3568 - [وإذا] (1) أعتق الراهنُ العبدَ
المرهون، ورددنا عتقه، ثم انفك الرهن، فقد أشرنا إلى خلافٍ في ذلك.
والسبب فيه استمرار الملك، وزوالُ الحجر. وهذا يقرب من اختلاف القول في
أن المحجور عليه بالفلس إذا أعتق عبداً من جملة مالِه، فرددنا عتقه، ثم
انفك الحجر عنه، ولم يتَّفق بيعُ ذلك العبدِ في ديونه، ففي نفوذ العتق
عند إطلاق الحجر قولان، سيأتي ذكرهما في كتاب التفليس، إن شاء الله
تعالى، ووجه التشبيه بيّن.
ولا خلاف أن العتق لا ينفذ في اطراد الحجر عليه؛ فإن فائدة الحجر منعُه
من التصرف في ماله. وتفاصيل ذلك يأتي في موضعه. والراهن مطلقٌ، وقد
أبقى ملكَ نفسه في الرقبة، فظن ظانون أنه مطلق صادف عتقُه ملكَه، وسرى
إلى حق غيره.
ثم سنذكر في بيع المفلس مالَه -إذا انفك الحجر عنه، ولم يتفق صرفُ
مبيعه في دينه- قولين.
3569 - وأطلق الأصحاب القول بأن بيع الراهن في المرهون مردود، ولم
يقفوه على انفكاك الحجر، ولا فرق عندي بين البابين، ولا محمل لتصحيح
بيع المفلس مالَه على قولٍ إلا الحملُ على الوقف، ومحمل القولين لا
يمتنع جريانه في الرهن.
وبالجملة لا فرق بين البابين إلا أن أحد الحجرين جرى من غير اختيار
المحجور عليه في جميع ماله، والحجر الذي نحن فيه وهو الرهن جرى في مالٍ
خاص باختيار مالكه، فالوجه التسويةُ بين البابين، وتنزيلُ البيع
والعتقِ على ترتيب واحد، فالعتق أولى بالنفوذ، والبيع أبعدُ منه. وهذا
فنّ من الوقف زائد على الأصناف التي ذكرناها في كتاب البيع، وتقريرُه
في كتاب الحجر.
والفارق بين البيع والعتق أن تنفيذ التصرف بطريق الوقف ملتفت إلى مذهب
التعليق، فكأن المفلس قال: إذا انفك الحجر، فهذا العبد حر، وهذا يتطرق
إلى العتق، ويبعد عن البيع، والمحجور المبذّر عتقه مردودٌ في الحال،
وإذا انفك الحجر عنه، وظهر الرشد، لم ينفذ من العتق ما رددناه.
__________
(1) في الأصل: فإذا.
(6/113)
ولو قال في سفهه: إذا ظهر رشدي، فعبدي هذا
حر، لم ينفذ عتقه إذا آنس رشدَه. وأما استيلاده، فنافذ في الحالِ؛ فإنه
يجري على مذهب الاستهلاك، وهذا واضح.
وقد نجز غرضنا من تفصيل القول في إعتاق الراهن واستيلاده وما يتعلق
بأطراف الكلام في ذلك.
3570 - ثم قال الشافعي في أثناء الكلام تفريعاً على ثبوت الاستيلاد: "
وتعتِق بموت السيد في قول من يعتقها " (1).
وهذا ترديدُ قولٍ منه في بيع أمهات الأولاد. وهذا القول مشهور في
القديم، وترديده القولَ فيما نقله المزني غريب. والاستيلاد على قوله
القديم لا أثر له، وهو من ضروب الاستخدام، فكأن السيد إذا أودعها ماءه،
ثم انفصل، فبقيت على رقها كالظرف يحتوي على شيء ثم يفرغ منه. وعلى هذا
لا تعتق مستولدة، ولا يمتنع بيعُها. وهذا قولٌ لا عمل به، ولا فتوى.
وقد كان فيه اختلاف في الصدر الأول، ثم أطبق العلماء بعدهم على المنع،
فالتحق هذا بإجماع بعد خلاف. وهذا مستقصى في فن الأصول.
فإذا مهدنا هذا الأصل الكبير، فقد حان أن نرجع إلى صدر الفصل، فنقول:
إذا رهن الرجل جارية، فظهر بها حمل، وقال الراهن: هذا الولد مني، وقد
كانت علقت به ولم أشعر، فرهنتها: فإن صدقه المرتهن، فلا كلام، فيثبت
النسب والولد حرٌّ، لا ولاء عليه، والجارية أم ولد، والرهن باطل، وليس
على الراهن قيمةٌ توضع رهناً؛ من قِبل أنه لم يجن (2) على رهنٍ لازم،
بل تبيّنا أن لا رهن.
نعم لو كان هذا الرهن مشروطاً في بيعٍ، وقد تبين امتناعهم (3) بالسبب
الذي ظهر، فيثبت الخيار للبائع؛ من قِبل تعذر الوفاء بالشرط المذكور في
العقد. وسيأتي
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 211.
(2) في (ص)، (ت 2): يجر.
(3) كذا في النسخ الثلاث. ولعلها: (امتناعه) أي الرهن.
(6/114)
هذا في موضعه من الكتاب، إن شاء الله عز
وجل.
هذا إذا صدقه المرتهن.
فإن كذبه المرتهن، وقال: ليس الولدُ منك، فإن كانت للراهن بينة أقامها،
أو أقامتها الجارية، والشهادة على جريان الوطء من الراهن قبل العقد، أو
بعد الرهن قبل الإقباض. والحكم ما قلناه في المسألة الأولى.
فإن قيل: يحتمل أن يثبت الوطء، ولا يثبت العلوق. قلنا: نعم، هو كذلك.
ولكن العلوق عيبٌ، ولا شيء يدار الإقرارُ والإنكار عليه إلا الوطء،
ولهذا قلنا: إن السيد إذا اعترف بوطء مملوكته وأتت بولدٍ لزمانٍ يمكن
أن يكون من الوطء، فالنسب لاحق على تفصيل يأتي في موضعه، إن شاء الله
تعالى، وهذا يعتضد باستلحاقه النسبَ، فصار مجموع هذا مثبتاً للاستيلاد.
وإن كذبه المرتهن، ولا بينة، فنقول: أما نسبُ المولود، فثبت لاستلحاق
الراهن، وتثبت حريةُ الولد. وأما الاستيلاد، فهل يحكم به حتى يبتني
عليه تبين بطلان الرهن؛ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها - لا يحكم به؛ لأنه
أثبت للمرتهن حقاً، ثم ادعى ما يتضمن بطلانَه، فلا يقبل.
والوجه الثاني - أنه مقبول؛ من جهة انتفاء التهمة؛ إذ إقراره لو ثبت،
فمتضمنه زوال الرق، وقد يقبل الإقرار في محل حق الغير، لانتفاء التهمة،
وعليه بنينا قبول إقرار العبد بما يوجب سفك دمه، أو بما يوجب عقوبةً
عليه.
والوجه الثالث - أنا نفصّل بين أن تأتي بالولد لستة أشهرٍ، فما دونها
من وقت الإقباض، وبين أن تأتي بالولد لأكثر من ستة أشهر؛ فإن الأمر إذا
كان كذلك، اتسع مسلك الإمكان، ولم يبعد أن يُفرض العلوقُ بعد تمام
الرهن. وتحقيق الفرق أنا إذا أثبتنا العلوق حالة القبض، فإقرار الراهن
يرد على غير محل الرهن، ولو كان موجوداً حالة القبض، فيقع ثبوت
الاستيلاد تابعاً.
وهذا يلتفت إلى أصل سيأتي بعد هذا. وهو أن من رهن عبداً أو باعه، ثم
زعم بعد ظهور اللزوم، أنه كان أعتقه، أو كان باعه. وهذا سيأتي في مسائل
الرهن، إن شاء الله تعالى.
(6/115)
فإن قيل: إن قبلتم إقراره، فلا سؤال. وإن
لم تقبلوه، فهلا خرَّجتم هذا على الأقوال في أنه لو أنشأ الاستيلاد هل
يثبت؛ حتى تقولوا: إن نفذنا منه الاستيلاد ابتداء، ينفذ إقراره، وإن لم
ينفذ منه الاستيلاد ابتداء، فلا يقبل إقراره، تخريجاً على تنزيل
الإقرار بالشيء منزلة إنشائه؛ فإن الوكيل بالبيع لو أقر بالبيع، نفذ
إقراره كما ينفذ إنشاؤه البيع. ولو أظهر الموكِّل عزله، ثم ادعى
الوكيلُ البيعَ، لم ينفذ قوله. وهذا يطرد لنا وينعكس.
قلنا: هذا جارٍ في التصرفاتِ التي يسلِّط الشرعُ على الإقدام عليها،
فيجعل الإخبارَ عن الشيء بمثابة إنشائه، إذا كان إنشاؤه مملوكاً للمقر.
والراهن على كل مذهب ممنوعٌ من الإقدام على استيلاد الجارية المرهونة.
وهذا مما اختلف أصحابنا فيه، وتخريجه على أصلٍ سيأتي في كتابِ الحجر.
وهو أن المبذر لو أقر بالطلاق، نَفَذَ، اعتباراً بأنشائه، ولو أقر أنه
أتلف مالاً، ففي قبول إقراره خلاف؛ فإن الإتلاف ليس ما يملكه شرعاً،
ولكن يتصور وقوعه منه، وهل يقبل إخباره فيه؟ فعلى وجهين.
كذلك قلنا: لو وقع استيلاد الراهن، لنفذ، فإذا اعترف به، ففي نفوذه
الخلاف الذي أشرنا إليه.
فصل
3571 - كل تصرف يمتنع نفوذُه لحق المرتهن، فإذا أذن فيه، نفذ؛ فإن
المانع حقُّه. وإذا أذن للرّاهن في بيع المرهون، أو في هبته، فباع أو
وهب، نفذ. وإذا فرعنا على أن العتق لا ينفذ من الراهن، فإذا أذن فيه
المرتهن، نفذ. وسنذكر أن الراهن لا يجوز له أن يطأ الجارية المرهونة
إذا كانت بصدد أن تحبل، وفي التي لا تحبل كلام سيأتي، إن شاء الله
تعالى.
وإذا أذن في الوطء، فوطىء الراهن بالإذن وترتب عليه العلوق، ثبت
الاستيلاد، وإن وقع التفريع على أن الاستيلاد لا ينفذ لو انفرد الراهن.
(6/116)
ثم الإذن المجرّد لا يرفع عقد الرهن، حتى
يتصل بوقوع التصرف.
وللمرتهن أن يرجع قبل التصرف عن إذنه. وإذا أذن في الهبة والإقباض،
فوهب الراهن، ورجع المرتهن عن الإذن، لم يملك الراهن الإقباضَ، ولو أذن
في البيع من غير تعجيل حق ولا شرط جَعْل الثمن رهنا، فباع الراهن على
شرط الخيار، فقال المرتهن رجعت عن الإذن؟
الذي ذهب إليه المحققون أن رجوعه لا ينفعه، وللراهن إلزام العقد، وقطع
الخيار، كالهبة مع القبض، وذلك لأن القبض ركنُ العقد فيه (1). وهو ينزل
منزلة القبول من الإيجاب، وكأن الهبة عدلاً والوفاء بها الإقباض،
والبيع مبناه على اللزوم والخيار دخيل فيه، فهو مفوّض إلى من له
الخيار.
ولو أذن في الوطء فوطىء، ولم يتفق العلوق، فحق الرهن باق؛ فإن الوطء لا
ينافي الرهن، وإنما ينافيه العلوق، وثبوت الاستيلاد. فلو لم يأذن إلا
في وطأة، فلم تَعْلق، فلا يعود الراهن إلى الوطء. ولو كان أذن في جنس
الوطء، ثم رجع عن إذنه، تعين على الراهن أن يمتنع.
3572 - ثم فرض الشافعي والأصحابُ صوراً في اختلاف الراهن والمرتهن في
الحكم الذي نحن فيه. ونحن نرسم مسائل تستوعب الغرض.
فمنها أن يختلفا في أصل الإذن، فيقول الراهن: أذنت في الوطء، وأنكر
المرتهن، فالقول قول المرتهن مع يمينه؛ لأن الأصل عدم الإذن.
ثم إذا كان أولدها وجرى الخلاف كما وصفناه، وحلف المرتهن، عاد التفريع
إلى وقوع الاستيلاد. والأولى تفريع صور الخلاف على أن الاستيلاد لا
يثبت على استبدادٍ. فإن نكل الراهن عن يمين الرد، فأرادت الجارية أن
تحلف لمكان حقها من عُلقة الحرية، فهل لها ذلك؟ على وجهين ذكرهما
العراقيون: قالوا: والأصح أنها لا تحلف؛ فإنها ليست بمتأصلة في الحق،
وإنما يثبت أمرها تبعاً، والأيمان لا تعرض على الأتباع، ولذلك لا يحلف
الوكيل، وسنذكر نظائر ذلك في كتاب
__________
(1) في (ص)، (ت 2): ففيه. (والضمير هنا يعود على البيع).
(6/117)
القسامة، ثم في كتاب الدعاوى، إن شاء الله
- هذه مسألة في الاختلاف.
المسألة الثانية - أن يقع الوفاق على أصل الإذن، ويعودَ الخلاف إلى
جريان الوطء، فقال الراهن: قد وطئتُ، وأنكر المرتهن ذلك. فيقول: ما
وطئتَ، وليس الولد الذي جاءت به الجارية منك. هذا أصل التصوير.
ثم ذكر الأئمة صورتين: إحداهما - أن يبتدىء الراهن فيقول: أذنتَ لي في
الوطء، فوطئتُ، وأعلقتُ. ثم يقول المرتهن: أذنت لك، وما وطئت، فالقول
قول الراهن؛ فإن الإذن متفق عليه، والوطء المختلف فيه من فعل الراهن،
فليكن الرجوع إليه في فعله.
هذا هو الأصح.
ومن أصحابنا من قال: الأصل عدمُ الوطء، وبقاء الرهن. وهذا يناظر ما لو
قال الرجل لامرأته: إن زنيتِ، فأنت طالق، فإذا زعمت أنها زنت، فالقول
قول الزوج في إنكار زناها؛ فإن الأصل عدم وقوع الطلاق، وعدم الزنا.
هذا أصل المذهب. وليس كما لو قال: إن حضت، فإنت طالق، فقالت: حضتُ،
فالقول قولها؛ إذ لا يُطلع على حيضها إلا من جهتها، ويُطَّلع على سائر
أفعالها من غير جهتها. ولا فرق بين ما يخفى في العادة وبين ما يظهر،
كدخول الدّار ونحوه.
ومن أصحابنا من صدق المرأة فيما يخفى وتطرد العادة بكتمانه، كالزنا
ونحوه.
وهذا مزيف لا أصل له. فإن قيل: لم كان ظاهر المذهب تصديقَ الراهن في
الصورة التي ذكرتموها؟ وما الفرق؟ قلنا: إذا كان الوطء مأذوناً،
فادّعاه من أُذن له، كان هذا ادعاءَ أمر يملك إنشاءه، وكل مأذون في شيء
يدعي مع دوام الإذن إيقاعَ ما أُذن فيه، فقوله مقبولٌ، كالوكيل بالبيع
إذا ادّعى البيعَ قبل أن يُعزل؛ فتصديق الراهن يؤخذ من هذا الأصل، وهو
غير متحقق في تعليق الطلاق بالصفات؛ إذ ليس في التعليق تسليطٌ على أمرٍ
وتولية في شيء، والطلاق يعلق تارةً بما يدخل تحت اختيار الزوجة، وتارة
يعلّق بأمور ضرورية، لا اختيار فيها كغروب الشمس وطلوعها. هذا فيه إذا
قال الراهنُ أولاً: أذنت لي، فوطئت. وقال المرتهن بعده: ما وطئتَ.
(6/118)
فأما إذا قال المرتهن أولاً: أذنتُ لك في
الوطء، فما وطئتَ، فقال الراهن بعده: أذنت لي فوطئتُ. ذكر الأئمة في
هذه الصورة وجهين ورتبوهما على الخلاف في الصورة الأولى، وجعلوا هذه
الصورة الأخيرة أولى أن يصدَّق المرتهن فيها، وعلّلوا بأن قول المرتهن
إذا تقدَّم يتضمن عزل الراهن عن الإذن في الوطء، فيقع قول الراهن بعد
انعزاله، وليس كالصورة الأولى إذا تقدم قول الراهن. وهذا ليس بشيء.
وليس ما قاله المرتهن قطعاً للإذن، ولا عزلاً، وإنما هو خبر عن الإذن،
واعتراف به، ثم ادعاءُ عدم الوطء؛ فلا عزل إذاً.
وحصل من الصورتين أوجه: أحدُها - أن القول قول المرتهن في الصورتين؛
فإن الأصل عدم الوطء. والثاني - أن القولَ قولُ الراهن في الصورتين كما
استشهدنا به من ادعاء الوكيل البيع الذي وكل به. والوجه الثالث - أنه
يفصل بين أن يتقدم قول الراهن وبين أن يتقدم قول المرتهن، فالمصدَّق من
يقدَّم قوله. وهذا ما اختاره القاضي، وهو ضعيف؛ فإنه بناه على العزل،
وزعم أن قول المرتهن يتضمن عزلَ الراهن، وهذا غيرُ مفهوم.
ثم قال لو قال الوكيل بالبيع لموكله: أذنتَ لي في البيع، فبعتُ، وأنكر
الموكِّل بيعَه، واعترف بالإذن، فالقول قول الوكيل. ولو قال الموكل
أولاً: أذنت لك في البيع، فلم تبع. وقال الوكيل: قد بعتُ. ذكرَ وجهين
في هذه الصورة أخذاً مما تخيله من أن قول الآذن في ذلك رجوع عن الإذن.
وهذا كلام عريٌّ عن التحصيل.
3573 - ومن مسائل الاختلاف: أن يتفقا على الإذن، وجريان الوطء، ويقول
المرتهن: هذا الولد الذي أتت الجارية به ليس منك، ولم تُعلقها أنت
بوطئك، وإنما زنت، وأتت بولدٍ من غيرك، فالقول في هذه الصورة قول
الراهن بلا خلاف؛ فإن أصل الإذن متفق عليه، وكذلك جريان الوطء، ولا
يبقى بعد هذا في نفوذ الاستيلاد شيء إلا استلحاق المولود، والاستلحاق
إلى الواطىء، وهو من الأمور المفوّضةِ إليه، فلا معنى لتقدير مزاحمته.
ثم وجدت الطرق متفقة على أن الراهن لا يحلَّف في الصورة الأخيرة، ويكفي
استلحاقُه. وإذا جعلنا القولَ قولَ الراهن في ادعاء الوطء، فهل يحلّف؟
(6/119)
ذكر الأصحاب وجهين. والأظهر عندي أن يحلّف.
ووجهُ قول من لا يحلّفه أن حاصل كلامه يرجع إلى استلحاق المولود، وقد
تقدم أنه لا استحلاف فيه.
ولو ادعى الوطء، ولم يتعرض لاستلحاق النسب، لم يثبت الاستيلاد.
والوجهان في تحليف الراهن على الوطء ذكرهما صاحب التقريب على النسق
الذي ذكرناه.
وإن رأينا تصديق المرتهن في نفي الوطء، فلا يُثبت يمينُه؛ فإن كل من
أراد نفيَ فعل غيره، لم يزد في يمينه على نفي العلم به، وهذا لو صح
الرجوع إلى قول المرتهن أصل لا مراء فيه. وبه يضعف أصلُ هذا الوجه؛ فإن
المرتهن في الغالب لا يطلع على الوطء؛ ومهما حلف على نفي العلم بالوطء،
برَّت يمينُه، فيؤدي هذا المسلكُ إلى أن لا يثبت حقُّ وطء الراهن قط
إلا أن يطأ على رؤوس الأشهاد.
وهذا ينفصل عن تعليق الطلاق؛ فإن وقوع الطلاق ليس من حقها، وكذلك
فعلُها الذي هو صفة في الطلاق، فإن كان لا يظهر وقوع الطلاق، فليس فيه
تعطيل حق، والراهن يطأ بحق الملك؛ فإن الوطء لا يستباح بالإذن، ولكن
الإذن يرفع المانع من اليمين.
وإذا كان هذا من حق الراهن، فينبغي له أن يمهّد له سبيلٌ إلى إثباته
على يسر.
3574 - ثم إن المزني ذكر المسألة الأخيرةَ، وحكى عقيبها عن الشافعي أنه
قال: إن كان موسراً، فعليه القيمةُ، وإن كان معسراً، فلا شيء عليه. ذكر
هذا في صورة الاعتراف بالإذن والوطء، ثم أخذ يعترض ويقول: وجب أن لا
نلزم القيمة، لأن الوطء جرى بالإذن، فوجب بطلان حقه.
قلنا: الأمر على ما ذكرتَ، ولكن أخطأتَ ووهمت في النقل، والشافعي ذكر
هذا في المسألة الأولى من مسائل الاختلاف: وهي إذا أنكر المرتهن أصلَ
الإذن وحلف. وقد تتبّع الأثباتُ نصوصَ الشافعي في الكتب، فلم يجدوا ما
ذكره المزني من الفرق بين الموسر والمعسر، إلا على أثر إنكار المرتهن
أصلَ الإذن.
فرع:
3575 - ذكر العراقيون في أثناء الكلام عند ذكرهم إذْنَ المرتهن مسألة
في الإذن أحببت نقلها، وهي أنهم قالوا: لو قال السيد: اضرب عبدي،
فضربه، وأتى
(6/120)
الضرب عليه. قالوا: لا ضمان على الضارب.
وقالوا: الزوج مأذون من جهة الشرع في ضرب زوجته، ولو ضربها وأتى الضرب
عليها، ضمنها، وفرقوا بأن الإذن في ضرب الزوجة مقيد بتوقي القتل
وإبقائها والإبقاء عليها. والإذنُ في الضرب مطلق في المسألة التي
ذكرناها لا تقييد فيه.
وكأنهم رأوا الأمر بالضرب أمراً بجنسه بالغاً ما بلغ.
وهذا محتمل عندي؛ فإن الضرب يخالف القتل، فالأمر به أراه مُشعراً
بالاقتصار عليه، ومن قتل إنساناً لا يقال: ضربه. ولو قال: أدِّب عبدي،
فلا يجوز أن يُشكَّ في أنه لو قتله، ضمنه؛ فإن التأديب مصرِّحُ بإبقاء
المؤدَّب.
فصل
قال: " ولو وطئها المرتهن ... إلى آخره " (1).
قد ذكرنا فيما تقدم وطءَ الراهن بالإذن وغيرِ الإذن. وهذا الفصل مضمونه
ذكرُ وطء المرتهن الجاريةَ المرهونة. ولذلك صورتان:
إحداهما - أن يقع الوطء من غير إذن الراهن. والأخرى - أن يقع الوطء
بإذنه.
فأما إذا وطىء بغير إذن الراهن، فلا يخلو إما أن يكون عالماً بالتحريم،
وإما أن يدعي الجهلَ به، فإن كان عالماً بالتحريم، فهو زان يلزمه الحد.
فإن استكره الموطوءة، التزم مهرَها للراهن. وإن طاوعته، فهي زانية.
واختلف الأصحاب في وجوب المهر: منهم من قال: لا مهر، وإليه ميلُ
المحققين. ومنهم من أوجب المهر.
3576 - التوجيه: من قال: يجبُ المهر، احتج بأنَ مُطاوعتها إباحة منها،
وإباحتها مهدرة في حق المولى، فأشبه ما لو أباحت قطع طرفها لجانٍ؛ فإن
الضّمان لا يسقط بإباحتها.
ومن قال: يسقط، احتج بأن قال: هي بغيّ أوّلاً، وقد " نهى رسول الله صلى
الله
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 211.
(6/121)
عليه وسلم عن مهر البغي " ومنافع البضع
تقوّمت بالشرع إذا استهلكت وهي محترمة، ولا حرمة مع البغاء.
وفيه لطيفةٌ من جهة المعنى، وذلك أنها إذا طاوعت، فهي مشاركة في العمل،
وليس الزاني منفرداً بإتلاف المنفعة، ولا تمييز ولا تشطير. والشرع لا
يتقاضى إثباتَ البدل لحقٍّ حرمه، فلا شيء.
هذا إذا كان عالماً بالتحريم.
فأما إذا كان جاهلاً فيما زعم، بأن كان حديث العهد بالإسلام، وظن أن
الارتهان يبيح المرهونة، فإذا ادعى الجهلَ ولم يبعُد ما قال، فلا حد.
وإذا انتفى الحد، فالكلام بعده في المهر، والنسب، والحكم برق الولد
وحريته.
الظاهر أن النسب يثبت؛ لمكان الشبهة الدارئة للعقوبة. وإذا اندفع الحد
لشبهة، كان الوطء على حظ من الحرمة (1)؛ فيثبت النسب.
ومن أصحابنا من قال: لا يثبت. ثم الطريقة الصحيحة تخريج رق المولود على
الخلاف في النسب، فإن حكمنا بالنسب، فالولد حر، وإن نفينا النسب،
فالولد رقيق.
وقال بعض أصحابنا: النسبُ يثبت وفاقاً. وفي ثبوت الحرية وجهان. وهذا
القائل يزعم أن النسب أسرع إلى الثبوت.
وعكس بعض من ينتسب إلى التحقيق هذا، فقطع بإثبات الحرية، وردّد القول
في النسب، وصار إلى أن الولد النسيب هو المنعقد من ماء محترم، والحرمة
غير متكاملة.
وهذا كله خبط.
والوجه إجراء النسب والحرية مجرى واحداً. والمذهب ثبوتهما. وكان شيخي
يعلل الوجه الآخر بضعف الشبهة، ويقول: الحدّ يندرىء بأدنى شبهة. والنسب
يستدعي شبهة لها وقعٌ.
__________
(1) " الحرمة ": من " الاحترام "، وليس من "التحريم".
(6/122)
وقرّر القاضي في هذا كلاماً، وقال: من لا
يعلم حكم الإسلام تحريم هذا الوقاع فكأن لا شبهةَ ولا بصيرة. ثم قال:
إذا زنى مجنون بعاقلة، فالقول في النسب يجب أن يخرّج على هذين الوجهين،
فإن المجنون ليس ممن يدري، وليس ممن يتصف بنقيض الدراية، والشبهةُ إنما
تثبت في حق من يعذر بظنٍّ وهو (بصدد) (1) الدراية، وعليه يخرّج عندي
الخلاف في عمد المجنون في القتل؛ فإن إلحاقه برتبة المخطىء لا وجه له
وإقدامُه معلوم حساً. وهذا لائح في المجنون. فأما إلحاق عاقل جهل
التحريم -ومن الممكن أن يعرفه- بالمجنون، فبعيد. فأما المهر، ففيه تردد
للأصحاب؛ من جهة ضعف الشبهة، وأنها لم تورِث حرمة، والأصح ثبوت المهر.
هذا كله إذا وطىء المرتهن من غير إذن الراهن.
3577 - فأما إذا وطىء بإذن الراهن، فإذا كان عالماً بالتحريم، لزمه
الحد في ظاهر المذهب.
وقيل: لا حدَّ عليه لشبهة الخلاف؛ فإن عطاء بن أبي رباح، كان يجوّز
إعارة الجواري، وكان يبعث بجواريه إلى ضيفانه، فلينتهض مذهبُه شبهة في
درء الحدّ.
وهذا ليس بشيء؛ فإن الحد لا يدرأ بالمذاهب، وإنما يدرأ بما يتمسك به
أهل المذاهب من الأدلة، ولا نرى لفظاً في هذا متمسكاً، ولا أصل لهذا
الوجه.
فإن قلنا: لا حد، فالكلام في النسب وحرية الولد على ما قدمناه في حق من
وطىء من غير إذن وادّعى الجهل بالتحريم.
وإن أوجبنا الحد، فلا نسب، والولد رقيق.
وإن ادعى الجهل بالتحريم عند إذن الراهن، فالدعوى في هذه الصورة أظهر.
واتفق الأصحابُ على أنه يتعلق بها دفع الحد، وثبوت النسب، وحريةُ
الولد.
ولا تصير الجارية أم ولد، وإذا ملكها يوماً من الدهر، ففيها القولان
المشهوران. وأما المهر، فقد اختلف قولُ الشافعي في وجوبه، فقال في قول:
لا يجب؛ لأن الإذن من
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث، والمعنى أن الشبهة تكون عن ظن خاطىء ممن هو
بصدد الدراية، أي من أهلها، والله أعلم.
(6/123)
الحرّ المستوجب للمهر قد حصل، وإذا سلطه ذو
الحق على إتلاف حقّهِ، فلا ضمان.
وقال في قول آخر: يجب المهر؛ فإن الإباحة لا وقع لها في الأبضاع، وليس
الوطء زنا.
قال القاضي: هذا الاختلافُ قريب من اختلاف قول الشافعي في أن المفوضة
هل تستحق المهر، وسيأتي ذلك مفصلاً في كتاب الصداق، إن شاء الله تعالى.
هذا قولنا في المهر.
فأما قيمة الولد وقد ثبتت حريته، ففيها طريقانِ: فالذي ذهب إليه معظم
الأصحاب أنها تجب، ولا تسقط بسبب الإذن في الوطء؛ فإن العلوق لا صنع
فيه للواطىء، فلا يكون الإذن في الوطء متعلِّقاً به.
هذا أحد الطريقين.
وقد ذكر صاحب التقريب طريقة أخرى في تخريج قيمة الولد على قولي المهر؛
فإن العلوق مترتب على الوطء المأذون فيه. والدليل عليه أنّ إذنَ
المرتهن للراهن في الوطء يوجب تنفيذ الاستيلاد، وسقوطَ الغرامة، وإن
كان الاستيلاد ترتب على العلوق.
وليس هو من صنع الواطىء. ولكن التسبب إلى الشيء بمثابة مباشرته.
فصل
قال: " ولو كان الرهن إلى أجلٍ، فأذن للراهن في بيع الرهن ... إلى آخره
" (1).
3578 - إذا أذن المرتهن للراهن في العتق، فأعتق بإذنه، بطل حقُّه من
الرهن، سواء كان الحق حالاًّ أو مؤجلاً؛ فإن الإعتاق إتلافٌ للمالية،
لا إلى عوض؛ فإذا أذن المرتهن به، سقط حقه بالكلية من الوثيقة.
فأمَّا إذا أذن بالبيع، فلا يخلو: إما أن يكون حالاًَ، أو مؤجلاً.
فإن كان مؤجلاً، ففيه مسائل: أحدها - أن يُطلق المرتهن الإذن في البيع،
ولا يقيده بشرط، فإذا باع الراهن بالإذن، انفك الرهن، ولا يلزم البائعَ
جعلُ الثمن
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 211.
(6/124)
رهناً مكان ما باع، خلافاً لأبي حنيفة (1).
هذه مسألة.
3579 - والمسألة الثانية - أن يأذن في البيع على شرط أن يعجل الدين من
ثمنه، فهذا الشرط باطل؛ فإنه يتضمن إثبات حق غيرِ ثابت، وهو التعجيل.
وإذا تبين فساد هذا الشرط، فالإذن يفسد بفساد الشرط ولا ينفذ بيع
الراهن، وينزل ما جرى منزلة ما لو باع مستبداً من غير إذن، وهذا يعد من
مشكلات المذهب.
وذهب المزني إلى أن البيع نافذ بالإذن. واحتج عليهِ بأن قال: الإذن في
البيع لا فساد فيه، وإنما الفساد في الشرط المقرون به، فليفسد الشرط،
وليصح البيع بالإذن، واستشهد عليه بالتوكيل بالبيع مع شرط فاسد، مثل أن
يقول: بع عبدي هذا ولك عشرُ ثمنه، فالأجرة فاسدة؛ من جهة أن مبلغ الثمن
مجهول، والجزء من المجهول مجهول. ولكن البيع من الوكيل نافذ، والرجوع
إلى أجر المثل، فليكن الأمر كذلك فيما نحن فيه؛ حتى يصح البيع، ويفسدَ
الشرط.
وهذا الذي ذكره المزني في ظاهره معنى كلي.
وقد قال العراقيون: حكي عن أبي إسحاق المروزي أنه ذكر قولاً مخرجاً
موافقاً لمذهب المزني، فحكم بنفوذ البيع، وبفساد الشرط. هذا حكَوْه، ثم
زيفوه.
وقالوا: التعويل فيما يُنقل عن أبي إسحاق على ما يوجد في شرحه (2).
وهذا غير موجود في شرحه، فالوجه القطع بما نص عليه الشافعي.
وما ذكره المزني نقول فيه: الإذن في البيعِ في مسألتنا مُعَارض باشتراط
شيء لا يستحَق، فكأن المرتهن أَذِنَ، وقابَل (3) الإذن بشرط يجر به
منفعة إلى نفسه، ولم يُثبت الشرع ذلك الشرط، ففسد، وإذا فسد مقابلُ
الشيء، فسد ذلك الشيء. وهذا يمثَّل بفساد أحد العوضين في المعاملات؛
فإن من حكمه فسادُ مقابلِهِ. وليس كذلك التوكيل بالبيع؛ فإنَ أصل الإذن
لا مقابِل له، وإنما المقابلة في عمل الوكيل وما شُرط
__________
(1) مختصر اختلاف العلماء: 4/ 303 مسألة: 2017، البدائع: 6/ 149، 153.
(2) المراد شرحه لمختصر المزني.
(3) (ت 2): فكان المرتهن إذا قابل للإذن.
(6/125)
له، والإذن في البيع خارج عنهما، فاستقل
الإذن بالصحة، وتقابل العمل والشرط، فقيل لَحِقَهما الفسادُ. أما أثر
الفساد في العمل، فهو أنه لا يستحق، وأثر الفساد في العوض لائح، فيخرج
منه نفوذ البيع بحكم الإذن المطلق، والرجوع إلى أجر المثل على قياس
المعاوضات الفاسدة.
ونفس الإذن في مسألتنا مقابَل بفسادٍ، وذلك الفساد عوض الإذن.
هذا منتهى الإمكان في هذا.
3580 - والمسألة الثالثة - أن يأذن في البيع، ويشترطَ وضعَ ثمنه رهناً
مكانه. وفي المسألة قولان: أحدهما - أن الشرط يفسد، ثم يفسد بفساده
الإذن في البيع، كما قدمناه في المسألة الثانية.
والقول الثاني - أن الشرط صحيح، والإذن في البيع صحيح، فإذا بيع
المرهون، لزم جعلُ ثمنه رهناً. وهذا في حكم نقل الرهن من العين إلى
عوضه، فإذا كان يجري هذا وفاقاً؛ فإن المرهون إذا هلك تعلق حق الوثيقة
بقيمته، وما يقع لا يمتنع شرطه.
وهذا يترتب على أصل سيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى. وهو أن من رهن ما
يتسارع الفساد إليه، فهل يصح الرهن فيه والدين مؤجل؟ فعلى قولين،
أحدهما - لا يصح؛ فإن مقتضى الرهن الحبسُ إلى حلول الدين، والحبس يفسد
الرهن.
والقول الثاني - يصح الرهن، ويباع ويوضع ثمنه رهناً، وسيأتي ذلك. فإن
أفسدنا فيما يفسد من يومه، فذاك لمصيرنا إلى امتناع النقل، فلا يجوز
إذاً شرط النقل.
وإن صححنا رهنَ ما يفسد، ونزلنا على نقل (1) الوثيقة من العين إلى
ثمنها، فلا يمتنع شرطه.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الدين مؤجلاً (2 وجرى الإذن 2) من المرتهن
في البيع قبل حلول الأجل مطلقاً أو مقيداً.
3580/م- وأما إذا كان الحق حالاًّ، فأذن المرتهن في البيع، نُظر: فإن
كان الإذن
__________
(1) في (ص)، (ت 2): رهن.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ص)، (ت 2).
(6/126)
مطلقاًً، نفذ البيع، ولزم قضاء الحق من
ثمنه؛ لأن هذا مستحق بحكم الرهن، فمطلق الإذن محمول عليه. فإنْ شَرَطَ
قضاءَ الحق منه، فقد زاد تأكيداً، وصرح بما يقتضيه الإطلاق.
ولو أذن في البيع على شرط أن يوضع ثمنه رهناً، ففي المسألة قولان
والحقُّ حالٌّ، كالقولين إذا كان مؤجلاً، فلا يختلف الترتيب في هذا
الشرط في الحالّ والمؤجل، فإنَّ نقل الرهن غيرُ مستحق في الحالتين. هذا
بيان المسألة.
3581 - ثم ذكر الشافعي بعد هذا اختلافاً بين الراهن والمرتهن في كيفية
الإذن، والقول مفروض في الدين المؤجل، فإذا باع الراهن الرهنَ بالإذن،
ثم اختلف الراهن والمرتهن: فقال الراهن: أذنتَ في البيع المطلق، وقال
المرتهن أذنتُ في البيع وشرطتُ أن يوضع ثمنُه رهناً، فظاهر المذهب أن
القول قول المرتهن مع يمينه؛ فإن البائع يدعي الإذن على وجه ينقطع فيه
تعلق المرتهن، والمرتهن يأبى ذلك، والأصل استمرار تعلقه بحق الوثيقة.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً آخر في ذلك، ووجهوه بأن أصل الإذن متفق عليه، و
[المرتهن] (1) يدعي ضم شيء إلى الإذن، والأصل عدمه. وهذا ليس بشيء،
والمذهب الأول.
وهذا ذكره شيخي وأنا أحسبه هفوة، فلا يعتد به.
ثم أطنب المزني في التعلّق بمسألة الوكيل الذي شرط له الجعل الفاسد،
وقد تكلمنا عليه بما فيه مقنع مذهباً وحجاجاً.
فرع:
3582 - إذا أذن المرتهن في البيع مطلقاًً والدين مؤجل، ثم رجع عن الإذن
قبل جريان البيع، صح رجوعه، ونفس الإذن في البيع لا يبطل حقَّ المرتهن،
بل الأمر موقوفٌ على جريان البيع على حكم الإذن. فلو اختلف الراهن
والمرتهن، وقد جرى الإذنُ في البيع والرجوعُ، فقال الراهن: بعتُ قبل
رجوعك. وقال المرتهن: بل رجعتُ قبل بيعك، فالذي ذهب إليه الأكثرون أن
القول قول المرتهن؛ فإنه تقابل
__________
(1) في الأصل: المدعي.
(6/127)
هاهنا أصلان: أحدهما - أن الأصل عدم بيعه
في الوقت الذي يدعيه، والأصل عدم رجوع المرتهن أيضاًً في ذلك الوقت،
فيتقابلان ويبقى أصل الرهن على ما تقرر ابتداء.
ومن أصحابنا من قال: ينفذ البيع؛ فإن الأصل استمرار المرتهن على حكم
الإذن الذي سبق منه.
وهذه المسألة تلتفت على اختلاف الزوجين في الرجعة وانقضاء العدة،
وسيأتي تفصيل ذلك في موضعه، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: " ولو رهنه أرضاً من أرض الخراج، فالرهن مفسوخ؛ لأنها غير مملوكة
... إلى آخره " (1).
3583 - أراد بأرض الخراج سوادَ العراق وكان غنمه المسلمون، واستولَوْا
عليه عَنْوة، واقتسموا واشتغلوا بالحراثة وتعلقوا بأذناب البقر،
وتقاعدوا عن الجهاد، فاستطاب أمير المؤمنين عمرُ -رضي الله عنه-
قلوبَهم عنها، فاستردَّ [ها] (2) منهم بعوض وغير عوض، ثم حبّسها على
المسلمين، وردَّها على سكان العراق ووظّف عليهم أجرة. هذا مذهب
الشافعي، وسيأتي شرحه في موضعه، إن شاء الله عز وجل في كتاب السِّير
والجزية، والغرض من ذكره الآن تفصيل القول في رهن تلك الأراضي.
وزعم ابنُ سريج أن عمر باع تلك الأراضي من أهل العراق، وما حبسها وجعل
الثمن موظفاً عليهم. وهذا يخالف نصَّ الشافعي، فإن ابن سريج يزعم أن
سواد العراق على التأويل الذي ذكره مملوك، فينفذ بيعه ورهنه. ونص
الشافعي يصرح بأن تلك الأراضي محبَّسةٌ ممتنعٌ بيعها ورهنها.
قال العراقيون: سواد العراق من عَبَّادان إلى الموصل طولاً، ومن
القادسية إلى حُلوان عرضاً، فلو فعل الإمام فينا مثلَ هذا، جاز. والقول
فيه يطول، وليس هو من
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 212.
(2) ساقطة من النسخ الثلاث.
(6/128)
غرض الكتاب، وإنما المقصود الكلامُ في أن
رهن سواد العراق غيرُ جائز على النص؛ فإنه محبس. وهو جائز على تخريج
ابن سريج.
وأما بيع ما فيهِ من أبنية، فكل بناء كان من برّية العراق، فهو أيضاً
غير مملوك، وما لم يكن من برّيته، فمملوك، والغراس لا شك أنه مستحدث،
فإذا كان مملوكاً، فالرهن فيه جائز، وكذلك البيع.
ولو جمع بين رهن أرضٍ من السواد وغراس فيه مملوك، فهذا من باب تفريق
الصفقة.
ثم مما وقع التعرض له في هذا الفصل أن بيع الأرض هل يستتبع الغراس؟
وهذا قد استقصيناه في كتاب البيع على أبلغ وجه، فلا معنى لإعادته، وشرط
هذا الكتاب أن نضم فيه أطرافَ الكلام في المثنيات والمكررات.
3584 - ثم قال الشافعي: " لو أدى عنه الخراج، فهو متطوِّع ... إلى آخره
" (1).
فالمراد أن من رهن بناء مملوكاً أو غراساً، فالخراج على الراهن، فلو
أدى المرتهن الخراج نُظر: فإن أداه من غير إذن من عليه الخراج، فهو
متطوع لا يجد إلى ما أداه مرجعاً. ولو أداه بإذن من عليه بشرط الرجوع،
رجع، ولو أدّاه بإذنٍ، وما كان الإذن متقيداً بشرط الرجوع، ففي المسألة
وجهان مشهوران.
ولا اختصاص لهذا بما نحن فيه. وكل من أدى ديناً على إنسان، فتفصيله في
الرجوع على ما ذكرناه.
ونصُّ الشافعي يميل إلى الرجوع إذا كان الإذن مطلقاًً. قال الشافعي: لو
فادى أسيراً دون إذنه، لم يرجع عليه، وإن فاداه بإذنه، رجع عليه، ولم
يعتبر شرطَ الرجوع. ونصَّ أيضاًً على أن من اكترى داراً وقبضها
وأكراها، فأدى المكتري الثاني الكراءَ عن الأول إلى المُكري بإذنه،
رجع. وإن لم يكن بإذنه، لم يرجع، ولم يعتبر شرط الرجوع.
والمسائل كلها على الخلاف بين الأصحابِ.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 212
(6/129)
فصل
قال: " ولو اشترى عبداً بالخيار ثلاثاً، فرهنه قبلها، فالرهن جائز، وهو
قطع لخياره ... إلى آخره " (1).
3585 - إذا شرط الخيار لنفسه دون البائع، فالمذهب أن الملك للمشتري،
وخرّج فيه قولان آخران، تقدم ذكرهما في أول البيع. والشافعي فرعّ على
أن الملك للمشتري، وقال: " لو رهنه في زمان الخيار، صح الرهن، وانقطع
الخيار، ولزم البيع ".
وهذا مما ذكرناه في كتاب البيع على أبلغ وجه في البيان، وأحسن مساق في
التفصيل، والرهن في زمان الخيار بمثابة البيع. وحاصل المذهب ثلاثةُ
أوجه: أحدها - أن الرهن فاسد والعقد على جوازه.
والثاني - أن الرهن فاسد، والخيار ينقطع. والثالث -وهو ظاهر النص- أن
الرهن يصح، وينقطع الخيار به.
وذكر العراقيون، وصاحب التقريب في الوصية اختلافاً يناظر هذا، فإذا
أوصى رجل بعبد لرجلٍ، ومات الموصي، فرهن الموصى له العبدَ الموصَى به
بعد موت الموصي، وقبل القبول، ففي المسألة أوجه: أحدها - يصح الرهن،
ويكون قبولاً للوصية. والثاني - لا يصح الرهن، ولا القبول. والثالث -
يفسد الرهن، ولكن يقع قبولاً للوصية.
فصل
3586 - ويجوز رهن العبد المرتد، وهذا معنى مستقصى في البيع، ثم ذكرنا
المذهبَ في بيع العبد المرتد، وبيع العبد المحارب المستوجب للقتل؛ بسبب
القتل والمحاربة، وأوضحنا أن من اشترى عبداً مرتداً، وقبضه، وقتل في
يده بالردة، فهو من ضمان البائع أو من ضمان المشتري؟ ولا وجه لإعادة ما
سبق.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 212.
(6/130)
والقدرُ المتعلق بكتاب الرهن أن من ارتهن
عبداً مرتداً، وصححنا الرهن، فقبضه، ثم قتل في يده بالردة، نظر: فإن لم
يكن الرهنُ مشروطاً في بيعٍ، فلا أثر لما جرى، وقد ارتفع الرهن بفوات
المرهون. وإن كان الرهن مشروطاً في بيع، فإذا قتل العبد في يد المرتهن،
ففيه الخلاف المقدم ذكرُه في البيع: ففي وجهٍ يُجعل كما لو قتل في يد
الراهن، ولو قتل في يده، لما كان وافياً بالرهن المشروط، ثم حُكمه أن
يتخير البائع في فسخ البيع؛ فإن من شرط رهناً، فلم يتفق الوفاء به، ثبت
له الخيار.
وسيأتي بيان هذا الأصل.
وإن قلنا: المرتد في يد المرتهن محسوبٌ عليه، فقد توفر عليه المشروط،
فلا يثبت له حق فسخ البيع.
3587 - ويتصل بهذا الفصل أن الرهن إذا كان مشروطاً، ثم اتفق ضياعه في
يد المرتهن، ثم اطلع المرتهن على عيب بعد فوات الرهن، فهذا من غوامض
الأحْكام في الرهن. وهو بين أيدينا. ولكن نُنْجز منه شيئاً.
فنقول: إن اطلع على عيب وأمكن الرد ورَدَّ، ففائدة ذلك أن يتخيّر في
فسخ البيع.
وإن عسر الرد بالتلف، وقد فرض الاطلاع من بعدُ، ففي المسألة وجهان:
أحدهما - أنه قد فات الأمر؛ فإن الرد غير ممكن، والأرش لا وجه له؛ فإن
الأرش استردادُ جزءٍ من الثمن.
والوجه الثاني - أنه يثبت للمرتهن حق فسخ البيع؛ لأن النقصان الذي اطلع
عليه في حكم جزء لم يصل المرتهن إليه، ولم يتحقق الوفاء بالشرط فيه،
فهو كما لو شرط رهن أشياءَ، فاتفق الوفاء برهن بعضها دون بعضٍ، فالخيار
ثابت.
ونص الشافعي يميل إلى هذا.
فإذا ارتهن مرتداً، فقتل في يده، وفرعنا أنه محسوب عليه، فلو اطلع على
الردة من بعدُ، فهذا ما ذكرناه من الاطلاع على العيب بعد فوات الرد.
(6/131)
فصل
قال: " ولو أسلفه ألفاً برهنٍ ... إلى آخره " (1).
3588 - إذا رهن من عليه ألف عبداً بالألف، ثم أراد أن يرهن بذلك الألف
عبداً آخر أو ما بدا له، فليفعل، ولا منع من هذا؛ والسببُ فيه أن الرهن
هو المشغول بالدين، والدين غيرُ مشغولٍ بالرّهن؛ فإنه ليس عوضه، ولا
موثقاً به، فالزيادة في الرهن لا منع منها.
فأما إذا أراد أن يزيد في الدين، ويرهن ذلك المرهون بدين آخر، ضما إلى
الدين الأول، فإن فسخا الرهن الأول وأعاداه بالدينين، فلا شك في جوازه.
ولو قررا الرهن الأول، وأرادا ضم دين آخر إليه، ففي جواز ذلك قولان:
أحدهما - يجوز، وهو القديم، واختيار المزني.
والثاني - لا يجوز. وهو الجديد. ومذهب أبي حنيفة (2).
3589 - توجيه القولين: من منع ذلك، احتج بأن قال: إذا أُقر الرهنُ
الأولُ، وزيد في الدين بذلك الرهن، فهذا رهنُ مرهونٍ، ورهنُ المرهون لا
يجوز، كما لو فرض رهنه من آخر.
ومن قال: إنه جائز، فلا وجه لقوله إلا اعتبارُ (3) الدين بالرهن. وقد
قدمنا أن الزيادة في الرهن جائزة؛ فإذا لم يمتنع هذا في أحد الجانبين
وحكمُ العقود التساوي، لم يمتنع في الجانب الآخر. ولمَّا منعنا
الزيادةَ في الثمن بعد لزوم العقد، منعناها في المثمن.
ومن بدائع الأمور اختيار المزني جوازَ هذا الإلحاق، مع ميله إلى القياس
في اختياراته، وأبدعُ من هذا منعُ أبي حنيفة لهذا الإلحاق، مع مصيره
إلى أن الزيادة
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 212.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 3/ 294 مسألة: 2010.
(3) أي قياس الدين على الرهن، فكما جاز الزيادة في الرهن تجوز في
الدين.
(6/132)
تلحق الثمن والمثمن، بعد لزوم العقد.
3590 - ومما يتعلق بالمسألة أن العبد المرهون لو جنى جنايةً، وتعلق
الأرش برقبته، وسنذكر أنه يباع في الأرش، ولا يبالَى بحق المرتهن إذا
لم يَفْدِه الراهن، فلو قال المرتهن: أنا أفديه، ويكون ما أفديه به
ديناً على السيد، ويصير (1) العبد مرهوناً بما أُقرضُ الراهنَ في
فدائه، ففي جواز ذلك قولان مرتبان على القولين في الأصل.
وهذه الصورة أولى بالجواز، من قِبل أن هذا الفداء من مصلحة الرهن، وهو
سبب استبقائه، فكان ما قدرناه فيه أقربَ إلى الجواز.
وقرب الأئمة هذا من أصلٍ رمزنا إليه في كتاب البيع، وهو أن المشرف من
الحقوق على الزوال إذا استدركت يُجعل استدراكها بمثابة زوالها وإعادتها
أم يحمل الاستدراك على موجب الاستدامة فيها؛ فعلى قولين، مأخوذين من
معاني كلام الشافعي. وعليه بنينا استثناء الثمار عن مطلق بيع الأشجار
قبل بدوِّ الصلاح، حيث قلنا: إنها إن كانت كالزائلة العائدة، فلا بد من
شرط القطع في استثنائها، وإن بنينا الأمر فيها على الاستدامة، وهو
الصحيح، فلا معنى لشرط القطع.
فإذا جنى العبد المرهون، فقد أشرف الرهن على الزوال، بتقدير أنه يباع
في أرش الجناية، فإذا فدى المرتهن بالإذن على الشرط الذي ذكرناه، فهل
يجعل هذا كما لو انفك الرّهن ثم أعيد؟ ولو كان كذلك، لصحّ فيه الخلاف
الذي ذكرناه.
فصل
قال: " ولو أشهد المرتهن أن هذا الرهن في يده بألفين ... إلى آخره "
(2).
3591 - صورة المسألة إذا أقر الراهن أن العبد الذي في يد المرتهن مرهون
عنده بألفين، ثم ادّعى بعد ذلك أنه رهنه أولاً بألفٍ، ثم ألحق به ألفاً
آخر على ما ذكرناه في صورة القولين. فإن قلنا: الزيادة في الدين جائزة،
فلا معنى لدعواه. وإن قلنا:
__________
(1) في الأصل: ولا يصير.
(2) ر. المختصر: 2/ 212.
(6/133)
لا يجوز ذلك، فلو صدّقه المرتهن، فذاك، وإن
كذّبه، فالقول قول المرتهن.
وللراهن أن يحلّفه؛ فإن ما يدعيه محتمل.
وقد مهدنا فيما سبق أن جواز التحليف يعتمد الإمكان، وإنما جعلنا القول
قول المرتهن؛ لظهور الإقرار في ثبوت الرهن بألفين، وظهور الإقرار،
واحتمال ما قال الراهن يبيح الرجوعَ إلى قول المرتهن مع يمينه.
ولو ادعى الراهن ما وصفناه، فقال المرتهن: فسخنا الرهن الأول بالألف،
وأعدناه بالألفين، وأنكر الراهن الفسخ وادعى الإلحاق من غير فسخ
وإعادة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن القول قولُ المرتهن؛ فإنه
معتضد بالإقرار المطلقِ الصادر من الراهن؛ إذ قال أولاً: العبد مرهون
بالألفين.
والثاني - أن القول قول الراهن؛ فإن المرتهن ادعى فسخاً وإعادة، والأصل
عدم ما ادعاه. وكل من ادعى عقداً جديداً، فهو في مقام المدعين.
3592 - ومما يتصل بهذا الفصل أنا إذا منعنا إلحاق الزيادة بالدين مع
اتحاد الرهن، فلو قال الراهن لشاهدين: كان هذا العبد رهناً بألفٍ،
فجعلته رهناً بألفين، فشهد الشاهدان على لفظه، ونقلاه إلى مجلس القاضي،
وكان القاضي يعتقد أن الزيادة لا تلحق، فمعلوم أن اللفظة التي نقلها
الشاهدان محتملةٌ لفسخٍ وتجديدٍ، ومحتملة للإلحاق، ففي المسألة وجهان
ذكرهما صاحبُ التقريب: أحدهما - لا يحكم الحاكم بكونه رهناً بالألف
الثاني، حتى يتبين له تفصيل الحال. والثاني - أنه يلزمه الحكم بكونه
رهناً؛ فإنه يجب على الحاكم حمل ما ينقله الشهود على الصحة.
والدليل عليه أنهم لو شهدوا على بيع مطلق، حمل على الصّحة في ظاهر
المذهب.
مع اختلاف العلماء في الصحيح والفاسد من البيوع.
وهذا الذي ذكرناه فيه إذا لم يطلع الشاهدان على سر الحال، ولكن سمعا من
الراهن لفظه المطلق: " إنِّي جعلت هذا رهناً بألفين ".
فأمَّا إذا علم الشاهدان أنهما ما جددا عقداً بعد فسخٍ، وإنما ألحقا،
وكان الشاهدان يعتقدان أن ذلك لا يجوز، والزيادة لا تلحق، فلو أرادا أن
يشهدا مطلقاًً
(6/134)
وينقلا لفظ الراهن " إني جعلت هذا رهناً
بألفين " فهل لهما أن يشهدا مطلقاًً؟ قال صاحبُ التقريب: هذا ينبني على
أن القاضي هل يقبل ذلك؟ فإن قلنا: لا يقبله، فلا نظر إلى إطلاقهما. ثم
إذا استفصل القاضي، فصَّلا ما عندهما. وإن قلنا: القاضي يقضي بالمطلق
من شهادتهما من غير بحث، فعلى هذا هل يجوز لهما إطلاق الشهادة مع العلم
بسر الحال؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحبُ التقريب. قال: والأصح أنه لا يجوز
الإطلاق.
والأمر على ما قال. وليس للوجه الثاني وجه.
فصل
قال: " ولو رهن عبداً قد صارت في عنقه جناية ... إلى آخره " (1).
3593 - قد تقدم في كتاب البيع اختلافُ القول في بيع العبد الجاني إذا
تعلق برقبته أرشُ جنايته، فلو رهن المالك العبدَ الجاني وفي عنقه
الأرش، فلأصحابنا طريقان: منهم من أجرى القولين في صحّة الرهن والقبض،
كما تقدم في البيع.
ومنهم من قطع بأن الرهن مردود قولاً واحداً بخلاف البيع، واعتلَّ بأن
المرهون لو جنى جناية مالية، وتعلق أرشها برقبته، وامتنع السيد من
فدائه، عُرض على البيع، وبيع في أرش الجناية. وإذا كان طريان الأرش
يتضمن قطعَ حق المرتهن وتقدّمَ حق الأرش على حقه، فينبغي أن يُمْنَع
إيراد الرهن على العبد الذي في رقبته أرش. وإذا امتنع رهنُ المرهون،
فالوجه امتناع رهن الجاني؛ فإن تعلق الأرش بالرقبة يوثق بها،
والمتعلَّق الأظهر في الحال [لأرش] (2) الرقبة، والدين الذي به رهنٌ
يتعلق أصله بالذمة، والتوثق في حكم تأكيد الأصل، فإذا امتنع رهن
المرهون، وجب أن يمتنع رهن الجاني الذي في رقبته مالٌ.
ولو جنى العبد جناية توجب القصاص، ففي بيعه تصرفٌ للأصحاب، وخرّجوه
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 212.
(2) في الأصل: للأرش.
(6/135)
على أن موجب العمد ماذا؟ وقد مضى هذا
مفصلاً في البيع. فإذا جوزنا البيع جواباً على أن موجب العمد القودُ
المحض. (1 وجوّزنا الرهن في هذه الصورة على هذا القول 1)، والجريان على
أن تعلقَ الأرض يمنع الرهن، فلو فرض بعد انبرام الرهن بالقبض عفوُ
المجني عليه، على مالٍ، أو من غير مالٍ، ورأينا العفو المطلق مقتضياً
للمال، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: ثبوتُ المال
طارئاً في الصورة التي انتهينا إليها بمثابة جنايةٍ تطرأ على الرّهن من
العبد المرهون، ولو كان كذلك، لم نحكم ببطلان الرهن، ولكن يثبت حق بيعه
في الجناية، فإن اتفق ذلك، انقطع الرهن. وإن لم يتفق بسببٍ، فالرهن
باقٍ. كذلك إذا عفا المجني عليه عفواً يوجب المال.
ومن أصحابنا من قال -وهو اختيار شيخي- نتبين أنّ الرهن في أصله غيرُ
منعقد.
ولا شك أن التفريع على منع رهن الجاني جناية مالية. ووجهُ الوجه الذي
ذكرناه أن الرهن جرى مقترناً بسبب هو الذي أفضى إلى ثبوت المال في
المآل، فتبين آخراً أن السبب المقترن كان مانعاً. ومن الأصول تنزيل
الأسباب إذاً أفضت إلى مسبباتها منزلة تحقق المسببات. وليس كالجناية
الطارئة التي لا استناد لها إلى سبب متقدّم.
التفريع:
3594 - إن جرينا على الوجه الأول، وهو تنزيل ثبوت المالِ طارئاً منزلة
طريان الجنايةِ، فلا كلام. وإن أسندنا (2) تبيّن فساد الرهن، فلو كان
العبد احتفر بئراً في محل عدوان، فرُهن وأُقبض، وتردّى في البئر
متردٍّ، فأرشه يتعلق برقبة العبد المرهون المتسبب بالحفر. ثم كيف
السَّبيل فيه على هذا الوجه الذي ذكرناه في العفو عن جناية الرهن
عمداً؟ وجهان في هذه الصورة: أحدها - أنا نتبين أن الرهن كان فاسداً،
كما تبينا الفساد في العفو الطارىء. والوجه الثاني - أن هذا ليس
بالعفو؛ فإن الجناية واقعة في تلك الصورة والعبد منعوت بكونه جانياً.
وليس كذلك حفر البئر؛ فإنه ليس جناية واقعة. والفرق لائح.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من: (ص)، (ت 2).
(2) كذا. ولعلها من الإسناد (مصطلح أصولي سبق بيانه) والمعنى هنا: وإن
قلنا يتبين فساد الرهن ... إلخ.
(6/136)
فهذا منتهى قولنا في ذلك.
3595 - ثم إن صححنا رهنه العبد الجاني جناية مالية، فنجعل السيد
مختاراً للفداء، كما إذا باعه، وفرعنا على نفوذ بيعه، حتى قال الأئمة:
هل يلزمه الفداء أم ننقض عليه بيعَه إذا امتنع؟ فعلى وجهين لا يخفى
توجيههما. وعلى حالٍ (1) لا يبطل حق المجني عليه.
3596 - ولو باع العبدَ الجاني، وكان معسراً ليس له وفاء بالفداء،
فالمذهب الأصح الحكم بفساد البيع، وتخصيص القولين بما إذا كان السيد
متمكناً من الفداء.
ومن أصحابنا من نفذ البيع من المعسر لحق ملكه، وأثبت للمجني عليه
الخيارَ.
وما ذكرناه في البيع من ذلك كله جارٍ في الرهن. فإذا رهن وأقبض، كان
كما لو باع، ومهما (2) اختلف الأصحاب في فساد البيع، فالرهن أحق
بالفساد لما ذكرناه في أصل الفصلِ من اختلاف طريق الأصحاب في تصحيح رهن
العبد الجاني.
وإذا جرى التفريع على الفساد، فلا فرق بين أن يكون أرشُ الجاني
مستغرقاً لقيمته، وبين أن يكون أقلَّ منها، فإن المانع إذا منع التعلق،
فهذا المعنى متحقق في القليل والكثير، وهو بمثابة الحكم بفساد بيع
المرهون دون إذن المرتهن. ولا فرق بين أن يكون الدين في مقداره مثلَ
القيمة، وبين أن يكون أقل منها.
فصل
قال: " ولو ارتهنه [فقبضه] (3) ثم أقر الراهن أنه جنى ... إلى آخره "
(4).
3597 - إذا رهن مالك العبد العبدَ، وأقبض، ثم أقر بأنه كان جانياً،
والأرش في رقبته، لمّا رهنه، وأنكر المرتهن ذلك، ورام استمرار الرهن
له، نُظر: فإن لم يذكر
__________
(1) المراد: على أي حال.
(2) "مهما" بمعنى: (إذا).
(3) زيادة من نص المختصر.
(4) ر. المختصر: 2/ 212.
(6/137)
الراهن المجنيَّ عليه، بل أرسل الإقرار
بالجناية، وتعلّقِ الأرش، فقوله مردود؛ فإنه رام إبطال حقٍّ التزمه
بقوله، ولم يسنده إلى مستحِق، فلم يبطل الحق الذي ظهر التزامُه بقول
مبهم بلا ثبت، وسيتضح هذا في أثناء الكلام، إن شاء الله.
وإن أسند الراهن إقراره إلى مجنيٍّ عليه في نفسه، أو ماله، فإن كذبه
المقَرُّ له، بطل إقراره، واستمر حق [المرتهن] (1). وإن صدقه المقَرّ
له، فهذا موضع اختلاف النصوص واضطراب الأقوال.
3598 - وحاصل ما نقل في المذهب في تأسيس الفصل ثلاثة أقوال: أحدها - أن
إقرارَ الراهن مردود لمنافاته موجَبَ رهنه وإقباضِه. وأصل الشرع أن
يؤاخذ الرجل بسابق قوله وفعله، فيما يتعلق بثبوت الحقوق وبطلانها. ولو
نفذنا إقراره، لأبطلنا مقتضى تصرفه وإقباضه، وهذا القول أَقْيس
الأقوال.
والقول الثاني - أن إقراره مقبول؛ من جهة أن ملكه مستمر في المرهون،
والتهمة منتفية؛ من قبل أَنَّ العاقل لا يتسبب إلى التزام مَغرم في
ملكه، لإبطال حق وثيقة لغيره. وبيان ذلك أن المعترَف به أصلُ الغرم،
وحق المرتهن توثُّق وتعلُّق، فيبعد أن يلتزم أصلَ الغرم لقطع تعلُّقٍ.
وهذا يناظر قبولَ إقرار العبد فيما يوجب عليه عقوبة.
والقول الثالث - أن المقر إن كان موسراً، نفذ إقراره، ويلزم أن يغرم
للمرتهن قيمةَ المرهون، ليوضع رهناً؛ فإنه بقوله تسبب إلى بطلان حق
المرتهن. وإن كان معسراً، لم يقبل إقراره؛ فإن في قبوله إبطالُ حق
المرتهن، لا إلى بدلٍ.
واختلاف الأقوال في قبول الإقرار وردِّه قريب المأخذ من اختلاف الأقوال
في تنفيذ عتق الراهن وردِّه. وقد ذكرنا فيه ثلاثة أقوالٍ: أحدها -
الفرق بين الموسر والمعسر.
والعتقُ على رأي من نفذه يعتمد الملكَ. والإقرارُ عند من ينفِّذه يعتمد
الملكَ أيضاً، وانتفاءَ التهمة.
ولهذا التفات على اختلاف القول في أن العبد إذا أقر بسرقة مالٍ، نفذ
الإقرار في
__________
(1) في الأصل: المقرّ له.
(6/138)
وجوب القطع. وهل ينفذ في ثبوت المال؛ فيه
تردد أشرنا إليه. وسيأتي تقريره في كتاب السرقة، إن شاء الله تعالى.
وعبر الأئمة عن هذه الأصول بأن قالوا: الإقرار ممن هو صحيح العبارة إذا
انتفت التهمة عنه بالكلية، وتعلق بما للمقِر فيه حق، فهو مقبول، وإن
تضمن بطلانَ حق الغير، كما ذكرناه في ثبوت العقوبة بإقرار العبد.
وإذا اقترن بالإقرار شيء يتعلق الإقرار المقبول به، فهل يقبل الإقرار
في قرينة العقوبة؛ فيه اختلاف قولٍ. وأصل الإقرار مقبول من السيد لا
خلاف فيه، ولو انفك الرهن، كان مؤاخذاً به؛ فإن الأصل لا تهمة فيه، وهو
مصادِف محلَّ حقه، وبطلان حق المرتهن قرينة مقترنة بإقرارٍ مقبول
الأصل، وفي نفوذ الإقرار في القرينة التردد الذي ذكرناه.
3599 - ولو أقرّ الراهن بأنه كان أعتق العبد قبل أن يرهنه، ففي إقراره
الأقوال الثلاثة. وكذلك لو أقر بأنه كان مغصوباً عنده، وأنه رهنه
متعدياً وكان غاصباً.
ولو باع عبداً وألزم العقد، ثم جرى بعد لزوم العقد إقرارٌ من البائع،
لو قدر نفوذه، لبطل البيع، ولا تهمة على المقِر في ظاهر الأمر، فقد قطع
الأصحاب برد هذا الإقرار في حق المشتري، وتقرِير البيع؛ والسبب فيه أن
إقراره جرى وليس للمقِر ملك في ظاهر الحال، وإقرار الإنسان في ملك غيره
مردود، وليس كإقرار الراهن؛ فإنه صادف محلَّ ملكه.
وقد ذكر بعض الأصحاب طردَ الأقوال في إقرار البائع فيما يتضمن بطلانَ
البيع، ورمز إليه شيخي في بعض أجوبته، ثم رجع. وهذا فيما أراه هفوة لا
يعتد بها.
وقد يعترض للناظر أن الراهن إذا أقر بكونه غاصباً، فليس إقراره في محل
ملكه على زعمه. وفيه الأقوال.
وقد يقول هذا القائل: إقرار البائع له تعلق ببيعه الذي تعاطاه، وعهدته
متعلقة به، وليس كقرارٍ مرسلٍ من أجنبي في ملك الغير. ولا اغترار بهذا،
ولا وجه إلا القطعُ برد إقرار البائع بعد لزوم العقد، وتخصيص الاختلاف
بالرهن.
(6/139)
نعم. في معناه الإجارة: فلو أجر عبده، ثم
اعترف بأنه كان جانياً، والتفريع على منع إجارة الجاني قبل الفداء،
فالأقوال تخرج خروجها في المرهون؛ لأن الإقرار صدر عن مالك الرقبة،
فانتظم الترتيب كما ذكرناه.
3600 - ومما يتعلق بتمهيد أصل الأقوال في إقرار الراهن أنه لو أقر
بتعلق أرش يقصر مقدارُه عن قيمة العبد ومبلغِ الدين، فالتهمة في ذلك
المقدار تنتفي، والأقوال الثلاثة تخرج. ولو قبلنا. الإقرارَ، لأبطلنا
الرهن في الزائد، والتهمةُ متمكنة فيه.
ولأصحابنا في ذلك الزائد طريقان: منهم من قطع برد الإقرار فيه لتمكن
التهمة.
ومنهم من أجرى الأقوالَ الثلاثة في الجميع طرداً للباب.
وهذا ضعيف. وسيخرجُ عليه في أثناء الكلام تفريع، وعنده يبينُ حاصل
القول في أصل الفصل الزائد.
وقد انتهى الغرض في تأصيل الأقوال. وحان التفريع عليها.
3601 - فإن قلنا: لا نقبل إقرار الراهن، فلا بد من فرض دعوى من المقَر
له، وبذلك ينتظم الكلام، والتفريع، فإذا أصر المقَرّ له على الدعوى،
ورَدَدْنا على القول الذي نفرع عليه إقرارَ الراهن، راجعنا المرتهنَ،
فإن صدق الراهن، فيباع العبد في أرش الجناية أو يفدى؛ فإنا رددنا
إقرارَ الراهن استبقاءً لحق المرتهن، فلا يبقى مع تصديقه إلا تنفيذ حكم
الجناية. ثم إذا بيع العبد في الأرش، وكان المرتهن شرط في البيع رهناً،
فيثبت له في هذه الصورة فسخُ البيع إذا لم يتحقق الوفاء بمشروطه. هذا
إذا وافق المرتهن.
فأمّا إذا أنكر وقد رددنا قول الراهن، فلا بد من تحليف المرتهن إذا طلب
المدعي ذلك، ثم لا يخلو إما أن يحلف أو ينكُل (1)، فإن حلف، استقر حقه
في الرهن، وبقي الكلام بعد ذلك في أن المقَر له هل يغرَم له الراهن
المقِر، بسبب أنه بالرهن والإقباض حال بين المجني عليه وبين حقه من
رقبة الجاني. ثم باعترافه أقر بصنيعه.
في المسألة قولان سيأتي أصلهما في المغصوب.
__________
(1) نكل: من باب قعد.
(6/140)
والذي ننجزه الآن بناؤهما على ما لو قال
صاحب اليد في الدار غصبت هذه الدار من زيد، لا بل من عمرو، فالدار
مسلَّمةٌ إلى المقَرّ له أولاً. والإقرار الثاني في حكم الرجوع عن
الإقرار الأول، فتسلّم الدار إلى الأول. وهل يغرم المقِر للثاني قيمةَ
الدار بسبب إيقاعه الحيلولةَ بينه وبين الدار بالإقرار الأول؟ في
المسألة قولان.
3602 - ثم نعود إلى ما ذكرناه في مسألتنا، فإن قلنا: لا يغرَم الراهن
للمقَر له شيئاًً، فلا كلام. وإن قلنا: إنه يغرَم، ففي القدر الذي
يغرَم له طريقان: من أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما - أنه يغرَم
أقلَّ الأمرين من الأرش والقيمة. والثاني - أنه يغرَم الأرش بالغاً ما
بلغ، وإن زاد على القيمة. وهذا بعينه اختلاف القول في أن السيد إذا
أراد أن يفدي عبده الجاني، فبكم يفتديه؟ وسيأتي تفصيل ذلك في آخر
الديات إن شاء الله تعالى.
هذه طريقة.
ومن أصحابنا من قطع القولَ بأن الراهن لا يغرَم للمقر له إلا أقل
الأمرين، كما لا يغرم سيدُ المستولدة في فدائها إلا الأقلَّ، والجامع
أَنَّ فداء المستولدة ضروري، لا تعلق له بالاختيار، فكان بمثابة مَا لو
جنى العبدُ وتعلق الأرش برقبته، فقتله مولاه، وكان الأرش زائداً على
القيمة؛ فلا يغرَم المولى إلا القيمةَ؛ فإن إتلافه لا ينبغي أن يزيد
غرمه على غرم إتلاف الأجنبي.
وإذا وضح هذا، فالغرم على الراهن بعد تقدم الرهن، مع الحكم برد إقراره
غرمٌ ضروري، فاتجه القطع باعتبار الأقل.
هذا كله إذا حلَّفنا المرتهن، فحلف.
ثم لا يخفى أنه يحلف على عدم العلم بجناية العبد. وكل يمين يتعلق بنفي
فعلِ الغير، فهي على نفي العلم.
3603 - فأما إذا نكل المرتهن، فاليمين على من ترد؛ على قولين: أحدهما -
أنها تُردّ على المجني عليه المقَر له؛ فإن الحق له، ولولا حقه، لقرّ
الرهنُ، وانقطع الخصام، فليقع الرد عليه. والقول الثاني - أن اليمين
ترد على الراهن المقِر؛ فإنه
(6/141)
المالك، وكأنه ينفي حقَّ المرتهن من الرهن،
فارتبطت الخصومة به من هذا الوجه.
التفريع على القولين:
3604 - فإن رددنا اليمين على المجني عليه، نظر: فإن حلف، ثبت دعواه
وانتُزع العبد من يد المرتهن، وبيع في حقه، وليس للمرتهن أن يفسخ البيع
الذي شُرط الرهنُ فيه؛ لأن الراهن يقول: أنت أبطلت حقك بنكولك. فإن قال
المرتهن: وأنت أقررت أيها الراهن بانتفاء الرهن. فالراهن يقول: لكنك لم
تقبل إقراري، ولم يقبله الشرع، ولم يبطلُ الرهن إلا (1) بسبب نكولك،
ولم يكن لقولي أثر. وهذا واضح.
وإن نكل المجني عليه المقَرّ له، لم يكن له أن يغرِّم الراهنَ شيئاًً،
ويبقى العبد رهناً.
والسبب فيما ذكرناه أنه بنكوله أبطل حقَّ نفسه. ووضوح ذلك يغني عن
بسطه.
هذا إن رأينا ردَّ اليمين بعد نكول المرتهن على المجني عليه.
فأما إذا قلنا: اليمين ترد على الراهن المقِرّ، فعلى هذا إن حلف، سُلّم
العبد للبيع. في حق المجني عليه، وليس للمرتهن في هذه الصورة فسخ
أيضاًً؛ فإنه بنكوله أبطل حق نفسه، فكانت الإحالة على نكوله. هذا إذا
حلف الراهن.
وإن نكل الراهن عن يمين الرد، فهل للمجني عليه أن يحلف بعد نكول
الراهن؟
قولان: أحدهما - له ذلك؛ لأن مصير الحق إليه، ويستحيل أن يَبطل حقُّه
بنكول الراهن، كما لا يبطل حقه بسبب رجوعه عن الإقرار. والقول الثاني -
لا ترد اليمين على المجني عليه؛ فإن اليمين في الخصومات ليس لها إلا
مرد واحد، ومنتهاها مردُّها. فإذا ثبتت يمين الرد في جانب، لم تتحول
عنها. فإن قلنا: لا يرد اليمين إلى المجني عليهِ، نجعل نكولَ الراهن
بمثابة حلف المرتهن، ونقرر الرهنَ. ثم يعود
__________
(1) في الأصل، (ت 2): "ولم يبطل الرهن [بزعمك] إلا بسبب نكولك". وأما
(ص): فقد ضرب على كلمهَ [بزعمك] وهذا ما رجحناه.
(6/142)
القولان في أن الراهن المقِرَّ هل يغرَم
للمقَر له؛ من جهة أنه حقق الحيلولةَ؟ وقد مضى هذا.
وإن قلنا: يرد اليمين على المجني عليه، فإن حلف، ثبت حقه وبيع العبد في
الأرش، وليس للمرتهن خيار الفسخ؛ فإنه أبطل حقه بنكوله عن اليمين. وقد
تمهد هذا.
وإن نكل المجني عليه عن اليمين، لم يكن له تغريم الراهن قولاً واحداً؛
فإنه كان مقتدراً على رفع الحيلولة، فلم يرفعها وأكدها، فإذا كانت
الحيلولة محالاً عليه، لم يثبت له تغريم الراهن المقر.
وكل ما ذكرناه تفريع على أن إقرار الراهن غير مقبول، والقول قول
المرتهن. ثم انشعب الكلام من تحليف المرتهن إلى صور.
3605 - فأما إذا فرعنا على أن إقرار الراهن مقبول، فهل يقبل قوله من
غير يمين، أم يحلَّف؟ في المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يحلّف؛ من جهة
أنه مقر على ملكه وسبب نفوذ إقراره مصادفته ملكَه مع انتفاء التهمة،
وهذا المعنى يوجب أن لا يحلّف.
ومن أصحابنا من قال: لا بد من تحليفه لتعلق حق المرتهن بمحل إقراره،
فالإقرار مقبول على قاعدته، واليمين معروضة لمكان حق المرتهن.
فإن قلنا: يقبل قوله دون اليمين، سلّم إلى البيع في حق المجني عليه.
وإن قلنا: إنه يحلّف، لم يخل: إما أن يحلِف، أو ينكُل، فإن حلف، ثبت
الإقرار، وبيع العبد في الجناية، وتخير المرتهن إن كان الرهن مشروطاً
في بيع. وإن نكل عن اليمين، فالمرتهن يحلف؛ من قِبل أن الخصومة بينهما
تدور، وإنما حلفناه لحق المرتهن، فإذا نكل، فالرد على صاحب الحق. ثم إن
نكل المرتهن، كان نكوله بمثابة حلف الراهن، جرياً على القياس الممهد في
حكم يمين الرد، ولا خيار له؛ فإنه بنكوله أبطل حق نفسه في هذا المكان؛
فلم يملك الفسخ. هذا إذا نكل عن يمين الرد.
(6/143)
فأما إذا حلف المرتهن لما نكل الراهن
-والتفريع على قبول قول الراهن مع يمينه- فإذا انتهى الأمر إلى ما
ذكرناه، ففي المسألة قولان: أحدهما - أن العبد يَقِرُّ في يد المرتهن
مرهوناً، وهذا فائدة حلفه. وظاهر القياس هذا. ولا يتجه غيرُه.
والقول الثاني - أن العبد يُنتزع من يده، ويباع في الجناية، ولا أثر
لنكول الراهن وحلف المرتهن إلا أنه يُغرِّمه قيمةَ العبد المرهون ليوضع
رهناً، وينسب في الامتناع عن اليمين إلى تفويت حق المرتهن، ولا فائدة
على هذا القول لتصوير اليمين والرد، إلا بتثبيت قيمة العبد ووضعها
رهناً مكان العبد.
3606 - ومما يجب التنبيه له في هذا المنتهى أنا نتخيل الأقارير ثلاث
مراتب: المرتبة العليا - إقرار من مُطلق فيما يعرف حقاً له، فهو مقبول؛
فإنه صادر من مُقِر (1) مُطلق فيما يقتضي الظاهر كونَه حقه، وليس يتضمن
إقرارُه إبطالاً لحق غيره. هذه مرتبة وعليها خروج الأقارير الصحيحة.
والمرتبة الأخرى - إقرارٌ في محلٍّ هو في ظاهر الظن حق الغير، ولا
ولاية للمقر.
فهذا الإقرار مردود؛ لأنه على الغير، لا في حقه، فإن اشتمل الإقرار على
ما ينفي التهمة، فالإقرار قد يقبل في محل انتفاء التهمة، وهذا يظهر فيه
إذا كان حق الغير يتلف بعقوبةٍ على المقِر، كالعبد يُقر بما يوجب عليه
قصاصاً أو حداً. ولو كان لما وصفناه قرينة، ففي نفوذ الإقرار فيها
القولان المقدمان، وهو كإقرار العبد بسرقة مالٍ.
فهذا بيان هذه المرتبة، مع ما يستثنى منها.
ومن مراتب الإقرار أن يصادف ملكاً فيه حقٌ لازم ظاهراً، والمقر مطلق في
نفسه، ففي قبول أصل الإقرار خلاف. فإذا قبلناه، عدنا فترددنا في أنه
يقبل من غير يمين أم مع اليمين؟ وسبب هذا التردد قيامُ حق المرتهن.
3607 - ثم إن فرضنا حَلِفاً من المقر، نفذ الأمر، ولم يبق للمرتهن إلا
الخيارُ في البيع. وإن فرضنا نكولَه عن اليمين، رددنا اليمين وترددنا؛
من جهة أن التفريع على
__________
(1) في (ص): متعين، (ت 2): معتر (بهذا الرسم).
(6/144)
قول قبول الإقرار. ويبعد في مسالك الأقارير
أن يرد لمكان نكولٍ عن يمين، مع رد يمين، وبعُدَ علينا أن نعطِّل أثر
اليمين بالكلية، فقلنا في قولٍ يستخرج العبد من يد المرتهن؛ فقول
الراهن إذن ليس إقراراً، بل كأنه قولٌ مقبول ممن يظهر صدقُه، كقول
المودعَ في الرد، وقول كل مدّعىً عليه، ومساق هذا يوجب تثبيت الرهن في
يده إذا حَلف على خلاف قول الراهن.
وإن قلنا: العبد يستخرج من يد المرتهن، وإن [حلف] (1)، فقولُ الراهن
إقرارٌ في حقه. ولكنه لو حلف، لأبان بحلفه أن أصل الرهن لم يكن، فإذا
لم يحلف وحلف المرتهن غرّمنا الراهن في حق المرتهن، كالمعتِق لما انجر
إليه من التهمة لما نكل، فألزمناه القيمة لهذا التخيّل (2). وهذا ضعيف،
ولكن نقله الأئمة المحققون.
فإن قلنا: يبقى الرهن في يد المرتهن، فلا كلام، وإن قلنا: يغرم الراهن
له القيمة، فهل يثبت له الخيار؟ فعلى وجهين: أصحهما - أنه يثبت؛ لأنه
لم يسلم له الرهن في العبد الذي عينه. والوجه الثاني - أنه لاخيار له،
كما لو سلّم العبد المشروط ثم أتلفه؛ فإنه يلتزم قيمته ولا خيار
للمرتهن.
من قال بالأول انفصل عن الإتلاف بأَنْ قال: لما أقبضه، فقد وفاه حقَّه،
وصار وافياً بشرطه، فانقطع الخيار لذلك. وقول الجاني فيما نحن فيه له
انعكاس على أول الرهن؛ من قِبل أنه يُشعر بأن الرهن لم ينعقد.
فليتأمل الناظر تردد الفقهاء عند تركّب الموجَبات والمقتَضيات.
ثم إن قلنا: تقر العين المرهونة في يد المرتهن، فهل يغرم الراهن للمجني
عليه؛ فعلى قولين مقدمين؛ من جهة أنه بنكوله حقَّقَ الحيلولةَ بين ذي
الحق وبين محل حقه.
ولهذا نظائر ستأتي مشروحة في كتاب النكاح، إن شاء الله تعالى.
وكل ما ذكرناه تفريع على أن رهن العبد الجاني الذي في رقبته أرشٌ باطل.
__________
(1) في الأصل: "خلف". (وهذا عجيب من نسخة الأصل التي لا نقط فيها
أصلاً، إلا أقل القليل، من الكلمات المشتبهات. فكيف نقطت هذه؟).
(2) في (ص): التخير، (ت 2): التخيير.
(6/145)
3608 - فأما إذا صححنا رهن الجاني،
والتفريع على أن إقرار الراهن مردودٌ فيما يتضمن بطلانَ حق المرتهن.
فلو قال: قد رهنت وأقبضت، ثم أقررت إقراراً لا ينافي رهني وإقباضي،
فاقبلوا قولي.
قلنا: اضطرب الأئمة في ذلك؛ والقول فيه محتمل جداً. وقد تردد الأئمةُ:
فقال بعضهم: إقراره بتقدم الجناية مقبول على هذا القول؛ فإنه لا منافاة
بين تصحيح الرهن والقبض وبين الجناية، وهو مُطلق أقر بأمرٍ ممكن في
ماله. وليس كما إذا فرعنا على أن رهن الجاني مردود؛ فإنه إذا رهن،
وأقبض، ثم أقر، فإقراره يتضمن مناقضة ما قدمه من عقده وإقباضه. فلم
يقبل منه في قولٍ. كما سبق.
وذهب بعض الأصحاب إلى أنا إذا رأينا رد إقراره على قولنا بفساد رهن
الجاني - فيُرد إقرارُه على القول بصحة رهن الجاني؛ فإن قبول إقراره
يتضمن نقضَ يد المرتهن.
والرهن إذا انبرم بالقبض، فمقتضاه لزوم حق المرتهن، فالراهن المُقبض
ملتزم إلزام حق المرتهن. فإذا أتى بما يناقض قولَه ومضمونَ فعله، رُدَّ
على قولَ الرد، كما يرد إقرارُه على قول فساد رهن الجاني؛ من جهة أنه
بلفظه في العقد وإقباضه التزم صحته له. فإذا أقر بما ينافي الصحّةَ،
رُدّ إقرارُه في القول الذي عليه التفريع.
فرع:
3609 - إذا رأينا قبول إقرار الراهن على قول فساد رهن الجاني، وانتهى
الأمرُ إلى بيع العبد المرهون في أرش الجناية، فإذا بعناه، فلو فضل من
ثمنه شيء، فقد اختلف أصحابنا في ذلك الفاضل، فمنهم من قال: هو خارج عن
هذا الرهن، لا عُلْقة فيه للمرتهن.
ومنهم من قال: ذلك الفاضل مرهون؛ فإن إقرار الراهن إنما يقبل في مقدار
الأرش.
وهذا يلتفت على ما أجريناه في أثناء الكلام، من أن الراهن لو أقر بأرش
يقصر عن القيمة، ورأينا قبول إقراره، فهل نحكم بانفكاك الرَّهن في
الجميع أم نقضي بانفكاكه في مقدار الأرش؟ فيه التردد الذي سبق. فالقول
في الفاضل ملتفتٌ عليه.
ولكن على الناظر فضلُ تدبر. فإن حكمنا بأن الزائد على مقدار الأرش لا
ينفك
(6/146)
الرهن فيه، فلا وجه لبيعه حتى ينتهي الكلام
إلى كونه رهناً أم لا. وإن قلنا: الرهن مردود في الجميع، فالمصير إلى
أن الفاضل رهن بعيد. فما الوجه في تنزيل هذا الخلافِ في الفاضل؟ قال
شيخي أبو محمد: نحن وإن قلنا: الجاني لا يصح رهنه، فإذا أقر وقبلنا
إقراره، وفضل من الثمن شيء، فلسنا نقولُ: إنه بان لنا أن الرهن بطل
بإقراره. ولكن كأَنَّا قدَّمنا حقَّ المقَر له بالأرش على حق المرتهن.
ولم نجعل الإقرارَ مبطلاً. فإذا فضل شيء من حق المقَر له، فيبقى حق
المرتهن فيه.
وهذا بعيد عندي عن النظم، والوجه القطع بأنّا نتبين بالإقرار فسادَ
الرهن. فإن كان الأرش أقلَّ، نردُّ نظرنا إلى أن بيع ما يزيد على الأرش
مرود أو غير مردود.
ولا مصير إلى تصحيح البيع ورد الخلاف إلى أن الفاضل رهن أم لا.
فصل
قال: "ولو جنى بعد الرهن، ثم برىء من الجناية بعفوٍ، أو صلحٍ ... إلى
آخره" (1).
3610 - العبد المرهون إذا جنى في يد المرتهن جنايةً مالية، تعلق الأرش
برقبته، ولم يتضمن ذلك بطلانَ الرهن؛ فإنه لو فرض عفو عن الأرش أو
فداءٌ من المولى، فالرهن يبقى مستمراً. ولكن إن لم يجر مما أشرنا إليه
شيءٌ، فيباع في الأرش إن كان مستغرِقاً لقيمته. وإذا بيع، تبين ارتفاع
الرهن قبيل البيع، ولو كان الرهنُ مشروطاً في بيعٍ، ثم أفضى الأمر إلى
الجناية والبيعِ فيها، فلا خيار للمرتهن في فسخ البيع؛ فإن الراهن قد
وفّى بما شُرط عليه، ولا نُلزمه أن يعصم المرهون عن الجناية، كما لا
نُلزمه عصمتَه من طوارق الحَدَثان.
فإن قيل: لم قدمتم حقَّ المجني عليه على حق المرتهن، وهلاّ قلتم: لا
يتعلق الأرش برقبة المرتهن لكونها مشغولةً بوثيقة الرهن؟
قلنا: تكلف أصحابنا في هذا كلاماً، فنذكره أولاً. قالوا: حق المرتهن له
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 213.
(6/147)
محلاّن العين والذمة، فإن فاتت العين،
استقل الحق بالذمة. وحق المجني عليه ناجزاً ينحصر في العين، فقُدم، كما
قدم إزالةُ النجاسة على رفع الحدث إن كان الماء لا يفي إلا بأحدهما،
فإن لطهر الحدث بدلاً. وقيل: حق المجني عليه يثبت بأصل الشرع، فكان
أقوى من حق المرتهن الثابت بالعقد.
وهذا تكلُّفٌ عندي. وقد تتعارض الأقوال، ولا يعدَم الفقيه كلاماً في
ترجيح وثيقة الرهن. ولو لم يثبت في ذلك إلا القطعُ بمنع بيع المرهون،
مع التردد في بيع الجاني، لكان ذلك متنفساً. والوجه ألا نلتزم هذا
الفنَّ أصلاً؛ فنقول: حقُّ المرتهن في رقبة المرهون لا يزيد على حق
المالك. ثم الأرش يتعلق بمحل الملك، فليتعلق بمحل الرهن. فإن روجعنا في
تعليل أصل التعليق، لم نخض فيه الآن.
فصل
قال: " ولو دبّره، ثم رهنه، كان الرهن مفسوخاً ... إلى آخره " (1).
3611 - مقصود الفصل الكلام في رهن المدبر. ونحن نقدم عليه القولَ في
رهن المعلّق عتقُه بالصفة، فنقول: رهن العبد المعلق عتقه بالدين الحالّ
جائز، ثم إن بيع قبل وجود الصفة، فذاك، وإن وجدت الصفة قبل البيع، فهذا
يبتني على أن العبرة في التعليقات بحالة التعليق، أو حالة وجود الصفة.
وقد ذكرنا طرفاً في ذلك كافياً في غرض هذا الكتاب. وسيأتي تفصيل هذا
الأصل في الوصايا والعتق، إن شاء الله تعالى.
ولو رهن المعلّقَ عتقُه بدينٍ مؤجل، ففيه مسائل: أحدها - إن تيقن أن
حلولَ الأجل يسبق وجودَ الصفة، فيجوز الرهن كما يجوز بالحالّ.
والمسألة الثانية - أن يتيقن أن الصفة توجد قبل حلول الأجل، ففي جواز
الرهن والحالة هذه وجهان: أظهرهما - المنع. والثاني - أنه يجوز.
والوجهان يقربان من
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 213.
(6/148)
قولين سيأتي ذكرهما في رهن الطعام الذي
يسرعُ الفساد إليه، بدين مؤجَّل، يسبق فسادَ الرهن حلولُ أجله. وسيأتي
ذلك في مسائل الكتاب، إن شاء الله تعالى.
ووجه الشبه لائح، فتقدير نفوذ العتق قبل الأجل كتقدير فساد المرهون.
وهذا يحتاج إلى تأمل.
3612 - وإنما يَسْتدُّ ما ذكرناه من البناء تفريعاً على أن العتق ينفذ
عند وجود الصفة، فيقع النّظر في أن مقصود الوثيقة يزول بنفوذ العتق قبل
الحلول.
فأمّا إذا قلنا: العتق المعلَّق قبل الرهن لا ينفد في حالة الرهن، فليس
يتأتى والتفريع على هذا الوجه أخْذُ هذا من رهن ما يتسارع الفساد إليه؛
فإنا إذا قدرنا ثبوتَ الرهن، ورتبنا عليه منعَ نفوذ العتق قبل الأجل،
فقد خرج بنا الكلام عما تقدّم.
فالوجه أن نقول: إن كنا ننفذ العتق، نأخذهُ من تسرع الفساد. وإن كنا
نرى أن العتق لا ينفذ لو قدر الرهن، فالقول في صحة الرهن يخرّج على أصل
آخر، وهو أن الراهن صار مدافعاً لعتقٍ صار كالمستحق (1) بالتعليق. فهل
يصح الرهن؟ وهذا الآن يخرّج على الخلاف الذي سنذكره في رهن المدبَّر مع
القطع بجواز بيعه، وثَمَّ يتبيّن حقيقة ما نقول إن شاء الله تعالى.
ومن مسائل التعليق أنه إذا رهن عبداً معلقَ العتق بصفةٍ يجوز وجودها
قبل المَحِل، ويجوز استئخارها عن المَحِل، ففي جواز الرهن وجهان مرتبان
على الوجهين فيه إذا استيقنا تقدّم الصفة على الأجل. وهذه الصورة أولى
بالجواز.
ووجه الفرق بيّن.
فهذا تمام ما أردنا ذكرَه في رهن المعلّق عتقُه.
3613 - فأما رهن المدبر، فنذكر فيه اختلاف طرق الأصحاب، ثم نرجع إلى
النص: فمن أصحابنا من بنى رهن المدبر على القولين في أن التدبير وصية
أو عتقٌ بصفة؟ قال: إن جعلناه عتقاً بصفةٍ، فهذه الصفة يجوز أن توجد
قبل المحل، ويجوز
__________
(1) في (ص)، (ت 2): المستحق.
(6/149)
أن توجد بعده. فجواز الرهن يخرّج على قولي
رهن العبد المعلق عتقه بصفةٍ يجوز أن توجد قبل المحل، ويجوز أن تستأخر.
ومن أصحابنا من قال: يجوز رهن المدبر قولاً وَاحداً. وهذا هو القياس؛
لأن التدبير إن كان وصية، فالرهن جائز، وإن كان عتقاً بصفة، فهو محسوب
من الثلث.
وحق المرتهن من رأس المال، فهو مقدَّم على ما يحسب من الثلث، غاية ما
يُقدّر (1) أن يموت من عليه الدين، ولا يخلِّف إلا هذا العبدَ، ولو كان
كذلك وكان الدين مستغرِقاً لقيمته، لصرفناه إلى الدين وأبطلنا العتق.
وليس كذلك رهنُ المعلَّق عتقه بصفة توجد في حياة المعلِّق؛ فإن ذلك
العتق لو نفذ في حياة المعلِّق، لكان مقدماً على الديون، فلا تأكّدَ
للعتق في التعليق، وصار في حكم الاستحقاق، والرهن تصرفٌ ضعيف منحط عن
البيع، اقتضى ذلك تجويزَ البيع، ومنع الرهن. والعتق الذي يقدر حصوله في
المدبر ضعيف؛ من قبل انحصاره في الثلث، فيقدم الدين عليه.
وقال بعض أصحابنا: رهن المدبر باطل قولاً واحداً. وهذا هو الذي قطع به
الشافعي؛ إذ قال: " رهنه مفسوخ " والمراد بالمفسوخ الباطل. وهذا يعتاده
الشافعي كثيراً.
وهذا القائل يزعم أن التدبير ليس وصية محضة، فلا يلزم تصحيحَ الرهن على
قول الوصية. وهذه الطريقة وإن كانت توافق النص، فليس ينقدح لي في
توجيهها شيء.
وكأن الشافعي يعتقد أن التدبير على حال عقدُ عتاقةٍ شرعي، ولا يطابق
هذا مذهبَه في جواز البيع، وجواز الرجوع عن التدبير على الأصح، والمدبر
على الحقيقة عندنا عبدٌ قن، فإذا مات السيد، جعلنا عتقه محسوباً من محل
الوصايا. وللشافعي في كتاب الصّداق كلام في أن المرأة إذا دبرت العبد
المصْدقَ، ثم طلقها زوجهاً، فهل يرجع إلى نصف المدبر. فلعلنا نجد ثَمَّ
بسطةً في الكلام.
وقد انتهى غرضنا الآن والله أعلم.
__________
(1) في (ص)، (ت 2): يتوقع.
(6/150)
فصل
قال: " ولو رهنه عصيراً حلواً، كان جائزاً، فإن حال إلى أن يصير خلاً
أو مزّاً ... إلى آخر الفصل " (1).
تقرأ " مُزّاً " (2) وهو بين شدة الخمر وحموضة الخل، وليس بمسكر على
حالٍ.
وتقرأ " مُرِّياً " (3). وهذا بعيد؛ فإن الخمر لا يصير مُرِّياً.
3614 - فنخوض في غرض الفصل، ونقول: رهن العصير جائز بالدين الحال.
فلو رهن العصير وأقبضه، فاستحال العصير خمراً في يد المرتهن، فلا نحكم
بأن الخمرَ توصف بكونها رهناً أصلاً، واختلف الأصحاب في العبارة عنها.
قال قائلون: بطل الرهن لمّا استحال العصير خمراً؛ فإن الخمر ليست
مالاً، وما لا يكون مالاً لا يكون رهناً.
ثم إذا استحالت الخمر خلاً، فالخل مرهون، وهذا القائل يقول: عاد الرهن
من غير إعادة، كما زال من غير إزالة، وليس كما لو فسخا الرهن؛ فإنه لا
يعود ما لم يعيداه؛ من جهة أن الرهن زال عن قصد ورضا، فلا يعود إلا
بمثل ما زال به.
ومن أصحابنا من قال: إذا استحال العصير خمراً، فالرهن موقوف لا يحكم
ببطلانه، فإن عاد خلاً، بان أنه لم يبطل. وهذه الطريقة عريّةٌ عن
التحصيل؛ من جهة أن لا توقف في أن الخمر ليست مالاً، والتبيّن إنما
يحسن لو كنا نتبين أن الشدة لم تطرأ.
والطريقة الأولى قاصرة أيضاًً عن شفاء الغليل والكشف التام.
والوجه عندنا أن يقال: من اتخذ عصيراً، وقصد تركه إلى أن يصير خلاً،
فإذا صار العصير خمراً، فالخمرة ليست مملوكة، ولكن لمالك العصير فيها
حقُّ ملكٍ،
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 213.
(2) المزّ: الحلو الحامض، فيكون طعمه بينهما، أو خليطاً منهما (معجم).
(3) في (ص): مرّاً. والأصل بغير نقط لا في هذه، ولا تلك. والمرِّي:
إدامٌ كالكامخ يؤتدم به، كأنه نسبة إلى المرّ، ويسميه الناس (الكامَخ)،
وهو لفظ معرب اسم لما يؤتدم به، أو للمخلَّلات المشهية (المصباح،
والمعجم).
(6/151)
وإن لم يكن حقيقةَ ملكٍ، فهو على حق الملك
فيها، فإذا انقلبت خلاً، كان على حقيقة الملك الآن؛ من جهة أنه استفاد
هذا المالَ عن اختصاصه بالخمر. كذلك المرتهن له حق اختصاص بالخمر، وليس
ذلك الحق رهناً، فإذا انقلبت الخمر خلاً، عاد حقه في الرهن لترتبه على
ما ذكرنا نظيره في الملك.
3615 - ولو رهن شاة وسلمها، فماتت، فلا شك أن الرهن لا يبقى في الميتة،
وإنما النظر في جلدها إذا دُبغت، فهل نحكم بأن الرهن يعود في ذلك الجلد
من غير استئناف عقدٍ؟ فعلى وجهين: أحدهما - يعود الرهن كالخمر إذا عادت
خلاً؛ فإنها تعود رهناً، كما تقدم.
والوجه الثاني - لا يعود الجلد إذا دبغ رهناً؛ فإنه ليس ينقلب بنفسه
مدبوغاً، بل لا بد من إتيان فعل فيه. وإنما يستقيم العَوْدُ من غير
اختيارٍ رهناً إذا كان الانقلاب على هذه الصفة.
ومن غصب خمراً أو جلداً غير مدبوغ، ثم استحالت الخمر خلاً، ودبغ
الغاصبُ الجلدَ، فهل يجب عليه ردُّ الخل والجلدِ المدبوغ؟ هذا من
القواعد العظيمة في الغصب، وهو شعبة من أصلٍ يحوي تقاسيم. والوجه تأخير
جملته إلى كتاب الغصب. والعودُ إلى ما يتعلق بهذا الكتاب.
3616 - فلو باع عصيراً وسلمه عصيراً، فقد تم العقد، وتحمل ما يفضي إليه
من انتقال العهدة. فلو استحال في يد المشتري خمراً، فليس يتعلق بذلك من
تبدل قضايا العقد شيء في غرضنا، وليس كالمرهون يستحيل خمراً؛ فإن مقصود
الرهن منتظرٌ، وهو بيعُ الرهن في الدين عند مسيس الحاجة إليه، فوقع
الاعتناءُ باستحالة العصير في يد المرتهن.
وشبه الأئمة بيع العصير واستحالتَه خمراً في يد البائع باستحالة العصير
خمراً في يد المرتهن؛ فإن البيع لزم بانتفاء الخيار عنه، ولا يتوقف
لزومُه على الإقباض. ولكن انتقال الضمان ونفوذ التصرف منتظر بعدُ، فقال
الأئمة إذا استحال العصير خمراً في يد البائع، ثم استحالت الخمر خلاً،
فالعقد قائم، والقول في انقطاعه وعَوْدِه، أو في
(6/152)
وقوف الأمر فيه على نحو ما قررناه في
المرهون بعد القبض، وقال القاضي: النص ما ذكرناه في الرهن والبيع وهو
الأصل.
وكان لا يمتنع في القياس أن نقول: العصير المبيع إذا استحال خمراً،
والخمر ليست بمالٍ، فالعقد قد عدم موردَه ومحلَّه، فإذا انقلبت الخمر
خلاً، فالقياس أن نجعل هذا على قياس عَوْد الحِنْث فيه إذا علق الرجل
طلاقاً أو عتاقاً، ثم بت النكاح، وأزال الملك عن الرقبة، فلو فرض عودٌ
بعقدٍ، ففي حكم التعليق السابق في الملك والنكاح اللاحقين قولان
مشهوران.
ووجه التشبيه أن العقد في استحالة العصير خمراً على حالةٍ، لو فرض
ابتداءُ العقد، لم يثبت لانعدام المحل، لا لعجزٍ أو غيره من الموانع.
والأمر على هذا الوجه في عود الحِنْث، فإن النكاح انبتَّ، وكذلك الملك،
ولم يبق محلٌّ يفرض فيه نفوذ طلاق أو عتاق. ثم كان في العوْد ما
ذكرناه.
فإن كانت الخمرة تستحيل بنفسها، واعتقد المعتقد ذلك فرقاً، فهذا لا
يعارض الفقه الذي ذكره القاضي من تحقق انعدام المحل، ولكنه لم يذكر هذا
إلا منبهاً على طريق المعنى. والمذهب ذاك الذي نقلناه (1).
وكل هذا في استحالة العصير بعد القبض.
3617 - فأما إذا استحال العصير خمراً قبل القبض، فإن جرى الإقباض على
الشدة، فالقبض فاسد.
ولو استحالت خلاًّ، فلا عود للرهن؛ فإن الركن الأعظم جرى على الفساد.
وهو كما لو رهن الخمرة المحترمة، ثم استحالت، فالعقدُ على الفساد، ولا
ينقلب إلى الصحة بسبب انقلاب الخمر. ولو استحال العصير خمراً قبل
القبض، وانقلب خلاً قبل القبض، فهل يفسد الرهن فساداً لا يعود
بالانقلاب إلى الحموضة؟ فعلى وجهين: أحدهما - يفسد لانعدام المحل في
حال جواز الرهن وضعفه؛ إذ هو غير منتهٍ إلى اللزوم بعدُ.
والثاني - يعود العقد، كما ذكرناه بعد القبض.
__________
(1) في (ص)، (ت 2): ذكرناه.
(6/153)
وهذان الوجهان يقربان من الأصل الذي مهدناه
في موت الراهن قبل القبض وجنونه.
3618 - وألحق الشيخ أبو علي بهذا الأصلِ ما لو رهن الرجل عبداً، فجنى
قبل القبض، وتعلق الأرش برقبته. وقلنا: رهن الجاني فاسد. وقد ثبت أن
طريان الجناية بعد القبض لا يفسد الرهن، ولكن يُثبت حقَّ رفعه بالبيع
في الجناية. فإذا فُرض ذلك بعد تأكد الرهن بالقبض، ففي ارتفاع الرهن
وانفساخه وجهان.
وهذا الذي ذكره الشيخ أبعد من انقلاب العصير خمراً؛ فإن العبد وإن جنى،
فهو قائم والملك فيه دائم.
وقد يلزم على هذا المساق تخريج وجهين فيه إذا أبق (1) العبد المرهون
قبل القبض، وانتهى إلى حالة يمتنع ابتداء الرهن فيه. ويجوز أن يُتخيّلَ
فرق من جهة أن الجناية بعد القبض تؤثر في الرهن، والإباقُ لا يؤثر بعد
القبض.
وإذا كان أخذ هذه المسائل من طريان الجنون والموت، فليس الإباق بعيداً
إذا فُرض طريانه قبل القبض عن التردد، وتقدير الخلاف.
وإذا بانَ ما ذكرناه في استحالة العصير خمراً قبل القبض، فإن قلنا:
ينفسخ الرهن، ولا يعود، فإذا جرى الإقباضُ على الشدة، فالقبض فاسد،
والرهن منفسخ، ولا توقع في العَوْد على الوجه الذي عليه نفرعّ،
فاستحالة الخمر خلاً بعد ذلك لا أثر له. فإن أعادا عقداً بعد الحموضة،
لم يخف حكمه.
وإن قلنا: لا ينفسخ الرهن انفساخاً لا يعود، فإذا جرى القبض على الشدة،
فالقبض فاسد، فإذا استحالت الخمر خلاً، فعقد الرهن باقٍ، والذي جرى ليس
بقبضٍ، فلا بد من قبضٍ بعد الحموضة. وإذا ورد العقد على يدٍ، ففي تضمن
العقد الإقباض كلامٌ مضى. فأما إذا أردنا إثبات قبضٍ مجدد على يدٍ
مستدامةٍ، فلا بُدَّ من إقباض من طريق الصورة. فلو قال: اقبضه لنفسك،
ففيه خلافٌ، قدّمته في كتاب البيع. وهذا ذاك بعينه. ولو قال أمسكه
لنفسك، لم يكن إقباضاً.
وإذا جوزنا له أن يقبض لنفسه بنفسه، فلا بد من صورة نجريها يقع مثلها
قبضاً
__________
(1) أبق: من باب ضرب في الأكثر، وتأتي من بابي تعب وقتل. (المصباح
والمعجم).
(6/154)
ابتداء، هكذا ذكره الأئمة وصرّحوا (1).
وذكر صاحب التقريب أن الإذن في الإمساك، واليدُ دائمة يخرّج على أن
العقد هل يتضمن إقباضاً؟ ثم رجّح، فقال: هذا أولى؛ فإنه يعرض لنفس
القبض. فإذا كنا نجعل ضمن العقد إقباضاً، فلأن نجعل الإذن في الإمساك
قبضاً أولى.
وهذا قياس لست أنكره. ولكن صرح الأئمة بخلافه.
هذا تمام البيان في هذا الفصل. ثم وصل الشافعي بهذا الفصل تخليل الخمر
والمعالجةَ في استعجال الحموضة. وذكر الأصحاب هذا الفصل هاهنا فنتأسَّى
بهم.
فصل
3619 - الخمر تنقسم إلى خمرة غير محترمة، وإلى خمرة محترمة، فأما التي
لا تحترم، فهي التي اتخذها المالك لتكون خمراً، فهذه الخمرة غيرُ
محترمة؛ وتتعين الإراقة على أهلها، وإذا التمسوا أن يكتفى بإيقاع
الحيلولة بينهم وبينها حتى تتخلل بأنفسها لم نُجبهم إلى هذا، وعجلنا
إراقتها، وهذا مشعر باستحقاق الإراقةِ فيها؛ فإنا إن عولنا على محاذرة
مخامرتهم لها، وعدم الأمن بهم فيها، فالحيلولة تحسم هذه المادة وتقطعها
ولا اكتفاء بها، فوضح أنها مستحقة الإراقة.
فلو لم يتفق إراقتها حتى استحالت خلاًّ من غير علاج، ولا تسبب، فالخل
مالٌ، ولا خلافَ أنه لا يراق على صاحبه.
فنقول: الخمر وإن كانت مستحقة الإراقة، فقد انعدمت الشدّة، وكأن تيك
العين قد زالت، والخل رزق جديد. هذا متفق عليه.
3620 - ولو خلل مخلل هذه الخمرة التي وصفناها بكونها مستحقة الإراقة،
نُظر: فإن طرح فيها عيناً من ملح، أو خلٍ، أو غير ذلك، فانقلبت خلاً،
فهو نجس محرّم. وعلل بعض أصحابنا ذلك بأن العين الواقعةَ في الخمر
تنجست بملاقاتها، فإذا
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث بدون ذكر متعلّق التصريح. وهو إيجاز بالحذف
يجري أحياناً في أسلوب الإمام.
(6/155)
انقلبت الخمر خلاً، نجسته تيك العين
المتنجسة بملاقاة الخمر.
وهذا قول غيرُ صادر عن فكرٍ قويم؛ فإنه لا معنى لتنجيس العين إلا اتصال
أجزاء الخمر بها، وجوهر تلك العين على الطهارة، فإذا انقلبت الخمر
خلاً، فمن ضرورة ذلك أن تنقلب تلك الأجزاء التي لاقت العينَ الواردةَ
على الخمر؛ فلا حاصل إذن لذلك، والتعويل في تحريم الخل على تحريم
التخليل كما ذكرناه في (الأساليب).
هذا قولنا في التخليل بطرح شيء في الخمر، والحكم متفق عليه، والتعويل
على تحريم التخليل.
3620/ م- ولو لم يطرح في الخمرة المستحقة الإراقة شيئاًً، ولكن نقلت
إلى ظل أو شمس، وكان ذلك سبباً في المعالجة، ومعاجلة تحصيل الحموضة،
فإذا زالت الشدة، ففي المسألة وجهان بناهما بعض الأصحاب على التردد
الذي ذكرناه في التعليل في المسألة الأولى. قالوا: إن عللنا بالنجاسة،
فهذا المعنى مفقود هاهنا؛ لأنه لم يطرأ على الخمرة ما ينجسُ بها، وإن
عوّلنا على التحريم، فالتخليل عبارة عن التسبّب إلى إكساب الخمر
الحموضة. وهذا المعنى يحصل بالتشميس، والنقل. ولا حاجة إلى هذا البناء؛
فإن فصل (1) النجاسة باطل قطعاً. وإن اعتمده أبو يعقوب (2) وطائفة من
أئمة الخلاف. ولكن توجيه الوجهين في التشميس والنقل يهون من غير بناءٍ،
فأحد القائلين يتمسك بقصد التخليل وقد حرمه النبي عليه السلام في
الخمرة المستحقة الإراقة، ولما قال أبو طلحة في خمور الأيتام: أخللها،
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ". ولم يتعرض للتفصيل في
التخليل (3)، فهذا وجه.
__________
(1) المراد بفصل النجاسة: التعليل بنجاسة ما يطرح فيها عند ملاقاته
عينَها، وليس الفصل الحسّي؛ فالمعنى أنه يجري في هذه الصورة وجهان من
غير بناء على التعليل بالنجاسة.
(2) أبو يعقوب: هو أبو يعقوب الأبيوردي.
(3) حديث أبي طلحة: رواه أحمد: 3/ 119، 180، 260، وأبو داود: كتاب
الأشربة، باب ما جاء في الخمر تخلل، ح3675، والترمذي: البيوع، باب ما
جاء في بيع الخمر والنهي عن ذلك، ح 1293، وأصله في مسلم: الأشربة، باب
تحريم تخليل الخمر، ح 1983، وانظر التلخيص: (3/ 82 ح 1240).
(6/156)
والوجه الثاني أن [الخل] (1) يحلّ اعتباراً
بالإمساك (2).
ثم لو فرض إمساك الخمر المستحقة الإراقة على قصد التخليل، فتخللت، ففي
المسألة وجهان أيضاًً بالترتيب على الوجهين في النقل والتشميس، وهذه
الصورة أولى بالحلّ (3)؛ من جهة أنه لم يوجد فيها فعل، والقصد المجرد
يبعد أن يحرم.
ولو اتفق لُبث من غير قصد إليه، فاستحالت الخمر في تلك المدة، فالخل
حلال بلا خلاف؛ لما قدمناه في صدر الفصل.
فهذا بيان الخمرة التي ليست محترمة.
3621 - فأمّا الخمرة المحترمة وهي خمرة الخل. وتصوير ذلك أن اتخاذ الخل
جائز بلا خلاف، والعصير لا ينقلب من الحلاوة إلى الحموضة من غير توسط
الشدة، فإذا انقلبت خمراً، فلا سبيل إلى إتلافها؛ إذ لو أُتلفت، لما
تصوّر اتخاذُ الخل.
وهذى بعضُ الناس فقال: نُضرب عنها، فإن عثرنا عليها خمراً، أرقناها،
ولم يصر إلى هذا أحد من أئمة المذهب، وإنما هو من ركوب أصحاب الخلات.
ثم كان يستد (4) هذا في حق من يأمر بالمعروف، فمن يتخذ الخل في نفسه
يعلم انقلاب العصير خمراً، ويفطن لدركِ رائحتها، وهو مقَرٌّ عليها، فلا
اعتداد بأمثال هذا.
وذكر الشيخ أبو علي في الفصل كلاماً أؤخره عن ترتيب المذهب، ثم آتي
عليه.
والقدر الذي فيه اكتفاء أن هذه الخمرةَ غيرُ مراقة على صاحبها، وإذا
استحالت خلاً بالإمساك، فالخل طاهر محترم. وكذلك تكون الخلول.
ولو استعجل صاحب الخمر وخلل، نُظِر: فإن كان التخليلُ بإلقاء شيء من
ملح أو غيره، فظاهر المذهب منعُ هذا، وإذا فعل، فالخل على موجَب المنع
محرّم،
__________
(1) في الأصل: الخمر.
(2) في هامش (ت 2) حاشية: " وأوضح هذا التعليل في البسيط بأنه لم يتقبل
فعله بعين الخمر، وبهذا لا يعد معالجة ".
(3) في (ص): بالخل، (ت 2): بالتخليل.
(4) في (ص): يشتد. ومعنى يستد: يستقيم. وهذا اللفظ من مأثور الإمام
ومفرداته التي يكثر من استعمالها.
(6/157)
ويشهد له حديث أبي طلحة، فإنه سأل رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن خمور الأيتام، وما كانت اتخذت إلا واتخاذها
جائز، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تخليلها.
ومن أصحابنا من قال: يحل التخليل في الخمر المحترمة؛ فإنها ليست مستحقة
الإراقة، وهذا القائل يجيب عن حديث أبي طلحة، ويقول: أمر رسول الله صلى
الله عليه وسلم براقتها، والخمرة المحترمة لا تراق بالإجماع، فلعلَّ
تلك الخمرةَ كانت اتخذت بعد التحريم، فإن العصير ينقلب في يوم في حر
الحجاز خمراً، ولعل هذا كان والأمر على التشديد، كما يدّعيهِ أصحاب أبي
حنيفة. وللنظر في هذا مجال على الجملة.
ولا مبالاة إن جوزنا التخليل بما ذكره أبو يعقوب من فصل النجاسة. هذا
إذا كان التخليل بإلقاء شيء في الخمرة المحترمة.
فأما إذا كان التخليل بالنقل من شمس إلى ظل، أو من ظل إلى شمس، فالمذهب
جواز ذلك، وإلحاقُه بالإمساك.
وذهب طائفة من أئمة المذهب إلى تحريم ذلك، وإلحاقِه بالتخليل المحرم.
وهذا رديء مخالف لما درج عليه الأولون فعلاً، ولم يُبْدَ عليهم نكير.
وكان شيخي أبو محمد يقول: إن طرح في العصير ملحٌ، وكان سبباً لتعجيل
التخليل، ففيه تردد بين الأصحاب، وهو في معنى النقل. وهذا عندي بعيد؛
فإن المعالجة لم تصادف خمراً.
وسمعته مرة يقول: تلك الأعيان لا حاجة إليها فتنْجُس بالخمر، ثم لا
يزول حكم النجاسة عنها، بخلاف نجاسة الظروف. وهذا تردد على طريقة أبي
يعقوب، وهي في أصلها باطلة، والتفريع عليها باطل؛ فإنا لو التزمنا
تمحيص العصير، لنقَّيناه من العناقيد، والثجير (1)، والتزمنا تصفيته
جهدنا عن الأقذاء، وهذا أمر طويل لا يستريب محصل في حَيْده عن سمت
الشريعة.
__________
(1) الثجير: ثُفْلُ كل شيء يعصر، كالعنب وغيره (معجم).
(6/158)
نعم لو وقع شيء في الخمرة من غير قصد، فقد
رأيت فيه تردداً لبعض الأصحاب إذا منعنا التخليل.
3622 - وقد نجز التفصيل في التخليل، وحان أن نذكر ما وعدناه من كلامٍ
[للأصحاب] (1) خارجٍ عن ضبط المذهب، وذلك في صورتين: إحداهما - أن
العناقيد إذا استحالت أجوافها إلى الشدة، والحبات متصلة بالعساليج (2)،
فقد ذكر القاضي وطائفة من الأئمة وجهين في جواز بيعها، وطردوا هذا
الخلافَ في بيع البيضة التي حال مُحُّها وماحُها دماً وهو إلى الانقلاب
إلى تخليق الفرخ. ومن ذكر هذين الوجهين
لم يخصهما بحال من يقصد اتخاذَ الخل، حتى يحمل على الحرمة. نصّ عليه
القاضي، ولم يفرض المسألةَ إلا فيمن يتخذ الخمر، ثم روجع في نجاسة
أجوافها، فتوقف، وهذا عظيم؛ فإن متضمنها الخمر الشديدة. ولا يليق
بقاعدتنا أن ننفي حكمَ النجاسة عما في بواطنها، ثم نقول: لو اعتصرت،
صارت نجسةً، والانفصال لا يتضمن تثبيت النجاسة.
وهذا يوافق مذهب أبي حنيفة (3)، إذ قال: الدماء في العروق في خلل اللحم
ليست نجسة؛ فإذا سفح وزايل، اكتسب النجاسة، وزعم أنه تمسك في هذا بظاهر
قوله تعالى: {أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا} [الأنعام: 145] وهذا مخصوص بالدم،
فلا وجه لهذا إذنْ، ولا خروج للخلاف في البيع إلا على أمرٍ وهو أن
البيضة ظاهرها طاهر، والنجاسة مستترة بالقيض (4) استتار خِلقة، والبيضة
في نفسها صائرة إلى رتبة الفرخ، فكان ابتياع البيضة وحشوها الدم
كابتياع العصفورة وحشوها النجاسة، فاعتمد البيعُ مقصودَ البيضة، وطهارة
الظاهر. والعنقودُ طاهرٌ وحشوه نجاسة مستترةٌ، وهي إلى الحموضة.
فإن قيل: قد فرضتموها في حال من يقصد الخمرَ؟ قلنا: نعم ولكن العادة
جاريةٌ بأن من يبغي الخمر يعتصر، ولا يصب في الدنان إلا العصير، فإن
الثجير وعفوصتَه
__________
(1) في النسخ الثلاث: " من كلام الأصحاب خارج ". ولعل لها وجهاً في
اللغة لا أعرفه.
(2) جمع عِسلاج وعُسلوج. وهو ما لان واخضرّ من قضبان الشجر والكرم.
(معجم).
(3) ر. أحكام القران للجصاص: 2/ 303، البحر الرائق: 1/ 241.
(4) القيض: القشرة العليا للبيضة.
(6/159)
تفسد شدة الخمر، فإذا وجدنا العناقيد، لم
نعول على قصد المتخذ إذا كان ما وجدناه مائلاً عن عادة من يقتني
الخمور. وهذا القائل يقول: لا نجوز إتلافَ العناقيد على أربابها؛ إذ
يستحيل الجمعُ بين جواز بيعها وبين جواز إفسادها. وليس كالمرتد يباع؛
فإنّ قتله غير مستحق، ولكنه مدعوّ قهراً إلى الإسلام، بالتعنيف.
والقتلُ المستحق قد يمنع صحة البيع في العبد الذي استوجب القتلَ في
المحاربة. وقد ذكر الأصحاب منعَ البيع في المرتد، كما قدمته.
فهذا تلخيص القول في ذلك.
فإن قيل: أليس اختلف الأصحاب في جواز الصلاة مع البيضة المذرة، فهلا
فهمتم من هذا الاختلاف الترددَ في نجاسة حشو البيضة؟ قلنا: جواز الصلاة
مأخوذ من الاستتار الخِلقي المشبه باستتار النجاسة بالحيوان. وقد طرد
بعض الأصحاب الخلافَ في جواز الصلاة مع حمل قارورة مصممة حشوها نجاسة.
هذا بيان إحدى الصورتين.
3623 - الصورة الأخرى في الخمرة المحترمة، كما سبق وصفها - قطع الأصحاب
بأنها ليست مالاً، ولا تضمن إذا أُتلفت، وليس على متلفها إلا التوبيخ
والتأديب، على ما يراه صاحب الأمر. وذكر الشيخ أبو علي تردداً في
بيعها، وتردداً في طهارتها وهي خمرة مشتدّة محرّمة، وهذا خرم المذهب،
ومصادمة القاعدة. وما ذكرناه من استحالة العصير خمراً، وارتفاع الرهن،
وعوده إذا صارت الخمر خلاً، والفصل بين ما قبل القبض وبعده، يخالف جواز
بيع الخمر، فلا وجه لهذا. وإنما التردد في مسألة العنقود. وفيها من
الإشكال ما تقدّم.
والوجه القطع بمنع بيعها أيضاً، لنجاسة أجوافها، وليست هي حيوان، فإن
الحيوان لاختصاصه بالحياة ممتاز عن النجاسات المجاورة له، والبيضة
والعنقود وإن انتظمت ظواهرها وبواطنها خِلقة، فإذا بيعت بجملتها، فلا
تمييز لبعضها عن البعض بالحياة والجمادية، فالبيع فيها ممتنع؛ وأيضاً
فإن المقصود منها أجوافها وحشوها نجس، والمقصود من الحيوان نفسه.
فهذا تمام ما يحضرنا في بيان ذلك.
(6/160)
فصل
ولو قال: " رهنتكه عصيراً، فصار في يدك خمراً ... إلى آخره " (1).
3624 - إذا اختلف الراهن. والمرتهن في عيبٍ ثابت، فقال الراهن: حدث
العيب في يدك ولا خيار لك. وقال المرتهن: حدث العيب في يدك أيها
الراهن، وقد اطلعتُ عليه الآن، فأرده وأفسخ البيع الذي شرطتُ هذا
الرهنَ فيه، فالقول قول الراهن؛ قياساً على اختلاف البائع والمشتري في
قدم العيب وحدَثِه؛ فإذا كنا نجعل القول قول البائع استدامةً للعقد،
فلنجعل هاهنا القولَ قولَ الراهن استدامة للرهن والبيعِ الذي الرهنُ
شرطٌ فيه. وهذا واضح.
ولو كان رهن عصيراً، فرأيناه خمراً في يد المرتهن، وقد اختلف الراهن
والمرتهن، فقال الراهن: أقبضتك العصير، فانقلب خمراً في يدك. وأنا قد
وفيت بالشرط، ووفيتك المشروط. وقال المرتهن: أقبضتني الخمر وكانت
الاستحالة إلى الشدة في يدك، فالقول قول من؟ هذا يبتني على ما مهدناه
من أن الإقباض على الشدة فاسد.
وقد اختلف الأصحاب في أن العصير إذا استحال خمراً في يد الراهن؛ هل
ينفسخ الرهن؟ وقد مضى ذلك الآن. فالراهن يدّعي استقرار الرهن، والمرتهن
يأبى ذلك.
ففي المسألة قولان: أحدهما - القول قول الراهن؛ لأنه ادّعى إقباضه
عصيراً، والأصل بقاؤه على صفة الحلاوة. والقول الثاني - أن القول قول
المرتهن؛ فإن الراهن يدّعي عليه أنه قبض قبضاً صحيحاً، وهو منكر للقبض،
والأصل عدمه، ولا حكم للقبض الذي اعترف به، فإنه فاسد ليس قبضاً
شرعياً، فكأن لا قبض. وقيل: القولان يقربان من اختلاف الأصحاب في حد
المدعي والمدعَى عليه، كما سيأتي في الدعاوى.
ومن أصحابنا من قال: المدعي مَنْ يدعي أمراً خفياً، والمدّعى عليه من
يذكر أمراً
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 213.
(6/161)
جلياً. ومنهم من قال: المدعي من لو سكت
تُرِك والسكوت، والمدعى عليه من لا يترك وسكوته. ووجه التخريج أن
المرتهن لو سكت تُرك، فهو المدعي إذاً، والقول قول الراهن؛ فإنه لو سكت
لم يترك.
وإن قلنا: المدعي من يدعي أمراً خفياً، فالمدعي هو الراهن إذاً على
هذا؛ فإنه يدعي القبض المبرم، والأصل عدمه. والمرتهن يدعي عدم القبض
وهو الأصل.
ولو قال المرتهن: كنتُ شرطتُ الرهنَ، وقد رهنتني خمراً إذْ رهنتني.
وقال الراهن: بل رهنتك عصيراً. وهذه المسألة مفروضة فيه إذا شرطا رهناً
معيناً، وفرض الوفاء به، ثم قال المرتهن: العين التي شرطنا رهنها كانت
خمراً. وقال الراهن: بل كانت عصيراً، فهذا يبتني على أن شرط الرهن
الفاسد هل يُفسد البيعَ؟ وفيه قولان سيأتي ذكرهما.
فإن قلنا: إنه لا يوجب فساد البيع، فالتنازع في الوفاء بالشرط، وعدم
الوفاء به يخرّج على القولين، والاختلافِ في حالة القبض. وهذا بيّن.
وإن قلنا: شرط الرهن الفاسد يفسد البيع، فالذي قالاه نزاع في فساد
البيع وصحته، وقد ذكرنا اختلاف أصحابنا فيه إذا اختلف المتعاقدان في
شرط مفسد، فادّعاه أحدهما ونفاه الثاني. وقد استقصينا القول فيه في باب
اختلاف المتبايعين.
فرع:
3625 - سئل عنه القاضي فقيل: إن (1) اشترى لبناً في قمقمة، فصبه البائع
في قمقمةٍ للمشتري، فَعَلتْه فأرةٌ، فاختلفا، فقال المشتري: بعتني
اللبن طاهراً (2) فوقعت فيه فأرة. وقال البائع، لا بل كانت الفأرة في
قمقمك.
فكان من جوابه أن قال: هذا يخرّج على القولين في إقباض الخمر والعصير؛
فإن المشتري يقول: أقبضتنيه نجساً، والبائع يقول: بل أقبضتك طاهراً،
وحصلت النجاسة في يدك من قمقمك.
ولو قال البائع: كانت هذه الفأرة في قمقمك. وقال المشتري: بل كان اللبن
__________
(1) في (ت 2)، (ص): "فقال: من".
(2) طاهراً: أي على شرط الطهارة.
(6/162)
حالة العقد نجساً لكون الفأرة فيه. فهذا
نزاع في أن العقد عقد على الفساد أم لا؟ وهو مناظر اختلاف المتبايعين
في فساد العقد، كما ذكرناه.
هذا جوابه. وتفصيله:
فإن قيل: إذا قال المشتري في الصورة الأولى: تنجس اللبن في يدك، فهو
ادّعاء انفساخ البيع. قلنا: نعم هو كذلك، والعصير إذا استحال خمراً،
فهل نحكم بانفساخ الرهن.
فإن قيل: إذا كانت النجاسة في ظرف المشتري، فاللبن ينجس بملاقاة
النجاسة، فليس ما ادعاه البائع إقباضاً على الصحة. قلنا: ليس كذلك؛ فإن
اللبن إذا حصل في فضاء الظرف، ثبت له حكم القبض جزءاً جزءاً، قبل أن
يلقى النجاسة. هذا بيان قوله.
فلينظر الناظر في ذلك.
فصل
قال: " ولا بأس أن يرهن الجارية ولها ولد صغير؛ لأن هذا ليس بتفرقة ...
إلى آخره " (1).
3626 - التفرقة في البيع بين الأم وولدها الصغير حرام؛ قال النبي عليه
السلام: " لا تُولَّه والدة بولدها " (2). ثم إن بيعت الجارية دون
الولد، أو بيع الولد دون الجارية، وارتكب المتعاقدان محظور التفرقة،
ففي صحة البيع قولان، سيأتي ذكرهما في كتاب السير، إن شاء الله تعالى،
وفيه نذكر حد الصغر المؤثر، والتفريقَ
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 214.
(2) حديث: لا توله: أخرجه البيهقي في السنن: 8/ 5 من حديث أبي بكر بسند
ضعيف، وأبو عبيد في غريب الحديث: 3/ 65. والتوليه أن تفارق الأم ولدها.
من ولَّهَ الوالدةَ فرّق بينها وبين ولدها.
وقد صح في معنى هذا الحديث أحاديث أخرى (ر. التلخيص: 3/ 36، 37 ح 1170
- 1173).
(6/163)
المؤثر بين الوالد والولد، ثم بين جميع
المحارم.
وقدرُ غرضنا الآن أن صحة البيع الواقع على حكم التفرقة فيها قولان:
أحدهما - وهو الجديد أن البيع باطل. والثاني - وهو القديم أن البيع
صحيح.
قال الشافعي: لو رهن الأمَّ دون ولدها أو على العكس، فالرهن صحيح؛ لأن
ذلك ليس بتفرقة بينهما.
واختلف أصحابنا في معنى هذا اللفظ، فمنهم من قال: معناه أن الرهن لا
يوجب التفرقة؛ فإن منافع الأم للراهن، فيجمع بين الأم وولدها، ويكلفها
احتضانه وإرضاعه. ومنهم من قال: معنى قوله: إن ذلك ليس بتفرقة أن البيع
منتظرٌ، [فإذا مست الحاجة إليهِ، لم يفرق بين الأم والولد، فإذا ثبت
صحة الرهن] (1) فإذا مست الحاجة إلى البيع بأن حَلّ الدينُ، فهل يجوز
إفراد الأم بالبيع - والتفريع على أن التفريق مفسد للعقد؟ على هذا
القول وجهان: أحدهما - أن البيع يبطل إذا تضمن التفريقَ؛ طرداً للقياس.
والثاني - لا يبطل؛ لأن هذا بيع قهري، ولا يمتنع التفريق قهراً لأمر
شرعي، وهذا كما لو كان للجارية ولد صغير حُر، فبَيع الأم جائز، والحرية
فرقت بين الأم والولد. كذلك اختصاص الرهن بالجارية يوجب تخصيصه بالبيع.
التفريع:
3627 - إن قلنا: تباع الجارية والولد عند مَحِل الدين، وهو الذي نص
عليه الشافعي، فلا حظ للمرتهن في الولد، وقد جرى البيع في الأم والولد،
فإذا أردنا توزيع الثمن على الجارية والولد، فما وجه التوزيع؟
هذه المسألة تقتضي تقديم أخرى عليها، وهي بين أيدينا، ولكنا لا نجد
بُدّاً من ذكرها الان في غرضٍ لنا.
فنقول: من رهن أرضا بيضاء، وكان فيها نوى، فقبض المرتهن الرهنَ، ثم
أنبتت النوى أشجاراً، فلا سبيل إلى قلعها، ولكن إذا حل الحق وبعنا
الأرض والغراس، فكيف يقبض الثمنَ المأخوذَ على الأرض والغراس؟ اختلف
أئمتنا في ذلك، فقال بعضهم: تقُوّم الأرض بيضاء فإذا قيمتها مائة، ثم
نقوّمها مع الغراس،
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(6/164)
فإذا قيمتها مع الغراس مائة وعشرون، فقد
زاد تقدير الضم على تقدير الانفراد في الأرض البيضاء بعشرين درهماً،
والعشرون من المائة والعشرين سدسها، فنحفظ هذه النسبة، فإذا هي نسبة
الأسداس، فإذا بعنا الأرضَ والغراس وزّعنا الثمنَ على النسبة التي
معنا، فصرفنا خمسةَ أسداسه إلى المرتهن، وصرفنا سُدسه إلى الغرماء
الباقين.
هذا وجه.
والوجه الثاني - أنا نقوّم الأرضَ بيضاء، فإذا قيمتها مائة، ونقوم
الغراس في الأرض مفردة، فإذا قيمتها خمسون، فنضبط النسبة بأثلاث، فنوزع
الثمن عليها، فنصرف ثلثي الثمن إلى المرتهن، وثلثه إلى الغرماء. فهذا
بيان الاختلاف في مسألة الأرض والغراس.
3628 - عدنا الآن إلى الجارية وولدها وقد بيعا. وقد يحسن فرض هذه
المسألة إذا كانت الأم مفردة وليست ذات ولد، أو بيعت دون ولدها، وكان
ثمنها أكثرَ لانفرادها، وإذا بيعت مشتغلة بحضانة الولد، فقيمتها أقل،
وعند ذلك يظهر التردد والاختلاف، وقد اختلف أصحابنا في كيفية التوزيع،
فقال بعضهم: التوزيع على الأم والولد كالتوزيع على الأرض والغراس، وفيه
وجهان نعيدهما: أحدهما - أنا نقوم الأم وحدها فإذا قيمتها مائة.
ونقوّمها مع الولد، فإذا قيمتها عند الضم مائة وعشرون. فقد زاد سدس،
فليقع التوزيع على الأسداس. هذا وجه.
والوجه الثاني - أنا نقوم الأم وحدها، فإذا قيمتها مائة، ونقوم الولد
وحده مضموماً إلى الأم، فإذا قيمته وحده مع الأم خمسون، فيظهر لنا نسبة
الأثلاث. فليقع التوزيع كذلك. وهذا بعينه ما ذكرناه في الأرض والغراس
في الوجهين.
هذه طريقة. وهي اختيار الشيخ أبي علي، والقاضي.
وذكر صاحب التقريب هذه الطريقة، وذكر معها طريقة أخرى واختارها، فقال:
ينبغي أن تقوم الأم مع الولد وهي حاضنة، ويقوم الولد مع الأم، ولا يفرد
واحد منهما بالتقويم على تقدير الانفراد، بخلاف مسألة الغراس، والفرق
أن الجارية رهنت وهي ذات ولد، فاستحق المرتهن بيعها على نعت الضم، وليس
الأرض كذلك؛ فإنها رهنت إذْ رهنت ولا غرس، ثم حدث الغراس من بعدُ، كما
سنصوره على
(6/165)
الاستقصاء، إن شاء الله تعالى. ونحن قدرنا
الأرض بيضاء في الوجهين جميعاً، ورددنا الاختلاف إلى كيفية اعتبار قيمة
الغراس، وهاهنا لا تعتبر قيمة الجارية وحدها لما نبهنا عليه. فليتأمله
النّاظر؛ فإنه حسن.
قال صاحب التقريب: نظير مسألة الغراس من الجارية ما لو رهنت، ولم تك
ذاتَ ولد، ثم علقت بمولود رقيق، وولدت فيطابق هذا على صورة الغراس؛ من
حيث انعقد الرهن وتم والأم على نعت التفردِ، كالأرض البيضاء، فلا جرم
[يجري] (1) في التوزيع عند بيعها الخلافُ الذي ذكرناه في الأرض
والغراس.
3629 - ومن تمام البيان في هذا الفصل: أن ما ذكرناه من المطابقة في
التوزيع إنما يحسن وقعه وأثره إذا حُجر على الراهن، أو مات والديون
محيطةٌ مستغرقة، واختلفت الأغراض في التوزيع، فالكلام على ما ذكرناه.
فأما إذا لم يفلس الراهن، ولم يضق مالُه، وبعنا الجارية والولد، فعلى
الراهن توفيرُ الدين كَمَلاً (2)، ولا يكاد يظهر فائدة المسألة. هكذا
قال الشيخ أبو علي.
وهذا فيه فضل نظرٍ يُبيّنُه كلامٌ: وهو أن المرهون إذا بيع في دين
المرتهن، فلو أراد الراهن أن يصرف طائفة من مالِه إلى دين المرتهن سوى
الثمن المحصّل من بيع الرهن فهل يسوغ ذلك أوْ لا؟ والوجه القطع بجوازه،
كما لو أدى الدين، وفك به الرهن، فتَعَلُّقُ حقِّه بثمن البيع،
كَتَعَلُّق حقِّه بالمرهون قبل أن بيع.
ولو أراد أن يتصرف في ثمن الرهن قبل أن يؤدي حق المرتهن. لم يكن له
ذلك.
وإذا أراد أن يتصرف فيما يقابل الولد المضمومَ، فله ذلك، وثَمَّ القدر
الذي يقابل به الولد فيه الاختلاف المقدم.
ولاح بهذا أن أثر الخلاف قائم في حق المطلَق قيامَه في حق المحجور.
والغرض أن نبيّن أن متعلَّق الرهن [والوثيقة] (3) من الثمن المحصل من
الجارية والولد كم؟ فإذا
__________
(1) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.
(2) كملاً: كاملاً.
(3) في الأصل كلمة بهذا الرسم (السعه) وبدون نقط. ولم أدر لها معنى إن
كان. والمثبت من (ت 2)، (ص).
(6/166)
بانت الكمية، ظهر أمرُها عند الحجر في
الفضّ (1) على الغرماء، وعلى المرتهن.
ويظهر أثرها حيث لا حجر في تصرف الراهن فيما يزيد على مقدار الرهن.
فصل
قال: " ولو ارتهن نخلاً مثمراً، قال ثمر خارج من الرهن ... إلى آخره "
(2).
3630 - إذا رهن نخيلاً عليها الثمار، واقتصر على تسمية النخيل، ولم يسم
الثمار نافياً ولا مُثبتاً، نُظر: فإن كانت الثمار مؤبّرة، فلا شك
أنّها لا تدخل في مطلق تسمية النخل؛ فإنها لا تدخل في تسميتها في عقد
البيع على قُوّته، فلأن لا تدخل في حكم الرهن تحت الأشجار أولى، وإن
كانت النخيل مُطْلِعَةً، ولكن لم تكن مؤبرة، فقد ذكرنا في كتاب البيع
أنها تدخل تحت تسمية النخيل في البيع المطلق، وهل تدخل في حكم الرهن
تحت تسمية النخيل؟ ظاهر المذهب أنها لا تدخل.
والرهنُ في ذلك يخالف البيعَ، والفارق أن البيع يزيل الملك في الأصل،
فلا يبعد أن يقوى على الاستتباع. والرهن لا يقطع ملك المالك عن الأصل؛
ولا يرفع سلطانه، وكأنه موعد في دوام الملك أوجب الشرع الوفاء به،
فاختص وجوب الوفاء بمورده المسمى، ولذلك لا يتعدى الرهنُ إلى الزوائد
التي ستحدث في مستقبل الزمان، والملك في البيع يُثبت للمشتري حق الملك
فيما يتجدد.
وخرّج طوائف من الأئمة قولاً آخر في الرهن، وهو أن الثمار تتبع تسمية
النخيل إذا لم تكن بارزة (3)، قياساً على البيع، وذلك لأنا لم نتبِع
الثمارَ النخيلَ في البيع لقوة البيع، ولكنا رأينا الثمار الكامنة
جزءاً متصلاً كامناً، واعتقدنا اللفظ شاملاً. وهذا يستوي فيه القوي
والضعيف.
وهذا القول منقاسٌ، وهو مأخوذ من أصلٍ مع القول الأول، وهو أن من باع
__________
(1) الفض: التوزيع والتقسيم.
(2) ر. المختصر: 2/ 214.
(3) في (ص): مؤبرة.
(6/167)
حاملاً، ثبت الحمل مستحقاً للمشتري،
والتردد في أنه هل يقابله قسط من الثمن أم لا.
ولو رهن جارية حاملاً، ففي تعلق حق الوثيقة بالحمل الموجود حالة الرهن
قولان. والرأي ترتيب الثمار غيرِ المؤبرة على الحمل، فإن قضينا بأن
الرهن لا يتعلق بالحمل، فلأن لا يتعلق بالثمار أولى، وإن قلنا: يتعلق
الرهن بالحمل، ففي تعلقه بالثمار قولان. والفرق أن الحمل لا يقبل
التصرف على الانفراد، [فكان حريّا بالتبعية والثمار تقبل التصرف على
الانفراد] (1).
3631 - ومسائل الحمل ستأتي إن شاء الله تعالى.
ولكنا نعجل منها شيئاًً، فنقول: إن قلنا: رهن الجارية الحامل لا يتناول
الحملَ، فلو قال: رهنتها مع حملها، ففي هذا تردد للأصحاب، والظاهر أن
رهن الجارية لا يتعلق بالحمل؛ فإنه إذا لم يمتنع، فتقدير الانفراد فيه
بالذكرِ لا وجه له؛ إذ لو ساغ ذلك، لجاز إفراده بالرهن دون الأم.
وهذا الرمز الآن كافٍ. وسنعود إليه عند ذكرنا مسائل الحمل، إن شاء الله
تعالى.
فصل
قال الشافعي بعد تقرير المذهب في أن الرهن أمانة: " وإذا رهنه ما يفسدُ
من يومه ... إلى آخره " (2).
3632 - أما القول في أن الرهن أمانة، فسيأتي في باب معقود، إن شاء الله
تعالى.
ونحن نذكر الآن تفصيلَ المذهب في رهن ما يتسارع إليه الفساد، فنقول:
إذا رهن الفواكه الرطبة وغيرَها مما يتسارع إليه الفساد، نظر: فإن
رهنها بدين حالٍّ، صح، ثم إن أدى الدين من موضع آخر، فذاك. وإن اتفق
بيعُها في الدين، وصرف ثمنها إليه،
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) ر. المختصر: 2/ 214.
(6/168)
فهو المراد. وإن لم يتفق الصرف إلى الدين،
وأشرف المرهون على الهلاك، فلا خلاف أنه يباع، ويوضع الثمن رهناً
مكانه؛ إذ لا طريق إلى استيفاء الحق إلا هذا الطريق، والرهن يتضمن
توثيقاً، فإذا أشرف محلّ الوثيقة على الهلاك، ولو هلكت، لضاعت الوثيقة،
فالوجه في تبقية الوثيقة البيعُ ووضع الثمن رهناً مكان المبيع.
3633 - وإن رهن ما يتسارع إليه الفساد بدين مؤجل، نظر: فإن عرفنا أن
حلول الأجل يتقدم على فساد المرهون، صح الرهن، وكان كما لو رهن بدين
حالّ، وانتظم الترتيب على ما ذكرناه. وإن عرفنا أن الفساد يسبق حلولَ
الأجل، فتنقسم المسألة أقساماً:
منها أن يرهن ويشترط البيع عند الإشراف على الفساد، فإن كان كذلك، صح
الرهنُ، ولزم الوفاء بالشرط إذا مست الحاجة إليه، فإذا أشرف على
الفساد، بيع ووضع الثمن رهناً.
ومن الأقسام أن يرهن ويُقرن (1) [الرهن] (2) بشرط أن لا يباع عند ظهور
الفساد، فإن كان كذلك، فالرهن فاسد؛ فإنّ شرط تبقيته يتضمن فساده، وهو
مناقض للتوثق، فجرى الشرط مخالفاً لوضع الرهن.
ومن أقسام المسألة أن يطلق الرهن من غير تعرض لشرط البيع أو نقيضه،
فإذا كان كذلك، ففي المسألة قولان منصوصان: أحدهما - أن الرهن صحيح،
ومطلقه محمول على البيع عند الحاجة ووضع الثمن رهناً. والقول الثاني -
أن الرهن فاسد، ومطلقه محمول على تبقية الرهن، وإن كان يفسد، فهو كما
لو قيَّد بأن لا يباع.
فإن قيل: أليس لو رهن ما يتسارع إليه الفساد بدين حال، كان صحيحاً
قولاً واحداً. وإذا مست الحاجة إلى بيعه ووضع ثمنه رهناً، بيع، ولم
يختلف في ذلك، والرهن مطلق في الموضعين، فما الفاصل؟ قلنا: إذا كان
الدين مؤجّلاً، فحكم الرهن التبقية في حال سقوط المطالبة بالدين.
__________
(1) في (ص) كلمة غير مقروءة، رسمها هكذا (بعرفى) وفي (ت 2): (يقرب).
(2) زيادة من المحقق، رعاية لوضوح العبارة.
(6/169)
هذا حكم الإطلاق في الرهن بالدين المؤجل.
فكان تردد القول لذلك. وإذا كان الدين حالاً فالطلِبة حاقّة، لا تأخير
فيها يُشعر بتبقية الرهن إلى ثبوت الطلبة.
ولو كان المرهون بالإضافة إلى الأجل بحيث لا يقطع بفساده قبل الحلول،
وكان لا يقطع ببقائه أيضاًً، وتردد الاحتمال، ففي جواز الرهن المطلق من
غير تقييد بالبيع عند الإشفاء على الهلاك قولان، مرتبان على القولين
فيه إذا كان يهلك المرهون قبل الأجل لا محالة. وهذه الصورة أولى بالصحة
من الأولى. ووجه الفرق بيّن.
وقد كنا بنينا رهن المعلّق عتقُه بصفة توجد قبل حلول الأجلِ على رهن ما
يتسارع إليه الفساد قبل حلول الأجل، وخرّجنا صحة الرهن على قولين. قال
صاحب التقريب: إذا فرعنا على قول صحة الرهن، فقربت الصفة، وكاد العتق
أن يقع، بعناه بَيْعَنا الطعامَ المشرفَ على الفساد. وإذا كان الأصل
كالأصل، فالتفصيل كالتفصيل.
وإذا رهن ما لا يتسارع إليه الفساد، فطرأ بعد لزوم الرهن سبمب يقرّبه
من الهلاك قبل حلول الأجل، فطريان ذلك لا يوجب انفساخ الرهن وفاقاً.
وإن منعنا رهنَ ما هذه صفته ابتداء على أحد القولين، وتسرُّعُ (1)
الفساد طارئاً ومقارناً -على منع الرهن ابتداء- يضاهي إباق العبد، فإذا
اقترن، منَعَ، وإذا طرأ، لم يتضمن انفساخ العقد.
فرع:
3634 - إذا صح الرهن، ولزم في عين ثابتة لا يخشى فسادها، فقال الراهن:
نقلتُ حقك في الوثيقة من هذه الرقبة إلى هذا العبد، فقال المرتهن:
رضيت. ذكر أصحابنا في ذلك وجهين:
أحدهما - أن هذا يلغو، والوثيقة لا تنتقل، ورضا المرتهن لا يتضمن فسخَ
الرهن.
والوجه الثاني - أنها تنتقل وتقرُّ في العبد الثاني، وما جرى بينهما
يتضمن فسخاً للرهن الأول، وإعادةً له في المحل الثاني.
__________
(1) كذا فىِ النسخ الثلاث: "وتسرع" بالواو، وعليه يكون جواب الشرط "وإن
منعنا" قوله: " فإذا اقترن ... ".
(6/170)
وأخذ العلماء هذا الخلافَ من رهن ما يفسد
قبل الأجل. ووجه الأخذ منه أَنَّ الرهن فيما يفسد تضمن نقل الوثيقة إلى
عوضِ المرهون بتقدير البيع. فقالوا: إذا كنا نجوز ذلك، فما يمنع من نقل
الحق اختياراً من محل إلى محل وهذا غير سديد؛ فإن بيع ما يفسد مستحق
شرعاً وإقامة الأثمان والقيم مقام الأصول قاعدة ممهدة في الشرع، فأما
نقل حق مستقر من محل إلى محل، فليس له أصل من غير حاجة، ولا ضرورة،
وليس النقل والرضا مشعراً بالفسخ والإعادة على التحقيق، وليس كما لو
قال لمالكِ عبدٍ: أعتق عبدَك عني؛ فإن هذا من ضرورته تقديم نقل الملك،
فكان ضمناً لاستدعاء العتق. وأما نقل الوثيقة، فمبنيٌّ على اعتقاد
إبقاء الرهن الأولى، مع نقل موجبه، وعلى هذا يخرّج (1) انتقال الوثيقة
من المثمن إلى الثمن، فالوجه إفساد الرهن من عين إلى عين.
فرع:
3635 - إذا رهن ما لا يفسد، ثم طرأ عليه ما يقرّبه من الفساد قبل
القبض، وقلنا: لا يصح رهن ما هذا وصفه، ففي انفساخ الرهن وجهان مبنيانِ
على الوجهين في نظائر هذا، كطريان الجنون والموت، وطريان جناية
المرهون. والتفريع على منع رهنه.
ولو قُتل العبد المرهون قبل القبض، ففي تعلق حق الوثيقة بقيمته الواجبة
على المتلف الوجهان المذكوران؛ فإن القيمة تقع ديناً، والديون لا ترهن،
ولكن إن جرى ذلك بعد تأكُّد الرهن بالقبض احتُمل على ارتقاب أن تستوفى
القيمة وتعيّن.
ثم من يقول من أئمتنا إذا استحال العصير خمراً، زال الرهن ثم يعود إذا
تجددت الحموضة، ما أراه يطلق القول بأن الرهن يزول بانقلاب المالية في
عين الرهن ديناً؛ فإن حقيقة المالية باقية. والقول في هذا محال. هذا
إذا كان بعد القبض.
فأما إذا جرى الإتلاف قبل القبض، ففي انفساخ الرهن ما ذكرناه.
ولو صادف الرهن عيناً ثابتة، فعرض لها بعد القبض عارض يدنيها من
الفساد، فقد
__________
(1) في (ص)، (ت 2): يجري.
(6/171)
تمهد أن الرهن لا ينفسخ، وقطع الأئمة بأنه
يستحق بيعه ووضع ثمنه رهناً. وكان شيخنا يقول: إذا كان إتلاف المرهون
يتضمن نقلَ حق المرتهن إلى القيمة، فيتبين أن حقه المستحَق غيرُ منحصر
في العين، فعلى هذا يكون [الإشفاء] (1) على الهلاك بمثابة إتلاف
المرهون من ضامن.
فصل
قال: " ولو رهنه أرضاً بلا نخل، فأخرجت نخلاً ... إلى آخره " (2).
3636 - إذا كان الراهن دفن أعداداً من النوى، ورهن الأرض البيضاء قبل
أن تنبت النوى فنبتت، فليس للمرتهن القلعُ؛ فإن الرهن ورد على الأرض
وفيها النوى.
ولكن إن كان عالماً بذلك، فليس له فسخ البيع الذي الرهنُ شرطٌ فيه. وإن
كان جاهلاً، ثم تبين، فله فسخ البيع الذي الرهن شرط فيه، من قِبل
أَنَّه حسب أن الساحة البيضاء [تَسْلَم] (3) لحق وثيقته، فإذا بأن أنها
مشغولة، فذلك نقصٌ، فيترتب عليهِ ثبوت الفسخ في البيع. وسيأتي أصل ذلك
بعد هذا، إن شاء الله تعالى.
3637 - ولو غشَّى السيلُ الأرضَ المرهونة، وكان في جميعها نوى؛ فنبتت،
فلو قال المرتهن: أقلعُه؛ فإنه لم يكن، وإنما حدث بعد لزوم الرهن، لم
يكن له القلع قبل حلول الدين؛ إذ لا ضرر عليه في الحال، ولا حاجة إلى
بيع الساحة. وإذا حل الحق، نُظر: فإن كان في قيمة العرصة لو بيعت مع
النخيل وفاءٌ بالدين (4)، بيعت العرصة، ولم يقلع النخيل، وإن لم يكن
فيها وفاء، ولو قلعت دون النخيل، وفت بالدين، ولم يؤدّ الراهن الدينَ
من جهة أخرى، فيقلع الغراس لحق المرتهن، وإن
__________
(1) في الأصل: الانتفاع.
(2) ر. المختصر: 2/ 214.
(3) في الأصل، (ت 2): " سلم " والمثبت من (ص).
(4) في النسخ الثلاث اضطراب في هذه العبارة، بتقديم وتأخير بعض
الكلمات. صوابها ما أثبتناه.
(6/172)
كان القلع مضرّاً بالراهن؛ من قبل نقصان
الغراس بالقلع، فالسبب فيه أن الراهن التزم الوفاء بحق الوثيقة في
الأرض البيضاء، فلزمه أن يفي بما التزمه.
هذا إذا لم يكن على الراهن دين يوجب اطراد الحجر عليه، فأما إذا ركبته
الديون، واطرد عليه الحجر، والمسألة حيث انتهت، فلا سبيل إلى قلع
الأشجار رعايةً لحق الغرماء.
فإن قيل: حق المرتهن سابق وفي تبقية الغراس تنقيصُ حقه السابق. قلنا:
نعم ولكن [حق] (1) الغرماء صادفَ الأشجار، وتعلق بها، وليس للمرتهن إلا
وثيقة، فلا ينبغي أن يُحبط حقوق الغرماء والمالك بالكلية.
والذي يقتضيه الإنصاف بيعُ الأرض مع الغراس، ثم في كيفية التوزيع على
الأرض والغراس خلافٌ بين الأصحاب، ذكرناه في مسألة بيع الجارية وولدها.
3638 - قال الأئمة: إذا رهن الرجل أرضاً بيضاء، وأقبضها، ثم أراد أن
يغرسها ابتداء، فهل يمنع من ذلك والدين مؤجل؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا
يمنع، كما لا يقلع ما نبت من حميل السيل. والثاني - يمنع؛ فإن هذا
إثبات تنقيصٍ في الحال على سبيل الاختيار. ثم إن لم نمنعه، فالكلام في
القلع عند حلول الدين كما تفصَّل.
وإن كنّا نمنعه من الغراس، فلو غرس، ونبت فهل يقلع عليه قبل حلول
الأجل؟ فيه اختلاف، توجيهه قريب من توجيه الوجهين في أصل المنع. فإن
قلنا: إنه مقلوع، فلا شك أنه يقلع عند المحِل إذا لم يكن على الراهن
حجر. وهل يقلع إذا كانت عليه ديون واطرد الحجر؟ فعلى وجهين. ولا يخفى
الفرق بين هذا وبين ما لو نبتت النخلات من نوى في حميل السيل؛ فإن ذلك
جرى ولا منع يقترن به، بخلاف ما فرعناه في ابتداء الغرس قصداً من
الراهن.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(6/173)
فصل
قال: " ولو رهنه أرضاً، ثم اختلفا، فقال: أحدثت فيها نخلاً ... إلى
آخره " (1).
3639 - إذا صادفنا أرضاً مرهونة، وفيها نخيل، فقالى المرتهن للراهن:
رهنتني الأرضَ والنخيل القائمةَ فيها يوم رهنتني. وقال الراهن: بل
رهنتك الأرض بيضاء، وأحدثتَ هذه النخيل بعد الرهن، ولم تكن موجودة حالة
الرهن. فإن كانت المشاهدة تكذب المرتهن؛ بأن تقدّم تاريخ الرهن وامتد
سنين، والنخيل بعد فَسِيلٌ لا يخفى أنها نبات سنة، فالمرتهن مكذَّب،
ولا حاجة إلى اليمين.
وإن كانت المشاهدة تكذِّب الراهن بأن كان النخيل باسقة، وتاريخ الرهن
قريب، فالمشاهدة كذبت الراهنَ في دعواه عدمَ النخيل عند الرهن. ولكن لا
تنفصل معه الخصومة بهذا؛ إذْ لم يثبت إلا وجود النخيل حالة الرهن، ولا
يمتنع أن تكون موجودة، ولا تكون مرهونة، فتتوجه الدعوى عليه بالرهن،
فإن أصر على قوله الأوَّل، لم يقبل منه، والمشاهدة تكذبه، ويجعل
منكراً، وتعرض عليه اليمين، فإن تمادى في محاله (2) الأولى، جُعل
ناكلاً، وفصلت الخصومة بطريقها. وإن اعترف بالوجود آخراً، وأراد أن
ينكر الرهن، قُبل منه الإنكار، وكَذْبتُه الأولى لا تسدّ عليه إنكارَ
الدعوى، ثم تُدَارُ الخصومة على نظمها.
وإن كانت النخيل بحيث يحتمل أنها كانت يوم الرهن، ويحتمل أنها حدثت
بعده بأيام، فالقول قول الراهن في نفي الرهن.
ولو اقتصر على نفي وجود النخيل وكان انتفاؤها ممكناً، فالأظهر أنه
يُكتفَى منه بإنكار الوجود؛ فإنّ في إنكار الوجود إنكارَ الرهن
المدّعىَ. والمسألة مفروضة فيه إذا
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 214. وفي المختصر: " ولو رهنه أرضاً ونخلاً ... ".
(2) أي إصراره على المحال الذي ادعاه وكذبته المشاهدة.
(6/174)
قال المرتهن: كانت موجودة، فرهنتَها مع
الأرض. ولهذا نظائر فيها ترددٌ للأصحاب. ستأتي في كتاب الدعاوى.
ولو قال المرتهن: رهنتني هذه الأشجار، ولم يتعرض لوقت رهنها، ولم يذكر
اقترانَها ولا تأخرها، فلا ينفع، والدعوى على هذه الصيغة تعرض الراهن
لتقدم وجود النخيل وتأخرها؛ فإنه لا يمتنع رهنها، وإن تأخرت. والمرتهن
إنما يدعي الرهن المطلق، وهذا بيِّن إذا لم يكن الرهن مشروطاً في بيع.
فأما إذا كان الرهن مشروطاًً في بيع وصيغة الدعوى كما تقدمت، قال
المرتهن: رهنتها مع الأرض يوم رهنتني الأرض. وقال الراهن: لم تكن
النخيل موجودة يوم رهن الأرض، وكانت المشاهدة لا تكذبه، وقد ربطا
قوليهما ببيعٍ، فقال المرتهن: شرطتَ رهن الأرض والنخيل. فإذا قال
الراهن: لم تكن النخيل، فقد ذهب المحققون إلى أن هذا الاختلاف ليس مما
يوجب التحالف في البيع؛ فإن حاصله راجع إلى التنازع في وجود النخيل
وعدمها. والتحالف إنما يترتب على تنازع في صفة عقدٍ، يتصور التصادق
عليها.
وهذا حسن دقيق.
والظاهر عندي أنهما يتحالفان؛ فإنَّ المرتهن ادعى شرط رهن ممكن، وأنكر
الراهن الشرط، وعلله بعلة، فالتنازع في صفة العقد قائم، فليجر التحالف.
وإن اتفقا على وجود النخيل، وقال المرتهن: شرطنا في البيع رهنَ الأرض
والنخيل، وقال الراهن: لم نشترط إلا رهنَ الأرض، ولم يتعرضا لنفي وجود
النخيل، بل توافقا عليه، فهذا اختلافٌ في صفة العقد لا محالة،
فيتحالفان ويتفاسخان العقد.
ولو قال المرتهن: لِمَ نتحالف، وأنا معترف بأنك وفَّيت بالرهن المشروط
في النخيل، فاختلافنا في الرهن؟ قيل له: هذا أمر تبنيه أنت (1) فرعاً
على أصل، والراهن منكرٌ لأصل الشرط، فلا بُدّ من التحالف.
__________
(1) ساقطة من (ت 2).
(6/175)
فصل
قال: " ولو شرط للمرتهن إذا حل الحق، أن يبيعه، لم يجز أن يبيع بنفسه،
إلا بأن يحضره ربّ الرهن ... إلى آخره " (1).
3640 - إذا حلّ الحق، فقال الراهن للمرتهن: بع لي واستوفِ ثمنَه لي، ثم
استوفه لنفسك. فإذا باع، نفذ البيع بالإذن، ثم إذا استوفى الثمنَ، وقع
الثمن للراهن، ويكون أمانة بعدُ في يد المرتهن، فإن أراد استيفاءَه
لنفسه، فلا بد من وزنٍ جديد إن كان موزوناً [أو كيل جديد إن كان
مكيلاً] (2) فإن وزنه ثانياً، فهل يصح الاستيفاء على هذا الترتيب؛ فعلى
وجهين، تقدم ذكرهما في كتاب البيع، فإن صححنا الاستيفاء، دخل في ضمانه،
وبرئت ذمة الراهن من الدين. وإن لم نصحح (3) الاستيفاء، فما قبضه على
الفساد مضمون عليه، وإن لم يكن مقبوضاً على الصحة عن جهة حقه، فالدين
باق في ذمة الراهن.
ومن تمام التفريع في ذلك أنا إذا صححنا الاستيفاء، فالذي ذكره الأصحاب
أنه لا بد من إنشاء فعلٍ فيه، وليس كما لو رهن الوديعة عند المودَع،
فإنا في قولٍ ظاهر نكتفي بدوام يده، كما تفصّل ذلك، وهاهنا لا بد من
فعلٍ في الاستيفاء. وتعليله واضح؛ فإن الاستيفاء إنما يصح بناء على إذن
الراهن، ولفظُه في الإذن "ثم استوف منه حقك" وهذا تصريح بإحداث أمر.
3641 - ولو قال: "بعه لي واستوف الثمن لي، ثم أمسكه لنفسك"، فالظاهر
أنه لا بد من فعلٍ في القبض، كما تقدم.
ومن أصحابنا من أقام الإمساك على قول صحة القبض مقام الاستيفاء إذا كان
الاستيفاء مأذوناً فيه.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 214. ولفظ المختصر: "أن يبيع لنفسه" وسيأتي -بعد
قليل- في تأويل كلام الشافعي ما يرجح كونها (باللام)، وانظر (ص 179).
(2) زيادة من (ص)، وانظر في هذه المسألة الروضة: 4/ 88، 89.
(3) في الأصل: وإن لم يصح.
(6/176)
وإذا قلنا: الاستيفاء لا يصح، ثم جعلنا
قبضه على الفساد مُدخلاً للثمن في ضمانه، فلو لم يوجد منه فعل،
والمأذون فيه الاستيفاء، ولكن نوى أن يمسكه لنفسه، فهذا لا يدخله في
ضمانه؛ فإن اليد يد أمانة، والأمانات لا تزول بمجرد النيات. ولو نوى
المودَع تغييب الوديعة، ولم يُحدث أمراً، لم يضمن بمجرد النية.
ولو قال الراهن: بعه لي واستوفِ ثمنه لنفسك، صح البيع، ولم يصح
الاستيفاء؛ فإن الغير يستحيل أن يستوفي حقه قبل ثبوت القبض الصحيح لمن
يقع الاستيفاء من جهته، وقد مهدنا هذا في البيع.
وإن قال الراهن للمرتهن: " بعه لنفسك "، فباع، فظاهر النص وما ذكره
العراقيون، واختاره القاضي أن البيع يفسد؛ لأنه لا يتصور أن يبيع
الإنسان مال الغير لنفسه.
وذكر صاحبُ التقريب قولاً آخر ارتضاه لنفسه: أن البيع صحيح بناء على
قوله: بعه، والفساد في قوله: لنفسك، فليستقل البيع بالإذن فيه.
وهذا وإن كان منقاساً، فالمذهب ما قدمته.
3642 - ولو قال الراهن للمرتهن: "بعه". ولم يقل: بعه لي، ولا لنفسك.
هذا موضع الاختلاف الظاهر بين الأصحاب -ولا عود إلى ما ذكره صاحب
التقريب- فمن أصحابنا من قال: يجوز له أن يبيع كالأجنبي يقول له مالك
العبد: بعه. ومن أصحابنا من قال: لا ينفذ بيع المرتهن. وهؤلاء عللوا
امتناع البيع بعلتين: إحداهما - أن البيع مستحَقّ للمرتهن بعد حلول
الحق، والمسألة مفروضة في هذا، والدليل على أن البيع مستحق للمرتهن أنه
لو أذن المرتهن للراهن في البيع مُطلقاً، والحق حالّ، فالبيع يقع
للمرتهن، حتى لو أراد الراهن صرفَ الثمن إلى جهة أخرى، لم يجد إليه
سبيلاً. فإذا كان البيع مستحقاً للمرتهن، فالإذن المطلق إذا اقترن
باستحقاق البيع في حق المرتهن، نازلٌ منزلة الإذن المقيد بالبيع في حق
المرتهن، فإذا قال: "بعه"، فكأنه قال: بعه لنفسك. هذا إحدى العلتين.
(6/177)
والعلة الأخرى أن المرتهن متهم في ترك
النظر؛ فإنه يبغي الوصولَ إلى حق نفسه، فقد يستعجل ذلك، فلا يبالي بترك
النظر للرّاهنِ، وليس كالوكيل المطلق؛ فإنه لا حقّ له في البيع، فيبيع
لغرض الموكِّل طالباً مصلحته.
ولو قال من عليه الدين لمستحق الدين: "بع هذا الثوب"، ولم يكن مرهوناً،
"وخذ حقك من ثمنه". أمّا البيع، فصحيح؛ فإن بيع ذلك الثوب [ليس] (1)
مستحقاً له، فهو فيه كسائر الغرماء. وبيعه لا يقع إلا بحكم الوكالة.
ثم فَرَّع الأصحاب على العلتين المذكورتين في توجيه أحد الوجهين،
فقالوا: إن كان الدين مؤجّلاً، فقال الراهن للمرتهن: " بعه "، فهذا
يخرّج على المعنيين؛ فإن منعنا البيع عند حلول الحق لكون البيع مستحقاً
على التحقيق الذي مضى، فهذا المعنى مفقود قبل حلول الأجل؛ فإن البيع
غيرُ مستَحق للمرتهن، والدليل عليه أن المرتهن لو قال للراهن قبل حلول
الأجل: " بعه "، نفذ البيع، وبطل حق المرتهن، كما مضى تفصيله. هذا إن
عللنا بالاستحقاق.
وإن عللنا بكون المرتهن متَّهماً؛ من جهة استعجال الحق، فهذا المعنى
قبل الحلول مفقود أيضاًً؛ فإنه إنما يبيعه بإذنٍ مُطلقٍ، (2 والبيع
بماذنٍ مطلق 2) قبل حلول الأجل يفك الرهنَ.
وإن قال قبل حلول الأجل: "بعه واستوفِ حقك"، على التفاصيل المقدّمة،
فتتحقق التهمة، ويخرج وجهان؛ فإن عللنا بالاستحقاق، فلا استحقاق. وإن
عللناه بالتهمة، فهي قائمة.
وإن قدَّر الراهن ثمناً للمرتهن، فقال: " بعه بكذا "، فإذا باع بذلك
المقدار، فقد زالت التهمة.
فإن عللنا فساد البيع بالتهمة، صح. وإن عللنا بالاستحقاق، لم يصح.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ص)، (ت 2).
(6/178)
فإن قيل: ما وجه التعلّق بالتهمة، وثمن
المثل معلوم، فينبغي أن نقول على اعتبار التهمة: إن باع بثمن المثل،
صح. وإن باع بأقل منه، لم ينفذ؟
قلنا: وراء ثمن المثل تهمة؛ فإن الشيء قد يطلب بأكثر من ثمن مثله،
فيبيعه المتهم بثمن المثل. وسر هذا يأتي في كتاب الوكالة، إن شاء الله
تعالى.
هذا بيان الوجهين وتفريعهما.
ثم لفظ الشافعي دليل على أن البيع بالإذن المُطلق باطل من المرتهن عند
حلول الأجل؛ فإنه قال في صدر الفصل: "لو شرط المرتهن إن حل الحقُّ أن
يبيعه، لم يجز أن يبيع بنفسه (1) "، فظاهر النص منعُ البيع عند إطلاق
الإذن.
ومن قال بالوجه الثاني، وهو القياس، أوّل النص، وقال: قوله: " لم يجز
أن يبيعه لنفسه " معناه لم يجز أن يبيعه من نفسه؛ فإنَّ تولِّي طرفي
العقد لا يسوغ من الوكيل.
3643 - ومما يتفرع على ما ذكرناه أن الراهن لو أذن للمرتهن في البيع
مطلقاً عند حلول الحق، فباعه، والراهن حاضر، فمن راعى التهمة، نفذ
العقدَ، ومن راعى الاستحقاق، لم يفصل بين البيع في الحضرة وبين البيع
في المغيب؛ لجريان الاستحقاق في الموضعين. ولفظ الشافعي في صدر الفصل
يدل على صحة البيع بحضرة الراهن؛ فإنه قال: " لم يجز أن يبيع بنفسه إلا
بأن يحضره ربُّ الرهن ".
ومن منع البيع مع حضوره، وسلك مسلك الاستحقاق، أوّل النص، وقال: فيه
إضمار كلامٍ، والتقدير: لم يجز أن يبيعه المرتهن إلا أن يحضره الراهن
فيبيعه (2).
__________
(1) اعتمد الإمام هنا وفي أول الفصل رواية (الباء): " بنفسه "، وبها
جاءت النسخ الثلاث. ثم عند حكاية الوجه القائل بتأويل نص الشافعي -في
الأسطر التالية- اعتمد رواية (اللام): " لنفسه " فهي التي ينساغ
التأويل عليها.
وقد أشرنا في تعليقنا أول الفصل أن المختصر المطبوع بأيدينا اعتمد
رواية (اللام): (لنفسه).
(2) أي فيبيعه الراهن.
(6/179)
وهذا على التحقيق استثناء من غير الجنس كما
يعرفه ذو الحظ من الأصول.
وبنى بعض أصحابنا الوجهين في الصحة والفساد حيث تتطرق التهمة على
وجهين، سيأتي ذكرهما في الوكالة، إن شاء الله تعالى.
وذلك إذا وكل الرجل وكيلاً ببيع ماله، فباعه الوكيل من أبيه أو ابنه،
ففي صحة بيعه وجهان، وسببهما تمكن التهمة من الوكيل في بيعه من أبيه أو
ابنه.
هذا كله في إذن الراهن في البيع، وترديد القول في إطلاقه وتقييده.
3644 - ومن بقية الكلام في الفصل أَنَّ الراهن عند حلول الحق لو أراد
أن يستقلّ ببيع المرهون، وصرف ثمنه إلى المرتهن، لم يكن له ذلك أبداً،
فإن طابقه المرتهن، فذاك، وإلا لا خلاص له إلا بأن يرفع الأمر إلى
القاضي، ثم القاضي يقول للمرتهن: ائذن في بيعه، وخذ حقك، كما مضى، أو
أبرئه عن حقك.
ولو سلطنا الراهن على الاستقلال بالبيع، لبطل أثر التوثق، وحبسُ
المرتهن، ومنعُه من التصرف. ولو أراد المرتهن أن يبيع الرهن بنفسه، فإن
أمكنه مراجعةَ الراهن، واستيفاءَ الحق منه، فليس له أن يستقل بالبيع.
وإن غاب الراهن، أو جحد، ولا بينة، وتعذر استيفاء الحق منه، فقد قطع
الأصحابُ بتنزيل المرهون، والحالة هذه منزلَة شيء يظفر به مستحِق الدين
من مال من عليه الدين. وفيه تفصيلٌ واختلافُ قول سيأتي في كتاب
الدعاوى، إن شاء الله تعالى. فإن قيل: فلا أثر للرهن إذاً، إذا كان لا
يسلطه على البيع قولاً واحداً.
قلنا: أثره يبين في زحمة الديون وضيق المال؛ فإن ذلك إذا وقع قُدِّم
المرتهن بالرهن، وإن لم يكن الرهن، وكان قد ظفر بشيء من ماله، وهو تحت
يده، استرددناه منه، ورددناه في جملة الأمتعة، وتركناهم يتضاربون على
أقدار الديون.
وقد نجز الفصل بما فيه.
(6/180)
فصل
قال: " ولو كان الشرط للعَدْلِ، جاز بيعُه ما لم يفسخا، أو أحدهما
وكالته ... إلى آخره " (1).
3645 - إذا حل الحق، فقال الراهن أحضر الرهنَ، وأنا أؤدي دينك من مالي،
لم يلزم المرتهن أن يُحضره. ولو رفع الأمر إلى مجلس القاضي، والتمس منه
أن يُلزم المرتهن إحضارَ الرّهن، حتى يقعَ قضاءُ الدين واستردادُ الرهن
بمرأىً من القاضي، لم يُلزم القاضي المرتهن ذلك، وقال: حقه في الوثيقة
قائم حتى يؤدَّى دينُه، ثم إن أدّاه فليس على المرتهن إحضارُ الرهن؛
فإن الرهن أمانة وليس على المؤتمن ردُّ الأمانة.
نعم، لا يُمنع صاحبُ الأمانة من أَخذها. ولو أراد الراهنُ بيعَ المرهون
وأداءَ الدين من غير ثمنه، لم يكن له ذلك. كما تقدّم.
ولو قال للقاضي: أريد أن أؤدي حقَّه من ثمن الرهن، فليس للمرتهن أن
يُلزم الراهن تحصيلَ الدين من جهةٍ أخرى، ولا فرق بين أن يكون قادراً
على أداء الدين من جهةٍ أخرى وبين أن يكون عاجزاً، كما قدمناه من منع
البيع فيه، إذا كان يزعم أنه يؤدي الدين من غير ثمن الرهن.
3646 - ومما يليق بتمام البيان في ذلك: أن البيع لو كان لا يتأتى إلا
بإحضار الرهن، فلا يكلّف المرتهنُ إحضارَه؛ إذ قد يكون عليه في ذلك
كُلْفة أو مؤنة، وعلى الراهن إذا أراد قضاء الدين من ثمن الرهن أن
يتكلف إحضارَه، ويبذل مُؤنة إن مست الحاجةُ إلى بذلها، ثم قد لا يثق
المرتهن بيده، فلا يسلمه إليه، ولا تنفصل الخصومة إلا بالقاضي، فإنه
يبعث من يعتمده، حتى يكون هو المُحضِر. وإن مست الحاجةُ إلى مؤنةٍ،
بذلها الراهن.
3647 - ثم نظم الشافعي فصولاً في تعديل الرهن على يد عدلٍ، ومزج بها
جملاً من أحكام الوكالات، وقضايا الأمانات. ولو أُخرت إلى مواضعها،
لتعطلت فصولُ
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 214.
(6/181)
الكتاب؛ فلا وجه إلا ذكرها بما يتعلق بها
على الاستقصاء.
فإذا وقع التراضي على تعديل الرهن على يد عدلٍ، جاز ذلك، وكانت يدُ
العدل نائبةً عن يد المرتهن، ولا شركة في اليد للراهن؛ فإن حق القبض
للمرتهن.
ولكن لو أراد المرتهن أن يستردَّ الرهن من العدلِ؛ صائراً إلى أن الحق
في القبض لي، لم يكن له ذلك؛ من جهة أن الراهن قد لا يثق بالمرتهن؛
وإنما يقع التعديل لهذه الحالة؛ فالراهن وإن لم يكن له حق في القبض،
فله حق رعاية ملكه، وقد رأى التعديل وجهاًً في الرعاية.
ثم إن أذن الراهنُ للعدل في بيع الرهن عند محِل الحق، وصرفِه إلى
المرتهن، لم ينفذ بيعُه دون إذن المرتهن؛ فإن بيع الراهن لا ينفذ إلا
على التفصيل المقدّم. فكيف ينفذ بيع وكيله؟
ولو وكل الراهنُ العدلَ بالبيع ورضي بالبيع المرتهنُ، فينفذ بيعُه إذا
داما على الرضا.
ولو عزله الراهن، ارتفعت الوكالة بالبيع، فإن أراد الراهن أن يبيع
العدلُ، جدد توكيلاً.
وإن لم يعزله الراهن، ولكن قال المرتهن: "لا تبعه"، بعد أن رضي، لم
يبع؛ فإن إذنه معتبر في البيع، وإذا اعتبر إذنه ابتداءً، اعتبر
استمراره عليه. وإذا رجع، بطل إذنه.
ثم هل يقال: تبطل الوكالة أم لا؟ قال المحققون: الوكالة قائمة؛ فإن
العدل في البيع وكيلُ الراهن، وليس وكيلُ الراهن وكيلَ المرتهن.
نعم. إذا رجع المرتهن عن الإذن، انخرم شرطٌ في نفوذ تصرف الوكيل، فإذا
أعاد الإذنَ، فالوكالة الآن على شرطها، والتصرف نافذ.
وذهب بعض الضعفة إلى أن رجوع المرتهن عن الإذن، يوجب رفع الوكالة، فعلى
هذا إذا عاد فأذن، فلا بد من توكيلٍ جديدٍ من الراهنِ. وهذا ضعيف غيرُ
معتد به.
(6/182)
3648 - ومما يتعلق بهذا الفصل أن الراهن
والمرتهن لو أذنا للعدل في بيع الرهن عند محلِ الحق، واستمرّا على
الإذن، فهل يستبد العدل بالبيع، دون مراجعة الراهن والمرتهن؟ أم كيف
السبيل فيه؟ ذكر العراقيون وجهين في تعيُّن مراجعة الراهن: أصحهما - أن
المراجعة لا تجب. ووجهه بيّن. والثاني - أنها واجبةٌ؛ فقد يبدو له أن
يستبقي الرهنَ، ويؤدي الدين من سائر ماله.
وهذا يعتضد بأمرٍ يتعلق بالتصرف، وهو أن الاستنابات قِبَل الحاجات تجري
في العادات، ثم إذا حقت الحاجة، فالعادة مطردةٌ بالمراجعة، فحُمل
المطلقُ على هذا.
وهذا ضعيف، والأصل الاستمرار على الإذن. فإن أراد الراهن رفعه، عزله.
ولا خلاف أن المرتهن لا يراجع؛ فإن غرضه توفيةُ الحق، وليس له في الرهن
حق ملكٍ، أما الراهن، فقد يستبقي الملكَ، ويؤدي من موضعٍ آخر. وهذا ليس
خالياً عن الاحتمال، إن صح ذلك الوجه البعيد.
فصل
قال: " ولو باع بما يتغابن الناسُ بمثله، فلم يفارقه حتى جاء من يزيده،
قَبِلَ الزيادة ... إلى آخره " (1).
3649 - هذا من فصول الوكالة، فنفرضه في العَدْل (2 وهو مُطّردٌ في كل
وكيل.
فإذا وكّل الراهنُ العدل 2) ببيع الرهن، ورضي المرتهن، والتوكيل مطلق،
فالعدل مأخوذ في إطلاق التوكيل برعاية ثلاث خِلال: أحدها - ألا يبيع
بغبن. وسيأتي تفصيل الغبن. والخصلةُ الأخرى - ألا يبيع إلا بنقد.
والثالثة - ألا يبيع نسيئة.
فإن باع بثمن المثل، وكان مع المشتري في مجلس العقد، فأشرف عليهما من
يزيد في الثمن. فنقول: أولاً إذا كانت السلعة تطلب بأكثر من ثمن مثلها،
فليس للوكيل أن
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 214.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ص)، (ت 2).
(6/183)
يبيعها ب ثمن المثل؛ وهذه غبينة (1) بين
أرباب المعاملات.
3650 - فإذا تمهد هذا، قلنا: إذا جاء من يزيده، فظاهر النص يشير إلى
أنه يبيع تلك السلعة ممن يزيد في الثمن. فإذا قَبِلَ (2) الزائدَ،
ترتَّب عليه تحصيلُ الزيادة، وانفساخُ البيع الأول. وهذا قد استقصيناه
في أول كتاب البيع. ولا بد من تجديد العهد به. فنقول:
من باع سلعة، ثم باعها في زمان الخيار، أو مكان الخيار، ففي هذا البيع
أوجه: أحدها - أنه ينفذ. ثم من ضرورة نفوذه انفساخ العقد الأول.
والثاني - أنه لا ينفذ، ولا ينفسخ به العقد الأول. والثالث - لا ينفذ،
وينفسخ به العقد الأول. وقد ذكرنا الأوجه وفرعناها.
فإن وقع التفريع على نفوذ البيع الثاني، وانفساخ الأول، فالوجه أن
يبيع؛ فإنه إن قبل من زاد، حصل الغرض، وإن أبى، فالبيع الأول قائم كما
كان.
3651 - وحق هذه المسألة أن تُرتَّب على الوجه الذي نصفه. فيقال: إن
قلنا: البيع في زمان الخيار فاسد، ولا بد من جلب الزيادة الظاهرة من
هذا الذي زاد، فالذي يقتضيه مساق الكلام أن فسخ العقد الأول مستحق.
وإذا كان كذلك، فلا خِيَرة في إبقاء ذلك، ولا سبيل إلى أن نقول: يلزم
الوكيلَ الفسخُ، فيتيعن من مجموع ما ذكرناه أن ذلك العقد ينفسخ، وهذا
معنى استحقاق الفسخ، ثم سبب الفسخ تحصيل الزيادة.
فلو حكمنا بالفسخ لمّا ظهرت الزيادة، وأردنا البيع ممن زاد، فإن وافق،
وابتاع بما كان يذكر، فذاك. وإن امتنع، ولم يُتم ما وعد، فقد اختلف
أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: انقطع العقد [الأول] (3)، فليبتدىء
الوكيلُ بيعاً إن فوض إليه. وهذا أوجه. وقياسه بيّن.
__________
(1) في الأصل: نقطة على النون فقط، (ت 2) بهذا الرسم بدون أي نقط، و
(ص): بهذا الرسم مع نقطة على الغين، ونقطتين أسفل ما بعدها. وترك
الباقي بدون نقط.
(2) في (ص)، (ت 2): قيل: الزائد يترتب ... إلخ.
(3) ساقطة من الأصل.
(6/184)
ومن أصحابنا من قال: إذا أبى هذا الذي زاد،
تبين أن الفسخ الذي حكمنا به غيرُ نافذ، فكأنه كان فسخاً موقوفاً على
هذا الوجه، وكان سببه الطمع في تحصيل الزيادة، فإذا أيسنا من تحصيلها
من هذه الجهة، فالعقد قائم كما كان. وضُرب لذلك مثل (1)، وهو أن الابن
إذا بذل الطاعة لأبيه في الحج، فلم يرشحه الأب لذلك، ثم رجع الابن قبل
حج الحجيج في تلك السنة، فنتبين أن ما حسبناه استطاعةً، لم يكن
استطاعة، ولا يستقر الحج في ذمته.
هذا إذا حكمنا بأن الفسخ مستحَق، وبيّنا وجه الاستحقاق فيه، ثم أنهينا
التفريع منتهاه في هذا الطريق.
قال الشيخ أبو محمد: إذا كان فوض البيعَ عوداً على بدء إلى هذا الوكيل،
فلما بدت الزيادة، أراد أن يحصِّلها بأن يبيع من الزائد، وفرعنا على
صحة البيع، ونفوذ الفسخ به، فعلى هذه الطريقة لا نحكم بأنفساخ العقد،
إذا كان الوكيل سلك المسلك المستصوب. فإن امتنع منه حينئذٍ، حكمنا
بالانفساخ، وعاد التفريع إلى ما ذكرناه.
3652 - فامَّا إذا قلنا: لا يصح هذا الطريق، ولا بد من تقدير ارتفاع
العقد الأوَّل، فلا سبيل إلى الحكم بوجوب إنشاء الفسخ كما مضى، فرجع
الكلام إلى أن البيع في مكان الخيار إن صححناه، وضمّنَّاه الفسخَ، فهو
وجهٌ إن أنشأه الوكيل. وإن امتنع منه، أو قلنا: لا يصح البيع، تعين
الحكم بالانفساخ، ثم هو نافذٌ، أو موقوف على ما ذكرناه.
وممّا لا بد من ذكره أن الوكيل بالبيع لو باع، ثم فسخ العقد، فهل له أن
يبيع مرة أخرى؟ فيه تفصيل يأتي في كتاب الوكالة.
والقدر الذي نذكره هاهنا أن الأصحاب اختلفوا في ذلك، فمنهم من قال: ليس
له أن يبيع إلا بتوكيل جديد؛ فإنه لم يوكل إلا ببيع واحد. ومنهم من
قال: له البيع من
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث. فبنينا الفعل (ضرب) للمجهول.
(6/185)
غير توكيل جديد؛ فإنه وُكِّل ببيع يتم
ويؤدي إلى الغرض، فإذا لم يتم، وفُسخ، فهو مأمور ببيعٍ يتم على موجَب
التوكيل الأول.
وسنكشف هذا في كتاب الوكالة، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " وإذا بيع فثمنه من الراهن حتى يقبضه المرتهن ... إلى آخره "
(1).
قوله: " من الراهن "، أي من ضمان الراهن.
3653 - مقصود هذا الفصل ذكر طرفٍ من العُهدة على الوكيل، وبيانُ قرار
الضّمان، وذكرُ سببه، فنقول: للعهدة ثلاثةُ أركان في قاعدة المذهب:
أحدها - في توجيه الطلب. فنقول: من اشترى بالنيابة شيئاًً لموكِّله،
فهل للبائع توجيه المطالبة بالثمن على الوكيل؟ نُظر: فإن عقد العقد
بلفظ السفارة، ولم يضف الشراء إلى نفسه فقال: " اشتريت لفلان "، ولم
يقل: " اشتريت " مطلقاًً، فلا مطالبة على السفير.
والنكاح لما كان لا يعقد إلا بالسفارة، لم تتوجه الطلِبة على السفير
القابل للزوج.
فإن أضاف الوكيل الشراءَ إلى نفسه، فقال: اشتريتُ، فإن لم يعلم البائع
كونَه وكيلاً، فلا شك أنه يطالبه. وإن علم أنه وكيل واعترف به، فله
مطالبة الموكِّل، لم يختلف فيه أصحابنا. وإنما اختلفوا في مطالبة سيد
العبد المأذون؛ لِما ذكرناه في مسائله. وهل يطالب الوكيل؟ اختلف
أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: لا مطالبةَ؛ فإنه سفير في الحقيقة،
ولم يصرح بالسفارة، فأشبه ما لو صرح بها. والوجه الثاني - أنه يطالبه
بالثمن، وإن علم كونَه وكيلاً؛ فإن قوله: اشتريتُ التزام، فإذا كنا
نُلزم من يقول: ضمنتُ الدينَ، فلا بُعْدَ لو ألزمنا من يقول: اشتريت أو
قبلتُ.
هذا ركنٌ من أركان العُهدة.
ثم إذا غرم الوكيل، فلا شك أنه يرجع على الموكِّل، ولا تفصيل في ذلك.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 214.
(6/186)
بخلاف ما لو قال من عليه الدين لرجل: "
اضمن عني الدينَ ". فإذا ضمنه، وغرِمه، ففي رجوعه على المضمون عنه
خلافٌ إذا لم يقيد المضمونُ عنه الإذنَ في الضمان بشرط الرجوع، وهاهنا
لا حاجة إلى ذلك، بل نفس عهدة العقد تقتضي الرجوع بعد الغرم إن اتفق
ذلك.
3654 - الركن الثاني من العهدة - تصوير خروج المبيع مستحقاً بعد قبض
الثمن. فإذا باع الوكيل وسلَّم المبيعَ وتسلم الثمن، ثم خرج المبيعُ
مستحقاً، فإن كان عينُ الثمن باقياً، استردَّها المشتري، وردَّ المبيع
على مستحقه.
ولو تلف ذلك الثمنُ، لم يخل إما أن يتلف في يد الوكيل، وإمّا أن يتلف
في يد الموكِّل.
فإن تلف في يد الوكيل من غير تفريطه، فللمشتري الرجوع عليه، ووجهه
بيّن، فإنَّ دراهمه تلفت في يده، ولم يكن مؤتمناً من جهته، ثم يثبت له
الرجوع إلى الموكِّل، فإنه هو الذي ورَّطه فيما انتهى إليه الأمر، لمّا
أمره بالبيع وأقامه وكيل نفسه، فيضمن هذا حق الرجوع عليه، وهذا متفق
عليه في عُلقة العهدة، ولا محمل له إلا تعريضه إياه لما جرى، فهو من
التغرير الذي يجرّ ضماناً لا محالة. وهو بمثابة ما لو أودع الغاصب
العينَ المغصوبة عند إنسانٍ، والحال مشكل على المودَع، فالطّلِبة
تتوجّه عليه، لثبوت اليد في الظّاهر. ثم إنه يرجع على الغاصب المودع؛
[من جهة أنه غره لمَّا أَوْدع عنده، وإن كان التلف حصل في يد المودَع،
فالقرار على الغاصب المودِع] (1).
هذا الذي اتفق الأصحاب عليه في الوكيل، الذي نصبه الموكل في البيع
والقبض، ثم ثبت الاستحقاق، وقد تلف الثمنُ المقبوض في يد الوكيل، من
غير تفريطه.
وقد ذكرنا أن للمشتري مطالبةَ الوكيل بقبضه ماله، ثم له الرجوع على
موكِّله لتغريره
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(6/187)
إياه، وينتظم منه أن قرار الضمان على
الموكِّل؛ فإن أراد المشتري بذلك أن يطالب الموكِّل بالثمن، وما ثبتت
يده عليهِ، فلست أرى له ذلك؛ من جهة أن يده ما وصلت إلى عين مالِ
المشتري، وإن كان قرار الضمان عليه؛ من جهة الوكيل إذا غرِم، فلم يوجد
منه في حق المشتري إلا أنه أمر وكيله بالمعاملة، ومن أمر غيره بغصب
مالٍ، لم يصر بأمره غاصباً، فأقصى ما يتخيل في ذلك أنه غرّ وكيلَه،
فغرّ وكيلُه المشتري، وهذا لا يوجب انتظام سبب المطالبة بين المشتري
وبين الموكِّل، وهذا ما أراه.
وكذلك يجب أن يقال: إذا عُقد النكاح على حكم الغُرور، وألزمنا المغرور
قيمةَ الولد لسيد الأمة، ثم أثبتنا للمغرور الرجوع على الغار، فقد
جعلنا الغارَّ محلاً لقرار الضمان. وليس يتجه أن يقال: لسيد الأمة
تغريمُ الغارّ ابتداءً، وإن كان الضمان يتوصّل إليه بطريق رجوع المغرور
عليه.
وليس هذا كالغاصب إذا أودع؛ فإن للمغصوب منه مطالبة من شاء منهما؛
والسبب فيه أن يد كل واحد منهما اتصل بملك المغصوب منه، فكان مطالَباً
لذلك، هذا ما أقدره.
ولستُ أنفي احتمالاً يراه ناظر في تثبيت مطالبة الموكِّل في مسألتنا،
والغار في بابِ الغرور، من جهة أن استناد حرية الولد إلى التغرير، لا
إلى الإيلاد والإعلاق. وكذلك القول في الوكيل والموكِّل.
فهذا بيان ما أردناه، والميل إلى الأول.
وقد صرح العراقيون بأن المبيع إذا خرج مستحقاً، وقد تلف الثمن في يد
الوكيل، من غير تقصيرٍ منه، فلا يرجع المشتري على الوكيل أصلاً، وإنما
يرجع على الموكِّل.
وهذا تصريح منهم بأن المشتري يطالِب المغرِّر. وألفاظ المراوزة تدل على
أنه لا تتوجه المطالبة على الموكّل، وإنما يطالب الوكيل، ثم إذا غرِم
الوكيل، رجع على الموكّل. ونفيُهم مطالبةَ الوكيل بعيدٌ عن قياس
المراوزة.
والذي تحصل من ذلك أن الضمان متعلق بالموكِّل استقراراً. والذي يظهر
القطع به أن الوكيل مطالَبٌ. وفيه وجه ضعيف حكيتُه عن العراقيين، وفي
توجيه
(6/188)
المطالبة على الموكِّل ابتداء (1 ترددٌ.
والذي ظهر من كلام المراوزة أنه لا يطالب ابتداءً 1) والذي صرح به
العراقيون: أنه يطالبه المشتري ابتداءً.
3655 - وكل هذا إذا تلف الثمن في يد الوكيل، ولم ينته إلى يد الموكل.
فأمّا إذا انتهى إلى يد الموكِّل، فتلف في يده، فلا شك أن المشتري
يوجّه المطالبةَ على الموكِّل؛ فإن يده ثبتت على ماله، وإنما التردد
المتقدم فيه إذا تلف الثمن في يد الوكيل، فإذا ثبت أن الموكِّل مطالَب
من جهة المشتري ابتداءً، فهل له مطالبة الوكيل؟ نُظر فيه: فإن لم يمرّ
الثمنُ بيد الوكيل، فلست أرى لمطالبة الوكيل وجهاًً إذا لم تثبت له
يدٌ، والعقد لم يصح، حتى يتضمن عهدةً متعلقة بمن تولى العقد؛ إذ المبيع
خرج مستحقاً. وإن مرَّ الثمن بيده، وانتهى إلى يد الموكِّل، ففي مطالبة
الوكيل في هذه الصورة جوابان ظاهران في طريقة المراوزة؛ (2 من جهة أن
الوكيل متوسط، وقد بلغ المال منتهاه، وتلف في يد الموكِّل، والوكيل
مؤتمنٌ 2)، من جهة موكِّله، والمشتري وإن لم يوكِّله، فإنه يسلم الثمنَ
إليه، ليسلّمه إلى موكِّله، فكأنه من هذا الوجه مؤتمن -من جهة المشتري-
مأذون (3) له في إيصال الثمن إلى موكله.
وقيل تتعلق الطَّلِبة به؛ لأن أخذ المال كان على حكم العُهدة.
وكل ما ذكرناه فيه إذا باع العدل بتوكيل الراهن، وأذن المرتهن، ثم جرى
ما وصفناه.
3656 - فأمّا إذا تولى الحاكم بنفسه بيعَ الرهن عند اتصال الخصومة
بمجلسه، وقبض الثمن ليوصله إلى جهته، فتلف في يده، ثم خرج المبيع
مستحقاً، فقد أجمع أصحابنا على أن الحاكم لا يتعلق به طَلِبةٌ، ولا
ضمان، ولا يقال: يطالَب به، ثم يرجع؛ فإن الحكام لو تعلقت بهم العهدة
في العقود التي يُنشِئونها لظاهر الاستصلاح،
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2)، (ص).
(2) وهذا أيضاً ساقط من (ت 2)، (ص).
(3) عبارة (ت 2): "من جهة كون المشتري مأذون له ... " وفي (ص): "من جهة
أن المشتري
مأذون له ... ".
(6/189)
لعظم الأمرُ وكثرت المشقة، فاتفق الأصحاب
على إخراج الولاة في أمثال هذه العقود عن العهد، والطّلِبةِ،
والتغريمِ، ابتداء وقراراً.
وإذا كان كذلك، فلا بد من إثبات الرجوع؛ فإن حق المشتري لا يضيع،
والرجوع ابتداءً على الراهن لا خلاف فيه.
فإن قيل: ليس الراهن موكّلاً في عقدٍ يُتخيّل مرجوعاً عليه، وإنما
الحاكم فعل ما فعل؛ فكان يجب أن يقال: لم يصدر من الراهن عقدٌ ولا
توكيل في عقد، والحاكم لا يضمن، فلا يجد المشتري مرجعاً.
قلنا: هذا لا قائل به. وسبب تضمين الراهن أنه رهن ملكَ غيره، وكل من
رهن شيئاًً، فقد عرَّضه للبيع على استحقاقٍ. وهذا أبلغ من وكالة تقبل
العزل على الاختيار. فالحاكم بنى بيعه على حكم رهنِه، فقد صار بالرهن
إذاً مغرِّراً، كما تقدم.
وهذا يعضد توجيهَ المطالبة على الموكِّل ابتداء في المسألة الأولى؛
[فإنا لما رفعنا الحاكم من البَيْن (1)، ووجهنا المطالبة على الراهن،
فهو (2) في هذه المسألة بمنزلة الموكِّل في المسألة الأولى] (3) ونص
الشافعي فيمن مات وخلف تركة مستغرقة بالدين، فباع الحاكم تركته، وتلف
الثمن في يده قبل أن يصرفه إلى الديون المحيطة بالتركة، ثم خرج المبيع
مستحقاً، قال الشافعي: لا عهدة على الحاكم ولا طَلِبةَ، والعهدة على
الميت، وتركتِه.
فإن قيل: إن كان الراهن في المسألة التي ذكرتموها الآن مغرراً، برهنه،
من حيث كان مقتضى الرهن التعريضَ للبيع. فما سبب تعليق الضمان بذمة
الميت في المسألة الأخيرةِ؟
قلنا: احتواؤه على المغصوب حتى يتعلق به الدين إذا مات تسبُّبٌ منه إلى
تسليط الحاكم على البيع، والسبب المضمِّن قد يقرُب، وقد يبعد.
__________
(1) البين: من الألفاظ التي استعملها الإمام في (البرهان)، وكررها في
(النهاية) وهي مفهومة من السياق. وإن لم أصل لمعنى لها في (مادتها)
المعجمية.
(2) في النسختين: وهو. (وهي ضمن الفقرة الساقطة من الأصل).
(3) سقط ما بين المعقفين من الأصل.
(6/190)
3657 - فهذا إذا تولى الحاكم البيعَ، وأمّا
إذا نصب أميناً، فباع الأمين الرهنَ، أو عيناً من التركة بإذن الحاكم،
وتلف الثمن في يد الأمين، ثم تبين الاستحقاق؛ فلأصحابنا وجهان مشهوران:
أحدهما - أنه لا تتعلق الطَّلِبة بالأمين؛ من جهة أنه منصوب من مجلس
الحاكم، فكان كالحاكم. وهذا ظاهر نص الشافعي.
ومن أصحابنا من علق الطَّلِبةَ بالعَدْلِ، وإن كان منصوباً من جهة
الحاكم. وهذا بعيد عن النص والقياس -وإن كان مشهوراً- فليس ينقدح
الفرقُ بين الحاكم وبين منصوبه؛ فإن الحكام لا يتعاطون جملة العقود
بأنفسهم، وما يفوضونه إلى الأمناء أكثر مما يتعاطَوْنه. ولو تعرض
الأمناء من جهتهم لغرر العُهدة، لامتنعوا عن مباشرة الأمور، ويضيق بهذا
السبب الأمرُ على القضاة. فإذا حططنا الطَّلِبةَ عن الحاكم؛ صيانةً
لمنصبه، وجب طردُ ذلك في أمينه.
وقد قال أئمتنا: إذا ادّعى رجل محكوم عليه أن القاضي ظلمني، وتحيَّف
عليَّ في حكمه، فلا تقبل دعواه على الحاكم نفسِه، فإنا لو فتحنا هذا
البابَ، لانطلقت ألسنُ الخصوم على الولاة.
وفي هذا ترتيبٌ وتفصيل، سنذكره في أدب القضاة، إن شاء الله تعالى.
3658 - فحصل من مجموع ما ذكرناه مراتب: إحداها - الوكيل الذي ينصبه
الحاكم. وقد مضى القول في مطالبته ورجوعه، ومطالبة موكِّله.
والمرتبة الثانية - في تصرف الحكام بأنفسهم.
والثالثة - في تصرف الأمناء المنصوبين من جهة الحكام.
وقد نجز هذا الركن من أركان العهدة.
وليعلم الناظر أن ذلك ليس من عهدة العقد؛ إذ لا عقدَ مع الاستحقاق،
ولكن القول في هذا دائر على التغرير والتسبب إليه، مع ثبوت الأيدي
للمتوسّطين.
3659 - والركن الثالث - من العهدة يتعلق بالرد بالعيب. وليس هذا موضعه.
وسنأتي به مبسوطاً في كتاب الوكالة، إن شاء الله عزّ وجل.
(6/191)
ثم قال الشافعي: إذا بيع الرهن، وخرج
مستحقاً، لم تتعلق عهدة الثمن بالمرتهن أصلاً؛ إذ لم تثبت يده عليه،
فإن الرهن، وإن بيع في حقه، فلم يأت من جهته تغرير، ولم تثبت يده على
مال المشتري، وعينُ الرهن قد قبضها مستحقها. وقال أبو حنيفة: يتعلق
العهد بالمرتهن. وقد رمز الشافعي إلى الرد عليه فقال: " وليس الذي بيع
له الرهن من العهدة بسبيل " (1).
فصل
قال: " ولو باع العدلُ (2)، وقبض الثمن، فقال: ضاع مني، فهو مصدق ...
إلى آخره " (3).
6360 - العدْل إذا وكله الراهنُ بالبيع، ورضي المرتهن، فباع وقبض
الثمن، ثم قال: ضاع الثمن في يدي من. غير تقصير، فهو أمين مصدَّق، وإن
اتّهم حُلِّف. وهذا لا شك فيه.
فلو ادعى العدل أنه دفع الثمن إلى المرتهن، فإن صدقه المرتهن، فذاك،
وإن كذبه نُظر: فإن كذبه الراهن أيضاًً، توجه الضّمان على العدل. أمّا
المرتهن، فلا شك أنه لا يقبل قول العدل عليه والقول قوله إني لم أقبض
حقي، وقول العدل غير مقبول على الراهن في هذا المقام؛ من جهة أنه وإن
كان أميناً في حقه، فقد ادعى تسليم المال إلى من لم يأتمنه، وقصر إذا
لم يُشهد مع إمكان الجحود.
ولو قال الراهن: صدقتَ فيما ادعيتَ، وأنا أعلم أنك سلمت إلى المرتهن ما
قبضت، فهل يضمن العدل والحالة هذه؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - لا
يضمن لتصديق الراهن إياه. والثاني - يضمن لتقصيره في ترك الإشهاد.
ولهذا نظائر ستأتي، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) نص عبارة الشافعي في المختصر: 2/ 214.
(2) في النسخ الثلاث: (العبد). والتصويب من المختصر.
(3) الموضع السابق.
(6/192)
ولو صدقه الراهن في التسليم، واعترف بأنه
كان أشهد، ولكن مات شهوده؛ فلا ضمان.
ولو ادعى العدل أني كنتُ أشهدتُ ولكن مات شهودي، أو غابوا، وأنكر
الراهن إشهاده، واعترف بتسليمه إلى المرتهن، فإن قلنا: اعترافه بتسليم
الثمن إلى المرتهن كافٍ لتبرئة العدل، فلا إشكال. وإن قلنا: يضمن العدل
وإن صدقه الراهنُ لتقصيره، فهل يضمن إذا ادعى الإشهاد وأنكره الراهن؟
فعلى وجهين: ذكرهما صاحب التقريب. ومُدرَك توجيههما لائح.
ولا خلاف أن الراهن لو شرط على العدل أن يُشهد على تسليمه، واعترف
العدل بأنه لم يشهد، واعترف الراهن بأنه سلم إلى المرتهن، فالضمان يجبُ
في هذه الصورة وجهاً واحداً؛ من جهة أنه خالف شرطَ موكله. وإن لم يكن
شرط، فالمسألة على التردد في أن الاحتياط هل يُلزم العدلَ الإشهادَ.
هذا مأخذ الكلام.
فصل
قال: " ولو قال أحدهما: بع بدنانير ... إلى آخره " (1).
3661 - إذا حل الحق، فقال الراهن للعدل: بع الرهن بالدنانير، وقال
الآخر: بعْ بالدراهم، فلا يبيع بواحد منهما، فإن بيع العدل ينفذ إذا
صدر عن توكيل الراهن، أو رضا المرتهن، فإذا تخالفا، لم يمتثل قول واحد
منهما، بل يرفع القضية إلى مجلس الحكم، ثم الحاكم يبيع، أو يأذن لمن
يبيع بنقد البلد، إن رأى المصلحة فيه.
وهذا بيّن لا خفاء به.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 214.
(6/193)
فصل
قال: " وإن تغيرت حال العدل ... إلى آخره " (1)
3662 - إذا توافق الراهن والمرتهن على تعديل الرهن على يد عدلٍ، فإن
أرادا رفعَ الرهن من يده وردَّه إلى آخر، جاز ذلك، فالحق (2) لا
يعدوهما. وإن أراد الراهن أن يتحكم بإزالة يد العدل، ويرد الرهن إلى
يدِ آخر، لم يكن له ذلك؛ فإن حق القبض للمرتهن، فلا يجوز التصرف في
اليد دون إذن المرتهن.
ولو أراد المرتهن أن يرفع الرهن من يد ذلك العدلِ دون إذن الراهن، لم
يكن له ذلك، لا شك (3) فيه.
والعدل في نفسه لا يرد الرهن على الراهن دون المرتهن، ولا يرد على
المرتهن دون الراهن، فإن فعل، صار ضامناً، فإن دفعه إلى المرتهن دون
إذن الراهن، ففات في يده، ضمن القيمة للراهن. وإن دفعه إلى الراهن دون
المرتهن، (4 ضمن للمرتهن 4) إذا فات الرهنُ في يد الراهن. ثم ينظر: فإن
كان الحق حالاًّ، فيضمن للمرتهن أقلَّ الأمرين من دَيْنه أو قيمةِ
الرهن. وإن كان مؤجلاً، فعليه كمالُ القيمة، ليكون رهناً عند المرتهن.
وهذا يلتفت على أصل، وهو أن من يستحق ديناً مؤجلاً قد لا يجبره من عليه
الدين على قبول حقه قبل محِلِّه، وقد مضى تفصيل ذلك في مواضع.
3663 - فالغرض إذا ينكشف بذكر صورتين: إحداهما - أن يساعد الراهنُ
العدلَ، فيخرَّج الأمر على ترتيب تعجيل الدين المؤجل، وتوفير المعجّل
(5). ومساعدة الراهن
__________
(1) السابق نفسه.
(2) في النسخ الثلاث: والحق.
(3) في (ص)، (ت): بلا شك.
(4) ما بين القوسين سقط من (ص)، (ت 2).
(5) في (ص)، (ت 2): المؤجل.
(6/194)
بأن يأذن للعدل في أداء الدين، أو يؤدي
الدينَ بنفسه. ويكفينا الآن التصوير في إذنه للعدل بأن يؤدي الدين.
فينتظم الفرق بين الحالّ والمؤجل.
فإن كان الدين حالاً، لم يلزمه إلا أقلُّ الأمرين، كما ذكرناه، تفريعاً
على أن من أدى دينه المعجل، لم يكن له أن يمتنع عن قبوله. وإن فرض في
الدين المؤجل، ففي الإجبار على القبول التفصيل المذكور. فإن قلنا: لا
يجبر من له دين مؤجل على قبوله، تعيّن على العدل أن يضع قيمةَ الرهن
رهناً إلى حلول الدين. وإن قلنا: يجبر على قبول الدين، فالكلامُ في
الدين المؤجل كالكلام في الدين الحالّ. وهذا كله إذا أذن الراهن له في
أداء الدين.
فأما إذا لم يصادِف الراهنَ حتى يستأذن منه، أو لم يأذن له الراهنُ في
أداء الدين، فلا يجب على المرتهن أن يقبل الدين منه، مؤجلاً كان أو
حالاً. بل يقول: لستَ مأذوناً من جهة من عليه الدين، ولا أقبل تبرعك
بأداء الدين. وإذا كان كذلك نُظر: فإن كان الراهن حاضراً، قاله له
العدل: رددتُ عليك الرهن، وأنت المالك، فخلِّصني [بالإذن] (1) في أداء
الدين، أو بأداء الدين.
وإنما [تحسن] (2) هذه المسألة إذا كان الدين أقلَّ من قيمة الرهن،
وقَبْل أن تتفق مفاوضة الراهن بما ذكرناه يغرَم (3) للمرتهن قيمة
الرهن، وإن كانت ألفاً، والدين دينار (4).
ثم إذا تمكن من الراهن، ففاوضه، فقال الراهن: لست آذن لك في أداء
الدين، ولست أؤديه، وكان المرتهن لا يطالب أيضاً، فهذا يؤدي إلى تعطيل
مال عظيم على العدل من غير فائدة، ولكن القيمة مرهونة، والراهن مأمورٌ
بتخليصها إذا كان الدين
__________
(1) في الأصل: من الإذن.
(2) في الأصل بدون نقط. والحرف الأخير بين (النون) والألف المرسومة
(ياء). والمثبت من (ت 2)، (ص).
(3) في (ص)، (ت 2): بغرم الراهن. والمعنى: يغرم العدل للمرتهن قيمة
الرهن بالغةً
ما بلغت.
(4) في (ص)، (ت 2): ديناً.
(6/195)
حالاًّ، كما يؤمر المستعير بتخليص العبد
(1) لمعيره، كما سنذكر؛ فإن تغريم القيمة لغير المالك، والعين مردودة
على المالك يستحيل أن تبقى على التأبد بغير نهاية، فيتعطل مال بأن
يتواطأ الراهن والمرتهن.
ولو كان عين الرهن قائمة، فهي مستردة من الراهن. وإن تلفت، فضمان
القيمة لتوضع رهناً متوجه على الراهن.
ولو غرم العدل للمرتهن قيمةَ الرهن، وقد سلمه إلى الراهن، فله الرجوع
بما غرم على المالك الراهن.
فإن (2) فاتت العين، فإنه يقول: إنما غرمت بسبب أخذك الرهن بغير حق،
فأرجع عليك. ولو كان الرَّهن قائماً في يد الراهن، لوجب رده على حكم
قبض المرتهن.
وهذا بيّن.
وما ذكرناه فيه إذا أعرض المرتهن عن مخاصمة الراهن. وتشبث بالعدل.
والتفصيل ما ذكرناه.
فصل
3664 - ثم ذكر الشافعي تغير حال العدل عن العدالة، وبنى عليه أنه إذا
فسق، فللراهن ألا يرضى بيده، وإن رضي الراهن، فللمرتهن ألا يرضى؛ فإن
الحق ثابت لهما. أما الراهن، فله طلب الاسترداد والاستبدال به؛ محافظة
على [ملكه، وللمرتهن مثل ذلك محافظةً على وثيقته] (3)، وإذا جنى العدل
عمداً على الرهن، فهو منه فسوق، ولو جنى خطأً، لم يفسق، ولزمه أرش
جنايته، والرهن مُقَرٌّ تحت يده، ولو كان من عدّل الرهن عنده (4)
فاسقاً في الابتداء وكانا عالمين بفسقه، فأراد أحدهما أن يرفع يده عن
الرهن، لم يكن له ذلك.
__________
(1) في (ص)، (ت 2): "الرهن لغيره لا والمسألة إشارة إلى من استعار
عبداً ليرهنه. وستأتي قريباً.
(2) في (ص)، (ت 2): إن.
(3) ما بين المعقَفين ساقط من الأصل.
(4) في (ص)، (ت 2): يختص عنده.
(6/196)
فإن ازداد فسوقاً إلى فسوقه المتقدم، كان
ذلك بمثابة فسوق العدل. وقد سبق التفصيل فيه.
ثم ذكر الشافعي بعد ذلك أن العدل لو أراد أن يودع الرهن الكائن تحت يده
عند إنسان، فكيف حكمه؟ وهذا لا اختصاص له بالرهن، وسأذكره مستقصى في
كتاب الوديعة، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: " ولو جنى المرهون على سيده ... إلى آخره " (1).
3665 - إذا رهن الرجل عبداً وسلمه إلى المرتهن، فجنى على السيد الراهن،
فلا يخلو: إما أن يجني على طرفه وإما أن يجني على نفسه. فإن جنى على
الطرف، لم يخل: إما أن يكون موجباً للقصاص أو للمال، فإن كان موجباً
للقصاص، فللسيد الراهن أن يقتصّ منه؛ لأن عماد القصاص الزجرُ وشفاءُ
الغيظ. والحاجةُ ماسة إلى زجر العبيد عن الجناية على السادة، وشفاءُ
الغليل مما يحتاج السيد إليه، فله القصاص. وإن كان يؤدي إلى إبطال حق
المرتهن من الوثيقة. ومهما (2) جرى من المرهون ما يوجب القصاص، لم
يندفع القصاص بسبب حقِّ الغير في المالية. وإن كانت الجناية موجبة
للمال في جنسها، أو كان موجباً للقصاص، فعفا السيدُ على مال، فلا يثبت
المال أصلاً؛ لأن السيد لايستوجب في ذمة عبده مالاً على الابتداء قط.
وإذا لم يثبت له حق مال في رقبة عبده، ولم يثبت القصاص، أو ثبت وسقط،
فيبقى العبد مرهوناً إلى الفكاك.
هذا ما أجمع عليه الأصحابُ، ولم يحكِ أحدٌ فيه خلافاً إلا صاحبُ
التقريب، فإنّه ذكر وجهاً بعيداً فقال: ذهب ابن سُريج إلى أَنَّ
للسَّيد أن يبيع من العبد الجاني بقدر
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 214.
(2) "ومهما": بمعنى (وإذا).
(6/197)
أرش الجناية؛ حتى ينفك الرهن في ذلك
المقدار، فيثبت له هذا الحق، وإن كان لا يثبت له دين على عبده.
وهذا ضعيف جداً، حكيناه ولا نعود إليه.
هذا إذا كان تعلُّق الجناية بالطرف.
3666 - فأما إذا قتل العبد المرهونُ السيدَ الراهن، فإن أراد ورثتهُ
الاقتصاصَ، كان لهم ذلك. وإن لم تكن الجناية جنايةَ قصاص، أو ثبت
القصاص فأسقطوه بالعفو، فلا يثبت لهم عُلقة مالية؛ فإنا إن قلنا: الدية
تجب للمقتول (1)، ثم تنتقل منه إلى وارثه، فعلى هذا لو أثبتنا الدية
للسيّد، لأثبتناها للمالك. وقد ذكرنا أن ذلك محال.
وإن فرَّعنا على أن الدية تثبت ابتداءً للورثة، فهم يملكون رقبة العبدِ
الجاني، في الوقت الذي يملكون فيه الدَّيْن لو أمكن ملكهم فيه. وكما لا
يطرأ ثبوت الدين للسيد على ملكه، وكذلك لا يقترنان؛ فإنهما على حكم
التناقض يتجاريان، فكيف فرض الأمر لم يثبت للورثة حق مالي؛ فيبقى العبد
مرهوناً، كما كان، على المذهب المقطوع به.
3667 - ولو جنى العبد المرهون على ابن السيد الراهن، نُظر: فإن كانت
الجناية على الطرف، فللابن القصاصُ، فإن استوفاه، فذاك. وإن عفا على
مالٍ، أو كانت الجناية مالية، فالعبد يباع في الأرش، ويفك الرهن.
وإن لم يتفق من الابن تحصيلُ ذلك، والمطالبه به حتى مات، وورثه أبوه
الراهن، لم يُخَلِّف (2) وارثاً غيرَه، فهذا موضع تردد الأصحاب.
منهم من قال: يثبت للأب حق فك الرهن على ما تقتضيه الجناية؛ فإن المال
لم يثبت له ابتداءً حتى يحكم باستحالته.
ومن أصحابنا من قال: لا يثبت حق فك الرهن.
وبنى الأئمة هذا الاختلافَ على أصل، وهو أن من استحق دين على عبداً، ثم
__________
(1) في (ص)، (ت 2): الدية حيث تجب تجب للمقتول، ثم تنتقل منه ...
(2) الجملة حالية.
(6/198)
ملكه، فالدين الثابت قبل الملك هل يسقط
بطريان الملك؟ فيه خلافٌ مشهور. فإن حكمنا بأن الدين يسقط بالملك
الطارىء، قال الأصحاب: فعلى هذا لا يثبت للأب إذا ورث ابنَه حقُّ فك
الرهن، وسقط بما جرى الاستحقاقُ. وإن قلنا: الدينُ لا يسقط بالملك
الطارىء، فقد قال الأصحاب للأب حقُّ فكِّ الرهن في مسألتنا.
هذا ما اشتملت عليه الطرق، واتفق الأصحاب عليه، كأنهم تواصَوْا فيه،
وهو في نهاية الإشكال؛ من جهة أن الملكَ في العبد مستدامٌ، والإرث إن
أثبت له ملكاً أثبته جديداً على مملوكه، فكيف يكون الاستحقاق الطارىء
على الملك بمثابة الملك الطارىء على الاستحقاق؟
ولكن الأصحاب قالوا: إذا ثبت دينٌ، ففي سقوطه بالملك الطارىء خلاف.
فإذا ثبت الدين لغير المالك، ثم انتقل إلى المالك، فيخرّج هذا على
الخلاف؛ فإن أصلَ الدين ثبت (1).
فهذا هو المنتهى في ذلك، نقلاً وتنبيهاً.
وكان القول فيه يتعلق بأن العبد له ذمة، ولا احتكام للسيد عليه فيها.
وإنما منعْنا معاملةَ السيد عبدَه القن، من جهة أنا لا نرى للعبد
استمكان الخروج عما نقدّره لازماً، والرق لا نهاية له. فإذا فرض للدين
ثبوت في جهة، فكأنهم على وجهٍ لا يستبعدون (2 انتقاله إلى السيد بعد
ارتباطه بالذمة، كما لا يستبعدون 2) بقاء الدين إذا طرأ الملك.
وكل ما ذكرناه فيه إذا جنى المرهون على طرف ابن الراهن ثم مات بسبب
آخر.
3668 - فأما إذا قتل المرهونُ ابنَ الراهن، فإن كان القتل موجباً
للقصاص، فقد مضى القول في القصاص، ووضح أنه لا دفع له إذا أراده
مستحقُّه، وإن كان القتل خطأً، رتب الأئمة القولَ في ذلك على اختلافٍ
سيأتي في الديات، في أن الدية تجب
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث. ولعلها (ثابت). ومن المفيد مراجعة المسألة في
فتح العزيز بهامش
المجموع: 10/ 152 - 154، وكذلك في روضة الطالبين: 4/ 104.
(2) ما بين القوسين ساقط من (ص)، (ت 2).
(6/199)
للقتيل أولاً، ثم تنتقل إلى ورثته، أم تجب
ابتداءً للورثة. قالوا: إن قلنا: تجب للورثة ابتداءً، فلو أثبتناها،
لأثبتناها للسَّيد الوارث ابتداءً. وهذا لا سبيل إليه، فلا يثبت له حق
فك الرهن.
وإن قلنا: الدية تثبت للمقتول، ثم تنتقل إلى ورثته، فهذا في الترتيب
كأرش الطرف، إذا ثبت للابن، ثم مات بسبب آخر. وقد فصَّلنا هذا.
3669 - ولو جنى العبد المرهون على عبد الراهن تُصوِّرت مسائل عند ذلك:
إحداها - ألا يكون ذلك العبدُ المجنيُّ عليه مرهوناً، فحكمه حكم ما لو
جنى على نفس الراهن. أمَّا القصاص، فإلى المولى، وأما المال، فلا يثبت
كما مضى.
ومن المسائل أن يجني العبد المرهون على عبد آخر للراهن مرهون عند إنسان
آخر، أما القصاص، فكما مضى. وإن كانت الجناية مالية، أو آل الأمر إلى
المال، فقد تحقق اعتراض على حق المرتهن الذي قُتل العبد المرهون عنده،
فإن كانت قيمةُ العبد القاتل مثلَ قيمة المقتول، أو أقلّ منها، بعناه،
ووضعنا ثمنه رهناً بدل العبد المقتول. وإن كانت قيمة الجاني أكثر،
فنبيع منه قدرَ قيمة المقتول، ونضعه رهناً، وإن كان التشقيص يتضمن
تعييباً، ففي بيع بعضه إبطالُ حق المالك، وفيه أيضاًً إبطال حق المرتهن
الذي جنى العبد المرهون عنده. فإذا رضي المالك، ومرتهنُ الجاني ببيع
كلِّه، بعناه، وصرفنا مقدار قيمة المقتول إلى مرتهن المقتول، وجعلناه
رهناً عنده، وتركنا الباقي عند مرتهن الجاني.
وإن قال مرتهن الجاني: لست أرضى ببيع الفاضل منه عن قدر القيمة، وقال
المالك: لست أرضى بتنقيص ملكي بسبب التشقيص. وقد يفرض هذا على العكس
بأن يرضى المالك بالتشقيص، ولا يرضى المرتهن، فالذي يدل عليه كلام
الأصحابِ أنّا نرعى المصلحةَ ولا نبالي بمن يحيد عنها؛ فإن المالية هي
المقصودة، فإذا اجتمع اعتبار المالية، وحقُّ الاختصاص بالغير، فالمالية
أولى بالرعاية، وإذا لم يكن بد من إجابة أحدهما واستحال الجمع، فلا فرق
في تقديم جانب على جانب، إلا رعاية المصلحة.
(6/200)
3670 - ومن تمام البيان في ذلك أن قيمة
الجاني لو كانت مثلَ قيمة المقتول، وكنا نفك الرهن بسبب مرتهن المقتول،
فلو قال الراهن لمرتهن المقتول: لا غرض لك في بيع هذا العبد، فاكتف
برقبته، حتى أفك رهن مرتهن الجاني، وأنقلَ حقك إلى رقبته، فإن رضي بذلك
مرتهنُ المقتول، جاز وفسخ الرهن في حق مرتهن الجاني، ولا مجال له في
المناقشة في هذا؛ فإن حقه إذا كان يرتفع، فتعلقه باستدعاء البيع فضول.
أما مرتهن المقتول إذا قال: لست أبغي هذا العبدَ، فبعه، وضع ثمنَه
رهناً، فهل يجاب إلى ذلك؟ ذكر شيخي وصاحب التقريب وجهين في هذا: أحدهما
- أنه لا يباع؛ فإن حقه عاد إلى المالية، والعبد الجاني قد تعلق الأرش
برقبته، فهو أقرب من قيمته. والوجه الثاني - أنه يجاب فيباع؛ فإنه
يقول: كان حقي في رقبة العبد الذي قتل، فإذا قتل، فحقي في قيمته، فلا
أرضى إلا بها.
ولا خلاف أنه لو أتى بعبدٍ آخر، وأراد أن يُجبر المرتهنَ على قبوله
رهناً، بدل العبد المقتول، لم يُجبَر المرتهنُ على قبوله؛ فإنه ليس
قيمة، ولا متعلّق قيمة والعبد الجاني قد تعلق القيمةُ برقبته.
ولم نطوّل الفصلَ بذكر القتل الواقع عمداً، مع تصوير العفو مطلقاًً، أو
على مال.
وتخريجه على اختلاف الأقوال، ولكنا نذكر قولاً وجيزاً، فنقول: إذا ثبت
حق القصاص للراهن على العبد المرهون، وكان قتل عبداً آخر مرهوناً عند
آخر، فإن أراد الاقتصاصَ، فلا منع، وإن أراد العفو على مالٍ، ثبت
المال، وتعلق به حق مرتهن المقتول. وإن عفا على غير مال، فهو في العفو
على غير مالٍ كالمفلس يعفو عن قصاصٍ، ثبت له على غير مالٍ، والديون
محيطةٌ والحجر مطرد، وذلك لأن الراهن محجورٌ عليه حجرَ خصوصٍ في
المرهون، كما أن المفلس محجور عليه. وتفصيل هذا يأتي في كتاب الجراح،
إن شاء الله تعالى.
وكل ما ذكرناه فيه إذا قتل عبد مرهون عبداً آخر لذلك الراهن، وكان
مرهوناً عند رجل آخر.
(6/201)
3671 - فأما إذا رهن رجل عبدين عند آخر،
فقتل أحد العبدين الآخر، فإن كانا مرهونين بدين واحد، فقد فات العبدُ
الذي مات، والعبدُ الباقي مرتهنٌ بجميع الدين، ولا حاجةَ إلى تكلف نقل،
وكنا هكذا نقول لو مات أحدهما حتف أنفه.
فأمّا إذا رهن كلَّ واحد من العبدين بدينٍ مغاير للدين الآخر. فإذا قتل
أحدُ العبدين الثاني، وقال المرتهن للراهن: قرِّر الدينَ المتعلقَ
برقبة القاتل، وانقل إلى رقبته الدينَ الذي كان متعلقاً برقبة العبد
الذي قُتل، فلسنا نجيبه إلى ذلك. اتفق الأصحاب عليه، فليقطع الناظر
إمكان ذلك عن فكره؛ والسبب فيه أنه ما لم يفك عن الرهن المتعلِّق به،
لا يتصور ربطُ دين آخر به.
هذا سبيل اعتراض الجنايات على المرهون. فإذا أردنا تقريرَ الرهن الأول،
ونقلَ الدين الثاني، لم يكن ذلك على مقتضى تأثير الجناية في الرهن.
فإذا ثبت هذا، نظرنا بعده، وقلنا: إن كان [الدين] (1) المتعلق بالقاتل
أكثر من الدين الذي كان متعلقاً بالمقتول، فلا فائدة في نقض (2) رهن
القاتل، ونقل رهن المقتول إليه، وليقع الفرض فيه إذا استوى الدينان في
التأجيل والتعجيل، كذلك إذا استوى مقدار الدينين مع ما ذكرناه. فلا
غرض، فإذا استدعى المرتهن النقل، لم نسعفه واعتقدناه ملتمساً شيئاًً
غير مفيد.
نعم لو قال: بيعوا هذا الجاني، وضعوا قيمته رهناً؛ فإني لا آمنه، وقد
يبدر منه ما بدر، والقيمة أبعد عن قبول الآفات من العبد، فهل يجاب لهذا
الغرض إلى ما يريد؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فمنهم من قال: نجيبه إلى
مهواه؛ فإنه ذكر غرضاً صحيحاً، وقد حدث ما يوجب تغييراً على الجملة.
والثاني - أنا لا نجيبه كما لو ارتهن عبداً، فبدر منه هناةٌ قرَّبته من
الهلاك، فقال: بيعوه أثق بثمنه (3)، لم نجبه إلا أن يمرض مرضاً يخافُ
موته، فيلحق التفصيل بالمطعوم الذي يُسرع الفساد إليه. وقد مضى.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في (ص)، (ت 2): نقل.
(3) في (ت 2): وأَبق ثمنه. وأثق بثمنه: أي اتخذ ثمنَه وثيقةً.
(6/202)
فإن قلنا: لا نجيب المرتهن في مسألة
الجناية، فلا كلام.
وإن قلنا: نجيبه، فنضع ثمنه إذا بعناه رهناً بالدين الذي كان متعلقاً
برقبة المقتول. هكذا يقع (1) الأمر، وإن كان الغرض لا يختلف في المقدار
والحلول والتأجيل، حتى لو كان الدين المتعلق بالقاتل أكثر، لم نجعل
ثمنه رهناً إلا بالدين الأقل؛ فإنّ بيع العبد بسبب الجناية، مع تبقية
القيمة في ذلك الرهن بعينه محال.
ولو اختلف الجنس وكان أحدهما دنانيرَ والآخر دراهم، ولكنَّ المقدارين
متساويان في المالية، وكانت الدراهم بحيث لو قومت بالدنانير، لبلغت
قيمتُها مبلغَ الدنانير، التي هي أحد الدينين، فليس اختلاف الجنس من
اختلاف الغرض. ولو كان الدينان متفاوتين بالحلول والتأجيل، فهذا من
الأغراض، ولا فرق بين أن يكون دينُ المقتول مؤجلاً أو حالاً؛ [إذ] (2)
في الحال غرض ليس في المؤجل، وفي المؤجل غرض ليس في الحال؛ فإن القاتل
لو كان رهناً بالحال، نقلنا (3) إلى المؤجل ليتوثق، ويستوفى الحالُّ في
الحال. وإن كان القاتل رهناً بالمؤجَّل، ننقله إلى الحالّ، فيبيعه فيه.
وهذا غرض ظاهر.
ومبنى المسألة على اتباع الغرض. فإن لم يكن في النقل غرض، فلا نقلَ إلا
في استدعاء جواز البيع؛ فإن فيه اختلافاً ذكرته.
وإنما ينتظم ذكر الأغراض إذا فرعنا على أنه لا يجاب إلى بيع القاتل إذا
لم يلُح غرضٌ غيرُ البيع.
ثم ذكرَ الشافعي إقرارَ العبد المرهون بما يوجب القصاص، وبما يوجب
المال، وقد تقدم القول فيهما، وذكرنا التفصيل فيه إذا أقر بما يوجب
القصاص، وقبلنا إقرارَه في العقوبة، فعفا المقَرُّ له على مالٍ.
__________
(1) ساقطة من (ص)، (ت 2).
(2) ساقطة من الأصل.
(3) كذا بدون ذكر المفعول (أعني المنقول). فهو مفهوم من الكلام.
(6/203)
3672 - ثم قال: " فإن كان السيد أمر العبد
بالجناية ... إلى آخره " (1).
إذا رهن عبداً وأقبضه، ثم أمره بالجناية، فإن كان مميَّزاً، ولم يصدر
من السيد إكراهٌ، فلا أثر لأمره، فيما يتعلق بأحكام الجناية، وحكم
الجناية الصادرةِ عن أمره كحكم الجناية التي يستبدّ بها. وإن كان غير
مميز ولكن كان ألِفاً لاتِّباع أمر سيده إلفَ السبُع [لمن] (2) يقوم
عليه، وكان يسترسل في الجناية عند الأمر طبعاً، استرسالَ السبع عند
الإشلاء (3) والإغراء، فإذا أشار السيد إلى مثل هذا العبدِ، فانطلق،
وقتل إنساناً، أما السيد فحكمه حكم المكرِه على القتل، وأمّا العبد،
فلا شك أنه لا يتعرض لاستحقاق عقوبة ولا تمييز له، فالعقوبة على
المكلّف، وفي تعلق الأرش برقبة مثل هذا العبد وجهان مشهوران: أحدهما -
أنه يتعلق برقبته بصدور عين الفعل منه.
والثاني - لا يتعلق برقبته، فإنه كالآلة المردَّدة، وكالسبع يغريه
القائم عليه، ثم لا يتعلق برقبة الفهد المغرَى شيء، كما لا يتعلق
بالسيف والأسلحة.
ولو أكره السيد عبدَه المختارَ على الجناية، ففي المكرَه قولان،
وتفاصيل طويلة ستأتي في كتاب الجراح، إن شاء الله تعالى.
وقدر غرضنا منها أنا إن جعلنا المكرَه كالآلة، ولم نعلِّق به غرضاً،
ولا عقوبة، فلا يمتنع أن نخرّج المسألةَ فيه على وجهين، في أن الأرش هل
يتعلق برقبته أم لا؟ كما ذكرناه في العبد الأعجمي (4)، ولا يبعد أن
يرتب، ويجعل المكرَه أولى بأن يتعلق برقبته من قِبَل أن التكليف ليس
منقطعاً عنه، وإن كان مُكرهاً على القتل، فتأثيمه من أحكام ثبوت
اختياره، وليس كالعبد الأعجمي.
وحقائق هذه الفصول تأتي في الجنايات، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 215.
(2) في النسخ الثلاث: " لم " والمثبت تقدير منا لا يستقيم الكلام إلا
به.
(3) الأشلاء: الإغراء، يقال: أشلى الكلبَ على الصيد: أغراه به، وأطلقه
عليه (معجم).
(4) المراد العبد الذي يألف سيده إلف السبع. والذي ذكره آنفاً.
(6/204)
فصل
قال: " ولو أذن له، فرهنه، فجنى، فبيع في الجناية، فأشبهُ الأمرين أنه
كير ضامنٍ، وليس كالمستعير الذي منفعته مشغولة ... إلى آخره " (1).
3673 - إذا استعار رجل عبداً من مالكه ليرهنه بدين عليه، فقد أطلق
الأصحاب أنه إذا رهن العبد المستعار بإذن مولاه، فالرهن جائز. ثم قالوا
في حقيقة هذا الرهنِ قولان؛ أحدهما - أنه يُنحى به نحو الضمان. والثاني
- أنه يُنحى به نحو العاريّة، فنبيّن القولين، ثم نوجههما، ثم نفرعّ
عليهما.
أما بيانهما: فمن قال: سبيله سبيلُ الضمان، فتقديره أنه إذا أذن
للمستعير أن يُلزم رقبةَ العبد المستعار مالاً، وسيد العبد وإن كان
بريئاً عن دين المستعير، فلو ضمنه، لصار ملتزماً ماله. فهذا في حكم
ضمانٍ في عين العبد، ومالكُ العبد متبرع به، تبرّعَ الضامنين بإنشاء
الضّمان.
ومن قال: يجري مجرى العارية، فمعناه أن المستعير ينتفع بمنافع
المستعار، فكأنه جعل التوثق برقبته انتفاعاً به، فهذا معنى جريانه مجرى
العواري.
3674 - توجيه القولين: من نزله منزلة الضمان، فوجهه أن المالك بريء عن
دين المستعير، وإذا ثبت الرهنُ وانبرم بالقبض، فموجبه اللزوم، ولا وجهَ
للزوم الدين في حق البريء عنه إلا الضّمان، غيرَ أن المالك يتصرف في
ذمته، ويتصرف في أعيان ملكه، ثم ملك أن يُلزم ذمته البريئة دينَ الغير
بطريق الضّمانِ، فيملك أن يُلزم رقبةَ ماله دينَ الغير متبرعاً، وهو في
الوجهين متصرِّفٌ في محل تمكنه ومِلكه، غيرَ أنه إن ضمن، فلا تعلق
للمضمون بماله، وإذا علق الدينَ بماله، فلا تعلّق له بذمته.
ومن قال: يُنحى به نحو العارية، فوجهه أن الضمان محلُّه الذمة، فلا
يتعلق الملتزَم بعينٍ قط، وهذا الحق يتعلق بالعين، وراهنه مستعيرٌ،
فالرهن عاريةٌ في جهة مخصوصة.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 215.
(6/205)
ونصُّ الشافعي مردَّدٌ بين القولين، فإنه
قال: " فأشبه الأمرين "، فكان هذا ترديداً. ثم قال: " وليس هذا
كالمستعير "، ففي نصه تردد، وصغوُه إلى قول الضمان.
أمّا التفريع، فقد اختلفت الطرق، وتباينت المسالك. والسبب فيه ميلُ هذا
الأصل عن قياس القواعد، وبعده عن الأفهام، فلا يكاد يحيط بأطراف
المسألة إلا فقيه موفق.
3675 - فأول ما نصدّر الكلامَ به بعد ذلك أن العراقيين حَكَوْا عن ابن
سريج أنه قال: إن جعلنا الرهن مشبهاً بالضّمان، فهو صحيح ثابت. وإن
قلنا: يُنحَى به نحو العواري، فالرهن غير صحيح؛ فإن من حُكم الرهن أن
يلزم بالقبض، والعارية لا تلزم. فلا وجه لجمع حكميهما النقيضين. ولكن
كأن المعير وعد المستعير أن يرخص له في بيع المستعار، وصرفِ ثمنه إلى
دينه، وليس بينهما إلا موعد ورجاء. فإن وفى فحسن، وإن أخلف، فله ذلك.
وهذا قريب في القياس بعيد في الحكاية. وسيكون لنا في أثناء الفصل إلى
هذا عودةٌ مقرونة بتنبيه. فليقع التفريع على صحة الرهن. فالتفاريع
نخرّجها على القولين، فنذكر من قضايا الفصل أحكاماً، ونفرعّ كل حكم على
القولين، وإذا نجزت، تعدَّينا إلى حكمٍ آخر، حتى نأتي على أطراف
المسألة.
3676 - فالذي أرى تقديمه القولُ في لزوم هذا الرهن. فإن فرَّعنا على
قول العارية، فالذي ذكره القاضي أن للمعير أن يرجع عن إذنه قبل جريان
الرهن، وله أن يفسخ الرهن بعد جريانه، وقبل اتصاله بالقبض، فإذا اتصل
بالقبض، لم يملك المعيرُ فسخَ الرهن، والرجوعَ في العارية؛ فإنه لو ملك
ذلك، لم يكن لهذا الرهن معنى، ولم تحصل به الثقة.
ومن دقيق ما ينبغي أن يتأمله الناظر في هذه التفاريع الفرقُ بين
المستعير وبين
المرتهن، فالعارية متمحضة على قول العارية، في حق المستعير، فأما
المرتهن، فليس مستعيراً وإذا لم يكن مستعيراً، وجب أن تثبت له خاصية
الرهن، وهي وثيقة،
(6/206)
ولا وثيقة من غير ثقة، ولا ثقة مع إمكان
الرجوع، ورب عارية تُفضي إلى اللزوم؛ فإن من استعار بقعةً ليدفن فيها
ميتاً، فدفن، لم يجز نبشه، إلى غير ذلك من نظائرَ ستأتي إن شاء الله
تعالى.
وقطع صاحب التقريب والشيخ أبو محمد، والأثبات من أصحاب القفال أن الرهن
لا ينتهي إلى اللزوم على قول العارية؛ والمعير متى شاء رجع، واستردّ،
وإن اتصل الرهن بالقبض.
وذكر صاحب التقريب وجهين في صورةٍ: وهي أنه لو كان الدين مؤجلاً، قال:
يجوز له أن يرجع بعد حلول الأجل. وهل له أن يرجع قبل حلول الأجل؟ فيه
وجهان: أحدهما - يجوز، كما لو كان حالاً، [إذ] (1) لم تلزم العارية.
والثاني - يجوز؛ لأنه أقَّت إذنه، ورُبط به شيء فصار كما لو أعار
للغراس إلى مدة.
هذا بيان اختلاف الطرق على قول العارية.
3677 - فأما إذا فرّعنا على قول الضمان، فإذا اتصل الرهنُ بالقبض، لزم
على هذا القول؛ ولم يملك المعير الانفراد بالرجوع. وهذا على هذا القول
متفق عليه بين الأصحاب.
ولو أراد المعير الرجوعَ بعد الرهن، وقبل القبض، مَلَك. فإن قيل: لم
كان كذلك؟ وهلا ثبت الضمان لازماً في حق المعير بنفس عقد الرهن؟ قلنا:
لا شك أن المستعير يتخير قبل الإقباض في فسخ الرهن، فإذا لم يلزم الرهن
في حقه، وعليه الدين، فكيف يلزم في حق المعير. والتحقيق فيه أن الرهن
إذا تم، حل محلَّ الضمان، ولا يتم إلا إذا اتصل بقبضٍ.
والذي يُظهر سرَّ هذا الفصل في هذا المقام أن الذين صاروا إلى أن الرهن
لا ينتهي إلى اللزوم على قول العارية ما نراهم يُثبتون من الرهن إلا
اسماً ولقباً. وعندي أن مذهبهم موافقٌ لما حكاه العراقيون عن ابن سريج؛
فإن الرهن إذا كان لا يلزم،
__________
(1) في الأصل: إذا.
(6/207)
ولا يملك الراهنُ المستعيرُ بيعَ الرهن في
دينه كما سنذكره، فلا أثر للحكم بصحة الرهن، ويؤول القول فيه إلى وعد
مجرد.
3678 - ومما نفرعه أنا إذا قلنا: هذا عارية، وحل الحق أو وَقع الرهن
بدَيْنٍ حالٍّ أوّلاً، فلو أراد المستعير بيعَه وصرْفَ الثمن إلى دينه،
من غير مراجعةِ مالك العين، لم يجد إليه سبيلاً، فلا يبيعه إلا بإذن
مجدد، صرح بهذا معظم الأصحاب. ورمز به آخرون.
وإن فرعنا على قول الضمان، فلا يملك المستعير الانفراد بالبيع أيضاًً
ما وجد اقتداراً على أداء الدين من ماله، فإن أفلس، ولم يجد ما يؤدي به
دينَه، فيباع المرهون في دينه وإن سَخِط المعير.
فانتظم من هذا أنا إذا فرّعنا على قول العارية، فلا سبيل إلى البيع في
اليسار والإعسار إلا بذن مجدد، ونفسُ الإذن في الرهن لا يكون إذناً في
البيع. وإن فرَّعنا على قول الضمان، لم يجز البيع إلا عند العجز عن
الأداء. فإذا تحقق، لم نرعَ رضا المالك المعير. وما ذكره من التفريع
على قول العارية يؤكد تخريجَ ابن سريج، ويوهي الحكمَ بصحة الرهن،
فليتنبه الناظر لما يمرّ به.
وقياسُ طريق القاضي إذا حكم بلزوم الرهن على قول العارية أن يجوز بيعُ
الرهن عند الإعسار من غير مراجعة، كما يجوز ذلك على قول الضمان. هذا
قياسه.
ولكن لم يتعرض له صريحاً.
3679 - وممّا نفرعه القولُ في أن المعير هل يجبر المستعير على فك
الرهن؟ أما من قال: لا يلزم الرهن على قول العارية، فلا فائدة لهذا،
والمعيرُ مستبد (1) بالرجوع متى شاء.
وإن ألزمنا الرهن على قول الضمان، اتجه إجبار المعير المستعيرَ على فك
الرهن.
[قال القاضي: إن كان الدين حالاًّ، ملك المعير إجبار المستعير على فك
الرهن] (2)،
__________
(1) في (ص): مستند.
(2) ساقط من الأصل.
(6/208)
سواء قلنا: إنه عارية، أو ضمان وليؤدِّ
الدين من ماله. ولا شك أن هذا في حالة يساره. وإن كان الدين مؤجلاً،
قال: خرج الإجبار على الفك على القولين: فإن قلنا: الرهن عارية، ملك
إجبارَ المستعير على الفك، فأثر العاريةِ عند القاضي يظهر في الدين
المؤجل، وكأنه جعل الإجبار على الفك من آثار العواري.
وإن قلنا: الرهن ضمان، فلا يملك إجبارَ المستعير على الفك، كما لو ضمن
ديناً مؤجلاً؛ فإنه لم يملك إجبارَ الأصيل المضمون عنه على تبرئة ذمته
بأداء ما عليه من الدين.
ولو كان الدين حالاًّ، فقد نقول: يملك الضامن بإذن المضمون له إجبارَ
المضمون عنه على أداء ما عليه حتى يبرأ الضامن.
فإن قيل: أليس ذلك مختلَفاً فيه؟ قلنا: نعم اختلف الأصحاب في أن من ضمن
ديناً بإذن من عليه الدين، فهل يملك إجبارَه على أداء ما عليه؟ فإن يل:
هلاَّ خرجتم الرهن في قول الضمان على هذا الخلاف، حتى تحكموا بأن
إجبارَ المستعير على فك الرهن والدين يخرج على وجهين؟ قلنا: بين
المسألتين فرق؛ وذلك أن الضامن قبل أن يغرَم ليس عليه بأس إلا تعلق
الدين بذمته، وليس كذلك ما نحن فيه؛ فإن العبد المستعار مشتغل بوثيقة
الرهن، فكان هذا شبيهاً بأداء (1) الضامن ما ضمنه، ولو أداه يرجع به
على المضمون عنه إذا كان الضمان مأذوناً فيه، وهذا مضمومٌ (2) إلى
العلم بأن الرهن ليس ضماناًً محضاً، وهو مشوب نقصاً بالعارية (3 وكأن
حقيقة الخلاف راجع إلى أن المغلّبَ حكم الضمان أو حكم العارية 3) ومن
طلب من المشوبات مقتضى التمحّض، لم يكن على بصيرة.
3680 - ومما نفرعه أن العبد المستعار المرهون لو مات في يد المرتهن،
فحكم الضمان مفرّع على القولين: فإن أجرينا الرهن مجرى العارية، وجب
ضمان القيمة على المستعير؛ فإن العارية مضمونة.
__________
(1) في (ص): شبهاً بإذن الضامن، (ت 2): سببها بإذن الضامن.
(2) في (ص)، (ت 2): مضمون.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(6/209)
وإذا قلنا: سبيله سبيل الضمان، فلا ضمان.
فإن قيل: هلا جعلتم تلف العبد على حكم المستعير، بمثابة تلف مالٍ في يد
إنسانٍ قد أخذه ليصرفه إلى دينه؟ قلنا: ذلك اقتراض في الحقيقة، وما نحن
فيه تعليق برقبة العبد، والأداء منه مرقوب، فإذا فرض التلف، فلا ضمان،
قال القاضي: إذا ضَمَّنا المستعيرَ على قول العارية، فلا ضمان على
المرتهن؛ فإنه ليس مستعيراً، وإنما المستعير هو الراهن، والمرتهن يمسكه
رهناً، لا عارية. وهذا حسن منقاس.
وإذا فرع مفرع على قول ابن سريج، ففي تعليق الضمان بالمرتهن نفسِه
تردّدٌ، والظاهر أن لا ضمان عليه.
3681 - ومما نفرعه جنايةُ العبد المستعار، فإن حكمنا بأن الرهن ضمان،
فلا يجب على المستعير ضمان أرش الجناية؛ فإن يد المستعير على هذا القول
ليست يد ضمان، فما الظن على اليد المتفرعة على يده.
وإن قلنا: الرهن عارية، فيد المستعير يدُ ضمان، فهل يضمن أرشَ جناية
العبد المستعار؟ فعلى وجهين مبنيّين على أن العارية تُضمن ضمان الغصوب
أم لا؟ فإن قلنا: تضمن (1) ضمان الغصوب، فيضمَن أرشَ جناية العبد؛
قياساً على العبد المغصوب يجني في يد الغاصب. وإن قلنا: لا تضمن
العاريةُ ضمان الغصوب، فلا يضمن المستعيرُ أرش الجناية، والأقيسُ الوجه
الأول. وهذا موضع نص الشافعي في المسألة، فإنه قال: " لو أذن له،
فرهنه، فجنى، فأشبه الأمرين أنه غيرُ ضامنٍ، وليس كالمستعير "، فالنص
دليل على أن التفريع على قول الضمان. وفيه دليل على أن المستعير يضمن
أرشَ جناية المستعار؛ فإنه قال: " وليس كالمستعير".
3682 - ومما يتفرع على القولين أن العبد إذا بيع في دين المستعير إما
بإذنٍ مجرّد، أو (2) بتصوير الاضطرار من المستعير فبماذا الرجوع؟ وكيف
السبيل؟ لا شك أن
__________
(1) في (ت 2): إنها لا تضمن.
(2) في (ص)، (ت 2): وبتصوّر الاضطرار.
(6/210)
المستعير إذا صرف ثمنَ العبد إلى دينه، حيث
يصح ذلك، فالسيد يرجع على المستعير، فإنْ بِيع بمقدار قيمته، فلا كلام.
وإن كانت قيمتُه ألفاً واتفق بيعه بألفٍ ومائةٍ، فمالك العبد بكم يرجع
على المستعير إذا صرف الثمن كاملاً في دينه؟ هذا ينبني على القولين:
فإن قلنا: الرهن ضمان، فالرجوع على المستعير بالثمن بالغاً ما بلغ،
ووجهه بيّن. وإن فرعنا على قول العارية، فالرجوع على المستعير بكم؟
فعلى وجهين: أحدهما - أنه يرجع عليه بالثمن أيضاًً، وهو قياس بيّن.
والثاني - أن المعير يرجع على المستعير بالقيمة، ولا يجد مرجعاً
بالمائة الزائدة عليها؛ فإن العارية سبيلُ ضمانها القيمةُ، فلا يرجع
المعير إلا بها، ولا يرجع بالزائد عليها.
وهذا ضعيفٌ في القياسِ، ولا أصل لاستبداد المستعير بالزائد على القيمة،
وهو من ثمن ملك المعير، ولم يجرِ ما يتضمن اختصاصَ المستعير به. وهذا
الوجه على ضعفه لم يَحْكِ القاضي على قول العارية غيرَه.
وممّا يتفرع على القولين أن العبد المستعار لو كانت قيمتُه العدل مائة،
فبيع بمائة إلا دينار (1) أو أكثر، ولم ينته النقصانُ إلى مبلغٍ يعد
غبناً، بل كان مقداراً يتغابن الناسُ في مثله. فإذا جرى ذلك، وصرفه
المستعير إلى دينه. فإن قلنا: الرهن ضمان، لم يرجع المعير على المستعير
إلا بمقدار الثمن. وإن قلنا: الرهن عارية، رجع المعير بالقيمة الكاملة،
وهي المائة، ولم يحط القدرَ الذي يتغابن في مثله.
3683 - ومما نفرعه أنا إذا قلنا: الرهن عارية، فلا حاجة إلى إعلام
القدر الذي سيقع الرهنُ به، ويكفي أن يستعير عبدَه مطلقاًً، ويستأذنَه
أن يرهنه ولا يشترط أن يُبيِّن جنسَ ما يقع الرهن به، وقدرَه، ولا
كونَه حالاً أو مؤجلاً.
وإن قلنا: الرهن ضمان، فلا بد من إعلام الجنس، والقدر، والتعرض لبيان
__________
(1) كذا في النسخ الثلاث (دينار) غير منصوبة، وقد سبق نظير لذلك،
وأشرنا في تعليقنا إلا أنه لا وجه له إلا ما جاء بالرفع في روايةٍ
للحديث الشريف: " كل أمتي معافىً إلا (المجاهرون) " .. !؟
(6/211)
الحلول والتأجيل، فإن الإعلام شرطٌ في صحة
الضمان.
وإذا قلنا: إعلام هذه الأشياء ليس بشرط على قول العارية، فلو نصَّ
المعير على شيء منها، لم يكن للمستعير أن يخالفَه، ويزيدَ، وإن كان
يجوز إطلاق الإذن من غير إعلامٍ، وذلك لأنه إذا أمَرَ، وقدَّر، فيجب
إيقاع أمره؛ فإنه المستند والمعتمد في الباب.
ومن ذلك أنا على قول العارية، لا نشترط أن يعيّن المعير من يرهن منه
المستعار، بل يجوز إجراء الإذن فيه على الإطلاق، فلو عيّن المعيرُ
شخصاً، فلا يجوز للمستعير أن يرهنه من غيره؛ لما ذكرناه من وجوب اتباع
الأمر. ولو قال المستعير: [أرهنه] (1) من فلان، فكان التعيين من [جهته]
(2)، ولم يصدر من المعير اقتراحٌ فيه، ولكنه نزَّل الإذنَ على حسب
التماس المستعير، فالذي يقتضيه الرأي أن من عيَّنه المستعير يتعيّن،
وإن لم يعين المعيرُ بتعيينه ابتداءً؛ فإن كلام المعير مبنيّ على كلام
المستعير منزّل عليه.
ولو فرعنا على قول الضمان، فعيَّن المعيرُ شخصاً، ولم يرضَ أن يرتهن
غيرَه، فلا مَعْدل عنه. وإن أطلق، ولم يتعرض لتعيين المرتهن والتفريع
على قول الضّمان، ووجوب الإعلام، فهل يصح الإذن على هذا الوجه مطلقاً
من غير تعيين من يرتهن؟ فعلى وجهين ذكرهما صاحب التقريب: أحدهما - أنه
لا يصح الإذنُ مع الإطلاق في ذكر المرتهن، حتى يُعيَّن. والثاني - لا
حاجة إلى ذلك، والمستعير يرهنه ممن شاء.
وهذا الخلاف ينبني على تردد الأصحاب في أنا هل نشترط في صحة الضمان أن
يكون المضمون له معلوماً أمْ لا؟ ثم قال الأصحاب: لا يجوز للمستعير أن
يخالف المعير فيما رسم له؛ فإن أصل أمره على اتباع الإذن، حتى لو أذن
في الرهن بدراهم، لم يجز الرهن بالدنانير. [وكذلك القول في عكس هذا.
ولو أذن في الرهن بالحال،
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(2) في الأصل: جهة.
(6/212)
لم يرهن بالمؤجل] (1). وكذلك لو أذنَ في
الرهن المؤجل، لم يرهن بالحال. والأغراض تختلف بالحلول والتأجيل، ولا
يكاد يخفى تقريره؛ فيجب اتباع مراسم المعير المالك.
3684 - ولو قال للمستعير: أذنت لك في أن ترهنه بمائةٍ، فلو رهنه
بخمسين، جاز ذلك، ولا يعد النقصان في المقدار مخالفةً، بل إذا نقص، فقد
زاد بالنقصان خيراً وحطَّ وبالاً وضُرّاً؛ فهو بمثابة ما لو قال مالك
المتاع لوكيله: بعْ هذا العبدَ بألف، فلو باعه الوكيل بألفين، صح، ولا
مرد لتلك الزيادة، والرجوع في أمثال هذا إلى العرف، ومعلوم أن هذا لا
يعد مخالفة، بل يعد موافقةً. وسنذكر تحقيقَ هذا في كتاب الوكالة، إن
شاء الله تعالى.
ولو قال المعير: ارهنه بألفٍ، فرهنه بألفين، فالزيادة مخالفة، ثم قال
معظم الأصحاب: إذا خالف وزاد، لم يصح الرهن في مقدار الموافقة أيضاً؛
لأنه بنى صيغة العقد على مخالفة المالك، فلم يصح.
وخرّج صاحب التقريب قولاً آخر: أن الرهن يصح في المقدار الذي عينه
المعير، ورضي به، والزيادة مردودة. وزعم صاحب التقريب أن هذا يُخرّج
على اختلاف القولى في تفريق الصفقة؛ فإنه جمع بين ألفٍ لا إذن فيه،
وبين ألفٍ مأذونٍ فيه، فإذا بطل العقد في الألف الزائد، ففي المزيد
الخلافُ الذي ذكرناه.
وهذا لم يصححه المحققون، ورأَوْا القطعَ ببطلان الرهن.
ولا خلاف أن من وكل إنساناً ببيع عبد، واقتضى مطلقُ التوكيل البيعَ
بثمن المثل، فلو باعه بغبنٍ، فالبيع مردود. ولا يقال: نصحح البيعَ في
مقدارٍ من العبد يكون الثمن قيمة عدلٍ له، ونحذف جزءاً من العبد عن
مقتضى العقد. وتقديرُ الزيادة في المبيع كتقدير الزيادة في الثمن إذا
وقعت الزيادة على موجب المخالفة.
3685 - ثم قال القاضي: لو جرى الرهن، واتصل بالقبض، ثم إنَّ المالك
المعير
__________
(1) ساقط من الأصل.
(6/213)
أعتق عبده، فنفوذ عتقه يخرّج على القولين،
فإن قلنا: الرهن ضمان، فالعتق ينفذ، وإن قلنا: إنه عارية، فإعتاقه إياه
بمثابة إعتاق الراهن المالك العبدَ المرهون، وفيه الأقوال المعروفة.
وهذا خرّجه القاضي على طريقةٍ في الحكم بلزوم الرهن على قول العارية،
ثم رأى الرهنَ على قول العارية رهناً محضاً في حق المرتهن لازماً، ورآه
على قول الضمان غير متأكد في التعلق بالرقبة. ومعظم الأصحاب على
مخالفته في ذلك؛ فإنهم ضعفوا الرهنَ وحكمَه على قول العارية، وألزموه
وأكدوه على قول الضمان.
وما ذكره جارٍ على قياسه. ولكن في قطعه بنفوذ العتق على قولِ الضمان
كلام.
والوجه عندنا تنزيلُ العبد على قول الضمان منزلة العبد الجاني الذي
تعلق الأرش برقبته. وقد فصلنا القول في بيعه ورهنه.
3686 - ومما يتم به بيان الفصلِ أن القاضي سئل في التفريع على قول
الضمان، وقيل له: لو قال: مالك العبد: ضمنت ما لفلان عليك في رقبة عبدي
هذا، فكيف حكم هذا؟ فقال: إذا فرعنا على قول الضمان، تعلّق الدين برقبة
العبد، وكان بمثابة الرهن المستعار، فإن شئنا قلنا: رهن العبد المستعار
ضمانٌ في رقبته، أو قلنا: الضمان في رقبته رهنٌ.
وهذا الذي ذكره حسن بالغ على الجملة، ولكن فيه تفصيل، فإذا قال مالك
العبد لمستعيره: ارهنه بدينك، فقد أنابه مناب نفسه في الضمان في رقبة
عبده، فاجتمع رضا المالك، وإنشاءُ الرهن، وقبولُ المرتهن. وإذا قال
المالك: ضمنت ما لفلان عليك في رقبة هذا العبد، ولم يُوجَد قبولٌ من
المضمون له ففي هذا تردُّدٌ.
وظاهرُ كلام القاضي أن ذلك يكفي، تفريعاً على أنه لا يشترط في الضمان
رضا المضمون له.
ويجوز أن يقال: ذلك في الضمان المطلق الذي يرد على الذم، فأما ما يتعلق
بالأعيان، فلا بُدّ من تقريبه من الرهون، وشرط صحتها القبولُ من
المرتهن.
ويجوز أن يقال: إنما يفتقر إلى القبول إذا جرى على صيغة الرهن، فأمّا
إذا وقع الضّمان مصرّحاً به، فلا حاجة إلى ذلك. وقد تختلف الشرائط
باختلاف الألفاظ، وإن اتحد المقصود؛ فإن المذهب أن الإبراء لا يفتقر
إلى القبول. ولو قال مستحق
(6/214)
الدين لمن عليه الدين: وهبت منك الدين الذي
لي عليك، فالأصح افتقارُ ذلك إلى القبول (1).
وقد نجز الكلام في رهن المستعار على أبلغ وجه في البيان.
فصل
[قال: " والخصمُ فيما جُني على العبد سيدُه ... إلى آخره ".
3687 - إذا جنى جانٍ على العبد المرهون، فقد] (2) قال الشافعي: "
الخصمُ فيما جُني على العبد سيده، فإن أحب المرتهن، حصر خصومتَه، فإذا
قُضي له بشيء، أخذه رهناً " (3) هذا لفظُ الشافعي. فنقول: إذا جُني على
العبد المرهون جناية، نُظر فيها: فإن كان موجَبها مالٌ، فقد تضمنت
الجنايةُ إتلاف مالية، وتضمنت فواتَ حق الوثيقة للمرتهن في ذلك الفائت،
فافتتاحُ الخصومة للمالك؛ فإن الأصل هو الملك، وحق الرهن متفرع عليه،
وإذا بدأ المالك الخصومة، لم يزاحمه المرتهن، فإذا ثبت حق الملك، ابتنى
عليه حقُّ الرهن.
فإن قيل: لم لم تثبتوا للمرتهن حقَّ المخاصمة، وهو يخاصم المالك، وتدور
بينهما الدعوى واليمين والرد؟ قلنا: هو كذلك، ولكن المالك في صورة
الجناية أولى بالخصومة. وفي قيامه بها ثبوت حق المرتهن، فإذا كان حق
المرتهن لا يتعطل، قدمنا المالك؛ حتى قال المحققون: لو امتنع المالك من
الخصومة، انتهض المرتهن خصماً، وتوصل إلى ثبوت حقه، وليس هذا كما لو
افترضه (4) السائل من مخاصمة المرتهن المالكَ؛ فإن تلك الخصومة لو
تركها المرتهن، والراهن على إنكاره، لم يقم فيها غيرُ المرتهن مقامه،
بخلاف ما نحن فيه. نعم لو ترك
__________
(1) يشير إلى أن الإبراء وقع بلفظ الهبة، فكان الأصح افتقاره إلى
القبول رعاية للفظ الهبة.
(2) ما بين المعقوفين ساقط من الأصل.
(3) ر. المختصر: 2/ 215.
(4) في (ت 2)، (ص): " كما فرضه ".
(6/215)
المالك الخصومة، فلا جرم نقول للمرتهن أن
يخاصم حتى لا يتعطل حقه.
قال الشافعي: " ولو عفا المرتهن كان عفوه باطلاً ". وتفصيل القول في
هذا أن المرتهن لو أبرأ الجاني عن أرش الجناية، فإبراؤه باطل؛ لأن
الإبراء إنما يصح من مالكٍ مطلق التصرف، والمرتهن ليس مالكاً؛ فلم يصح
إبراؤه.
3688 - وتمام البيان في هذا الفصل ما نذكره، فنقول: أطلق المراوزة
القولَ بأنّ أرش الجناية لا يتصف بكونه مرهوناً؛ فإنه دين، والديون لا
تكون مرهونة، كما قدمنا ذلك في صدر الكتاب، وألحقوا مصير العين
المرهونة بسبب الإتلاف ديناً في ذمة المتلِف بأنقلاب العصير خمراً، ثم
رأَوْا تفصيلَ المذهب إذا قبض الدينَ، وتعيّن بالقبض، كتفصيله إذا
انقلبت الخمر خلاً.
وذكر العراقيون عن بعض الأصحاب أن الدين وإن كان لا يجوز تقديره
مرهوناً ابتداءً، فإذا استقر الرهن على عينٍ وجنى عليها جانٍ، فالدين
اللازم بسبب الجناية على العين مرهون، وليس كالخمر؛ فإن الدين مملوكٌ،
والخمر ليست مالاً، والدين مترتب على عين، حيث انتهى الكلام إليه،
ومصيره إلى عين، إذا قُدِّر استيفاؤه.
هذا ما حَكوه في ذلك.
ثم قالوا: إذا قال المرتهن: عفوت عن حقي من الوثيقة، أو أسقطت حقي
منها، والمسألة مفروضة فيه إذا أتلف الجاني المرهونَ، فقال المرتهن قبل
استيفاء الحق من الجاني ما قال، فيسقط حقه، وإذا استوفى الدينَ (1)،
فلا حق له فيه. ولو قال المرتهن: أبرأتك عما عليك أيها الجاني، فإبراؤه
لا يتضمن سقوطَ الدين، ولكن هل يتضمن سقوط حقه من الوثيقة إذا استوفى
الأرش؟ ذكروا وجهين: أحدهما - أن حقه لا يسقط؛ فإنه لم يتعرض للتنصيص
على إسقاطه، وإنما أسقط الدين، وليس له إسقاطه، فلو سقط حق الوثيقة،
لكان مرتباً على سقوط الأصل، وإذا لم يسقط الأصل، لم يسقط ما يترتبُ
عليه هذا طريقهم.
__________
(1) المعنى: إذا استوفى المالك الدينَ -ويعني به هنا الأرش الذي تعلق
بذمة الجاني- من الجاني، فليس للمرتهن حق في الاستيثاق به؛ إذ أسقطه
بقوله هذا.
(6/216)
وكان شيخي يقول: إذا قال المرتهن: أسقطت
حقي من الرهن أو أبطلت وثيقتي، وكان الرهن قائماً، فهذا فسخ منه للرهن،
وللمرتهن أن يفسخ الرهن؛ فإن الرهن في جانبه جائزٌ، ولم يتعرض لصورة
الدين. ونصُّ الشافعي دليل على أن المرتهن إذا أبرأ الجاني، فإبراؤه
لغوٌ، وعفوه باطل، وهذا يتضمن بقاء حقه.
أما الراهن لو أبرأ الجاني عن الأرش، فقد قطع الأصحاب بإبطال إبرائه؛
لحق المرتهن؛ فإنا وإن لم نطلق القول بكون الأرش مرهوناً قبل
الاستيفاء، فلسنا ننكر تأكُّد حق المرتهن فيه، فالإبراء في الدين (1)
بمثابة الهبة في العين، ولو وهب الراهن العين المرهونة، لم يختلف
المذهب في بُطلان هبته، وإنما تردُّدُ الأقوال في العتق والاستيلاد،
كما تقدم.
ثم قال الأصحاب: لو كانت الجناية على العبد المرهون موجبةً للقَصاصِ،
فللرّاهن حقُّ الاقتصاص، وقد تكرر هذا، فلو عفا الراهن على مالٍ، ثبت
المال، وتعلق حق المرتهن به، وإن عفا على غير مالٍ، ترتب على موجب
العمد، ونزل عفوه منزلة عفو المفلس المحجور عليه. وقد أشرنا إلى ذلك
وأحلنا استقصاءه على كتاب الجراح.
فصل
قال: " وأكره أن يرهن المشركَ المصحفَ ... إلى آخره " (2)
3689 - أراد بالكراهية التحريمَ. والقولُ في بيع المصحف والعبد المسلم
من الكافر قد تقدّم استقصاؤه في كتاب البيع، وبينا المذهب فيه على أكمل
بيان. والرهن على الجملة مرتَّب على البيع، وهو أولى بالجواز، وإذا
منعنا بيع السلاح من الحربي، ففي رهنه منه وجهان، وبيعُ السلاح من
الذمي ورهنُه جائز؛ مات رسول الله
__________
(1) يريد بالدين أرش الجناية، وهذا يؤكد صحة تفسيرنا في التعليق
السابق.
(2) ر. المختصر: 2/ 215.
(6/217)
صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهون عند [أبي
الشحم] (1) اليهودي.
وقد نجز البابُ في (السواد) (2) وانسل عن ضبطنا في الأصول مسائلُ، ونحن
نوردها فروعاً، ومنها ما أورده المشايخ، ولا اختصاص له بالرهن، ونحن
نتأسى بهم.
فرع:
3690 - إذا أقر المرتهن بأن العبد المرهون قد جنى، وكذبه الراهن،
فالقول قول الراهن في نفي الجناية، فإذا بيع العبد في الرهن، وسُلِّم
الثمن إلى المرتهن عن حقه، فجاء المقَرُّ له بالجناية، وقال للمرتهن قد
أقررتَ لي بأرش الجناية، والآن قبضتَ الثمن، فسلمه لي. قال صاحب
التقريب: ليس للمقَرّ له ذلك؛ فإنا إن جوزنا بيع الجاني، فهذا الثمن
مسلم إلى المرتهن بحق، ولو ثبتت الجناية، لم يثبت للمجني عليه على قول
جواز البيع إلا بيعُ العبد، فأمَّا التعلُّق بثمنه، فليس يثبت له، وليس
كما لو قُتل العبدُ الجاني واستوفيت قيمته (3)؛ فإن حق المجني عليه في
قيمته، كحقه في رقبته، فإن القيمة تخلفُ العين؛ حتى كأنها خلافة خِلقة،
ولا حاجة فيها إلى اختيار مقابلة وإثبات معاوضة، فأما ثمن البيع، فلا
حظ للمجني عليه فيه إجماعاً. فإن فرض البيع بإذنه على قولنا: لا ينفذ
البيع
__________
(1) في النسخ الثلاث: " أبي شحمة " وهو تصحيف صوابه ما أثبتناه من نص
الحديث. وقد ورد هذا الاسم في أول كتاب الرهن مصحفاً في نسخة (هـ 2)،
(ص)، وصواباً في نسخة (ت 2)، وقد نبه الحافظ في التلخيص إلى هذا
التصحيف، وهو قد أخذه عن ابن الملقن في البدر المنير: 6/ 629 حيث قال:
" ووقع في نهاية إمام الحرمين في كتاب الرهن قُبيل باب الرهن والحميل
بنحو ورقتين تسمية هذا اليهودي " بأبي شحمة " ا. هـ. وكان التصحيف في
نسخة النهاية التي كانت بيد ابن الملقن كان في هذا الموضع دون الموضع
الأول. وهذا هو السرّ في أنه أحال إلى هذا الوضع؛ فالتصحيف لم يكن في
كل نسخ النهاية، ولم يكن في كل موضع.
(2) السواد. تكرر هذا اللفظ مراراً. وهو معهود في كلام الأئمة
السابقين، يريدون به (الأصل) أو (المتن). وهذا المراد هنا، فهو يعني
مختصر المزني، الذي جعل هذا الكتاب بسطاً لألفاظ الشافعي وعباراته
الواردة في هذا المختصر.
(3) صورته أن يرتكب العبد المرتهن جنايةً، ثم قبل أن يباع فيها يجني
جانٍ على هذا العبد فيقتله، فيستوفي السيد قيمته من الجاني القاتل،
فيتعلق حقُّ المجني عليه -الذي جنى عليه العبد قبل أن يُقتل- بقيمة
العبد، بعد أن كان متعلقاً برقبته التي فاتت بقتله.
(6/218)
دون إذنه، فهو بمثابة بيع الرهن بإذن
المرتهن في حقه الحال.
هذا إن قدرنا جوازَ بيع الجاني.
وإن لم نجوز بيعَه، فالثمن الذي في يد المرتهن ملكُ مشتري العبد
الجاني، ولا حظ للمجني عليه فيه، فينتظم منه أن المقَرَّ له بالجناية
لا يرجع على المرتهن بسبب قبضه ثمن العبد الذي أقر المرتهن بجنايته.
وهذا واضح.
فرع:
3691 - ذكر صاحب التقريب في خلل الكلام مسألةً في الجنايات لا اختصاص
لها بالرهن، فنسردُها على وجهها، ونقول: لو جنى رجل على بهيمة، وكانت
ماخضاً (1)، فأَجْهَضَتْ جنينَها، وكان الجنين حيَّاً لما انفصل
متأثراً بالجناية، فمات على القرب. ذكر قولين فيما يلزم الجاني في هذه
الصورة: أحدهما - أنه يلزمه قيمةُ الجنين حيَّاً، ولا يلزمه أكثرُ من
ذلك.
القول الثاني - أنه يلزمه أكثرُ الأمرين من نقص الأم بالولادة
والإجهاض، أو قيمةُ الجنين، فأيهما كان أكثر، فهو الواجب.
ثم قال صاحب التقريب: والقولان فيه إذا لم يظهر بالأم شَيْنٌ سوى
الولادة، وكان للجنين لو بقي حيَّاً قيمةٌ، [فإذا مات] (2)، فالنظر إلى
الأكثر في أحد القولين.
والواجب قيمة الولد في القول الثاني.
وقد ذكر العراقيون هذين القولين على هذا الوجه.
والذي يجب الاعتناء به في المسألة فهمُ صورتها، وفيها يبينُ مثارُ
القولين، فالبهيمة وهي ماخض تساوي مائة، وإذا ولدت صارت تساوي تسعين،
ولم يظهر فيها نقص إلا أن الولد زايلها، فكانت مع الولد تساوي مقداراً
ودونه تساوي أقلَّ منه، لمزايلة الولد، لا لعيب أحدثه الولادة، ثم
انفصل الولد حياً، وعليه أثر الجناية،
__________
(1) مَخِضت المرأة، وكل حامل من باب تعب: دنت ولادتها، وأخذها الطلق،
فهي ماخض (بغير هاءٍ). (مصباح).
(2) في الأصل: وإذا مات، وفي (ت 2)، (ص): " فأما إذا مات " والمثبت
تصرف من المحقق.
(6/219)
ومات. فلو أوجبنا قيمة الولد، وأوجبنا [ما
انتقص] (1) من قيمة الماخض بسبب الولادة ومزايلة الولد، لكان ذلك
تضعيفاً في الغرامة، والولد صار أصلاً بنفسه، فعسر الجمع بين الوجهين.
وتردّدَ القولُ، فقال الشافعي في قول: " أنظر إلى الولد؛ فإن تعطيله
صعب، وأوجب قيمته " وقال في القول الثاني: " أُوجب الأكثرَ من نقص الأم
بسبب مزايلة الولد وقيمة الولد، فأيهما كان أكثر أوجبته ". هذا بيان
القولين.
3692 - قال العراقيون: إذا كانت البهيمة مرهونة، وجرى ما وصفناه؛ فإن
أوجبنا قيمة الولد، لم يكن ذلك رهناً، وإن أوجبناالأكثر، فقيمة الولد
لم تكن رهناً أيضاًً، وإن أوجبنا ما نقص من قيمة الأم بسبب مزايلة
الولد، كان ذلك رهناً.
وهذا فيه نظر، والوجه تخريجه على أَنَّ الحمل الموجود يومَ الرهن هل
يدخل تحت الرهن؟ فإن قُلنا: إنه داخل، فيجب أن يكون المأخوذ من الجاني
رهناً كيف كان؛ فإنا على هذا القول كنا نبيع الولدَ لو بقي في الرهن.
وإن قلنا: الرهن لا يتعلق بالجنين الموجود حالةَ الرهن، فإن أوجبنا
قيمة الولد، لم يكن (2) رهناً، وإن أوجبنا نقصانَ الولادة، فالمسألة
محتملة، ويظهر خلاف ما قالوه؛ فإن ذلك النقصان لم يكن إلا لمزايلة
الولد، ولم تتغير صفتها، ويجوز أن يتخيل ما ذكروه بناء على أصلٍ، وهو
أن الحمل لو بقي إلى البيع، لبعنا الأم حاملاً، ولصرفنا الثمن إلى
الدين، إن لم يزد على مقداره، فمزايلة الولد تخرم هذا الوجه.
والأصح عندي أنه لا يكون رهناً؛ فإن المزايلة قد وقعت.
فرع:
3693 - إذا دفع الراهن والمرتهن الرهن إلى عدلين وفوضا إليهما الحفظَ
مطلقاًً، فلو أن أحدهما سلم الرهنَ إلى الثاني كَمَلاً، وفوض إليه
الاستقلالَ بالحفظ، فهل يكون بذلك متعدياً؟
__________
(1) في الأصل: ما لا ينقص.
(2) في (ص)، (ت 2): كان رهناً.
(6/220)
ذكر ابن سريج فيما حكاه العراقيون وجهين:
أحدهما - أنه يكون متعدياً؛ فإنه لم يثبت لواحدٍ منهما الاستقلال
بالحفظ، فإذا أثبت أحدُهما ذلك لصاحبه، كان على خلاف موجب الاستحفاظ.
والوجه الثاني - أنه لا يكون المسلِمُ إلى صاحبه متعدياً، وكذلك لا
يكون المستقلّ متعدياً؛ فإن استحفاظهما يشعر في الظاهر بقيام كل وَاحد
منهما بحق الحفظ، لو لم يكن صاحبه حاضراً؛ فإن اعتقاد اجتماعهما أبداً
على الحفظ -وهو أمر دائم- بعيدٌ.
والألفاظ المطلقة تؤخذ من موجَب العرف، وليس كما لو فرضَ الوصايةَ إلى
رجلين، فإن التصرفات لا يستقل بها أحدُهما دون الثاني؛ فإن الاجتماع
على تصرف يقع في الأوقات ليس متعذراً، فحَمْل الأمرِ على اشتراكهما،
وصدور التصرفِ عن رأيهما ليس بعيداً، بخلاف دوام الحفظ.
ثم إذا أثبتنا عند إطلاق الاستحفاظ لكل واحد منهما رتبةَ الاستقلال،
فلو تنازعا،
فليس أحدُهما أولى من الثاني. فإن أمكن الاشتراك في إثبات اليد، فلا
مَعْدَل عنه.
وإن عسر، وقد تنازعا، ورأى القاضي أن يقسم العين بينهما -وكانت قابلةً
للقسمة- فله ذلك؛ فإنا إذا كنا نثبت لكل واحد منهما الاستقلالَ بالحفظ،
فلا يمتنع بسبب النزاع أن ينفرد كل واحد منهما بحفظ البعض.
وإن قلنا: لا يثبت لكل واحد منهما رتبة الاستقلال -وهو المذهب عند
المراوزة- فلا سبيل إلى قسمة العين بينهما؛ فإنا لو فعلنا ذلك، لكنا
مخصصين كل واحد منهما بالانفراد في بعض العين، وهذا يخالف موجَبَ
الاشتراك.
فرع:
3694 - قال ابن سريج لو سلما الرهنَ إلى عدلٍ، ووكلاه ببيعه عند محِل
الحق، وكانت العين من ذوات الأمثال، فأتلفه أجنبي، وغرم المثل. قال ابن
سريج: يسلّم إلى العدل بحكم الاستحفاظ الأول، وإذا حل الحق، لم يبعه
إلا بإذن جديد.
أما قوله: لا يبيعه إلا بإذن جديد، فصحيح. وأما قوله: يحفظه العدل من
غير
(6/221)
استحفاظٍ جديدٍ، فهذا لا وجهَ له أصلاً؛
فإن العين قد تبدلت، وتقييده بالمثل يشعر بأنه لا يقول ذلك في قيمة
المتقومات.
وكل ذلك خبطٌ غيرُ معدودٍ من المذهب. ولعل ابنَ سريج تخيّل في الفرق
بين الحفظ والبيع أمراً، وهو أن العدل إذا استحفظه الراهن والمرتهن، لم
يكن لكل واحد منهما أن يعدل عنه، فكأن الحفظ صار في حكم المستحق
المتعيّن في حق هذا العدل، فإذا فرض التلف والاستحقاق في الحفظ إذا
تمَّ (1)، لم يبعد أن يقوم البدل مقام التالف. والإذن في البيع ليس
كذلك؛ فإن من صرفه من الراهن والمرتهن ينعزل، فليس البيع مستحقاً
متعيناً في حق العدل. فهذا إن ثبت، فلا فرق فيه بين المتقوم والمثلي.
والظاهر عندي أنه لا بد من استحفاظ جديدٍ؛ لأن العين قد تبدّلت.
فرع:
3695 - إذا استعار رجل عبداً من شريكين، فرهنه، ثم أدى نصف الدين على
قصد أنه يفك به نصيب زيدٍ من الشريكين، فهل ينفك نصيبه؟ أم لا ينفك شيء
من الرهن ما بقي من الدين شيء؟
ذكر العراقيونَ قولين، ولهذا أمثلةٌ ستأتي في الكتاب، إن شاء الله عز
وجل.
فإن قلنا: لا ينفك، فلا كلام. وإن قلنا: ينفك حصته من الرهن، نُظِر:
فإن كان المرتهن عالماً بحقيقة الحال، فلا خيارَ له. وإن كان جاهلاً،
ولم يَدْرِ صدَرَ (2) الرهن في شركة، فهل له الخيار؟ ذكروا وجهين:
أحدهما - له الخيار. وهو الذي قطع به الشيخ أبو محمد، ووجهه بيّن.
والوجه الثاني - أنه لا خيار له؛ فإن الذي بدا ليس عيباً بالمرهون،
والحال لا يطرد على نسق واحدٍ في الاتحاد، فلا خيار.
ولعل الأشبه في هذا أن المرتهن إن لم يعرف كونَ العين مستعاراً (3)،
تخيَّر، وإن علمه مستعاراً، فلا ضبط لمن يستعار منه.
__________
(1) في (ت 2)، (ص): " والاستحقاق في الحفظ دائم ".
(2) صَدَرَ: بثلاث فتحات بمعنى "صدور"، وتد تكررت إشارتنا إلى شيء من
ذلك قبلاً.
(3) كذا "مستعاراً" بالتذكير. على تأويل "الرهن".
(6/222)
ويجوز أن يقال: الغالبُ الاتحاد في السادة،
ويبعد في الوقوع العبد المشترك إلا
في المواريث والتجاير بين الشركاء.
والوجه إثبات الخيار، كما قاله الإمام.
فرع:
3696 - قال العراقيون: إذا رهن رجل جاريةً، فعلقت بمولود رقيقٍ من
بعدُ، فجنى جانٍ عليها، فَأَجْهَضَت، ونقصت بسبب الإجهاض نقصاناً
عائداً إلى صفتها، زائداً على مزايلة الولد، فإذا التزم الجاني بدلَ
الجنين، لم يكن رهناً؛ فإن الولد طارىء، وليس للمرتهن بسبب نقصان
الجارية شيء؛ فإن نقصانها يندرج تحت بدل الجنين، وبدل الجنين خارج عن
الرهن، فنقصان الجارية في حق المرتهن بمثابة النقصان بآفة سماوية. وهذا
حسن لطيف.
فرع:
3697 - إذا قُتل العبد المرهون، فجاء إنسان، وقال: أنا قتلته. فإن صدقه
الراهن والمرتهن غرّمناه القيمةَ، ووضعناها رهناً. وإن كذباه، لم يخفَ
الحكم. فإن كذبه المرتهن وصدقه الراهن، غرِم القيمةَ، وفاز بها الراهن؛
فإن المرتهن أنكر حقه فيها.
وإن صدقه المرتهن، وكذبه الراهن، فتؤخذ القيمةُ وتجعل رهناً في يد
المرتهن.
ثم إذا حلَّ الدينُ وقضى الراهنُ الدينَ من موضع، آخر، فترد تلك القيمة
على المُقِرِّ بالجناية؛ فإن الراهن منكر لاستحقاقه.
وفي هذه المسألة وأمثالها خلافٌ، ولكنا جرينا على الأصح.
وقد نقول: نضع تلك القيمة عند الوالي، ويعتقدها مالاً ضائعاً.
فرع:
3698 - قال صاحب التقريب: إذا خلّى الراهن بين المرتهن وبين الرهن
المشروط في البيع، فامتنع من قبضه، فهل يجبره القاضي على قبضه؟ فعلى
وجهين: أحدهما - أنه يُجبر؛ حتى ينقطع خياره في فسخ البيع. وقد تتلف
تلك العينُ المعينة قبل القبض وقد تعيب (1).
__________
(1) عَابَ يعيب عيباً من باب سار. إذا صار ذا عيب. (المعجم والمصباح).
(6/223)
والوجه الثاني - أنه لا يجبر على القبض،
ولكن، إن امتنع من القبض، أبطل القاضي خيارَه في فسخ البيع. اهـ (1).
* * *
__________
(1) هنا انتهت نسخة (ت 2) (الجزء التاسع منها) وجاء في نهايته ما نصه:
"تم الجزء العاشر بحمد الله وعونه، وحسن توفيقه، وصلى الله على محمد
نبيه وعلى آله وصحبه وسلم، وشرف وكرم وعظم.
يتلوه في الجزء الحادي عشر - إن شاء الله: باب في الرهن، والحميل في
البيع ".
هذا وقد أخطأ الناسخ في قوله: "تم الجزء العاشر" وإنما هو التاسع كما
دُونَ على غلافه، وكما جاء على غلاف التالي أيضاًً أنه العاشر.
(6/224)
باب (1) في الرَّهْن وَالحَمِيلِ (2) في
البيع
ذكر الشافعي، رحمه الله في أول الباب أن الرهن أمانة، وتعلق بطرق من
الحجاج، وسيأتي في ذلك باب، ثم قال: " فلو باع رجل شيئاًً على أن يرهنه
به من ماله ... إلى آخره " (3).
3699 - شرط الرهن جائز في البيع، وإن كان مطلقُ العقد لا يقتضيه، ولكن
لما كان من مصلحة العقد، عُدَّ شرطه (4) جائزاً، وكذلك شرط الضمان
والإشهاد، فهذه الوثائق الثلاث يجوز شرطها في البيع، وذكر الشافعي
لفظاً في صدر الفصل، نذكر ما فيه أولاً، ثم نخوض في مقصود الباب.
ظاهر لفظه يدل على أن البائع إذا قال: بعتك عبدي هذا بألفٍ على أن
ترهنني دارَك هذه، فقال المشتري: اشتريت ورهنت، فالرهن ينعقد من غير
قبول يصدر من البائع، ومقتضى كلامه دليل على إقامة شرط البائع في الرهن
مقام قبوله، من غير احتياج إلى شيء آخر. وقد صار إلى هذا طوائف من
أصحابنا.
والأصح الذي ارتضاه المحققون أن الرهن لا ينعقد مالم يذكر البائع بعد
إيجاب المشتري الرهن قبولاً له، ولا يقع الاكتفاء بالشرط الذي يقدَّم؛
فإن الرهن عقد مفتقرٌ إلى الإيجاب والقبول، فلا بد منهما، وليس شرط
الرهن بمثابة استدعائه؛ فإنا على قول صحيح نقيم استدعاءَ العقد من أحد
الجانبين، مع الإيجاب من الجانب الثاني مقام
__________
(1) تستمر نسخة (ت 2) في جزئها العاشر. فتبقى النسخ ثلاثاً، كما سيظل
الأصل هو نسخة (هـ2).
(2) الحَمِيل: بفتح المهملة وكسر الميم: الكفيل (الزاهر).
(3) ر. المختصر: 2/ 215.
(4) في (ت 2): شرطاً.
(6/225)
شقي العقد؛ وليس الشرط في معنى الاستدعاء؛
إذ صيغةُ الاستدعاء: أن يقول: ارهن مني دارَك هذه بألفٍ، فإذا قال:
رهنتكها بالألف، كفى ذلك، على الصحيح.
ومن قال بظاهر النص، احتج بأن الرهن وإن كان عقداً قائماً، يتعلق (1)
بالبيع من جهة الشرط، فيجوز أن يقوم الشرطُ فيه شِقّاً، بخلاف العقد
الذي لا يكون مشروطاًً في عقد، وهذا ضعيف.
فإن قيل: كيف تُؤوّلون ظاهرَ النص؟ قلنا: ليس التعرض للإيجاب والقبول
من مقاصد الفصل؛ فلم يفصله الشافعي؛ فالقبول مضمرٌ معنى، وإن لم يصرح
به.
3700 - ثم إنما يصح شرط الرهن إذا عُيِّن، ولا يسوغ اشتراطُ رهنٍ
مطلقاًً وفاقاً، ولو شُرط رهنٌ على الجهالة، كان الشرط فاسداً. وعند
ذلك يختلف القول في فساد البيع، كما سيأتي، إن شاء الله تعالى.
وكذلك إذا كان يشترط في العقد ضميناً بالثمن، فلا بد من تعيينه؛ فإن
الأغراض تختلف بمراتب الضمناء.
وإذا شرط رهناً معيناً، فهل يشترط بيان من يوضع على يديه، فوجهان:
أحدهما - لا بد من ذلك؛ فإن الغرض يختلف به. ومنهم من قال: لا يشترط،
لأن الرهن هو الوثيقة، وهو متعين لا جهالة فيه، وظاهر النص مع الوجه
الأول.
وإن فرعنا على الثاني، فإن اتفقا على يد عدلٍ أو على يد المرتهن، فذاك.
وإن تنازعا، رفع الأمرُ إلى الحاكم؛ حتى يعيِّن عدلاً، ويقطع الخصومة
بينهما. فإن عين رهناً، فلم يفِ المشتري برهنه، ثبت الخيار للبائع في
فسخ البيع، وكذلك إذا كان عيّن كفيلا في شرطه، فامتنع ذلك الشخص من
الكفالة، تخير البائع. ثم إذا ثبت الخيار في البيع، فإن فسخ فذاك، وإن
أجاز، ورضي، لزم العقد، ولم يتخير المشتري. وقال مالك يتخير المشتري،
وتعرَّض الشافعي للرد عليه بما لا نحتاج إلى ذكره.
__________
(1) جملة " يتعلق " في محل نصب صفة ثانية لـ" عقداً ".
(6/226)
فصل
قال الشافعي: " ولو كانا جهلا الرهن والحميل، فالبيع فاسد ... إلى
آخره" (1).
3701 - قد ذكرنا أن الوثائق ثلاث: الرهن، والكفيل، والشهادة، أما الرهن
والكفيل، فلا بد من تعيينهما، وأما الشهادة، فلا يشترط تعيين من يتحمل
الشهادة؛ وذلك أن الأغراض تختلف على الجملة باختلاف الرهون والضمناء،
فأما الشهادة، فالغرض منها أن يتحمل عُدُولٌ العقدَ أو الإقرار به،
وهذا لا يختلف باختلاف العدول، واتفق أصحابنا عليه، فلا يشترط إذن
تعيين الشاهد.
ولكن لو عين العاقد شهوداً في شرطه، فهل يتعينون كالرهن والكفيل، فعلى
وجهين: أحدهما - يتعينون كالرهن والكفيل، فإن لم يشهد المتعينُ، تخير
الشارط.
والثاني - لا يتعينون، وإن عُينوا شرطاً؛ إذ لو تعينوا، لوجب شرطُ
تعيينهم كالرهن والكفيل.
ثم قال الأئمة: إذا حكمنا بأنهم لا يتعينون، وألغينا شرط التعيين، فلا
يفسد العقد بهذا؛ من جهة أنا أخرجنا تعيين الشهود من مقاصد العقود، وكل
شرط لا يتعلق بمقصود العقد، ففساده لا يبطل العقد، كما لو قال: بعتك
هذا العبد على أن يلبس الخز، وما في معناه من الشرائط اللاغية.
ثم إذا لم يتعين الشهود، فلا يبعد أن يقال: ينبغي أن يأتي المشروط عليه
برجالٍ يقربون من المعينين في الصفات المقصودة في الشهادة، حتى لا
يكتفي بإشهاد أقوام يظهر انحطاطهم عنهم. والعلم عند الله تعالى.
3702 - ثم إذا شُرط في العقد رهن مجهول، أو كفيل من غير تعيين، فقد
ذكرنا فساد الشرط. ثم إذا فسد الشرط، ففي فساد البيع قولان: أحدهما -
يبطل كسائر الشروط الفاسدة. والثاني - لا يفسد البيع؛ لأن الرهن عقدٌ
مبتدأ ينفصل عن البيع. وقد يتأخر
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 215.
(6/227)
عقدُ الرهن عن عقد البيع، فليس إذن هو صفة
في البيع، فلا يفسد البيع بفساده. والصداق لما لم يتأصل ركناً في
العقد، وتصور انفراد النكاح عنه، لا جرم لم يفسد النكاح بفساده.
فإن قيل: لم قطعتم بذلك في الصداق، وجعلتم المسألة على قولين في شرط
الحَميل والرهن؟ قلنا: في الصداق قولٌ ضعيف أيضاًً سيأتي في موضعه، إن
شاء الله تعالى؛ ثم الرَّهن إذا كان مجهولاً، صار الثمن مجهولاً؛ فإنه
متعلَّق الثمن، وجهالة الثمن تُبطل العقد. وهل يرد على هذا شرط الرهن
الصَّحيح؛ فإنه إذا انضم إلى الثمن، كان زيادة، وليست مضبوطة، فكأن
العين مبيع بألفٍ وشيء. قلنا: إذا كان الرهن معلوماً، فليس يخفى وقعه،
ثم هو كالأجل والخيارِ في أنه من مصالح العقد، فاحتمل شرطه، ولا ضرورة
في شرط المجاهيل، كما ذكرناه في الأجل.
فصل
ولو قال: " رهنتك أحدَ عبديَّ ... إلى آخره " (1).
قد ذكرنا أن هذا مجهول، وشرط الرهن المجهول فاسد.
ثم قال: " لو أصاب المرتهن بعد القبض بالرهن عيباً ... إلى آخره " (2).
3753 - إذا اختلف الراهن والمرتهن بعد قبض الرَّهن في عيبٍ كان بالرهن،
فقال الراهنُ: حدث العيب في يدك، وقال المرتهن: بل كان قديماً في يدك،
فالقول قول الراهن، كما قدمناه في اختلاف المتبايعين. وهذا إذا لم
تكذِّب المشاهدةُ أحدهما، فلا يخفى حكمه إن كان كذلك. ثم إن كان الرهن
مبتدأ غير مشروط، فلا أثر للعيب فيه؛ فإن المرتهن لو أراد أن يفسخ
الرهن من غير عيب، كان له ذلك، وإنما مسائل عيوب الرهن فيه إذا كانت
مشروطة في البيع، فإذا فُرض الرهن مشروطاًً في البيع، ثم اطلع المرتهن
على عيبٍ قدبم به، كان له أن يفسح البيع، ولا يتأتى ذلك منه، ما لم
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 215. وفيه: " أرهنك ".
(2) السابق نفسه.
(6/228)
يردّ الرهنَ، ففائدة الاطلاع على عيب
المرهون ردُّ البيع.
ولو قال: لست أفسخ البيع، ولكني أردّ الرهن. قيل له: لا فائدة في ردك
إذاً (1) إلا فسخ الرهن، ولو لم تطلع على عيب، لكنتَ متمكناً من فسخ
الرهن.
3704 - ولو كان الرهن مشروطاًً في البيع، فقبضه المرتهن، وتلف في يده،
ثم اطلع على عيب قديم به، فالرد بعد التلف غيرُ ممكن في المبيع والثمن،
ولكن يثبت للمطلع على العيب الرجوع بأرشه عند تعذر رده. والأرش لا معنى
له في الرهن؛ فإن معناه في البيع الرجوعُ بقسطٍ من العوض المقابل
للمبيع الفائت، والمرهون لا عوض له حتى يُفرضَ الرجوعُ في قسطٍ منه،
فإذا لم يكن الرجوع ممكناً، فهل يثبت للمطلع على العيب حقُّ فسخ البيع؟
فعلى وجهين: أحدهما - لا يثبت؛ فإن حق الفسخ مرتب على رد الرهن، فإذا
عسر رده، ولم يمكنّا أن نثبت للعيب أرشاً، فلا وجه إلا سدُّ باب الرد
وإلزامُ البيع.
والوجه الثاني - أنه يرد البيعَ ويفسخه ويقول: استحققت بالشرط رهناً
سليماً، فلم يتفق الوفاء به، فكأنك لم ترهن عندي، ولو شرط (2) البائع
رهنَ عبدين عيَّنَهما، فرهنَ المشتري أحدهما دون الثاني، فللبائع فسْخُ
العقد بنقصان الصفة (3)؛ من حيث إنه يؤثر في المقصود بمثابة نقصان
العين.
والقائل الأول يقول: شُرط للبائع رهنٌ معين، فوفَّى المشتري به، فلم
يوجد من جهته تأخير وتقصير يكون به غير موفٍ بالشرط، ثم تعذر الرَّدُّ،
فَفَسْخُ عَقْده بعيد.
وليس كما لو شرط رهن عبدين، فلم يف بأحدهما. وهذا يتوجه عليه أن الرد
ثبت إذا
__________
(1) في (ت 2)، (ص): للإذن.
(2) هذا استمرار لتوجيه الوجه الثاني القائل بأن له أن يفسخ البيع إذا
اطلع على عيب قديمٍ بالمرهون، فهي ليست صورة مستقلة.
(3) في الكلام حذفٌ، والتقدير: ولو شرط البائع رهْن عبدين عيّنهما،
فرهن المشتري أَحدَهما دون الثاني، فللبائع فسخ العقد، هذا لا خلاف
فيه، فكذلك له فسخ العقد بنقصان الصفة عند اطلاعه على عيب قديم من حيث
إنه يؤثر في المقصود تأثير نقصان العين عندما رهن أحد العبدين دون
الثاني.
(6/229)
كان المرهون باقياً، ولا يقال: قد وفى
المشتري بما شُرِط عليه في معين.
هذا بيان الوجهين.
فصل
قال: " ولو اشترط أن يكون المبيع بعينه رهناً، فالبيع مفسوخ ... إلى
آخره" (1).
3705 - إذا شرط البائع جعل المبيع رهناً بالثمن، نُفرِّع هذا على
الأقوال في أن البداية في وجوب التسليم بمن؟ فإن حكمنا بأن البداية
بالبائع، فشرطُ حبس المبيع بطريق الرهن يخالف هذا المقتضى، وإذا خالفه،
فسد، وأفسد العقدَ. وكذلك إذا قلنا: هما يجبران على تسليم العوضين، أو
قلنا: لا يجبران. ومن بدأ بتسليم العوض الذي التزمه، أجبر صاحبه على
تسليم مقابله. فإذا وقع التفريع على هذين القولين، ثم جرى في العقد شرط
رهن المبيع، فسد الشرط، وفسد البيع، من جهة أنه تضمَّن خروج البيع عن
مقتضاه، فلا يحتمل هذا.
ومن الأصول المعتمدة في البياعات أن العقد إذا كان له مقتضى عند
الإطلاق، فلا يجوز تغييره في مقتضى إطلاقه بما لا نفع فيه ولا مصلحة
تتعلق بالعقد. فأما الشرط الذي يتعلق بمصلحة العقد، فلا يجوز الاسترسال
في تجويزه، بل يُتَّبع فيه توقيفُ الشارع، كالخيار وما في معناه؛ فإن
هذه الأشياء في المعاملات كالرخص في العبادَاتِ، فلئن ثبت الرهن بنص
الكتاب والإجماع، فرهن المبيع من وجهٍ لا حاجة إليه، وهو على حالٍ
مغيرٌ لمقتضى إطلاق العقد، ولا توقيف فيه، فلا سبيل إلى احتماله.
فإذا قلنا: البداية بالتسليم على المشتري، والمبيع بحق العقد محبوس
بالثمن، فلو شرط البائع رهن المبيع عنده بالثمن، فهل يصح الشرط على هذا
القول؟ فعلى وجهين: أحدهما - يصح؛ فإنه موافق لمقتضى العقد؛ إذ مقتضاه
على هذا القول
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 216.
(6/230)
حبس المبيع بالثمن. والرهن يوافق هذا
المعنى.
والوجه الثاني - لا يجوز الشرط، ويفسد العقد به؛ لأن المبيع إذا كان
محبوساً بالثمن، فهو من ضمان البائع، والرهن لو قدر ثبوته، فمقتضاه أن
يكون المرهون أمانة في يد المرتهن، فقد اختلف موجَب الحبسين، فشرطُ
أحدهما مع الثاني طلب الجمع بين مختلفين.
ثم إن حكمنا بصحة الشرط ووفَّى المشتري به، فالمبيع يكون مرهوناً عند
البائع مضموناً عليه بحكم العقد؛ فإن ضمان العقد لا يزول إلا بالقبض،
ولا يتصور على مذهبنا مرهون يسقط الدين بتلفه إلا هذا، ولكن الثمن لا
يسقط بسبب تلف الرهن من حيث كان رهناً. وإنما يسقط بتلف المبيع من حيث
كان مضموناً على البائع.
3706 - ثم قال الشافعي: " ولو قال للذي عليه الحق: أرهنك على أن تزيدني
في الأجل ... إلى آخره " (1). إذا قال المشتري والثمن مؤجل عليه
للبائع: أزيدك رهناً، فزدني أجلاً. فنقول: الزيادة لا تلحق بالعقد؛ فلا
مطمع في حصول هذا الغرض. ويُنظر إلى الرهن الذي يزيده المشتري، فإن
أطلقه وما ذكر معه شرطاً، فالذي تقدم من الزيادة في الأجل لغوٌ، وهذا
الرهن ثابت. وإن شرط في الرهن الزيادة في الأجل، فقد ضمّن الرهنَ شرطاً
فاسداً، ففسد الرهن به.
فصل
قال: " ولو أقر أن الموضوع على يديه الرهنُ قبض الرهن ... إلى آخره ".
3707 - إذا رهن الرجل عيناً، وكانا ذكراً عدلاً. ثم قال الراهن: سلّمت
الرهن إلى العدل، وقبضه عن جهة الرهن، ثم استرددته منه بعد لزوم الرهن
للانتفاع أو غيره من الأغراض. فقال العدل: ما قبضتُ، ثبت لزوم الرهن
بقول الراهن؛ فإنه معترف على نفسه بلزوم الحق للمرتهن، فكان مؤاخذاً
بإقراره. وقوله غير مقبول على
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 216.
(6/231)
العدل، حتى لو بيع ذلك الرهن [و] (1) خرج
مستحقا، فليس لمستحقه مطالبة العدل، بناء على أن متاعه قد مر بيده؛
فإنا لم نصدق الراهن على العدل، وإنما حكمنا عليه بموجب إقراره ليثبت
حق المرتهن، وهذا هين المُدرَك في أحكام الأقارير [وما] (2) يتصل يها
من القضايا.
ولو قال لمن وكله بالبيع: قد بِعْتَ ما وكلتُك ببيعه من فلان، فإقراره
محكوم به مقبول في حق المعيَّن للشراء، ولكن لا يُقبل إقرارُه على
الوكيل إذا كان يتعلق بالوكيل ضمان أو عهدة، فلو أراد المشتري المقَرُّ
له أن يطالب الوكيل بعهدة العقد بناء على إقرار البائع له بالبيع، لم
يمكنه ذلك؛ لأن الوكيل لم يعترف بالبيع، وإقرار الموكل إنما يقبل على
نفسه للمشتري، ولا يقبل على الوكيل حتى يلزمه عُهدة.
فصل
قال المزني: " وجملة قوله في اختلاف الراهن والمرتهن أن القول قول
الراهن في الحق، والقول قول المرتهن في الرهن ... إلى آخره " (3).
3708 - أراد المزني أن يضبط الصور التي يُصَدَّقُ فيها الراهن،
والمسائل التي يُصَدَّقُ فيها المرتهن، فأتى بقول مبهمٍ لا يفهم، وأجرى
كلاماً ظاهره الفساد، ولا يجوز أن يشكل عليه وجه الحق فيه، فاجتمع
أمران: أحدهما - أنه لم يُنتفَعْ بضبطه، والآخر- أنا نحتاج إلى تأويل
اللفظ.
أما قوله: " القول قول الراهن في الحق "، فصحيح، ومعناه لو اختلفا في
قدر الحق، فقال الراهن: رهنت بخمسمائة، وقال المرتهن: بألفٍ، أو اختلفا
في الجنس، فقال الراهن: رهنت بالدنانير، وقال المرتهن: بل بالدراهم
التي لي عليك، وكانت له عليه دراهم ودنانير. فالقول قول الراهن.
__________
(1) في الأصل: أو.
(2) في النسخ الثلاث: ومما.
(3) ر. المختصر: 2/ 216.
(6/232)
وأما قوله: " القول قول المرتهن في الرهن
"، فمشكل؛ فإن الراهن والمرتهن لو اختلفا في مقدار الرهن، أو في
إقباضه، فنفى الراهنُ مقداراً عن الرهن، أو نفى الإقباضَ، فالقول في
ذلك كله قول الراهن، فلا يستدّ مطلق قول المزني، ولا بد للفظه من
تأويل، فنذكر وجهه، وهو على التحقيق مراده، وسياق كلامه دليل عليه:
فمراده أن الرهن إذا كان مشروطاًً في البيع، فالمرتهن هو البائع
والراهن المشتري، فإذا تنازعا في أصل الرهن، كان أو لم يكن، أو في
قدره، أو جنسه، فهذا اختلاف المتبايعين في صفة العقد، والحكم فيه
التحالف. ثم البداية على الأصح تقع بالبائع وهو المرتهن، فالمعني
بقوله: " القول قول المرتهن " هذا.
ويمكن أن يُفرض نزاعٌ في بعض أحكام الرهن، والقول فيها (1) قول
المرتهن: وذلك إذا اتفقا على الرهن والقبض، فقال الراهن: فسخنا الرهن.
وقال المرتهن: لم نفسخه، فالقول قول المرتهن؛ لأن الأصل أن لا فسخ.
ثم قال: "فيما يشبه ولا يشبه": وهذا رد على مالكٍ؛ فإنه يقول: لو كان
الدّين ألفاً، فقال المرتهن رهنتني هذا العبد، وقيمته ألف، فقال
الراهن: بل رهنتك الآخر، وقيمته خمسمائة. قال مالك (2): القول قول
المرتهن؛ لأن الظاهر أنه لا يرضى أن يرتهن بالألف ما يساوي خمسمائة،
وهذا الذي ذكره مالك لا عبرة به، ولا نظر إلى مقدار القيمة.
فصل
قال الشافعي: " ولو قال الرجل لرجلين: رهنتماني ... إلى آخره " (3).
3709 - إذا ادعى رجل على رجلين أنهما رهنا منه عبدهما بمائة، نُظر: فإن
صدّقاه، ثبت الرهن، وإن كذباه، فالقول قولهما مع اليمين؛ لأن الأصل عدم
الرهن. فإن صدقه أحدهما وكذبه الآخر، فنصيب المصدِّق وهو النصف رهنٌ
__________
(1) إلى هنا انتهت نسخة (ص). وهي ناقصة من آخرها. ولذا خلت من الخاتمة.
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 585 مسألة: 977.
(3) ر. المختصر: 2/ 216.
(6/233)
بخمسين إذا كان الدين مائة، ونصيب المكذِّب
خارج عن الرهن إن حلف على ما نفاه، فإن شهد المصدِّق على المكذِّب،
فشهادته مقبولة؛ فإن شهادة الشريك على الشريك مقبولة، وإنما النظر في
شهادة الشريك للشريك، كما سنذكره الآن، إن شاء الله عز وجل.
3710 - ولو ادعى رجلان على رجل أنه رهن عِندهما ثوباً (1) له. فإن
صدقهما، فذاك. وإن كذبهما، فالقول قوله مع يمينه. وإن صدق أحدهما دون
صاحبه، فالنصف رهن من المصدَّق، فإن شهد هذا المصدَّق للمكذَّب، ففي
قبول شهادته وجهان: أحدهما - أنها مقبولة؛ إذ لا جرَّ (2) في شهادته،
ولا دفع. والوجه الثاني - لا تقبل شهادته له، وهذا الخلاف في الشهادة
يبتني على أصل سنذكره في كتاب الأقارير وكتاب الدعاوى، إن شاء الله
تعالى.
والذي لا بد من ذكره هاهنا أن رجلين إذا ادعيا اتِّهابهما [عبداً] (3)
من رجلٍ، وأنه وهبه منهما وسلمه إليهما، فصدَّق المدعى عليهِ أحدهما،
وكذب الثاني فَيَسْلم من تصديقه الهبةُ في النصف، ثم ذلك النصف هل
يستبدُّ به المقَرُّ له؟ أم لصاحبه أن يقول: نحن فيما بيننا تصادقنا
وتقارَرْنا على أن الهبة جرت مشتركة إيجاباً وقبولاً وتسليماً. وقد سلم
النصف بإقراره، فليكن هذا مشتركاً؟ فيه وجهان: أحدهما - أن النصف
يَسْلم للمقرّ له لا نزاع فيه. والثاني - أن صاحبه يشاركه في النصف
الذي سَلِم. وهذا التردد يجري في كل ملكٍ وحقٍّ متلقّىً من عقدٍ على
سبيل الشيوع.
ولو اعترف بأن هذه الدار ورثتها أنا وفلان من أبينا، وكانت مجحودة،
فسلم لأحدهما بعضها، فيشركه فيها شريكُه في الميراث. وسيأتي هذا بأصله
وتفريعه.
عُدنا إلى غرضنا: إذا ادعيا على رجل أنه رهن منهما، فأقر لأحدهما، فذلك
الحاصل بالإقرار إن قلنا: يختص به المصدَّق، فشهادته مقبولة للمُكذَّب،
وإن
__________
(1) في (ت 2): عبدهما يوماً له. وانظر الشرح الكبير: 10/ 72، ففيه
المسألة نفسها بتصوير أنه رهنهما عبده هذا.
(2) أي لا تجرّ هذه الشهادة نفعا للشاهد، ولا تدفع عنه ضراً.
(3) في الأصل: عينا.
(6/234)
قلنا: يَشْركُه فيه المكذَّب؛ فشهادته
تتضمن دفعاً عن نفسه؛ فترد لذلك.
3710/ م- ولو ادعى رجلان على رجلين أنهما رهنا عبداً لهما منهما، فإن
صدقاهما، ثبت الرهن، وإن كذباهُما، فالقول قولهما مع أَيْمانهما،
والنزاع بينهم يتصور على وجوه، ولا يكاد يخفى مُدرك جميعها على متأملٍ.
ونحن نذكر أغمض الصور، فنقول: إذا ادعى بكر وخالد على زيد وعمرو أنهما
رهنا منهما عبدَهما المشتركَ بينهما، فصدَّق زيد خالداً وكذَّب بكراً،
وصدق عمرو بكراً، وكذب خالداً. وكلّ واحدٍ من زيدٍ وعمرٍو له نصفُ
العبد، وقد جمع في نصفه بين إقرار وإنكار، فيضمن بكر من جهة المقر
مُقِرّاً له بربع العبد، وهو نصف نصيب أحدهما، وكذلك الثاني. ولا غموض
لهذا.
وإنما يهاب المبتدىء هذا لما نقل بعضُ الأئمة أن ابن سريج قال: ما (1)
انتهيت إلى هذه المسألة إلا احتجت إلى إتقان (2) الفكر، حتى أثبتها على
حاشية الكتاب.
فصل
قال: " وإن كان له على رجل ألفان ... إلى آخره " (3).
3711 - إذا استحق على رجل دينين من جهتين، ومبلغ كلِّ دين ألفٌ، فإن
رهن بألفٍ في جهة مخصوصة عبداً، ثم إنَّ مَنْ عليه الدين أدى ألفاً،
وتنازع الراهن والمرتهن، فقال المرتهن: أديت الألفَ الذي لم يكن موثقاً
بالرهن، والرهن باقٍ بالألف الثاني. وقال المؤدي: بل أديتُ عن الرهن،
وفككته.
فنقول: لا شك أن الاعتبار بقصد المؤدِّي، حتى لو فرض منه قصد في أداء
دين مخصوص، ولم يُفرض من القابض قصدٌ في القبض؛ فإن المؤدَّى يقع في
حُكم الله تعالى على نحو قصد المؤدي. فإذاً تبين هذا حكماً، حتى قال
الأصحاب: لو ظن
__________
(1) في (ت 2): لما.
(2) في (ت 2): أضعاف. ولعلها: "إمعان".
(3) ر. المختصر: 2/ 216.
(6/235)
القابض أن المؤدِّي يودعه الألفَ، وأنه
مستحفظ فيه، وقصد المؤدِّي قضاءَ حقه، فالقبض يتم، وذمة المؤدي تبرأ.
وهذا فيه أدنى نظر عندي؛ فإن الإقباض شرطه التمليك، وكل من عليه الدين
إذا أداه، فكأنه يُملّك القابضَ، ويثبت له في الأعيان ملكاً؛ فإن حقه
لم يكن متعلِّقاً بعين، فإن وصل المُقبضُ فِعله بقولٍ، فذاك. وإن لم
يصله بقول، فلا يبعد أن نقول: لا بد من مَخِيلة مُملِّكة مشعرة بتسليط
القابض؛ فإن التمليك بالمبهمات غيرُ متجه.
3712 - فإذا تبين ما ذكرناه، عاد بنا الكلامُ بعده إلى طريق فصل
التنازع.
فنقول: إذا اختلف الراهن والمرتهن على ما ذكرناه، فالقول قول الراهن مع
يمينه. ولو قال: أديتُ الألفَ، وقصدت أن يكون نصفُه عن جهة الرهن،
ونصفه عن الألف المرسل، فهو مصدَّق، فإن نُوزع، يُحَلَّف.
وإن قال: لم يكن لي قصدٌ في تعيين جهةٍ، وإنما أديت الألف مرسلاً، ففي
المسألة وجهان: أحدهما - أنا نقول له: الآن اصرف الألفَ إلى أي جهة
شئت. فإن صرفه إلى الرهن، انفك. وإن صرفه إلى الآخر، بقي الرهن، وإن
قسمه عليهما، انقسم. والوجه الثاني - أن الأداء المطلق محمول على
التقسيم، فيقع عن كلّ دين قسطٌ من المؤدَّى. فإن [استويا] (1) في
المقدار يقسط عليهما بالسوية، وإن اختلفا، يقسط عليهما على تفاوت
القدرين.
ولهذا نظائر منها: أنه لو أقرض مشرك مشركا ألفاً بألفين، ثم قضاه أحد
الألفين في الشرك، ثم أسلما، فقال المؤدي: أديتُ في الشرك ما أديتُ عن
جهة الربح، فالألف قائم عليه، وهو مطالبٌ به في الإسلام. وإن زعم أن
الذي أديتُه قصدتُ به تأدية رأس المال، فهو مصدّق، وإن اتهم، حُلِّف.
وموجب تصديقه الحكمُ ببراءته؛ فإن أصل الدين قد تأدى؛ ولا ربحَ في
الإسلام. وإن زعم أني أديت الألف ولم أقصد صرفَه إلى جهة مخصوصة،
فوجهان: أحدهما - أن المؤدّى مُقسط على الربح ورأس المال. وحكم ذلك أن
يطالبه في الحال بخمسمائة؛ فإنه قد أدَّى
__________
(1) في الأصل: استوفى.
(6/236)
خمسمائة من الأصل، ولم يبق إلا خمسمائة،
ولا ربح.
والوجه الثاني - أنه يقال له: اصرف ما أديته الآن إلى ما شئت، فإن صرفه
إلى الربح، فعليه الألف التام عن جهة رأس المال. وإن صرفه إلى رأس
المال، سقط الربح، وسقطت المطالبة. وإن بعَّض قصدَه تبعّض الأمرُ، ولم
يختلف الحكم، كما قدمناه.
وكذلك لو ترابيا في الشرك درهماً بدرهمين، وأقبض الزائدُ المُفْضِلُ
أحدَهما، ثم أسلماً، فالقول في القصد والاختلاف على حسب ما مضى. وهذه
المسألة مفروضة في البيع، والأخرى التي قبلها مفروضة في القرض. ولا
فرق.
ولو وكل الرجلان رجلاً ليقتضي دينين لهما على رجلٍ، وكل دين ألف مثلاً
فدفع
من عليه الدينان ألفاً إلى الوكيل، فإن قال حال الدفع: خُذْه عن دين
فلان، وعيّن أحدَ
موكِّلَيْه، وقع عن تلك الجهة. ولو قال بعد ذلك: قصدتُ خلافَ ما قلت،
لم يقبل
منه. وهذا يطرد في جميع المسائلِ التي ذكرناها. ولو لم يقل شيئاًً، ثم
راجعناه،
فقال: قصدت أحدَ الموكلَيْن، وقع المقبوض على حسب قصده. وإن قال: لم
أقصد تعيين واحد منهما، فيعود الوجهان، نقول في أحدهما: يتقسط ما أداه
على
ديْنَي الموكِّلَيْن، ونقول في الثاني للمؤدي: اصرف الآن قصدَك إلى من
شئت منهما أو
قسِّط عليهما.
3713 - ولو قال من عليه الدين للوكيل من جهة المستحقَّيْن: خذ الألفَ
وادفعه إلى فلان. فقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة، فمنهم من قال: إذا
جرى ذلك، انعزل الوكيل بالقبض عن حكم ذلك التوكيل، وصار وكيلا
للمؤدِّي؛ فإنَّ حكم قوله: ادفعه أن يتوقف الأمر على وصوله إلى
الموكِّل، وحكم البقاء على توكيله بالقبض أن يبرأ الدافع بالدفع إلى
الوكيل، فلا يكون لقوله: ادفع إلى فلان معنى.
ومن أصحابنا من قال: لا ينعزل عن التوكيل بالقبض، وإن قبل التوكيل
بالدفع على اللفظ الذي حكيناه؛ وذلك أن يدَ الوكيل ليست [تنتهي بالقبض]
(1) ومعنى قبضه
__________
(1) في الأصل: منتهى القبض. ومطموسة في (ت 2).
(6/237)
أن يوصّلَه إلى موكِّله. فإذا قال من عليه
الدين: ادفع هذا إلى موكِّلك، لم يكن ما قاله مضاداً للقبض، والمسألة
محتملة لطيفة. والأفقه الوجه الأول.
3714 - ثم مما يجب التنبه لهُ في تصوير المسألة أنا لا نشترط من الوكيل
تصريحاً بالقبول لمّا قال من عليه الدين: ادفع إلى موكلك، بل مجرد قوله
له: ادفع يتضمن أني لا أقنع بيدك على حسب ما وكلك صاحبك، ولكن آمرك
ابتداءً بأن تسلمه إليه.
هذا ما نشأ منه التردد. وهو لا يفتقر إلى تصوير قبول. فليفهم الناظر.
وأثر ما ذكرناه أنا إذا قلنا: لا يقع قبضه على حكم توكيل موكِّله، فلو
تلف في يده، فذمة من عليه الدين مشغولة. وإن قلنا: إنه يبقى على حكم
التوكيل بالقبض، فلو تلف ما قبضه في يده، كان من ضمان موكِّله، وقد
برىء المؤدِّي، فإن لم يكن منْ الوكيل تقصير، فلا ضمان أصلاً، وإن كان
منه تقصير، فهو متعدٍّ في ملك غيره. وطرف الإنصاف والانتصاف بينهما
بيِّن، والغرضُ ما اتضح من براءة المؤدِّي.
فصل
قال: " ولو قال: رهنته هذه الدارَ التي في يده بألفٍ ... إلى آخره "
(1).
3715 - إذا اعترف الرَّجل بأنه رهن داره من إنسان، وصادفنا تلك الدار
في يد المرتهن، ثم اختلفا، فقال الراهن: غصبته مني. وقال المرتهن: بل
أقبضتنيه، فالقول قول الراهن في أصل المذهب " لأن الأصل عدم القبض
والخيار إلى المقبض.
ولو قال الراهن: أعرتُه، أو أودعتُه، أو أكريتُه، أو أكريتُ الدار من
فلانٍ، فأكراها منه أو أعارها منه، فحصلت تحت يده بهذه الجهة. وقال
المرتهن: بل أقبضتنيه عن جهة الرَّهن، ففي المسألة وجهان: أحدهما -
القولُ قول الراهن كالمسألة الأولى، وهي إذا ادعى الراهن الغصبَ وادعى
المرتهن القبض المستحق. والوجه الثاني - القول قول المرتهن، لتقارِّهما
على أن القبض لا عدوان [فيه] (2) وأن صدَرَه عن
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 216.
(2) ساقطة من الأصل.
(6/238)
الإذن، ثم ظاهرُ اليد يدل على حق ذي اليد،
كما أن ظاهرها يدّل على ملك ذي اليد، إذا كان المتنازَعُ الملكَ.
والظاهر بناء القبض على العقد المقتضي للقبض.
هذا الذي سردناه أصلُ المذهب. وقد أبعد بعض الأصحاب، فذكر وجهاًً
ضعيفاً في أن القول قول المرتهن، وإن قال الراهن غصبتنيه، وهذا ضعيف
غيرُ معتد به، وسنعيده مع تفريعاتٍ في كتاب العارية، إن شاء الله
تعالى.
3716 - فلو قال البائع: غصبتنيه، وقال المشتري: بل أقبضتنيه. والتفريع
على أن المبيع محبوس بالثمن، وعلى المشتري البداية. فإذا تنازعا كما
وصفناه. فإن كان قد وفر المشتري الثمنَ، أو كان الثمنُ مؤجَّلا، فلا
معنى لهذا الاختلاف؛ فإن قبض المبيع مستحَق للمشتري. وإن كانَ الثمن
حالاً، ولم يوفر المشتري [الثمن] (1) فالقول قول البائع؛ لأن الأصل
عدمُ الإقباض. وإن قال البائع: أعرتكه أو أودعتكه، وقال المشتري: بل
أقبضتنيه عن البيع، ففي المسألة وجهان: أظهرهما- الحكمُ بالقبض؛ لأن
المبيع ملك المشتري، وحق البائع في الحبس ضعيف.
وهذا يصفو بشيء، وهو أن البائع لو أعار المشتري المبيعَ على أن ينتفع
به ويردَّه محبوساً بالثمن، فالإعارة هل تُبطل حق حبسه؟ وجهان ذكرهما
الشيخ، وصاحب التقريب، وطائفة من العراقيين. أحدهما - أن حق حبسه يبطل،
فإنه لم يكن حقّاً (2) مقصوداَّ بَعقد، فإذا ثبتت يدُ المشتري وهو
مالك، وكان زوال اليد عن رضاً، فلا عود إلى اليد.
والوجه الثاني - أن حق البائع لا يسقط، فإنه لم يسقطه، فيجب الوقوف على
منتهى قصده.
ولو أودع البائع المبيع عند المشتري، ففي بطلان حق البائع من الحبس
وجهان مرتبان على الوجهين في العارية، [و] (3) اختلف أصحابنا في كيفية
الترتيب، فمنهم من جعل الإيداع أولى ببطلان حق البائع؛ من جهة أنه يبعد
كل البعد أن يحفظ المالك
__________
(1) مزيد لإيضاح العبارة.
(2) في (ت 2): حقه.
(3) في الأصل: فاختلف.
(6/239)
ملكه لغيره، وفي الإعارة غرضٌ على حالٍ سوى
الحفظ.
ومن أصحابنا من جعل الإيداع أولى بأن لا يُبطل حقَّ البائع؛ فإنه ليس
فيه تسليط أصلاَّ، وفي الإعارة تسليط.
ولم يختلف أئمتنا في أن المرتهن لو رَدَّ الرهنَ إلى يد الراهن [بأية]
(1) جهة فرضت مع استمراره على الرهن، فحقه قائم لا يبطل.
3717 - عاد الآن بنا الكلامُ إلى ما كنا فيه من اختلاف البائع
والمشتري. فإن قلنا: الإعارة، والإيداع يُبطل حقَّ البائع، فلا معنى
للاختلاف؛ فإنه اعترف بمبطلِ حقه.
وإن قلنا: الإعارة والإيداع لا يبطلان حقَّه من الحبس، فإذا تنازعا،
انتظم الخلاف الذي ذكرناه. والوجه الضعيف في ادعاء البائع للغصب،
وادعاء المشتري الإقباض عائدٌ.
وبالجملة يد البائع ضعيفة. وآية ذلك أن المشتري إذا قتل (2) العبدَ
المشترى، جعل ذلك قبضاً منه ناقلاً للضّمان، وإن كان على كُره من
البائع، وكان من الممكن أن نقولَ يغرم قيمةَ المبيع، ويسلمَها لتُحبس
على الثمن، كما نقول: يغرَم الراهن قيمةَ المرهون إذا قتله لتوضع رهناً
إلى أداء الدين.
وذكر صاحب التقريب وجهاً في كتاب البيع: أن إتلاف المشتري لا يكون
قبضاً، وأن القيمة تلزمه، فتجعلُ محبوسةً كما ذكرناه في الرهن.
وهذا بعيد جداً لم يتفق منا حكايتُه في كتاب البيع.
ومما يتعلق باختلاف المحابس لما نحن فيه أنه لو قال من عليه الدين
لمستحقه: رهنتك هذا العبدَ بالألف الذي لك عليَّ. وقال صاحب الحق: بل
بعتنيه بالألف، فالقول قول من عليه الحق، لا خلاف فيه؛ فإن صاحبه ادعى
عليه إزالةَ الملك بطريق البيع، والأصل عدمه، وبقاءُ الملك؛ فينتفي
البيعُ بنفيه، ولا نحكم بالرهن؛ لأن المستحِق ليس يدعيه.
__________
(1) في الأصل: فإنه. والمثبت من (ت 2).
(2) في (ت 2): قبل. وفي الأصل بدون نقط.
(6/240)
ولو كان الخلاف على العكس، فقال من عليه
الحق: بعتك هذا العبد بالألف الذي لك علي، وقال صاحب الحق: بل رهنتنيه،
فالوجه أن يحلف كل واحد منهما على نفي العقد الذي يُدّعى عليه، فينتفي
الرهن والبيع جميعا، فلا يبقى لصاحب اليد حق. أما الرهن فقد نفاه من
عليه الحق وهو مصدّق، وأمّا البيع فقد نفاه هو في نفسه.
فرع:
3718 - العدل إذا باع الرهن بإذنهما، ثم قال: قد سلمت الثمن إلى
المرتهن، [و] (1) أنكر المرتهن، فالقول قوله، ولا يقبل قول العدل عليه؛
فإنه أمين المرتهن في تحفظ الرهن فحسب، ثم هو بالخيار إن شاء طالب
الراهن بدينه، وإن شاء طالب العدلَ. فإن أراد مطالبة العدل، فله ذلك؛
فإنه يقول: قد أقررتَ بحصول عوض رهني في يدك، ورُدّ قولُك في التسليم،
فله مطالبته إذن. ثم إذا غرِم العدلُ كما ذكرناه، فلا يجد العدل به
مرجعاً على أحد؛ فإنه يعترف بأنه مظلوم من جهة المرتهن، ولا يرجع
المظلوم إلا على من ظلمه.
فرع:
3719 - حكى العراقيون عن الأصحاب أنهم قالوا: لو كان لرجل ألفُ درهم
على رجلين، على كل واحد خمسمائة، ولهما عبد مشترك، فادعى أنكما
رهنتماني العبدَ، فأنكر كل واحد رهنَ نصيبه، وزعم صاحبه رهنه وهو في
نفسه لم (2) يرهن، ثم شهد كل واحد منهما على صاحبه، وحلف المدعي مع
شهادة كل واحد منهما يميناً يميناً، فيثبت له الرهن عليهما جميعاً في
جميع العبد. وتعليله بيّن، وهو موجَب القضاء بالشاهد واليمين.
قال الشيخ أبو حامد: في هذا نظر عندي، فينبغي أن لا تقبل شهادة واحد
منهما؛ فإن المدَّعي يقول: قد كذب كل واحد منهما لما أنكر الرهن في حق
نفسه، فإذا كان يكذِّب شاهدَه في شيء، فكيف تقبل شهادته في حقه.
وفيما قاله الشيخ أبو حامد نظر؛ فإن أقوالهما في إنكارهما مجمل لا يوجب
__________
(1) في الأصل: فأنكر.
(2) عبارة (ت 2): ولم يرهن هو في نفسه.
(6/241)
تفسيقهما؛ من تقدير غفلة أو ذهول. وبالجملة
ليس من الرأي ابتدار التفسيق مع اتجاه احتمالاتٍ لا فسق فيها.
فرع:
3720 - إذا رهن شيئاًً وسلمه إلى المرتهن، فمات المرتهن وقال: لا أرضى
بيد الورثة، فكيف السبيل فيه؟ المذهب الأصح أن الأمر يرفع إلى القاضي،
فينصب القاضي عدلاً، ويضع الرهن على يده. نقل العراقيون فيه نصَّ
الشافعي، وخرّج منه أن للراهن إزالة يد الورثة، ولا فرق بين أن يكونوا
عدولاً، وبين أن يكونوا دون مورثهم في الثقة والعدالة.
وقال بعض أئمتنا: لا يزيل القاضي أيدي الورثة؛ فإنهم استحقوها خلافة
ووراثة. نعم، للقاضي أن يضم إلى أيديهم يداً إذا استدعاه الراهن، فأما
إزالة حقوقهم، فلا سبيل إليه.
فرع:
3721 - إذا أراد العدلُ أن يسلم الرهن إلى القاضي، والراهن والمرتهن
جميعاً حاضران، فليس له ذلك قبل عرض الأمر عليهما، وليس للقاضي أن
يقبله إذا أحاط بالحال، فلو [سلم]، (1) من غير مراجعة، توجه الضمان على
العدل.
فأما إذا غاب الراهن والمرتهن إلى مسافة القصر، فللعدل التسليم إلى
الحاكم.
وإن كان دون مسافة القصر، فليس له الرفع إلى الحاكم حتى يستأذنَهما.
ولا يمتنع عندنا اعتبار مسافة العدوى (2) في ذلك، حتى يقال: إن كانا
على مسافة العدوى، فلا بد من مراجعتهما، وإن [كانا] (3) فوق مسافة
العدوى، ففيه تردد.
ولو كانا حاضرين، فعرض عليهما، فامتنعا من الاسترداد، فيرفع الأمرَ إلى
القاضي حينئذ، حتى يحملهما على الأخذ منه، ثم لا يخفى منتهى الكلام في
ذلك.
* * *
__________
(1) في الأصل: سلّم.
(2) مسافة العدوى: قال ابن فارس: العدوى طلبك إلى والِ ليُعديَك على من
ظلمك، أي ينتقم منه باعتدائه عليك. والفقهاء يقولون: " مسافة العدوى "
وكأنهم استعاروها من هذه العدوى؛ لأن صاحبها يصل فيها الذهاب والعود
بعدوٍ واحد، لما فيه من القوة والجلادة. (المصباح).
(3) في الأصل: كان.
(6/242)
بَابُ
الزيادةِ في الرّهنْ ومَا يحدثُ فيهِ
قال الشافعي: وقد روي عن أبي هريرة عن النبي عليه السلام أنه قال "
الرهن محلوب ومركوب ... إلى آخره " (1) (2).
3722 - مقصود الباب الكلام في فوائد الرهن ومصارفها، وتفصيل القول
فيها،
وهي آثارٌ وأعيانٌ في التقسيم الأول. والمعنيُّ بالآثار المنافع، وهي
للراهن وتَتْبَع
ملكه، ولا تتعطّل. وأبو حنيفة في مذهبه المشهور يرى تعطيلها (3). وذهب
أحمد (4)
وإسحاق (5) إلى أنها للمرتهن. واعتمد الشافعي الخبر، ثم قد يقتضي إزالة
يد المرتهن
للانتفاع بالرّهنِ؛ فإن الراهن إذا أراد استخدام العبد وركوب الدابة،
فلا يتأتى له ذلك
إلا بإزالة يد المرتهن، ولأجل هذا عطل أبو حنيفة المنافع؛ إذ معتقده أن
القبض وحق اليد الركن الأعظم في الرهن؛ ولهذا منع رهن المشاع، وجرى في
المسألتين على تناقض؛ حيث منع رهن المشاع، وكان يمكنه أن يديم يد
المرتهن على الشائع، وصحح رهن ما ينتفع به، وعطل المنافع. ولو طرد
القياس، لمنع رهن ما ينتفع به؛ حتى لا تتعطل المنافع، وقد قررنا ذلك في
(الأساليب).
ثم لأصحابنا اضطراب في الجمع بين توفير المنافع على المالك، وبين رعاية
حق المرتهن في القبض، ونحن نذكر مضطرب الأئمة في هذا.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 216.
(2) رواه الدارقطني: 3/ 34، والحاكم: 2/ 58. وانظر التلخيص: 3/ 83 ح
1242.
(3) ر. إيثار الإنصاف في مسائل الخلاف: 368، رؤوس المسائل: مسألة 193،
وحاشية: الطحطاوي 4/ 236، وحاشية ابن عابدين: 5/ 310.
(4) ر. المغني (4/ 432). وفيه تفصيل بين المرهون المركوب أو المحلوب
وبين غيرهما.
فليراجع. وانظر الموسوعة الفقهية مادة (رهن).
(5) إسحاق بن راهويه (ت 238 هـ).
(6/243)
أولا- اتفقوا على أن الراهن لو أراد
المسافرة بالعبد لينتفع به في سفره، لم يمكّن من ذلك. والزوج يسافر
بزوجته لتأكد حقه منها، ولا يبالي بما يتعطل من منافع الزوجة الحرة.
والسيد يسافر بالأمة التي زوّجها، ولا يبالي بحق الزوج منها. وهذه
الأصول في ظواهرها أدنى تفاوت.
ووجه الكلام على الإيجاز عليها أن النكاح في الحرة هو الأصل في بابه،
وهو عقد العُمر، وبه قوام العالم، وبقاء النوع، فعظم قدره ويقل
بالإضافة إليه منفعة بدن الحرّة، ونكاح الأمة دخيل في الباب، يُجرَى
مجرى الرخص، والرهن عارض يعقد للتوثيق، وسيؤول على القرب إلى الفَكّ،
أو إلى البيع. وليس في المنع من المسافرة تعطيل كلي.
ثم قال الأصحاب: إن وثِق المرتهن بالراهن سلم العبدَ إليه نهاراً
ليستخدمه، ثم يرده ليلاً إليه أو إلى يد عدلٍ، وإن لم يكن الراهن
موثوقاً به [كلفه المرتهن أن يُشهد في كل أخذ ورد؛ حتى يقوم الإشهاد في
أدائه التوثيق مقامه. وإن كان الراهن موثوقاً به] (1) في الناس مشهوراً
بالعدالة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه يجب الاكتفاء بعدالته؛ إذ
يشق تكليفه كل غداة أن يُشهد على نفسه، وإن لم يكن مشهوراً بالعدالة،
فقد [أُتي] (2) من قِبَل نفسه. ومن أصحابنا من قال: إذا طلب المرتهن
الإشهادَ، وجب الإسعافُ به.
وحكى صاحب التقريب من لفظ الشافعي [في الرهن] (3) الصغير من القديم
قولاً: أن الراهن لا يزيل يدَ المرتهن قط، ولا يدَ العدل، ولكن يستكسب
العبدَ في يد المرتهن، ويحصل أجرته، وإن كان يضيع معظم منافعه، فلا
يبالَى به أصلاً؛ فإن إزالة يد المرتهن لا سبيل إليه. وليس كرهن
المشاع؛ فإنه أُورد والإشاعة مقترنة به، وهي تقتضي قطع (4) اليد لا
محالة، والوصول إلى المنفعة ممكن من غير إزالة اليد.
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) في الأصل: أوتي.
(3) في الأصل: رهن.
(4) في (ت 2): تقطيع.
(6/244)
فهذا اضطرابُ الأصحاب.
3723 - فيتنخل منه أن المسافرة ممنوعة؛ فإنها حيلولةٌ عظيمة، ولم يسمح
بها الأصحاب مع الإشهاد.
وأما إزالة اليد مع حضور المرتهن لينتفع به في وقت الانتفاع، ويردّ في
وقت السكون والاستراحة، فهو ظاهر النص في الجديد، وإليه ميل معظم
الأصحاب.
والكلام في أن الراهن هل يحسم الإشهاد؟ وقد فصلت المذهب فيه.
وفي القديم قول آخر أن يد المرتهن لا تُزال بسبب الانتفاع، كما لا تزال
يد البائع عن المبيع المحبوس بالثمن بسبب الانتفاع. وسنصف هذا في أثناء
الفصل، إن شاء الله تعالى.
ومن راعى الإشهادَ يقول: لو كان الراهن خائناً مشهوراً بالخيانة لا
يسلم إليه وإن أشهد.
فإن قيل: ما قولكم في منافع المبيع المحبوس بالثمن على قولنا بإثبات حق
الحبس؟ قلنا: اتفق الأصحاب على أن المشتري لا يزيل يده لينتفع، بخلاف
ما ذكرناه في الراهن؛ فإن ملك المشتري غيرُ مستقر قبل القبض، وملك
الراهن مستقر.
واختلف أصحابنا في أن المبيع هل يستكسب في يد البائع للمشتري، أم تتعطل
منافعه؟ فقال بعضهم: لا سبيل إلى التعطيل، وهو مستكسب في يد البائع.
وقال قائلون: منافعه تُعطل.
هذا قولنا في منافع الرهن.
3724 - فأما القول في الفوائد التي تكون أعياناً، فهي منقسمة إلى
الزوائد المتصلة، وإلى المنفصلة. فأما الزوائد المتصلة، فلا حكم لها،
والرهن يتعلق [بالمزيد] (1) والزيادة، ولا أثر للزوائد المتصلة إلا في
الصداق عند وقوع الطلاق قبل
__________
(1) في الأصل: بالزوائد والزيادة.
(6/245)
المسيس، كما سيأتي في موضعه، إن شاء الله
تعالى.
وأمّا الزوائد المنفصلة، فإنها تنقسم إلى ما كانت موجودة حالة الرهن
على صفة االاتصال، وإلى ما يوجد بعد الرهن، ثم ينفصل: فأما ما لا يكون
موجوداً حالة الرهن ويوجد من بعدُ، ثم ينفصل، كالحمل يطرأ وينفصل،
وكذلك الثمار والألبان، فلا يتعلق الرهن بها، خلافاً لأبي حنيفة (1)،
ووافق أن الرهن لا يتعلق بالأكساب، ثم ألحق العُقر (2) وإن لم يكن عوض
عينٍ بالأعيان، في خبطٍ له معروف.
3725 - ونحن نجمع معاقد المذهب فيما يتعدى إلى الولد الطارىء، وفيما لا
يتعدّى إليه، وعماد المذهب أن كل ما صار الملك مستغرَقاً به حتى يعدَّ
الملك مستحَقاً في تلك الجهة، وبلغ تأكده مبلغاً يمتنع تقدير زواله،
فما كان كذلك؛ فإنه يتعدّى إلى الولد، كالاستيلاد؛ فإن أولاد المستولدة
من النكاح والسفاح بمثابة المستولدة في استحقاق العتاقة، وألحق الأئمة
بذلك ولد الأضحية المعينة للتضحية، بقول المالك: جعلتها ضحية؛ فإن
تعينها لجهة القربة لا يزول، كالاستيلاد، فالمالية مستهلكة فيها بجهة
القربة، والرهن عارض على الملك التام، وكأنه عِدَةٌ موثوق بها، وهو
عرضة الزوال.
واختلف قول الشافعي في ولد المدبرة، والمكاتبة؛ من جهة أن من يُدبِّر
يبغي التأبيد (3) إلى العتاقة وإن ملَّكه الشرعُ الرجوعَ، وكذلك
الكتابة، واختلف القول في أولادهما.
وولد الأمة التي نذر مولاها إعتاقَها على طريقين: أحدهما - أنه كولد
المدبرة، والآخر أن الاستحقاق يتعدى إليه؛ فإن النذر لا رجوع عنه. ولكن
من حيث إنه ربط العتق بالالتزام تردد الأصحاب. ومن نذر التضحية بشاةٍ،
ولم يقل جعلتها ضحية، ففي ولدها طريقان أيضاًً على ما سيأتي في كتاب
الضحايا، إن شاء الله تعالى.
__________
(1) ر. حاشية ابن عابدين: 5/ 335، فتح القدير: 9/ 129.
(2) العُقر: مهر المرأة إذا وطئت بشبهة، والصداق عامة (القاموس
والمعجم).
(3) في (ت 2): " من يُدبَّر يبقى للتأبيد ".
(6/246)
وفي ولد العارية والمأخوذ سوماً وجهان:
أحدهما - أنه مضمون كالأم. والثاني - أنه ليس مضموناً. وسبيله سبيل
الثوب يلقيه الريح في دار إنسانٍ، وهذا الاختلاف ينشأ من أن الأيدي
المضمَّنة الصادرة عن إذن السيد هل توجب ضمان الغصوب أم لا، وفيه
خلافٌ، رمزنا إليه، وسنصفه من بعد، إن شاء الله تعالى.
ولو أودع رجل بهيمة عند رجل أو جارية، فولدت في يد المودَع، ففي
المسألة وجهان: أحدهما - أنه وديعة بمثابة الأم. والثاني - أنه ليس
بوديعةٍ. وهذا القائل يقول: ليس مضموناً، بل هو كالثوب تهبُّ به الريح،
فتلقيه في دار إنسانٍ. وأثر هذا الخلاف أنا إن لم نجعله وديعة، فلا بد
فيه من إذن جديد. وإلا لا تجوز إدامة اليد عليه، كمسألة الثوب والريح،
وإذا قلنا: هو وديعة استمر المودَع، ولم يستأذن، وسبيله سبيل الأم.
وهذا الخلاف في ولد الوديعة له التفاتٌ على خلاف الأصحابِ في أن
الوديعة عقد أم لا؟ وفيه اختلاف بين الأصحاب. ومن أدنى آثار هذا
الخلافِ أنه إذا أودع وشرط شرطاً فاسداً مثل أن يقول: أودعتك على أن
يكون الإنفاق عليك، فهذا يخالف وضع الشرع. فمن جعل الوديعة عقداً،
أفسدها بهذا الشرط، وما في معناه. فلا بد من ائتمانٍ جديدٍ، وإلا كان
ما أخذه وديعة بمثابة الثوب والريح. وإن لم نجعل الوديعة عقداً، فالشرط
لا يؤثر فيه أصلاً، بل يلغو الشرط الفاسد، ويبقى موجب الإيداع إلى
الرد، أو إلى عدوان يصدر من المودَع.
ويقربُ من هذا المأخذ مسألةٌ نص الشافعي فيها على قولين وهي إذا أودع
صبياً، فأتلفه، هل يجبُ الضمان على الصبي؟ فعلى قولين: أحدهما - لا
ضمان؛ لأن المالك سلطه عليه بعقد، فهو المتسبب إلى إتلاف ماله. والثاني
- يضمن؛ فإن الإيداع ليس بعقد حتى يُقضى على المالك بأنه عقد عقداً على
الفساد. ولكن مهما (1) أتلف الصبي ضمن؛ فإنه أتلف مال غيره ولا عقد.
أما ولد المبيعة، فلا خلاف أنه لا يجوز حبسه لاستيفاء الثمن، يعني
ولداً يحدث
__________
(1) "مهما": بمعنى "إذا".
(6/247)
بعد لزوم العقد وقبل القبض. فإن قيل: ولد
المغصوبة مضمونٌ بجهة ضمان الأم، فهلا كان ولد المبيعة مضموناً بجهة
أمه؟ قلنا: المبيع يضمن بالعقد على مقابلة الثمن، والولد لم يقابل
بالثمن. والغاصب يضمن بالعدوان وهو متعدِّ بإدامة اليد على الولد، كما
أنه متعد بإدامتها على الأم.
فهذه جملٌ تجري مجرى التراجم والمجامع في الأحكام التي تتعدى إلى
الأولاد [و] (1) التي لا تتعدى إليها. وما ذكرناه نشأ من كلامنا في
الولد المتجدد بعد الرهن، والمنفصل قبل بيع الرهن في الدين.
3726 - ونحن نذكر الآن تفصيل القول في الحمل الموجود حالة الرهن، ثم
نتبعه نظائره، كان يقول شيخي أبو محمد: إذا كان الحمل موجوداً يوم
الرهن على نعت الاجتنان في البطن ثم بقي مجتناً إلى البيع في الرهن،
فلا حكم للحمل، ونعتقده صفة للجارية، [فكأنها] (2) بيعت على صفة كانت
عليها حالة الرهن.
فأما إذا كان الجنين موجوداً ابتداءً، وانفصل قبل بيع الرهن، ففي
المسألة قولان: أحدهما - أنه يكون رهناً؛ لأنه كان موجوداً حالة العقد.
والثاني - لا يكون رهناً كالمعدوم ما لم ينفصل، وقد كان الانفصال بعد
الرهن، وبنى الأصحاب القولين على أن الحمل هل يعلم؟ فإن قلنا: إنه لا
يعلم، فكأن لا حمل، ونعتقد الولادة فائدةً جديدة بعد العقد. وإن قلنا:
الحمل يعلم، فقد تناول الرهن الأم، ولا مانع في الولد.
وكان شيخي يقول: إن قلنا: الحمل لا يعلم، فهو على ما ذكره الأصحاب: وإن
قلنا: إنه معلوم، ففي تعلق الرهن به قولان؛ فإن الرهن ضعيف لا يقوى على
الاستتباع، ولم يقع التعرض للولد. ولو وقع التعرض له، لكان فاسداً.
ولو علقت الجارية المرهونة بمولودٍ بتيقن بعد الرهن ولم ينفصل حتى حل
الحق، ومست الحاجة إلى البيع، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنها تباع
حاملاً؛ ويعتقد
__________
(1) مزيدة من (ت 2).
(2) في الأصل: وكانت.
(6/248)
الولد المجتن في البطن زيادة متَّصلة، فقد
تعدّى الرهن إليه إذاً في هذه الصورة.
والقول الثاني - إن الرهن لا يتعدى إليه، ولا تباع ما دام الولد
مجتناً، وإذا انفصل، لم يتعلق استيثاق الرهن به، وَبَيْعُ الأم دون
الولد لا سبيل إليه على ظاهر المذهب، فقد تحصلت أحوال أربع: أحدها - أن
لا يكون الحمل موجوداً في الطرفين لا عند العقد، ولا عند البيع، ولكن
يحدث وينفصل، فهذا خارج عن الرهن قطعاً مِنّا.
والحالة الثانية - أن يكون موجوداً في الطرفين، فلا مبالاة به، وهو
يجري مجرى الصفة.
الحالة الثالثة - أن يكون موجوداً حالة العقد، وينفصل قبل البيع، وفيها
القولان.
والحالة الرابعة- أن يتجدد العلوق بعد الرهن، ولا ينفصل حتى يدخل وقت
البيع وهو مجتن بعدُ، وفيه قولان.
3727 - أمّا الثمار إذا لم تكن مؤبرة حالة العقد، فأُبّرت من بعدُ
فطريقان: من أصحابنا من قال: هي كالحمل، وقد مضى التفصيل فيه. ومنهم من
قال: لا يتعلق (1) الرهن به قولاً واحداً؛ لأنه لم يذكر، وهو ممَّا
يفرد بالتصرف، والتبعية ضعيفة في الرهن.
وكان شيخي يقول: إذا كانت الثمرة غيرَ مؤبّرة حالة الرهن، وبقيت مستترة
إلى وقت البيع، فالحمل على مثل هذه الصورة يتعلق الرهن به تعلقه
بالصفات، وفي الثمار طريقان: من أصحابنا من أجراها مجرى الحمل، وقطع
فيها بتعلق الرهن بها. ومنهم من خَرّج التعلق بها على قولين وإن وجد
الاكتتام والاستتار في الطرفين، فهذا متجه فقيه.
3728 - وممّا نتكلم فيه اللبن والصوف، فنقول: أمّا اللبن الذي يتجدد
بعد الرهن [ويحلب] (2) فلا شكّ فيه، ولا تعلق للرهن به، وقد صرّح به
النبي صلى الله عليه
__________
(1) في (ت 2): "يتعلق" بدون (لا) النافية.
(2) مزيدة من (ت 2).
(6/249)
وسلم؛ إذ قال: "الرهن محلوب" ولا شك أنه
أراد أن الراهن حالب البهيمة المرهونة، وراكبها، والمنفق عليها.
فأما اللبن الكائن في الضرّع حالة العقد، ففيه طريقان: منهم من قال: هو
كالحمل. ومنهم من قطع بأن الرهن لا يتناوله؛ فإنه موجود مقطوع به، وقد
قابل النبي صلى الله عليه وسلم لبنَ المصرّاة بعوض.
وأما الصوف الموجود حالة العقد، فالذي نقله الربيع أنه يدخل تحت
العقدِ؛ فإنه متصل اتصال خلقة، وهو ظاهر بادٍ، فأشبه أغصان الأشجار.
والصحيح أنه لا يدخل تحت العقد؛ فإنه وإن كان متصلاً معدودٌ في العرف
منفصلاً. ومن أصحابنا من قال: إن كان الصوف مستجزًّا حالة العقد، فهو
كالمجزوز، فلا يدخل في الرهن، وإن لم يكن مستجزًّا دخل في العقد، ثم
تلك الجِزّة متعلق الرهن إذا جزت.
3729 - وأمّا أغصان الأشجار فما لا يعتاد قطعها داخلة في الرَّهن، وما
يعتاد قطعها ثم إنها تنبت أغصاناً من محل القطع كالخِلاف، وما أشبهه،
فهذه الأغصان نزَّلها العلماء منزلة الصوفِ، من جهة أن الصوف، يستجز،
فتجز، كما أن الأغصان تستغلظ، فتقطع.
وأمّا أوراق الأشجار فما يعتمد قطعها كأوراق الفِرصاد (1)، فالقول فيها
كالقول في الثمار. وقد ذكرنا أن الثمار لا تدخل، ثم هي تُخلق ظاهرة،
فكانت كالثمار المؤبرة البارزة.
وأما الأوراق التي لا تقطع، ولكنها تنتثر أوان الخريف، فالرهن يتعلق
على ظاهر المذهب بها، وإذا تجمع منها ما يُجمع، كان بمثابة ما ينتقض من
الدار المرهونة.
ومن أصحابنا من قال: إذا انتثرت الأوراق أو نثرت، لم يتعلق استحقاق
الرهن بها.
هذا بيان ما يتعلق بالزوائد الموجودة حالة العقد.
__________
(1) الفرصاد: شجر التوت، ومعنى "يعتمد قطعها": أي يُقْصد.
(6/250)
3730 - ثم كان شيخي يختم هذا الفصل، ويقول
كل حُكمٍ علقناه بالاقتران بالعقد، فالعقد هو المعتبر لا غير، حتى لو
وجد حالة القبض، ولم يكن موجوداً حالة العقد، فهو متجدد. وقد مضى تفصيل
القول فيما يتجدد من الزوائد.
ومن أصحابنا من قال: العبرة في الاقتران بوقت القبض؛ فإنه الركن، وبه
التمام، وكأن اللفظ جارٍ معه، وهو غير سديدٍ.
وقد نجز ما أردناه من الكلام في الزوائد العينية التي تقارن العقد، ثم
تنفصل ثم تتجدد من بعدُ، وتنفصل أو تبقى إلى وقت البيع.
فصل
قال: " وكذلك سكنى الدار، وزرع الأرض، وغيرها ... إلى آخره " (1)
3731 - المنافع قسمان: منفعةٌ لا يَنْقُصُ القيمةَ استيفاؤها، كالسكنى،
والركوب، والاستخدام، فللراهن أن يستوفيها. وقد ذكرنا التردد في طريق
استيفائها مع رعاية حق المرتهن في قبضه ويده.
ومنفعة ينقص القيمةَ استيفاؤُها، كالغرس والتزويج والوطء، وفي الزرع
تفصيلٌ، على ما سنصفه.
فالقاعدة المعتبرة في هذا القسم أن المنافع، وإن لم تكن متعلَّقاً
لوثيقة المرتهن، فالعين محل الوثيقة على الحقيقة، فكل انتفاع يؤدي إلى
تنقيص القيمة، فهو ممنوع؛ من جهة أدائه إلى التأثير في محل الوثيقة،
وقد سبق تصوير تأثير الغرس في نقصان الأرض، والتزويجُ لا شك أنه ينقص؛
فإذا رهن جارية لم يزوجها، والوطء في التي يخشى علوقها محرّم، وإن كانت
الجارية بحيث لا يخشى علوقها لصغرها، أو كبرها، ففي حلّ الوطء وجهان:
أشهرهما المنع، حسماً للباب، وقياساً على قاعدة العدة؛ فإن مبناها على
استبراء الرحم، ثم الصغيرة الموطوءة تعتد كالبالغة. وكذلك تعتد الطاعنة
في السن اعتداد الشابة.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 216.
(6/251)
والزراعة إن كانت تَنْقُصُ قيمةَ الأرض
لتأثيرها في الرقبة وتضعيفها تربتها كالدُّرة [فيما] (1) قيل، فهي
ممنوعة إلا أن يأذن فيها المرتهن؛ لسبب أدائها إلى تنقيص القيمة.
أمّا زرع سائر الحبوب إذا كان لا يؤدي إلى تنقيصٍ معتبر، فالنظر فيه
إلى مدة بقاء الرهن إلى الاستحصاد، فإن كان يحصد قبل حلول الأجل، فلا
منع منه؛ فإن المنفعة تتوصل إلى الراهن ولا تؤدي إلى تنقيصٍ من القيمة،
مع فراغ الأرض عند مسيس الحاجة إلى بيعها في الدَّيْن.
فإن كان أمد الزرع يتمادى حتى تبقى الأرض مزروعةً عند حلول الحق،
فالمذهب منعُ الراهن من هذا النوع؛ فإن الأرض لا يُرغب فيها مزروعة كما
يُرغب فيها وهي فارغة. وقال الربيع: للراهن أن يزرع، ثم ينظر إلى حالة
الحلول، فإن وفى بيعُ الأرض دون الزرع بالدين، فذاك. وإن لم يف، قلعنا
الزرع. ولا معنى [للمنع] (2) من إنشاء الزراعة قبل حلول الحق إذا كان
الاستدراك ممكناً بتكليف القلع. وهذا تخريج الربيع. والظّاهرُ المنع من
الزراعة ابتداءً. وقد ذكرنا مثل هذا الخلاف في إنشاء الغرس.
وأما إجارة المرهون، نُظر (3) فيها، إن كان حالاًّ، فغير جائز. وإن كان
مؤجلاً، ومدة الإجارة تنقضي قبل حلول الحق أو معه، فالإجارة تنعقد. وإن
كانت مدة الإجارة تدوم ولا تنقضي عند الحلول، فلا نحكم بانعقادها
ابتداء، لأن مقتضاها التبعيض عند مسيس الحاجة، وتقليل الرغبة (4)، ولا
جواز لذلك. والربيع يوافق فيما ذكرناه، وإن خالف في الزرع من قِبل أن
الزرع إن أمكن قلعه، فالإجارة لو ثبتت، للزمت، ولا سبيل إلى قطعها على
المستأجر.
__________
(1) في الأصل: فيها.
(2) في الأصل كلمة غير مقروءة. والمثبت من (ت 2).
(3) جواب (أما) بدون الفاء.
(4) أي الرغبة في شراء المرهون عند بيعه في الدين.
(6/252)
ولو كان الرهن فحلاً، فأراد الراهن إنزاءَه
على إناثٍ، فإن كان الإنزاء ينقص من القيمة، منعنا منه، وإن كان لا
ينقص، فلا منع.
وإن كان الرهن أنثى، فأراد الإنزاء عليها، نُظر: فإن كان الحمل ينقصها،
منعنا من الإنزاء عليها. وإن كان لا ينقصها، وفرعنا على أنها قد تباع
حاملاً في الدين، فلا منع. وإن [أبينا] (1) بيعها حاملاً في الدين إذا
كان الحمل متجدداً بعد الرهن، فإذا كان كذلك، فالإنزاء في أصله ممنوع.
وهذا قياس بيّن في النفي والإثبات.
3732 - وكل منفعة تضمَّن إستيفاؤها نقصاناً، فاستيفاؤها بإذن المرتهن
جائز؛ فإنّ الحق له. ومن هذه الجملة الإذنُ في الوطء، وهذا غريب؛ فإن
الوطء إذا كان ممنوعاً، لم يستبح بإذن آذن. ولكن حقيقة القول أن الوطء
مباح في نفسه، والمنع ليس راجعاً إلى عينه، وإنما المرعي حق المرتهن،
فإذا رضي، استمر الوطء على الحل.
3733 - ثم قال: "وأكره رهن الأمة ... إلى آخره" (2).
إن لم تكن الأمة مرغوباً فيها، لصغرها أو لخستها أو دمامة صورتها، فلا
بأس برهنها وفاقاً. وإن كانت بمحل أن ترمق (3)، فظاهر النص والمذهب
يشعر بجواز رهنها، ثم لا تسلّم إلى المرتهن إن لم يكن مأمون الجانب؛
فإنه قد يستخلي بها، ويُلمُّ بها، وما حرمت الخلوة مع الأجانب في وضع
الشرع إلا من الجهة التي أشرنا إليها. ولكن الوجه وضعُها على يدي
امرأةٍ أو عدل لا يتطرق إليه إمكان إلمام بها.
وإن كان المرتهن محفوفاً بأهله وذويه وأقربته في دارٍ، وكانت الحشمة
تَزَعُه من الإقدام على الإلمام بها بين أظهرهم، فهذا من الموانع،
فليعتبر المعتبر ما جعلناه معتبرَ الفصل.
__________
(1) في الأصل: أثبتنا.
(2) ر. المختصر: 2/ 216. وفي الأصل: "وطء" مكان "رهن".
(3) أي تلفت النظر: يقال: رمقه ببصره: إذا أتبعه بصره، يتعهده، وينظر
إليه ويرقبه (المعجم). والمراد هنا أنها بحالةٍ أو صورة تجذب الانظار،
وتثير الإعجاب. فالكلام على المجاز.
(6/253)
وذكر الشيخ أبو علي في شرح التخليص قولاً
أن رهن الجارية الحسناء ممنوعٌ أصلاً، إلا أن تكون مَحْرماً للمرتهن،
فلا بأس حينئذ.
هذا تفصيل القول في المنافع وجهاتِ استيفائها.
3734 - ثم قال الأئمة: لا يُمنع الراهن من تعهد الرهن بما يدفع عنه
ضرراً، أو
يحصّل خيراً، فإذا دعت الحاجة إلى حجامةٍ أو فصدٍ، أو توديجٍ (1) في
الدابة، أو بَزْغٍ (2)، فلا يُمنع الراهن من هذه الأجناس؛ إذ لا خطر.
والحاصل منها دفعٌ أو نفعٌ، ومن جملة ذلك الختان، وأبدى بعض الأصحاب
خلافاً في الختان عند القرب من حلول الحق؛ من جهة أن البيع يفرض ورودُه
والمختون أَلِمٌ (3)، وهذا ينقص القيمةَ، والرغبةَ، وهذا باطل؛ فإن هذا
القدر لا أثر له في النقصان أصلا، فلا منع منه، أمّا إذا أراد قطع
سِلعةٍ يخاف سريانها إلى الروح، أو إلى العضو، فهذا ممنوع؛ تخريجا على
القاعدة التي ذكرناها.
3735 - وإذا نجز القول في انتفاع الراهن وما يمتنع منه وما يسوغ،
فنقول: مؤنة الرهن فىِ القاعدة الكلية على الراهن المالكِ؛ فإن المؤونة
تتبع الملكَ في أصل الشرع، ثم الذي نص عليه الأصحاب في الطرق أن المؤن
الراتبة على الراهن. وإذا امتنع عن شيء منها أُجبر، ويشهد له حديث
النبي صلى الله عليه وسلم، إذْ قال: "وعلى من يحلبه ويركبه نفقته" فجعل
وجوب النفقة في مقابلة ملك الانتفاع، وأيضاً فإن الراهن ألزم نفسه
الوفاء بتحقيق حق المرتهن من الوثيقة، ومِن ضرورة هذا الإنفاقُ على حسب
مسيس الحاجة.
وذكر شيخي وطائفة من الأئمة أن الراهنَ إذا امتنع من الإنفاقِ، لم يجبر
ولكن
__________
(1) التوديج للدابة كالفصد للإنسان (مصباح).
(2) في (ت 2): "نزع"، وغير منقوطة بالأصل. والبَزْغُ من قولك: بَزَغَ
البيطار الدابة بَزْغاً، من باب قتل: إذا شر حافرَها، علاجاً
(للرَّهْصَة) وهي نزول الماء في حافر الدابة. فالبَزغُ شرط الحافر
لإخراج هذا الماء (ر. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: فقرة: 468، 469،
وأيضاً المصباح).
(3) في الأصل: آلم. وهي صحيحةٌ أيضاًً.
(6/254)
القاضي يبيع جزءاً من المرهون، ويصرفه في
جهة المؤنة على حسب الحاجة، وهذا فيه نظر؛ فإن قصاراه يؤدي إلى بيع
الرهن شيئاًً شيئاًً في جهة المؤنة، وهو منافٍ لحقيقة الاستيثاق،
والوجه تكليف الراهن الإنفاقَ.
وقد تحقق بعد البحث عن الطرق إطباق المراوزة على أن النفقة لا تجب على
الراهن، وإن كان المرهون حيواناً، فليس إيجابُ النفقة لحق المرتهن وحفظ
الرهن عليه، وإنما تجب لحرمة الروح، وليس للمرتهن فيه طَلِبة إلا من
جهة الأمر بالمعروف، والمسلمون فيه شَرعٌ (1) سواء، وإن امتنع، فالقاضي
يبيع شيئاًً من الحيوان على قدر مسيس الحاجة.
وإذا ثبت هذا من مذهبهم في النفقة على الحيوان، لم يخف قياسُهم في سائر
المؤن. وحاصل طريق المراوزة أن الإنفاق على الرهن لا يجب لحق المرتهن.
وقطع العراقيون بأنه يجبُ على الراهن أن ينفق على المرهون إبقاءً لحق
المرتهن، وإدامةً لوثيقته، واحتجوا عليه بأنا إن كنا نُنْفِق على الرهن
من الرهن، والدينُ مؤجل، فهذا يُفضي إلى رفع الوثيقة، فالراهن إذا كان
يحتاج إلى بذل مالٍ في الإنفاق على الرهن، فلا فرق عنده بين أن يأتي
بطائفة من ماله وبين أن يباع جزء من الرهن. هذا كلامهم.
ونصُّ الشافعي في آخر "باب الرهن يجمع شيئين" موافقٌ للعراقيين، وأنا
أنقل لفظه على وجهه قال رضي الله عنه: "وإذا رهنهُ ثمرةً، فعلى الراهن
تنقيتها وإصلاحُها وجِدادُها، وتشميسُها كما يكون عليه نفقةُ العبد"
(2) وسيأتي في كتاب الإجارة إن شاء الله تعالى، أنا نوجب على المكري
عمارة الدار في يد المكتري، حتى يتمكن من استيفاء المنفعة.
والمراوزة فيما أظن يحملون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أولاً إذ
قال: "وعلى من يحلبه ويركبه نفقته" على أن الراهن لا يرضى ببيع ملكه في
نفقته، وهذا
__________
(1) شَرعٌ: بفتح الراء، وتسكن تخفيفاً، أي سواء.
(2) ر. المختصر: 2/ 218. وفيه: "سقيها وصلاحها" بدل "تنقيتها
وإصلاحها".
(6/255)
عليه الاعتياد الغالب، فالنفقة عليه لا على
المرتهن، وفرض الامتناع عن النفقة ومسيس الحاجة إلى البيع ليس مما تعرض
له الحديث ولا الشافعي.
3736 - والمسألة محتملة جدّاً.
ويتصل بتمامها أنا إذا فرّعنا على طريق المراوزة، فيتشعب منه أن
المرتهن إن علم أن النفقة ستأكل الرَّهن قبل الأجل، فحق هذا أن يلحق
بما يفسد قبل حلول الأجل، حتى يسوغ للمرتهن طلبُ بيعه وردّه ناضّا
يستقل بقاؤه دون مؤنة. وهذا طرفٌ لا بد من عرضه على الفكر.
ولو كان الإنفاق يأكل نصفَ الرهن مثلاً فينقدح أن يُملَّك المرتهنُ
طلبَ البيع في جميعِه؛ دفعاً لتنقيص التشقيص أولاً. والآخر أن النفقة
تبقى على ما يبقى ثم يتسلسل القول فيه.
فليفهم الناظر ذلك؛ فإنه لطيف.
وممَّا يتصل بالمؤن القول في أجرة البيت الذي يأوي الرهن إليه، فليلتحق
بالمؤن، وقد تفصلت. وإنما أفردتها بالذكر؛ فإن الفَطِن قد يخطر له أن
الحفظ حق المرتهن، فيختص بالتزام ما يتعلق بذلك. وليس الأمر كذلك
بالإجماع.
* * *
(6/256)
بابُ رَهْن الرَّجُلَيْنِ الشيء الواحد من
الرجل الواحد
قال: " وإذا رهنا عبداً بمائة ... إلى آخره " (1).
3737 - إذا رهن رجلان عبداً مشتركاً بينهما بمائة درهم لإنسانٍ عليهما،
وتم الرهن ولزم، فالمائة مقسطة على الراهنين على كل واحد منهما خمسون
فيما نصوره، فإذا أدى أحدهما ما عليه من المائة، انفك الرهن عن حصّته
في العبد، وبقي نصيب الثاني من العبد مرتهناً بما عليه من الدين.
وتعليل ذلك بيّن؛ فإنَّ كل واحد من الراهنين رهن ملكه بما عليه، وقد
أدّى تمام ما عليه. ويستحيل أن يبرأ الراهن من الدَّين، ويبقى ملكه
مرهوناً، ولو بقي مرهوناً، لبقي مرهوناً بدين غيره، ويستحيل ذلك؛ فإنه
ما رهن نصيبه بدين غيره، وقال أبو حنيفة (2) لا ينفك الرهن عن شيء من
العبد ما بقي من دين واحد منهما شيء. وهذا ظاهر السقوط.
وإنما نذكر في الأحايين مذهباً يخالف مذهبنا حتى يكون ذلك تذكرة،
ويتمهد الأصل به.
3738 - ولو رهن رجل واحدٌ من رجلين عبداً بدينين لهما عليه، فَأَوْجَبَ
الرهنَ بلفظه وقبلاه، فإذا أدّى ما لأحدهما عليه، انفك الرهن في حصته،
وانطلق تصرفه فيه، وبقي الباقي مرهوناً بدين المرتهن الآخر، وتعليل ذلك
أن أحد المرتهنين استوفى جميع حقه وبرىء الراهن من دينه، فيستحيل أن
يبقى ما كان مرهوناً به على الراهن.
وأبو حنيفة يخالف في هذا الطرف أيضاً (3)، ويقول: تمام العبد مرهونٌ
عند كل واحد منهما، وإذا أدى الراهن نصيب أحدهما، لم ينفك من الرهن
شيء، ثم ناقض
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 217.
(2) ر. البدائع: 6/ 138، حاشية ابن عابدين: 5/ 320، 321.
(3) السابق نفسه.
(6/257)
أصلَه، فقال أوَّلاً: جميع العبد مرهون عند
كل واحد منهما، وبنى عليه أنَّ الرهن لا ينفك عن شيء من العبد بأداء
أحد الدينين، ثم ناقض وقال: لو هلك العبد وقيمته ألف، وكل دين ألف، لم
تسقط الألفان بسقوط الدين بتلف المرهون، ولكن يسقط من كل دين مقدار
قيمة الحصة المرهونة عنده.
ولا فرق في مذهبنا إذا رهن الرجل من رجلين بين أن يثبت الدينان عليه من
جهتين، وبين أن يثبتا من جهة واحدة، كإتلاف مقوم عليهما، أو كابتياع
عبدٍ منهما، فالحكم ما ذكرناه.
وحكى صاحب التقريب وجهاًً [غريباً]، (1) أن الدين إذا ثبت لهما من جهةٍ
واحدة، فلا ينفك الرهن بأداء حصة أحدهما. وهذا غلط صريح؛ إذ لا يتحقق
الشيوع في الدين. وكل واحد يطالِب بحقه من غير مزيد، فبقاء الرهن في
تلك الصورة مع سقوط الدين محال. ولا يتصور أن يثبت دينان لرجلين إلا
على حكم التعدد والتميز.
3739 - ولو استعار رجلٌ من رجل عبداً ليرهنه بمائة، فرهن من شخصين
بمائة، ثم قضى دينَ أحدهما، انفك الرهن في النصف، كما قدمناه.
ولو استعار من رجلين، ورهن من رجلين، ثم قضى دين أحدهما، انفكَّ الرهن
في النصف، ويقع ذلك النصف للمعيرين لا محالة؛ فإن الرهن جرى في ملك
مشترك، وحصتين شائعتين، فينزل الفك على حسب ذلك.
ولو استعار رجلان من واحد، ورهنا من واحدٍ، ثم قضى أحدهما ما عليه من
الدين، انفك النصف من الرهن، وعاد إلى المعير. وكذلك لو رهنا من رجلين
بدينين عليهما.
ولو استعار من شخصين، ورهن من واحدٍ [فالراهن] (2) واحد، وهو المستعير،
والمرتهن واحد، فإذا [قضى] (3) الراهنُ المستعيرُ نصفَ الدين ليفتك
نصفُ الرهن،
__________
(1) زيادة من (ت 2).
(2) في الأصل، (ت 2): والرهن. والمثبت تقدير منا بناء على السياق.
(3) في الأصل، (ت 2): اقتضى. والمثبت تقدير من المحقق مراعاة للمعنى
الذي سيظهر تماماً
في بسط المسألة الآتي قريباً.
(6/258)
ففي المسألة قولان، نص عليهما في الرهن
الصغير (1): أحدهما - لا يفتك من الرهن شيء؛ لأن الدين واحد، ومستحقه
واحد، وقد وقع الرهن من واحد بدين واحدٍ، وحكم الرهن أن يكون كله
متعلقاً بكل جزء من الدين الواحد، وما ذكرناً من الصّور قبل هذا مضمونه
تعدد الدين، إمَّا بتعدد من عليه، وإمّا بتعدد مستحق الدين، وإما
بالتعدد من الجانبين، فجرت تلك التفاصيل بناء على تعدّد الدين، والدين
متحد في مسألتنا، وإنما وجد التعدد في مالك الرهن. وسبب التمكن من
تصوير العدد في الملك مع اتحاد الدّين والراهن والمرتهن التصويرُ في
الرهن المستعار؛ فإن الملاك المتعددين لا دين عليهم، والراهن لا ملك
له، فلما اجتمع عدد المالك حيث لا دين، واتحاد الراهن الذي عليه الدين،
ولا ملك له، انتظم منه القولان.
وقد ذكرنا أحدهما.
والقول الثاني: أنه ينفك، لأن صَدَرَ (2) الرهن عن ملكين، فينبغي أن
يكون ذلك كما لو صدر عن دينين.
3740 - ولا يتم الغرض في هذا مالم نوضح التصوير ببيانٍ أظهرَ ممَّا
ذكرناه.
فالمسألة فيه إذا استعار رجل عبداً من رجلين مشتركين فيه، ورهنه بألف
درهم من رجل واحد، ثم أدى خمسمائة.
هذا أصل التصوير. وتمامه أنه [إن] (3) نوى بالخمسمائة فكَّ نصيب
أحدهما،
وعين ذلك الشخصَ بقصده، فالمسألة تخرجُ على قولين: أحدهما - أنه لا
ينفك شيء. والثاني - ينفك حصة من عينه (4). وأما إذا قصدنا بخمسمائة أن
تؤدّى على الشيوع، من غير تخصيص بحقه، فلا ينفك في هذه الصورة من الرهن
شيء؛ فإنه إذا تحقق تقدير أداء البعض عن كل حصة، فتلك الحصّة بكمالها
تبقى مرتهنة إلى تقدير أداء جميع ما يقابلها من الدين. هذا حكم الرهن،
فتصوير محل القولين يفتقر إلى
__________
(1) ر. الأم: 3/ 171.
(2) صَدَر: بفتحتين أي صدور.
(3) مزيدة من المحقق مراعاة لاستقامة الكلام.
(4) هذا التصوير بعينه في (الأم) في الموضع المشار إليه آنفا.
(6/259)
فرض قصد المؤدي في فك إحدى الحصتين.
ولو استعار عبدين من شخصين، ورهنهما من رجل واحد بدين عليه متحد، ثم
قضى نصفَ [الحق] (1) وقصد فكَ الرهن في أحد العبدين، وكانت قيمة كل
واحد منهما مائة، فقد اختلف أصحابنا في هذه المسألة على طريقين: فذهب
جمعٌ من الأصحاب إلى أنه يفتك الرهن في العبد الذي عينه بقصده؛ ففرق
هؤلاء بين العبدين والعبد الواحد؛ من جهة تعدد المحل وتميز أحد العبدين
عن الثاني.
وذهب المحققون إلى طرد القولين في صورة العبدين إذا اتحد الدين باتحاد
الراهن، فالتعويل على اتحاد الدين وتعدده والمرهون لا ينظر إلى تعدده
واتحاده، ولا يشك الناظر أن مسألة العبدين فيه إذا انفرد كل مالكٍ
بعبدٍ، فعند ذلك تخيل أقوام الفرقَ، فأمّا إذا كانا مشتركين بين سيدين،
فلا يخفى أن المسألة من صور القولين.
ونقل بعضُ الأثباتِ عن الشافعي في الأم نصاً غريباً، وهو أنه قال: إن
كان المرتهن عالماً بحقيقة الحال، وكونِ المرهون مستعاراً من شخصين،
افتك الرهن في النصف؛ لمكان علمه بتعدد مالك الرهن، فإن لم يعلمه، لم
يفتك. وهذا لا ندري له وجهاً؛ فإن عدم الانفكاك سببه اتحادُ الدَّين،
وعدمُ النظر إلى تعدد المالك واتحاده. وهذا لا يختلف بعلم المرتهن
وجهله.
نعم يؤثّر العلمُ والجهل في شيء آخر، وهو أن من رهن عبداً مستعاراً من
مالكين عند رجلٍ واحدٍ بثمن مشروط بالرّهن، وفرعنا على أن أداء ما
يقابل نصيب أحد المعيرين يوجب انفكاك الرهن في حصته، نظر في المرتهن:
فإن كان جاهلاً بتعدد المالك وصفة الحال، ثبت له الخيار إذا تبين
الأمر؛ فإنه بنى الأمر على رهن مطلق بدينٍ واحد، وموجبه أن لا ينفك منه
شيء ما بقي من الدين شيء. وإن كان عالماً بحقيقة الحال دارياً بأن ذلك
يُفضي إلى تبعيضٍ في الفك، فلا خيار له إذا حصل التبعيض في الفك.
ولو كان بين رجلين عبد مشترك، فأذن أحد الشريكين لصاحبه في أن يرهن
نصيبه
__________
(1) في الأصل: الرهن.
(6/260)
من المشتري مع نصيبه المملوك له، فرهن
العبدَ، ونصفُه ملكُه، ونصفه مستعار من شريكه، بالدين الواحد الذي
عليه، فلو قصد فك الرهن في نصيب نفسه وإبقائه في نصيب الشريك المعيرِ،
أو على العكس، ففي المسألة القولان المقدمان؛ فإن المالك متعدد،
وأحدهما المعير، والثاني الراهن، والدين متحد. وهذا منشأ الخلاف.
3741 - ولو وكَّل رجلان رجلاً واحداً ليرهن عبداً لهما من واحد، بدين
لذلك الواحد عليهما، فإذا قضى أحد الموكِّلين نصيبَه من الدين، فقد ذكر
بعض أصحابنا أن هذا من صور القولين؛ لأن الراهن متحد، وكذلك المرتهن،
والراهن المتحد هو الوكيل.
وهذا خطأ، ولا ننظر إلى اتحاد الراهن من طريق الصورة، وإنما يَفْهَم
عَقْدَ هذا الباب من يدري أن قطبه ومداره على اتحاد الدين، وإذا كان
لرجل على رجلين دين، فهو في التحقيق دينان، ولا يتصور اتحاد الدين مع
تعدد المستحق أو تعدد المستحق عليه.
فصل
قال: " ولو كان الرهن ممَّا يكال، كان للذي افتك نصفه أن يقاسم المرتهن
بإذن شريكه ... إلى آخره " (1).
3742 - إذا رهن رجلان شيئاًً من المكيلات مشتركاً، أو من الموزونات،
فإذا قضى أحدُهما نصيبه من الدين، فقد افتك الرهنَ في نصيبه، بناء على
ما مهدناه، من تعدد الدين. قال الشافعي: " للذي افتك نصيبه أن يقاسِم "
وهذا الذي ذكره جواب (2) على قولنا: " القسمة إفراز حق ". فإن جعلناها
بيعاً، لم يجز، لأنه يؤدي إلى بيع المرهون بغيره (3)، وهذا أصل يجري
على الاطراد فيما يمتنع البيع فيه، ففي إجراء
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 217.
(2) كذا في النسختين، ولعلها: جارٍ.
(3) فنصيب الشريك الذي افتك لم يعد رهناً، وهو شائع مختلِطٌ بنصيب
شريكه، فلو قلنا: القسمة =
(6/261)
القسمة قولان مبنيان على أن القسمة إفرازٌ
أو بيع، وقد يطرأ على قول البيع في بعض المواضع قول في جواز القسمة؛
وذلك لمكان الضرورة. وهذا كما سنذكره في قسمة الوقف؛ فإنه على التأبيد
والشركة القائمة قد تجرّ عسراً عظيماً. فإذا لم تفرض ضرورة ظاهرة،
انطبق جواز القسمة ومنعها على القولين في أن القسمة بيع أم ليست بيعاً.
ومسألتنا من صور القولين؛ فإن الرهن ينفك عما قليل، فلا يظهر الضّرر.
3743 - ثم ذكر الشافعي لفظاً، فقال: " للذي افتك نصيبَه أن يقاسم
المرتهن بإذن
الشريك ".
قلنا: المقاسمة الحقيقية تجري مع الشريك؛ فإن المقسوم هو الملك، وهو
منسوب إلى المالكين، ولكن الشافعي توسع في الكلام؛ إذ قال: يقاسم من
افتك نصيبَه المرتهنَ، وحقيقة الاقتسام يتعلق بالمالك، والمرتهنُ (1)
ليس مالكاً، حتى إذا فرّعنا على إجراء القسمة، فقد اختلف أصحابنا في أن
إذن المرتهن، هل يشترط؟ فمنهم من قال: لا يشترط إذنُه، ولا تعلق للقسمة
به. ومنهم من قال: لا بد من مراجعته لمكان حقه، [وهذا كقولنا: لا يصح
بيع الرهن دون مراجعة المرتهن، وإن زعم الراهن أنه يبيعه في حقه] (2).
ثم القسمة في المكيلات والموزونات قسمةُ إجبارٍ، فمن دعا إليها أجابه
الحاكم، وإن امتنع الشريك المالك؛ فلا أثر للمراجعة؛ فإن المستدعي
مجابٌ. نعم، حق على الحاكم أن يراجع الشريك؛ فإن أطاع، كان هو المنشىء
للقسمة، وإن أبى، فإذ ذاك يظهر إجبار الوالي، وعلى هذا التفسير في
مراجعة المرتهن من الخلاف ما قدمناه. فافهموه.
ولا يختص ما ذكرناه بالمكيلات والموزونات، ولكن كل قسمة يَجري الإجبارُ
عليها على الجملة، فإذا فرض الرهن في جنسه، فالكلام في القسمة فيه على
ما مضى.
__________
= بيع يكون قد بيع شيء من الرهن بغيره، ليصير رهناً، والرهن محبوسٌ
للمرتهن لا يجوز بيعه.
(1) في (ت 2): "الراهن" وهو سبق قلم واضح.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(6/262)
3744 - ولو رهن رجلان عبدين مشتركين بينهما
بدين كان لرجلين عليهما، ثم قضى أحدُهما ما عليه من الدين، فافتك
الرهنَ في نصفي العبدين، فلو قال لشريكه: العبدان متساويان في القيمة،
فتعال نقتسمها، وينفرد كل واحد منا بعبدٍ، فهذه القسمة ليست قسمة
جزئية؛ إذ لا يعبر عن الحصتين فيهما بجزأين، بل لو جرت، لانفرد كل واحد
بشخصٍ، وهذا النوع يسمى قسمةَ التعديل، ومعناه أنها لا تعتمد إلا
تعديلَ القيمة.
فالقِسَم (1) ثلاثٌ: منها ما يعتمد الجزئية المحضة، وهي في المثليات،
ومنها ما يعتمد التعديل في القيمة والجزئية، وعليها بناء قسمة الأقرحة
(2) والدور. والإجبار يجري في هذين القسمين. والقسم الثالث - يعتمد
تعديل القيمة، ولا مجال للجزئية فيه، كتمييز عبدٍ من عبد، وكوضع القسمة
على أن ينفرد شريك بدار، وينفرد الآخر بدارٍ أو بستانٍ، أو سلعة من
المنقولات. وللشافعي في الإجبار على هذه القسم الأخير قولان سيأتي
ذكرهما في باب القِسام، إن شاء الله تعالى.
فإن قلنا: يجري الإجبار على هذه القسمة، فمن أصحابنا من قال: هذا النوع
بيعٌ قولاً واحداً. ومنهم من قال: هو خارجٌ على القولين. فإن قلنا: هي
بيع قولاً واحداً، امتنع جريانُها في الرّهن. فإن قيل: أرأيت لو رضي
المرتهن؛ قلنا: لا يصح مع رضاه أيضاً؛ فإن رضاه يعمل في فك الرّهن،
فأما في بيع الرهن بما ليس برهن ليصير رهناً، فلا مساغ لهذا أصلاً.
والأجوبة وإن اختلفت في جواز نقل الرهن من عين إلى عين على حكم
التراضي، فلا اختلاف في أن التبادل بصيغة البيع لا يجوز.
وإن قلنا: القولان جاريان في هذا الضرب من القسمة، فإن قلنا: لا إجبار
عليها، فصحة القسمة مبنية على القولين، كما ذكرناه. ولكنا ذكرنا
اختلافاً في القسمين المقدمين في أن المرتهن هل يُراجع؟ فإن قلنا
ثَمَّ: يراجع، فلأن يراجع ها هنا أولى. وإن قلنا ثَمّ: لا يراجع،
فهاهنا وجهانِ ذكرهما القاضي.
__________
(1) جمع قسمة.
(2) الأقرحة: جمع قَراح، وزان كلام، المزارع التي لي فيها بناء، ولا
شجر (مصباح).
(6/263)
والأصح عندي أنه لا بد من مراجعة المرتهن،
فإن ضرورة الإجبار إن أوهبَ (1) حقُّ المرتهن فيما تقدم، فيبعد جداً في
صورةٍ لا إجبار فيها أن يخرج عن حق المرتهن في معرض التراضي شيءٌ كان
متعلقَ حقِّه.
فليفهم النّاظر ما يمر به من البدائع.
3745 - ثم ذكر الشافعي بعضَ تفريعات رهن المستعار، وبين أن حق المستعير
أن يذكر للمعير الدَّينَ الذي يرهن به. وهذا تفريع منه على أن رهن
المستعار ينحى به نحو الضّمان.
وقد تقصينا بما فيه مقنع.
فصل
قال: "ولو رهن عبده رجلين، وأقر لكل واحد منهما بقبضه كله ... إلى
آخره" (2).
3746 - هذا الفصل فيه تعقد من جهة التصوير، لا من مأخذ الفقه، والتدرج
إلى البيان فيه يستدعي الاعتناء بالتفصيل.
فنقدم أولاً على الخصوص في المقصود تجديدَ العهد بأمور سبق تمهيدها:
أولاً - إذا أقر المالك بأنه رهن عبده من زيد، ثم بأن أنه رهنه من
عمرو، وسلمه إليه، ولم يتعرض في الإقرار الأول للقبض، وإنما ذكر الرهن
المطلق، فيسلم الرهن إلى المقر له الثاني؛ من قِبل أنه لم يعترف في حق
الأول إلا بالرهن، ولو رهن من رجلٍ، ولم يُقبض، ثم رهن من الثاني
وأقبض، فيرتفع الرهن الأول، ويتم الثاني. هذا إذا جرى الإقراران على
هذا الترتيب.
ولو قال أولاً: رهنت من زيد عبدي هذا، وسلمه إليه، ثم أقرّ بعد ذلك أنه
رهنه
__________
(1) أوهبَ: دام (المعجم). فكأن المعنى: إن دام حق المرتهن مع القول
بالإجبار، فيبعد -ضرورة- ألا يكون له الحق في صورة عدم الإجبار. والله
أعلم.
(2) ر. المختصر: 2/ 217.
(6/264)
أولاً من عمرو، وسلمه إليه، فكان إقراره
الثاني مخالفاً للأول. أما الرهن، فهو في ظاهر الأمر مسلَّمٌ إلى المقر
له أولاً، وهل يغرَم المقِر للمقر له ثانياً قيمة ذلك الرهن لتوضع
رهناً؟ فهو على قولين مأخوذين من أصلٍ معروف في أن الحيلولة في الأموال
بالأقارير [وبالشهادات هل توجب الغرامة على المتسبب إلى إيقاعها
بالإقرار] (1) أو بالشهادة المتصلة بحكم الحاكم؟ هذا الأصل على قولين.
ومن صوره لو قال: غصبت هذه الدارَ من فلان، لا بل من فلان.
وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله عز وجل في كتاب الغصوب، وفيه يتبين تفاوت
المراتب في مسائل الأصل، ويتسلسل الترتيب، وما ذكرناه من القولين في
الرهن ليسا على كمال البيان.
وكمال بيانهما في أثناء الفصل، وإنما غرضنا التنبيه على ما يُفضي إليه
الإقرار الثاني من أمر الغرم.
3747 - ومما نقدمه أن المالك لو قال: رهنت عبدي فلاناً من زيدٍ
وأقبضته، بعد أن كنتُ رهنته من عمرو وأقبضته، فصدقُ الإقرار يقتضي
تقديمَ زيد. ومنتهى الكلام المنعطف على أوله يقتضي أن يكون المتقدم
عمراً.
هذا تخريجٌ على القولين في أن الاعتبار في مثل ذلك بأول الإقرار، أو
بآخر الكلام المتواصل. فإن قلنا: الاعتبار بآخر الكلام، فالمقَرُّ له
بحق السبق هو المذكور آخراً.
وإن قلنا: الاعتبار بصدر الكلام، فالمقر له أولاً هو المذكور أولاً في
صدر الكلام، وهذا مأخوذ من قول القائل: لفلان علي ألفُ درهم من ثمن
خمرٍ، فإن بنينا الأمر على آخر الكلام، لم نُلزمه شيئاًً، وإن بنيناه
على أوله، ألزمناه الألفَ المقرَّ به، المذكورَ صدراً في الكلام،
وأحبطنا الآخر، وسيأتي بيان هذا في الأقارير إن شاء الله.
فإذا تبين الاختلاف في مسألة الرّهن في أن الأوّل في ظاهر الحكم مَنْ؟
فمن نقدره أولاً، فالرهن مسلم إليه، وهل يغرَم المقر لمن نقدِّره آخراً
أم لا؟ فعلى ما قدمناه من القولين.
__________
(1) زيادة من (ت 2).
(6/265)
3748 - عاد بنا الكلامُ إلى الهجوم على
مقصود الفصل. فإذا ادعى رجلان على واحدٍ، كلُّ واحدِ منهما يدعي عليه
أنه رهن عبده منه وسلمه إليه، وقال كل واحد منهما: إنه بعدما سلمه إليه
رهناً مستحقاً، انتزعه من يده غصباً أو استعاره منه وسلمه إلى الثاني.
ونفرض المسألة فيه إذا لم يكن لواحد منهما بينة؛ فإن القول في البينات
وتعارضها لا يبين إلا في كتاب الشهادات، فإذاً لا بينة، والدعوتان
مطلقتان، لا تاريخ في واحد منهما، إلا أن كل واحد منهما يدعي السبقَ
والتقديمَ بالقبض، فلا يخلو إما أن يكون العبد في يد المالك أو في
أيديهما، أو في يد أحدهما:
3749 - فإن كان في يدي المالك، أو يدي وكيله أو نائبه، فلا يخلو في
التقسيمة الأولى إما أن يصدقهما، وإما أن يكذبهما، وإما أن يصدق أحدهما
ويكذبَ الآخر، فإن كذبهما، فالقول قوله مع يمينه، فيحلف وينتفي
العقدان.
وإن صدق أحدَهما وكذّب الثاني، حكم بالرهن في ترتيب الكلام للمصدَّق
منهما. وهل للمكذَّب أن يستحلف المقِرَّ؟ هذا يبتني على أنه لو أقرّ له
بعد أن أقر للأوَّل، فهل يغرم القيمة للثاني؟ فعلى قولين، نبهنا عليهما
في صَدْر الفصل. فإن قلنا: لا يغرَم، فلا فائدة في تحليفه؛ فإن اليمين
تعرض حتى يهابها المعروض عليه، ويقرّ. ولو أقر لم يكن لإقراره حكمٌ في
حق الثاني: لا في نقض حق الأول من الرهن، ولا في إثبات العوض، فلا معنى
لليمين إذاً.
وهاهنا تنبيه على خبطٍ لبعض الأصحاب، تردد في مواضع فإن قلنا: لا يحلف
المقِرّ، فلا كلام. وإن قلنا: يحلف، فإن حلف، فلا كلام. وإن نكل، رُدّت
اليمين على المدعي، فإن نكل كان نكولُه بمنزلة حلف صاحبه. وقد مضى حُكم
حلفه. وإن حلف، فقد قال بعض أصحابنا: هذا ينبني على أن يمين الرد
بمثابة إقرار المحلَّف الناكل، أو بمثابة بيِّنةٍ مقامة في الخصومة؟
فإن قلنا: هي بمثابة إقراره، فلا يثبت إلا الغرم، كما تفصل من قبل. وإن
قلنا: يمين الرد كبينة، فقد قال بعض الضعفة: تُجعل يمين الرد كبينة في
الواقعة، تزيل يدَ المقر له أولاً، ويسلم الرهن إلى الثاني، كما لو
قامت بينة على حسب هذا.
(6/266)
وهدا غلط صريح، صرّح الأصحاب بنقله، ونحن
لا ننقل أمثاله إلا للتنبيه على كونه زللاً.
والوجه فيه أن يمين الرد لا يكون كبينة في حق غير المتخاصمين، واعتقاد
هذا محالٌ؛ فإن قصاراه أن يصير نكولٌ من خصم، ويمين من آخر حجةً على
غيرهما، ولا يصير إلى اعتقاد هذا ذو لبٍ، وإذا كان غلطاً، فلا معنى
للاعتناء بالتفريع عليه على عادتنا في العرض. ولكن القدر الذي فرعه
الأصحاب على هذا الوجه الضعيف أنا لو استرددنا الرَّهن من الأول،
ورددناه إلى الثاني، فالأول هل يغرم القيمة، من حيث قصر فلم يحلف؟ فيه
طريقان: منهم من قال: قولان، ومنهم من قطع بأنه لا غرم عليه للأوَّل؛
فإنه إن كان يلتزم بالإقرار الثاني بعد الإقرار الأول غرماً، فسببه أنه
قال ما كان من حقه أن لا يقوله، وتقصيره في مسألة الحلف امتناعه من
اليمين، ويبعد أن يوجب ذلك تغريماً.
ولا ينبغي أن نزيد على هذا الخبط في تفريع أصلٍ هو خطأ.
هذا كله فيه إذا كذبهما، أو كذّب أحدهما وصدق الثاني.
3750 - فإن صدقهما، وقال: قد رهنت منك، وسلمته إليك، وقال للآخر: قد
رهنته منك وسلمته إليك، وكنت في أحد الرهنين والتسليمين مبطلاً، ولست
أدري من المحق منكما ومن المبطل، وكيف جرى تأريخ السبق والتقدّم، فإذا
قال المالك ذلك، لم يخل المدعيان إما أن يدعيا علمه، فكلٌّ يقول: تعلم
سبقي وتنكر علمك به، وإما ألا يدعيا علمه، فإن لم يدّعيا إحاطته بحقيقة
الحال، فلا نزاع لهما معه، والخصومة بين المدعيين، فلكل واحد منهما أن
يحلِّف صاحبه، فإن تحالفاً أو نكلا، عسر إمضاء الأمر بينهما، ولم يكن
أحدهما أولى بحقه من الثاني.
قال الأصحاب: إذا انتهى الأمر إلى هذا المنتهى، انفسخ الرهن. قال الشيخ
أبو محمد: يمكن أن يجعل هذا بمثابة ما لو تحالف المتبايعان، وفيه خلاف
في أن
العقد ينفسخ أو يُفسخ، ثم إن قلنا: ينشأ فسخُه، فالقاضي يفسخ أو
المتعاقدان،
فليخرّج هذا على ذاك، فإن حكمنا بالانفساخ، أو نفذنا الفسخ كما سنذكره،
فالقول
(6/267)
في الظاهر والباطن يعود، وهذا اختلافٌ
حقُّه الجريان في كل موضع ترتب الحكم بالفسخ فيه على الإشكال، وتعذُّرِ
إمضاءِ العقد.
فإن قلنا بالانفساخ، وهو الذي أطلقه الأصحاب في هذه المسألة، فلا كلام.
وإن قلنا بأنشاء الفسخ، فليس ذلك إلى المدعيَين، ولكن يفسخ الحاكم.
ويبعد أن يقال: يفسخ المالك؛ فإن الخصومة ما تعلقت به: فالوجه والله
أعلم تفويض الأمرِ إلى الحاكم. فإن قيل: إذا استوى المتداعيان في
الحلف، أو في النكول، فهلا قلتم يقسم الرهن بينهما؟ قلنا: تداعيا
عقداً، والعقود لا تقبل التقسيط. وسيكون لنا إلى هذا الفصل عودة في
أثناء الكلام، إن شاء الله تعالى.
وإن حلف أحدهما ونكل الآخر، قُضي للحالف. وكل ذلك فيه إذا لم يدعيا
علمَ المالك.
3751 - فإن ادّعيا علمَه، وكلٌّ يدعي علمه على وفق ما يدعيه ففي ذلك
مسائل: إحداها - أن ينكل عن اليمين في حقهما جميعاً، فتعود الخصومة
إليهما، كما لو لم يدعيا علمَه؛ فإنه بنكوله عن اليمين حسم باب العلم،
وأبهم الأمرَ. وإذا عادت الخصومة إلى المتداعيين، فقد تفصل ذلك بما فيه
مقنع.
ولو حلف المالك على نفي العلم في حق كل واحد منهما، ففي المسألة وجهان:
أحدهما - أن هذا منتهى الخصومة، وقد تحقق تعذر الإمضاء، فيترتب على
حلفه لهما على نفي العلم انفساخُ الرهنين. ثم الكلامُ في الانفساخ ما
مضى.
والوجه الثاني - أنَّ فائدة حلفه لهما أن تنقطع الخصومة عنه من جهتهما،
والخصومة قائمة بين المتداعيين ما بلغت منتهاها، وهذا الوجه الثاني
ذكره صاحب التقريب وشيخي وهو حسن فقيه.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً ثالثاً- أن الرهن بين المتداعيين نصفان؛ إذ هو
مُقِرّ لهما، وقد أشكل المتقدم منهما، ولا يمكننا أن نجعل العين كلَّها
رهناً من كل واحدٍ، ولا من واحدٍ على التعيين، فالتقسيط أعدل. وهذا [و]
(1) إن كان مشهوراً، فليس
__________
(1) زيادة من المحقق.
(6/268)
يستند إلى فقه مُبين، مع بقاء المتداعيَيْن
على النزاع القائم.
نعم لو اعترفا بالالتباس كما حلف المالك عليه، فالمصير إلى التقسيط في
مثل ذلك رأيٌ قد نقول به، في الأملاك المُشْكِلَةِ، المترددة بين طائفة
من المدعين، على ما سيأتي بيان الأملاك المشكلة بين المتنازعين، ثم
[حكمها] (1) إذا اعترفوا بالإشكال.
ثم قال القاضي إذا ذكرنا وجهاًً في أن الرهن بينهما، وقد حلف المالك،
فهذا الوجه يخرج إذا نكل عن اليمين في حقهما جميعاً؛ إذ لا فرق.
هذا كله إذا التبس الأمر كما قدمناه.
3752 - فأمّا إذا أقر لأحدهما، فإقراره له مقبول. وهل يحلف للثاني؟
فعلى وجهين، أو قولين: أحدهما - أنه يقبل إقراره للمقَر له بلا يمين؛
إذ الملك له، وإليه الرجوع. ولو رجع عن إقراره، لم ينفعه رجوعه.
والثاني - يحلف. وهذه الأصول الملتفة راجعة إلى قواعدَ مضبوطة. فتحليفه
في حق الثاني مأخوذ مما تقدم، من أنه هل يغرم للثاني لو أقر له. وقد
مضى هذا. وعليه بنينا مسألةً في الجنايات من كتاب الرهن، وهي أن الراهن
لو أقر بعد جريان القبض في الرهن بجناية قبل الرهن، وقلنا: القول قول
الراهن، فهل يصدق بلا يمين؟ أم لا بد من تحليفه؟ فيه قولان: فإن قلنا:
إنه يحلف، فلو حلف، انقطعت الخصومة، واستمر الإقرار، وإن نكل عن
اليمين، ونكل المدعي أيضاًً عن يمين الرّد، فهو كما لو حلف المقر
المالك.
وإن حلف من رددنا عليه، فمن أصحابنا من قال: في المسألة وجهان: أحدهما
- أنه ينفسخ الرهنان، والثاني - يقسم بينهما. وهذا القائل يزعم أن
الاقرار السّابق حجة، ويمين الرد من المدعي الثاني حجة، وينزل ما تقدم
مع ما تأخّر منزلةَ ما لو ادعى المرتهنان عليه، فحلف لا يعلم، وذلك أن
حلفه في الصورة المتقدمة يُلبّس
__________
(1) في الأصل، (ت 2): حكمهما. والمثبت تقدير من المحقق؛ إذ الضمير يعود
إلى الأملاك المشكلة.
(6/269)
الأمرَ ويُعمي الخصومة، ويوجب استواء
المرتهنين. ثم ينشأ من استوائهما أوجهٌ، قدمناها. وجهان (1) منها: أن
الرهن بينهما؛ إذ الرهنان ينفسخان، وقد تحقق الاستواء بالإقرار، ويمين
الرد. وهذا مسلكٌ لبعض الأصحاب. وإذا قيل له: فلو أقرّ للثاني بعدما
أقر للأول، لم يتضمن إقراره للثاني المترتب على الأول استواءً بين
المرتهنين، حتى يقضى بأنفساخ الرهن أو انقسامه، قال مجيباً: الإقرار
الثاني مردود إلا في حق الغرم، واليمين الصادرة من المدعي حجة انتظمت
الخصومة بها، وأفضت إليها، فلم يكن كإقرار ثانٍ بعد الإقرار الأول.
وسلك بعضُ أصحابنا مسلكاً آخر، فقال: إن جعلنا يمين الرد بمثابة
الإقرار، فلا يستفيد الحالف المردود عليه حيث انتهى التفريع إليه إلا
الغرم، كما قدمناه. وإن جعلنا يمين الرد بمثابة بيّنة، فالرهن يسلم إلى
الحالف الآن؛ ويبطل حكم الإقرار الأول. وهذه الطريقة ضعيفة.
والطريقة الصحيحة القطع بتقرير الرهن الأول على موجب الإقرار الأول، من
غير أن يُتبع بشركةٍ أو نقض، أو انفساخ؛ فإن الانفساخ يعتمد الإشكال،
وقد استقل الإقرار الأول في البيان. والشركة تعتمد الاستواء، ولا
استواء مع التقدم والتأخر.
ونقض الرهن الأول، وتسليمه إلى الثاني نتيجة بيّنةٍ تقوم، وقد ذكرنا أن
يمين الرد ليست بيّنة في حق غير الناكل والمردود عليه، فقد بطلت هذه
المآخذ. ولم يبق إلا القطع بأن الرهن يسلم إلى الأول، والناكل يغرَم
للحالف القيمة؛ فإذا تبيّنا جواز تحليفه على تقديم الغرم، لا ينقدح
عندنا في القياس إلا هذه الطريقة.
3753 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الرهن في يدي الراهن أو في يدي
نائبه، بتقدير نزعه الرهن ممن سلمه إليه.
وقد أجرينا المذهب بكماله في هذا الطرف. ولكنا نخشى أن يتخبط على
الناظر، فاللائق بطلب البيان أن نترجم ما قدمناه إلى الآن، ثم نبتدىء
القسم الثاني.
فنقول: إذا جرى رهنٌ وتسليمٌ من رجلين، وعسر درك السابق منهما، فإن
ادعيا
__________
(1) كذا في النسختين، ووجهها أنها في محل (البدل) من (أوجه).
(6/270)
علماً على الراهن والرهن في يده، فإن حلف
لا يعلم، فقد أشكل الأمر من جهته، ونشأ منه أوجه: أحدها - قسمة الرهن؛
أخذاً من استواء المدعيين. والثاني - انقسام الرهن، تلقياً من
الاستواء. ولا تبعيض بينهما بالاتفاق. والثالث - وهو الأصح الأقيس أن
المرتهنين لا بد وأن يختصما. فإن تحالفا، أو نكلا، اعترض عند ذلك
الانفساخ -والفسخُ في معناه- أو القسمة، للاستواء. وإن حلف أحدهما،
قُضي له؛ فإنه منتهى الخصومة.
هذا إذا ادّعى علمَ الراهن، فحلف. فأما إذا نكل، فلا تقف الخصومة على
النكول، وجهاً واحداً؛ فإن القضاء بالنكول لا يلائم مذهبنا، ولكن
تسترسل الخصومة على المدعيين. ثم قد ذكرنا منتهى خصومتهما.
هذا إذا ادعيا علمه.
[فإن] (1) لم يدعيا علمه، فلا يتركان والاختصام من غير مراجعة المالك.
ولكن لو اعترفا بأنه لا يعلم، وهو معترف أيضاً، فيكون هذا بمثابة ما لو
نكل عن اليمين الموجهة عليه في دعوى العلم. ثم منتهى خصومتهما إذا أفضى
إلى استواءٍ في نكولٍ أو حلف، عاد الوجهان في الانفساخ والانقسام. وإن
وقعت الخصومةُ على حلف من أحدهما، ونكولٍ من الثاني، جرى القضاء
باليمين، لا محالة.
ولو قال الراهن: أنا على [علم] (2)، وأقر لأحدهما، واليد له، نفذ
إقراره. ولو أقر للثاني، فقولا الغرم، وإن لم يقر، ففي التحليف قولان
مأخوذان من الغرم. فإن حلف، انتهت الخصومة، واستقر الرهن على موجب
الإقرار. وإن نكل، ونكل المدعي، فهو كما لو حلف.
وإن حلف المدّعي، تحزب الأصحاب أحزاباً، وذكروا طرقاً ثلاثة، أتينا
عليها في آخر التفصيل، وارتضينا الصحيحَ الجاري على القياس.
هذه ترجمة ما قدمناه.
__________
(1) في الأصل: وإن. والمثبت من (ت 2).
(2) في الأصل: علمه.
(6/271)
3754 - ونحن نخوض الآن في القسم الأخير من
مضمون أصل الباب. فنقول: كل ما ذكرناه فيه إذا كانت اليد فيه للراهن،
فأما إذا كانت اليد لأحد المدعيين، أو كان الرهن في أيديهما جميعاً،
فنقول في ذلك: لو كان في يد أحد المدعيين، نظر، فإن أقر المالكُ لصاحب
اليد، حكم له بالرهن؛ فإنه حصلت له شهادة اليد، وإقرار المالك. وإن أقر
المالك لصاحبه الذي لا يدَ له في الحال، وزعم أن هذا المرتهن الذي هو
ذو اليد، أزال يده التي أثبتها له، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنا
نرجّح الإقرار على اليد؛ فإن قول المالك هو المعتبر، وإليه الرجوع،
واليد لا تدل على الرهن وإنما تدل على الملك. على تفاصيلَ ستأتي، وذو
اليد ليس يدعي إلا حقّ الرهن.
والقول الثاني أن الترجيح لليد. وهذا ضعيف لما قدمناه. وإن كان
مشهوراً.
وصاحبه يقول: إذا كنَّا نرجح اليد في دعوى الملك، فاعتبارها في دعوى
الوثيقة ليس بعيداً، واليد أليق بالرهن منها بالملك، فإن القبض ركن
الرهن، ولا يكاد يخفى فرض المسائل كلها في [تسليم] (1) جريان الرهن في
صورته مع الرجلين، وإنما النزاع في السابق بالقبض.
3755 - ولو كان الرهن في أيديهما، فأقر لأحدهما، [فإن] (2) قلنا: نرجح
الإقرار على اليد، حُكم به للمقر له. وإن قلنا: نرجح اليدَ على
الإقرار، فالرهن بينهما.
ثم من قضينا له بالإقرار، تمَّ أمرُه في استحقاق الرهن، وإن كنا نرجح
[اليدَ] (3)، فلا نقضي باليد المجردةِ، فيبقى النزاع معها، غير أن
القول قول صاحب اليد مع يمينه، وهذا لا شك فيه، وهو الشاهد بأن الإقرار
أولى من اليد.
واختار المزني أضعفَ القولين فقال: إذا أقر المالك بالرهن والقبض [لمن]
(4) لا يد له، فالقول قول صاحب اليد. وهذا تقديم منه لليد على الإقرار،
وليس له
__________
(1) في الأصل: تسلم.
(2) في الأصل: إن.
(3) في النسختين: الرهن. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق. لعله الصواب.
(4) في الأصل: ولا يد له.
(6/272)
أصل ولا نعرف الخلاف أن الإنسان إذا كان في
يده ملكٌ لغيره، فادعى أنه رهنه منه المالك، وأنكر صاحب الملك أصلَ
الرهن، فالقول قول المالك في نفيه، ولا حكم ليد مدّعي الرهن. وإنما
القولان فيه إذا جرى الرهن، وآل النزاع إلى القبض. وإذا كان الرهن لا
يلزم بنفسه، فأي أثر له والقبض متنازع فيه.
ثم فرع المزني، فقال: إذا صادفنا الرهن في يد أحدهما، فقال: لقد قبضت،
وقبض صاحبي أيضاًً، ولكن كان قبضي أسبق من قبضه، فيقال له: لو كان قبضك
أسبق من قبضه، كانت اليد لصاحبك الآن، فإنك أقررت له بصورة القبض
أيضاًً، وادعيت أنك السابق، وهذا يقتضي أن تكون اليد لصاحبك، وقد
تلقاها منك غصباً، أو استعارةً، فموجب ما قلت يتضمن إقراراً لصاحبك
باليد، فسلِّم إليه الرهنَ، ثم أثبت سبقَك.
قال القفال: فيما قاله نظر، وتفصيل، فنقول: إن صرح بأنه لم يقبض إلا
مرّة واحدة، وكذلك صاحبه، لم تتجدد يده. ثم قال: وأنا سابق، ولم تزل
يدي، فلم يتكرر، فهذه مناقضة. والجوابُ ما قال المزني.
فأمّا إذا قال: كنت السابق بالقبض، فأخذ مني صاحبي غصباً، فانتزعته من
يده، ففي هذه الصورة يبقى في يده.
وما ذكره المزني محتمل في الصورة التي ذكرها القفال آخراً، فإنه على
الجملة اعترف له بيده قبل هذه اليد التي نشاهدها. وادعى: أنه كان
مغتصباً فيها، فعليه إقامة البينة فيما يدعيه من الغصب، والأمر محتمل
كما ترى.
* * *
(6/273)
باَبُ الرّهنِ يَجْمَعُ شَيْئَينِ
قال الشافعي رحمة الله عليه: " إذا رهن أرضاً ... إلى آخره " (1).
3756 - الفصل يشتمل على شيئين: أحدهما - أن من رهن أرضاً فيها أشجار،
ولم يتعرض للأشجار، ولا لاسم يشتمل على الأشجار، كالبستان ونحوه، بل
ذكر الأرض مطلقا، فهل تدخل الأشجار تحت تسمية الأرض؟ فيه اختلاف نصوص،
وكذلك في البيع مثل ذلك. وللأصحاب طرق سبقت مفصلة، فلا نعيده. هذا أحد
المقصودين.
والثاني - أن يبيع شجرة في مغرسها، أو يرهنها من غير تعرض لذكر المغرس،
فحاصل المذهب أقوالٌ، وربما كان يقول: أوجه، فإن النصوص في المقصود
الأول وهو بيع الأرض من غير ذكر الشجر. وهذا من بيع الشجر من غير ذكر
المغرِس.
فمن أصحابنا من قال: لا يدخل المغرس لا في البيع، ولا في الرهن؛ فإن
الشجر بالإضافة إلى الأرض فرعٌ، ويبعد استتباع الفرع الأصل.
والثاني - أن المغرِس يدخل في الرهن والبيع جميعاً؛ فإن مطلق العقد على
الشجرة القائمةِ التي لا يعتاد قلعها يُشعر بحق تقريرها، وذلك (2) يثبت
الاستحقاق في المغرس.
والثالث - أن البيع يتضمن استتباع المغرس بخلاف الرهن. والفرق ما
قدمناه مراراً من ضعف الرهن وقوة البيع، وعليه خرّجنا الخلاف في أن
مطلق تسمية الشجرة هل يستتبع الثمارَ التي لم تؤبر في الرهن استتباعها
إياه في البيع؟
هذا قولنا في المغارس.
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 217.
(2) في (ت 2): لا يثبت.
(6/274)
فأما إذا كان بين النخيل قطع أراضٍ لا غراس
فيها، نُظر: فإن كانت بحيث تفرد بالانتفاع بها دونَ النخيل، فلا شك
أنها لا تدخل تحت مطلق تسمية النخيل.
وإن كانت تيك القطع لا يتأتى إفرادها بالانتفاع بها إلا على طريق
التبعية للأشجار فقد ذَكر شيخي وصاحب التقريب وجيهن فيها: أحدهما -
أنها بمثابة المغارس حتى تخرّج فيها الأوجه التي ذكرناها في طرق
الأصحاب (1). ومن أصحابنا من قطع بأنها لا تدخل تحت البيع والرهن
جميعاً، وجهاًً واحداً؛ فإنها ليست مغارس. وإن كانت لا تستقل بأنفسها.
وهذا هو الأصح فيها؛ فإن استتباع المغارس على حالٍ ضعيفٌ، لما ذكرناه
من لزوم استتباع الفرع الأصل.
3757 - وما ذكره (2) في الأشجار ومغارسها يجري في بيع الأبنية من غير
تعرض لأساسها. فالمسألة وقد سميت الجدران والبنيان في استتباع الأساس
تُخَرّج على الأوجه الثلاثة. فإن قضينا بأن الشجرة تستتبع مغرسها،
والجدار يستتبع أُسَّه، فهذا استتباع ملك، وهو كاستتباع الأرض الغراسَ
والبناءَ في الأقوال المقدمة.
ولو رتب مرتب استتباع الشجر والجدار المغرسَ والأساسَ على استتباع
الأرض الغراسَ والبناء، كان متجهاً؛ فإن قلنا: لا تستتبع الأرضُ
الغراسَ، فلأن لا يستتبع الغراسُ المغرس أولى. وإن قلنا: تستتبع الأرضُ
الغراسَ، فهل يستتبع الغراسُ المغرسَ، والجدارُ الأسَّ؟ فعلى وجهين.
والفرق لائح.
وإن قلنا: الشجرة لا تستتبع مغرسَها ملكاً، فليس لبائعها قلعُها
مجّاناً. نعم؛ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: حق عليه أن يبقيها ما أراد
المشتري بقاءها، فإنه باعها، وهي ذات حق في الثبوت في المغرس، فليثبت
للمشتري على وجه ثبوته للبائع اعتباراً بسائر الحقوق. والوجه الثاني -
أن البائع لو أراد قلع الشجرة، لم يمنع من قلعها، ولكن يغرَم ما ينقصه
القلع، كما يغرَمه المعير في مثل هذه الصورة؛ فإن من أعار أرضا لتغرس
فغرست، فللمعير قلعُ الغراس على شرط الضمان فيما ينقصه القلع. وسيأتي
تفصيل ذلك في كتاب العَواري، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) في (ت 2): في الاستتباع.
(2) في (ت 2): ذكرناه.
(6/275)
فصل
قال: " ولو رهن ثمراً قد خرج من نخله ... إلى آخره " (1)
3758 - يمتزج بمقصود هذا الفصل رهن ما يتسارع إليه الفساد، وقد فصلنا
المذهب فيه، وفرقنا بين رهنه بالدين الحال، وبين رهنه بالمؤجل، وذكرنا
ما يليق به من التفصيل. فإذا اعترض كلامٌ في أثناء الفصل يتعلق برهن ما
يفسد، أحلنا البيان على ما تقدم.
ومقصود الفصل التفصيل في رهن الثمار على رؤوس الأشجار.
والقول فيها ينقسم: فنتكلم في رهنها وحدها دون الأشجار، [ثم نتكلم في
رهنها مع الأشجار.
فأما رهنها دون الأشجار] (2) فنقول: لا يخلو إما أن تكون مُزهيةً قد
بدا الصَّلاح فيها، وإما أن تكون غيرَ مزهية، فإن كانت مزهية، فهي
ناجية من العاهة، وكلامنا وراء ذلك في الدين الحال والمؤجَّل: فإن كان
الدين حالاًّ، صح رهنها على كل حالٍ؛ فإنها وإن كانت لا تدّخر، فرهنها
بالحالّ مسوغّ.
وإن رُهنت بالمؤجل لم يخلُ صنف الثمر: فإن كان يُجدُّ ويجفف، فالرهن
جائز، وليست الثمرة مما تُعد جارية إلى الفسادِ. وإن كان صنف الثمر
بحيث لا يدّخر، يُنظر: فإن كان يفسد قبل حلول الأجل، فالرهن جائز، ولا
غموض في الفصل. وكل ذلك إذا كانت الثمرة مُزهيةً.
3759 - فأمَّا إذا كانت غير مزهيةٍ، فما بدا الصلاح فيها، فلا شك أن
بيعها مطلقاًً وبشرط التَّبقية باطل عندنا.
والمعنى الذي ذكرناه حداً للمذهب تعرّضُ الثمار للعاهة قبل بدوّ
الصلاح.
__________
(1). المختصر: 2/ 217. وفي الأصل شجراً. والمثبت من نص المختصر، ومثله
(ت 2)
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(6/276)
فأما رهنها مطلقاًً، فكيف السَّبيل فيه؟
نرسم صوراً ونرتب بعضها على بعض.
فنبدأ برهن الثمار قبل بدو الصّلاح فيها، ونفرض رهنها بالدين الحال.
فنقول: إذا رهنت بالدين الحال مطلقاًً من غير شرط القطع، ففي صحة الرهن
قولان، ذكرهما صاحبُ التقريب وغيرُه: أحدهما - أن الرهن يفسد كما يفسد
البيع على هذا الوجه، والرهن يتبع البيع في الصحة والفساد. والثاني -
أنه لا يفسد لمعنيين: أحدهما - أن الحلول في الرهن قرينةٌ حالّة محل
شرط القطع؛ فإنّ مبنى الرهن بالدين الحال أن الرهن إذا كان بحيث يتسارع
الفساد إليه، فإنه يباع على فوره، ويصرف ثمنه إلى الدين، أو يوضع
رهناً. فإذا كنا نصحح رهنَ ما يتسارع إليه الفساد بالدين الحال حملاً
على ما ذكرناه، فرهن الثمار بالدين الحال قبل بدوُّ الصلاح أولى؛ فإن
ما يتوقعه من تعرّضها للصّواعق وغيرها من الآفات أبعد من توقع الفساد،
فهذا أحد المعنيين.
والثاني - أنا لا نشترط في الرهن من الاحتياط ما نشترطه في البيع؛
والسبب فيه أن حق المرتهن الأصلي دينه، ودينه لا يسقط بفوات الرهن؛
ومقصود البيع يضيع بتلف المعقود عليه. وهذا المعنى فيه ضعف، وإن ذكره
الأئمة. والمعنى الأول كافٍ.
هذا إذا كان الرَّهن بدين حال.
3760 - فأما إذا كان بدين مؤجل نُظر: فإن كان الصَّلاح لا يبدو قبل
حلول الأجل، بل الأجل يحل أولا، فلو رهن الراهن هذه الثمارَ على شرط أن
[لا] (1) تباع بشرط القطع، ففي صحة الرهن قولان مشهوران: أحدهما - لا
يصح، كما لا يصح البيع في نظير هذا. ومن اشترى ثماراً لم يبد الصلاح
فيها على شرط أن يقطعها بعد يوم، فالبيع يفسد لتضمنه شرط التبقية، ولو
في زمن قريب، فليكن الرهن كذلك.
والثاني - أن الرهن يصح، ولم يوجه الأصحاب هذا القولَ إلا بالمعنى
الثاني الضعيف، الذي ذكرناه في صورة الرهن بالدين الحالّ. فقالوا:
البيع لو بني على الغرر، خيف سقوط العوض والمعوض بتقدير التلف، والرهن
لو ضاع، لم يضع الدين به.
__________
(1) ساقطة من الأصل.
(6/277)
وهذا لست أُوثره، بل أقول: ليست الثمار قبل
بدوّ الصلاح مما يعد فاسداً من ساعته. ولو رُددنا إلى المعنى لما
أفسدنا بيعها بشرط التبقية، والمعتمد في إفساد البيع الخبر، والخبر
وارد في البيع، فهذا أولى في توجيه هذا القول مما قدمناه، مع مصيرنا
إلى فساد الرهن فيما يتسارع إلى الفساد، على تفصيلٍ مضى.
ثم رتب أئمتنا القولين في رهن الثمار قبل بدوّ الصلاح في الصورة التي
نصصنا عليها والدين مؤجل على القولين والدين حال. ولا شك أن الرهن
بالفساد أولى إذا كان الدين مؤجلاً.
ولو رهن الثمار قبل بدو الصلاح بدين مؤجل، وكان الصلاح لا يبدو إلا بعد
الأجل، ولم يجر تعرضٌ للقطع عند المحل، ففي الرهن قولان مرتبان على
القولين فيه إذا تعرض الراهن لذكر القطع عند المحل، إما بأن يشترط قطعه
أو يشترط بيعه بشرط القطع، والصورة المبهمة الأخيرة أولى بالفساد،
والفرق لائح. وقد قطع شيخي بصحة رهن ما لم يبدُ الصلاَّح فيه بالدين
الحالّ، ولا وجه عندي إلا ما ذكر؛ فإنه إذا جاز رهن ما يفسد من ساعته
بالدين الحالّ، فما المانع من تصحيح الرهن فيما لم يبد الصَّلاح فيه؟
والذي ينقدح لمن يخرج القولين تعارض أصلين: أحدهما - أن ما يفسد يباع
ويوضع رهناً. والأصل الثاني - أن العادة مطردةٌ بتبقية الثمار.
وقطع صاحب التقريب قوله بإبطال الرهن بالدين المؤجل إذا لم يقع تعرضٌ
لذكر القطع عند المحل.
هذا بيان الطرق.
3761 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الصَّلاح لا يبدو إلا بعد الأجل.
3762 - فأما إذا كانت الثمار حيث يبدو صلاحها قبل الحلول، فقد قال
الشيخ أبو علي بدوّ الصلاح عند المحل كشرط القطع عند المحل إذا كان
الصلاح لا يبدو، فتنزل هذه المسألة في ترتيب المذهب منزلة ذكر القطع
عند المحل؛ فإن سقوط شرط القطع بالصلاح عند المحل كذكر شرط القطع قبل
الصلاح.
هذا كله في رهن الثمار على الأشجار دون الأشجار.
(6/278)
3763 - فأما إذا رهن الثمار مع الأشجار،
فالقول الوجيز فيها أن ما يتعلق بشرط القطع، فهو ساقط في هذه الصورة،
اعتباراً بالبيع في مثلها. وإن كانت الثمار بحيث تفسد في حَبسها قبل
حلول الأجل، فيتصل هذا برهن ما يتسارع إليه الفساد [بدين مؤجل، وتفصيله
بيّن، فحيث يقتضي المذهب تصحيح الرهن في الثمار، لم نشك في تصحيحه في
الأشجار، وحيث يقتضي المذهب فسادَ الرهن في الثمار، ففي فساد الرهن في
الأشجار قولا تفريق الصفقة.
هذا عقد المذهب.
وألحق بعض أئمتنا رهن الثمار قبل بدوّ الصلاح برهن ما يتسارع إليه
الفساد] (1) وإن كان توقّع الفساد لا يأتيها إلا من الجوائح، فعلى هذا
إن قطعنا ببيع الأشجار وعليها الثمار، ففي رهن الأشجار وعليها الثمار
كلام، ففي الثمار تفصيلها وفي الأشجار تفريق الصفقة. والسبب فيه أن
الأشجار أصلٌ في حق المشتري، وليمست أصلا في حق المرتهن؛ فإنها تباع في
حقه بيع الثمار.
فصل
قال: " وإن كان من الثمر شيء يخرج، فرهنه ... إلى آخره " (2).
3764 - المقصود ذكر الثمار المتلاحقة، وقد مضى التفصيل في تلاحقها قبل
القبض في البيع، وذكرنا القولين في أن المبيع إذا اختلط بغير المبيع
قبل القبض على وجه يتعذر التمييز، فهل ينفسخ البيع أم لا؟ فلو فرض هذا
الاختلاطُ في الرهن بعد القبض، فالتفصيل في الرهن المقبوض كالتفصيل في
البيع قبل القبض؛ وذلك أن المرتهن إنما يتوثق إذا قبض، فهو والرهن في
يده كالبائع والمبيع محبوسٌ عنده. وقد ذكرنا أنّ الاختلاط في البيع بعد
القبض لا يؤثر في فرع العقد وانفساخه على المذهب
__________
(1) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(2) ر. المختصر: 2/ 217.
(6/279)
الأصح؛ فإن العلائق في هذه الصور تنقطع في
البيع بانتقال الضمان إلى المشتري
وهذا في الرهن لا يتحقق.
ثم إذا قلنا: ينفسخ الرهن بالاختلاط بعد القبض، فلا كلام. وإن قلنا لا
ينفسخ، فلو فرض الاختلاط [قبل] (1) القبض في الرهن، فالمذهب الانفساخ
لا وجه غيره.
وأبدى بعض الأصحاب (2) وجهاً أنه لا ينفسخ، كما لو كان الرهن عصيراً،
[فاستحال] (3) خمراً. وقد ذكرنا في ذلك وأمثالِه خلافاً. وهذا ليس
بشيء؛ فإن الخمر يتوقع انقلابها خلاً، والمختلط لا يتوقع تميزه.
هذا منتهى القول في ذلك.
3765 - ثم ذكر الشيخ أبو علي بعد الفراغ من الثمار رهنَ الزرع وهو بقل.
ونحن نقول فيه: إن كان البقل متزايداً، وكان يُخْلِفُ على الركيب (4)
إذا جُزَّ، فرهنهُ كرهن ما يختلط، وقد ذكرناه وإن فرض رهنه بمؤجل من
غير شرط القطع، [فالرهن باطل قطعا؛ فإن المرهون يختلط بغير المرهون لا
محالة، وإن شرط] (5) القطع، فالرهن صحيحٌ. ثم يقع بعد القبض في تفصيل
ما يفسد، فإن البقل بعد الجزّ يفسد على القرب، وقد تفصل المذهب.
وإن رهن بدين حالٍّ، ففي صحة الرهن قولان كما ذكرناه في الثمرة قبل
الصلاح.
هذا والركيب يخلُف بعد الجزّ، فأما إذا جرى العقدُ على زرع هو بقل،
والركيب لا يُخْلِف، فقد اختلف أصحابنا فيما يزداد إلى الإدراك، فمنهم
من جعله كما لا يزداد من البقل المخلف. وهذا اختيار الشيخ أبي علي، ومن
أصحابنا من قال: لا حكم لهذه الزيادة، كما لا حُكم لكبر الثمرة. وهذا
فقيه عندي.
__________
(1) في الأصل: في.
(2) عبارة الأصل: الأصحاب فذكر وجهاً.
(3) في الأصل: واستحال.
(4) كذا في النسختين. ولم أجدها في المعاجم العربية، وستتكرر في هذه
المسائل، ومن السياق يظهر أن معناها أصول جذور البقل بعد الجز.
(5) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(6/280)
وحقيقة المذهب فيه تتعلق بأن من ابتاع
زرعاً لا يُخْلِفُ ركيبه، فهل يملك أصل الزرع المكتتم بالأرض؟ وفيه
تردد. فإن قلنا: إنه يملك، فما يزداد يزداد على ملكه، وهو حقاً ككبر
الثمرة، وإن قلنا: لا يملك مشتري الزرع الركيب المستتر، فيظهر إذن
إلحاق الزيادة بما يزداد من البقل الذي يُجَزّ فيُخْلِف.
عدنا إلى الكلام في الرهن. وقلنا: الزيادات التي تكون كالبقول ليست
محتملة، فإن ألحقنا زيادة الزرع بها، فالتفصيل كما مضى من اختلاط
المرهون بغير المرهون.
وإن لم نبال بهذه الزيادة، بقي النظر في تعرض الزرع وهو بقل للآفات،
والكلام في شرط القطع. وقد مضى ذلك على ما ينبغي.
3766 - ثم قال الشافعي: " وإذا رهنه ثمرة (1)، فعلى الراهن سقيها ...
إلى آخره ".
هذا تعرض منه للكلام في المؤن، وقد استَقْناه فيما تقدم، وأشرنا إلى
اختلاف الطرق في ذلك؛ فلا نعيده.
* * *
__________
(1) في النسختين: (أرضا) والمثبت من المختصر: 2/ 218.
(6/281)
باب ما يُفسدُ الرَّهن مِنَ الشرْطِ
قال الشافعي: " إذا اشترط المرتهن من منافع الرهن شيئاًً ... إلى آخره
" (1).
3767 - الشروط في الرهن تنقسم: فمنها ما يوافق موضوع العقد ويتضمن
تصريحاً بما يقتضيه مطلق العقد، فما كان كذلك لم يكن شرطاً على
الحقيقة، وإنما هو تكرير معنى العقد، وهو بمثابة قول الراهن رهنتك هذا
على أن تتوثق به، أو على أن يباع في دينك عند الحاجة إلى البيع، أو
تَقَدَّم (2) به عند ازدحام الغرماء، فلا أثر لذكر أمثال هذا. والذي
يذكر فيه أن من سماه شرطاً مجازفٌ متجوّز؛ فإنَّ الشرط هو الذي يزيد
على مقتضى العقد.
وأمَّا الشرط الذي لا يتضمنه إطلاق العقد، فإنه ينقسم قسمين: أحدهما -
ما يقدح في مقصود الرهن، فلا شك أن الشرط يفسد، ويفسد الرهن بفساده،
قولاً واحداً.
وهو مثل أن يقول الراهن: رهنتك هذا على أن لا تَقدَّم به في مزدحم
الديون، أو على أن لا يباع في حقّك، فهذا الشرط في الرهن بمثابة قول
البائع: بعتك هذا على أن لا تملكه. هذا قسم.
والثاني - ما لا يتعرض لإبطال حق المرتهن من مقصود الرهن ولكنه فاسد في
نفسه، وقد يتضمن اشتراط مزيدٍ للمرتهن. وتصوير ذلك أن يقول الراهن
رهنتك هذا على أن منافعه لك، أو رهنتك البستان، أو هذا القطيع، على أن
الثمار والنتاج ملكُك. أما الشرط، فلا شك في فساده، وفي فساد الرهن به
قولان: أحدهما - أنه يفسد؛ فإنه اشتمل على شرط فاسدٍ يتعلق بأغراض
الناس، وأصحاب الرهون في
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 218.
(2) تقدم: بحذف تاء المضارعة.
(6/282)
العرف الغالب يطلبون الرهون لمنافعها،
فالشرط إذاً على فساده متعلق بما هو معدود من مقصود العقد.
والقول الثاني - أن الرهن لا يفسد؛ فإن المقصود فيه للمرتهن، وحقه لم
يتغير بالشرط، ولم يقع لمقصوده تغرّض، أما شرط تمليكه الزوائد، ففاسد
مطَّرح، وليست الزيادات المشروطة على الفساد في البيع بهذه المثابة؛
فإنها إن تضمنت مزيداً في شق من غير تنقيص مقصود العقد في ذلك الشق،
فإنها تتضمن تنقيصاً في الشق الآخر، والبيع معاوضة يتعلق مقصودها
بالطرفين، ومقصود الرهن لا يتعلق إلا بجانب المرتهن.
هذا بيان القول في ذلك.
ولو قال: رهنتك هذه الشاة على أن يكون نتاجها رهناً عندك إذا وجدت (1)،
فقد اختلف القول في الشرط هل يصح؟ حتى يُقضى بأن الرهن يتعدى إلى
النتاج بالشرط، فأحد القولين - أن الرهن لا يتعدى، وهو الأصح؛ فإن
العقد لا يقتضي التعدّي إلى النتاج، والشرطُ تعلّق بنتاج مفقودٍ.
والقول الثاني - أن الرهن يتعدى إلى النتاج مع الشرط؛ فإن الذي حملنا
على قصر الرهن على المحل المذكور ضعفُ الرهن، وحكمُ اللفظ؛ فإنه خُص
على ضعفه بمحل، فاختص به، فإذا أثبت سارياً إلى النتاج، ثبت كما أثبت.
وكان شيخي يقول: إذا فرعنا على أن الرهن يتعدى بالشرط إلى النتاج، ففي
تعديه بالشرط إلى الأكسابِ تردد، والأظهر أنه لا يتعدى إليها؛ فإنها
ليست من أجزاء الأصل، وإنما يثبت الملك فيها ابتداءً لمالك العبد، بسبب
أن مكتسبها مملوكُه.
وكان يلحق العُقرَ (2) بالأكساب، ولا يؤثر فيه مذهب أصحاب أبي حنيفة.
هذا تفصيل المذهب في فساد الرهن والشرط، وصحتهما وصحة الرهن وفساد
الشرط.
__________
(1) كذا: " وُجدت " بتأنيث الفعل، على قصد (النتيجة) يقال: نتَجَ الرجل
البهيمة نتجاً من باب (ضرب)، فهو ناتج، والبهيمة منتوجة، والولد نتيجة.
(2) عبارة (ت 2): " وكان يلحق العقد بالأَكْساب فهو يؤثر فيه مذهب
أصحاب أبي حنيفة ".
(6/283)
3768 - والآن نذكر أحكام الرهن المشروط في
البيع على النعوت التي ذكرناها، فإن فسد الرهن بشرط يؤثر في مقصود
الرهن وقد شرط هذا الرهن في بيع، فهل يفسد البيع بفسادِ ذلك الرهن
المشروط؟ فعلى قولين مشهورين تقدم ذكرهما، وتوجيههما.
ولو جرى ذكر تمليك المرتهن زوائدَ الرهن، وهذا الرّهنُ على هذا النعت
مشروط في البيع، فالبيع يفسد قولاً واحداً، سواء رأينا فساد الرهن أو
لم نره؛ لأن شرط زيادة ملكٍ على الفساد للبائع مقروناً بالثمن يُصيّر
الثمنَ مجهولاً، ثم يفسد البيع لا محالة به، وليس كما لو شرط رهن خمرٍ
أو مغصوب، أو شرط في الرهن ما ينقص حق المرتهن؛ فإن شيئاً من ذلك لا
ينضم إلى الثمن، فلا يصير الثمن مجهولاً. والرهن عقد على حياله، فيتجه
في قولٍ أن لا يفسد البيع.
وإن قلنا: مثل هذه الزيادة لا يفسد بها الرهن، فيفسد البيع لما ذكرناهُ
من انضمامها إلى الثمن، ويخرج منه أن البيع إذا فسد يفسد الرهن أيضاًً،
لسقوط الدين الذي يُطلب توثيقه. وانتظم منه أن القولين في أن الرهن هل
يفسد أم لا؟ لا يجريان [إلا] (1) في رهن غير مشروط في بيع، إما بأن
يفرض رهنٌ مبتدأ في قيمة متلف، أو يُقدَّرَ رهنٌ في قرض، أو ثمنُ مبيع
بعد لزومهما (2).
فصل
قال: " ولو كان له ألف، فقال زدني ألفاً ... إلى آخره " (3).
3769 - إذا استحق ألفاً على إنسان، فقال من عليه الدين: زدني ألفاً،
تقرضنيه، على أن أرهنك بالألف القديم، والألف الجديد رهنا. فإذا جرى
القرض مشروطاًً بهذا الشرط، كان القرض فاسداً؛ والسبب فيه أن القرض
الجديد مشروط بالرهن في
__________
(1) زيادة من: (ت 2).
(2) أي القرض والبيع، ولم يجر القولان إلا بعد اللزوم؛ حتى لا تشترط
الزيادة للمقرض، فيكون القرض جرّ نفعاً مشترطاً، وكذا في البيع؛ فإنه
إذا لزم، ثم فرض الرهن واشتراط الزيادة، فلا يكون الثمن مجهولاً
حينئذٍ؛ فقد لزم البيع، ولا علاقة للزيادة بالثمن.
(3) ر. المختصر: (2/ 218).
(6/284)
الدين القديم، وهذا قرض جر منفعة، وقد نهى
عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
وليس ذلك بمثابة ما لو شرط في نفس (1) الإقراض رهناً بذلك القرض بعينه؛
فإن الرهن في عين القرض لا يعد منفعة، وقد ذكرنا ذلك في باب القرض
مفصلاً، وإنما ظهر جر المنفعة في هذه الصورة من قِبل شرط الرهن في غير
القرض الجديد.
ومن دقيق الكلام في هذا الفن أن المقرض لو قال: أقرضتك ألفاً، على أن
ترهنني به وبالألف القديم. فهذا على التحقيق شرطٌ فاسد، مفسد لهذا
القرض.
ولو قال المستقرض: أقرضني ألفاً على أن أرهنك بالألف القديم، فجرى
الشرط من المستقرض لا من المقرض، فهذا فيه تردد. والظاهر أن الشرط فاسد
مفسد، كما لو صدر من المقرض.
وقال بعض الأصحاب: الشرط المفسد هو ما يصدر من المقرض؛ فإن اللفظ
يُرعَى في جانبه، والشرط لفظ يتعلق بالشق الذي يعتبر فيه اللفظ. فهذا
يبتني على ما تقدم ذكره، من أنا هل نعتبر لفظ القبول في جانب المستقرض؟
فإن اعتبرنا في جانبه لفظا كما تمهد في باب القرض، فالشرط الصادر منه
كالشرط الصادر من المقرض.
وإن قلنا: لا يعتبر في جانب المستقرض لفظ، فالمسألة فيها احتمال، كما
تقدّم، من قِبَل أن المستقرض إذا تلفّظ، ابتنى على لفظه لفظُ المقرض،
ونزل شرط المستقرض منزلة شرط المقرض.
فإذا تبين فساد القرض في الصورة التي ذكرناها، فإذا سلم (2) المقرض
ألفاً على الفساد إلى المستقرض، ثم رهن المستقرضُ شيئاًً بالألف القديم
والألف الجديد، فنقول: إن كان الألف الجديد موجوداً بعدُ؛ فالرهن به
فاسد؛ فإنها (3) أعيان مقرَّة على ملك المقرض، والرهن بالأعيان فاسد،
فإذا جمع بين الألف القديم والجديد في الرهن، وأبطلنا الرهن في الألف
الموجود، فهل يبطل في القديم؟ فعلى قولي تفريق
__________
(1) في (ت 2): تعيين.
(2) في (ت 2): أسلم.
(3) أي الألف.
(6/285)
الصفقة. وكل صورة جرى فيها تفريق الصفقة في
الرهن، فهي مرتبة على نظير منها في البيع، والرهن أولى بالصحة؛ إذ ليس
فيه عوض يصير مجهولاً، ويفسد العقد بسبب جهالته، والمعنى المعتمد في
إفسادِ الصفقة إذا افترقت جهالةُ العوض، وهذا مفقود في أصل الرهن.
ثم إذا أفسدنا الرهن في الألف القديم، فلا كلام. وإن صححنا الرهن فيه،
فقد قال الأئمة: الرهن يتوثق بالألف القديم، ولا يوزّع الرهن على
الألفين المذكورين، وقد تقدم في تفريق الصفقة في البيع أن الأصح إذا
بطل البيع في بعض مضمون العقد أن يسقط قسطُه من الثمن، وهذا المعنى غير
معتبر في الرهن، والدليل عليه أن الرهن لو صح بالألفين، ثم أدّى
أحدَهما، فلا ينفك من الرهن شيء أصلاً، وكان الرهن على حقيقته في الألف
الباقي، حتى كأنه لم يرهن ذلك الرهن إلا به.
وإذا كان كذلك، فلا معنى للتقسيط في موضوع الرهن. وهذا بيّن لا خفاء به
لمن تأمل.
ولو أقرضه ألفاً على الفساد، فتلف الألف في يده، فقد صار ديناً الآن
عليه، فيصح الرهن بالألفين جميعاً، ولا إشكال.
3770 - ومما يتعلق بتحقيق الفصل أنه لو شرط الرهن في الألف القديم مع
القرض (1 الجديد كما صورناه 1)، وحكمنا بفساد الشرط، وأفسدنا بسبب
فساده القرضَ، فلو رهن بالألف القديم، فقد قال القاضي: إن كان يعتقد أن
الرهن به واجب، وأنه وافٍ بواجب [التزمه بالشرط] (2)، فالرهن مع هذا
الاعتقاد لا يصح. واحتج عليه بأنه اعتقده واجباً، ولم يكن كما اعتقده.
ولو لزم الرهن، لوقع واجباً، على معنى أنه لا دفع له بعد انبرامه
بالتسليم. وشبه هذا بما لو أدى ألفاً إلى إنسان على ظن أنه دين عليه،
ثم تبين أنه لم يكن عليه دين، فالمؤدى مسترد، والأداء غير معتد به (3).
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(2) في (ت 2): الذمة الشرط، وفي الأصل: التزمه الشرط.
(3) ر. فتح العزيز: 10/ 53.
(6/286)
وهذا الذي ذكره غير صحيح.
وقد صرح شيخي وغيره بتصحيح الرهن، إذا كان عرياً عند الإنشاء عن شرط
يفسده.
3771 - ولو شرط بيعاً في بيع، وأفسدنا البيع الناجز لمكان الشرط
الفاسد، ثم أنشأ المشروطُ عليه ذلك البيعَ المشروطَ الموعودَ، على ظن
أنه يجب عليه الوفاء بذلك البيع، فقياس ما قاله القاضي أن البيع على
اعتقاد الوجوب فاسد مردود.
وكان شيخي يقطع بصحة البيع كيف فرض الاعتقاد، إذا كان خلياً عند
الجريان عما يفسده. وهذا هو الذي لا يسوغ غيره.
وقد يخرّج عليه أنه لو باع شيئاًً ظنه خمراً فإذا هو خل، فقياسه في ذلك
قد يغمض. وقياسُ شيخي الصّحة.
3772 - ولو أسلفه ألفاً على أن يرهن عنده به رهن، وشرط المرتهن لنفسه
منافع الرهن، فهذا جر منفعة على الحقيقة، والقرض يفسد بسببه. وإذا فسد
القرض، فسد الرهن، لا محالة.
ولو شرط البائع رهناً بالثمن، وشرط أن تكون منافع الرهن له، فالرهن
يفسد لمزيد المنفعة التي شرطها، والثمن يصير مجهولاً به لا محالة.
وقد حكى المزني هذه المسألة وحكى فيها أن البائع بالخيارِ، ثم أخذ
يعترض ويقول: أصل الشافعي أن البيع إذا فسد، فلا معنى للخيار فيه (1)
َ، وظن أن الشافعي يرى أن الشرط الفاسد لو حذف يصح العقد، وهذا ظن سوء
(2). والجواب المبتوت أن العقد فاسد، ولا معنى للخيار فيه بعد الحكم
بالفساد على وجهٍ أصلاً. ولكن المزني غلط في النقلِ (3 ثم أخذ يعترض،
وإنما الخلل في النقل 3).
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 218.
(2) ر. فتح العزيز: 10/ 45. لتجد أنه يقول: " والأصحاب خطّؤوا المزني
في نقله وحسبانه " ونص عبارة المزني في المختصر: "قلت أنا: أصل قول
الشافعي أن كل بيع فاسد بشرطٍ وغيره أنه لا يجوز وإن أجيز حتى يبتدأ
بما يجوز" (2/ 218).
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(6/287)
ثم أخل المزني بنظم الكلام من وجه آخر،
فصوّر رهناً مشروطاًً في بيع، وقد شرط في الرهن أن يتعدى إلى الزوائد،
وفرّع على أن ذلك فاسد، ثم قال: إذا وقع البيع على هذا الوجه، فرع
الرهن، والبائع بالخيار. قال أصحابنا: إنما قال الشافعي في هذه
المسألة: فُسخ البيع، أو البائع بالخيار، فردد قوله في فساد البيع،
ووقع الفسخ عبارة عن الفساد؛ فذكر المزني فيما نقله: فَسْخَ الرهن
والبائع بالخيار، وهذا كلام لا نظم له. وإنما أخل به المزني. ثم اختيار
المزني مهما (1) فسد الرهن المشروط في البيع أن البيع لا يفسد. وهذا
غريب من اختياره؛ فإن القياس فساد البيع إذا فسد الرهن المشروط.
وهذا منتهى الغرض في ذلك.
فصل
قال: " ولو دفع إليه حُقاً، وقال: رهنتكه بما فيه ... إلى آخره " (2).
3773 - مضمون الفصل يتضح بأربع مسائل: إحداها- أن الراهن لو قال: رهنتك
ما في هذا الحُق، أو ما في هذه الخريطة، فإن كانا عالمين بما فيهما،
وكانا قد رأياه، فلا شك في صحة الرهن. وإن لم تسبق رؤيةٌ فيهما، وقع
الكلام في رهن ما لم يُر. فإن جهلا وصف ما فيهما، مع انتفاء الرؤية،
فقد نرى القطع بفساد الرهن. وذلك مذكور على الاستقصاء في تفريع بيع
الغائب، فلا حاجة إلى إعادته.
3774 - المسألة الثانية: أن يقول: رهنتك الحُقَّ بما فيه، أو الخريطةَ
بما فيها، فإن كان ما فيهما معلوماً مرئياً، صح الرهن في الحق
والخريطة. (4 وإن كان الرهن لا يصح فيهما -كما تقدم-[فالنظر] (3) في
الحق والخريطة 4).
__________
(1) "مهما" بمعنى (إذا).
(2) ر. المختصر: 2/ 218.
(3) في الأصل: ففي النظر، والمثبت تقدير منا. حيث جاءت فيما سقط من (ت
2).
(4) ما بين القوسين ساقط من (ت 2).
(6/288)
فإن كانا نفيسين بحيث يجرّد القصد إلى
شرائهما [أو] (1) رهنهما، فنقول: فسد الرهن [فيما] (2) فيهما، وفيهما
[قولا] (3) تفريق الصفقة، وإن كان الحُقُّ بحيث يُقصد، ولم تكن الخريطة
بحيث تقصد. أما الحق. ففيه قولا تفريق الصفقة. وأما الخريطة، ففيها
طريقان: من أصحابنا من قطع بفساد الرهن فيها؛ فإنها بالإضافة إلى ما
فيها غير مقصود؛ فإذا لم يصح الرهن في حشوها بسببٍ، لم يصح في الخريطة
أيضاًً؛ فإنها ما قُصدت، وإنما قصد ما فيها، فإذا لم يصح العقد على ما
فيها فكأن (4) لا مقصود. وهذا فقيه لطيف، وهو كثير الجريان في
المعاملات. ومعناه تنزيل العقد على موجب العرف والاعتياد، من غير اتباع
صيغة اللفظِ.
ومن أصحابنا من قال: إذا كانت الخريطة متمولة، فالرهن إن لم يصح في
حشوها، فيصح فيها؛ لأن الرهن أضيف إلى الخريطة وما فيها. كما قدمناه في
الحُق. وإن لم تكن الخريطة متمولة، فنقطع بفساد الرهن فيهما لا محالة.
3775 - المسألة الثالثة: أن يقول: رهنتك الحُق دون ما فيه، فيصح الرهن
فيه دون ما فيه؛ فإنه خصص عقد الرهن بالحُق، فلم يتعدّه إلى ما فيه.
ولا فرق بين أن يكون الحُق حقيراً أو خطيراً إذا كان له أدنى قيمة،
بحيث يتمول. وقد سبق تفصيل التمول في آخر كتاب البيع؛ فيصح الرهن كما
ذكرناه.
3776 - ولو أطلق رهنَ الحُق والخريطة، ولم يتعرض لذكر ما فيهما بنفي
ولا إثبات، وهذه هي: المسألة الرابعة: فنقول:
إن كان الظرف بحيث يقصد في نفسه، فذكر الظرفِ مطلقاً يقتضي نزولَ الرهن
عليه، دون ما في جوفه. وتعليله بيِّن. وإن كان ذلك الظرف حقيراً لا
يقصد في نفسه مفرداً أصلاً، ولكنه مما يتمول، فإذا جرى ذكرُ الظرف الذي
وصفناه، ولم يجر
__________
(1) في الأصل: ورهنهما.
(2) ساقطة من الأصل، والمثبت من (ت 2).
(3) سقطت من الأصل.
(4) في (ت 2): وكان.
(6/289)
تعرض لما فيه نفياً وإثباتاً، فلأصحابنا
فيه وجهان: أصحهما - أن الرهن ينزل على الظرف لا غير؛ فإنه قابل للعقد،
واللفظ لا يشعر في وضعه إلا به، فأشبه ما لو كان خطيراً.
والوجه الثاني - أن العقد نازل على الخريطة بما فيها؛ فإنها إذا لم تكن
مقصودة، فذكرها في العرف يُعنَى به الخريطةَ لما (1) فيها، من هذا
الوجه، وهو من باب تنزيل العقد على موجب العرف، من غير احتفالٍ بصيغة،
والعقد منزل على قرينة الحال، وموجب التفاهم العرفي.
وكل ما ذكرناه في الرهن، فلا شك أنه لو صوّر في البيع، لكان الجواب على
نحو ما ذكرنا، حرفاً حرفاً. فلا إشكال في الفصل. وإنما المقصود منه
تصوير ظرفِ مالٍ، ولكنه لا يقصد مع كونه مالاً، إذا كان في جوفه مقصود.
وقد فصلنا الغرض في تفصيل المسائل على ما ينبغي.
* * *
__________
(1) في (ت 2): بما.
(6/290)
بَابُ الرَّهْن غَير مَضْمُوْنٍ
3777 - ذكر الشافعي قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يغلَق الرهنُ من
صاحبه، له غنمه، وعليه غرمه " (1) واختلفوا في قوله " لا يغلَق الرهن "
قيل: معناه لا يملكه المرتهن بدينه، ولا يتعلق (2) الملك على الراهن.
وقيل: معناه لا يغلَق على الراهن الانتفاع به. وقيل: معناه لا يسقط
الدين بهلاكه.
وقوله: " الرهن من صاحبه " أي من ضمان صاحبه.
مذهب الشافعي أن الرهن أمانة في يد المرتهن، فإذا تلف في يده أو في يد
العدل، كان أمانة. والدين لا يسقط منه شيءٌ عنده.
وقال أبو حنيفة (3): هو مضمون بالدين على تفصيل له معروف.
ولو شرط الراهن كون الرهن مضموناً على المرتهن، فالشرط فاسد؛ لأنه
مخالف لمضمون الرهن، ثم يفسد الرهن بفساد الشرط، ولكنه مع فساده يكون
أمانة في يد المرتهن. وهذا أصلٌ مطرد، فكل ما يكون أمانة في وضعه لو صح
لا ينقلب مضموناً ولا يخرج عن كونه أمانةً بأن يفسد.
واستثنى بعض الأغبياء مسألة عن هذه القاعدة، وهي إذا رهن شيئاًً عنده
بدين مؤجَّل، وشرط أنه إن لم يفك الرهن في شهر، فهو مبيع عند المرتهن
وراء الشهر (4)،
__________
(1) ر. المختصر: 2/ 119. والحديث رواه ابن حبان في صحيحه: 7/ 570، ح
5904، والدارقطني: 3/ 32، والحاكم في المستدرك: 2/ 51، والبيهقي في
السنن الكبرى: 6/ 39 وانظر التلخيص (3/ 83 ح 1243).
(2) كذا في النسختين، ولعلها: ولا يغلق.
(3) ر. مختصر اختلات العلماء 4/ 308 مسألة: 2024، رؤوس المسائل: 303
مسألة: 191، البدائع: 6/ 140.
(4) في (ت 2): وراء الشرط.
(6/291)
فهذا الشرط فاسد، ولكن إذا مضى الشهر،
فيصير بعد مضي الشهر مضموناً، فهذا رهن انقلب مضموناًَ، بحكم شرط فاسد.
وهذا يحتاج إلى فضل بيان.
فنقول: إن تلف في يده قبل مضي الشهر، فلا شكَّ أنه يكون أمانة؛ فإنه لم
يدخل أوانُ البيع بعدُ، وحكم الأمانة ثابت. فإذا دخل وقتُ البيع
المشروط على الفساد، نظر: فإن كان يمسكه المرتهن على حكم البيع، فهو
مضمون عليه، وهو خارج عن حقيقة الرهن، سواء قُدِّر على الصحة أو على
الفساد.
وإن علم أن شرط البيع فاسد، فكان يُمسكه على موجَب الرهن، وقصد ذلك
ونواه، فالمذهب أن الضمان يجب؛ فإن الرهن فاسداً (1) قُدّرَ أو صحيحاً
[ممدودٌ] (2) إلى شهر، فلا رهن بعد انقضائه، ولا يد إلا عن جهة البيع
الفاسد. وهذا ظاهرٌ، لا إشكال فيه.
وأبعد بعضُ الأصحاب، فنفى الضمان (3) إذا لم يقصد المرتهنُ إمساكه وراء
الشهر عن جهة البيع، وقصر الضّمان فيه إذا كان يقصد الإمساك على اعتقاد
البيع. وهذا رديء لا أصل له، لما ذكرناه.
ووجه الغلط في الاستثناء أن المرهون وراء الشهر [خارج] (4) عن كونه
مرهوناً بحكم اللفظ، فما (5) استثنى هذا القائلُ مرهوناً إذن، فكان ما
جاء به لغواً.
وقد نجزت مسائل الكتاب. ونحن نرسم الآن فروعاً تجري مجرى الأصول، وقد
يقع فيها مسائل متبدّدة غير منتظمة، والغرض الإتيان بجميعها.
__________
(1) في (ت 2): فاسد قدراً صحيحاً ممدودٌ.
(2) في الأصل ممدوداً. وهو وهم من الناسخ. فهي خبر فإن ....
(3) في (ت 2): فنفى الضمان ذلك إذا لم يقصد.
(4) في الأصل: خارجاً.
(5) " فما ": (ما) هنا (نافية)، والمعنى: أن الذي استثناه هذا القائل
لي رهناً، ولذا وصفه بالغلط حينما قال: إن الرهن غيرُ مضمون إلا في هذه
الحالة.
(6/292)
فرع:
3778 - قال العراقيون المودَع إذا ادعى رد الوديعة، على مالكها، فالقول
قوله مع يمينه. ولو استأجر الإنسان شيئاً، ثم استوفى حقه منه لما قبضه،
فهو أمانة في يده، ولو ادّعى أنه رده على المالك المكري، وأنكر المالك،
فالقول قول المالك، فإنه قبض المستأجر لحق نفسه، لا لغرض المالك، ولا
يُصدّق في دعوى الرد، بخلاف المودَع.
قالوا: كذلك إذا ادّعى المرتهن ردّ العين المرهونة على الراهن، وأنكر
الراهن، فالقول قول الراهن؛ لما ذكروه من أن المرتهن تثبت يده لغرضه،
فلا يُقبل منه يمينه برد ما قبضه.
ولو ادعى الوكيل الذي كان قبض من موكله عيناً ليبيعها أنه ردها على
الموكل، قالوا: إن كان الوكيل يتصرف من غير جُعلٍ، فقوله مقبول، كما
يُقبل قولُ المودَع؛ فإنه لا غرض له في قبضهِ ويدِه.
وإن كان يتصرف بجُعلٍ، فادّعى ردَّ العين، ففي المسألة وجهان.
وكذلك إذا ادّعى المقارض ردّ شيء من مال القراض على المالك، ففي قبول
قوله وجهان: أحدهما - لا يقبل قوله؛ لما له في المال الذي كان تحت يده
من الغرض، فأشبه المستأجر، والمرتهن.
والوجه الثاني - يقبل قوله؛ لأنه لا غرض له في العين المقبوضة، وإنما
غرضه في مالٍ قدر له بسبب العين التي في يده، وحق المستأجر والمرتهن في
عين ما قبضه أولا ثم ادعى ردَّه.
هذا ترتيب أئمة العراق. وهو حسن بالغ.
وأما المراوزة، فإنهم قطعوا أقوالهم بأن كلَّ مؤتمن لو تلفت العين في
يده من غير تقصيره، لم يلزمه الضّمان، فإذا ادعى رده على مالكه المطلق،
فهو مصدق فيه مع يمينه، ولم يفصلوا بين الوديعة والرهن والإجارة. وهذا
قياسٌ مُطَّرد، وهو [أوقع] (1) في طريق المعنى مما ذكره العراقيون. وما
أشاروا إليه من كون يد المرتهن
__________
(1) الأصل: واقع.
(6/293)
والمستأجر عائدة إلى منافعها، لا معتبر به؛
إذ لو جاز التعويل عليه، للزم أن يكون ما ذكروه سبباً في إيجاب الضمان
في الأصل على المرتهن والمستأجر لو تلفت العين في أيديهما، كما يجب
الضمان على المستعير والمستأجَر (1)، فإذا لم يكن كذلك؛ فلا معوَّل على
ما ذكروه وليت شعري ما قولهم لو ادّعى المرتهن والمستأجر تلف العين في
أيديهما، هل يصدقان عندهم أم لا؟ والقياس أن ينزل دعوى التَّلف منزلة
دعوى الرد في كل تفصيل.
فرع:
3779 - إذا رهن الغاصب العينَ المغصوبة عند إنسانٍ، وكان المرتهن
يحسَبه مالكاً لتلك العين. فإذا تلفت في يد المرتهن، وجاء المغصوب منه
مطالباً، قالوا: هل له مطالبة المرتهن أم لا؟ على وجهين: أحدهما - لا
يطالبه؛ فإن يده يدُ أمانةٍ على الجملة، ولم يوجد من جهته عدوان؛ فلا
وجه لمطالبته.
والوجه الثاني - أنه يطالَبُ؛ لأن العين المغصوبة تلفت في يده، ولم
يوجد من جهة مالكها ائتمان فيها. ثم فرعوا على الوجهين. قالوا: إن
قلنا: لا يطالب المرتهن، فلا كلام. وإن قلنا: إنه مطالبٌ، فهل يستقر
الضمان عليه؟ فعلى وجهين: أحدهما - يستقر؛ فإن التلف حصل في يده، فأشبه
ما لو أتلفه بنفسه، والتلف والإتلاف في الأعيان المغصوبة بمثابة واحدة،
فينبغي أن يصير التلف منتهى الضمان في يد من وجد التلف في يده، وهذا
معنى القرار. ثم من أثر الحكمِ بالقرار أنه إذا غرَّم المالكُ
المرتهنَ، لم (2) يرجع على الغاصب، فإذا غرَّم الغاصبَ رجع [هو] (3)
على المرتهن.
وقد طردوا ما ذكروه من الترتيب في يد المستأجر من الغاصب، ويد المودَع
من جهة الغاصب، وكل ذلك وهم (4) يحسبون أن الغاصب مالك العين (5).
__________
(1) المراد الأجير المشترك، وتكون المستأجَر (بفتح الجيم). (وانظر روضة
الطالبين:
4/ 97).
(2) في الأصل كما في (ت 2): ولم. ولا محل للواو فيما قدرنا. والله
أعلم.
(3) مزيدة من (ت 2).
(4) الضمير يعود على المستأجر، والمودَع، والمرتهن.
(5) أما إذا علم أن هذا مغصوب، فاستأجره أو ارتهنه ... ، فهو ضامن ضمان
الغصوب قطعاً.
(6/294)
وطريق العراقيين مخالف لطريق المراوزة في
هذه القاعدة؛ فإن المراوزة يقطعون بتوجيه المطالبة على المرتهن
والمستأجر والمودَع من جهة الغاصب على جهلٍ بحقيقة الحال في هذه
المنازل، ثم يقطعون بأن الضمان مستقر على هؤلاء أصلاً. هذا بيان الطرق
فيما ذكرنا.
فرع:
3780 - قد ذكرنا صحة رهن المشاع عندنا، فلو كانت دار مشتركة بين
شريكين، فلو رهن أحدُهما نصيبه شائعاً من بيتٍ معين من الدار المشتركة،
فقد ذكر العراقيون وجهين في صحة الرهن: أصحهما - الصحة، جرياناً على
القاعدة الممهَّدة.
والثاني - لا يصح؛ فإنا لو قدرنا الاستقسام من الشريكِ، فربما يتفق
وقوعُ هذا البيت كلِّه في نصيب الشريك، الذي لم يرهن، وهذا يُفضي -لو
صح- إلى بطلان الرهن. وهذه مسألة لطيفة.
ثم لو صححنا الرهن على الأصح، ففي كيفية إجراء القسمة تردّدٌ - إن كنا
نرى إجراءها في المرهون؛ فإنا وإن جوزنا القسمة في المرهون، فليس فيها
إبطال حق المرتهن بالكلية، ولكن يتعين حقه بعد أن كان مشاعاً. ولو
أجرينا القسمة في الصورة التي ذكرناها، فقد يؤدي إلى إخراج البيت
بالكلية عن الرّهن، وفيه إبطال حق المرتهن، فليتأمل الناظر في القسمة
إن وقعت وتضمنت خروج البيت عن ملك الراهن بالكلية، أيتجه أن يقال:
يغرَم الراهن قيمة الشقص المرهون، ويضعها رهناً عند المرتهن؟ أم كيف
السبيل فيه؟
ووجه التردد أنه لم يأت من قبل الراهن شيء، ولم يجز (1) الشريكُ
المستقسم، فقد يحتمل أن يجعل هذا بمثابة تلف المرهون في يد المرتهن،
ولكن قد اعتاض عنه الراهن؛ فإن ملكه إن زال عن قسطه من البيت، فقد وقع
له في القسمة خلوص شيء آخر في قُطرٍ آخر، فالوجه إذن تغريمه القيمة.
__________
(1) كذا في الأصل، مع أن النقط فيها أندر من النادر، وفي (ت 2) بهذا
الرسم أيضاًً وبدون نقط
مع أنها تلتزم النقط دائماً. ولعلها: "لم يَجُر" من الجور، أو "لم
يَجْنِ"، فالمعنى المفهوم
من السياق: "أن خروج الرهن من يد المرتهن لم يأتِ بفعلٍ من الراهن، ولا
بجناية من
الشريك المستقسم، فأشبه ما لو كان بآفة سماوية".
(6/295)
فرع:
3781 - إذا اشترى رجل عبداً بألف، فجاء إنسان وتبرع بأداء الدين، وكان
ما أداه من جنس الثمن، فيصح، وتبرأ ذمة المشتري، ولا يرجع المتبرِّع
عليه بما أداه، وإن أبرأ ذمته؛ فإنه لم يؤدِّ بإذنه، فلو خرج المبيع
مستحقاً، وبان بطلان العقد، فالبائع يرد ما قبض على المتبرع، ولا يرده
على المشتري؛ فإن المتبرع إنما أداه ثمناً، فإذا لم يكن (1)، ردَّ عليه
ما سلمه إليه.
ولو استمر العقد على الصحة، ولكن وجد المشتري بالمبيع عيباً، فرده على
البائع، فالبائع يرد ثمنه. واختلف أئمتنا: فمنهم من قال: يرده على
المشتري؛ فإن البيع لم يتبين بطلانُه، وبقي الثمن على حقيقته، فلا سبيل
للمتبرع إلى الرجوع فيما تبرع به. وليس ذلك كصور الاستحقاق.
ومن أصحابنا من قال: يرد الثمن على المتبرع؛ فإنه ما جرى بينه وبين
المشتري ما يتضمن تمليك المشتري من طريق التضمين. وإنما طلب المتبرع أن
يبرىء ذمة المشتري من غير تقدير تمليك له، حتى يقال دخل المؤدَّى في
ملك المشتري في ألطف زمان، ثم انتقل من ملكه، ودخل ملك البائع، فإذا لم
يكن [ذلك] (2) ممكناً، فالرجوع إلى المشتري بعيد مع أنه لم يخرج من
ملكه شيء، وإنما يعود إلى الملك ما يخرج منه.
ولو جاء المتبرع وأدّى إلى البائع عَرْضاً عوضاً عن الثمن الذي في ذمة
المشتري، فالمذهب أن ذلك جائز، كما لو تبرع بأداء جنس الثمن.
ومن أصحابنا من منع ذلك من المتبرع؛ فإن بذلَ العوض يستدعي دخول
المعوَّض في ملك باذل العوض، وهذا غير متصور في حق المتبرع.
والأصح الوجه الأول، لما ذكرناه من نزول تبرع المتبرع منزلة الفداء،
وذلك يجري في الجنس وغير الجنس.
__________
(1) أي إذا لم يكن ما تبرع به ثمناً.
(2) مزيدة من (ت 2).
(6/296)
ولو نكح الرجل امرأة وأصدقها شيئاًً، فتبرع
أجنبي وأدّى ذلك الصدّاقَ عن الزوج من غير إذنه، ثم الزوج طلقها قبل
المسيس، فنصف ما أدّاه المتبرع يرجع إلى الزوج أم يرجع إلى المتبرع،
فعلى الوجهين؟ المذكورين في صورة الرد بالعيب.
فرع:
3782 - إذا استحفظ الرهنَ عدلان، فهل لأحدهما أن ينفرد بالحفظ؟ فعلى
وجهين ذكرهما القاضي وغيره: أحدهما - أنه لا ينفرد؛ لأن ظاهر التفويض
إلى شخصين يقتضي أن يشتركا فيه، ويجمعا نظريهما، كما نقول في الوصيين.
والثاني - يجوز لكل واحد أن ينفرد بالحفظ؛ فإن الاشتراك في عينٍ بحُكم
العرف يقتضي تسليط كل واحدٍ على الحفظ. وقد ذكرت هذا فيما تقدم. ولكن
رددت احتمالات، فقد وجدناها منصوصة للأئمة.
فإن كان الشيء مما ينقسم، وقد جوزنا الانفراد بالحفظ، فهل يجوز أن يقسم
بينهما حتى ينفرد كل واحد بحفظ حصته؟ فعلى وجهين: أحدهما - أن ذلك
جائز، كما يجوز على الوجه الذي نفرع عليه أن ينفرد كل واحد بحفظ الكل،
إذا لم تكن منازعة.
والثاني - لا تجوز القسمة؛ فإن الانفراد قد تلقيناه من العرف، أما
القسمة، فليس يشعر بها العرف، ولا يتضمنها الإذن.
فرع:
3783 - إذا رهن رجل من رجل شيئاًً، ثم سلمه إليه، وقال: قصدت بالتسليم
إليك إيداعه عندك ولم أقصد إتمام الرهن وإلزامه بالقبض، فهل يصدق
الراهن؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يصدق؛ فإنه المسلَّم وإليه القصد
والنية.
ولا خلاف أنه لو قال عند التسليم: خذه وديعة، ولست أقصد إلزام الرهن،
فإنه يقع وديعة، والرهن على جوازه، وكذلك إذا نوى وقصد.
والوجه الثاني - أن القول قول المرتهن؛ فإن الغالب في العرف أن من رهن،
فإنه لا يسلّم المرهون إلا من جهة الرهن، وإن هو لم يرد ذلك، فالغالب
أنه يودع المرهونَ عند غير المرتهن، فصدقنا المرتهن لظاهر الحال.
وللفرع التفاتٌ على أن اليد هل تدل على الرهن؟
(6/297)
فرع:
3784 - قد ذكرنا أن يد العدل تنوب عن يد الراهن من وجه، وعن يد المرتهن
من وجهٍ، وليس للمرتهن أن يأخذ الرهن من يد العدل، فلو أنه اغتصبه
وأخذه من يده، فقد صار متعدتاً، ضامناً بما جرى منه، فلو جاء ورده إلى
العدل، فالذي ذهب إليه جماهيرُ الأصحاب أن المرتهن يبرأ بما فعل عن
ضمان الغصب؛ لأن يد العدل يدُ المالك؛ فإذا رد ما أخذه إلى نائب
المالك، حكمنا ببراءته عن الضمان.
ومن أصحابنا من قال: لا يبرأ عن الضمان ما لم يرد المأخوذ إلى المالك.
ثم (1)
يأذن للعدل إذناً جديداً في قبض الرهن من المرتهن؛ وذلك أن يد العدل قد
[زالت] (2) بطارىء العدوان، فإعادة اليد أمر جديد، فلا بد فيه من إذن
جديدٍ، والأصح الأول.
وإن قلنا بالثاني، فليس للعدل أن يقبضه منه إذا جاء به؛ فإنا نزعم أن
التعديل الأول قد انقطع وزال، فلا بد من تجديد.
وما ذكرناه في العدل، فلا شكّ في جريانه في المودَع، وسيأتي شرح ذلك،
وتفصيلُ القول في أنَّ المودَع هل يخاصِم من غصب الوديعة حتى يستردها -
في كتاب الوديعة، إن شاء الله عز وجل.
فرع:
3785 - إذا رهن عند إنسانٍ أرضاً، وشرط للمرتهن أن يغرسها لنفسه بعد
مضي شهر، فيدُه قبل انقضاء - تلك المدة يد أمانةٍ، وإذا انقضت المدة،
وأخذ في الانتفاع، صارت يده يدَ عاريةٍ؛ من جهة أنه منتفع بالإذن، من
غير استحقاقٍ. وهذا معنى المستعير. فلو أنه غرس قبل المدة المضروبة،
فقد تعدى موجَب الإذن؛ وغراسه لهذا السَّبب مقلوع، ولو أنه غرس في أوان
الإذن في الغراس، فهو مستعير غارس، فلا يُقلع غراسه مجاناً، كما سيأتي
ذلك مشروحاً في كتاب العارية.
ولو قال الراهن: رهنتك الأرضَ فإذا مضى شهرٌ، فهي مبيعة منك. فإذا
انقضى الشهر، فغرسه، فلا شك أن الأرض ليست (3) مبيعةً منه، فإذا غرسها
نُظر: فإن كان
__________
(1) في (ت 2): أو ما لم يأذن للعدل إذناً جديداً.
(2) في الأصل: تزال، و (ت 2): زال. والمثبت تصرّفٌ من المحقق.
(3) في (ت 2): غير مبيعة.
(6/298)
يعتقد أنها مبيعة، وأن غرسه واقع في ملكه،
فقد نقل أئمة المذهب عن الشافعي في هذه الصورة أنه قال: "هو في غراسه
كالمستعير إذا غرس على وفق الإذن، فإنا لا نقلع غراسه مجاناً". وهذا
حسن منقاس لا شكّ؛ فإن ما جرى [من] (1) صورة البيع، لا ينحط عن الإذن
في الغراس.
فأما إذا كان عالماً بفساد البيع، وأقدم على الغراس، مع العلم بحقيقة
الحال، فقد نُقل عن الشافعي أنه قال: "غراسه مقلوع".
فإن قيل: إن لم يصح البيع، فهلا قيل: ما صدر من الراهن إذنٌ في الغراس؟
قلنا: لم يتعرض الراهن لتفصيل التصرفات، وإنما ذكر بيعاً، فإن صح، حكم
به، وإن فسد وجرى غرس على جهل، يعذر الغارس، وكان كالمستعير. وَإن غرس
عن علم، فلا عذر.
وهذا على حاله غير خالٍ عن ضرب من الاحتمال.
فرع:
3786 - من مات وخلف تركة والديون على قدرها، أو أكثر، أو أقل، فالذي
أطلقه علماء الشريعة أن الديون تتعلق بأعيان التركة، وتصير التركة
موثقة بها. ثم ذكر العراقيون قولين في أن تصرف الوارث هل ينفذ في
التركة قبل أداء الدين: أحدهما - أنه لا ينفذ، وهو ظاهر ما اختاره
المراوزة.
والقول الثاني - إنّ تصرفه نافذ، ونزلوا تعلق الدين بالتركة منزلة تعلق
الأرش برقبة العبد الجاني، وقد مضى في بيع الجاني قولان، والتفريع
عليهما في كتاب البيع، وإنما شبهوا هذا بتعلق الأرش؛ من قِبل أن الأرش
يتعلق برقبة الجاني من غير قصدٍ من المالك، كذلك الدين يتعلق بالتركة
من غير إيثار واختيارٍ من المتوفَّى ومن الورثة.
وهذا الذي ذكروه تشبيه حسن من طريق الظاهر.
ولكن الذي يقتضيه الأصل عندي أن تعلق الدين بالتركة يضاهي طريق تعلق
الرهون، والدليل عليه أن هذا مما حكم الشارع به نظراً للمتوفَّى، ولأجل
تحقيق ذلك الحكم بحلول الآجال، مع ما فيها من التفاوت في المالية. فإذا
كان سبب تعلق الديون
__________
(1) في الأصل: في.
(6/299)
بالتركة ما وصفناه، فلا يليق بهذه المصلحة
تسليطُ الوارث على التصرف، وليس كالأرش؛ فإنه أمر جزئي في حالٍ نادر،
والديون في التركات عامة الكَوْن والوقوع.
ثم فرع العراقيون، وقالوا: إن رددنا بيع الوارث، فلا كلام. وإن نفذناه،
نظر: فإن أدّى الدينَ من ماله، جرى البيع على نفاذه، وإن امتنع، نقضنا
بيعه والتفريع على الجملة يقع على حسب تفريع بيع السيد للعبد الجاني.
فإن قلنا: لا ينفذ بيع الوارث، لمكان الدين، لم يفصل بين الدين
المستغرق وبين الزائد وبين الناقص.
هذا ظاهر المذهب.
وذكر بعض أصحابنا وجهاًً أن الدين إن كان أقلَّ من التركة، لم يمتنع به
التصرف
على الوارث، وينفذ التصرف إلى أن لا يبقى من التركة إلا كِفَاء الدين.
[وسنعود إلى هذا] (1) في كتاب التفليس، إن شاء الله عز وجل على قياس
الديون في الرهون.
3787 - وإن لم يكن في التركة دين، وكان البائع باع عبداً واستوفى ثمنه
وأتلفه، ثم مات، وخلف تركة، ولم يخلف ديناً، فتصرف الوارث في التركة
بالبيع، ثم وجد مشتري العبد به عيباً، فردّه في التركة فيصير الثمن
ديناً، وهل يتبع تصرف الورثة في التركة بالنقض، لمكان الدين المنعكس
على التركة؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون، مفرَّعين على أن الدين
الناجز في التركة يمنع التصرف: أحدهما - أنا نتبين فساد تصرفه في
الأصل، ونجعل ما لحق من الدين بسبب الرد بمثابة ما يكون موجوداً حالة
الإقدام على التصرف؛ فإن السبب الموجب لذلك كان مقارناً، كمَا لو كان
الدين
مقارناً.
ثم إن قلنا: يتبين فساد التصرف، فلا كلام. وإن قلنا: لا يستند (2)،
والبيع قد انقضى على نعت اللزوم، فإن أدّى الوارث الثمن المنعكس على
التركة، فذاك، وإن لم يؤده، فهل يفسخ تصرفه؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنا
نفسخه؛ فإنا لو لم نفعل ذلك، أدى إلى أن لا يجد من رد بالعيب مرجعاً،
ولا سبيل إلى تضييع حقه.
__________
(1) في الأصل: وسنعيد هذا.
(2) أي لا يبطل (بالاستناد).
(6/300)
والوجه الثاني - أنا لا نفسخ [ذلك] (1)
التصرف؛ فإنه كان انتهى إلى صفة اللزوم، فلا وجه لمنع لزومه على الوجه
الذي نفرع عليه، ولو كنا نُسند الأمر إلى ما سبق، لأسندنا تبيّن الفساد
إلى التصرّف، فعلى هذا إذاً لا وجه إلا مطالبةُ المتصرف في التركة، كما
يطالب بدينه المختص به. ورُبَّ دينٍ يلزم إنساناً، وإن لم يكن ملتزمَه
في الابتداء، كما يلزم الضامن بسبب الضمان.
3788 - ولو خلف تركة ولا دين، فاقتسم التركة الورثةُ وتصرفوا فيها، ثم
تردَّى متردٍّ في بئر كان احتفرها المتوفَّى في محل عدوان، فاقتضى
الحالُ انعكاسَ الضمان على التركة، فهل يُتبع ما تقدم من التصرفات
بالنقض؟ في المسألة وجهان مرتبان على التي نجزت الآن. وهذه الأخيرة
أولى بأن لا تنقض التصرفات فيها إسناداً؛ فإن من مات وكان باع عبداً،
فعهدة العقد قائم، فكأنه ترك على الورثة ذلك العبدَ بعهدته، ولا شك أن
هذا أقرب من فرض تردِّي بهيمة في بئر بعد سنين، ثم التفريع في هذه
المسألة على حسب التفريع في مسألة الرد بالعيب. والله أعلم بالصواب.
[وإليه المرجع والمآب. انتهى كتاب الرهن] (2).
* * *
__________
(1) مزيدة من (ت 2).
(2) زيادة من (ت 2).
(6/301)