يتمادى؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يعود؛ فإن انتهاضه كان على حكم السهو، فلا يعتد به، ثم يلزم على هذا أن يسجد للسهو؛ لأن القيام الذي جاء به فقطعه صورة ركن زادها، وليس معتداً بها، وإن قلنا يمرّ ويتمادى ولا يرجع، فكأنا لا نرى انتهاضه سهواً فيتمادى ولا يسجد للسهو.
1139 - وقد ذكرت في باب سجود السهو أن المأموم إذا رفع رأسه قبل الإمام، ظاناً أن الإمام قد رفع، ثم علم أن الإمام في الركوع، فهل يرجع؟ فيه خلاف: من أصحابنا من قال: لا يجوز أن يرجع، ومنهم من قال: يجوز أن يرجع، ولم يوجب الرجوعَ أحد من أئمتنا، والسبب فيه أن تقدمه على الإمام قصداً جائز، كما فرَّعناه.
وهذه المسألة التي نحن فيها من التطوع فيها مشابهةٌ لتلك، ولكنْ بينهما فرق؛ فإن قيام المتطوع قصداً إلى ركعة زائدة من غير نية الزيادة في الصلاة، مبطل للصلاة، وقيام المقتدي قصداً قبل الإمام مع استدامة القدوة جائر، فإذا كان ساهياً حمل [عنه] (1)، وكان في رجوعه تعديد صورة الركوع في ركعة واحدة، وفي رجوع المتطوع في الصورة التي نحن فيها قطع لقيام لو تعمده من غير قصد [الزيادة] (2)، لأبطل صلاتَه، فإذا حصل سهواً، يجوز أن يؤمر به ليقطعه، فانتظم الخلاف في التطوع على وجهين، وهو أنه يرجع على وجهٍ لا محالة، ولو لم يرجع، بطلت صلاتُه، وفيه وجهين أنه لا يجوز أن يرجع، والخلاف في مسألة باب سجود السهو أنه في وجهٍ يجوز أن يرجع، وفي وجه لا يجوز أن يرجع، فأما إيجاب الرجوع ثَمَّ، فلا يجري أصلاً، وهذا بيّن لمن تثبت.
1140 - ولو نوى ركعتين ثم قام إلى الركعة الثالثة من غير سهو، ولم يقصد أن يزيد في أعداد ركعاته، فتبطل صلاته لا محالة.
ولو نوى أن يصلي أربع ركعات بتسليمة واحدة، ثم بدا له أن يقتصر على ركعتين، فليتشهد، وليسلم.
__________
(1) في الأصل وفي (ط)، (ت 1)، (د 1): عليه. والمثبت من (ت 2).
(2) زيادة من: (ت 2).

(2/351)


[ولو سلم ساهياً، لم يتحلل، فإذا تذكر، فإن أراد أن يكمل ما نوى أكمل، وسجد للسهو. وإن أراد أن يقتصر، جاز، ولكن لا يكون سلامه تحلّلاً وجهاً واحداً، فإنه جاء بها غالطاً، فليسجد للسهو، وليسلّم عمداً] (1) ولو سلم عمداً، وما قصد الاقتصار على الركعتين، فتصوير هذا عسر، فإن لم يقصد به التحلل، فكأنه يقصد خطاباً وتكليماً عمداً، فتبطل صلاتُه، كما لو خاطب في جهةٍ أخرى عمداً.
1141 - وفي هذا الفصل دقيقة، وهي أن من سلم في آخر صلاته، فالأصح أنه لا يشترط نية الخروج من الصلاة، وإذا سلم المتطوع في أثناء صلاته قصداً، فإن قصد التحلل، فقد قصد الاقتصار على بعض ما نوى، وإن سلم عمداً، ولم يقصد التحلل، فقد حمله الأئمة على كلامٍ عمدٍ مبطل، فكأنهم يقولون: لا بد من قصد التحلل في حق المتنفل الذي يريد الاقتصار. وفي إيجاب قصد التحلل عند السلام في آخر صلاةٍ انتهت نهايتها خلاف، والأصح أنه لا يجب، والفرق ظاهر؛ فإن المتنفل المسلم في أثناء صلاته يأتي بما لم تشتمل عليه نية عقده ولا بد من قصدٍ فيه، فافْهم.
1142 - ومما يتعلق ببقية هذا الفصل ما أحلنا عليه من بقية كلامٍ في التشهد.
فنقول: إن نوى أن يصلّي ركعتين بتشهد واحد، ثم بدا له أن يتشهد مرتين على إثر كل ركعة مرة، ولو عقد الصلاة على هذه الهيئة، فالذي أراه أن ذلك لا يمتنع، وإن عقدها على تشهد واحد، وتشهد عقيب الركعة الأولى، فالذي أراه أنه ساهٍ، يسجد للسهو، وإن خطر له أن يتشهد عمداً على إثر الركعة الأولى، فليفعل، وهو كما لو أراد أن يزيد أو ينقص في صلاته، في أثناء النافلة، فليس تغيير الهيئة قصداً بأعظم من التغيير بالزيادة والاقتصار.
1143 - ولو نوى ركعتين مطلقاً، ولم يخطر له تشهدان، ولا تشهد واحد، فالذي أراه أن الصلاة تنعقد على تشهد واحد؛ فإنه المعتاد الغالب.
وإن نوى عشر ركعات بتسليمة، ولم يخطر له في التشهد شيء، ولسنا نعهد صلاة
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، ومن (ط).

(2/352)


على هذه الصفة حتى ينزل مطلق العقد عليها، فيظهر عندي أن يجلس على إثر كل ركعتين، وإن أراد مزيداً، فيقصد.
1144 - ومن تمام الكلام في هذا: أنه إذا كان يصلي المكلف صلاةً مفروضة رباعية، فالتشهد الأول من الأبعاض، فلو تركه، سجد للسهو، ولو نوى المتنفل أربع ركعات مطلقاً، فله أن يتشهد في أثناء الصلاة؛ تنزيلاً على الصلاة المفروضة، ولو ترك التشهد الأول، فالذي أراه أنه لا يسجد للسهو في النافلة؛ فإن التشهد في الفريضة مشروع (1 مؤكد، ولا يتحقق هذا التأكيد في النافلة، ولا يبلغ مبلغ الأبعاض المشروعة.
ولو نوى أن يصلي أربع ركعات ويتشهد مرتين 1) فلو ترك التشهد الأول قصداً، [فالذي أراه أنه لا يسجد للسهو، ولو ترك المفترض التشهد الأول قصداً] (2)، فالمذهب الظاهر أنه يسجد للسهو؛ فإن التشهد الأول مشروع في الفرض شرعاً، وليس إلى المصلي رفعه، والتشهد في صلاة التطوع إلى قصده، وإن أراد أن يرفعه، كان له رفعه؛ فإنّ رفعه لا يزيد على رفع ركعات، كان نواها.
ولو قصد تشهدين، ثم ترك التشهد الأول ساهياً، ففي سجود السهو احتمال، والظاهر أنه لا يسجد، والسبب فيه أن سجود السهو يتعلق من السنن بآكدها الذي يسمى الأبعاض، ولا يتحقق التأكد في حق المتنفل مع أن الأمرَ إلى خيرته في تغيير الصلاة وتبديل هيئاته.
1145 - فهذا تمام القول في ذلك. وما ذكرته من الزيادة والنقصان، فهو في التطوع الذي بيّناه.
فأمّا السنة التي حدَّها الشرع وأثبت هيئاتها، فليس إلى المكلف تغييرها، فلو زاد ركعةً ثالثةً في ركعتي الفجر، بطلت تلك الصلاة؛ فإنه خالف وضع الشرع فيها، ولكن يجوز أن يقال: تنقلب تطوعاً أو تبطل؟ فعلى خلاف، سبق في مواضع، وسيعود مشروحاً.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، ومن (ط).

(2/353)


فصل
1146 - للمتنفل أن يصلي قاعداً مع القدرة على القيام، ولو أراد أن يتنفل مومياً مستلقياً أو على جنب، فقد اختلف أئمتنا فيه: والذي اختاره الصيدلاني جواز ذلك، وكان شيخي يحكي هذا ويزيفه، ويقول: إنما ثبت الاقتصار على القعود رخصة في النافلة مع الإتيان بكمال الأركان، فإن أراد أن يسقط جميع الأركان قياساً على القيام الذي أُبدل بالقعود، فقد أبعد، والذي ذكره شيخي حسنٌ متجه، وهذا يلتفت إلى إقامة النافلة على الراحلة في الحضر، وقد قدمت التفصيل فيه في باب استقبال القبلة.
فصل
1147 - من نذر صلاة، لزمه الوفاء بها، وهل له أن يقعد فيها مع القدرة على القيام؟ فيه قولان مأخوذان من أصلٍ سنوضحه في النذور، وهو أن الملتزم بالنذر هل يحمل على واجب الشرع، أو يحمل على حكم الاسم المطلق؟ وفيه قولان سيأتي ذكرهما في موضعهما إن شاء الله.
ولو نذر أن يقوم في كل نافلة ولا يقعد، فقد قال الصيدلاني: لا نأمره بالوفاء بهذا النذر؛ فإن القعود في النافلة رخصة، ومن أراد أن ينفي الرخصة بنذره، لم يجد إليه سبيلاً، وهو بمثابة ما لو نذر أن يتمم الصلاة في كل سفر، أو يصوم ولا يفطر، وهذا الذي ذكره في نهاية الحسن.
ولو نذر أن يصلي أربع ركعات قائماً، لزمه القيام قولاً واحداً؛ لأنه صرح بالتزامه، وهذا كما لو قال: لله علي أن أعتق عبداً سليماً عن العيوب والآفات. لزمه الوفاء، ولو أطلق، ففي إجزاء معيب عنه قولان، ولست أسترسل في مسائل النذور؛ فإنها صعبة المرام، لا يتأتى الخوض فيها إلا بتمهيد أصولها.

(2/354)


فصل
قال: "وأما قيام شهر رمضان، فصلاة المنفرد أحب إليّ منه ... إلى آخره" (1).
1148 - أراد بقيام شهر رمضان التراويح، ولست أطيل [ذِكْرَ] (2) ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جرى لعمر رضي الله عنه: أما ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنه صلى بأصحابه جماعةً ثلاثَ ليال، ثم ترك الجماعة، فروجع فيها، فقال: خشيت أن تُكتب عليكم، فلا تطيقون" (3) ثم رأى عمر أن يجمع الناس على إمامٍ، لما علم أن الشرع لا يتغير بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم (4).
1149 - وقد اختلف أئمتنا في أن الانفراد بها أفضل أم الجماعة؟ وحاصل ما ذكروه أوجه: أحدها - أن الجماعة أفضل تأسياً بسيرة عمر، وما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً.
والثاني - أن الانفراد بها أفضل؛ فإنها صلاة الليل، فالاستخلاء بصلاة الليل أولى، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فضلُ صلاة الرجل تطوعاً في بيته، على صلاته في المسجد كفضل صلاته المكتوبة في المسجد، على صلاته في بيته" (5) وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من مائة
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 107.
(2) زيادة من (ل).
(3) حديث صلاة التراويح: "خشيت أن تفرض عليكم" متفق عليه من حديث عائشة. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 145 ح 436).
(4) أثر جمع عمر الناس على إمام في صلاة التراويح. هذا الجزء الذي ذكره إمام الحرمين في صحيح البخاري: 2/ 252، كتاب صلاة التراويح، باب (1) فضل من قام رمضان، ح 2010.
(5) الحديث معناه في الصحيحين، متفق عليه من حديث زيد بن ثابت بلفظ " ... فإن أفضل =

(2/355)


صلاة في غيره من المساجد، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة في مسجدي، وأفضل من ذلك كله رجل يصلي في زاوية ركعتين، لا يعلمها إلا الله تعالى" (1).
والوجه الثالث - أنه إن كان حافظاً للقرآن عالماً بأنه لو خلا بنفسه، لما منعه الكسل والفشل (2) عن الصلاة على حقها، فالانفراد أولى، وإن كان لا يحسن ما يصلي به، ولم يأمن أن يثبطه الكسل لو خلا، وإذا كان يصلي في جماعة، أقام الصلاة مقتدياً، فالاقتداء أولى به.
1150 - ثم إن لم تشرع الجماعة فيها، فالسنن الراتبة التابعة للصلوات المفروضات أفضل وأولى منها.
وإن قلنا الجماعة مشروعة فيها، فالأصح أيضاً تفضيل السنن الراتبة عليها؛ فإنها لا تتأصل في وظائف المكلف تأصل الرواتب.
ومن أئمتنا من شبب بتفضيلها على قولنا باستحباب الجماعة فيها؛ لأن الجماعة أقوى معتبر في التفضيل، كما تقدم ذكرها.
1151 - ثم ذكر الشافعي (3) أن أهل المدينة يقومون بتسع وثلاثين ركعةَ، وأصل هذه الصلاة عشرون ركعة، وسبب زيادته أن أهل مكة يقومون بين كل ترويحتين إلى البيت، فيطوفون سبعة أشواط، ويصلون ركعتين للطواف، فزاد أهل حرم رسول الله
__________
= الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 149 ح 447).
(1) هذا المعنى عند البخاري، ومسلم من حديث زيد بن ثابت (اللؤلؤ: 1/ 149 ح 447)، وعند الترمذي في باب فضل التطوع في البيت، ح 450، وعند النسائي في قيام الليل، باب الحث على الصلاة في البيوت، ح 1600. قال الحافظ: ولأبي داود: "صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا، إلا المكتوبة" (التلخيص: 1/ 21 ح 541) هذا. ولم أصل إلى هذا اللفظ عند أبي داود (ر. أبو داود: 2/ 145، باب 346 فضل التطوع في البيت، ح 1347).
(2) الفشل: التراخي (المعجم).
(3) في (د 1)، (ت 2): ثم ذكر شيخي، والصواب: الشافعي، فهذا ما رواه عنه المزني في المختصر: 1/ 107.

(2/356)


صلى الله عليه وسلم في صلاتهم في مقابلة ما يأتي به أهل مكة من الأشواط في خلال التراويح.
1152 - واختلف أئمتنا في معنى قول الشافعي، "وأما شهر رمضان، فصلاة المنفرد أحب إليّ منه": منهم من قال: معناه [أن الانفراد بها أفضل من إقامتها في الجماعة، ومنهم من قال معناه] (1) أن الراتبة التي لا يشرع فيها الجماعة أحب إليّ من التراويح التي شرعت الجماعة فيها.
فصل
1153 - صلاة الوتر لا تجب عندنا، ولا واجب شرعاً إلا الصلوات الخمس، والخلاف مشهور في ذلك.
1154 - ثم لو أوتر الرجل بركعةٍ واحدةٍ، جاز، ولو أوتر بثلاث، أو خمس، أو سبع، أو تسعٍ، أو إحدى عشرة ركعة بتسليمة واحدة، جاز. وقد نُقل جميع ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي بعض التصانيف: أو ثلاث عشرة. ولا ينبغي أن يعتمد ذلك.
وهذا التردد في أن الإتيان بثلاث عشرة، هل نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟
ومن أوتر بما يزيد على الحد المنقول عن المصطفى، مثل أن يوتر بخمس عشرة ركعة فصاعداً، فهل يصح إيتاره؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يصح وتره؛ فإن الوتر من أفضل السنن الراتبة المشروعة، فلا يجوز تعديتها عن مراسم الشرع، كركعتي الفجر؛ فإنَ من أقام سنة الصبح أربع ركعات، لم يكن مقيماً لهذه السنة، فكذلك من زاد الوتر على ما يصح نقله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والثاني - يجزىء في الوتر الزيادة؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ورد بإقامته
__________
(1) ساقط من نسخة الأصل، (ط). دون باقي النسخ.

(2/357)


على أنحاء ووجوه، ففصَل بينهما وبين السنن التي كان لا يقيمها قط -سفراً أو حضراً- إلا على عِدة واحدة.
1155 - ثم من كان يوتر بخمس، أو سبع، أو غيرها من العدد، فكم يتشهد في الصلاة الكثيرة الركعات؟ اختلفت الروايات في ذلك، فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بخمس لا يتشهد إلا في الرابعة والخامسة، وبسبع لا يجلس إلا في السادسة والسابعة، وبتسع لا يجلس إلا في الثامنة، والتاسعة، وبإحدى عشرة لا يجلس إلا في العاشرة والحادية عشرة. فهذه الروايات تدل على أنه كان يتشهد مرتين.
وروي أنه كان يوتر بثلاث لا يجلس إلا في آخرهن [وبخمس لا يجلس إلا في آخرهن] (1). وقد روت عائشة رضي الله عنها الروايتين (2).
وما ذكرناه تردد في الأوْلى على حسب اختلاف الرواية، فلو [آثر] (3) الموتر بإحدى عشرة مثلاً أن يجلس للتشهد في إثر كل ركعتين ثم يقوم، ولا يتحلل، لم يكن له ذلك؛ فإنا نتبع الرواية في هذه الصلاة الراتبة العظيمة القدر، وليس كما إذا أراد الرجل أن يتطوع بعشر ركعات أو أكثر بتسليمة واحدة، وأراد أن يجلس للتشهد على إثر كل ركعتين؛ فإنا قد ذكرنا هذا فيما سبق، والفرق أن التطوعات لا ضبط لها في عدد الركعات، وأقدار التشهدات، وصلاة الوتر حقها أن تُضبط وتحصر على ما يرد في الأخبار.
ثم تردُّدُ الأئمة في جواز الزيادة على ما نقل من عدد الركعات؛ من جهة أنا ظننا أن إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها على جهاتها ممهداً للأئمة جواز الزيادة.
__________
(1) سقط من الأصل ومن (ط) وحدهما.
(2) حديث عائشة عن اختلاف أعداد الركعات في الوتر، وأنه كان لا يجلس إلا في آخرها، وأنه كان يجلس في الأخيرة والتي قبلها. مؤلفٌ من أكثر من حديث، كلها عند مسلم (كتاب صلاة المسافرين، باب 17، 18 - ج 1 من 508 - 514) وانظر (تلخيص الحبير: 2/ 14، 15 ح 512، 514، 516، 517، 518).
(3) في النسخ الخمس: أوتر، والمثبت تقدير منا.

(2/358)


وأما التشهد، فالمنقول فيه يشير إلى اتباع ضبط:
فأما الاقتصار على تشهد واحد (1 فمحمول على محاولة الفرق بينها وبين صلاة المغرب، وأما الإتيان بتشهدين 1)، فمحمول على تشبيهها بصلاة المغرب، وليس فيها ما يتضمن الخروج عن الضبط بخلاف أعداد الركعات.
ثم اختلف أئمتنا: فالذي ذكره المعتمدون أن ما ذكرناه من التشهدين، والتشهد الواحد كلاهما سائغان؛ لصحة الرواية فيهما جميعاًً عن عائشة رضي الله عنها.
وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من لم ير [غير] (2) الاقتصار على تشهد واحد في [الآخر] (3)، واعتقدَ أن ما روي عن التشهدين إنما جرى على التفصيل، فكان يصلي أربعاً بتسليمة، ثم ركعة بتسليمة، فيقع تشهدان، وكذلك ما كان يزيد في
__________
(1) ما بين القوسين سقط من (ت 2).
(2) هذه الزيادة تقدير منا لاستقامة العبارة. وقد أعيانا تقويمها، فمن عجبِ أن تتفق النسخ الخمس على هذا الخلل. ويبدو أن أصل عبارة المؤلف رحمه الله كانت هكذا: "من أصحابنا من لم ير إلا الاقتصار على تشهدِ واحد" فكانت عين الناسخ لا تستوعب أو لا تقبل وجود هذا التتابع [إلا الا] فيسبق الوهم إلى أنه تكرار.
وقد قطعت أخيراً بهذا عندما وجدت النووي حكى هذا الكلام عن إمام الحرمين قائلاً: وحكى الفوراني وإمام الحرمين وجهاً أنه لا يجوز الوتر بتشهدين، بل يشترط الاقتصار على تشهد واحد، وحمل هذا القائل الأحاديث الواردة بتشهدين على أنه كان يسلم في كل تشهد.
قال الإمام، وهذا الوجه رديء لا تعويل عليه" ا. هـ بنصه (ر. المجموع: 3/ 12).
وهذا كما ترى نفس كلام إمام الحرمين، يقرب من حروفه. رضي الله عنهما. وألهمنا الصواب.
وتأكد هذا أيضاً بما ثبت عندنا من المقصود بقول إمام الحرمين: "بعض التصانيف"، " بعض المصنفين " إنما يقصد به (الفوراني).
والآن حقت علينا سجدة الشكر؛ فقد جاءتنا (ل)؛ ووجدنا عبارتها: "وفي بعض التصانيف أن من أصحابنا من لم ير إلا الاقتصار على تشهد واحد في الآخر" وهذا بعينه هو التقدير الذي قدرتُه، وفسرتُ به خطأ الناسخ؛ فالحمد لله حمداً يوافي نعمه، ودائما وأبداً نلوذ بحوله وقوته، ونبرأ من حولنا وقوتنا، ونسأله أن يقيض لنا من أهل العلم والصلاح من ينظر في عملنا هذا بعين الإنصاف، ويجعل جزاءنا منه دعوة بخير.
(3) في الأصل، (ط)، (ت 1): "الإجزاء"، والمثبت من (ت 2)، وصدقتها (ل).

(2/359)


الركعات. وهذا رديء، لا تعويل عليه، والمذهب طريقة الأصحاب.
1156 - ومن أهم ما يذكر في الوتر أن الأفضل في عِدَّة ركعاتها ماذا؟ فذهب بعض أصحابنا إلى أن الإتيان بثلاث موصولة أفضل، فإن ذلك صحيح وفاقاً، والإيتار بركعة واحدة مختلف فيه، وارتياد ما يصح وفاقاً أولى؛ فإن الصلاة خطيرة عظيمة الموقع، وهذا اختيار أبي زيد المروزي.
ومن أصحابنا من قال: الأفضل الإيتار بركعة فردة، وغلا هذا القائل بها، فقال: لو أوتر بإحدى عشرة، وأوتر بركعة فردة، فالركعة الفردة أفضل من إحدى عشرة، وتعلق هذا القائل بما روي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر بركعة واحدة في آخر الليل، يوتر به ما قد صلى" والزيادة على الواحدة ما كان يواظب عليها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين الجواز بما يندر من أحواله، ويوضح الأفضل بما يواظب.
وذكر القفال وجهاً ثالثاً، فاقتصد وأنصف فيه، فقال: لو صلى ثلاثاً في تسليمة، وصلى ركعتين وسلّم، ثم أوتر بركعة، فالثلاث الموصولة تقابل بالثلاث المفصولة، فيقال: الفصل أفضل، فأما إذا قوبل ثلاث بواحدة، فلا شك أن الثلاث أفضل من الواحدة.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً رابعاً فقال: إن كان ينفرد بالوتر، فالفصل والإيتار بركعة واحدة أفضل، وإن كان يصلي بالناس، فثلاث ركعات موصولة أولى؛ فإن الجماعة تجمع طبقات الناس على مذاهب، فالإيتار بما يجتمع عليه أصحاب المذاهب أولى.
وكل هذا التردد بين الثلاث الموصولة، والركعة الفردة، والثلاث المفصولة، فأما الزيادة على الثلاث، فلا يؤثره من طريق الفضيلة أحد من الأئمة، وإنما يحمل فعل الشارع على الجواز، لا على الأوْلى.
1157 - ومما يتعلق بالوتر أن الصدِّيق رضي الله عنه كان يوتر، ثم ينام، ثم يقوم ويصلي [من التهجد ما وُفِّق له، ووتره سابق، وكان عمر ينام ولا يوتر، ثم يقوم

(2/360)


ويصلي] (1) ما اتفق له، ثم يوتر في آخر الأمر، وكان ابن عمر يوتر وينام، ثم يقوم ويصلي ركعة فردة، يصير بها ما يتقدم شفعاً، ثم يصلّي متهجداً، ثم يوتر بركعة فردة، "وكان يسمي ذلك نقض الوتر" (2).
فأما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، فإنهما راجعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم وأشار إلى أبي بكر: "أما هذا فأخذ بالحزم، وأما هذا -وأشار إلى عمر الفاروق- فأخذ بالقوة" (3).
وميل الشافعي إلى حزم أبي بكر؛ فإن إقامة الصلاة أولى من النوم عليها على خطر الانتباه.
وأما نقض الوتر، كما روي عن ابن عمر، فلم يره أحدٌ ممّن يُعتمد من أئمة المذهب.
وذكر بعض المصنفين أن الأولى عندنا ما فعله ابن عمر رضي الله عنه. وهذا خطأ، غير معدود من المذهب. والتمسك بسيرة الشيخين أولى، ولم يؤثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نقضُ الوتر.
فصل
1158 - لو صلى العشاء أربع ركعات، وصلى بعدها ركعة واحدة وتراً، ولم يزد، فهل يجزيه الوتر؟ تردد أئمتنا فيه، فمنهم من قال: يصح وتره، وهو القياس، ومنهم
__________
(1) سقط من الأصل، ومن (ط) وحدهما.
(2) حديث نقض ابن عمر للوتر. رواه الشافعي، وأحمد، والبيهقي (ر. ترتيب مسند الشافعي: 1/ 195 ح 551، المسند: 2/ 135، البيهقي: 3/ 36، التلخيص: 2/ 2 ح 549، وخلاصة البدر: 1/ 183 ح 630).
(3) حديث حزم أبي بكر وقوة عمر، مشهور، رواه أبو داود، وابن خزيمة، والطبراني، والحاكم من حديث أبي قتادة. والبزار، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، من حديث ابن عمر، وفي الباب عن أبي هريرة، وجابر (ر. أبو داود: الصلاة، باب في الوتر قبل النوم، ح 143، ابن خزيمة: ح 1084، الحاكم: 1/ 301، ابن ماجة: إقامة الصلاة، باب ما جاء في الوتر أول الليل، ح 1202، ابن حبان: 2437، التلخيص: 2/ 17 ح 526).

(2/361)


من قال: ما جاء به تطوع وليس الوترَ المشروعَ؛ فإن من صفة الوتر أن يوتر ما تقدم عليه من السنن الواقعة بعد فريضة العشاء، فإذا لم يوجد غيرُها، لم يكن وتراً، وفي كلام الشافعي إشارة إلى الوجهين جميعاًً، وميله إلى أن ما يأتي وتر. وإن قصر في ترك السنن قبله.
فرع:
1159 - ظاهر المذهب أنه لو أتى بصلاة الوتر قبل فريضة العشاء، لم يعتد بما جاء به وتراً أصلاً.
وقال أبو حنيفة (1)، هو وتر. وهو مذهب بعض أصحابنا، والأصح الوجه الأول، ولم يحك بعض أصحابنا غيره؛ لأنها على كل حال مترتبة على سابق.
والصحيح من مذهب أبي حنيفة أنه لو اعتقد ذلك عن قصد، لم يعتد بما جاء به، ولو سها ولم يتعمده، فيعتد به، ومن أبعد من أئمتنا في الاعتداد به لم يفصل بين أن يكون ذلك عن نسيان، وبين أن يكون عن قصد وتعمدٍ.
فصل
1160 - القنوت لا يشرع في الوتر عندنا إلا في النصف الأخير من رمضان، وهذا مذهب عمر رضي الله عنه، وروى بعض من يعتمد في روايته: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه التراويح عشرين ليلة، ولم يقنت في الوتر إلا في النصف الأخير من الشهر" (2) والرواية غريبة؛ فإن المشهور أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل التراويح في جماعة إلا ثلاث ليال.
1161 - ثم موضع القنوت [عندنا إذا رفع رأسه] (3) من الركوع، [وأبو حنيفة يرى القنوت قبل الركوع] (4).
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 288 مسألة 247، حاشية ابن عابدين: 1/ 241.
(2) لم نصل إلى هذه الرواية، فهي غريبة كما قال الإمام رضي الله عنه.
(3) سقط من الأصل و (ط) فقط.
(4) سقط من الأصل و (ط) فقط.

(2/362)


وقد رَوَوْا عن علي وابن مسعود وابن عباس مثل مذهبهم (1)، ولكن الراوي عن علي الحارث الأعور. قال الشعبي؛ هو من جملة الكذابين (2).
وقد صح عن علي أنه قنت بعد الركوع، وحديث ابن مسعود رواه ابن أبي عياش، وقد كذَّبه شعبة، وحديث ابن عباس رواه عطاء بن مسلم الحلبي وكان يروي المناكير عن الثقات.
فرع:
1162 - قد اشتهر من فعل الخاص والعام في الفصل والوصل قراءة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} في الركعتين الأوليين، وقراءة المعوّذتين وسورة الإخلاص في الثالثة، وقد رأيت في كتاب معتمد أن عائشة رضي الله عنها روت ذلك (3).
...
__________
(1) ر. الهداية مع فتح القدير: 1/ 373، والدرة المضية فيما وقع فيه الخلاف بين الشافعية والحنفية. مسألة رقم: 134، 135.
(2) حديث القنوت قبل الركوع، روي من حديث أبي بن كعب، وابن مسعود، ومن حديث ابن عمر، وابن عباس. كذا أورده الزيلعي في نصب الراية: 2/ 123. ولم يشر الزيلعي إلى حديث علي الذي ضعفه إمام الحرمين. وانظر تهذيب التهذيب، والميزان، ونصب الراية، لترى أنهم قالوا في هؤلاء الرواة بمثل ما قاله فيهم إمام الحرمين.
(3) حديث عائشة عن القراءة في الوتر رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة. وقد حسنه ابن الملقن في البدر المنير. (ر. أبو داود: 2/ 132، باب ما يقرأ في الوتر، ح 1423، 1424، والترمذي: ح 463 باب ما يقرأ في الوتر، والنسائي: قيام الليل، باب القراءة في الوتر، ح 1730، وابن ماجة: الصلاة، باب ما جاء فيما يقرأ في الوتر، ح 1173 تلخيص الحبير: 2/ 19 ح 533، والبدر المنير: 4/ 332).
هذا، ولم نعرف (الكتاب المعتمد) الذي يقول الإمام: إنه رأى فيه هذا الحديث. فهل هو (سنن أبي داود)؟

(2/363)


باب فضل الجماعة والعذر بتركها
1163 - إقامة الجماعة في الصلوات من شعائر الإسلام، وما أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الجماعة مادام بمكة، فلما هاجر إلى المدينة، شرع الجماعات، واستحث المسلمين عليها.
1164 - واختلف أئمتنا فيها: فقال بعضهم: إقامة الجماعة سنة مؤكدة. وقال آخرون هي من فروض الكفايات.
وقد ذكرنا تردد الأئمة في الأذان في هذا المعنى، ولم ينسب الصيدلاني المصير إلى أن الأذان فرضٌ على الكفاية إلى أئمتنا، وصرح في هذا الباب بحكاية هذا في الجماعة.
ثم من قال: إقامة الجماعات فرض كفاية، فلا شك أنه يقول إذا قام بها قوم، سقط الفرض عن الباقين.
وقد ذكرنا في الأذان تفصيلاً، وذلك التفصيل على وجهه لا ينتظم ولا يطرد هاهنا، وذكر بعض المصنفين أن الجماعة ينبغي أن تقام في كل مَحِلَّة. وقال الصيدلاني: إذا فعل قوم، سقط الفرض عن الباقين.
1165 - وأنا أقول: أما الجماعة في صلاة الجمعة، ففرض على الأعيان الذين يلتزمون الجمعة، كما سيأتي في كتابها، وإنما الكلام في الجماعة في سائر الصلوات، أما أحمد بن حنبل (1)، وداود (2)، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة (3)،
__________
(1) وجوب الجماعة متفق عليه في مذهب أحمد، أما كونها شرطاً فقول في المذهب. ر. الإنصاف: 2/ 210، وكشاف القناع: 1/ 454.
(2) داود بن علي بن خلف الأصبهاني ثم البغدادي، إمام أهل الظاهر، أحد العلماء الزهاد العباد، قالوا: كان عقله أكبر من علمه ت 270 هـ (ر. تهذيب الأسماء: 1/ 182 رقم 157).
(3) محمد بن إسحاق بن خزيمة الإمام من الأصحاب، إمام نيسابور في عصره، أحد المحمدين =

(2/364)


فإنهم أوجبوا الجماعة (1 على كل من يلتزم الصلاة، وشرطوا في صحة الصلاة المفروضة الجماعة 1) كما تشترط في صحة الجمعة.
واحتج الشافعي بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة، وروي بخمس وعشرين درجة" (2)، وهذا يدل على أن صلاة الفرد صحيحة، والصلاة في الجماعة أفضل. وروي عن النبي عليه السلام أنه قال: "صلاة الرجل مع الواحد أفضل من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أفضل من صلاته مع واحد، وحيثما كثرت الجماعة فهو أفضل" (3) وهذا يدل على صحة صلاة المنفرد.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار مشتملة على الوعيد في ترك الجماعة؛ وسببُها أن المنافقين كانوا يتخلفون، ولا يصلون في منازلهم، فكان المقصود من الوعيد حملهم على الصلاة على الرغم منهم.
1166 - فإذا ثبت هذا، فلم نضبط فيما قدمناه قولاً في الجماعة التي يسقط بإقامتها [الحرج] (4) عن الذين لم يحضروها، فنقول: الغرض ظهور الشعار، فلتقم الجماعة في البلدة الكبيرة في مواضعَ بحيث يظهر بمثلها في مثل تلك البلدة الشعار.
ولا يخفى أنه لو فرض إقامة الجماعة في طرفِ أو في أطراف، فقد لا يشعر بها أهلُ
__________
= الأربعة من أصحاب الشافعي الذين بلغوا رتبة الاجتهاد، كما قال السبكي في طبقاته.
ت 311 هـ (طبقات السبكي: 3/ 109 - 119).
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2) وحدها.
(2) حديث فضل صلاة الجماعة متفق عليه من حديث ابن عمر، بلفظ "سبع وعشرين". اللؤلؤ والمرجان: ح 381. (وانظر التلخيص: 2/ 25 ح 553).
(3) حديث "صلاة الرجل مع الرجل ... " أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن حبان، وابن ماجة من حديث أبي بن كعب (ر. أبو داود: الصلاة، باب في فضل صلاة الجماعة، ح 554، النسائي: الإمامة، باب الجماعة إذا كانوا اثنين، ح 843، ابن ماجة: المساجد والجماعات، باب فضل الصلاة في جماعة، ح 790، أحمد: 5/ 140، التلخيص: 2/ 26 ح 554).
(4) في الأصل، وفي (ط) وفي (ت 1): الخروج، والمثبت من (ت 2).

(2/365)


البلدة، ويكون جريان ذلك من جهة التمثيل بمثابة عمل من الأعمال لا يُشاع مثله في العرف إذا جرى من شخص أو أشخاص، وقد لا يشعر به معظم أهل البلدة، فَلْيَقِس الناظر ذلك الذي نحن فيه بهذا، ولْيعلم أن الغرض ظهور الشعار. وهذا هو الأصل. فإذاً قد لا يحصل ذلك إلا بأن تقام في كل مَحِلَّة، وقد تصغر القرية فيقع الاكتفاء بجماعة واحدة.
1167 - ومما ينبغي أن ينبه عليه أن الناظر قد يقول: إذا كبرت البلدة، وكثر أهلها وكان معظمهم لا يقيمون الجماعة، وكان الشعار يظهر بالذين يقيمونها، ولكن كان يظهر من أهل البلدة الاستهانة بالجماعة؛ من حيث يتقاعد عنها معظمهم، فإنهم يعصون. وهذا الظن خطأ؛ فإنه ظهر الشعار، وسقط الفرض عن الباقين، وإن كانوا جماهير أهل البلدة.
والذي يحقق ذلك أن الصلاة على الموتى من فروض الكفايات، فلو كان لا يصلي عليهم إلا شراذم والباقون يعبُرون ولا يبالون، فالفرض يسقط عن الباقين، فإذاً النظر إلى ظهور الجماعة.
وقد يتجه أن نقول: لو كان حضر في [كل] (1) مسجد اثنان - ثلاثة، بحيث لا يبدون للمارين، فلا يحصل ظهور الشعار بهذا.
والجملة في ذلك أن كل واحد في نفسه لم يفرض عليه لأجل صلاته جماعة، وإنما الغرض أن يحصل إظهار شعائر الإسلام على الجملة.
ولا يمتنع أن يقال: لا يعتبر في القرى الصغيرة القريبة من البلاد إظهار ذلك، إذا استقلت البلاد بإظهار ذلك، فلهذا المعنى اختص وجوب الجمعة بالبلاد والقرى الكبيرة.
وفي أهل البوادي إذا كثروا عندي نظر فيما نتكلم فيه، فيجوز أن يقال: لا يتعرضون لهذا الفرض، ويجوز أن يقال: يتعرضون له إذا كانوا ساكنين، ولا شك أن المسافرين لا يتعرضون لهذا الفرض، وكذلك إذا قل عدد ساكنين (2) في بلدة؛
__________
(1) سقطت من الأصل ومن (ط) وحدهما.
(2) كذا " ساكنين " بالتنكير، في جميع النسخ، ولم تخالفها (ل).

(2/366)


فإنهم وإن أظهروا الجماعة، لا يحصل بهم ظهور الشعار، وقد ذكرنا أن الإنسان في نفسه لصلاته لا يتعرض لهذا الفرض، وإنما المرعيّ فيه أمرٌ كليٌ عائد إلى شعائر الإسلام، فهذا ما أردناه في ذلك.
1168 - ثم كثرة الجَمْع مرغوب فيها، وقد روينا الخبر الدّالّ عليه، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من صلى مع واحد كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء، ومن صلى مع اثنين، فإنه له مثل أجرهما من غير أن ينقص من أجرهما شيء" (1)، وحيثما كثرت الجماعة فهو أفضل.
ولو كان بالقرب من منزل الإنسان مسجد ولو تعداه، لتعطّل، ولو أقام فيه الشعار، لقامت الجماعة بسببه، فهو أولى من قصد الجماعة الكثيرة، وإن كان المسجد لا يتعطل بسبب تعديه عنه ومجاوزته، فالمذهب أن فضل الجماعة الكثيرة أولى.
وذكر بعض أصحابنا أن رعاية حق الجوار لذلك المسجد أولى، وذلك غير سديد؛ فإن صح النقل فيه، فسببه أنه قد يخطر قصد الجماعة الكثيرة لغيره، فيؤدي ذلك إلى تعطيل المسجد، ولعل ذلك في مسجد السكة، فأما إذا كان على طريقه، وكان أقرب من المسجد المشهود، فلا ينقدح الوجه الضعيف في هذه الصورة.
فصل
1169 - يجوز ترك الجماعة بالمعاذير، وهي تنقسم إلى أعذار عامة، وإلى أعذار خاصة.
فالعامة: كالمطر وما في معناه، وذكر بعض المصنفين في الوحل خلافاً؛ من حيث إنه يتأتى الاستعداد له. والأظهر أنه عذر؛ فإن في التخطي فيه عسراً ظاهراً، وهذا إذا لم يتفاحش. والرياحُ الشديدة أعذار بالليل، وليست أعذاراً بالنهار.
__________
(1) لم نصل إلى هذا الحديث مع طول بحثنا في مظانه المختلفة.

(2/367)


1170 - والأعذار الخاصة: كالمرض، وتمريضِ مريض يعتني به الإنسان، وفي تركه إضرار.
ومنها قيام الإنسان على مالٍ، لو تُرك، لضاع، أو خيف في تركه ضَياعُه.
وذكر بعض الأئمة من الأعذار أن يكون مديوناً معسراً، وقد لا يصدقه مستحق الدين فيحبسه، فله أن يتخلف لذلك.
ومنها أن يكون قد استوجب القصاص، ولو ظفر به مستحقه، لقتله، ولو غيّب وجهه، رجا أن يعفوَ عنه إذا سكن غليلُه، فقد جوز الشافعي التخلف بهذا.
1171 - وهذا فيه إشكال عندي؛ من حيث إن سبب التزام القصاص أكبر الكبائر بعد الردة، فكيف يستحق أن يخفف عنه، ويجوَّز له تغييب الوجه عن مستحق القصاص؟ وهذا غامض، وإن لم يتخلف عن الجماعة. ولعل السبب فيه تعرّض القصاص للشبهة؛ فإن مستحق القصاص مندوب إلى العفو في نص كتاب الله عز وجل، فلا يبعد أن يسوغ لمن عليه القصاص أن يُغيِّب وجهَه إذا كان يرتجي عفواً، ولسنا نلتزم الآن في كتاب الصلاة البحثَ عن هذه [المعاصات] (1).
وقد سمعت شيخي يذكر فصل القصاص كذلك في كتاب الجمعة، وكان يحكي عن نص الشافعي جوازَ التخلف عن الجمعة لمن عليه القصاص، كما ذكرناه، ولم أر في هذا خلافاً، والذي ذكرتُه الآن نَقَله بعض المصنفين.
ومنشأ هذا الإشكال جواز الامتناع من مستحِق الدم، فإن ثبت هذا، لم يخفَ بعده جوازُ ترك الجماعة والجمعة.
وأنا بعون الله تعالى أعود في كتاب الجمعة إلى تفصيل المعاذير، ولعلّي ثَمّ أذكر ما فيه شفاء الغليل.
1172 - ثم مما قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر مُناديه في الليلة
__________
(1) في الأصل، و (ت 1) المغاغات، ولم أجد لها معنى، والمعهود في كلام إمام الحرمين: المعوصات، والمعاصات بالصاد. فلذا اخترنا ما جاء في (ت 2) على أنها أدنى عندي من (ت 1)، ومن الأصل. وأما (ل)، فجاءت بتحريف ظاهر: "المغاصات".

(2/368)


المطيرة، والليلة ذات الريح [يقول] (1) "ألا صلوا في رحالكم" (2).
ثم ذكر الصيدلاني استحبابَ هذا النداء، وأن المؤذن يقوله عند فراغه من قوله: حي على الفلاح، وهذا مشكل؛ فإنه لم يصح فيه ثَبت عن النبي صلى الله عليه وسلم (3)، وتغيير الأذان بشيء يثبت في أثنائه من غير نقلٍ فيه صحيع بعيد عندي، وليس في ذكره بعد الأذان ما يفوّت مقصود النداء.
فصل
قال: "وإذا وجد أحدُكم الغائطَ ... إلى آخره" (4)
1173 - إذا أرهق الرجلَ حاجةُ الإنسان، وحضرت الصلاة، فينبغي أن يبدأ بقضاء حاجته؛ فإنه إن استدام ما به، امتنع عليه الخضوع، وهو مقصود الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يصلّين أحدكم وهو يدافع أخبثيه" (5)، وقال: "لا يصلين
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، وهي في الحديث المتفق عليه.
(2) حديث "ألا صلوا في رحالكم" رواه أحمد، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجة، وابن حبان، والحاكم، وأصله في الصحيحين متفق عليه من حديث ابن عمر بلفظ: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذن، إذا كانت ليلة ذات برد ومطر يقول: "ألا صلوا في الرحال". (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 137 ح 404، المسند: 5/ 24، 74، 75، أبو داود: الصلاة، باب الجمعة في اليوم المطير، ح 1059، النسائي: الإمامة، باب العذر في ترك الجماعة، ح 854، ابن ماجة: الإقامة، باب الجماعة في الليلة المطيرة، ح 936، ابن حبان: 2076، الحاكم: 1/ 293، التلخيص: ح 566).
(3) ما استشكله إمام الحرمين من قول الصيدلاني، استنكره الناس حينما قال ابن عباس لمؤذنه: " لا تقل حي على الصلاة. قل: صلوا في بيوتكم " فلما استنكر الناس ذلك، قال ابن عباس: فعله من هو خير مني، إن الجمعة عزمة، وإني كرهت أن أخرجكم فتمشون في الطين والدحْض. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 137 ح 405) فصح بهذا ثبتٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما حكاه الصيدلاني، وبذلك لا محل لاستشكال إمام الحرمين ما قاله الصيدلاني. نعم ورد النصّ في حديث ابن عمر عند مسلم، أن قول: "صلوا في رحالكم" كان في آخر النداء، وهذا ما يرجحه إمام الحرمين، حتى لا يدخل في الأذان ما ليس منه.
(4) ر. المختصر: 1/ 110.
(5) حديث: "لا يصلين أحدكم وهو يدافع الأخبثين" رواه ابن حبان بهذا اللفظ من حديث =

(2/369)


أحدكم وهو ضام وركيه"، وروي أنه قال: "لا تقبل صلاة امرىءً لا يحضر فيها قلبه". (1 ولو حضرت الصلاة وبالرَّجُل جوع مفرط، فليكسر ما به من سَوْرةِ الجوع وكَلَبه بلقم 1) وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أقيمت العِشاء وحضَر العَشاء، فابدؤوا بالعَشاء" (2) ولم يُرِد الجلوس للأطعمة وترديد الألوان، وإنما أراد تعاطي لقم، كما قدمته.
وقد بُلغت عن القاضي حسين أنه قال: "لو صلى وقد ضاق عليه الأمر في مدافعة البول والغائط، وخرج عن أن يأتي منه الخشوع أصلاً لو أراده، فلا تصح صلاته؛ فإن ما هو عليه لا يوافق هيئة المصلين، بل هو في التحقيق هازىء بنفسه مستوعَبُ الفكر بالكلية فيما هو مدفوع إليه، ومن أنكر أن المقصود من الصلاة الخشوع والاستكانة، فليس عالماً بسر الصلاة".
وهذا إن صح عنه، فهو بعيد عن التحقيق، ولكنه هجوم على أمر لم يُسبق إليه، ولست أعرف خلافاً أن الساهي اللاهي النازق الذي يلتفت من جانبيه، وإنما يقتصر على قراءة الفاتحة والتشهد، ولا يأتي بذكر غيرهما بعيد عن هيئة المصلين، ثم لم نحكم في ظاهر الأمر ببطلان صلاته.
...
__________
= عائشة، ومسلم وأبو داود عن عائشة أيضاً بلفظ: "لا صلاة بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان" (ر. مسلم: المساجد، باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد أكله في الحال، ح 560، وأبو داود: الطهارة، باب أيصلي الرجل وهو حاقن، ح 89، وانظر المسند: 6/ 43، 54، 73، وابن حبان: ح 2071، التلخيص: 2/ 32 ح 567).
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) متفق عليه من حديث أنس بلفظ: "إذا وضع العشاء، وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء"،
ومتفق عليه بمعناه أيضاً من حديث عائشة، وحديث ابن عمر. (اللؤلؤ والمرجان: 112، 113 ح 327 - 330، والتلخيص: 2/ 32 ح 568).

(2/370)


باب صلاة الإمام قائماً بقعود أو قاعداً بقيام
1174 - إذا عجز الرجل عن القيام في الصلاة صلى قاعداً، والأَوْلى به أن يستخلف في الإمامة، فإن صلى بالناس قاعداً، صح، وهم يصلون خلفه قياماً إذا كانوا قادرين.
وقال أحمد: يصلون خلف الإمام قعوداً متابعة للإمام (1). وقد صحت أخبار تقتضي ذلك؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صلى الإمام قاعداً فصلّوا قعوداً خلفه أجمعين" (2).
والشافعي رأى ذلك منسوخاً بما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر أمره، إذ تقدم وقعد، وكان يصلي قاعداً، وأبو بكر يصلي قائماً خلفه، مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم، والناس قيام (3)، فرأى الأخذ بتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر والناسَ على قيامهم مع قعود إمامهم، ثم ذكر في الباب أحكاماً من صلاة القاعد يقدر على القيام، أو القائم يعجز عن القيام، وقد استقصيت ما يتعلق بذلك في باب صفة الصلاة على أبلغ وجه وأحسنه.
1175 - ثم قال الشافعي: على الآباء والأمهات أن يعلّموا صبيانهم الصلاة. وهذا بيّن، ثم الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: "مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع،
__________
(1) ر. الإنصاف: 2/ 261، وكشاف القناع: 1/ 477.
(2) جزء من حديث متفق عليه عن عائشة وعن أبي هريرة بلفظ: "إنما جعل الإمام ليؤتم به ... وإذا صلى جالساً، فصلوا جلوساً أجمعون" (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 84 ح 233، 234).
(3) متفق عليه في قصة من حديث عائشة رضي الله عنها. (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 84 ح 235).

(2/371)


واضربوهم عليها وهم أبناء عشر" (1): قيل: أمر بضربهم على العشر؛ لأنهم يحتملون الضرب، وقيل: السبب فيه أن العشر سن احتمال البلوغ، فلا نأمن أن الصبي العرم بلغ ولا يصدقنا.
...
__________
(1) حديث: "مروا أولادكم بالصلاة، وهم أبناء سبع .. " رواه أبو داود، والحاكم من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، وهما والترمذي والدارقطني عن سبرة الجهني. (ر. أبو داود: الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة، ح 494، 495، الحاكم: 1/ 197، 201، الترمذي: أبواب الصلاة، باب ما جاء متى يؤمر الصبي بالصلاة، ح 407، الدارقطني: 1/ 230، التلخيص: 1/ 84 ح 264).

(2/372)


باب اختلاف نية الإمام والمأموم
1176 - اختلاف نية الإمام والمأموم في الصلاة لا يمنع القدوة عندنا، فيجوز أن يقتدي قاضٍ بمؤد، ومؤد بقاضٍ، ومتنفلٌ بمفترض، ومفترضٌ بمتنفل، والخلاف مشهور مع أبي حنيفة (1)، ومعتمد المذهب أن الاقتداء متابعةٌ في ظاهر الأفعال، والغرض منه أن يربط المقتدي فعلَه بفعل إمامه، حتى لا يتكاسل ولا يتجوَّز في صلاته، وإلا، فكل مصل لنفسه، والنيات ضمائر القلوب، فلا يتصوّر الاطلاع عليها؛ حتى يفرض اقتداءٌ بها.
واختلف قول الشافعي في أن إمام الجمعة لو كان متنفلاً، فهل يصح من القوم أداء الجمعة خلفه أم لا؟ وكذلك اختلف قوله في إقامة الجمعة خلف الصبي، وسيأتي ذلك مستقصىً في كتاب الجمعة إن شاء الله تعالى.
وسبب اختلاف القول في الجمعة أن الجماعة واجبة فيها، فجرى الأمر فيها على نسق آخر.
1177 - ثم نحن وإن لم نراعِ في صحة القدوة في سائر الصلوات اتفاقَ النيّات، فلا بد من رعاية كيفية الصلاة في ظاهر الأفعال، والقول في ذلك ينقسم: فإن كانت صلاة (2) الإمام في وضعها مخالفة لصلاة المأموم، مثل أن يكون الإمام في صلاة الجنازة، أو الخسوف، والمأموم في صلاة من الصلوات المعهودة، فالأصح أن الاقتداء باطلٌ؛ لأن المتابعة لا بد منها في الأفعال ظاهراً، وذلك متعذر غير ممكن، وأبعد بعض أصحابنا، فجوز الاقتداء.
فإن منعنا، فلا كلام.
__________
(1) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 89، 90، مختصر اختلاف العلماء 1/ 246 مسألة: 193.
(2) من هنا بدأ خرم في نسخة (ت 2) وهو عبارة عن فقد ورقة كاملة.

(2/373)


وإن جوّزنا، فتفريعه أن نقول: إذا اقتدى بإمام في صلاة الجنازة، فيبقى قائماً مادام إمامه في الصلاة، فإذا سلم، انفرد المقتدي بنفسه، فيركع ويجري على ترتيب صلاته، ولا يوافق الإمامَ في تكبيرات صلاة الجنازة، والأذكارِ المتخللة بينها، ولا يقدح ذلك في القدوة المعتبرة في ظاهر الأفعال؛ فإن المقتدي بالإمام في صلاة العيد لو لم يكبر التكبيرات الزائدة، وكان الإمام يأتي بها، فلا تنقطع القدوة بهذا السبب.
وإذا اقتدى في صلاة معهودة بمن يصلي صلاة الخسوف -والتفريع على الوجه الضعيف في تصحيح القدوة- فإذا ركع الإمام، ركع المقتدي، ثم الإمام يرفع رأسه، ويركع ركوعاً آخر، والمقتدي يستقر في الركوع الأول حتى يعود إليه الإمام، ثم يرتفع معه، إذا رفع رأسه من الركوع الثاني، ولا يرتفع عن الركوع الأول، ثم ينتظره واقفاً حتى يركع ركوعاً آخر، ويرتفع؛ لأنه لو فعل كان مطوّلاً ركناً قصيراً، وإذا انتظر راكعاً، فالركوع ركن طويل يقبل التطويل، ولم يصر أحد من أصحابنا إلى أنه يوافق إمامه فيركع ركوعين، وإن كان المأموم قد يأتي بأفعال لا تحسب له بسبب الاقتداء، كما سنذكر طرفاً منه الآن.
والسبب في ذلك (1) في صلاة الخسوف، أن نظم صلاة الخسوف يخالف نظم الصلاة التي تَلَبَّس المقتدي بها، وإن كان المقتدي يوافق إمامه إذا كان مسبوقاً في أفعالٍ لا تحسب؛ فتلك الأفعال موجودة في صلاة المقتدي على الجملة.
فهذا إذا كانت صلاة الإمام مخالفة في وصفها لصلاة المأموم.
1178 - فأما إذا لم تكن الصلاتان مختلفتين في الوضع، ولكن كانتا مختلفتين في عدد الركعات، نُظر: فإن كان عدد ركعات صلاة المقتدي أكثر، فالقدوة تصح بلا خلاف، كمن يقتدي في قضاء صلاة العشاء بمن يصلّي الصبح (2) فهذا صحيح، فيصلي مع الإمام ركعتين، فإذا سلم الإمام، قام المقتدي إلى بقية صلاته، وإنما صح
__________
(1) "في ذلك" أي في عدم المتابعة للإمام الذي يصلي صلاة الخسوف؛ لأن المتابعة ستقتضيه أفعالاً تخالف نظم صلاته.
(2) انتهى الخرم الذي بدأ من نحو صفحتين في نسخة (ت 2).

(2/374)


ذلك؛ لأن من سبقه إمامُه في [صلاة رباعية بركعتين، فاقتدى به في بقية صلاته، فصورة] (1) صلاته تكون بمثابة اقتداء من يصلي العشاء بمن يصلي الصبح.
1179 - فأما إذا كان عدد ركعات صلاة المأموم أقل، ففي صحة القدوة على ظاهر المذهب قولان في هذه الصورة: أحدهما - الصحة، وهو الظاهر الذي قطع به الصيدلاني، ووجهُه اعتبارُه بالصورة قبيل هذه.
فإذا توافقت الصلاتان في النظم، فينبغي ألا يؤثر تفاوت عدد الركعات، كما لو كان عدد ركعات صلاة المأموم أكثر.
والقول الثاني - أنه لا تصح القدوة بخلاف الصورة الأولى؛ فإن في الصورة الأولى لا يفارق إمامه، والإمام متمادٍ في صلاته، بل الإمام يفارقه، وهو يقوم إلى بقية صلاته، كفعل المسبوق. بخلاف صورة القولين على ما سنبين في التفريع.
فإن صححنا القدوة -على الأصح- فنفرع صوراً، فنقول: إن كان المقتدي في الصبح قضاء أم أداء، والإمام في صلاة رباعية، فيصلي ركعتين مع الإمام، ويجلس معه للتشهد، ثم الإمام يقوم إلى الثالثة، والمقتدي لا يقوم معه أصلاً، وهو بالخيار: إن شاء تحلل عن صلاته، وفارق إمامه، ولا يضره ذلك؛ لأنه معذور بمفارقته، وإن شاء بقي جالساً، وانتظر الإمام، حتى يصلي ركعتين، ويجلس، ويسلم، فيسلم معه. [و] (2) في هذا الانتظار، وفي بقاء المقتدي على حكم القدوة في سهو يقع (3)، كلامٌ [مُفصّل] (4) يأتي في صلاة الخَوْف (5) إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل ومن (ط)، وحدهما.
(2) "في هذا الانتظار ... " كلامٌ مستأنف، زادته (ل) وضوحاً؛ إذ جعلت (واواً) في أول الفقرة.
(3) "يقع" أي أثناء الانتظار من الإمام.
(4) في الأصل، وفي (ط) و (د 1) و (ت 2): متصل، وأما (ت 1) فالصفحة كلها مطموسة، ولعلّ الصواب ما قدرناه. أما (ل) ففيها: "كلام مشكل". وفي هامشها: "متصل" نسخة أخرى.
(5) في (ت 2): الخسوف. وهو تصحيف.

(2/375)


1180 - فإن قيل: هلاّ تابع الإمامَ في ركعتيه الباقيتين، ثم لا تحسبان [له] (1) كالمسبوق يدرك الإمام رافعاً رأسه عن الركوع، فإنه يتابعه في بقية الركعة، ثم لا تحسب له؟ قلنا: هذا محال؛ فإن المتابعة في ركعة تامة، غير محسوبة، محال، فأما بعض الركعة، فقد لا يحتسب.
ثم ذلك في حق المسبوق يقع في صدر الصلاة، فلا وجه إذاً لما قاله السائل.
فلو اقتدى في صلاة المغرب بمن يصلي أربع ركعات، فإذا رفع الإمام رأسه من سجود الركعة الثالثة، وقام إلى الرابعة، جلس المقتدي للتشهد، ولم يتابع إمامه أصلاً، [ويسلم] (2). ولو أراد أن ينتظر إمامَه في هذه الجلسة حتى يعود إليه ويسلم معه، لم يكن له ذلك على ظاهر المذهب، فإنه فارقه لمّا جلس للتشهد، فلا ينتظره بعدما فارقه.
وليس كما لو كان المقتدي في صلاة الصبح والإمام في الظهر، فإنه يجلس مع إمامه، ثم يقوم الإمام إلى الثالثة، وله أن ينتظره؛ لأنه ما أحدث تشهداً، بل وافق إمامه فيه، فإذا انتظره، كان في حكم المطوِّل المستديم لتشهده، وفي صلاة المغرب تشهد، حيث لم يتشهد إمامه أصلاً، فكل ذلك مفارقة للإمام.
1181 - ومما يليق بتمام التفريع أن المأموم لو كان في قضاء الظهر والإمام في صلاة المغرب، فإذا جلس الإمام عقيب الركعة الثالثة للتشهد، يجلس المقتدي معه للمتابعة، ثم لا تحتسب له هذه الجلسة، فإذا سلم إمامه، قام إلى الركعة الرابعة، ولا يبعد أن يوافق في تشهدٍ لا يحسب له، فأما ركعة تامة، فيستحيل أن يوافق فيها، ثم لا تحتسب له، كما قدمناه في تفريع الصورة المتقدمة.
__________
(1) ساقطة من الأصل، ومن (ط)، ومطموسة في (ت 2).
(2) في جميع النسخ: "ولم يسلّم" وهو سبق قلم لا شك، ينقضه الجملة بعده، ثم جاءتنا (ل) مؤكدة هذا. (أي بدون لم).

(2/376)


فصل
1182 - إذا أحس الإمام بداخل، فهل ينتظره حتى يدركه؟
أما إذا كان في القيام، فلا ينتظره، فإنه لا يتوقف إدراكه على أن يدركه قائماً؛ إذ لو أدركه راكعاً، لصار مدركاً، ولا ينتظر في السجود أحداً؛ لأن المأموم لا يصير مدركاً بإدراك السجود، فالانتظار إن كان يفيد، فإنما يفيد في الركوع. فإذا أحس الإمام في الركوع بداخل، فهل ينتظره؟
فعلى قولين: أحدهما - لا ينتظره، وهو الأصح، لأنه بانتظاره يطوّل الصلاةَ على نفسه، وعلى السابقين بسبب المسبوق وهذا لا سبيل إليه.
والقول الثاني - إنه لا بأس لو انتظر، قال الإمام (1): [وقد] (2) رأيت طردَ القولين لبعض الأئمة في الانتظار في القيام والسجود، لإفادة الداخل بركةَ الجماعة. وهذا لا أعتمده.
ثم اختلف أئمتنا في محلّ القولين في الانتظار في الركوع، فمنهم من قال: القولان في بطلان الصلاة، وهذا فيه بعد، ولكن في كلام الشافعي ما يدل عليه، كما سنذكره في كتاب صلاة الخوف إذا زاد الإمامُ انتظاراً في الصلاة.
والذي يمكن أن يوجّه البطلان به، أن الذي ينتظر يُعلِّق صلاتَه بغيره، ولا يجوز أن تعلق الصلاةُ إلا بإمامٍ يُقتدى به، وسنذكر في أحكام القدوة والإمامة أن من اقتدى بمقتدٍ، فصلاته باطلة؛ لأنه علق بمن لا يصلح للإمامة، وإذا كانت الصلاة تبطل بهذا، فلا يبعد أن تبطل إذا عُلقت بانتظار من ليس في الصلاة.
ومن أئمتنا من قال: القولان في الكراهية. وهذا هو الظاهر، فإن توجيه البطلان تكلف.
__________
(1) الإمام هنا يعني به والده الشيخ أبا محمد.
(2) في الأصل: ولو.

(2/377)


1183 - ثم إن قلنا: إن الانتظار لا يُبطل ولا يكره، فقد تردد جواب شيخي في أنه هل يُستحب إذا انتهى التفريع إلى هذا؟ والوجه عندي القطع بأنه لا يستحب، بل يعارض توقِّي التطويلَ على الأولين السعيُ في تحصيل ركعةٍ في الجماعة للداخل، فيقتضي تعارضهما جوازَ الانتظار من غير كراهية.
ثم ذكر الصيدلاني: "أن الاختلاف فيه إذا كان لا يطوّل على السابقين، وهذا موضع التأمل؛ فإنه لو لم يطوّل الركوعَ الذي هو فيه، لم يحصل للانتظار تصوّر، حتى يفرض التردد فيه، وإن طول الركوع، وزاد على المعتاد فيه، فقد حصل التطويل".
فالذي أراه في ذلك أنه إذا طوّل ركوعاً واحداً تطويلاً لو فُضَّ (1) ووزعِّ على جميع الصلاة، لما ظهر في كل الصلاة أثرٌ في التطويل محسوس، ولكن كان يظهر في الركن الذي فرض فيه الانتظار، فهذا موضع القولين.
وإن كان التطويل بحيث يظهر على كل الصلاة. ظهوراً محسوساً، فهذا يمتنع عند الصيدلاني قولاً واحداً، وهذا حسن بالغ، ولا وجه إلا ما ذكره.
1184 - والذي يليق بتحقيق هذا: أنا إذا كنا نقول: الانتظار لا يبطل الصلاة على أحد القولين، ويُبطل على القول الثاني، فقطعُنا القولَ بمنع التطويل في الصورة التي ذكرناها لا يوجب قطعاً بالبطلان؛ فإن سبب القطع بالمنع ألا يُطَوِّل على السابقين، وهذا أدبٌ، وليس من مبطلات الصلاة، والذي يقتضيه ما ذكره أنه لو انتظر مرة، أو مرتين، فقد يخرج على القولين إذا كان لا يظهر أثر التطويل في جميع الصلاة، وإن كان ينتظر في كل ركعة، فقد يجر ذلك القطعَ بالمنع، لإفضائه إلى التطويل إذا جمع، ونزّل ذلك منزلة الإفراط في تطويل ركوع واحد.
__________
(1) فُض: أي قسّم.

(2/378)


فصل
فيمن يصح الاقتداء به
1185 - القياس الظاهر يقتضي أن يقال: من تصح صلاتُه في نفسه، يصح اقتداء الغير به، ولا يقع الاكتفاء بأن يكون المصلِّي مأموراً بصلاته؛ فإنه إذا كان يقضيها، فلا يصح اقتداء من تصح صلاته من غير أمر بالقضاء به، وهذا القياس يجري مطرداً على مذهب الشافعي إلا في موضعين، فنذكر طرد القياس أولاً بالأمثلة، فنقول: يصح اقتداء المتوضىء بالمتيمم الذي لا يقضي الصلاة، ويجوز اقتداء الكاسي بالعاري، إذا كان لا يجب القضاء على العاري، فإن لم يجد المرء ماءً ولا تراباً، وقلنا: إنه يصلي في الوقت ويقضي، فلا يصح اقتداء المتوضىء به، ولا اقتداء المتيمم الذي لا يقضي.
1186 - فأما ما هو مستثنى عن القياس الذي طردناه، فشخصان أحدهما - المرأة. لا يجوز اقتداء الرجل بها أصلاً، وإن كانت صلاتها صحيحةً، وهذا تعليله مشكل، ولكنه متفق عليه، لا نعرف فيه خلافاً، ولو قيل: الإمام يحتاج إلى تبرج وبروز، ولا يليق بمنصب النساء، لم يكن بعيداً، ولكن لا يقتدي الرجلُ بزوجته، وبأخته في داره، فلعل المرعيَّ في الإمامة كمال، وليست المرأة أهلاً له.
ولا خلاف أن المرأة يجوز أن تكون إمامةً، لامرأة أو نسوة، فهي إذاً على الجملة من أهل الإمامة، وإنما يمتنع على الرجال الاقتداء بالنساء.
ويمتنع اقتداء الرجل بالخنثى المشكل، ولو اقتدى، لزمه القضاء، ولو لم يتفق منه القضاء حتى بان الخنثى رجلاً، ففي وجوب القضاء قولان: أحدهما - لا يجب؛ لأنه قد تبين أنه اقتدى برجل.
والثاني - يجب؛ فإنه فى عقد صلاته خالف الأمر، وقد ألزمناه القضاء ظاهراً لذلك، فلا ينقض ما مضى؛ لأن التحرم والعقد كان على ظاهر البطلان.
والخنثى لا يقتدي بامرأة؛ لجواز أن يكون رجلاً، فلو اقتدى بامرأة، فألزمناه

(2/379)


القضاء، فلم يقض حتى تبين أنه امرأة، ففي وجوب القضاء القولان المقدمان، كما ذكرناه.
فهذا أحد ما استثنيناه.
1187 - والثاني - اقتداء القارىء بالأمي، فنصوّر الأمي ونصفه أولاً، ثم نذكر ترتيب المذاهب. والمعنيُّ بالأمي الذي لا يحسن قراءة الفاتحة، أو كان لا يطاوعه لسانُه على القراءة السديدة، بل كان يُحيل معنى كلمة منها، وإن كان قادراً على التعلم مقصراً فيه، فلا تصح صلاتُه في نفسه، وليس ذلك صورة مسألتنا، وإن كان لا ينطلق لسانه بالصواب، فصلاته في نفسه صحيحة، وهو الأمي الذي نريد تفصيل الاقتداء به.
وإن كان يحسن الفاتحة، وكان يلحن في غيرها، فقد قال الأئمة: لا يضرُّ لحنُه في غير الفاتحة، إذا كان عاجزاً عن تسديد اللسان؛ فإنّ صلاته صحيحة، والمقدار الذي هو ركن القراءة هو فيه ليس بأمي.
وفي هذا نظر؛ من جهة أنه لو قيل: ليس له في نفسه أن يقرأ بعد الفاتحة ما يلحن هو فيه؛ فإن تلك القراءة ليست واجبة، والتوقي من الكلام واجب، والكلمة التي يلحنها ليست من القرآن، فكأنه يتكلم في صلاته، لما (1) كان ذلك بعيداً عن القياس، فلينظر الناظر في ذلك.
وإن كان يردد حرفاً، ثم ينطلق كالذي يردد التاء ثم يجري -وهو التمتام- فليس بأمي، وكذلك الفأفاء، وهو الذي يردد الفاء، فإنه إذا كان يأتي بحرف، وهو معذور فيما يزيد، كالذي يتكلم ناسياً، فالقراءة صحيحة، والزائد محطوط عنه.
فإذا تُصوّر الأمي، فالذي نص عليه الشافعي في الجديد أنه لا يصح اقتداء القارىء به، ونص في القديم على جواز الاقتداء به.
ونقل بعض الأئمة قولاً ثالثاً: وهو أنه إن كانت الصلاة سرية، جاز الاقتداء به، وإن كانت جهرية، لم يجز الاقتداء به مطلقاً.
__________
(1) قوله: "لما كان ذلك بعيداً عن القياس" هو جواب (لو) في قوله: "لو قيل ... ".

(2/380)


1188 - احتج للقديم بأن صلاته صحيحة، وهو من أهل التبرج (1)، احترازاً عن المرأة، فأشبه القارىء، واحتج المزني لما اختار هذا القول بأن اقتداء القائم بالقاعد العاجز عن القيام صحيح، وكذلك اقتداؤه بالمريض المومىء، وكذلك اقتداء المتوضىء بالمتيمم، فإذا كانت القدوة تصح إذا صحت صلاةُ الإمام، سواء كان نقْصُ صلاته راجعاً إلى ركنٍ أو شرط، فليكن العجز عن القراءة السديدة بهذه المثابة، ولا شك في [اتجاه] (2) القياس في نُصرة هذا القول.
ثم لا خلاف أنه يجوز اقتداء الأمي بالأمي.
ومن قال بالجديد، فليس ينقدح لتوجيهه عندي وجه إلا أن الإمام يتحمل على الجملة القراءة عن المأموم؛ فإنه يتحمل عنه القراءة إذا أدركه المسبوق في ركوعه قولاً واحداً، ولا يجري ذلك في شيء من الأركان، وهذا لا يعارضه سقوط المكث في القيام عن المسبوق؛ فإن القيام تبع للقراءة من جهة أنه محلها، فإذا سقطت، سقط المحل، فإذا وضح ذلك في القراءة، فينبغي أن يكون الإمام على كمالٍ في هذا الركن، حتى يصلح للإمامة لكاملٍ فيه (3).
وتحقيق ذلك أنا نقول: كأن قراءة الإمام منقولة إلى المقتدي، ولو قرأ المقتدي ما يقرؤه الأمي، وهو في نفسه قارىء، لم تصح صلاته، ويخرّج عليه جواز اقتداء الأمي بالأمي.
وأما وجه القول الثالث (4)، فلا يتبين إلا بتخريج ذلك القول على القول الذي حكيناه في أن القراءة تسقط عن المقتدي في الصلاة الجهرية، ولا تسقط في السرية، فحيث تسقط كأنها وقعت محتملة عن المأموم، فلا بد من اشتراط كمال من يتحمل، وفي السرية تجب القراءة على المقتدي، فلا أثر لعجز الإمام، كما ذكره المزني من
__________
(1) "من أهل التبرج": أي من أهل الظهور والبروز، وقد سبق قوله قبلاً: "إن الإمامة تحتاج إلى تبرج وبروز، ولا يليق هذا بمنصب النساء".
(2) في الأصل: اتحاد.
(3) أي ينبغي أن يكون كاملاً في هذا الركن حتى يصلح لإمامة من هو كامل فيه.
(4) الوجه الثالث هو جواز الاقتداء بالأمي في الصلاة السرّية دون الجهرية.

(2/381)


التعلق باقتداء القائم بالعاجز عن القيام.
فهذا بيان الأقوال في الاقتداء.
1189 - ثم إن قلنا: يجوز الاقتداء بالأمي، فلا كلام.
ولو لم يجز الاقتداء به، فلو كان الرجل يلحن في النصف الأول من الفاتحة، وكان المقتدي يلحن في النصف الأخير منها، فلا يجوز الاقتداء به، وإن كانا أميين، لأن المقتدي في هذه الصورة ليس بأمي في النصف الأول، وإمامه أمّي فيه، فإذا اقتدى به، فقد تحقق اقتداء قارىء في النصف الأول بأمي فيه، ولو فرض اقتداء الإمام في هذه الصورة بمن قدرناه مقتدياً، لم يجز أيضاً لمثل ما ذكرناه، فإذن هما شخصان، لا يجوز اقتداء أحدهما بالثاني. وهذه من صور المعاياة (1) والمغالطة في السؤال، فإن السائل يعرضها ويقول: أيهما أولى بالإمامة؟ والجواب عنها، أن واحداً منهما لا يجوز أن يكون إماماً لصاحبه، لما قدمنا على القول الذي نفرع عليه.
1190 - ومما نفرعه على هذا القول: أن من اقتدى بإمام في صلاة سرية، والمقتدي قارىء، فقد أجمع الأئمة على أنه لا يجب على المقتدي البحثُ عن قراءة إمامه، فإن الغالب أنه قارىء، فيجوز حمل الأمر عليه، كما يجوز حمل الأمر على أنه متطهر، وإن كنا نشترط في القدوة صحة طهارة الإمام. ثم يخرج من ذلك أنه لو بحث، فتبين أنه لم يكن قارئاً، فهو في التفريع كما لو تبين أن الإمام كان جنباً، ولو ظهر ذلك، لم يجب على المأموم إعادة الصلاة.
ولو كانت الصلاة جهرية، فتبين فيها كونَه أُميّاً أو قارئاً؛ فإنه يقع الحكم على حسب ما يظهر. ولو كان يُسر بالقراءة في صلاة جهرية، فقد ذهب كثير من أئمتنا إلى أنه يجب الآن بحثه عن حاله؛ فإن إسراره والصلاة جهرية يُخيل مكاتمة نقصه في القراءة.
وقال آخرون: لا يجب البحث في هذه الصورة أيضاً، فإن الجهر الذي تركه هيئة
__________
(1) المعاياة: يقال: عايا فلانٌ صاحبَه: ألقى عليه كلاماً لا يهتدَى وجهه. فالمعاياة هي: الإلغاز، والمعاجزة. (المعجم).

(2/382)


من هيئات الصلاة، [فلا أثر له، وللإسرار محمل آخر سوى جهله بالقراءة، وهو أنه نسي أن الصلاة] (1) جهرية؛ فأسر بها، فهذا تفريع القول.
فرع:
1191 - في [بعض] (2) الأئمة: ما كان يقطع به شيخي وهو مذهب نَقَلَةِ المذهب، أن اقتداء الطاهرة بالمستحاضة صحيح، طرداً للقياس المقدم في رعاية الصلاة (3)، وصلاة المستحاضة صحيحة.
وذكر بعض أئمة العراق وجهاً، أنه لا يجوز الاقتداء بها؛ فإن في صلاتها خللاً غيرَ مجبور ببدل، وليست كالمتيمم يقتدي به المتوضىء؛ فإن الإمام، وإن لم يتوضأ، فقد أتى بما هو بدل عن الوضوء. وهو ركيك لا أصل له.
فرع:
1192 - من لم يجد ماء ولا تراباً هل يقتدي بمن هو في مثل حاله، ثم يقضيان جميعاًً؟ كان شيخي يتردد في هذه الصورة، من جهة أن صلاة الإمام إن كانت مقضية، فصلاة المأموم كذلك، فيشبه بما لو صحت صلاتهما جميعاًً. ويمكن أن يقال: لا يصح الاقتداء نظراً إلى فساد صلاة الإمام، والعلم عند الله.
فهذا مجموع ما يمنع القدوة وما لا يمنعها، وبيان طرد القياس مع الاستثناء منه.
فصل
1193 - إذا اجتمعت نسوة في دار فحسن عندنا أن تصلي بهن واحدة منهن؛ فإن اقتداء النسوة بالمرأة جائز، وإذا لم يبرزن في مسجد، فليس في عقدهن الجماعة ما يناقض الستر المأمور به.
ثم الجماعة على الصورة التي ذكرناها مسنونة لهن عندنا، خلافاً لأبي حنيفة (4)،
__________
(1) ما بين المعقفين سقط من الأصل، ومن (ط).
(2) في الأصل و (ط) و (ت 1): نقض. وفي (ت 2): نقض الإمامة. والمثبت من: (د 1). ثم الكلام على حذف مضاف، والتقدير: فرعٌ في غريب بعض الأئمة.
(3) "رعاية الصلاة": أي اعتبار صلاة الإمام، فإن صحت، صحت صلاة المأموم.
(4) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 380، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 305 مسألة: 263.

(2/383)


وقد روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر أم ورقة حتى تصلي بالنسوة في دارها" (1). وروي أن عائشة وأمَّ سلمة أمَّتا بنسوة ووقفتا وسطهن (2). وهذا هو المستحب للتي تكون إمامة؛ فإنها لو تنصلت عن الصف كدأب الرجل الإمام، كان ذلك مناقضاً للستر المأمور به.
1194 - فإن قيل: هلا خرجتم استحباب الجماعة على ما قدمتموه في باب الأذان من الاختلاف في أذانهن وإقامتهن؟ قلنا: في الأذان إظهارٌ وتركٌ للستر، وليس في إقامة الجماعة ذلك، ولو خفضت المرأة صوتها، كان ذلك تركاً لمقصود الأذان، فقد بان مفارقة الأذان والإقامة للإمامة، ولما كانت الإقامة لا يشترط فيها رفع الصوت، كان إثباتها في [حقهن] (3) أولى في ترتيب المذهب من الأذان.
1195 - والنسوة لو شهدن المسجد، واقتدين بالرجال، فإن كنّ شوابّ، فلا يستحب ذلك لهن، والستر ولزوم البيت أولى بهن، ولو حضرن، صح اقتداؤهن، ثم لا يشترط في تصحيح الاقتداء [لهن] (4) أن يقتدين وينوي الإمام إمامتهن. وشرط أبو حنيفة (5) في صحة قدوتهن ذلك، وهذا غير صحيح؛ فإنه يجوز عندنا للرجل أن يقتدي بالمنفرد في صلاته، وإن لم ينو إمامة أحد.
__________
(1) حديث أم ورقة رواه أبو داود، والدارقطني، والحاكم، والبيهقي (ر. التلخيص: 2/ 27 ح 556، أبو داود: الصلاة، باب إمامة النساء، ح 591، 592، والدارقطني: 1/ 403، والحاكم: 1/ 203، والبيهقي: 3/ 130).
(2) حديث إمامة عائشة رواه عبد الرزاق في مصنفه، والدارقطني، والبيهقي، ومن طريق آخر ابن أبي شيبة والحاكم.
وأما حديث إمامة أم سلمة، فقد رواه الشافعي، وابن أبي شيبة، وعبد الرزاق (ر. التلخيص: 2/ 42 ح 597، 598، عبد الرزاق: ح 5086، ابن أبي شيبة: 2/ 89، ترتيب مسند الشافعي 1/ 107 ح 315، والدارقطني: 1/ 405، والحاكم: 1/ 203، والبيهقي: 3/ 131).
(3) في الأصل، و (ط)، و (ت 1): خفضهن. والمثبت من: (ت 2) و (د 1).
(4) مزيدة من: (د 1).
(5) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 387، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 266 مسألة: 217.

(2/384)


والعجوز إذا خرجت إلى جمع الرجال، ووقفت في أخريات المسجد (1)، واقتدت، صح ذلك منها، وهل يستحب [ذلك أو يكره؟ أما الكراهية، فلسنا نكره، خلافاً لأبي حنيفة، فإنه كره] (2) ذلك [إلا] (3) في صلاة الفجر والعشاء، ونحن نعتمد ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كره للنساء الخروج للجماعة إلا أن تكون عجوزاً تخرج في مِنْقَليها" (4).، والمنقل الخف الخلَق، أراد صلى الله عليه وسلم خروجها للعبادة مبتَذِلة (5)، فإنها لو تشبهت بالشوابّ، فلا شك أنه يكره ذلك لها.
ثم إذا نفينا الكراهية، فالذي رأيته للأئمة أنا لا نرجح خروجَها على لزومها بيتها؛ فإنه يتعارض في حقها رعايةُ الستر وإقامةُ الجماعة مع الرجال، فيخرج من تعارض الأمرين نفي الكراهية في الحضور واستواء الأمرين.
ولو حضرت شابّة، ووقفت بجنب الإمام واقتدت، فقد أساءت من وجوه، ولكن تصح صلاتها، وصلاةُ الإمام، خلافاً لأبي حنيفة (6)، وخبط مذهبه معروف في ذلك.
فصل
1196 - ذكر الشافعي أن الأعمى يجوز أن يكون إماماً للبصير، وهذا خارج على القياس الممهد، وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف للإمامة في بعض غزواته ابن أم مكتوم في المسجد (7)، ثم مذهب الشافعي أنا لا نجعل البصير أولى من
__________
(1) في (ت 2): الناس.
(2) زيادة من (ت 1)، و (ت 2).
(3) زيادة من المحقق، بناء على المعروف من مذهب أبي حنيفة (ر. مختصر اختلاف العلماء: 1/ 231 مسألة 171، والاختيار: 1/ 59، وحاشية ابن عابدين: 1/ 380).
(4) حديث "أنه صلى الله عليه وسلم كره للنساء الخروج للجماعة ... " قال الحافظ: "لا أصل له" ... لكن رواه البيهقي موقوفاً عن ابن مسعود رضي الله عنه (ر. السنن الكبرى: 3/ 131، والتلخيص: 2/ 27 ح 557).
(5) اسم فاعل من ابتذل: لبس المِبْذَل. والمبذل: الثوب الخَلَق. (المعجم).
(6) ر. رؤوس المسائل للزمخشري: 149 مسألة: 56، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 266 مسألة: 216، البدائع: 1/ 431، تحفة الفقهاء: 1/ 360، الهداية: 1/ 57.
(7) حديث استخلاف ابن أم مكتوم. رواه أبو داود عن أنس، ورواه أحمد، ورواه ابن حبان في =

(2/385)


الضرير، ولا الضرير أولى من البصير؛ [إذ في كل واحد منهما أمر يعارض ما في صاحبه، أما البصير] (1) فقد يفرق فكرَه في الصلاة بصرُه، ولكنه مستقل بنفسه في استقباله، والضرير في الأمرين على مناقضته، فاقتضى ذلك أن يستويا.
فصل
1197 - يجوز الاقتداء بمن لم ينو الإمامة وكان منفرداً؛ فإن معنى الاقتداء أن يربط الإنسان صلاته بصلاة غيره، وهذا المعنى يحصل وإن كان الإمام منفرداً؛ وقد روي: "أن عمر كان يدخل فيصادف أبا بكر في صلاة فيقتدي به" وكذلك يفعل أبو بكر إذا دخل فصادف عمر في الصلاة (2).
1198 - وأجمع أئمتنا أن من اقتدى بمأموم لم يجز؛ وتبطل الصلاة، والسبب فيه أن منصب الإمامة يقتضي الاستقلال وكونَ [الإمام متبوعاً قائماً بنفسه، وليس المقتدي كذلك، والذي يحقق ذلك أن سهو] (3) الإمام يلحق المأموم، وسهو المأموم يحمله الإمام، والمقتدي سهوه محمول، ويلحقه سهو إمامه، وهو يُخرجه عن حكم الإمامة، فإن قيل: أليس أبو بكر كان مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته، والناس كانوا مقتدين بأبي بكر؟ قلنا: إنما كانوا مقتدين برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً في المحراب، وكان أبو بكر كالمترجم الذي يبيّن للقوم أحوالَ الإمام وانتقالاته في صلاته.
1199 - ولو اقتدى برجل هو شاكٌ لا يدري أن إمامه مقتد بغيره أم لا، فلا تصح
__________
= صحيحه، وأبو يعلى والطبراني عن عائشة، والطبراني أيضاً عن ابن عباس (ر. أبو داود: الصلاة، باب إمامة الأعمى، ح 595، والمسند: 3/ 192، وابن حبان: 2131، 2132 وأبو يعلى: 7/ 434 ح 4456، التلخيص: 2/ 34 ح 575).
(1) زيادة من (ت 1) و (ت 2) و (د 1).
(2) حديث "أن عمر كان يصادف أبا بكر فيصلي وراءه ... " قال الحافظ: "لم أجده" (التلخيص: 2/ 43 ح 602).
(3) سقط من الأصل، ومن (ط) وحدهما.

(2/386)


قدوته مع هذا التردد، كما لو اقتدى بخنثى مشكل. ولو استمر على القدوة ثم بان أن إمامه لم يكن مقتدياً، هل يجب على المقتدي قضاء الصلاة والحالة هذه؟ فعلى قولين كالقولين فيه إذا اقتدى بخنثى، ثم لم يقض الصلاة حتى يتبين أن الخنثى رجل.
1200 - ولو كان يصلي مع رجل وأشكل على كل واحد منهما حالُه، فلم يدر أنه مقتدٍ بصاحبه أو إمامٍ له، فلا تصح صلاة واحدٍ منهما على هذا التردد؛ فإنه لا يدري أيتابع أم يستقل؟ ولو كان يظن كل واحد منهما أنه إمام صاحبه، فتصح صلاته؛ فإنه يمضي في صلاته باختياره ولا ينتظر حكم المتابعة.
1201 - ومما يليق بما نحن فيه أن من اقتدى بإمام، فالأولى ألا يعيّنَه في نيته، بل ينوي الاقتداءَ بالإمام الحاضر، وليس عليه أن يعرفَه بلا شك فيه؛ فإن نوى الاقتداء بزيد، فإن أصاب، فذاك، وإن أخطأ، فالذي ذكره الأئمة أنه لا يصح اقتداؤه، ولا تصح صلاته، وعدوا هذا مما لا يجب التعيين فيه.
ولو عينه المرء، فعليه خطر في الخطأ، فإن أخطأ، لم تصح صلاته، وكذلك لو نوى الصلاة على زيد، ثم تبين أن الميت غيرُ من عينه، فلا تصح صلاته، وهذا فيه إشكال من جهة أن من ربط نيته بمن حضر، واعتقده زيداً، فإذا المعيَّنُ غيرُه، فقد اجتمع في نيته تعيين وخطأ في المعيَّن، فيظهر أن يقال: المحكَّم (1) تعيينه وإشارته إلى شخصه، ويسقط أثر خطئه في اسمه.
وقد يعنّ للناظر أن يخرّج هذا على مسألةٍ في البيع، وهي أن يقول الرجل: بعتك هذا الفرس، وأشار إلى حمار، ففي صحة البيع وجهان مشهوران سيأتي ذكرهما، فربْطُ الاقتداء بمن في المحراب مع اعتقاده أنه زيد بهذه المثابة.
وإن تكلّف متكلّف تصويرَ عقد الاقتداء بزيد مطلقاً من غير ربط بمن في المحراب، فهذا في تصويره عُسْر مع العلم بأنه يعني من خضه، ومن سيركع بركوعه ويسجد بسجوده، والعلم عند الله عز وجل.
__________
(1) في (ت 2): الحكم.

(2/387)


فصل
يشتمل على ذكر من يقتدي بعد الانفراد، وينفرد بعد الاقتداء.
1202 - فلتقع البداية بمن يعقد الصلاة على حكم الانفراد، ثم يتفق عقد جماعة، فيريد ربطَ الصلاة بالقدوة، وقد اختلف نصوص الشافعي (2 في ذلك: والذي نقله الصيدلاني عن الجديد منعُ ذلك، وهو مذهب أبي حنيفة (1)، وقال الشافعي 2) في الكبير: "قد كان في ابتداء الإسلام، ثم نسخ، وذكر فيه قصة معاذ، وهي أن المسبوق كان يحضر ويسائل من في الصلاة عما فاته، فيشيرون بالأصابع إلى أعداد الركعات التي فاتت، فكان يبتدر إلى ما فاته، ثم يصلي بصلاة الإمام فيما يصادفه من بقية صلاته، فدخل معاذ يوماً وكان مسبوقاً، فاقتدى، وصلّى ما وجد، ثم قام لمّا سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضى ما فاته، ثم لما تحلل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاته قال: إن معاذاً سن لكم سنة حسنة فاتبعوها" (3).
وحكى قولاً في القديم: إن الاقتداء بعد حصول العقد على حكم الانفراد جائز، ووجهه أن القدوة معناها ربط الصلاة بصلاة الغير، وليس ذلك من أركان الصلاة قط؛ فإنه ليس تغييراً لأمر يتعلق بركن أو شرط.
1203 - ثم الظاهر من مذهب الشافعي في الجديد جواز الاستخلاف في الصلاة، على ما سنذكر ذلك مشروحاً إن شاء الله تعالى في صلاة الجمعة، وهو في الحقيقة ابتداء اقتداء، لم يكن حالة العقد؛ فإن القوم يعقدون صلاتهم بزيد، ثم يربطونها في الأثناء بعمرو المستخلَف، وسيأتي شرح الاستخلاف في موضعه.
ثم يشهد لجواز الاقتداء أثناء الصلاة خبران، أحدهما - ما روي: "أن رسول الله
__________
(1) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 390، 401.
(2) سقط من (ت 2) وحدها.
(3) حديث قصة معاذ .. رواه أحمد في مسنده، ورواه أبو داود (ر. المسند: 5/ 246، وأبو داود: الصلاة، باب كيف الأذان، ح 506، والتلخيص: 2/ 42 ح 596).

(2/388)


صلى الله عليه وسلم أمَّ بأصحابه (1)، ثم تذكر في أثناء الصلاة أنه جنب. فأشار إلى أصحابه: أي كما أنتم قفوا، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه يقطر فتحرم، واستمر الأصحاب على حكم الاقتداء" (2) ومعلوم أنهم أنشؤوا [اقتداء جديداً، فإن] (3) اقتداءهم الأول لم يكن صحيحاً، والثاني - أن أبا بكر في صلاة المرض اقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم في أثناء الصلاة، كما مضت القصة.
1204 - ثم إذا ظهر القولان، فقد اختلف أئمتنا في محلّهما، فمنهم من قال: إنهما يجريان في الركعة الأولى، فإذا عقد المنفرد الصلاةَ، ثم اتفقت جماعة وهو في الركعة الأولى، فقولان، فأما إذا صلى ركعة على الانفراد، ثم أراد بعدها الاقتداء، فلا يجوز؛ لأنه يختلف ترتيب الصلاة ويتفاوت.
ومنهم من طرد القولين في الصورتين.
وإذا جمع الجامع الكلام في ذلك، كان الخارج منه ثلاثة أقوال، أحدها - المنع، والثاني - الجواز، والثالث - الفصل بين أن يقع في الركعة الأولى قبل الركوع أو بعده.
فهذا كلامٌ في أحد مقصودي الفصل.
1205 - فأما إذا كان مقتدياً، ثم أراد الانفراد ببقية الصلاة؛ حتى يسبق الإمام، فقد ترددت النصوص فيه، وحاصل المذهب فيه ثلاثة أقوال: أحدها - المنع؛ فإنه التزم الاقتداء، وانعقدت الصلاة على حكم المتابعة، فلزم الوفاء.
والقول الثاني - له الانفراد؛ فإن إقامة الجماعة كانت مسنونة، [فإذا خاض فيها، لم تلزم] (4) بالشروع؛ فإن من مذهبنا أن السنن لا تلزم بالشروع.
والقول الثالث - أنه يفصل بين المعذور وغيره، ويشهد لهذا قصة معاذ: "وقراءتُه
__________
(1) كذا: (بالباء) في جميع النسخ، والحديث بمعناه، لا بلفظه، كما يتضح من سياقته.
(2) رواه أبو داود، والشافعي من حديث أبي بكرة، وصححه ابن حبان والبيهقي (ر. أبو داود: الطهارة، باب في الجنب يصلي بالقوم وهو ناس، ح 233، 234، وابن حبان: 6/ 5 ح 2235، الأم: 1/ 167، التلخيص: 2/ 33 ح 571).
(3) سقط من الأصل. ومن (ط) وحدهما.
(4) في الأصل و (ط): "فلا اختصاص فيها ثم تلزم".

(2/389)


سورةَ البقرة في صلاة العشاء، وكان اقتدى به رجل كان يعمل طول نهاره، وكان عقل بعيراً كان معه، فانحلّ عقاله، فقام فقطع القدوة، وتجوّز في صلاته، وخرج، فرفعت قصته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكر على معاذ تطويلَه، ولم ينكر على من قطع القدوة، ولم يأمره بالقضاء" (1).
ثم الأعذار التي تقطع القدوة لأجلها كثيرة، ولا ينتهي إلى حد الضرورة عندي، وأقرب معتبر فيها أن يقال: كل عذر يجوز ترك الجماعة بسببه، كما سبق في باب الجماعة، وسنعود في كتاب الجمعة، فهو المعتبر في الذي نحن فيه أو ما في معناه.
فصل
في المسبوق: إذا أدرك الإمام وقد فاته من الصلاة شيء.
1206 - فنقول: إذا أدرك الإمامَ راكعاً، فكبر في قيامه وركع، وصادف الإمام راكعاً، فقد أدرك الركعة، ولو كان الإمام هاماً بالارتفاع، متحركاً في جهته، فأدرك المأمومُ -وهو بعدُ غيرُ مترقٍّ عن أقل حد الركوع- فقد أدرك الركعة.
ولو لم يدر هل كان جاوز حد الراكعين أم لا، فالأصل بقاؤه في حد الركوع إلى أن يزول عنه قطعاً. ولكن الأصل أنه لم يصر مدركاً للركوع، فهو على تردد من أمره كما ترى.
وقد ألحق أئمتنا هذا بتقابل الأصلين، فذكروا وجهين، ولعلنا نجمع في ضبط ذلك قولاً بالغاً - إن شاء الله تعالى.
1207 - ولو أدرك الإمامَ بعد الارتفاع عن حد الركوع، فلا يكون مدركاً للركعة أصلاً، ويتابع الإمامَ فيما يصادفه فيه، ولا يعتد به له من أصل صلاته.
__________
(1) قصة تطويل معاذ أصلها في الصحيحين، متفق عليها من حديث جابر (اللؤلؤ والمرجان: 1/ 96 ح 266، وقد رويت على أوجه مختلفة (ر. التلخيص: 2/ 39 ح 591).

(2/390)


1208 - ولو أدرك الإمامَ قائماً بعدُ، فإن أمكنه أن يتمم قراءة الفاتحة، ثم يدرك ركوعَ الإمام، فهو المراد، ولو علم أنه لو تمم الفاتحة، لفاته الركوع، فماذا يفعل؟ فيه خلاف معروف، فذهب بعض الأئمة إلى أنه يقطع القراءة، ويبادر الركوع. وسقوطُ بعض القراءة عنده، ليس بأبعد من سقوط تمام القراءة إذا صادف الإمام راكعاً، لمّا كبر وتحرم بالصلاة.
ومنهم من يقول: عليه أن يتمم القراءة ولا يقطعها؛ فإنه خاض فيها، فيلزمه إتمامها.
وذكر الشيخ أبو زيد في ذلك تفصيلاً حسناً، فقال: إن تحرم بالصلاة وبادر بالقراءة ولم يقدّم عليها دعاء الاستفتاح، ولا التعوذ، ولكنه لمّا تفطَّن لضيق الوقت، اشتغل بالأهم، فإذا ركع الإمام، فهو معذور الآن، فنجعله مدركاً، وإن قدم على القراءة الذكرَ المسنون والتعوذَ، فقد تعرض لخطر الفوات.
1209 - ووجه هذا التفصيل بيّن، ولكنا نوضّحه، ونوضح الوجهين المرسَلَيْن قبله بالتفريع.
فأما من لم يفصل فيقول: ليس على المسبوق مبادرة القراءة بل يجري على هيئته وسجيته، والدليل عليه أنه لو قدر على أن يتسرع قبل الشروع، فلم يفعل، لم يختلف حكم إدراكه، فليكن الأمر كذلك بعد التحرم.
والأصح ما ذكره أبو زيد من التفصيل؛ فإنه بعد الشروع صار ملتزماً لحكم القدوة، مطالباً بموجبها، فليجر على الأصوب فيما نرسم له. ولا شك، أن الاشتغال بإقامة الأركان أولى، ومن لم يتحرم بالصلاة فهو على خِيَرته في أمر الجماعة.
فهذا بيان الاختلاف في هذه الجهة.
ولا ينبغي أن يُعتقدَ خلافٌ فيه، إذا تحرّم وسبَّح، وتعوذ، ثم سكت سكوتاً طويلاً، ولم يشتغل بالفاتحة أنه يكون مقصراً، وإنما الخلاف المذكور فيه إذا اشتغل قبل القراءة بالسنن المشروعة في الصلاة، ثم إن أمرناه بالركوع، فاستتم القراءة، وبادر، فأدرك الإمامَ راكعاً، فهو المطلب، وهو مدرِكٌ.

(2/391)


وإذا رفع الإمام رأسه من الركوع، فلا شك أنا لا نجعله مدركاً للركعة، ولكن هل تبطل صلاة المسبوق بمخالفته إياه وترك ما رسم له؟ سنذكر على إثر هذا تفصيلَ المذهب في تقدم الإمام على المأموم بركن أو ركنين.
فإن سبقه الإمامُ بركنين في هذه الصورة التي نحن فيها، فتبطل صلاة المأموم، وإن سبقه الإمام بالركوع، ولكنه أدركه عند اعتداله -ونحن قد نقول: إن هذا المقدارَ من التقدم لا يضر (1 في أثناء الصلاة 1) في حق غير المسبوق- فهاهنا إذا خالف المسبوقُ، فسبقه الإمام إلى الاعتدال، أما الركعة، فقد فاتت، وفي بطلان الصلاة وجهان: أحدهما - لا تبطل؛ فإن هذا المقدارَ من التقدم غيرُ ضائر.
والثاني - أن الصلاة تبطل؛ فإنه ترك متابعة الإمام فيما فاتت الركعة لأجله، فكأن الإمام سبقه بركعة، وليس كما لو جرى مثل ذلك في أثناء الصلاة، في حق من ليس بمسبوق.
فإن قلنا: تبطل صلاته، فلا كلام. وإن قلنا: لا تبطل، فلا ينبغي أن يركع؛ فإنه لو ركع لم يكن الركوع محسوباً له، ولكن ينبغي أن يتابعَ الإمامَ الآن، فيما يأتي به من هُويه إلى السجود، ويقدر كأنه أدركه الآن، ثم لا تحتسب له هذه الركعة.
فأما إذا قلنا: إنه يتمم القراءة، فإن تممها وأدرك الإمام راكعاً، فقد حصل تمامُ الغرض، وإن رفع الإمامُ رأسه من الركوع واعتدل، فالمأموم يركع ويرفع وهو مدرك للركعة، معذورٌ في تخلفه، ولو تجاوز الإمامَ، وسبقه بأركان، فلا يضر ذلك.
واستقصاء القول في هذا يتعلق بمسألة الزحام على ما سيأتي إن شاء الله.
1210 - ومن تمام البيان في ذلك أن أبا زيد إذا فصل بين أن يُقصِّر وبين أن يبتدِر، فمن تمام كلامه في ذلك أنه لو لم يقصر، فإذا ركع (2) الإمام، ففي المسألة وجهان: في أنه يتم القراءة، أو يقطعها، كما تقدم ذكرهما، والتفريع عليهما.
وإن كان مقصراً، فليقرأ من الفاتحة بقدر تقصيره، فإن رفع الإمام رأسه من
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) بدأ من هنا خرمٌ من نسخة (ت 2). وهو صفحة واحدة.

(2/392)


الركوع، فالتفريع الآن كالتفريع فيه إذا أمرناه بالركوع، فخالف أمرنا، وقرأ حتى فاته الركوع، وقد مضى بيان ذلك.
فرع:
1211 - في إدراك التكبيرة الأولى من صلاة الإمام رغائبُ وأخبار مأثورة، وقد اختلف أئمتنا في أنه متى يصير مدركاً لفضيلة التكبير؟ فمنهم من قال: إذا أدرك الركعة الأولى ولو بإدراك الركوع، فقد أدرك الفضيلة، فإدراكها مربوط بإدراك الركعة الأولى، وهذا سرفٌ ومجاوزة حدّ.
ومنهم من قال: إذا أدرك شيئاًً من قيام الركعة الأولى، فقد أدرك الفضيلة، وإن لم يدرك الإمامَ إلا راكعاً، فهذا قد أدرك الركعة، وفاتته الفضيلة في التكبيرة.
ومنهم من قال: المدرك من يكبّر الإمام في [شهوده] (1) وحضوره، ثم يتعقبه في عقد الصلاة، على العقد المرعي المرضي في الاتصال. وهذا هو الأظهر عندي؛ فإن من جرى التكبير في غيبته لا يسمى مدركاً لتكبير العقد، ولا شك أن [من] (2) يجعله مدركاً لها بإدراك القيام؛ فإنه يجعل (3) الاتصال في العقد. والشهود أفضل وأكمل.
وذكر بعض مشايخنا في ذلك تفصيلاً، فقال: إن شغله عن الصلاة أمرٌ من أمور الدنيا حتى ركع الإمام، فهو غير مدرك للفضيلة، وإن أقعده عذرٌ، ثم أدرك الركعة الأولى، فهو مدرك.
1212 - وهاهنا دقيقة لا بد من الاهتمام بها، وهو أن من قصر، ولم يكبر حتى ركع الإمام، فكبّر وركع، فهو مدرك وفاقاً، ولا أثر لتقصيره بغيبته أو تأخيره في حضوره؛ فإنه إنما يلحقه حكم الجماعة إذا تحرم، فأما دَرْك الفضيلة، فلا يبعد أن نفصل فيها بين المقصر والمبتدر؛ فإن الغرض من الحث على التكبيرة الأولى الدعاء إلى ترك الملهيات، والبدارُ إلى الصلاة، فليفهم الناظر ذلك.
__________
(1) في الأصل، و (ط) و (ت 1): سجوده. وهو تحريفٌ طريف.
(2) زيادة من (ل) وحدها.
(3) عبارة: (د 1): ... بإدراك القيام، فيجعل الاتصال في العقد والشهود أفضل وأكمل.

(2/393)


فصل
في تأخُّر المأموم عن الإمام، وفي تقدمه عليه:
1213 - فنقول: أما تكبيرة العقد، فيجب أن يتقدم الإمام بها (1)، ويقع ابتداء تكبيرة المأموم بعد فراغ الإمام من التكبير، فلو ساوقه المأموم، لم يجز أصلاً، وجوز أبو حنيفة (2) ذلك.
فأما ما عداها من الأركان، فيقتضي أدب الشرع فيها أن يتقدم الإمام بالركن، ثم يتلوه المقتدي قبل أن يفارق ذلك الركن، فإذا ركع، ركع بعده، بحيث يدركه في الركوع، فلو ساوقه، وجاراه في سائر الأركان، جاز ذلك، والأولى ما قدمناه. ولو ساوقه في التسليم، [جاز قياساً على سائر الأركان، وكان شيخي قال مرة: التسليم] (3) كالتحريم، فلا تجوز المساوقة فيه، وهذا زلل، غير معدود من المذهب.
فإذا وضح ذلك فيه، فنذكر تقدم الإمام، ثم نذكر تقدم المأموم.
1214 - (4 فإذا تقدم الإمام على المأموم 4) من غير عذرٍ بركنٍ، فالذي أطلقه الأصحاب اختلافٌ في ذلك، فقالوا: من أصحابنا من قال: إن تقدم بركنين، ولابس الثالث، بطلت القدوة والصلاة، وإن تقدم بركن واحد ولابس الثاني، لم يضر.
ومنهم من عدّ التقدم بركنٍ واحد وملابسة الثاني مبطلاً، وإنما يتم هذا بفرض القول في الركوع مثلاً.
فنقول: إذا ركع الإمام، وتخلّف المأموم قائماً من غير عذر، حتى رفع الإمام رأسه، واعتدل، ثم هوى، فسجد، فكما (5) لابس الإمام السجود، حكمنا ببطلان
__________
(1) انتهى هنا الخرم في نسخة (ت 2).
(2) ر. حاشية ابن عابدين: 1/ 353، مختصر اختلاف العلماء: 1/ 198 مسألة: 132.
(3) ساقط من الأصل ومن (ط).
(4) ما بين القوسين سقط من: (ت 2)، (د 1).
(5) بمعنى (فعندما).

(2/394)


صلاة المأموم؛ فإن الإمام قد سبق بالركوع، والاعتدال، وهو قائم، ولابس الركن الثالث، ولا يتوقف بطلانُ الصلاة على أن يرفع رأسه من السجود، والمأموم بعدُ قائم وفاقاً.
ولو رفع الإمام رأسه من الركوع، والمأموم بعدُ قائم، فهل تبطل بهذا المقدار صلاة المقتدي؟ فعلى وجهين مشهورين.
ثم ذهب بعض الأصحاب إلى أخذ هذا الخلاف من التردد في أن الاعتدال عن الركوع ركن مقصودٌ أم لا؟ فإن قلنا: إنه ركن مقصود، فقد فارق الإمامُ ركناً، ولابس آخر مقصوداً، فتبطل صلاة المتخلف، وإن لم نجعل الاعتدال ركناً مقصوداً، توقف الحكم بالبطلان على ملابسة السجود.
1215 - وهذه الطريقة وإن كانت مشهورة، فلست أرضاها؛ فإن الاعتدال من الأركان التي لا بد منها، ولو لم يكن مقصوداً وكان الغرض منه الفصل بين الركوع والسجود، للزم منه أن يقال: إذا فارق حدَّ الراكعين في انتصابه كفى، وإن لم يعتدل قائماً؛ لحصول الفصل، فلا تعويل على هذا عندي.
والوجه رد الخلاف إلى شيء [آخر] (1)، وهو أن من أصحابنا من يقول: لا تبطل الصلاة ما لم يسبق بركنين، والمأموم بعدُ في قيامه، ومنهم من يقول: إذا اعتدل، فقد تحقق السبق بركن تام وهو الركوع، فكفى ذلك في الحكم بإبطال الصلاة، فإن اسم المسبوق قد حصل، فإذا تقدم الإمام، فركع، فتلاه المأموم، وأدركه في الركوع، فما سبق الإمام بركنٍ، بل سبق إلى الركن، وتابعه المقتدي. وهو صورة المتابعة. وإذا بقي قائماً حتى يرفع الإمام، فقد سبقه بركن على التحقيق.
1216 - ومن تمام التفريع في ذلك أنا إذا شرطنا سبقَ الإمام بركنين، فإذا رفع الإمام رأسه وهوى، ولم ينته بعدُ إلى السجود، فيظهر عندي أن نحكم ببطلان القدوة، وإن لم يلابس السجود، وإن كنا نشترط التقدّم بركنين؛ فإن التقدم يحصل بمفارقة الاعتدال، ولا يرفع ذلك ظن من يظن أن الاعتدال غيرُ مقصود، فلْيلابس السجودَ،
__________
(1) زيادة من: (ت 2)، (د 1).

(2/395)


فإن ذلك باطل، كما تقدم، وأيضاً: فالإمام إذا لابس ركناً، لا يكون سابقاً به ما لم يفارقه، فلو صح ذلك، للزم ألا تنقطع القدوة، حتى يرفع الإمام رأسه من السجدة، والمقتدي بعدُ قائم.
فهذا تمام البيان في ذلك.
1217 - ولو فرض السبق في السجود ابتداء، لانتظم ما ذكرناه، فلو رفع الإمام رأسه من الركوع، والمأموم معه، فسجد الإمام ورفع، والمأموم في اعتداله، فهو كما لو بقي في القيام حتى ركع ورفع الإمام، وملابسة السجدة الثانية كملابسة السجدة الأولى، والتفريع كالتفريع. غير أن من أصحابنا من يقول: الجلوس بين السجدتين من الأركان الطويلة؛ فيجعلها مقصودة، ومنهم من يجعلها قصيرة، فهي كالاعتدال من الركوع.
1218 - ومما يليق بتمام البيان في ذلك أن المأموم لو لم ينتسب إلى تقصير في تخلفه، ولكن الإمام أفرط في السرعة، وخالف عادته، فسبق بركن أو بركنين، فمن أئمتنا من يحكم ببطلان صلاة المقتدي، لوجود صورة السبق، ومنهم من قال: لا تبطل صلاة المقتدي لتمهد عذره.
وسيأتي شرح هذا في مسألة الزحام.
فهذا كله إذا سبق الإمامُ، وتخلف المأموم.
1219 - وأما إذا تقدم المقتدي، فركع قبل الإمام، أو رفع رأسه قبل الإمام، فالذي صار إليه الأئمة أن تقدُّمه مقيسٌ على تقدم الإمام عليه في الوفاق والخلاف حرفاً حرفاً.
1220 - وكان شيخي يقول: تقدم المأموم قصداً يُبطل صلاتَه. حتى إذا ركع والإمام قائم، بطلت صلاتُه، وإن أدركه الإمام في الركوع. وكان يوجّه هذا بأن التخلف صورةُ المتابعة. فإن وجد فيه سرفٌ، ففيه خلاف، فأما التقدم على الإمام فمناقض لصورة الاقتداء، فكما (1) وقع أبطل، وكان يمثل بموقف الإمام والمأموم،
__________
(1) "فكما" بمعنى فعندما.

(2/396)


ويقول: تقدمُ المقتدي على الإمام في موقفه بأقل القليل يُبطل القدوة، وتأخره بالمسافة الكثيرة قد لا يبطل صلاته، وتعلق بأخبار فيها وعيد، منها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار" (1) وما ذكره وإن كان يتجه، فإني لم أره لغيره، فلا أراه من المذهب، والوجه ما قطع به الأئمة (2).
...
__________
(1) حديث "أما يخشى الذي يرفع رأسه ... " متفق عليه من حديث أبي هريرة (ر. اللؤلؤ والمرجان: 1/ 90 ح 247).
(2) إلى هنا انتهت نسخة (د 4) وهي التي اتخذناها أصلاً من أول (باب استقبال القبلة) وجاء في خاتمتها: "تم المجلد الثالث يتلوه باب موقف صلاة الإمام والمأموم أول المجلد الرابع من نهاية المطلب. وفرغ من تعليقه أبو محمد بن عبد الواحد بن حرب القرشي. في العشر الأولى من جمادى الأولى من سنة اثنتين وستين وخمسمائة".

(2/397)


باب (1) موقف صلاة الإمام والمأموم
1221 - الباب يشتمل على نوعين: أحدهما - الكلام في رعاية أفضل المواقف وذكر الأَوْلى، والثاني - ما يجب رعايتُه في المواقف في الأماكن المختلفة.
فأما الأول فنقول فيه: إذا كان يصلي الإمام مع رجل واحد، فينبغي أن يقف ذلك الرجل عن يمينه، ولا يقف عن يساره، ولا وراءه، ولو وقف خلفه أو وراءه، صح. والأصل فيه حديثُ ابن عباس: "فإنه ذكر أنه اقتدى برسول الله وحده في بيت خالته ميمونة، فوقف عن يساره فاقتدى، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم جرّه من ورائه حتى أوقفه على يمينه" (2)، فدلّ ذلك على الأولى، والصبي الواحد كالرجل في هذا، فكان ابن عباس صبياً إذ ذاك.
ولو كان يصلي مع الرجل امرأة واحدة، فتقف وراء الإمام وتتستر به.
ولو كان يصلي مع خنثى وحده، فهو كالمرأة فيما ذكرناه.
ولو كان يصلّي مع الإمام رجلان، أو صبي ورجل، فإنهما يقفان ويصطفان وراءه.
وروي عن علقمة: "أنه دخل على ابن مسعود مع صاحب له، فدخل وقت الصلاة، فأقام أحدهما عن يمينه، والثاني عن شماله، وصلى بهما، ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم" (3)، والشافعي رأى هذا منسوخاً، واعتمد في
__________
(1) من هنا بدأ اعتماد نسخة (د 1) أصلاً. و (ط) و (ت 1) و (ت 2) نصوصاً مساعدة. والله الموفق والهادي إلى الصواب.
(2) سبق الكلام على هذا الحديث في الأفعال القليلة والكثيرة في الصلاة، وأنه عند البخاري (كتاب الأذان) باب (58) إذا قام الرجل عن يسار الإمام، فحوله الإمام.
(3) حديث علقمة عن ابن مسعود هذا، أخرجه أبو داود، وفيه أن الذي كان مع علقمة هو الأسود، وأخرجه النسائي أيضاً في كتاب الإمامة، باب موقف الإمام، ح 800، وقال السندي =

(2/398)


الباب ما روى أنس أنه قال: "وقفت أنا ويتيم كان في البيت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم سليم خلفنا، فصلّى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم" (1) فرأى الشافعي هذا ناسخاً لحديث ابن مسعود، وثبت عنده تأخر هذا الفعل، والله أعلم.
وفي بعض كلامه تقديم رواية أنس بأنه كان بحجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ذاك، فرأى روايته أثبت، وما رُئي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد يصلي باثنين، وهذا أسلم من دعوى النسخ.
1222 - وإن كان يصلي برجل وامرأة، فليقف الرجل عن يمينه، وتقف المرأة خلف الرجل المقتدي، فتكون مستترة به عن الإمام، بعيدة عن المقتدي والتفاته.
وإن كان رجل وخنثى مع الإمام، فهو كالرجل والمرأة.
وإذا كان رجل وخنثى وامرأة، وقف الرجل عن يمينه، والخنثى وراءه، والمرأة وراء الخنثى، وتعليل ذلك بين. وروى الشافعي بإسناده: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ أنساً وعجوزاً منفردة خلف أنس" (2)، وإن كان مع الإمام خنثى وامرأة، وقف الخنثى وراء الإمام، والمرأة خلف الخنثى، فهذا بيان ما يرعى في فضيلة الموقف.
1223 - ولو دخل المأموم المسجد، فلا ينبغي أن يقف وحده؛ فإن النبي صلى الله
__________
= في شرح النسائي: حملوا هذا الحديث على أنه لعلّه صلى الله عليه وسلم فعله لضيق المكان أحياناً، أو على النسخ. وانظر أبو داود: 1/ 408، باب إذا كانوا ثلاثة كيف يقومون، ح 613).
(1) متفق عليه من حديث أنس أخرجه البخاري: الأذان، باب (78) المرأة وحدها تكون صفاً، ح 727. وأخرجه مسلم: 1/ 457، كتاب (5) المساجد، باب 48 ح 658 بلفظ: " .. وصففت أنا واليتيم وراءه، والعجوز من ورائنا، فصلى بنا".
(2) هذا ولم يورده عبد الباقي في اللؤلؤ والمرجان. و (ر. التلخيص: 2/ 36 ح 582).
حديث: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّ أنساً ... " رواه مسلم: 1/ 458، كتاب المساجد، باب (48) ح 269 بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى به وبأمه أو خالته. قال: فأقامني عن يمينه، وأقام المرأة خلفنا"، ورواه الشافعي في مسنده: 1/ 105 ح 310.

(2/399)


عليه وسلم نهى عن ذلك، فلو وقف وحده، صحت الصلاة مع الكراهية، والأولى لمن لا يجد موقفاً في الصف أن يجرّ أحداً من الصف، والأولى لذلك الواحد المجرور أن يساعده؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، فهذا مما يتعلق بغرضنا في هذا النوع.
1224 - فأما النوع الثاني، فنصدّره بأن نقول: المنصوص عليه في الجديد أن موقف المأموم إذا تقدم على موقف الإمام، لم يصح اقتداؤه.
وقال مالك: يصح اقتداؤه إذا كان يَشعر بصلاة الإمام (1). وهذا قولٌ للشافعي في القديم.
ولو كان موقف المأموم مساوياً لموقف الإمام، ولم يكن متقدماً ولا متأخّراً، جازَ، والأدب أن يتأخر عن موقف الإمام قليلاً. ثم الاعتبار في الموقف بموقف العقبين من الأرض، فإن شخص المقتدي قد يكون أطول فيتقدم موقع رأسه، وإن تأخر ساوى موقع قدمه. وذكرتُ العقب؛ فإنّ قدمَ أحدهما قد يكون أكبر من قدم الثاني، فالعبرة بما ذكرته بلا خلاف.
ومما يتعلق بهذا أن الناس يصلون في المسجد الحرام مستديرين حول الكعبة، والإمام الراتب وراء مقام إبراهيم في جهة الباب، فالذين يستديرون من وراء البيت وجوههم إلى وجه الإمام، وتصح الصلاة بلا خلاف، هكذا عُهد الناسُ في العُصُر الخالية، حتى كأن الكعبة هي الإمام، ولعل الحاجة أحوجت إلى تسويغ ذلك؛ فإن الناس يكثرون في المواسم، ولو كلفوا الوقوف في جهة واحدة، لتعذّر ذلك.
وقال الأئمة: إذا دخل الناس البيت، فالجهات كلها قبلة، فلا يمتنع أن يقف الإمام والمأموم متقابلين، كما ذكرناه في الاستدارة حول الكعبة.
1225 - واختلف أئمتنا في صورة وهي أنه إذا كان بين الإمام في جهة وقوفه، وبين
__________
(1) الذي رأيناه عند المالكية أن تقدم المأموم على الإمام يصح مع الكراهة، (ر. الإشراف: 1/ 300 مسألة: 355، حاشية العدوي: 1/ 271، حاشية الدسوقي: 1/ 331، جواهر الإكليل: 1/ 79، القوانين الفقهية: 81).

(2/400)


الكعبة عشرةُ أذرع، وكان موقفُ المأمومين في جهة أخرى من البيت أقربُ إلى البيت من هذا، فهل يجوز ذلك أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يجوز كما لو تقدم واحد في جهته، وكان أقرب إلى البيت.
والثاني - يجوز؛ فإن الجهة إذا اختلفت، فلا معنى لاعتبار المقايسة في المسافة؛ فإن اختلاف الجهة أعظم في الاختلاف من الاختلاف في القرب والبعد، (1 فإذا لم نمنع القدوة مع الاختلاف في الجهة والوقوف على هيئة التقابل، فلا معنى وراء ذلك في النظر إلى القرب والبعد 1). وأما إذا اتّحدت الجهة، فيظهر أثر التقدم والتأخر.
فهذا بيان ذلك.
1226 - ثم نتكلم بعد هذا في المواقف في الأمكنة المختلفة: والوجه في الترتيب أن نذكر أفرادها والاجتماع فيها، أي في أفرادها، ثم نذكر وقوف القوم في أماكن مختلفة منها.
فأما القول في أفرادها، فيتعلق بالمسجد، والملك، والمواضع المشتركة.
1227 - فأما المسجد، فإذا تقدم الإمام وتأخر المقتدي، لم يضر بُعد المسافة -وإن أفرط- إذا كان المسجد واحداً. وكذلك لا يضر اختلافُ المواقف ارتفاعاً وانخفاضاً، حتى لو وقف الإمام في المحراب والمقتدي على منارةٍ من المسجد، أو بئر، وكان لا يخفى عليه انتقالات الإمام، فالقدوة صحيحة؛ وذلك أن المكان مبنيٌّ لجمع الجماعات، فالمجتمعون فيه مجتمعون لإقامة الصلاة، فلا يؤثر البعد في المسافة. وهذا متفق عليه.
ولو كان مسجدان باب أحدهما لافظٌ (2) في الثاني كالجوامع، فإن كانت الأبواب
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ت 2).
(2) "لافظ" أي لاصق بالأرض نافذ، من غير فاصل بينهما من طريق أو غيره. كذا قال ابن الصلاح في مشكل الوسيط، وأضاف: "هذا ما أشعرَ به ما علقته من بعض التعاليق الخراسانية، ولم أجد الكلمة في كتب اللغة، وكأنه مستعار من قولهم: لفظ الشيء مِن فِيه، إذا نبذه ورماه، وكأن الباب الموصوف بسهولة النفوذ منه يرمي من أحد المكانين إلى آخر".
ا. هـ بنصه (ر. مشكل الوسيط - بهامش الوسيط: 2/ 231).

(2/401)


مفتوحة، فهما كالمسجد الواحد، ولا أثر لانفصال أحد المسجدين عن الثاني بالجدار، وإن كان الباب مردوداً، وكان صوت المترجم يبلغ في المسجد الثاني، وهما معدودان كالمسجد الواحد، فالمذهب الظاهر صحة الاقتداء، فإنهما كالمسجد الواحد.
وأبعد بعض أصحابنا، فمنع إذا لم يكن حالة الاقتداء منفذٌ؛ لأن أحدهما يعدّ عند رد الأبواب منفصلاً عن الثاني، ولا يعدّان مجتمعين عرفاً.
ثم من منع الاقتداء والباب مردود قالوا: لو كان الجدار الحائل بين المسجدين المانع من الاستطراق مشبكاً، لا يمنع من رؤية مَن هو واقف في المسجد الذي فيه الإمام، فعلى الوجه البعيد وجهان.
وما ذكر من رد الأبواب فالمراد إغلاقها، فأما إذا لم تكن مغلقة الأبواب، فهي كالمفتوحة قطعاً، والذي أرى القطعَ به جوازُ القدوة، وإن كانت الأبواب مغلقة، والجدارُ غيرَ نافذ إذا كان المسجدان في حكم المسجد الواحد، وباب أحدهما لافظٌ في الثاني، وهو المذهب، ولست أعد غيره من متن المذهب.
1228 - فأما إذا كان الاقتداء في مواتٍ مشترك في الصحراء، فقد قال الشافعي: "إذا كان بين موقف الإمام وبين موقف المأموم مائتا ذراع، أو ثلاثمائة ذراع، فيجوز الاقتداء، وإن زاد، لم يجز" (1).
والذي يجب ضبطه قبل الخوض في التفاصيل، أن الشافعي لم يكتف في جواز الاقتداء بأن يكون المأموم بحيث يقف على حالات الإمام وانتقالاته، وقد نَقَلَ عن عطاء (2) أنه اكتفى بهذا في الأماكن كلها. وبُلِّغت عن مالك (3) أنه صار إلى ذلك، ولم
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 118.
(2) مذهب عطاء هذا نقله الشافعي، وعقب عليه قائلاً: ولا أقول بهذا. (ر. المختصر: 1/ 118). ونص عبارته: "ومذهب عطاء أن يصلي بصلاة الإمام من علمها، ولا أقول بهذا" ا. هـ.
(3) القائل " وبلغتُ عن مالك " هو إمام الحرمين، وحقاً ما بلغه؛ فمذهب مالك كمذهب عطاء.
(ر. جواهر الإكليل: 1/ 80، وحاشية الدسوقي: 1/ 337، والموسوعة الفقهية " اقتداء ف 16 ").

(2/402)


يفصل بين بقعة وبقعة، وهذا قياس بيّن، ليس يخفى على المتأمل.
ولكن الشافعي راعى مع إمكان الوقوف على حالات الإمام أن يكون الإمام والمأموم بحيث يعدان مجتمعين في بقعة، وقال: من مقاصد الاقتداء حضور جَمْعٍ، واجتماعُ طائفةٍ على مكان عند الصلاة في الجماعة.
1229 - ولا يعد من الجماعة أن يقف الإنسان في منزله المملوك، وهو يسمع أصوات المترجمين في المسجد، ويصلي بصلاة الإمام، ثم معتمد الشافعي في الشعائر المتعلقة بالصلاة رعاية الاتباع؛ فإن [مبنى] (1) العبادات عليها وهذا حسن.
1230 - فإذا تبين ذلك، فالمسجد إن كان جامعاً للإمام والمقتدي، لم يضر إفراط البعد؛ فإن المسجد لهذا الشأن، فيحمل الأمر على أن المجتمعين فيه للصلاة متواصلان، فأما الصحراء الموات، فمحطوط عن المسجد، من جهة أنه ليس مكاناً مهيّأً لجمع الجماعات، وهي مشابهة من وجهٍ للمسجد؛ فإن الناس مشتركون فيه اشتراكهم في المسجد، فقال رضي الله عنه: لذلك: "لا يشترط في الموقف اتصال الصفوف"، ثم ضبَطَ القربَ المعتبر بثلاثمائة ذراع. والأصح أن هذا تقريب منه، وليس بتحديد، وكيف يطمع الفقيه في التحديد، ونحن في إثبات التقريب على عُلالة؟
وقد قيل: اعتبر الشافعي في ذلك المسافة التي تنحى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفةٍ من أصحابه عن موضع القتال. وقد قيل: إنها كانت قريبةً مما ذكرناه، فإنه تباعد تباعداً لا ينال المصلي فيه سهمُ الأعداء غلوة (2). ونبال العرب لا تنتهي إلى مثل هذه المسافة، وإنما تعلق الشافعي بذلك؛ لأن في بعض الروايات أن الذين كانوا في الصف في بعض الأحوال كانوا على حكم الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه الرواية وإن كانت في صلاة ذات الرقاع، ولا يختار الشافعي العملَ بها، فهي صحيحة، وإذا عدمنا في محاولة الضبط [تقريباً] (3)، اكتفينا بمثل هذا، وعددنا هذا نوعاً من التواصل.
__________
(1) في الأصل، (ت 1)، (ط): "معنى"، والمثبت من (ت 2)، ثم صدقتها (ل).
(2) الغَلْوة: رمية السهم. وتقدر بثلثمائة إلى أربعمائة ذراع. (المعجم).
(3) في (ت 2): "تفريقاً"، وفي باقي النسخ "تفريعاً"، والمثبت جاءتنا به (ل).

(2/403)


1231 - وكنت أود لو قال قائل من أئمة المذهب: يُرعى في التواصل مسافةٌ يبلغ فيها صوتُ الإمام المقتدي، لو رفع صوتَه قاصداً تبليغاً على الحد المعهود في مثله، وهذا قريب مما ذكره الشافعي، وهو نوع من تواصل الجماعات في الصلاة، ولما لم ير الشافعي الاكتفاء بالاطلاع على حالات الإمام وانتقالاته، ولم يجد توقيفاً شرعياً يقف عنده، [أخذ يتمسك بالتقريب، فجز ذلك اختلافاً] (1) في بعض الصور على الأصحاب.
1232 - ومما يتصل على القرب بما نحن فيه أن الأمام لو كان وحده، والمأموم بعيدٌ عن (2) الحد الذي راعيناه في التقريب، فالكلام على ما مضى.
ولو قرب من الإمام صف أو واحد، فقُرْب هذا الثاني يقاس بالمقتدي بالإمام [لا بالإمام] (3)، وإنما يرعى ثلاثمائة ذراع بينه، وبين آخر واقف في الصف الذي صح اقتداؤهم.
1233 - وفي بعض التصانيف أنا نرعى المسافة بين المأموم البعيد وبين الإمام، وهذا مزيف لا تعويل عليه، ولكن لا بد من ذكر معناه مع بعده، لأني وجدت رمزاً إليه لبعض أئمة العراق.
فأقول في بيانه: إن تواصلت الصفوف على المعهود من تواصلها، فقد يكون بين الواقف الأخير وبين الإمام ميل، أو أكثر، والقدوة صحيحة، والتواصل ثابت، فأما إذا لم يحصل التواصل المألوف، ولكن وقف الإمام، ووقف صفٌ، وبعُد الواقف الذي نتكلم فيه، فالمذهب المبتوت المقطوع به، أنا نرعى المسافة بينه وبين آخر واقف صح اقتداؤه في جهته.
__________
(1) في جميع النسخ العبارة هكذا " ... أخذ متمسك بالتقريب جر ذلك اختلافاً" وهي غير مستقيمة فغيرناها على النحو الذي قدرنا أنها حرفت عنه. والله ولي التوفيق. والحمد لله، صدقت (ل) تقديرنا، إلا أنها جاءت بالواو مكان الفاء، "وجز ذلك اختلافاً".
(2) كذا في جميع النسخ، ولعلها: "على". وقد جاءت بها (ل).
(3) زيادة من (ت 1)، (ت 2).

(2/404)


وذكر بعض من لا يعتمد [نقله] (1) وجهاً أن الصفوف إذا لم تكن متصلة على الاعتياد، فالذي بعُد موقفه، يراعى قربه من الإمام، وهو غير مقتد (2)؛ إذ ليس الصف على القرب المعتاد منه. فهذا بيان هذا الوجه، وتصويره وإن لم يكن معدوداً من المذهب.
1234 - ولو كان بين المقتدي في الصحراء وبين الإمام نهر جار، فإن كان يُخيض الخائض فيه من غير احتياج إلى سباحة، فلا أثر له، وليس بحائل. وإن كان لا يخيض، فهو يمنع القدوة به. وذكر أئمتنا فيه خلافاً.
ثم قال المحققون: المذهب صحة القدوة، وإن عسر من المقتدي التوصّل إلى الإمام، إذا كانت المسافة على النحو الذي ذكرناه؛ فإنه لا حاجة في قضية الصلاة إلى وصول المأموم إلى الإمام.
ومن منع، تمسك بأن مثل هذا النهر يعدّ حائلاً، ولا يعد الإمام والمأموم مجتمعين في بقعة جامعة لهما، وظاهر نص الشافعي يشير إلى الجواز؛ فإنه قال: لو اقتدى رجل في سفينة بإمام في سفينة أخرى، صح، كما سنذكر ذلك، وإن كان بين السفينتين قطعة من البحر. وقد ينقدح في ذلك فصل في البعد؛ فإن وصولَ السفينة إلى السفينة ممكن؛ فالبحر في حق السفن كأرض ممتدة، في حق أقدام المشاة عليه، والله أعلم.
ولو كان على النهر الكبير جسر ممدود، فالتواصل حاصل وفاقاً.
ولو كان بين الواقف والإمام شارع، فظاهر المذهب أن ذلك غير ضائر، وذكر بعض الأصحاب أنه قاطع، وهذا مزيف لا أرى له وجهاً، إلا أن الصائر إليه -فيما
__________
(1) زيادة من (ل) وحدها، والذي لا يعتمد نقله هو بعينه (بعض المصنفين)، أي الإمام أبو القاسم الفوراني، فإمام الحرمين كثير الحط عليه، من جهة تضعيفه في النقل، لا من جهة تفقهه، كذا قال السبكي في طبقاته في ترجمة الفوراني. وترى أن إمام الحرمين حفي بأقواله يناقشها، ويعنف في ردها أحياناً، ويعتمدها أحياناً، ولو كان لا يعتمد تفقهه، ما انشغل بفقهه.
(2) أي لا يكون مقتدياً إلا إذا كان على حد القرب الذي قررناه.

(2/405)


أظن- اعتقد أن الشارع قد يطرقه رفاق (1) في أثناء الصلاة، وينتهي الأمر إلى حالةٍ يعسرُ فيها -لوقوع الحيلولة- الاطّلاع على أحوال الإمام، فتهيؤ الشارع المطروق لهذا ينتهض حائلاً. وهذا لا أصل له. ثم إن لم يكن من ذكر ذلك بد على بعده وضعفه، فهو في شارع يغلب طروقه.
1235 - ومما يتصل بما نحن فيه أن الإمام والمأموم لو وقفا على ساحةٍ مملوكة هي على صورة الصحراء الموات، فظاهر المذهب أنها كالموات؛ لأنها على صورته في العِيان وإمكان الاطلاع.
وذكر شيخي وغيرُه: أنا نراعي فيها اتصال الصفوف، كما سنصفه بعدُ إن شاء الله تعالى؛ فإنّ الموات في حكم الاشتراك مضاه مساوٍ للمساجد، وهذا لا يتحقق في الأملاك.
ثم إن جرينا على الصحيح، ونزلناه منزلة الموات في القدوة، فلو وقف الإمام في ملك زيد، ووقف المأموم في ملك عمرو، والموقفان في العِيان على امتداد ساحة واحدة، فقد ذكر الصيدلاني فيه وجهين: أحدهما - المنع وإن قربت المسافة المعتبرة، وهذا ضعيف جداً، ولست أرى له وجهاً يناسب ما عليه بناء الباب.
ولا خلاف أنه لو كان في مسجدٍ نهر عظيم، فلا أثر له في قطع القدوة.
فهذا حكم المسجد والموات إذا أفرد كل واحد منهما في التفريع.
1236 - فأما الوقوف في الأملاك على تصوير التفريد بأن يقف الإمام والمأموم جميعاًً في الملك، فنقول: إن لم تكن فيه أبنيةٌ، ولكن كان أرضاً ممتدة، فقد تقدم التفصيل فيه، وكذلك إذا اجتمعا في عَرْصة فيحاء من دارٍ.
فأما إذا وقفا في دارٍ وفيها أبنية مختلفة، فنقول: إن اجتمع الإمام والمأموم في بناء واحد، فهو كاجتماعهما في عَرْصة الدار كما سبق، فإن اتصلت الصفوف، قطعنا بالصحة، وأما إن لم تتواصل، فالمذهب تنزيله تنزيل الموات، وعندي أن هذا أقرب
__________
(1) رفاق جمع رُفقة، والرفقة هي الجماعة، فالمراد يقطع الطريق جماعات. (المعجم).

(2/406)


إلى اقتضاء التصحيح من الساحة المملوكة الممتدة؛ فإن البناء الواحد -وإن اتسعت خِطتُه- يُعد مجلساً جامعاً في العرف.
وإن وقف الإمام في بناء، ووقف المأموم في غيره، مثل أن يقف الإمام في صدر صُفّة والمقتدي في العرصة، أو في بناء آخر، فقد أجمع أئمتنا على اعتبار اتصال الصفوف في أبنية الأملاك، واختلاف الأبنية غير معتبر في المسجد وفاقاً؛ فإن الإمام لو وقف في المقصورة، ووقف المقتدي خارجاً منها، فلا أثر لاختلاف الأبنية في المسجد قطعاً؛ فإنه بقعة واحدة مهيأة لجمع الجماعة، ثم إذا اعتبرنا في الدار -عند اختلاف الأبنية- اتصالَ الصفوف، فليعلم الطالب أنا نطلق الاتصال في الصف على صورتين: إحداهما - اتصال الصف طولاً على معنى تواصل المناكب، وهذا يعد صفاً واحداً.
والثانية - أن يقف صفٌ، ويقف وراءه صف آخر قريبٌ منه بحيث يكون ما بين الصفين قريباً من ثلاثة أذرع، وهي مكانُ متوسعٍ في سجوده وانتقالاته، فهذا اتصال الصفوف المتعدّدة. فأما إذا أطلقنا اتصال الصفوف عنينا هذه الصورة الأخيرة، وإذا قلنا اتصل صف واحد عنينا تواصلَ المناكب.
فنقول الآن: إذا كان الإمام في صُفَّة والمأموم الذي نتكلم فيه في بيت، على جانبٍ من الصفة، بابه لافظٌ (1) في الصُّفة، فإذا دخل صف من الصفة البيتَ، وتواصلت المناكب، فمن يقف في الصف الذي وصفناه، فصلاته صحيحة؛ فإن هذا نهاية الاتصال، ولا يبقى مع هذا لاختلاف الأبنية وقعٌ وأثر أصلاً.
1237 - ثم قال الأئمة: الواقفُ في هذا الصف تصح قدوته.
ولو كان بين آخرِ واقف في الصف المحاذي لباب البيت وبين الواقف في البيت موقف رجل، فالصف غير متصل، وقدوة من في البيت باطلة، لاختلاف الأبنية وعدم الاتصال، والبقعة غير مبنية لجمع الجماعات، وكل كائن في بناءٍ من الدار يعد منقطعاً عن الواقف في غيره، فإذا لم يفرض اتصالٌ تام محسوس، فلا اجتماع ولا قدوة.
وإن كان بين آخر واقف في الصف المسامت للباب فرجة تسع واقفاً، فقد ذكروا في
__________
(1) سبق تفسير كلمة (لافظ) قبل صفحات.

(2/407)


ذلك وجهين، وخرّجوا على ذلك العتبة إذا كانت خالية عن واقف، فقالوا: إن اتسعت لواقف، فلا يصح اقتداء من في البيت، وإن كانت أقل من موقف، والذي في البيت اتصل موقفه بالعتبة - ففيه الخلاف.
وعندي أن هذا التدقيق مجاوزةُ حد، ولا ينتهي الأمر في أمثال ما نحن فيه إليه؛ فإنه ليس معنا توقيفٌ شرعي في المواقف، وإنما نبني تفريعات الباب على أمر مرسل في التواصل.
1238 - وإذا دخل صف البيتَ طولاً بحيث يعد ذلك صفاً واحداً عرفاً، فلا يضر خلوّ موقف واقف واحدٍ إذا عد ذلك صفاً. ثم هذا التدقيق فيه إذا خلا موقفُ واقفٍ حسّاً، فأما إذا كان لا يتبين في الصف موقفٌ بين واقفين، ولكن كان الصف بحيث لو تكلف الواقفون فيه تضامّاً، لتهيأ موقفٌ، وكان لا يبين في الصف فرجة محسوسة، فهذا الذي ذكرناه محتمل سائغ؛ فإن ذلك يعدُّ اتصالاً عرفاً، ولا ينبغي أن يكون في ذلك خلاف.
والذي يكشف الغطاء في ذلك أنه لو وقف في الصّفة على باب البيت [واقف، واتصل به موقفُ من في البيت، كفى هذا، ولا حاجة إلى فرض سوى الواحد الواقف على باب البيت] (1) وإذا كان كذلك، فالاتصال مرعي بين هذا الواحد على الباب، وبين من يقف في البيت.
قال الأئمة: إذا دخل صف في البيت، واتصل بواحد من الصفة كما قدمناه، فصلاةُ من في هذا الصف في البيت صحيحة، ومن يقف وراء هذا الصف في هذا البيت، فصلاته صحيحة على قياس صلاة الواقفين في الصف، ولو تقدم متقدم على هذا الصف، لم تصح صلاته مقتدياً، وهذا الصف كالإمام، فمن وراءه متصل به، ومن تقدم، فلا يثبت له اتصالٌ بالإمام، ولا بالصف الذي وراءه؛ فإن الاتصال له صورتان: أقربهما - التواصل في صف واحد طولاً، والثاني - وقوف صف وراء صف.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل، و (ط) و (ت 2) وأثبتناه من (ت 1).

(2/408)


فهذا إذا كان البيت على جانب من الصفة.
1239 - فأما إذا كان الإمام واقفاً في الصفة، والمأموم في العَرْصة، أو في بناءٍ وارء الصفة، فالذي ذكره الأئمة أنه إن اتصلت الصفوف على ما قدمنا تفسيره، ففي صحة اقتداء هؤلاء الذين وقفوا في بناء آخر وجهان: أصحهما - الصحة لاتصال الصفوف، قياساً على اتصال صفٍّ واحد طولاً، مع تواصل المناكب، إذا دخل في بيت على أحد جانبي الصفة كما سبق.
والثاني - لا يصح؛ لاختلاف الأبنية، وعدم تواصل المناكب. وهذا القائل يقول: ما يسمى اتصال الصفوف ليس باتصالٍ حقيقي، وكلُّ بناء مجلس على حياله، والبقعة ما بنيت لتجمع الجماعات، ولم يوجد التواصل بين المناكب، ولو لم يكن بين الواقف في البناء الواقع وراء الصف وبين من في الصفة تواصل الصفوف على قدر ثلاثة أذرع، بل زاد الانفصال على ذلك زيادة بيّنة في الحس، فصلاة من في البناء الواقع وراء الصفة باطلة؛ فإن البناء مختلف والصفوف غير متصلة.
1240 - والضبط فيه أنه إذا اتحد البناء، واتصلت فيه الصفوف، صحت القدوة، وإن اختلف البناء، ولم يكن اتصالُ صفوف، لم تصح قدوة من في بناء غير البناء الذي فيه الإمام. وإن اتصلت الصفوف، واختلف البناء، فإن اتصل صف واحد طولاً، صح. وإن كان اتصل الصفوف وراء الإمام، فوجهان.
وإن اتحد بناء، ولم تتصل الصفوف، على الحد الذي ذكرناه، بل وقف الإمام في صدر الصفة، والمأموم على عشرة أذرع مثلاً، فقد ذكر الأئمة فيه الخلافَ المقدم في الملك إذا امتد في العرصة والساحة. والذي أراه القطع بالصحة عند اتحاد البناء؛ فإن البناء جامع. وهذا أجمع من ساحة منبسطة لا تُعدُّ مجلساً واحداً.
1241 - ومما يبقى في النفس [أنا] (1) ذكرنا خلافاً فيه إذا اختلف البناء وراء الصفة، واتصلت الصفوف عرضاً على قدر ثلاثة أذرع.
__________
(1) في جميع النسخ: "إذا" وهذا مما أفادتنا إياه (ل) وحدها.

(2/409)


فلو قال قائل: لو كان البيت على جانب من الصفة، ووقف واقفٌ ممن في الصفة على باب البيت، ووقف واقف في البيت على قدر ثلاثة أذرع من الواقف على الباب، فهلا خرجتم ذلك على الخلاف المذكور في تواصل الصفوف عرضاً، مع اختلاف الأبنية؛ فإن المسافة في الطول كالمسافة في العرض؟ قلنا: لم يختلف الأصحاب في منع ذلك طولاً؛ فإن ذلك لا يعد اتصالاً في الصفوف. ووقوف الصف وراء الصف يعد اتصالاً، فأما الطول، فالاتصال فيه بتواصل المناكب.
1242 - ومما يتصل بحكم الدور في المواقف أن صفاً لو وقفوا على مرتفع من الأرض، فهل يعدّون متصلين بالواقفين دونهم؟ قال شيخي: إن كان الواقف المنخفض بحيث ينال رأسُه ركبةَ الواقف المستعلي، فهذا اتصال.
وقال صاحب التقريب إن كان رأسه يلاقي قدمَ من علا موقفُه، كان ذلك اتصالاً.
وهذا هو المقطوع به.
ولست أرى لذكر الركبة وجهاً. والمرعي أن يلاقي شيء من بدن المنخفض شيئاًً من بدن العالي، وهذا قريب في الارتفاع والانخفاض من المسافة بين الصفين، ولو كان الواقف أسفل صبياً لا ينال رأسه مسامتة العالي، لقصر قامته، فلعل ذلك مما يتساهل فيه، وكذلك لو فرض ذلك بين الصفين، فلا يعتد بعدِّ الثلاثة الأذرع، فإن زاد شيء لا يبين في الحس ما لم يذرع، فهو أيضاً غير محتفَلٍ به.
1243 - ثم الرباطات والمدارس، إذا لم تكن مساجد -في المواقف- كالدور المملوكة بلا خلاف، والسبب فيه أن الدور المملوكة إنما ضاق فيها أمر المواقف، من جهة أنها ما بنيت لإقامة الجماعات فيها، وهذا المعنى يتحقق في المدارس والرباطات والدور الموقوفة.
وقد تنجَّز القول في المواقف في المواضع الفردة.
1244 - ونحن نذكر الآن ما لو اختلف موقف الإمام والمأموم في البقاع التي ذكرنا تباين حكم المواقف فيها.
فلو كان موقف الإمام في المسجد، وموقف المقتدي في مِلكٍ، فهو كما لو كان

(2/410)


موقفهما في بناءين مملوكين؛ فإن كان البيت المملوك على جانب المسجد، وكان بابه لافظاً فيه، فهو كما لو كان الإمام في الصفة والمأموم في بيتٍ بابه نافذ في أحد جانبي الصفة، فيعود كل ما ذكرناه في اتصال الصف طولاً.
وإن كان البيت المملوك الذي هو موقف المقتدي وراء المسجد، وكان بابه لافظاً فيه، فهو كبيت وراء صفة فيها موقف الإمام، فيقع التفصيل في اتصال الصفوف عرضاً، ولا أثر لكون أحد الموقفين مسجداً؛ فإن ذلك لا يغير الحكم، ولا يرفع الاختلاف، وما (1) ذكرناه من أن المملوك غير مبني للصلاة، وجمع الجماعات.
1245 - فأما إذا كان الإمام في مسجد والمقتدي في موات، أو شارع يستوي فيه الكافة، فهذا يخرج على القاعدة التي نبهنا عليها الآن، فالأصل أن نجعل كأن الإمام والمأموم في موات، كما قدمنا في الملك والمسجد، حيث قلنا: هو كما لو كانا في ملكين، ولا نقول: نجعل كما لو كانا في المسجد، نظراً إلى كون أحدهما في المسجد، فالحكم يجري على موجب البقعة التي يقتضي الشرعُ فيها ضرباً من التضييق، لا على المسجد الذي يتسع فيه أمر المواقف.
فإذا تمهد ذلك، قلنا: إذا كان [الإمام في مسجد والمأموم في مواتٍ أو الشارع، فالقرب المرعي ثلاثمائة ذراع أولا، ثم إذا كان] (2) الموقف وراء المسجد، فيعتبر أول هذه المسافة في حق أول واقف في الموات من أي موضع في المسجد؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يعتبر من آخر الصف في المسجد، والثاني - أنه يعتبر من آخر جزء من المسجد، في الجهة التي تلاقي المقتدي، حتى كأنَ جِرْمَ (3) المسجد إمامُه.
والصحيح النظر إلى الواقفين في المسجد، كما ذكرناه أولاً.
وإذا قلنا بالوجه الثاني، فكأنا جعلنا لكون الإمام والجماعة في المسجد مزيدَ أثرٍ
__________
(1) معطوف على (الاختلاف)، فهو داخل ضمن معمول (يرفع).
(2) هذا مما جاءتنا به (ل) منفردة عن باقي النسخ.
(3) كذا في (ت 2) بالجيم المعجمة، وفي باقي النسخ حرم بالحاء، ورجحنا هذا رعاية لمعنى النص، وقد رأينا النووي في المجموع يعبر بلفظ (حريم) المسجد. (ر. المجموع: 4/ 307).

(2/411)


في توسيع أمر المواقف؛ فإنه ربما يكون بين آخر صفٍ، وبين آخر المسجد ألفُ ذراع، فلا تعتبر تلك المسافة، ويعتبر ابتداءُ الثلاثمائة من آخر المسجد في صوب المقتدي.
ثم تمام البيان في ذلك، أن المقتدي لو كان وراء المسجد على محاذاة جدار المسجد، ولم يكن على (1) باب في جهة المقتدي، بل كان الجدار حاجزاً بينه وبين الصفوف، فمن أصحابنا من جعل الجدار قاطعا مانعاً من الاقتداء، إذا كان ذلك الجدار الحائل مانعاً من الاستطراق، وهذا الذي صححه العراقيون.
والثاني يصح، وهذا يخرج بناء على قولنا: إن إمامَ المقتدي الواقف خارجَ المسجد جِرمُ المسجد.
ثم قال العراقيون: إذا منعنا القدوة والجدار مانعٌ من الاستطراف والنظر، فلو كان الجدارُ مشبكاً، غيرَ مانع من النظر وإن منع الاستطراق، فعلى هذا الوجه وجهان: من جهة أن نفوذ النظر ضربٌ من الاتصال، وهذا كله في موقف المقتدي وراء المسجد.
فأما إذا كان وقوفه في أحد جانبي المسجد، فهو كما مضى، فيعتبر القرب والبعد، كما تقدم في الصحاري، ثم لا فرق بين أن يكون باب المسجد مفتوحاً، وبين أن يكون مغلقاً.
وذكر صاحب التقريب وجهاً، ومال إليه واختاره: أن الباب إذا كان مغلقاً، لم يصح اقتداء الواقف خارج المسجد، وهذا يطرد في كل واقف خارج المسجد أين وقف. وهذا قريب مما صححه العراقيون، من كون الجدار حائلاً مانعاً. والصحيح عندنا: أن الجدارَ المانع من الاستطراق، وبابَ المسجد المغلق، لا أثر له.
ثم حكى الصيدلاني عن صاحب التقريب في تفريع الوجه المحكي عنه أنه قال: إذا كان الباب مفتوحاً، فينبغي أن يقف صف بحذاء الباب، ثم يقف من يقف وراء الصف على حدّ القرب المعتبر في الصحاري، حتى لو وقف واقف قدام الصف المحاذي
__________
(1) كذا في جميع النسخ، والصواب -والله أعلم- بدون (على) مع اعتبار (كان) تامة. وبذا يستقيم الكلام.

(2/412)


للباب المفتوح، لم يجز. وهذا حكاه الأصحاب عنه، ولم أره في كتابه.
أما اعتبار فتح الباب، فمنصوص له.
هذا بيان اختلاف الأماكن في المواقف.
1246 - ولو كان الإمام في مواتٍ، والمأموم في مسجد، لم يختلف شيء من التفاصيل المقدمة.
ثم إن كان الإمام متقدماً عن المسجد، والمقتدي واقفاً في آخر المسجد، فهل يعتبر ما بين مقدمة المسجد في جهة الإمام، وما بين موقف المقتدي من طول المسجد في الثلاثمائة الذراع، أم لا نعتبر مسافة المسجد ونرفعها من البين؟ فعلى الخلاف المقدم فيه إذا كان الإمام في المسجد، حيث قلنا: نعتبر ابتداء المسافة من آخر واقف في جهة المقتدي الخارج، أم نعتبر أولَ المسافة من آخر جزء من المسجد في جهة الواقف؟ وهذا بيّن.
ولو وقف المقتدي الواقف في ملك في سطحِ داره، متصلاً بسطح المسجد، فهذا الآن يضاهي اتصال ملكِ منبسطِ لا بناء فيه بالمسجد، أو بأرضٍ مباحة، ثم اعتمد الشافعي أثراً عن عائشة، وهو لعمري معتصم عند ضيق القياس، وهو ما روي: "أن نسوة في حجرة عائشة، أردن أن يصلين فيها، مقتديات بالإمام في المسجد، فنهتهن عائشة، وقالت: إنكن دون الإمام في حجاب" (1).
فرع:
1247 - إذا وقف الإمام والمأموم في سفينة واحدة، والسفينة مكشوفة، فالذي قطع به أئمتنا: أن النظر إلى البحر الذي عليه السفينة، فنُجريه مجرى الأرض المباحة في المواقف، والسفينة تحت الأقدام كصفائح منصوبة في الصحراء، وقد وقف عليها القوم، فلا أثر لتلك الصفائح.
__________
(1) أثر عائشة لم أصل إليه إلا عند اليهقي من رواية الربيع عن الشافعي بلفظ: قد صلى نسوة مع عائشة في حجرتها، فقالت: لا تصلين بصلاة الإمام، فإنكن دونه في حجاب". قال الشافعي رحمه الله: وكما قالت عائشة -إن كانت قالته- قلناه" ا. هـ (ر. السنن الكبرى: 3/ 111). هذا ولم يتعرض الحافظ في التلخيص لهذا الأثر، ولا النووي في المجموع، ولم أصل إليه عند الشافعي.

(2/413)


ولو كانت السفينة مسقفة، والركاب تحت السقف، فنجعل السفينة الآن بمثابة دار مملوكة، وقد تقدم التفصيل فيه.
ولو كان الإمام في سفينة أخرى، والسفينتان مكشوفتان، فالذي صار إليه أئمة المذهب جواز الاقتداء، واعتبار القرب والبعد المذكور في الصحاري.
وقال أبو صعيد الإصطخري: إن كانت سفينة المأموم مشدودة بسفينة الإمام، بحيث نأمن أنها لا تتقدم على سفينة الإمام، فالقدوة صحيحة على قرب الصحاري، وإن كانتا مطلقتين، قال: لا يصح الاقتداء؛ فإنا لا نأمن أن تتقدم السفينة التي فيها المقتدي في أثناء الصلاة، على السفينة التي فيها الإمام. وهذا متروك على أبي صعيد. والوجه تصحيح القدوة، وعدم المبالاة بما يتوقع من تقدّم، على أن تقدّم السفينة المتأخرة على السفينة المتقدمة بعيد.
ثم قال شيخنا أبو بكر (1): وما ذكرناه في سفينتين مكشوفتين، فأما إذا كانتا مسقفتين، وكان الإمام والمأموم تحت السقوف، فالقدوة فاسدة، فإنَّ كلَّ واحدٍ منفردٌ عن الثاني ببيت على حياله، فهو كما لو فرض بيتٌ في بنيان في الصحراء، والإمام في أحدهما، والمقتدي في الثاني.
فهذا تمام ما عندنا في المواقف. والله المستعان.
...
__________
(1) المراد: أبو بكر الصيدلاني. كما حررناه من قبل.

(2/414)


باب صفة الأئمة
1248 - قد ذكرنا فيما تقدم من يصح الاقتداء به ومن لا يصح الاقتداء (1). وهذا الباب معقودٌ لبيان من هو أولى بالإمامة عند فرض اجتماع قوم يصلح كل واحد للإمامة، ولكن الغرض بيان الصفات المرعية في تقديم من هو أولى بالتقديم والإمامة.
والأصل أولاً في الباب ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعُصبة وفدوا عليه: "يؤمكم أقرؤكم لكتاب الله، فإن لم يكن، فأعلمكم بسنة رسول الله، فإن لم يكن، فأقدمكم سِناً. أو قال: أكبركم سِناً" (2)، فصار الحديث أصلاً في التقديم بالفضائل.
ثم مذهب الشافعي أن الأفقه الذي يحسن قراءة الفاتحة، مقدَّم على الأقرأ الماهر بالقراءة (3)، إذا كان في الفقه غير مواز لصاحبه، والسبب فيه أن الصلاة إلى الفقه أحوج منها إلى قراءة السورة؛ فإن ما يتوقع وقوعه من الوقائع لا نهاية له، ولا يغني فيها إلا الفقه والعلم، ويجوز الاكتفاء بقراءة الفاتحة.
وظاهر الحديث الذي رويناه مشعر بتقديم الأقرأ، ولكن الشافعي أوّل الحديث، ونزّله على الوجه الحق، فقال: فإن الأغلب في الصحابة أن من كان أقرأ، كان أفقه.
__________
(1) كذا في جميع النسخ، بحذف " به " وهو سائغ جيد، لا غبار عليه.
(2) حديث: "يؤمكم أقرؤكم .. " رواه مسلم بنحو هذا السياق. من حديث أبي مسعود الأنصاري، (ر. صحيح مسلم: كتاب المساجد، باب من أحق بالإمامة، ح 673، وتلخيص الحبير: 2/ 32 ح 576).
(3) كذا في جميع النسخ، ولعلها (بالقرآن) كما هو وارد في لفظ الحديث الشريف، عن فضل وجزاء القارىء الماهر بالقرآن. مجرد حَدْس. والله أعلم.

(2/415)


وقد روي أنهم كانوا يتلقنون خمساً من القرآن، ثم لا يجاوزونها حتى يعلموا ما فيهن، ويعملوا بما فيهن، فكان القراء فقهاء في ذلك الزمان.
وقد قال بعض جلة الصحابة: "نحن في زمان قل قراؤه، وكثر علماؤه، وسيأتي زمان يقل علماؤه، ويكثر قراؤه"، وقيل: كان يستقلّ بحفظ جميع القرآن ستة نفر: أبو بكر، وعثمان، وعلي، وزيد، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود. ثم لحقهم من بعدهم، عبد الله بن عباس، فاستظهر القرآن.
وللكلام على الحديث سرٌّ به يتم الغرض وهو: إن عمر كان مفضَّلاً على عثمانَ، وعليّ، والثلاثة الذين ذكرناهم بعدهم، وكان أعلم وأفقه منهم، ولكن كان يعسر عليه حفظ القرآن، وقد جرى كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأعم الأغلب لما قال: يؤمكم أقرؤكم.
فهذا ما أردناه. فالقراءة والفقه، مقدمان على جملة الصفات المرعية. والفقه مقدّم على المهارة في القراءة.
1249 - وكان شيخي يقول: الورع مقدم على الفقه؛ فإن المتورع موثوق به، ولا يعدل المحقَقُ بالديانة والورع شيئاًً، وهذا فيه نظر.
والوجه عندي أن نقول: الورِع العارفُ بمقدار الكفاية، مقدم على الفقيه [القارىء] (1) الفاسق؛ فإنا لا نأمن ألا يحتفل الفاسق برعاية الشرائط.
فأما إذا كان الفقيه ورعاً أيضاً، ولكن فضَلَه في الورع صاحبُه، فالفقه مقدم عندي على مزيّة الورع.
1250 - ثم نتعرض بعد الفقه والقراءة للسن والنسب، فلا يوازيهما في مقصود الباب بعد الفقه والمهارة في القراءة شيء، ثم إذا اجتمع سن ونسب، والمعني بالنسب المعزي (2) إلى قريش، فقد ذكر الشيخ أبو بكر وجهين، وفي بعض التصانيف قولان:
__________
(1) زيادة من (ت 1)، (ت 2).
(2) الفعل (عزا) واوي ويائي.

(2/416)


القديم - أن القرشي مقدم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قدموا قريشاً ولا تتقدموها" (1).
والمنصوص في الجديد: أن السن مقدّم، لما رويناه في صدر الباب، أنه صلى الله عليه وسلم: ذكر بعد الفقه والقراءة السنَّ، فقال: "وإن لم يكن، فأقدمكم سناً " أو قال: "أكبركم سناً"، قال العراقيون: إنما يؤثر كبرُ السن إذا كان في الإسلام، فلو أسلم شيخ من الكفار، فلا نقدمه لسن أتى عليه في الكفر. وهذا حسن بالغ.
ثم كان شيخي يشير إلى الشيخوخة وروى فيها أخباراً، مثلَ قوله صلى الله عليه وسلم: "من إجلالِ الله إجلالُ ذي الشيبة المسلم" (2)، وهذا قد يُخَيِّل أن ابنَ الثلاثين مع ابن العشرين إذا اجتمعا، وابنُ العشرين قرشي، فالقرشيُّ مقدّم، من حيث إن صاحبه ليس شيخاً، ولكن أجمع أئمتُنا على أنا لا نعتبر الشيخوخة، بل يكفي كبرُ السن. والحديث الذي رويناه دال عليه، فإنه قال: "أقدمكم سناً".
والذي ذكره شيخنا في حكم من يخصص طرفاً من المسألة بنَصْبِ دليلِ فيه، ومما نجريه في ذلك، أنا قدَّمنا أن الورِع النازل في الفقه، والفقيه الذي ليس بالفاسق إذا اجتمعا، فالفقيه مقدم.
ولو اجتمع مرموق في الورع، ورجل مستور فقيه، فالفقيه مقدّم. ولو اجتمع مشهور بالزهد والورع، ورجل مستور أقدم منه سناً، أو قرشي، فهذا فيه احتمال.
والذي يقتضيه قياسُ المذهب، تقديمَ النسب والسن. والله أعلم.
__________
(1) حديث: "قدموا قريشاً .. " رواه الشافعي، والطبراني والبيهقي، وابن أبي شيبة. قال الحافظ: وقد جمعت طرقَه في جزء كبير. (ر. التلخيص: 2/ 36 ح 579، والسنن الكبرى: 3/ 121، والمصنف: 6/ 401، 402 ح 32386).
(2) حديث: "إن من إجلال الله ... " رواه أبو داود من حديث أبي موسى الأشعري بلفظ: "إن من إجلال الله إكرامَ ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه، والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط"، وصححه الألباني (ر. أبو داود: الأدب، باب في تنزيل الناس منازلهم، ح 4843، وصحيح أبي داود: 3/ 918 ح 4053، وصحيح الجامع: ح 2195 أو ح 2199 في الطبعة الجديدة. والمشكاة: ح 4972، وصحيح الترغيب: 1/ 93).

(2/417)


1251 - ومما يتعلق بتمام البيان في ذلك أن المعتبر نسبُ قريش. على ما ذكرناه.
وقد يفرض نسب شريف وهو الانتساب إلى العلماء والصالحين، وقد رأيت في كتب أئمتنا تردداً في ذلك، والظاهر أنه لا يختص بالانتساب إلى قريش، بل كل نسب معتبر في كفاءة النكاح، فهو مرعي هاهنا.
ولا ينبغي أن يَغْتَرَّ الناظر باستدلال الأصحاب بقوله: "قدموا قريشاً"؛ فإنه من جنس تعلق من يقدم السن بأخبار الشَّيب وتعظيمه.
وهذا منتهى القول.
1252 - وقد يعرض للفطن سؤال في السن والنسب، وهو أن نقول: تقابلُ الأخبار هلاَّ دلَّ على استواء السن والنسب؟ وهذا موضع تخيل مثل ذلك؛ فإن الكلام في التقديم، وفي الأَوْلى، والنظر في الصفات، يتقارب مأخذه. ولا يتناقض (1) في هذا المقام الحكمُ بالاستواء، ونحن قد [نَجْبرُ] (2) في كفاءة النكاح بعضَ المناقب ببعض (3)؟.
قلنا: لا سبيل إلى ذلك؛ فإن ما تعلق به ناصر كل قولٍ، يشير إلى التقديم، كقوله صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشاً"، وقوله: "فأقدمكم سناً"، فكأنا نفهم على القطع إذا نظرنا في مأخذ ذلك، أن المسألة على التفصيل والتقديم، ودلالة الشريعة أين وجدت دالّة على ذلك، فنعتقد وجوب التقديم، ثم ننظر في الأَوْلى، وهذا من دقيق النظر.
فليفهم الناظر.
1253 - ثم ممّا يراعى في الباب النظافة، والنزاهة، في الثياب، والطهارة.
__________
(1) في (ت 2): يتفاوت مأخذه في تناقض.
(2) في الأصل وفي (ت 2): بدون إعجام. وفي (ط) نجيز، وفي (ت 1) نخير. وما اخترناه تقدير منا، رعاية للسياق، نرجو أن يكون هو الصواب.
(3) آخر السؤال الذي يعرض للفطن.
(4) حدث خطأ في ترقيم صفحات المخطوط، فسقط رقم (44 ي وش).

(2/418)


1254 - ولو اجتمع في دار إنسان طائفة، فالإمامة إلى مالك الدار، وإلى من يأذن له المالك.
ولو اجتمع في الدار مالك الدار ومكتريها منه، فالمكتري أَولى؛ لأنه مستحق المنافع.
ولو اجتمع مستعيرُ الدار وأجانب، فالمستعير أولى. وإن اجتمع المعير والمستعير، فإن رجع في العارية، فهو أولى، وإن لم يرجع، فقد اختلف جواب القفال في ذلك، فقال مرة: المعير أولى، وهو المالك، وليس للمستعير استحقاق، وقال مرة: المستعير أولى؛ فإنه صاحب السكنى إلى أن يُصرف ويُمنع.
ولو اجتمع في الدار مالك الدار والسلطان، فالسلطان أولى بالإمامة، وبتقديم من يرى؛ فإن الأئمة رضي الله عنهم كانوا يرون الإمامة للصلوات من أحكام الولايات، وقد وجدت كتب الأصحاب متفقة، ونصَّ الشافعيُّ عليه في المختصر (1)، وعلّتُه أن التقدُّمَ على السلطان، والتقديم بحضرته خروج من موجب المتابعة، وبذل الطاعة.
وإذا كان المالك راضياً بإقامة الصلاة في داره، فتعيينه متقدَّماً ومقدَّماً (2)، ليس من تصرفات الملاك، ولا يختلف انتفاع الكائنين في داره بذلك، فهو بالولاية العامة أليق.
فإن لم يكن والي، فالمالك أولى من غيره.
ولو كان السيد أسكن عبده داراً، فحضر قوم، فالعبد الذي هو ساكنُ الدار أولى بالتقدّم والتقديم، كما ذكرناه في المستعير، ولكن لو كان السيد حاضراً، فهو أولى بذلك، وفي حضور المعير مع المستعير الخلاف المقدَّم.
والفرق أن العبد في سكونه (3) ممتثل أمرَ مولاه، وسكون العبد من غرض السيد؛
__________
(1) ر. المختصر: 1/ 121. ولفظ الشافعي: "ولا يتقدم أحد في بيت رجل إلا بإذنه، ولا في ولاية سلطانِ بغير أمره".
(2) أي تعيين المأموم (المتقدَّم) والإمام (المقدَّم) ليس من تصرفات الملاك. وفي (ل): "فتعيينه مقدَّماً ومقتدياً".
(3) "سكونه" أي سكناه وسكنه، تقول: "اتخذت هذا البيت سكونًا، وهذا المكان لا يصلح =

(2/419)


فإنه ملكه، فإذا حضر السيد، فهو المالك، وإليه ترجع فائدة السكون، وفائدة السكون في حق المستعير آيل إليه، فإذا لم يرجع المعيرُ في العارية، فيجوز أن يقدر دوام الحق للمستعير.
1255 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن السلطان لو حضر، وفي المجلس من هو أقرأ أو أفقه منه، فهو المقدَّم، كما يتقدم على صاحب الملك في الدار.
1256 - فرجع ضبط الكلام إلى أن السلطنة مقدمة، ثم يليها الملك للمالك في الموضع المملوك، فإن لم يكن ولاية ولا ملك، فالذي يختص بالصلاة القراءة والفقه، فكانا مقدمين؛ لأنهما مختصان بالصلاة، ثم الفقه مقدّم على القراءة، كما تقدم.
وفي الورع سرٌّ؛ فإنه وإن لم يكن شرطاً في الصلاة، فله تعلق عظيم بثقة المقتدي وحسن ظنه في رعاية الإمام شرائط الصلاة. وتفصيل المذهب فيه ما ذكرته.
ثم السن والنسب لا تعلق لهما بالصلاة، ولكنهما من موجبات التقديم (1)، والإمامة تقدمٌ؛ فجرى فيهما من التردد ما ذكرناه.
1257 - ومما يتعلق بالباب أنه قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقبل الله صلاة من يؤم قوماً وهم له كارهون" (2)، فإذا كره قوم إمامةَ إنسان، فلا يستحب له أن يصلي بهم، وإن كان فيهم كارهون، فالنظر إلى الأكثر، وهذه الكراهية فيمن لم يقدّمه سلطان، فإن كان (3) منصوباً من جهة السلطان، فلا نظر إلى كراهية القوم إمامته.
__________
= سكوناً" وهو استعمال غير مألوف، ولكنه وارد في لسان الفقهاء ومستخدمٌ في ذاك العصر، وسيرد في كتابنا هذا في ربع المعاملات أكثر من مرة بهذا المعنى.
(1) في (ت 1) التقوى.
(2) حديث: "لا يقبل الله صلاة من يؤم قوماً وهم له كارهون" جاء هذا المعنى في حديث رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وصححه الألباني (ر. أبو داود: الصلاة، باب الرجل يؤم القوم وهم له كارهون، ح 593، وصحيح أبي داود: 1/ 118 ح 554، والترمذي: الصلاة، باب ما جاء فيمن أم قوماً وهم له كارهون، ح 360، وصحيح الترمذي: 1/ 113 - ح 295، وصحيح ابن ماجة: 1/ 159، كتاب إقامة الصلاة، ح 791، 792، المشكاة: 1123).
(3) في (ت 2) فإن لم يكن.

(2/420)


وروى الشافعي في الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يؤمن أحدُكم في بيت رجل إلا بإذنه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه" (1)، والتكرمة طنفسة، أو مصلى، أو بساط في موضع مخصوص يُجلس عليه مالك الدار من يريد إكرامه، فلا ينبغي لمن يدخل دار إنسان أن يجلس على تلك التكرمة من غير إذن مالك الدار (2).
...
__________
(1) حديث: "لا يؤمن أحدكم في بيت رجل إلا بإذنه .. " رواه مسلم في صحيحه، وهو جزء من حديث أبي مسعود البدري، بلفظ: " .. ولا تؤمَّن الرجلَ في أهله، ولا في سلطانه ولا تجلس على تكرمته في بيته إلا أن يأذن لك، أو بإذنه" وبنفس اللفظ تقريباًً، أبو داود، والنسائي، وابن ماجة. (ر. صحيح مسلم: 1/ 465، كتاب (5) المساجد، باب (53) من أحق بالإمامة، أبو داود: الصلاة، باب من أحق بالإمامة، ح 582، والنسائي: الإمامة، باب من أحق بالإمامة، ح 781، وابن ماجة: كتاب إقامة الصلاة، باب (46) من أحق بالإمامة، ح 980، وتلخيص الحبير: 2/ 36 ح 579، 580).
(2) إلى هنا انتهى الجزء الثالث من نسخة (ت 2). وجاء في خاتمته: "كمل الجزء بحمد الله وعونه وحسن توفيقه. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وسلّم تسليماً.
يتلوه في الجزء الرابع إن شاء الله. باب إمامة النساء".
وبهذا ينقطع سياق نسخة (ت 2) حيث فقد منها الجزء الرابع.

(2/421)