نهاية المطلب في دراية المذهب

كتاب الطلاق
قال الشافعي رضي الله عنه: "قال الله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ... إلى آخره" (1).
8920 - الأصل في الطلاق آيات في الكتاب معروفة، وسننٌ ستأتي في مواضعها على حسب مسيس الحاجة إليها، إن شاء الله عز وجل، وأجمع المسلمون على أصل الطلاق.
وهو في اللسان من الإطلاق يقال: أطلقتُ البعير إذا أرسلته وحللت عقاله، وأطلقتُ الأسيرَ إذا خلّيته، وهو لفظ جاهلي ورد الشرع باستعماله وتقريره، وقيل: كان الطلاق الجاهلية على أنحاءٍ: الطلاق، والفراق، [والسَّراح] (2)، والظهار، والإيلاء، وأنتِ عليّ حرام. قالت عائشة رضي الله عنها: جاء الشرع بنسخ البعض وتقريرِ البعض.
ثم الشافعي صدّر الكتاب بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. قيل: التقدير: يأيها النبي قل لأمتك: إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن. وقيل: المذكور النبي في صدر الآية وهو وأمته معنيّون، والشاهد فيه رجوعُ الخطاب إلى الجمع في قوله إذا طلقتم النساء، والكلام في ذلك يطول، وما ذكرناه كافٍ، ثم قوله: "طلقوهن لعدتهن" معناه طلقوهن لوقت يشرعن عقيبه في العدة، وقيل: كان صلى الله عليه وسلم يقرأ: "فطلقوهن لقُبل عدتهن" والظاهر أن هذا كان يذكره تفسيراً.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 68.
(2) صحفت كلمة (السراح) في الأصل إلى كلمة غير مقروءة ولا معنى لها: (النراح).

(14/5)


ثم الكتاب [مبدوءٌ بالكلام] (1) في الطلاق البدعي والسني، وهما لفظان أطلقهما أئمة السلف، وتداولهما فقهاء الأعصار، ونحن نذكر فقه الفصل موضحاً، ثم نأتي بالعبارات، ونستعين بالله تعالى، وهو خير معين.
8921 - فنقول: يحرم على الرجل أن يطلق زوجته المدخول بها في زمان الحيض من غير عوض ولا رضاً من جهتها، هذا متفق عليه.
وكذلك إذا جامع امرأته في طهر، ولم يتبين أنها حامل أو حائل، فيحرم عليه تطليقها في الطهر الذي جامعها فيه من غير عوض.
هذان أصلان ثابتان بالوفاق، ومستند الإجماع فيهما الحديث، وهو: ما روي أن ابنَ عمرَ طلق امرأته في الحيض، فسأل عمر رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: "مُره فليراجعها حتى تطهرَ، ثم تحيضَ، ثم تطهرَ، ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء" (2) هذا رواية مالك عن
__________
(1) في الأصل: يبدو الكلام.
(2) حديث طلاق ابن عمر امرأته بهذا السند: مالك عن نافع عن ابن عمر، وبهذه الألفاظ، لا ينخرم منها حرف واحد، رواه البخاري في صحيحه: كتاب الطلاق، باب وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّة} ح 5251، ولهذا الحديث روايات أخرى عند البخاري، باختلافٍ في اللفظ، وزيادات، وهي بأرقام: 4908، 5252، 5253، 5258، 5264، 5332، 5333، 7160.
وهو عند مسلم: كتاب الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها، وأنه لو خالف، وقع الطلاق، ح 1471، والرواية الأولى بذات السند: مالك عن نافع عن ابن عمر، وبذات الألفاظ التي ساقها البخاري، وهي التي جاء بها إمام الحرمين كما أشرنا آنفاً.
وللحديث عند مسلم روايات عدّة بلغت العشرين كلها عن ابن عمر، منها أربع عن نافع عن ابن عمر، وثلاث عن سالم عنه، وباقيها عن ابن سيرين، ويونس بن جبير، وعبد الله بن دينار، وطاوس، وأبي الزبير، وهي بألفاظ وزيادات تختلف عن السلسلة الذهبية، أي الرواية الأولى التي أشرنا إليها وبينا أنها ذات رواية البخاري.
والحديث عند أبي داود أيضاً في كتاب الطلاق - باب طلاق السنة والبدعة (4)، الأرقام من 2179 إلى 2185، والأول منها هو ما جاء عند البخاري ومسلم عن مالك عن نافع عن ابن عمر، وبذات الألفاظ. والأحاديث الباقية فيها ما أشار إليه الإمام من رواية سالم، ويونس بن جبير ومحمد بن سيرين.

(14/6)


نافع عن ابن عمر. وروى سالم ويونس بن جبير ومحمد بن سيرين عن ابن عمر، وفيه: "مره فليراجعها حتى تحيض ثم تطهر" (1)، وسنتكلم على هاتين الروايتين بعد تمهيد القاعدة في السُّنّة والبدعة، فنقول:
يحرم إنشاء الطلاق بعد الدخول عرياً عن العوض في زمان الحيض، والذي نضبط المذهب به أن هذا يؤدي إلى تطويل عدتها؛ فإن بقية الحيض لا يعتد بها، وإلى ذلك أشار الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال: "فتلك العدة التي أمر الله عز وجل أن تُطلق لها النساء" فعلل تحريم الطلاق بإفضائه إلى تطويل العدة، ولا مزيد على علة صاحب الشرع صلوات الله عليه.
ولو خالعها، فلا حظر ولا تحريم.
ولو طلقها [برضاها] (2) من غير ذكر عوض، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن ذلك سائغ؛ لمكان رضاها، فصار كما لو اختلعت نفسها.
والثاني - لا يجوز (3)؛ فإن حدود الشرع ومواقف التعبدات لا تختلف بالرضا والسخط.
8922 - فإن قيل: [على] (4) ماذا بنيتم أولاً تحريم الطلاق في الحيض؟ قلنا: صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: "مره فليراجعها" ارتفع عبد الله إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "أرأيت لو طلقتُها ثلاثاً"؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "إذن عصيت، وبانت امرأتك" وما قال عبد الله ما [قال] (5) معانداً، وقدرُه أعلى من هذا، وإنما قال مستفهماً؛ لأنه ما كان بلغه أمرُ (6) البدعة
__________
(1) ت6: "حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر". وفي هذا خلل واضح، فهو مخالف لما في كتب الحديث، ثم أي فرق إذاً بين هذه الرواية والتي قبلها.
(2) في الأصل: بغير رضاها.
(3) عدم الجواز هو الأصح المعتمد في المذهب. قاله النووي (الروضة: 8/ 4).
(4) زيادة من (ت6).
(5) في الأصل: كان.
(6) في الأصل: بلغه من أمر البدعة والسنة.

(14/7)


والسنة في الطلاق، وبنى الأمر على ظاهر الشرع في أن من ملك تصرفاً، لم يُحْجر عليه فيه، وأشعر بذلك قوله: "أرأيت لو طلقتها ثلاثاً" فأبان له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن التطليق في الحيض عصيان.
فإن قيل: من أين أخذتم نفي التعصية في المخالعة؟ قلنا: أخذناه من حديث زوجة ثابت في أصل الخلع؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالافتداء وأمره بالقبول، ولم (1) يستفصل، وهو يجري افتداء مخلِّصاً ولا يليق بروْم التخليص [والتخلّص] (2) تخير الأوقات، والنظر في تفاصيل الحالات. هذا أصل المذهب.
ثم اتفق حملة الشريعة على أن الطلاق -وإن كان محرَّماً (3) - نافذٌ، ولا اكتراث بمخالفة الشيعة في ذلك. فهذا ركن.
8923 - والركن الثاني في المنع من الطلاق في الطهر الذي وقع الوقاع فيه، [والطلاق عريٌّ عن البدل. وذكر القاضي خلافاً في أن الخلع في الطهر الذي جرى الوقاع فيه] (4) هل (5) يحرم؟ والسبب فيه أن تحريم (6) الطلاق في عقد المذهب [يرتبط] (7) بما يفرض من التندّم إن ظهر ولد؛ فإن الإنسان قد يُؤثر طلاق زوجته، وإن كانت أم ولده، لم يطلقها، فيلحقه الندمُ لو طلق (8) ثم تبين الحَبَل، (9 وفي حالة الحيض يرتبط بتطويل العدة 9)، فإذا كان المستند هذا فقد نقول: اختلاعها [في الحيض] (10) يشعر بكمال رضاها؛ فإنها لا تبذل المال إلا على طمأنينة، فيؤثِّر هذا
__________
(1) ت 6: ولم يفصل ولم يستفصل.
(2) زيادة من (ت 6).
(3) ت 6: محترماً.
(4) ما بين المعقفين ساقط من الأصل.
(5) عبارة الأصل: في الطهر الذي وقع الوقاع فيه هذا تحريمٌ والسبب فيه ...
(6) ت 6: التحريم.
(7) في الأصل: ويرتبط.
(8) في الأصل: ولو طلّق.
(9) ما بين القوسين سقط من (ت 6).
(10) زيادة من (ت 6).

(14/8)


في رضاها بطول العدة، وأما الطلاق في الطهر الذي جرى الوقاع فيه، فمستندٌ إلى أمر الولد، ولا يؤثر رضاها في أمر الولد.
وهذا الذي ذكره القاضي غيرُ مرضي؛ فإن التعويل على الندم لأجل الولد ليس بالقوي، وقد أوضحنا فساد ذلك في (الأساليب)، ولولا أن الشرع تعرض للعدة والنهي عن تطويلها، لما عللنا بذلك أيضاً، فالوجه تنزيل الخلع على الخروج عن السنة والبدعة؛ تعويلاً على الحديث، والمعنى الكلي الذي أشرنا إليه.
وكان شيخي أبو محمد يحكي عن شيخه القفال أن الأجنبي إذا اختلع المرأة من غير رضاها (1 في زمان الحيض فالخلع محظور؛ فإنه لم يصدر عن رضاها 1). وهذا الذي ذكره متجه حسن (2).
ويجوز أن يقال: الخلع كيف فرض [لا يكون بدعياً] (3). وهذا الذي يليق بمذهب الاقتداء، والظاهر ما ذكره القفال؛ فإن المعتمد (4) في إخراج الخلع عن البدعة الحديث، وهو وارد في المرأة التي رامت الاختلاع بنفسها.
8924 - ثم قال الأصحاب: المذهب ينضبط في السنة والبدعة [ونفيهما] (5) من جهتين، فإن أحببنا (6) أخرجنا اللواتي لا يلحقهن سنة ولا بدعة وقلنا: هن خَمْسٌ: [المختلعةُ] (7)؛ للمعنى الذي ذكرنا، وغيرُ المدخول بها؛ فإنه لا عدة عليها، ولا دخول، فيتوقع منه الولد، والحاملُ ليس في طلاقها بدعة؛ فإن عدتها لا تطول،
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من (ت 6).
(2) ما قاله القفال هو الأظهر عند الرافعي، والأصح عند النووي (ر. الشرح الكبير: 8/ 483، والروضة: 8/ 4).
(3) في الأصل: ولا يكون بدعاً.
(4) ت 6: فإن معتمد المذهب.
(5) في الأصل: وتقسيمهما.
(6) ت 6: أوجبنا. وهو تحريف لعله مقصود من الناسخ؛ فإنه على علم بما يكتب، ولكنه أبعد النجعة -إن كان قاصداً- فأوجبنا من الإيجاب، أي الإثبات المقابل للنفي، على حين المذكور غير هذا، وقد نص المؤلف في الفقرة التالية على مقابل هذا الضابط، فقال: وإن أثبتنا.
(7) سقطت من الأصل.

(14/9)


وإذا كان حملها بيّناً، فالظاهر أن الطلاق يصدر على وجه لا يستعقب ندماً، ولا بدعة في عدة الصغيرة؛ فإنها تعتد بالأشهر، وهي لا تطول ولا تقصر، وكذلك الآيسة لا بدعة في طلاقها.
فإن قيل: إن كانت الصغيرة لا يتوقع حبلها، فالآيسة قد يتوقع ذلك منها، وقد ينفتق رحمها ويعود حيضها، فتَعْلَق. قلنا: البناء على ظواهر الظنون، ولو [راجع] (1) الرجل امرأته الآيسة، وكان قد واقعها، فليس فيها مرد متوقع حتى يطلّق عنده.
فهذا ضبط اللواتي لا يلحقهن سنة ولا بدعة، والطلاق فيهن لا ينعت بحظر [ولا] (2) بسنة.
وإن أردنا الضبط من جانب الإثبات قلنا: البدعة إنما تلحق الحائض الممسوسة في الطلاق العريّ عن البدل والرضا، وتلحق التي جومعت في طهرها، وهي من ذوات الأقراء.
ثم الطلاق المحظور البدعي ما يصادِف -على الشرائط المقدَّمة- حيضاً، أو طهراً وقع فيه وقاع، والطلاق السني هو الذي يصادف طهراً عرياً عن الوقاع. هذا هو الأصل المعتبر في الباب.
8925 - [وقد قال الشيخ أبو علي] (3): إذا استدخلت المرأة ماء الزوج، كان ذلك في إثارة البدعة كالجماع؛ فإنه يتعلق به خشية ندامة الولد.
ولو أتاها في غير المأتى، وعلم أن الماء لم يسبق إلى الرحم، فهل يثير هذا الوطءُ بدعة؟ فيه تردد، وميل الشيخ إلى أنه لا يثيرها.
والظاهر عندنا أخْذُ ذلك من العدّة، وقد ذكرنا أن هذا الوطء هل يتضمن العدة؟
__________
(1) في النسختين: "ولو جامع" والمثبت تقديرٌ منا، والمعنى "ولو راجع الرجل امرأته الآيسة، وكان قد واقعها، فليس فيها مردّ متوقع حتى يطلّق عنده" فيكون المعنى: لو أمرناه بمراجعتها لأنه طلقها بعد وقاعها، فما المردّ المنتظر الذي يطلّق عنده. والله أعلم.
(2) في الأصل: إلا بسنة.
(3) في الأصل: قال أبو علي.

(14/10)


ولو وطىء امرأته في زمان الحيض، ثم مضت بقية الحيض، قال (1): البدعة قائمة حتى تحيض حيضة أخرى بعد الطهر.
وهذا فيه احتمال؛ فإن بقية الحيض يدل على عدم العلوق.
وقال: المرأة إذا طلبت الفيئة من الزوج المولي بعد المدّة، فلم يفىء، وطلبت الطلاق وهي في زمان الحيض، طلقها الزوج (2) أو القاضي ولا بدعة، وهذا متفق (3) عليه. وإن ذكرنا خلافاً في سؤال الطلاق؛ لأن هذا طلب حق، فكان مخالفاً لسؤالٍ من غير استحقاق.
فصل
قال: "وأحب أن يطلقها واحدة لتكون له الرجعة ... إلى آخره" (4).
8926 - قال الأئمة: إيقاع الطلاق في الأصل مكروه من غير حاجة، واحتجوا عليه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق، وأحبها إليه العتاق" (5) والفقهاء قد يتساهلون في إطلاق الكراهية، وأرباب الأصول
__________
(1) "قال: البدعة قائمة" القائل هو الشيخ أبو علي، كما صرح بذلك الرافعي في الشرح الكبير: 8/ 488. هذا. وفي نسخة ت 6: (فإن) بدل (قال). وهو تصحيف مضلّل.
(2) ت 6: طلقها الزوج ولا بدعة أو القاضي.
(3) قوله: "متفق عليه": هذا فيما إذا طلق القاضي على المولي، أما إذا طلق هو في الحيض فقد قال الرافعي: "وكان يجوز أن يقال: هو بدعي؛ لأنه بالإيذاء والإضرار أحوجها إلى الطلب، وهو غير ملجأ إلى الطلاق، بل هو يتمكن من أن يفيء إليها، والمطلوب أحد الأمرين من الفيئة أو الطلاق؛ فلا ضرورة له إلى الطلاق في الحيض، (ر. الشرح الكبير: 8/ 483) وبمثله قال النووي في الروضة: 8/ 4.
(4) ر. المختصر: 4/ 69.
(5) حديث: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" رواه أبو داود: كتاب الطلاق، باب في كراهية الطلاق، ح 2178، ورواه ابن ماجه أيضاً: كتاب الطلاق، ح 2018، بدون زيادة "وأحبها إليه العتاق"، ولكن رواه الدارقطني في سننه بهذه الزيادة، بلفظ: ما خلق الله شيئاً أحب إليه من العتاق، ولا شيئاً أبغض إليه من الطلاق (ر. سنن الدارقطني: 4/ 35 رقم 94) وانظر (تلخيص الحبير: 3/ 417 ح 1725).

(14/11)


لا يطلقون هذا اللفظ إلا على تثبت، فإن ظهر غرض يستحثّ على الطلاق كمخيلة ريبةٍ واستشعار نشوز، فالكراهية لا تتحقق، وإذا كان لا يهواها وربما لا تسمح نفسه بالتزام مؤنتها من غير حصول غرض الاستمتاع، فلا كراهية في الطلاق والحالةُ هذه.
فالكراهية لا يتجه إطلاقها إلا عند زوال الحاجات والأغراضِ التي يُطلِّقُ العقلاء لأجلها، وإن لم يكن غرضٌ ولا حاجة، فلا بأس بإطلاق الكراهية. ثم حيث تُطلق الكراهية، لا نفرق بين [الواحدة] (1) والعدد. وإن ظهر غرضٌ ترتفع الكراهية لأجله، فقد نقول: لا يستحب جمع الطلقات، ويستحب أن يفرقها، ولسنا ننكر أن وضعها في الكتاب والسنة يشعر [بالاستحثاث] (2) على تفريقها؛ حتى لا يلقى الإنسانُ ندماً، ولا ينتهي الأمر إلى [إطلاق] (3) لفظ الكراهية، حيث لا كراهية، في أصل التطليق.
8927 - ومذهب الشافعي أن الجمع بين الطلقتين والثلاث، لا سنة فيه ولا بدعة، وإنما تتعلق السنة والبدعة بالزمانين المذكورين على التفاصيل المقدمة: أحدهما - زمان الحيض. والثاني - الطهر الذي وقع [الوقاع] (4) فيه. وأبو حنيفة (5) يحرم الجمع، كما يحرم التطليق في الحيض وفي الطهر الذي جرى الوقاع فيه، والمسالة مشهورة معه في الخلاف.
وقد قال الشيخ أبو علي في شرح التلخيص: جمع الطلقات لا معصية فيه. ولكن هل يقال: السنة تفريقها؟ فعلى وجهين، واحتمل كلامه معنيين: أحدهما - التردد في استحباب التفريق حكماً. وأحد الوجهين أن ذلك لا يوصف بالاستحباب، [والأمر] (6) فيه إلى مالك الطلاق، وفي كلامه ما يدل على أن اسم السنة هل يتناول
__________
(1) في الأصل: الواحد.
(2) زيادة من (ت 6).
(3) في الأصل: الطلاق.
(4) زيادة من (ت 6).
(5) ر. المبسوط: 6/ 4، 7، ورؤوس المسائل: 408 مسالة: 282، والاختيار: 3/ 121.
(6) في الأصل: فالأمر.

(14/12)


التفريق؟ فعلى وجهين، ولا شك أن البدعة لا تتناول الجمع عندنا، ومقتضى هذا أنه لو قال: أنت طالق ثلاثاً للسنة، وزعم أنه نوى التفريق على الأقراء يُصدَّق ظاهراً، وهذا بعيدٌ مخالفٌ للنص والمذهبِ، والسنةُ والبدعةُ يتعاقبان، أما التردد في الاستحباب، فللاحتمال إليه تطرُّقٌ، والظاهر الاستحباب، ومنع لفظ السنة.
8928 - ثم قال الشافعي: "لو طلقها طاهراً بعد جماع، أحببت أن يرتجعها ... إلى آخره" (1). والمراد بذلك أنه إذا طلقها بدعياً في زمان الحيض، فإنا نستحب ونؤثر له أن يرتجعها، والأصل في ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم [في قصة ابن عمر] (2)؛ حيث قال: "مُره فليراجعها". وتعليل ذلك أنه إذا طلقها في الحيض، فقد طوّل العدة عليها، وإذا طلقها في طهر جرى الجماع فيه، تعرّض لندامة الولد، فإذا تمادى، ولم يرتجع، كان في حكم من يُديم المعصيةَ مع القدرة على قطعها، وإذا ارتجع، زال ما كنا نحرّم الطلاق لأجله، من تطويل العدة، والتعرض للندامة.
وقد ينشأ من هذا الموضع سؤال: بأن يقول قائل: هل توجبون الارتجاع؛ فإن في الارتجاع قطعُ الضرار عنها بتطويل العدة، وكذلك القول في الارتجاع في الطهر الذي جرى الجماع فيه؟ وقد يشهد لوجوب الارتجاع لو صِير إليه ظاهرُ قوله صلى الله عليه وسلم: "مره فليراجعها".
قلنا: أجمع الأصحاب على [أن] (3) الارتجاع لا يجب، ثم أجمعوا على [أن] (4) ترك الارتجاع لا [يلتحق بما] (5) يُقضى بكونه مكروهاً (6)، وأكثر ما أطلقوه في ذلك أنا نستحب أن يرتجعها.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 70.
(2) زيادة من (ت 6).
(3) زيادة من (ت 6).
(4) سقطت من الأصل.
(5) زدناها من (ت 6).
(6) قال النووي: "في هذا نظر، وينبغي أن يقال: ترك الرجعة مكروه، للحديث الصحيح الوارد فيها، ولدفع الإيذاء". (ر. الروضة: 8/ 5).

(14/13)


فالجواب إذاً عن السؤال أن الارتجاع مقصوده الظاهر تداركُ حقٍّ (1) وجلبُ منفعةٍ، ويبعد المصير إلى وجوبه؛ لينبني عليه انتفاء تطويل العدة، وأصل التطليق محرّم للخبر وللمعنى، فإذا جرى، فلا يبلغ المحذور من الطلاق المحظور مبلغاً يوجب لأجله رجعةً مقصودها في الشرع جلبٌ أو استدراكٌ.
8929 - فإذا ثبت أن الرجعة لا تجب، ولكنها تُستَحَب، فقد قدمنا في صدر الكتاب روايتين وهذا أوان الكلام عليهما: روي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مره فليراجعها، ثم ليمسكها حتى [تطهر، ثم] (2) تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن تطلق لها النساء". وروى سالم بنُ عبد الله ويونس بنُ جبير ومحمد بن سيرين: ["مره فليراجعها، فإذا طهرت، فإن شاء فليطلقها"] (3) وفي ظاهر الروايتين
__________
(1) عبارة ت 6: أن الارتجاع لو وجب ومقصوده الظاهر. تدارك حق أو جلب حق، ويبعد المصير ...
(2) هذه الزيادة من متن الحديث في البخاري ومسلم برواية مالك عن نافع عن ابن عمر. فهذا هو الصواب في هذه الرواية، وهو بعينه لفظها الذي ساقه الإمام آنفاً في أول كتاب الطلاق، ولولا أن الإمام ساق هذه الرواية على هذا الوجه من قبل، لأثبتناها كما هي، ولعددناها من الوهم في الحديث، وعلقنا عليها بذلك.
(3) في النسختين جاءت رواية سالم ويونس وابن سيرين بهذا النص: "مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر".
وما أثبتناه بين المعقفين هو نص رواية من الروايات الواردة عن سالم ويونس وابن سيرين تضاف إلى رواية أخرى أثبتناها في أول الكتاب، وكلها على كثرتها واختلاف لفظها، وما فيها من زيادات تؤدي هذا المعنى. (حاشا رواية واحدة عن الزهري عن سالم، فقد جاءت على نحو رواية نافع).
وقد لخص أبو داود قضية هذه الأحاديث فقال: "قال أبو داود: روى هذا الحديث عن ابن عمر يونس بنُ جبير، وأنس بن سيرين، وسعيدُ بن جبير، وزيد بن أسلم، وأبو الزبير، ومنصور عن أبي وائل، معناهم كلهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر، ثم إن شاء طلق، وإن شاء أمسك".
ثم قال:
"قال أبو داود: وكذلك رواه محمد بن عبد الرحمن عن سالم عن ابن عمر، وأما رواية =

(14/14)


تفاوت، وموجب الرواية [الأولى] (1) أنه يراجعها إذا طلقها في الحيض، ثم يمسكها، حتى تنقضي بقية الحيض ثم تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر. وظاهر الرواية [الثانية] (2) فيه تردد؛ فإنه قال: "مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تحيض" ثم تطهر، فظن بعض الناس أن المراد بقوله: "حتى تحيض" حتى تنقضي بقية الحيض، فإذا طهرت، فإن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها.
وكان شيخي أبو محمد يذكر في ذلك وجهين من متن المذهب: أحدهما - أن المستحب ألا يطلقها كما (3) طهرت من بقية الحيض، وهذا هو الذي ذهب إليه
__________
= الزهري عن سالم، ونافع عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق أو أمسك".
ثم قال:
"قال أبو داود: وروي عن عطاء الخراساني عن الحسن، عن ابن عمر نحوُ رواية نافع والزهري. والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير" ا. هـ بنصه.
قلت (عبد العظيم): كان لا بدَّ لنا من تصويب هذه الرواية أيضاً ليتسق الكلام مع تغيير وتصويب الرواية الأولى (رواية نافع) وتستقيم كل ذلك مع صحيح روايات الحديث الموجودة في البخاري ومسلم وأبي داود، وهو متفق أيضاً مع ما أورده إمام الحرمين -من قبل- لصحيح رواية نافع، ولما أشار إليه في نسخة الأصل عن رواية سالم ويونس وابن سيرين.
وأما ما جاء هنا من اضطراب وخلل، فهو من خلل النساخ وعجلتهم، وكأني بهم هنا كتبوا نص الروايتين من ذاكرتهم لا من الأصل الذي أمامهم، يرجح ذلك -إن لم يؤكده- أن إمام الحرمين ساق الروايتين على وجههما الصحيح -من قبلُ- في نسخة الأصل، مع أنها من النسخ السقيمة. والله وحده الأعلم بما كان.
ثم أقول: تعليقُ أبي داود في سننه على الأحاديث يوحي إلينا أن إمام الحرمين كان علم بهذا التعليق، مما يغلب على الظن أنه كان يراجع سنن أبي داود، وأن سنن أبي داود هي ما كان يعنيه حينما يكرر قوله: "وفي الكتاب الذي يرجع إليه في الأحاديث" فهل أنا على صواب؟
(راجع إن شئت البخاري، ومسلم وسنن أبي داود في المواضع والأرقام التي أشرنا عند رواية مالك عن نافع عن ابن عمر في أول كتاب الطلاق).
(1) في النسختين (الثانية).
(2) في النسختين (الأولى) وسوغّ لنا هذا التغيير، ما كان قبلُ من تصحيح الروايات.
(3) كما: بمعنى (عندما).

(14/15)


الجمهور، والسبب فيه أنه لو طلقها كما طهرت، لكانت الرجعة مقصودة لأجل الطلاق، حتى كأنه (1) ارتجعها ليطلقها، وهذا لا يليق بمحاسن الشرع في آداب العشرة بين الزوجين في الدوام والفراق. نعم، إذا تركها على حكم النكاح طهراً كاملاً، ثم حاضت، ثم طهرت، فنحمل مضي الطهر الأول على إمساكها في زمان الاستمتاع.
8930 - ومن أصحابنا من قال: [لا بأس] (2) لو طلقها في الطهر الأول؛ فإن الرجعة قطعت أثر الطلاق البدعي، وأزالت تطويل العدة، فإذا طلقها كما (3) طهرت، فهذا الطهر محسوبٌ، وليس فيه ندامةُ ولدٍ.
ثم على هذين الوجهين يُخَرَّج تنزيل رواية ابن عمر، فإن قلنا: لا بأس لو طلقها كما طهرت، فقوله: حتى تحيض ثم تطهر محمول على انقضاءِ الحيض (4 واستفتاح الطهر. وإن جرينا على الوجه الأصح، فقوله حتى تحيض 4) محمول على حيضة مستأنفة بعد طهر، وهذا ظاهر اللفظ؛ فإنَّ حَمْل الأفعال والأحوال مع صيغة الشرط على استفتاح الأمور في الاستقبال أظهر من حملها على انقضاء ما به الملابسة.
فإن فرعنا على الوجه الظاهر، فقد ذكر الأئمة وجهين في أنا هل نؤثر وهل نستحب للزوج أن يجامعها في الطهر الأول؟ فقال قائلون: لا يُطْلَقُ في هذا الاستحبابُ، والأمر إلى الزوج. وقال آخرون: يستحب ما ذكرناه إذا لم يكن عذر؛ فإنه إذا لم يواقعها، كان تربّصه في الطهر والحيضة بعده محمولاً على أن يطلقها في الطهر الثاني، وقد بنينا الأمر بالرجعة على خلاف هذا.
ولو طلقها في الحيض، وراجعها في الحيض، وأصابها في زمان الحيض، ثم طهرت، والتفريع على أنا نؤثر للزوج أن يطلّق في الطهر الثاني، فذلك الأمر مستدام، ولا حكم للوطء الذي جرى في زمان الحيض؛ فإنه وطء محظور منهي عنه، فلا يتعلق
__________
(1) (ت 6) حتى أنه.
(2) زيادة من (ت 6).
(3) كما: بمعنى (عندما) وستأتي بهذا المعنى من نفس الموضع.
(4) ما بين القوسين سقط من (ت 6).

(14/16)


به غرض مطلوب في الشريعة فوجودُه كعدمه، وإنما ذكرنا هذا حتى لا يظن ظان أنه إذا راجعها ووطئها في الحيض، فقد أخرج الرجعة عن أن تكون لأجل الطلاق.
ولو طلق امرأته في طهرٍ جامعها فيه، ثم راجعها، كما ذكرناه (1)، فلا شك أنه لا يطلقها، ولو طلقها، لكان الطلاق بدعياً؛ لأنه وقع في طهر جرى فيه وقاع، فإذا حاضت، ثم طهرت، فله أن يطلقها الآن، ولا يشترط في إقامة الأَوْلى والمستحبِّ أكثرُ من ذلك.
ولو طلق [امرأته] (2) في طهر جامعها فيه، ثم راجعها في الحيض، والتفريع على الأصح؛ فإنه لا يطلقها في الطهر الذي يلي هذا؛ لأن الرجعة تكون لأجل الطلاق.
ولو طلقها في طهر لم يجامعها فيه، ولم يكن الطلاق بدعياً، غير أنه راجعها في الحيض، حكى القاضي عن الأصحاب أنهم قالوا: لا نستحب له أن يطلقها إذا طهرت؛ فإنه لو طلقها كما (3) طهرت -وقد راجعها في الحيض- لكانت الرجعة لأجل الطلاق، ثم قال: والذي عندي أنه لا بأس عليه لو طلقها كما طهرت؛ لأن الطلاق الأول لم يكن بدعياً في الأصل، ونحن إنما نأمر بالرجعة، ثم بالإمساك على التفصيل المذكور إذا كان الطلاق الواقع بدعياً، وهذا الذي اختاره القاضي هو المذهب الذي لا يُعْرَف غيره، ولم أر حكاية غيره لغير القاضي (4).
فهذا تفصيل القول في استحباب الرجعة والإمساك بعدها، وما يتعلق به من خلاف ووفاق.
فرع:
8931 - إذا قال الرجل لامرأته التي هي بمحل السنة والبدعة: أنت طالق مع آخر جزء من حيضك، فمعلوم أن الطلاق ينطبق على الجزء الأخير، وذلك الجزء
__________
(1) ت 6: أمرناه.
(2) زيادة من (ت 6).
(3) كما: بمعنى عندما، وهو استعمال قال عنه النووي: إنه غير صحيح وغير عربي، وقد نبهنا
على ذلك مراراً.
(4) الأمر كما قال إمام الحرمين، المذهب ما اختاره القاضي، لا ما حكاه، وقد وصف النووي هذا الوجه الذي حكاه القاضي بالضعف (ر. الروضة: 8/ 8).

(14/17)


لا يكون من العدة، وهي تستفتح طهراً معتداً به؛ فليس في هذا التطليق تطويل العدة عليها؛ فاختلف أصحابنا فيه: فذهب القياسون إلى أن الطلاق لا يكون بدعياً؛ لأنه ليس فيه تطويل عدة، ولا ندامة ولد، وذهب آخرون إلى أن الطلاق بدعي؛ لمصادفته الحيض، وهذا القائل يعتضد بالرجوع إلى التوقيف والتعبد، ويهون عليه تضعيفُ طريقِ الرأي والتعويلِ على المعنى؛ لما نبهنا عليه قبلُ وقررناه في المسائل.
ولو قال لامرأته: أنت طالق مع آخر جزء من طهرك، فللشافعي قول: إن الانتقال من الطهر إلى الحيض قرءٌ معتد به. فإن فرعنا على هذا، فالطلاق سنّي لمصادفته الطهر، وإفضائه إلى تقصير العدة. وإن قلنا: لا يعتد بذلك قرءاً، فللأصحاب وجهان: أقيسهما - أن الطلاق بدعي؛ لأنها تستقبل حيضة كاملة لا يعتد بها، وإذا كنا نجعل الطلاق في أثناء الحيض بدعياً؛ لأن بقية الحيض غيرُ معتد بها، فلأن نقول: الطلاق بدعي إذا استقبلت حيضة لا اعتداد بها أولى.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن الطلاق سني؛ لمصادفته الطهر الذي لم يجرِ فيه جماع، وهذا القائل يلتفت على التعبد واتباع التوقيف، كما تقدم شرحه.
فصل
قال: "وإن كانت في طهر بعد جماعٍ ... إلى آخره" (1).
8932 - هذا الفصل مُصدَّر بقُطبٍ يتعلق بمقتضى الألفاظ، فنقول: الطلاق يُنجَّز ويُعلّق، ثم تعليقه تارة يكون على صيغة الشرط، وتارة يكون على صيغة التأقيت، وهما جميعاً معدودان من التعليق. فأما الشرط، فهو الذي يتعلّق بما يجوز أن يكون ويجوز ألا يكون، مثل أن يقول لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، فهذا شرط محقق، وأما التأقيت، فمثل قول الزوج: إذا استهل الهلال، فأنت طالق، فهذا تأقيتٌ وليس شرطاً؛ فإن الشرط هو الذي [لا يُقطع] (2) بوقوعه، والتأقيت مبني على
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 70.
(2) في الأصل: لا يقع.

(14/18)


القطع في المتعلَّق، وعن هذا قال سيبويه: "إذا قال القائل: إذا قامت القيامة كان (1) كذا وكذا: فهذا إيمان بالقيامة (2)، وإذا قال: إن قامت، فهذا تردد في التصديق بها". وعن هذا قال أئمة اللسان: قول القائل: إن طلع الفجر، فأنت (3 طالق، كلامٌ معدول عن الوجه المستحسن، فإن الفجر يطلع لا محالة، وإذا قال: إذا 3) طلع الفجر، فأنت طالق، فهذا هو النظم الجاري في كلام الفصحاء.
وقد يجري الطلاق معللاً بعلة، فحكم الطلاق أن يتنجّز، ثبتت (4) تلك العلة أو انتفت، وبيانه أنه لو قال: أنت طالق لرضا فلانٍ، [وزعم] (5) أنه أراد تعليل إيقاع الطلاق بالرضا، فالطلاق ناجزٌ رضي ذلك الشخص أو سخط، وذلك أن المعلِّل ليس يعلِّل (6) الطلاق بالعلة، وإنما يُنجِّز الطلاق ثم يبتدىء، فيعلل تنجيزَه بسبب، فالتعليل كلام مبتدأ لا ينشأ ليرتبط الطلاق به وجوداَّ وعدماً. وسنذكر مسائل هذا الأصل، إن شاء الله عز وجل.
8933 - ثم نقول بعد هذا: استعمال اللام في الأوقات محمول على التأقيت بالاتفاق، وبيانه أنه إذا قال: أنت طالق لهلال رمضان، فهو بمثابة قوله: إذا استهل هلال رمضان، فأنت طالق؛ والسبب فيه أن اللام مستعملة مع الأوقات للتأقيت بها، وهذا شائع في لغة الفصحاء، وهي أظهر من قول القائل: إذا استهل الهلال، فأنت طالق، وينضم إلى ذلك أن تخيّل التعليل بالأوقات بعيد عن الوهم؛ فإن التعليل إنما
__________
(1) في الأصل: وكان كذا وكذا.
(2) لأن (إذا) معناها التحقيق، فمن قال: "إذا قامت القيامة كان كذا وكذا"، معناه أنه متحقق من القيامة مؤمن معتقدٌ بمجيئها.
لكن لو قال: "إن قامت القيامة، كان كذا وكذا" فقد جعل القيامة موضع التردد، لأن وضع (إن) في اللغة للتردد في الشرط.
(3) ما بين القوسين ساقط من (ت 6).
(4) الورقة رقم 133 (ي، ش) مكررة.
(5) في الأصل: فزعم.
(6) ت 6: يعلق.

(14/19)


يقع بمثل السخط والرضا، و [ما في] (1) معناهما، فأنتج [مجموع] (2) ما ذكرناه أن اللام مع الوقت تأقيت.
8934 - وإذا قال الرجل لامرأته التي تعتورها حالةُ السنة والبدعة: أنت طالق للسُّنة، نُظر: فإن كانت في زمان سُنَّة، وهو طهر لم يجامعها فيه، انتجز الطلاق في الحال، وهو بمثابة ما لو قال عند الاستهلال: أنت طالق لهلال رمضان، فيقع الطلاق مع الهلال.
وإذا قال لامرأته في زمان الحيض: أنت طالق للسُّنة، لم تطلق في الحال حتى تطهر، ثم تُطلَّق، فتحمل اللام على التأقيت بوقت السنة، كما قدمنا ذلك في إضافة اللام إلى الأوقات؛ والسبب فيه أن اعتوار زماني السنة والبدعة على المرأة يُظهر قصدَ التأقيت من اللام.
وكذلك لو قال لها: أنت طالق للبدعة، وكانت في زمان الحيض، أو كانت في طهر جامعها الزوج فيه، فالطلاق ينتجز، ولو قال لها وهي في طهرٍ لم يجامعها فيه: أنت طالق للبدعة، لم ينتجز الطلاق، حتى تصير إلى زمان البدعة، فإن لم يجامعها، فحاضت، طُلِّقت، وإن جامعها في ذلك الطهر، فقد انتهت إلى زمان البدعة، فتطلق أيضاً، كما سنفصل هذا في آخر الفصل، إن شاء الله تعالى.
والغرض الآن أن نبين أن قول الزوج: أنت طالق للسنة وللبدعة محمول على التأقيت، لا على التعليل.
8934/م- ولو قال [لامرأة] (3) لا يتصور فيها سنة ولا بدعة: من النسوة الخمس اللواتي قدمنا ذكرهن: أنت طالق للسنة، انتجزت الطلقة في الحال. وكذلك لو قال لها: أنت طالق للبدعة، انتجزت الطلقة، ولم نرتقب فيها المصير إلى حالة السنة والبدعة، وبيان ذلك بالتصوير أنه إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق للسنة أو للبدعة، فلا يحمل الأمر على تقدير دخول ومصيرٍ [بعده] (4) إلى التعرض لطوارىء السنة
__________
(1) زيادة من (ت 6).
(2) في الأصل: مجموعه.
(3) في الأصل: لامرأته.
(4) في الأصل: فعده.

(14/20)


والبدعة، وإن لم يكن هذا بعيداً عن التوقّع والانتظار.
وقد نص العراقيون على أنه إذا قال لها: إذا صرت من أهل السنة، فأنت طالق، ولم يكن مدخولاً بها، فالطلاق لا ينتجز، بل يرقب الدخولَ، والمصيرَ إلى حالة السنة.
فإن قيل: إذا كان هذا غيرَ بعيد عن التوقع، فهلا حملتم قولَ الزوج عليه؟ قلنا: حمل السنة والبدعة على الوقت إنما يظهر في التي تتصدّى لهما، وتتعرض لاعتوارهما [عليها] (1)، فيصيران في [حقها] (2) كاعتقاب الجديدين (3)، وتوالي الليل والنهار، فيستبق إلى الفهم والحالة هذه إرادة الوقت، واللامُ في وضعها للتعليل، وإنما تستعمل في الوقت إذا قُرنت بذكر الوقت أو قرنت بما يمرّ ويجري جريان الوقت، وإلا فالسنة والبدعة لفظتان مستعملتان في الشرع، لا جريان لهما في اللغة، وإنما استعملتا شرعاً على الخصوص، فلا يُعدَّى بهما موضعهما، ولا تحمل اللام في حق من يعتورها السنة والبدعة على التأقيت، وصرح الأئمة لفظاً [وفحوى] (4) بما يدل على أن من قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق للسنة، فلا يقبل ذلك منه ظاهراً، بل يديّن باطناً، كما سنذكره في باب أصل التديين؛ وإنما لم نقبل ما ذكره باطناً لظهور اللام في التعليل، وانعدام القرينة في اقتضاءِ التأقيت.
8935 - ولو قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق لوقت السُّنّة، فهذا فيه تردد عندي؛ من حيث صرح بالوقت: يجوز أن يقال: قوله لوقت السنة، كقوله للسنة، ويجوز أن يقال: إن فسر لفظه بمصيرها إلى حالة السنة يقبل ذلك منه، ويجوز أن يقال: إن فسره بالطهر، وفسر وقت البدعة بالحيض، وإن لم يكن دخول قبل ذلك منه، ولو أطلق اللفظ، وزعم أنه لم يكن له نية، فالظاهر وقوع الطلاق.
فليتأمل الناظر المسالة؛ فإنها محتملة.
__________
(1) في الأصل: عليه.
(2) في الأصل: حقه.
(3) الجديدان: هما الليل والنهار، فالجملة مترادفة مع ما بعدها.
(4) في الأصل: ونجوى.

(14/21)


8936 - ولو قال لامرأته: أنت طالق لرضا فلان، فإن زعم أنه أراد بما قال تعليلاً، وقع الطلاق ناجزاً، سواء رضي فلان أم سخط، على ما قررناه في أصل التعليل.
ولو أطلق لفظه، وزعم أنه لم يرد تعليلاً، ولا تأقيتاً، انتجز الطلاق؛ فإن صيغة اللفظ تقتضي تنجيزها، ولم يظهر ما يدفع التنجيز.
ولو زعم أنه أراد التعليق بوقت رضا زيد، فهذا مقبول باطناً إن صُدِّق، فهل (1) يقبل ذلك منه ظاهراً؟ فعلى وجهين، ذكرهما الصيدلاني: أحدهما - أنه لا يقبل منه؛ فإن الرضا ليس مما يؤقت به، وهو مما يعلل به، فكان التعليلُ أظهرَ، وإذا غلب التعليل، كان موجبه انتجاز الطلاق.
والوجه الثاني - أن ما قاله مقبول [ظاهراً] (2)؛ فإنه مُحْتَمَل غيرُ بعيد، فإذا (3) لم يَبْعُد ما قال، صُدِّق، وسيأتي ضبط هذه الأبواب -إن شاء الله عز وجل- على ما ينبغي.
ثم قال الصيدلاني: إذا قال: أنت طالق لقدوم فلان، فمطلق هذا محمول على التأقيت؛ فإنه يَظهر التأقيت بالقدوم، ويبعد التعليل به، بخلاف الرضا.
ثم ينتظم من هذه الجملة أن اللام مع الوقت تأقيت، وهو (4) مع الرضا وما في معناه مما يُتخيل التعليل به [تعليلٌ] (5) في الإطلاق.
وإن أريد به [التأقيت] (6) صُدق المرء باطناً، وهل يصدق ظاهراً، فعلى وجهين.
وما يظهر التأقيت به ينقسم إلى ما يتكرر بتكرر الزمان كالسُّنّة والبدعة، وإلى ما لا (7) يتكرر تكرر الأزمان، [كقدوم زيد.
__________
(1) ت 6: وهل.
(2) زيادة من (ت 6).
(3) ت 6: وإذا.
(4) وهو: أي حرف اللام.
(5) زيادة من (ت 6).
(6) في الأصل: التعليل.
(7) ت 6: وإلى ما يتكرر.

(14/22)


فأما ما يتكرر تكرر الأزمان] (1) وَيَكُرّ كُرورَها، فمطلق اللام فيه للتأقيت، كقول الرجل للمرأة (2) التي هي [بصدد] (3) السُّنة والبدعة: [أنت طالق للسُّنّة أو للبدعة] (4) هذا للتأقيت كما ذكرناه.
وأما ما يظهر فيه قصد التأقيت ولا يكرّ كرورَ الزمان، كقول القائل: أنت طالق لقدوم زيد، وزيدٌ غير قادم، وإنما يُنتظر قدومُه، فالذي قطع به الصيدلاني أن مطلق ذلك تأقيت، ولم أر في الطرق ما يخالف هذا، وهو متجِهٌ، فلا [مزيد] (3) عليه.
ولو قال لامرأته: أنت طالق لدخول الدار، فالظاهر أن مطلق هذا محمول على التعليل، وإن زعم أنه أراد بذلك تأقيتاً، فهو قريب من قوله: أنت طالق لرضا فلان مع زعمه أنه أراد بذلك تأقيتاً وتعليقاً بوقت الرضا، ومعنى التعليق في الرضا قد يغلب وإن أمكن أن يُتخيل في دخول الدار؛ فالوجه ألا يُفرّق بين البابين.
هذا [هو] (6) الضبط في استعمال اللام فيما نحن فيه من السنة والبدعة، وفيما في معناه.
8937 - وذكر الشيخ أبو علي في شرح التلخيص أنه إذا قال للتي لا سنة فيها ولا بدعة: أنت طالق للسنة، انتجز الطلاق للسنة، كما ذكره الأصحاب.
ولو قال: أنت طالق للبدعة، فالمذهب أن الطلاق ينتجز، كما ذكرناه عن الأصحاب، وحكى عن الأصحاب وجهاً: أنا ننتظر مصيرها إلى حالة البدعة؛ فإن طلاق السُّنَّة يمكن حمله على ما يسوغ، وأما طلاق البدعة، فلا مساغ له إذا لم تكن المرأة من أهل البدعة.
__________
(1) زيادة من (ت 6).
(2) ت 6: لامرأته.
(3) في الأصل: مصدر.
(4) زيادة من (ت 6).
(5) في الأصل: يزيد.
(6) مزيدة من (ت 6).

(14/23)


قال الشيخ: والصحيح وما عليه الأئمة أنه يقع الطلاق في الموضعين سواء [وصف] (1) الطلاق بالسنة أو البدعة.
8938 - ثم نعود إلى تفصيل الطلاق [السني والبدعي في حق التي يُتصور في حقها السنة والبدعة] (2): [فإذا] (3) قال لامرأته وهي في طهر [لم] (4) يجامعها فيه: أنت طالق للسنة، وقع الطلاق، فانطبق انتجازه على وقت السنة، وإن كانت في حالة الحيض، لم تطلق حتى ينقضي حيضها وتشرع في الطهر، فإذا شرعت فيه، وقع الطلاق مع أول جزء من الطهر، ولا يتوقف وقوعه على أن تغتسل، خلافاً لأبي حنيفة (5)، ولا فرق عندنا بين أن يكون حيضتها منقطعة على أكثر الحيض أو على أقله أو أغلبه.
ولو قال [لها] (6): أنت طالق للبدعة. فإن كانت في حالة البدعة، وقع في الحال، وإلا فحتى تصير إلى حالة البدعة: فلو كانت في طهر لم يجامعها فيه، وقد قال لها: أنت طالق للبدعة، فإن كان خلاّها ولم يجامعها حتى حاضت، طلقت مع أول جزءٍ من الحيض.
وإن كان قال لها [ذلك] (7) وهي في طهر لم يجامعها فيه، فلو جامعها في هذا الطهر قبل أن تحيض، وقع الطلاق كما (8) غيب الحشفة؛ فإنها انتهت إلى وقت البدعة.
__________
(1) في الأصل: سواء خلف الطلاق.
(2) عبارة الأصل: إلى تفصيل الطلاق والسني والبدعي في حق الذي يُتصور في حقه السنة والبدعة
(3) في الأصل: وإذا.
(4) زيادة من (ت 6).
(5) ر. البدائع: 3/ 91.
(6) مزيدة من (ت 6).
(7) في الأصل: قال لها إذ ذاك.
(8) كما: بمعنى عندما.

(14/24)


8939 - ثم الكلام مفروض فيه إذا كان الطلاق المعلَّق رجعياً، [فينظر] (1): فإن أَخْرجَ ثم أولج، فالحد لا يجب؛ لأنها رجعية، والمهر سيأتي مفصلاً في كتاب الرجعة. وعقد المذهب فيه أنه إذا وطىء الرجعية وتركها حتى انسرحت، التزم مهر مثلها. وإن راجعها، ففي المسالة وجهان.
هذا ظاهر المذهب وأصله، وسيأتي ذلك مشروحاً في كتاب الرجعة، إن شاء الله عز وجل. كذلك إذا غيب الحشفة ووقع الطلاق، ثم نزع وأعاد فأولج، فهذا جماع مستحدث صادف رجعية.
ولو أولج الحشفة أول مرة، وحكمنا بوقوع الطلاق، فمكث أو تمم الإيلاج، فلا شك أن الحد لا يجب؛ لأنه مخالطٌ رجعية، فأما المهر، فقد سكت الشافعي عن ذكر وجوب المهر هاهنا، ونص على أنه إذا أصبح المكلف مجامعاً في نهار رمضان ولم ينزع، تلزمه الكفارة، والنصان في ظاهر الأمر مختلفان: قول الشافعي هاهنا يدل على أن المكث والاستدامة لا يكون بمثابة النزع والإعادة، ونص الشافعي في الصيام مصرح بأن الاستدامة بمثابة ابتداء الجماع.
وقد ذكر القاضي هاهنا طريقين للأصحاب: قال: منهم من قال: في المهر والكفارة قولان: أحدهما - أنهما يجبان تنزيلاً للاستدامة منزلة الابتداء. والثاني - (2) لا تجب الكفارة ولا المهر.
توجيه القولين: من لم يوجبهما قال: الجماع واحد، فلا ينقسم حكمه، ولم يتعلق بأوله كفارة، [ولا مهر] (3)، فلا يتعلق بالدوام ما لم يتعلق بالابتداء
ومن قال بالقول الثاني (4) قال: صورة الجماع موجودة بعد وقوع الطلاق وطلوع
__________
(1) في الأصل: منظر.
(2) في (ت 6): "ومنهم من قال:".
(3) في الأصل: فلا مهر.
(4) في الكلام ما يسميه علماء البلاغة (اللّفّ والنشر) فالقول الذي ذكره باسم (الثاني) هو (الأول).

(14/25)


الفجر. قال القاضي: ومن أصحابنا (1) من لم يوجب المهر هاهنا وأوجب الكفارة وأقر النصين على ظواهرهما، وفرق بأن قال: الزوج إذا وطىء زوجته وقع الطلاق بأول وطءٍ، وهذا الوطء قد تعلق به المهر؛ من جهة أن مهر النكاح يشمل على الوطآت كلها، فوقع الاكتفاء باشتمال ذلك المهر على هذه الوطأة [والوطأة] (2) الواحدة لا يتعلق بها مهران. والوطء في حكم الكفارة ليس في هذا المعنى؛ فإنه لم يتعلق بأوّله كفارة، وقد وجدت صورته في وقت العبادة ومن أصلنا أن الجماع المانع من الصيام كالجماع القاطع للصيام، فهذا وجه الفرق.
وما ذكره القاضي من تخريج [نفي] (3) الكفارة غريب في النقل، وإن كان متجهاً.
وما ذكرناه في المهر فيه إذا استدام الوطء، ووقع التصوير فيه إذا كنا نوجب المهر عند النزع والإعادة، ثم نتردد في أن الاستدامة هل تكون بمثابة النزع (4) والإعادة.
ولو أصبح وهو مخالط أهله، ثم قرن بأول الإصباح النزعَ، فلا كفارة، ولا [فطر] (5) كما قدمناه في كتاب الصيام.
ولو وقع الطلاق في الصورة التي نحن فيها، وكما (6) وقع، نزع ولم يعرّج (7)، فالأصحاب متفقون على أن المهر لا يجب؛ لأن النزع انكفاف عن العمل، ولا يتعلق بالانكفاف عن العمل ما يتعلق بالإقدام عليه.
8940 - ومما يتعلق بما نحن فيه أنه لو قال لامرأته في الطهر الذي لم يجامعها فيه: أنت طالق ثلاثاً للبدعة، ثم جامعها، فكما غابت الحشفة طلقت ثلاثاً، ثم ننظر: فإن أخرج ثم أولج، فهذا إيلاج بعد وقوع [الثلاث،] (8) وهو موجب للحد مع العلم
__________
(1) هذا هو الطريق الثاني.
(2) زيادة من (ت 6).
(3) زيادة من (ت 6).
(4) ت 6: الشرع.
(5) في الأصل: ولا نظر.
(6) وكما وقع: وعندما وقع الوطء.
(7) ولم يعرّج: أي لم يستمر في المخالطة. من عرّج بالمكان إذا نزل به وأقام (المعجم).
(8) في الأصل: الطلاق.

(14/26)


بحقيقة الحال، وإن مكث أو تمم الإيلاج مع العلم بوقوع الطلاق، فظاهر المذهب أنه لا حد عليهما؛ فإن الوطأة لا يتبعض حكمها، والحد لم يتعلق بأول هذه الوطأة، فلا يتعلق بدوامها.
وذهب بعض أصحابنا إلى إيجاب الحد؛ فإن صورة الوطء ثابتة مع القطع بالتحريم. ولو غيّب الحشفة واستدام، وتمم الإيلاج كما صورنا، فإن أوجبنا الحد، لم يجب المهر، وإن لم نوجب الحد، فالمهر على الخلاف الذي تقدم.
ولو وقع الثلاث بالتغييب، كما صورنا، ونزع كما (1) وقع، فلا حد ولا مهر، لما ذكرناه من أن الانكفاف عن الفعل لا يحل محل الإقدام عليه.
ولو قال لامرأته وهي في زمان البدعة: أنت طالق للسُّنّة في هذا الوقت، وأشار إلى وقت البدعة وقع الطلاق، ولغا [التقييد] (2) بالسنة؛ لأن الإشارة أغلب في هذا المقام من العبارة.
فهذا تفصيل القول وترتيبه في ذكر السُّنة والبدعة.
فصل
قال: "ولو كان قال في كل قرءٍ واحدة ... إلى آخره" (3).
8941 - قد ذكرنا من أصل الشافعي رضي الله عنه أنه ليس في [جمع] (4) الطلقات وتفريقها سُنَّة ولا بدعة، ونقول على موجب هذا: إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً للسنة، وكانت في زمان السُّنّة ولفظُه [مطلق] (5)، فالطلاق (6) الثلاث ينتجز في الحال، وكذلك لو كانت في زمان البدعة، فقال: أنت طالق ثلاثاً للبدعة، فلا أثر
__________
(1) كما: عندما.
(2) في الأصل: التقبيل.
(3) ر. المختصر: 4/ 70.
(4) في الأصل: جميع.
(5) في الأصل: طلق.
(6) ت 6: فالطلقات تتنجز.

(14/27)


لذكر البدعة في الثلاث، كما لا أثر (1) لذكر السنة، واللفظ مطلق.
ولو زعم أنه أراد بقوله: أنت طالق ثلاثاً للسنّة تفريقَ ثلاث طلقات على ثلاثة أقراء فهل يقبل ذلك منه ظاهراً أم باطناً؟ وكيف التفصيل فيه؟ هذا سنذكره في آخر الفصل مع إمكان البيان في التديين، إن شاء الله تعالى.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاً في كل [قُرء] (2) طلقة، فالقرء في قاعدة المذهب عند الشافعي طهر بين حيضتين، هذا هو الأصل. فإذا قال: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء واحدة، فلا تخلو المرأة إما أن تكون مدخولاً بها أو تكون غير مدخول بها.
فإن لم تكن مدخولاً بها، وكانت من ذوات الحيض، نظر: فإن كانت في حال الطهر، وقعت عليها طلقة، وبانت.
وإن كانت في حالة الحيض، لم يقع في الحال شيء؛ فإن اسم القرء لا ينطلق على الحيض عند الشافعي، فإذا انقطع دمُها، وشرعت في الطهر، وقعت الطلقة وبانت، وإن تركها، لم يَلْحَقْها إلا تلك الطلقة.
وإن نكحها (3) وشرعت في الطهر الثاني، ففي لحوق الطلاق في النكاح [الثاني] (4) بعد تخلل البينونة قولا حِنث اليمين، وقد استقصينا ذكرهما.
ولو لم يجدد النكاح حتى مضت الأقراء المتوالية، ثم نكحها، لم تطلّق؛ لأن السبب المحنِّث قد جرى في حالة البينونة، ولم يتعلق الحنث به، فانحلّت اليمين، وقد استقصينا هذا الطرف فيما تقدم متصلاً بالكلام في عَوْد الحِنث.
هذا إذا لم تكن مدخولاً بها.
8942 - فأما إذا كانت مدخولاً بها، فلا يخلو: إما أن تكون حائلاً أو حاملاً، [فإن كانت حائلاً] (5) وهي من ذوات الأقراء، وقال الزوج ما قال وهي في حالة الطهر،
__________
(1) ت 6: يؤثر.
(2) في الأصل: فرق.
(3) أي بعقدٍ جديد، فهي غير مدخولٍ بها، فلا عدة عليها.
(4) في الأصل: البين.
(5) زيادة من (ت 6).

(14/28)


فتلحقها طلقة رجعية، ثم إذا طهرت ثانياً، لحقتها طلقة أخرى، فإذا طهرت ثالثاً، وقعت الطلقة الثالثة.
ثم الطلقةُ الثانية والثالثة لحقتا وهي في حالة الرجعة، ووقوع الطلاق على الرجعية هل يقتضي عدة (1) مستأنفة؟ هذا مما قدمنا اختلاف القول فيه، وأحلنا استقصاءه على كتاب العدة، فلا معنى للخوض فيه.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت حائلاً.
8943 - فأما إذا كانت حاملاً، فلا يخلو: إما إن كانت ترى الدم، أو كانت لا ترى الدم: إن كانت لا ترى الدم: [وقد] (2) قال الزوج: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة، فتلحقها طلقة في حالة الحمل لا محالة، وهذا مما يجب التثبت فيه. وقد ذكرنا أن القرء عبارة عن حال احتباس الدم بين حيضتين، والحامل تكون كذلك؛ فإن الحيضة تحتبس في زمان الحمل، وحكم الحامل كحكم الحائل في طهر يتطاول زمانه، ثم إذا وضعت الحملَ، انقضت العدة، وبانت، فإذا طهرت من النفاس، لم يلحقها الطلاق الثاني؛ لأنها بائنة؛ فإن نكحها في مدة النفاس، ثم طهرت [من] (3) النفاس في النكاح الثاني، فيعود اختلاف القول جديداً وقديماً في عَوْد الحِنْث.
ولا معنى لتكرير الصورة بعد وضوح المقصود.
ولو راجعها في زمان الحمل قبل الوضع، فإذا طهرت من النفاس، لحقها طلقة أخرى؛ فإن النكاح لم يتعدد، وإذا لحقها هذه الطلقة، استأنفت العدة قولاً واحداً؛ لأن انقضاء العدة يتعلق بوضع الحمل، وهو إن ارتجعها قبل الوضع، فقد مضى بعد الرجعة ما يتعلق به انقضاء العدة لولا الرجعة، فلا وجه لتخيّل بناء القرء على وضع الحمل، وهذا موضع رمزٍ وعقد جُمل في العِدد، واستقصاءُ الكلام فيها محالٌ على كتاب العدة.
__________
(1) ت 6: استنئاف عدة.
(2) في الأصل: فقد.
(3) في الأصل: في.

(14/29)


8944 - وكل ما ذكرناه فيه إذا كانت الحامل لا ترى دماً، فأما إذا كانت ترى دماً [على] (1) ترتيب الأدوار ونظمها، فقد اختلف قول الشافعي في أن دم (2) الحامل على الترتيب المنتظم هل يكون حيضاًً أم لا؟ فإن قلنا: إنه دم فسادٍ، فلا حكم له، وهو كما لو قال: لو لم (3) تَرَ دماً، وقد تقدم التفصيل.
فإن حكمنا بأن ما تراه دمُ حيض فإذا كان قال: "أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة"، وكانت الحامل في حالة الحيض، لم يقع الطلاق؛ لأن القرء عبارة عن طهر محصور بين حيضتين، وهذه الحامل لها حيض وطهر. وإن قال لها ذلك وهي في زمان الطهر، فيقع لتحقق اسم القرء، وهل يتكرر الطلقات الثلاث بتكرر الأقراء عليها وهي حامل؟ فعلى وجهين: أقيسهما (4) - أنه يتكرر؛ لأنا إذا أثبتنا الحيض والطهر، وحققنا اسم القرء، فيجب على موجب ذلك أن يتكرر الطلاق بتكرر الأقراء.
الوجه الثاني - أنه لا يتكرر؛ لأن الطلاق إنما يتكرر إذا كان الطهر محتوشاً بدمين دالّين على براءة الرحم، [وهذا] (5) المعنى لا يتحقق في هذه الأطهار، وأما الطلقة الأولى، [فإنا] (6) حكمنا بوقوعها كما نحكم بوقوع الطلاق إذا كانت لا ترى دماً، ولكنا توقفنا في وقوع الطلاق، ولم نوقعه وهي حائض.
ثم قال الأصحاب: من حيث إنه يوجد طهر محتوش بدمين يختص وقوع الطلاق به، ومن حيث إن الدمين لا يدلاّن على براءة الرحم قلنا: لا يتكرر وقوع الطلاق بتكرره، وهذا وإن كان ظاهراً في الحكاية (7)، فالقياس ما تقدم؛ فإن الطلاق إنما يتحقق بتحقق الاسم، واسم الأقراء يتكرر، والزوج لم يعلّق الطلاق بأقراء دالة على
__________
(1) مزيدة من (ت 6).
(2) ت 6: في أن ما تراه الحامل على الترتيب المنتظم.
(3) ت 6: كما إذا لم تر دماً.
(4) ت 6: أحدهما - وهو الأقيس.
(5) في الأصل: هذا (بدون الواو).
(6) في الأصل: فإن.
(7) وهذا هو الذي قال عنه الرافعي: "إنه الأصح"، ولم يتكلم على موافقة الأول للقياس.
(ر. الشرح الكبير: 8/ 500).

(14/30)


براءة الرحم، فلا معنى لاعتبار البراءة في هذا المقام. وكل ما ذكرناه إذا قال لامرأته وهي من ذوات الأقراء: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة.
8945 - فإذا قال لامرأته- ولم تحض قط: أنت طالق ثلاثاً في كل قرءٍ واحدة، فالذي عليه الأصحاب أنا لا نحكم بوقوع الطلاق في الحال، ولكن إذا حاضت هل نتبين أن الطلاق وقع عليها باللفظ السابق؟ فعلى وجهين مبنيين على أنها إذا رأت الدم في خلال العدة بالشهور، فهل نحتسب ما مضى قرءاً؟ فيه قولان (1) مبنيان على أن القرء عبارة عن ماذا؟ وفيه قولان: أحدهما - أنه عبارة عن طهرٍ يحتوشه دمان، فعلى هذا لا نحتسب ما مضى لها قرءاً؛ لأنه لم يكن بين دمين.
والقول الثاني - أن القرء عبارة عن الانقلاب من الطهر إلى الحيض [أو من الحيض إلى الطهر] (2)، فعلى هذا نحسب ما مضى لها قرءاً من العدة، ونحكم بوقوع (3) الطلاق تبيّناً.
وإذا قال للآيسة القاعدة (4) عن الحيض: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة، فإن عاودها الدم بعد ذلك، فلا خلاف في وقوع الطلاق، وإن استمرت على التقاعد واليأس، فهل يلحقها الطلاق أم لا؟ فعلى وجهين ذكرهما القاضي: أحدهما - أنه يلحقها الطلاق؛ لأنها انتقلت من الحيض إلى هذه الحالة.
والثاني - أن الطلاق لا يلحقها؛ فإن القرء طهر بين دمين، وهذا نقاء تقدمه دمٌ، ولم يستأخر عنه دم، والقرء بمعنى الطهر (5) محمول على قول القائل: قرأت الماء في الحوض، والطعام في الشدق، وهذا إنما يتحقق إذا كان يجتمع في زمان النقاء دمٌ في الرحم، ثم يزجيه الرحم.
هذا تصرف الأصحاب في تعليق الطلقات بالأقراء.
__________
(1) ت 6: فعلى وجهين مبنيين.
(2) زيادة من (ت 6).
(3) هذا الوجه هو الأظهر في الصغيرة والآيسة، قاله الرافعي (ر. الشرح الكبير: 8/ 500).
(4) ت 6: للآية المتقاعدة.
(5) ت 6: والقرء معنىً طهرٌ محمول.

(14/31)


8946 - وذكر صاحب التقريب وجهاً غريباً أن الرجل إذا قال لزوجته الصغيرة: أنت طالق ثلاثاً في كل قرء طلقة: أن الأقراء في حقها هي الأشهر، فتلحقها ثلاث طلقات في ثلاثة أشهر؛ فإن الأشهر في حقها مُقامة مقام الأطهار المحتوشة بالدماء.
وهذا ضعيف جداً؛ لأنه مائل عن مأخذ الباب، والتعليقاتُ تؤخذ من قضية اللسان، وقد يُلتفت فيها على العادات، فأما النظر إلى تنزيلات الشرع أشياء مقام أشياء، فليس [من] (1) حكم هذا الكتاب (2) وموجبه أصلاً. ولا شك أن العرب لا تسمِّي الأشهر أقراء أصلاً، لا في الصغيرة، ولا في حق الآيسة، فليكن التعويل على موجب اللفظ.
فهذا إذاً وجهٌ غير معتد به.
وقد انتهى تفصيل القول في [تعليق أعداد الطلاق] (3) على الأقراء.
8947 - [ونحن الآن نستفتح] (4) مسألة متصلة بهذا النوع، ونبتدىء بسببها القولَ في التديين (5)، فنقول: إذا قال الرجل: أنت طالق ثلاثاً للسُّنة [ونوى تفريقها على ثلاثة أقراء، فقد ذكرنا أن السُّنة والبدعة لا تتعلقان بالجمع والتفريق، فإذا قال: أنت طالق ثلاثاً للسّنة] (6)، وزعم أنه أراد تفريقها، لم يقبل ذلك منه في ظاهر الحكم، وإن علم الله تعالى منه الصدق فيما ادّعاه، فلا تقع [الطلقات] (7) الثلاث معاً بَيْنه
__________
(1) في الأصل: في.
(2) ت 6: الباب. والمراد (كتاب الطلاق).
(3) في الأصل: في تعديد إطلاق على الأقراء.
(4) في الأصل: ونحن لا تستفتح.
(5) التديين: من قولهم ديّن فلان فلاناً إذا تركه وما يعتقد (المعجم) والمعنى هنا أن الحكم بالطلاق يقع ظاهراً، ولا يقع باطناً، وبمعنى آخر يقع قضاء ولا يقع ديانة، فالرجل إذا علم من نفسه الصدق، وأنه لم يكن يريد الطلاق، فبوسعه أن يُمسك زوجته ويعاشرها معاشرة الأزواج، ولكن إن ارتفع إلى مجلس القضاء لا يمكن للقاضي إلا التفريق وإيقاع الطلاق.
(6) زيادة من (ت 6).
(7) في الأصل: الطلاق.

(14/32)


وبين الله تعالى، وعبّر الفقهاء عن هذا فقالوا: لا يُقبل منه في الظاهر، ولكن يُدَيّن بينه وبين الله.
8948 - ونحن نذكر الآن قاعدة التديين، ونستعين بالله تعالى، فنقول: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، فالذي جاء به لفظ صريح، فلو قصد به الطلاق أو أطلقه ولم يقصد به شيئاً، ولم يَهْذِ بلفظه، ولم يحكه، وقع الطلاق ظاهراً وباطناً.
ولو نوى بقوله طالقٌ التطليق عن وثاق، أو حل أسير وحَجْر، فإذا أبدى هذا، لم يقبل منه في ظاهر الحكم، ولكن إذا لم يثبت لفظه في مجلس القضاء، وكان صادقاً بينه وبين الله تعالى، لم يقع الطلاق في حكم الله وعلمه.
ولو قال: أنت طالق وأضمر (1) ألا يقع، وأجرى على ضميره: أنت طالق طلاقاً لا يقع عليك، فهذا يقع ظاهراً وباطناًً.
8949 - وطريق الضبط في هذا الطرف أنه إذا ذكر لفظاً صريحاً، وزعم أنه أضمر [معنىً] (2) محتملاً، وفي صيغة اللفظ احتماله، فلا سبيل إلى مخالفة الصريح في ظاهر الحكم، ولكن إن صدق وفي اللفظ احتمال، فلا يقع الطلاق بينه وبين الله تعالى، وسنقرر ذلك عند ذكرنا الصرائح وأحكامها، إن شاء الله تعالى.
ولو أضمر مع صريح الطلاق شيئاً [لا ينبىء] (3) اللفظ عنه في صيغته ووضْعِه، ولو جرى (4) ذكرُ المعنى الجاري في الضمير متصلاً بالكلام الظاهر، لما كان الكلام منتظماً، ويُعدّ ما جاء به متهافتاً، لا يجرّد العاقلُ القصدَ إلى نظم مثله، فهذا مردود ولا حكم له.
ومثال هذا القسم ما لو قال: أنت طالق، ونوى طلاقاً لا يقع، فهذا لو صرح به، لكان لغواً مُطَّرحاً، لا مبالاة بمثله، والطلاق واقع، فقد خرج الضمير عن صيغة
__________
(1) ت 6: أو أضمر.
(2) في الأصل: لفظاً.
(3) في الأصل: لا ينشأ.
(4) ت 6: ولو ذُكر المعنى الجاري في الضمير.

(14/33)


اللفظ، وعن معنىً ينتظم مع اللفظ لو فرض وَصْلُه [به] (1) فلا طريق (2) إلا الإلغاء ظاهراً وباطناً.
ولو أضمر ما لا يُشعر اللفظ به في صيغته، ولكن لو وُصل بالكلام وأظهر، لكان ينتظم الكلام معه، وذلك مثل أن يقول: أنت طالق، ثم يقول: نويت وأضمرت إن دخلتِ الدار، وأضمرت إلى شهرٍ، أو ما جرى هذا المجرى من تأقيتٍ أو تعليقٍ، فإذا أضمر شيئاً مما ذكرناه، وذكرنا ضبطه، فلا شك [أنا لا نقبل] (3) منه في الظاهر ما زعم أنه أضمره، ولكن هل يُديّن بينه وبين الله تعالى؟ فعلى وجهين: أقيسهما أنه لا يديّن؛ فإن التديين يجري إذا كان ما يضمره [لائقاً] (4) بمعاني اللفظ [على بُعدٍ] (5)، فأما إذا لم يكن اللفظ مشعراً به على قرب ولا بعد، فالإضمار فيه نيّةٌ مجردة، ولا تعلق لها بلفظٍ، والنية المجردة (6) لا أثر لها عند الشافعي؛ ولهذا نقول: إذا أجرى معنى الطلاق [جزماً على قلبه، لم يقع الطلاق] (7) ظاهراً وباطناًً، وخالف مالك (8) في هذا.
والوجه الثاني - وهو ظاهر قول الأصحاب أنه إذا علَّق بضميره، تعلّق بينه وبين الله، والتحق بقواعد التديين.
8950 - وعلى هذا الخلاف يُخرّج ما إذا قال: أنت طالق، ثم زعم أنه أضمر (إن
__________
(1) مزيدة من (ت 6).
(2) في الأصل: فلا يقع طريق إلا الإلغاء.
(3) في الأصل: أن لا نقبل.
(4) في الأصل: لأنه.
(5) في الأصل: على ما بعد.
(6) ت 6: والنيات بمجردها.
(7) زيادة من (ت 6).
(8) ر. الإشراف على نكت مسائل الخلاف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 746 مسألة رقم: 1351، والمعونة على مذهب عالم المدينة؛ 2/ 851، وعيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 3/ 1226 مسألة: 853، والقوانين الفقهية: 231، وحاشية الدسوقي: 2/ 385، والتاج والإكليل للمواق بهامش شرح الحطاب: 4/ 58.

(14/34)


شاء الله تعالى) وقد نص الشافعي في عيون (1) المسائل: أنه [لو] (2) قال لامرأته: إن كلمت زيداً، فأنت طالق، ثم قال: أردت بذلك إن كلمتِه شهراً، [فالحكم] (3) بعد انقضاء الشهر يرتفع، فلو كلّمتْه (4) بعد الشهر، لم يقع الطلاق باطناًً.
وللفقيه في هذا أدنى نظر؛ فإن قول القائل: إن كلمتِ زيداً يتعلق بالأزمان على العموم، وحملُ اللفظ الصالح للعموم على الخصوص من تأويل اللفظ على بعض مقتضياته، وانتهى الأمر في تردد الألفاظ بين العموم والخصوص [إلى] (5) نفي طائفة من العلماء [صيغةً] (6) مجردة ظاهرةً في العموم، وهذا لاعتقادهم تردّدَ الألفاظ في هذين المعنيين. وليس هذا كما لو قال: أنت طالق، وزعم أنه أضمر: إن دخلت الدار، فإن هذه الصيغة وما في معناها لا التفات للفظ عليها بوجهٍ من الوجوه.
[فما] (7) نقل عن الشافعي ملحق بقوله: أنت طالق مع دعواه أنه نوى الطلاق عن الوثاق.
فهذا تصرّف الأصحاب في أصول التديين.
ويلتحق بالأصل الذي مهدناه ما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً وزعم أنه أراد التفريق على الأقراء، فهذا لا يُقبل ظاهراً، وهل يُدَيَّن؟ يلتحق هذا بما لو زعم أنه أضمر تأقيتاً أو تعليقاً؛ فإنه ليس في قوله: أنت طالق ثلاثاً ما يشعر بما ذَكر. ولكن لو ذكره، لانتظم الكلام معه.
__________
(1) يلوح لنا أنّ المقصود بعيون المسائل هو كتاب (عيون المسائل في نصوص الشافعي) للإمام أبي بكر الفارسي، ولقد راجعت الشرح الكبير للرافعي، والروضة للنووي، والبسيط والوسيط للغزالي، ومختصر العز بن عبد السلام وجميعها تذكر المسألة على أنها من منصوصات الشافعي، ولكن لا أحد من هؤلاء الأئمة الكرام ذكر موضع ورودها. والله أعلم.
(2) زيادة من (ت 6).
(3) في الأصل: والحكم.
(4) في الأصل: فلو قال كلّمته بعد شهر.
(5) في الأصل: في.
(6) في الأصل: وصيغة.
(7) في الأصل: وممّا.

(14/35)


وإن قال: أنت طالق ثلاثاًً للسُنة، ثم زعم أنه نوى التفريق على الأقراء، فالظاهر [إلحاق] (1) هذا بما لو أضمر تأقيتاً أو تعليقاً، كما ذكرناه، ولا يتغيّر الحكم بتقييد الثلاث بالسُّنة، فإن هذا اللفظ في إشعار اللغة لا يقتضي تفريقاً، وإذا رددنا لفظ السنة إلى موجب الشريعة، فقد قدمنا من مذهب الشافعي أن السُّنة والبدعة لا تعلق لهما بالجمع والتفريق.
فهذا بيان الحكم في هذه المسألة وتنزيلها على مرتبتها في التديين.
8951 - [وللألفاظ في الطلاق] (2) مسالك كنت أوثر جمعها، فبدا لي أن أؤخرها حتى يحصل الإلف بمجاري الكلام في الألفاظ. ومعظم مسائل هذا الكتاب مُدارةٌ على مقتضى الألفاظ، وهي معتبر الكتب المتعلّقة بقضايا الألفاظ، فالوجه أن نُجري في كل فصل ما يليق به، ثم نختتم الكلام بضوابط [تُنزَّل الألفاظ] (3) على مراتبها، ونبيّن مقاصد الشرع فيها، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: "ولو قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاًً بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة ... إلى آخره" (4).
8952 - إذا قال لامرأته المتعرضة للسُّنة والبدعة: أنت طالق ثلاثاًً بعضهن للسُّنة وبعضهن للبدعة، راجعناه فإن أراد تنجيز طلقة واحدة في الحال توافق السُّنة (5) أو البدعة وتأخير اثنتين إلى الحالة الثانية، فيقع على هذا الترتيب، فإن تفسيره البعض [بواحدة] (6) في الحال ليس بعيداً عن مقتضى الظاهر.
__________
(1) مزيدة من (ت 6).
(2) في الأصل: والألفاظ في الظاهر.
(3) زيادة من (ت 6).
(4) ر. المختصر: 4/ 71.
(5) في الأصل: والبدعة.
(6) في الأصل: واحدة (بدون باء).

(14/36)


[وإن] (1) أراد فيما زعم تعجيل طلقتين على حسب موافقة الوقت في السُّنة والبدعة وتأخير طلقة إلى ارتقاب الحالة الأخرى، فهذا ممكن محتمل، وتفسيره فيه مقبول ظاهراً، وذلك أن البعض لا يختص في حكم اللسان، ولا في موجب العرف بمبلغ، وهو لفظ مبهم يتناول الواحد والزائد على الواحد، فإذا فسره كان بمثابة من يفسر مجملاً، فيحمله على بعض جهات الاحتمال، فلم يمتنع قبول حمل (2) البعض على الواحدة و [على] (3) الثنتين.
وإن زعم أنه أراد بالبعض نصف الثلاث وقعت ثنتان في الحال، لأن نصف الثلاثة واحدة ونصف، وكأنه نجّز طلقة ونصفاً، ولو فعل ذلك، لوقعت طلقتان، وهذا بيّن في جهات الاحتمال.
ولو طلق وزعم أنه ما نوى شيئاً، ولكن أجرى هذا اللفظ، فالذي نقله المزني عن الشافعي أنه يقع في الحال ثنتان، ثم قال من تلقاء نفسه: "أشبه بمذهبه عندي أن قوله بعضهن يحتمل واحدةً، فلا يقع غيرها" (4)، فأوضح من قياس الشافعي أنه لا يقع عند الإطلاق إلا واحدة، وأورد هذا على صيغة التصرف على مذهب الشافعي وقياسه، ولم يورده مختاراً لنفسه، وأنا أوثر أن ننظر في كل كلام له إلى ما أشرنا إليه، فإنْ تصرف على المذهب وأجرى قياسه، فهو تخريج على مذهب الشافعي وتخريجه أولى بالقبول من تخريج غيره، وإن لم يتصرف على قياس المذهب، واستحدث من تلقاء نفسه أصلاً، فيعدّ ذلك مذهبَه، ولا يلحق بمتن المذهب، فليكن ما قاله في هذه المسألة تخريجاً، والمنصوص وقوع طلقتين، ومذهب المزني وتخريجه على مذهب الشافعي أنه لا يقع إلا طلقة.
8953 - التوجيه: وجه النص أن الثلاث موزعة على بَعْضَين مضافة إليهما،
__________
(1) في الأصل: وإنما.
(2) ساقطة من (ت 6).
(3) مزيدة من (ت 6).
(4) ر. المختصر: 4/ 71.

(14/37)


فاقتضى إطلاق الإضافة التقسيط، على التنصيف (1) وموجب هذا إثبات طلقةٍ ونصف على حسب الحالة الناجزة، والطلقة والنصف طلقتان، فينتجز طلقتان، ويتأخر طلقة. وهذا القائل يوجّه النص بمسألة: وهي أن صاحب اليد في الدار لو قال: بعضها لفلان وبعضها لفلان، فمقتضى هذا اللفظ الاعتراف لكل واحد منهما بشطر الدار.
وأما وجه مذهب المزني، فهو أن البعض لفظ مجمل، كما قدمنا تقريره؛ فإن ذكر صاحب اللفظ تفسيراً، قبلناه وإن أطلقه، تردد بين القليل والكثير، فوجب تنزيله على الأقل؛ فإنا لا نوقع من الطلاق إلا المستيقن، وما تقدم ذكره من التسوية خيال لا يقع [بمثله] (2) الطلاق.
فإذا نصرنا مذهب المزني وعددناه قولاً مخرجاً، لم نسلم مسألة الإقرار بالدار.
ومن عجيب الأمر أن الأصحاب نقلوا مسألة الدار (3) [نقل] (4) من يرى أن الدار مشطرة بموجب اللفظ، حتى [لا يراجَع فيها] (5) المقِر. وهذا خارج عن الضبط، فالوجه القطع بأنا إذا فرعنا على تخريج مذهب المزني، فما ذكره المقر لفظٌ مبهم لا استقلال له، ولا بد فيه من مراجعة المقِر، وإن عسرت مراجعته، كان إقراراً مبهما لا يُطَّلَع على معناه ومقدارِ المقَرّ به. ونظائر ذلك كثير في الأقارير.
وإذا فرعنا على النص، فيجب القطع بالرجوع إلى قول المقر، كما ذكرناه في الطلاق، فإن عسر الرجوع عليه، فقد يجوز حمل اللفظ على التنصيف والتشطير.
وهذا كلام ملتبس، ولا وجه في مسألة الإقرار إلا الرجوع إلى قول المقر، وكل ما كان مُجملاً يُرجع فيه إلى تفسير مُطلِقه، فإذا عسر درْك تفسيره، استحال أن يُتََلَقَّى
__________
(1) ت 6: التسوية.
(2) في الأصل: بمثابة.
(3) ت 6: مسألة الإقرار.
(4) زيادة من (ت 6).
(5) في الأصل: لا يراجعها فيه.

(14/38)


من اللفظ ما يُلحقه بالظواهر، [ويخرجه عن المجملات] (1)، فإن مخالفة الظاهر غيرُ مقبولة في المعاملات، وإن عُدّ التفسير بياناً للمجمل، وجب القضاء بالإجمال عند عدم التفسير.
8954 - وقد يخطر [في] (2) ذلك للفطن شيء، وهو أن المعظم لا يسمى بعضَ الشيء، واسم البعض ينطلق على النصف فما دونه، وإذا تقابل البعضان، أشعر ذلك بأن كل بعض ليس المعظم، فيجب القضاء بتنزيل البعضين على الشطرين.
[وهذا الآن يُظهر] (3) استفادة التنصيف من اللفظ، ومساق هذا يقتضي ألا يقبل منه حمل البعض على الطلقة الواحدة، وقد ذكرنا أنه لو حمل البعض على طلقة منجزة وطلقتين مؤخرتين، قُبل ذلك منه، وهذا يلتحق بفن من الفنون في الطلاق، وهو أنا قد نحمل لفظاً في الإطلاق على محمل، فإذا قال صاحب اللفظ أردت غيره يُقبل منه ذلك ظاهراً، [وهذا] (4) فوق درجة التديين، وسيأتي نظائر لهذا، إن شاء الله تعالى. فإذاً المطلق محمول على التنصيف لما ذكرناه، وإذا حمل البعض على الواحدة، ففي قبول ذلك منه احتمال.
وقد ذكر صاحب التقريب أوالعراقيون، (5) فيه وجهين: أحدهما - أنه يقبل، وهو الصحيح، إذ لفظ البعض يحتمل الواحدة احتمالاً بيناً.
والثاني -وهذا اختيار ابن أبي هريرة- أنه لا يقبل؛ فإن مقتضى اللفظ ينجز الطلقتين على النص، وإذا لاح هذا، انتظم منه أن مقتضى النص أن اللفظ ظاهر في التنصيف مستقلٌّ بإفادته وفي (6) حمله على خلافه احتمال ظاهر النص، وهل يقبل
__________
(1) في الأصل: ونلحقه بالمجملات.
(2) مزيدة من (ت 6).
(3) في الأصل: وهذا لا يظهر.
(4) في الأصل: وهو.
(5) مزيدة من (ت 6).
(6) في الأصل: في (بدون واو).

(14/39)


الحمل على خلاف الظاهر؟ فعلى ما ذكرناه من الوجهين، ومقتضى مذهب (1) المزني أن اللفظ مجمل لا ظاهر له، وموجب هذا قبول تفسيره، فإن عدمنا [التفسير] (2)، نزلناه على الأقل.
ولو قال صاحب المقالة: أردت تعجيلَ بعضٍ من كل طلقة في الحال، فهذا مقبول وينتجز الطلقات الثلاث؛ فإن أبعاض الطلاق مكمّلةٌ على ما سيأتي شرح ذلك، على ترتيب مسائل الكتاب، إن شاء الله عز وجل.
فصل
قال: "ولو قال: أنت طالق أعدل أو أحسن ... إلى آخره" (3).
8955 - إذا قال لامرأته: أنت طالق أعدل الطلاق، أو أكمل، أو أحسن، أو أفضل، أو أجمل الطلاق، فإنْ أجمل هذه الألفاظ، انصرفت إلى ما ينصرف إليه لفظ السُّنة، فكأنه قال لها: أنت طالق للسنة، فإن كانت حالها موافقة للسنة، تنجزت الطلقة، وإلا انتظرنا حالة السنة.
وما ذكرناه فيه إذا كانت المرأة بصدد السنة والبدعة؛ فإن أراد بهذه الألفاظ السُّنة، فقد طابق قصدُه ظاهرَ ألفاظه.
وإن قال: عنيت بما أطلقته من هذه الألفاظ تنجيز الطلاق في الحال، فرأيت أحسن أنواع الطلاق أعجلَها، فيتعجل الطلاق؛ فإن ما ذكره محتمل، ومهما ذكر احتمالاً مقتضاه (4) إيقاع الطلاق، فهو مقبول، وإن كنا قد لا نقبل في نفي الطلاق مثل ذلك المعنى ظاهراً، وإنما نحيل قوله على التديين.
فإن (5) قال: أردت بما أطلقت من الألفاظ تأخير الطلاق، وإن كان في زمن
__________
(1) في الأصل: ومقتضى ذلك مذهب المزني ...
(2) فى الأصل: التفسيرين.
(3) ر. المختصر: 4/ 71.
(4) في الأصل: احتمالاً معناه مقتضاه.
(5) ت 6: فلو قال.

(14/40)


السّنة؛ فإني رأيت المَهَل أجملَ من مفاجأة الطلاق، فهذا لا يقبل، إذا كان حالها موافقاً للسُّنة؛ والسبب فيه أنه يبغي نفيَ الطلاق في الحال، ثم ليس لمنتهى وقوع الطلاق ضبط لفظي ولا شرعي، فإنه إن أراد التأخير من حال السُّنة إلى حال البدعة، فهذا يخالف الشرع، والألفاظَ الشرعية، وإن أراد التأخير إلى طهرٍ آخر، فلا ضبط له، فليس انتظار طهر ثانٍ أولى من انتظار طهر ثالث، والمرأة في الحال في طهر لم يجر فيه جماع، فخرج من مجموع ما ذكرناه أن هذه الألفاظ عند إطلاقها محمولة على السنة، حتى إذا كانت [المرأة] (1) في حالة بدعةٍ، تأخر الطلاق إلى وقت السنة، وإن نوى تعجيلاً على خلاف السنة، فقوله عليه مقبول. وإن كانت في حال السنة، ونوى تأخيراً عن احتمالٍ يُبديه، فذلك غير مقبول منه ظاهراً. ولا شك أنه يُديّن على ما مهدنا أصل التديين.
8956 - ولو قال لامرأته: أنت طالق أقبح الطلاق وأسمجه وأوحشه، أو أفضحه أو أفظعه؛ فإن أطلق هذه الألفاظ، ولم ينو بها شيئاً، فهو كما قال: أنت طالق للبدعة، ولا يخفى حكم هذه اللفظة، فإن كانت في زمان بدعة، تنجز الطلاق. وإن كانت في زمان سُنة، تأخر وقوع الطلاق إلى مصيرها إلى حالة البدعة. ولو كانت في حالة سُنّة، فقال: أردت بأقبح الطلاق أعجله، قُبل ذلك منه وانتجز الطلاق، وإن كان في حالة بدعةٍ، فقال: [أردت بالأقبح ما يتأخر] (2) ويُنتظر، لم يقبل ذلك منه؛ لأنه لا ضبط ولا توقف ينتهي إليه، كما ذكرناه في الأحسن واكمل.
والذي يختلج في الصدر من هذه المسألة أنه إذا قال: أنت طالق [للسنة، وكان وقت السنة منتظراً، فالكلام محمول على التأقيت، وكذلك القول فيه إذا قال: أنت طالق للبدعة] (3).
فأما إذا قال: أنت طالق أجمل الطلاق [أو] (4) أقبح الطلاق، فهذا في ظاهره
__________
(1) مزيدة من (ت 6).
(2) عبارة الأصل: أردت ما لا يتأخر.
(3) زيادة من (ت 6).
(4) في الأصل: "وأقبح".

(14/41)


تنجيزٌ مع وصفٍ، وليس في صيغة اللفظ ما يقتضي تعليقاً، أو تأقيتاً. ولو قال قائل: مُطلَقُ هذا اللفظ التنجيز، ثم ينظر في مُفسده على التفاصيل المقدمة، لكان هذا كلاماً جارياً على صيغ الألفاظ ومعناها.
وليس ما ذكرناه مذهباً لذي مذهب؛ فإن الأصحاب مجمعون في الطرق على أن الأحسن وما في معناه مطلقُه محمول على ما يحمل عليه قول القائل: أنت طالق للسُّنة، والأقبح محمول عند الإطلاق على ما يحمل عليه قول القائل: أنت طالق للبدعة
فهذا بيان الفصل نقلاً واحتمالاً.
8957 - ثم ذكر الشافعي أنه لو قال: أنت طالق طلقةً حسنة، [كان] (1) كما لو قال: أنت طالق للسنة، وكذلك ما في معنى هذا اللفظ.
وإذا قال: أنت طالق طلقة قبيحة، فهو كما لو قال: أنت طالق للبدعة.
ومنتهى التقريب (2) في هذا الفصل أن الأحسن صفةُ مدح، وهذا مفهوم من هذا اللفظ، فلا محمل له أولى من [السُّني، والأقبح صفة ذم، فلا محمل له أولى من] (3) المحظور المحرّم.
ولو قال: أنت طالق طلقة حسنةً قبيحةً، فقد جمع بين النقيضين، وتنتفي الصفتان لتناقضهما، ويبقى الطلاق المطلق، وهو محمول على التنجيز، وكذلك لو قال: أنت طالق طلقة لا سُنيّة ولا بدعية، وكانت متعرضة لهما جميعاً، فتتعارض الصفتان وتسقطان في النفي، كما سقطتا في الإثبات، ويبقى الطلاق المطلق.
ولو قال للتي لا تتعرض للسنة والبدعة: أنت طالق للسنة والبدعة، فالصفة ساقطة والطلاق مُطلق، وحكم الانتجاز كما ذكرناه.
__________
(1) مزيدة من (ت 6).
(2) ت 6: التقرير.
(3) زيادة من (ت 6).

(14/42)


8958 - ثم قال الشافعي: "لو قال: أنت طالق إذا قدم فلان للسُّنة ... إلى آخره" (1). إذا قال لامرأته: إذا قدم فلان، فأنت طالق للسُّنة، فالقول الوجيز في هذا الفصل أنا ننظر إلى قدوم فلان، وإلى حالة المرأة عند قدومه، ونقول: كأنه قال لها عند قدومه: أنت طالق للسنة، ثم لا يخفى حكم ذلك.
وكذلك لو قال: إذا قدم فلان، فأنت طالق للبدعة، فهو كما لو قال: عند قدومه أنت طالق للبدعة.
ومما يتعلق بهذا الفصل أنه لو قال هذا القول والمرأة حالة قوله لم تكن من أهل السنة، ولا من أهل البدعة، ثم صارت من أهلها، فقدم زيد، فالحكم بحالها عند قدوم زيد، ولو كانت من أهل السنة والبدعة، ثم خرجت عن أن تكون من أهل السنة والبدعة باليأس والتقاعد، فالاعتبار بحالها عند قدوم زيد.
وكل ما ذكرناه يندرج تحت قولنا: نجعل ما ذكره بمثابة ما لو قال لامرأته عند قدوم زيد: أنت طالق للسنة أو البدعة.
ومما يتعلق بهذا الفصل أن الرجل إذا قال لامرأته: إذا قدم فلان، فأنت طالق للبدعة، فهذا التعليق في نفسه بدعة؛ لأن الطلاق لا يقع به إلا موجب البدعة، وإذا قال: إذا قدم فلان، فأنت طالق للسنة، فتعليقه هذا ليس محظوراً، ولو قال لامرأته: إذا قدم زيد، فأنت طالق، ولم يتعرض لوصف الطلاق عند القدوم بالسُّنّة والبدعة، فإذا قدم زيد، طلّقت، وإذا (2) كان في زمان بدعة، وقع الطلاق [بدعيّاً، وإن كانت في زمان سنة، وقع الطلاق] (3) سنياً.
هذا قولنا في صفة الطلاق الواقع.
8959 - فأما التعليق نفسه، فليس فيه تعرض لسنة وبدعة، وإنما هو تعليق طلاق بصفة، فظاهر كلام الشافعي على أن التعليق لا يتصف بالبدعة؛ فإن الأمر متردد، ولم
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 72.
(2) ت 6: فإن كانت.
(3) زيادة من (ت 6).

(14/43)


يقصد المعلّق اعتماد إيقاع الطلاق في وقت البدعة.
وحكى من يوثق به من أصحاب القفال أنه كان يقول: التعليق [على] (1) الإطلاق بدعة، إذا كان لا يمتنع وقوع الطلاق في وقت البدعة؛ لأنه متردد بين أن يقع الطلاق بدعيّاً، وبين أن يقع سنياً وغيرَ بدعي، والتردد بين المعصية وغيرها في نفسه معصية.
وهذا الذي ذكره القفال وإن كان معتضداً بمسلك من المعنى [فهو] (2) بعيد من وجهين: أحدهما - أنه في حكم الهجوم على ما اتفق عليه الأولون؛ فإن تعليق الطلاق على الصفات [لم] (3) يحظره أحد، والآخر - أن تحريم الطلاق بسبب تطويل العدة أو بسبب ندامة الولد ليس جارياً على قياس جلي؛ فإنما التعويل الأظهر فيه التعبّد، فلا ينتهي الأمر إلى مصير التعليق بدعيّاً لجواز إفضائه إليه، إذا لم يوجد من المطلّق تجريد قصد إلى مصادفة البدعة.
فصل
قال: "ولو قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق ... إلى آخره" (4).
8960 - مضمون هذا الفصل الكلامُ في مسألتين: إحداهما - أن يقول الرجل لامرأته: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، والأخرى أن يقول لها: إن كنت حائلاً، فأنت طالق، فنبدأ بما إذا قال لامرأته: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، فالطلاق معلق بوجود الحمل في بطنها حالة التعليق، فلا نحكم بوقوع الطلاق في الحال للشك القائم والتردد، والأصل بقاء النكاح، ولكن إن أتت بولد لستة أشهر (5)، فقد استيقنّا وجود الحمل حالة التعليق، فنقضي بوقوع الطلاق تبيّناً، واستناداً (6)، ثم تقضي العدة بوضع
__________
(1) في الأصل: في.
(2) في الأصل: فهذا.
(3) سقطت من الأصل.
(4) ر. المختصر: 4/ 72.
(5) هذا الحكم مبني على تقدير أقل الحمل بستة أشهر، فإذا ولدت لستة أشهر بعد يمين الطلاق المعلّق، فمعنى هذا أنها كانت حاملاً بيقين وقت عقد اليمين.
(6) تبيناً واستناداً: أي نحكم بوقوع الطلاق مستندين في هذا الحكم إلى ما تبيناه من وجود الحمل =

(14/44)


الحمل، ولو أتت بولد لأكثر من أربع سنين، فكما (1) مضت أربع سنين تبيّنا حيالها (2) حالة التعليق، فلا يقع الطلاق.
وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر، وأقلَّ من أربع سنين، فإن لم (3) يطأها بعد عقد اليمين، وقع الطلاق، لأنا وإن كنا نجوّز أن يكون علوقها بعد العقد، فالأمر محمول على أن العلوق من الزوج والوطء [المتقدّم] (4) على اليمين، وإذا كان كذلك، فيقدر الحمل موجوداً حالة التعليق، ونقضي بوقوع الطلاق.
وذكر الأئمة قولاً آخر: أن الطلاق لا يقع، لجواز أن يكون العلوق بعد اليمين، والأصل بقاء النكاح، وهذا القائل يقول: لا نحكم بوقوع الطلاق ما لم [نتيقن] (5) وجود الحمل حالة اليمين.
وإذا كان (6) الزوج يطؤها بعد اليمين، وأمكن إحالة العلوق على الوطء المتجدد بعد اليمين، فلا خلاف أنا لا نحكم بوقوع الطلاق، ولو وطئها بعد اليمين فأتت بولد لأقل من ستة أشهر من ذلك الوطء الجاري بعد اليمين، فلا أثر لذلك الوطء، فإن إمكان العلوق لا يسند إليه (7).
فتحصل من مجموع ما ذكرناه أنه إذا جرى بعد اليمين وطء يمكن إحالة العلوق
__________
= وقت اليمين (وقد سبق لنا أن شرحنا معنى التبين والاستناد).
(1) فكما مضت أربع سنين: أي عندما مضت أربع سنين.
(2) تبينا حيالها: هذا الحكم مبني على تقدير أقصى مدة للحمل بأربع سنين، فإذا جاءت بولد لأكثر من أربع سنين -بعد تعليق الطلاق على حملها- تبينا باليقين أنها لم تكن حاملاً عندما علق طلاقها.
(3) اشترط عدم الوطء -بعد اليمين- هنا؛ لأنه لو وطئها بعد اليمين، لكان العلوق محتملاً من هذا الوطء المتجدد.
(4) في الأصل: المقدر على اليمين.
(5) في الأصل: نتبين.
(6) ت 6: ولو كان.
(7) هذا الحكم بعدم إمكان العلوق من الوطء بعد اليمين، إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر، مبني -كما هو واضح- على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فإذا ولدت لأقل من ستة أشهر، بعد اليمين - تبينا يقيناً أنها كانت حاملاً عندما علق الطلاق على حملها.

(14/45)


عليه (1)، لم يقع الطلاق، وإن استيقنا وجود الولد حالة التعليق، بأن أتت به لدون ستة أشهر، حكمنا بوقوع الطلاق، وإن لم يجر وطء بعد اليمين، أو جرى وطء لا يمكن إحالة العلوق عليه، ولكن كان يمكن إحالة العلوق على وطء من غير الزوج، فالشرع في إلحاق النسب يقدر استناد العلوق إلى الوطء المتقدم على اليمين (2) غير أن سبيل الاحتمال غير منحسم بأن يفرض العلوق بعد اليمين من غير الزوج، فظاهر المذهب الحكم بوقوع الطلاق.
وفي المسألة قول آخر [أنّا لا] (3) نحكم بالوقوع للتردد الثابت والأصل بقاء النكاح.
8961 - ثم إذا قال لها: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، فإلى أن نتبين (4) من العواقب ما ذكرناه، هل يحل للزوج وطؤها أم كيف الطريق؟ قال الأصحاب: لا يطؤها حتى يستبرئها، فإنه ذكر لفظة الطلاق، ووقوعه غير بعيد، وأمر الأبضاع على التشديد. ونقل العراقيون قولاً [آخر] (5) أن الوطء لا يحرم، بل يكره، فحصل قولان في تحريم الوطء: أحدهما - أنه محرم، لما قدمناه. والثاني - أنه مكروه غير محظور، لأنا لم نستبن وقوعَ المحرم، ثم إذا حرمنا الوطء، وقلنا: يستبرئها، فلا يطؤها حتى تنقضي مدّة الاستبراء. وبكم يستبرئها؟ فعلى وجهين ذكرهما العراقيون،
والقول في حرةٍ خوطبت بما ذكرناه. فأحد الوجهين أنه يستبرئها [بثلاثة أقراء؛ فإن الاستبراء في حق الحرة لا ينقص عن ذلك.
والثاني أنه يستبرئها] (6) بقرء واحد، كما تستبرأ الأمة المملوكة؛ لأن هذا ليس بعدّة، واعتبار العَدد في الأقراء يتعلق بالعِدد، وإنما الغرض بهذا الاستبراء استظهارٌ
__________
(1) يعرف ذلك إذا علمنا أقل مدة الحمل وأقصاها، وقد مضى أنها ستة أشهر في الأقل، وأربع سنين في الأقصى.
(2) ت 6: على العقد.
(3) في الأصل: ما لا نحكم.
(4) ت 6: نتبين وقوع الطلاق من العواقب ...
(5) في الأصل: واحداً.
(6) ما بين المعقفين زيادة من (ت 6).

(14/46)


وتعلق بعلامة. ثم قالوا: إن قلنا: يستبرئها بثلاثة أقراء، فهي أطهار [على] (1) ما سيأتي في العِدد، إن شاء الله تعالى.
وإن قلنا: يستبرئها بقرء واحد، فسبيله كسبيل استبراء المملوكة، ثم المذهب الصحيح أنه حيضة، وفيه وجه أنه طهر، وسيأتي ذكره في موضعه، إن شاء الله تعالى. ثم إذا مضى الاستبراء على ما ذكرناه، فيحل للزوج وطؤها. ومما ذكره العراقيون أنه لو استبرأها أولاً -إما بقرء أو أقراء، وظهر عنده براءتها في ظاهر الحال- ثم قال: إن كنت حاملاً، فأنت طالق. فهل يحل وطؤها بناءً على الاستبراء المتقدم؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يحل لحصول علامة براءة الرحم، وليست في اعتداد على التحقيق؛ حتى نعتبر فيه الترتيب، ونقضي بأن العدة إنما يعتد بها إذا ترتبت على الطلاق.
والوجه الثاني - أنه لا حكم للاستبراء المتقدم، كما لا حكم للعدة قبل الطلاق، والاستبراء قبل الشراء (2).
8962 - ومما يتعلق بذلك [أنا] (3) إذا أمرناه بالاستبراء، فمرّت بها صورة الأقراء، ثم أتت بولدٍ لزمانٍ يُعلم وجوده حالة اليمين، فنتبين بالأَخَرة أن الوطء صادف مطلَّقة، وأن [ما] (4) كنا نحكم به أمرٌ ظاهر، وقد بان أن الحكم بخلافه، ثم لا يخفى تفصيل القول في المهر، وتجدّد العدة، وغيرهما من الأحكام. وإذا أمرناه بالاستبراء، فمضى شهر أو شهران وأكثر، فلم ير قرءاً وهي من أهل الأقراء؛ فإنه يجتنبها، فإن انقطاع الحيض عنها من مخايل الحمل، وهذا يؤكد التحريم، ثم الأمر يبين بوضعها الحمل وعدم وضعها، كما تقدم.
ولو كانت في سن الحيض، ووقت إمكان الحيض، فقال: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، وما كانت حاضت من قبل، فالعدة في حق مثل هذه -لو طلقت- بالأشهر؛
__________
(1) زيادة من (ت 6)
(2) قبل الشراء: أي شراء الأمة.
(3) سقطت من الأصل.
(4) زيادة من (ت 6).

(14/47)


فإذا اعتدت بالأشهر، نكحت، وجعلنا مضيّ الأشهر علامة على براءة الرحم؛ حتى يجوز لها أن تنكح، وإذ ذاك توطأ، ثم في الحكم بانقضاء العدة حكمٌ بانبتات النكاح، [فإن] (1) الرجعية زوجة ما دامت في العدة.
فخرج مما ذكرناه أن الأشهر في حق هذه في مسألتنا إذا لم تكن حاضت [قبلُ] (2) بمثابة الأقراء، فإذا مضت الأشهر، حلّ له وطؤها إلا أن تظهر بعد الأشهر علامة الحمل، فإذ ذاك يمتنع. وذاتُ الأشهر إذا رأت علامة [الحمل] (3) بعد الاعتداد بالأشهر لم تنكح، وإذا استرابت، ففيها كلام (4)، سيأتي في كتاب العدد، إن شاء الله تعالى.
هذا تمام البيان فيه إذا قال لها: إن كنت حاملاً فأنت طالق.
8963 - وقد يتعلق بهذا أنه لو قال للمتقاعدة الآيسة: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، فهل يحل له الإقدام على وطئها؟ حق هذه المسألة أن تبنى على أن الاستبراء المتقدم هل يؤثر في إباحة الوطء أم لا؟ فإن جعلناه مؤثراً وقد تحقق اليأس، فالظاهر أنه يحل له وطؤها. وإن لم نعتبر ما تقدم على عقد اليمين، فاستبراؤها بالأشهر محتملٌ.
وكل ذلك كلام في مسألة واحدة من المسألتين الموعودتين.
8964 - فأما المسألة الثانية، وهي أن يقول لها: إن كنت حائلاً، فأنت طالق، ومعناه إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، فالطلاق معلق في هذه المسألة بعدم الحمل، وكان معلقاً في المسألة الأولى بوجود الحمل، فنقول أولاً: لو أتت بولد لأقل من ستة أشهر، فلا يقع الطلاق؛ لأنا تحققنا وجود الحمل عند عقد اليمين، والطلاق معلق على عدم الولد، وإن أتت بالولد لأكثر من أربع سنين، أو لم تأت بولدٍ
__________
(1) في الأصل: في الرجعة.
(2) مزيدة من (ت 6).
(3) سقطت من الأصل.
(4) ت 6: تفصيل سيأتي.

(14/48)


في أربع سنين ولا بعدها، نحكم بوقوع الطلاق، لعلمنا بأنها لم تكن حاملاً حالة عقد اليمين.
وإن أتت بولد لأكثر من ستة أشهر، ولأقلَّ من أربع سنين، واحتمل أن يكون الحمل موجوداً يوم الحلف، واحتمل ألا يكون، فإن لم يطأها الزوج بعد اليمين، فالأظهر أنها حبلت بما سبق من الوطء قبل اليمين، وأنها كانت حاملاً قبل (1) اليمين، ونحكم في هذه الصورة بأن الطلاق لا يقع وجهاً واحداً؛ إذا الأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق، والظاهر استناد العلوق إلى ما تقدم، فاجتمع الظاهرُ والأصلُ في نفي الطلاق.
ولو حلف كما صورنا، ثم وطىء بعد اليمين، فأتت بولد لأكثرَ من ستة أشهر من وقت اليمين، نظر: فإن أتت به لأقلّ من ستة أشهر من وقت الوطء بعد اليمين، فلا أثر لذلك الوطء؛ فإن إمكان العلوق لا يستند إليه، فوجوده في غرضنا كعدمه. وإن أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت اليمين ومن وقت الوطء بعد اليمين، ففي وقوع الطلاق وجهان في هذه الصورة: أحدهما - يقع؛ لأن الظاهر [أنه محمول] (2) على الوطء بعد اليمين، وأنها كانت حائلاً قبله.
والوجه الثاني - أنه لا يقع؛ لجواز أن [تكون] (3) حاملاً وقت اليمين، وأن الزوج وطئها، وهي حامل، ولا يقع الطلاق بالشك، وإنما يقع باليقين، وقد يقع بالظاهر، وليس في الوطء المتجدد ما يظهر الحيال وعدم الحبل قبله وهذا ما اختاره صاحب التقريب، وهو لعمري مختار.
8965 - ثم نتكلم وراء هذا في حل الوطء وتحريمه، ووجوب الاستبراء، فإذا قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، فلم نتبين بعدُ حِيالَها وحَملَها، فهل يحرم الإقدام على وطئها قبل أن نتبين الأمرَ؟
__________
(1) (ت 6): وقت اليمين.
(2) في الأصل: أنها محمولة.
(3) مزيدة من (ت 6).

(14/49)


قد ذكرنا تعليق الطلاق بالحمل قبلُ، وهذا تعليق الطلاق بعدم الحمل، وذكرنا فيه إذا علق الطلاق بالحمل قولين في تحريم الوطء، والأصل عدم الحمل، فإذا علق الطلاق بالحيال، فالتحريم أغلب هاهنا؛ من جهة أن الأصل عدم الحمل، والطلاق يقع بعدم الحمل.
8966 - والذي تحصّل من مسلك الأصحاب في المسألتين طريقان: أحدهما - أنه إذا قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، يحرم الوطء في الحال قولاً واحداً. وإذا قال: إن كنت حاملاً، فأنت طالق؟ فهل يحرم الوطء في الحال؟ فعلى قولين.
والطريقة الأخرى عكس هذه، فإذا قال: إن كنت حاملاً فأنت طالق، فمن أصحابنا من قال: لا يحرم الوطء، بل نكرهه قولاً واحداً؛ فإن الأصل عدم الحمل.
وإذا قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، فهل يحرم الوطء أم يكره؟ فعلى قولين.
فإذا جمع الجامع الطريقين، فحاصل القول في المسألتين ثلاثة أقوال: أحدها - التحريم فيهما.
والثاني - الكراهية فيهما، مع رفع التحريم.
والثالث - أن الوطء يحرم إذا كان الطلاق معلقاً بعدم الحمل، ولا يحرم إذا كان معلقاً بالحمل.
ثم إذا بان الكلام في التحريم، وجرينا على أن الوطء يحرم فيه إذا قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، فإذا انكف عنها، فمضى بها قرء أو قرءان على انتظام الأقراء، ولم يظهر بها حمل، قال صاحب التقريب والقاضي: نحكم بوقوع الطلاق وتبيّنا حِيالَها حالة [عقد] (1) اليمين، ثم تكون الأقراء بعد عقد اليمين عدتَها، فلها أن تنكح.
وإذا جعلنا الاستبراء في هذه المحال بقرء واحد، حكمنا بوقوع الطلاق إذا مضى قرء، واحتسبنا هذا القرء من عدتها، وأمرناها باستقبال قرأين آخرين بَعْده، ويتم انقضاء العدة، فالذي ذكره المحققون أنا نحكم بوقوع الطلاق عند مضي ثلاثة أقراء تبيّناً وإسناداً
__________
(1) مزيدة من (ت 6).

(14/50)


إلى وقت اليمين. وإذا مضى قرء واحد، فهل نحكم بوقوع الطلاق؟ فعلى وجهين.
8967 - وفي هذا المقام وقفة على الناظر؛ فإنا إن ذكرنا تردّداً في المسألة الأولى: وهي إذا قال: "إن كنت حاملاً، فأنت طالق" - في أن وطأها هل يحل بقرء واحد، فسببه أن الأصل الحِل، ونحن نبغي علامةً على البراءة، فأما الحكم بوقوع الطلاق بقرء واحد، فبعيد، وليست النفس خالية عن التردد في الحكم بوقوع الطلاق بعد ثلاثة أقراء، فما الظن بالقرء الواحد؛ فإن الرجل إذا طلق امرأته، فأصل الطلاق البتُّ، [ولذلك] (1) حرمت الرجعية، فإن نحن أحللنا الرجعية بعد ثلاثة أقراء للأزواج، فسببه مضي علامات البراءة بعد الطلاق (2)، وهاهنا الطلاق واقع بالعلامات عند الأصحاب.
ولكن هذا الذي ذكرناه توسّع في الكلام؛ فإن الذي رأيناه للأصحاب أنه إذا مضت ثلاثة أقراء، حكمنا بوقوع الطلاق؛ فإن الأقراء علامة على براءة الرحم، وعلى هذا بنينا انقطاعَ الرجعة [وبينونةَ] (3) الرجعية وحِلَّ نكاحها لغير المطلّق، وكان من الممكن أن نأمرها بالتربص إلى انقضاء أكثر مدة الحمل (4)، فإذا قضى الشرع بإحلالها بناء على علامة البراءة، فيقع القضاء بوقوع الطلاق بناء على علامة البراءة، وقد عَلَّق الطلاقَ على عروّ رحمها عن الولد، إذ قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، فإذا قامت علامة الاستبراء بقرء أو أقراء قَبْل اليمين، فهل نحكم بوقوع الطلاق كما (5) علقه بالحيال؟ فعلى وجهين قدمنا ذكرهما.
ومما يجب ترتيبه على ذلك أنه إذا قال لامرأته: إذا برىء رحمك فأنت طالق، يجب تخريج هذا على ما ذكرناه من مضي القرء والأقراء، ويجب القطع بأنه إذا مضت ثلاثة أقراء والزوج مجتنبها، فيقع الطلاق، وفي القرء الواحد الخلاف.
8968 - ولو قال: إن استيقنت براءة الرحم، لم نقض بوقوع الطلاق ما لم يمض
__________
(1) في الأصل: وكذلك.
(2) ت 6: طلاق.
(3) في الأصل: وتبين به.
(3) أكثر مدة الحمل: أي أربع سنوات.
(5) كما: عندما.

(14/51)


أكثر مدة الحمل، ونعود إلى التنبيه مرة أخرى، ونقول: بنى الأصحاب وقوع الطلاق على حكم الشرع بأن الأقراء دالة على براءة الرحم، وذلك حكم مقتفىً، وتعبد متبع بعد وقوع الطلاق، وكنت أود لو طلبنا في تعليق الطلاق يقين الصفة؛ فإن الأيمان مبنية على معاني الألفاظ، ولا فرق بين أن يقول القائل: إن قدم زيد، فأنت طالق، [وبين أن يقول: إن استيقنت قدوم زيد، فأنت طالق] (1)، فتحقيق القدوم مطلوب، وإذا قال: إذا استيقنت حيالك، فأنت طالق، فوقوع الطلاق بثلاثة أقراء محال، فإذا قال: إن كنت حائلاً، فأنت طالق، فالحكم بوقوع الطلاق من غير استيقان الحيال بعيد عن موجب الأيمان، وقضايا الألفاظ. وقد وجدت لشيخنا (2) ما يدل على هذا، فلذلك عدت إليه، والعلم عند الله تعالى.
8969 - ومما يتعلق بتمام الكلام في ذلك أنه إذا قال لها: إن كنت حائلاً، فأنت طالق، ثم مرّ بها ثلاثة أشهر، ولم تر دماً، فإن كانت من ذوات الأقراء، لم نحكم بوقوع الطلاق؛ فإنا لا نحكم بأن عدتها تنقضي بالأشهر لو كانت مطلَّقة، ولو كانت على سن الحيض ولكن لم تحض، وقد قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، ومضت بها ثلاثة. أشهر، فالأشهر في حق هذه عدةٌ بعد الطلاق، مسلِّطةٌ على التزويج، فإذا قال لها: إن لم تكوني حاملاً [أو كنت حائلاً] (3)، فأنت طالق، فقياس قول الأصحاب وقوع الطلاق. وهذا على نهاية البعد؛ فإن مضي الأشهر الثلاثة أو مضي شهرٍ واحدٍِ على طريقةٍ أخرى يُفضي إلى الحكم بوقوع الطلاق، مع أن الأصل بقاء النكاح، والطلاقُ لا يقع بالشك.
ثم قال الأصحاب: إذا حكمنا بوقوع الطلاق بعد مضي ثلاثة أقراء في ذوات الأقراء، فأتت بولد بعد ذلك لأقل من ستة أشهر [من وقت اليمين] (4)، بان أن الطلاق الذي حكمنا بوقوعه لم يقع؛ فإنا استيقنا أنها حامل حالة عقد اليمين، والطلاق
__________
(1) زيادة من (ت 6).
(2) لشيخنا: المراد والده.
(3) زيادة من (ت 6).
(4) في الأصل: في وقت الطلاق.

(14/52)


معلّق بالحيال. [وإذا] (1) أتت بالولد لأكثر من ستة أشهر، فإن لم يطأها بعد اليمين، قالوا نتبين أن الطلاق لم يقع أيضاً، وإن وطئها بعد اليمين وطأً يمكن إحالة العلوق عليه، ففي [نقض] (2) ما حكمنا به من الطلاق وجهان.
هذا كلام الأصحاب، وقد أتينا فيه بأكمل البيان، نقلاً وتنبيهاً على محالٌ الاحتمال. والله المستعان.
فصل
قال: "ولو قالت له: طلقني، فقال: كل امرأة لي طالق، طلقت امرأته التي سألته إلا أن يكون عزلها بنيته ... إلى آخره" (3).
8975 - صورة المسألة أن الزوجة جاءت إلى زوجها مشاجِرةً، وهي تزعم: أنك نكحت امرأة وهو يترضّاها ويأبى، ويزعم أنه لم ينكح، وهي مصرّة في خصامها، فقال: كل امرأة لي فهي طالق، وهو يبغي تصديق نفسه، فلو استثنى باللسان السائلة المشاجرة، وقال: كل امرأة لي غيرُك فهي طالق، فلا تطلق السائلة، وطُلِّقت سائرُ زوجاته سواها، وإن لم يستثنها باللسان، ولا عزلها بالقلب، فظاهر كلام الشافعي أن الطلاق لا يقع ظاهراً، فإنه قال: طلقت امرأته التي سألته إلا أن يكون عزلها بنيته.
فاختلف أصحابنا فذهب بعضهم إلى أن الطلاق يقع على السائلة؛ فإن قوله: كل امرأة لي، لفظٌ يعم السائلَة وغيرَها، فيجب إجراؤه على عمومه، فإذا زعم أنه خصصه، لم يقبل ذلك منه في الظاهر؛ فإنه خلاف الظاهر، وهذا القائل سلك مسلكين في نص الشافعي: أحدهما - أنه حمله على التديين والباطن، ولا يخفى على من أحاط بأصل التديين أنه إذا كان صادقاً في استثناء السائلة بنيته، لم يقع الطلاق عليها باطناً. هذا مسلك. وربما قال هذا القائل: النقل مختلٌّ، والخلل من المزني.
وذهب بعض أصحابنا إلى أن الطلاق لا يقع على السائلة ظاهراً، والزوج مصدَّق،
__________
(1) في الأصل: إذا (بدون واو) وت 6: وإن.
(2) في الأصل: بعض.
(3) ر. المختصر: 4/ 72.

(14/53)


وإذا اتهم حلّف، وقد مال القاضي إلى هذا، واحتج عليه بأن قرينة الحال تصدقه فيما يدّعيه، والكلام يظهر بقرينة الحال ظهورَه بقيود المقال، وسنذكر في ذلك أصلاً ممهداً في الفروع، ومن صوره أن الرجل إذا حلّ القيد عن زوجته، ثم قال: أنت طالق، وزعم أنه أراد تطليقها عن قيدها، وإنشاطها عن عقالها، وقد جرى ذلك ظاهراً، [فهل] (1) يصدَّق في حمل لفظ الطلاق على حل الوثاق والحالةُ هذه؟ فعلى اختلاف [بين] (2) الأصحاب، وهذا يجري مهما (3) اقترن باللفظ ما يُظهر قصد (4) التديين، وسيأتي ذلك مفصلاً، إن شاء الله عز وجل.
8971 - ثم ذكر القاضي كلاماً آخر بدعاً، فقال: "إذا قال: نسائي طوالق، وله أربع نسوة، ثم زعم أنه عزل واحدة منهن بقلبه، فهل نقبل ذلك منه في ظاهر الحكم؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه يُقبل؛ لأن اللفظ العام قابل للتخصيص، وإذا وجدنا جريان ذلك في الكتاب والسنة، لم نُبعِد قبولَه ظاهراً، ويُصدَّق الزوج فيه".
وهذا غريب، لم أره لغيره، ويلزم على مقتضاه أنه إذا قال: عبيدي أحرار، ثم
__________
(1) في الأصل: أنها تصدق.
(2) في الأصل: من.
(3) مهما: معناها هنا (إذا)، وهذا المعنى غير منصوص في المعاجم. وهذا الاستعمال جاء في كتاب (العين) للخليل بن أحمد حين قال: "إذا سئلتَ عن كلمة، وأردت أن تعرف موضعها، فانظر إلى حروف الكلمة، فمهما وجدت منها واحداً في الكتاب المقدّم، فهو في ذلك الكتاب" انتهى من مقدمة كتاب العين، نقلاً عن رسالة بعنوان (تصحيح الكتب وصنع الفهارس) للشيخ أحمد شاكر، وهي مستلّة من مقدمته لتحقيق وشرح (جامع الترمذي) وقد اعتنى بها فأفردها بالنشر وعلق عليها أخونا الكريم العلامة الشيخ عبد الفتاح أبو غدة- برّد الله مضطجعه، فكان من تعليقاته النفيسة، تعليقُه في هذا الموضع على كلام الخليل بن أحمد هذا، واستعمال (مهما) بمعنى (إذا) فقال:
"قول الخليل هنا: (فمهما)، لفظُ (مهما) هنا بمعنى (إذا)، وهذا المعنى لم يذكر في (المعاجم)، ولم أر له شاهداً في كلام العرب فيما وقفت عليه، والعمدة في كلام اللغويين ما يروونه لا ما يلفظونه. وقد وجدت هذا الاستعمال في كلام الإمام الغزالي في "المستصفى من علم الأصول" اهـ. (ر. تصحيح الكتب وصنع الفهارس المعجمة: ص 47، وهامش رقم (1) من نفس الصفحة).
(4) ت 6: معنى التديين.

(14/54)


زعم أنه لم يرد بالعبيد إلا ثلاثة منهم واستثنى الباقين، فيجب خروج تصديقه ظاهراً على هذا الخلاف، ولم يفرض هذه المسألة في قرينةِ حالٍ؛ حتى يستمر تخريجها على رفع القيد مقترناً بقوله: أنت طالق عن وثاق، ثم قال القاضي لو قال: نسائي طوالق، وزعم أنه عزل ثلاثاًً وبقّى واحدة، فلا يقبل ذلك منه؛ فإن الواحدة لا ينطلق عليها لفظ النساء، ولا توصف بالطوالق، ولم يذكر التفصيل فيه إذا زعم أنه استثنى ثنتين وأراد بالطلاق ثنتين. [ولعلّنا] (1) نذكر هذا الجنس في مسائل الاستثناء.
وبالجملة قبول الخصوص مع صدور اللفظ عاماً من الزوج في هذا (2) الحكم غلطٌ عندنا صريح، وإنما صار إلى هذا من صار؛ من ظنه أن تخصيص العموم سائغ مطلقاً، وليس كذلك؛ فمن قال: نسائي لم يحمل هذا إلا على جميعهن، ولا يجوز تقدير التخصيص في هذا المقام، ومن أحاط بمسالك كلامنا في الأصول، لم يخف عليه دَرْكُ هذا، ولا مطمع في دركه (3) هاهنا. ثم [من] (4) أخذ من ظاهر كلام الأصوليين أن العموم يخصص، وجب معه مطالبة المخَصِّص بالدليل، فكان يجب أن يحمل هذا على طلب قرينة مُصدِّقة.
فهذا منتهى القول في الفصل.
8972 - وقد ضَرِي أئمةُ المذهب بحكاية شيء عن بعض المعتبرين في هذه المسألة (5): قيل: إن رجلاً من أئمة المذهب ب (طَبَسَ) (6) كان يستقرىء (7) إلا أن
__________
(1) غير مقروءة في الأصل.
(2) ت 6: في ظاهر الحكم.
(3) ت 6: ولا مطمع في تقرير ذلك هاهنا.
(4) سقطت من الأصل.
(5) المسألة: المراد مسألة الإمام الشافعي، التي دار عليها الفصل، وهي قوله رضي الله عنه: "ولو قالت له: طلقني، فقال: كل امرأة لي طالق، طلقت امرأته التي سألته، إلا أن يكون عزلها بنيته".
(6) طَبَس: مدينة في برّية بين نيسابور وأصبهان وكرمان (معجم البلدان).
(7) يستقرىء: أي يطلب ممن يقرأ عليه أن يقرأ عليه عبارة الشافعي المشار إليها آنفاً هكذا: إلا أن يكون عزلها.

(14/55)


يكون عزلها (بثُنْيته)، والثُّنية هي الاستثناء، وكان يرى أن السائلة تُطلّق إلا أن تُستثنى لفظاً.
وهذا الذي ذكره كلام منعكس عليه؛ فإنه نسب الأصحاب إلى التصحيف، والتصحيف مع اعتدال الحروف قد يقع سيّما إدْا قرب المعنى، فأما الغلط في الهجاء فممّا يوبّخ به صبيان المكاتب، وقول القائل: (بثنيته) خمسة أحرف سوى الضمير، وقوله بنيّته أربعة أحرف، فلا حاصل لما [جاء] (1) به، وليس كلُّ ما يهجِس في النفس يُذكر.
8973 - وقد جرى في هذا الفصل ما ينتظم أصلاً، وشرطنا أن نذكر في كل فصل ما يليق به، ثم نذكر -إن شاء الله عز وجل- في آخر الكتاب فصلاً ضابطاً، يقع جمعاً للجوامع وربطاً للأصول اللفظية.
فمما انتظم في هذه المسألة أن تخصيص العموم إذا جرى في الضمير، امتنع معه وقوع الطلاق باطناً، وهل يقبل ذلك ظاهراً إذا اقترن باللفظ قرينة كسؤال السائلة في لفظ الكتاب (2)، ففيه التردد الذي ذكرناه للأصحاب، وإن لم تكن قرينة، فادّعى اللافظ باللفظ العام التخصيص، فقد ذكر القاضي في قبول ذلك وجهين، وأسلوب كلامه أن الطلاق صريح في حكم النص، فلا يقبل في الظاهر ما يخالفه، والعام ظاهرٌ في وضع الشرع ليس بنص، فهل يُقبل من اللافظ به تخصيصُه؟ فعلى التردد الذي ذكرناه.
وإذا أطلق الزوج كناية ولم ينو شيئاً، لم يقع شيء، فالألفاظ إذاً في طريقه: نصٌّ: لا يُقبل في الظاهر ما يخالفه.
[وظاهر] (3): لو أطلق، نفذ كاللفظ العام، وإذا ادّعى مُطلِقه تخصيصَه، ففي قبوله وجهان.
__________
(1) سقطت من الأصل.
(2) الكتاب: المراد به هنا المختصر.
(3) في الأصل: فظاهر.

(14/56)


وكناية لا يسمَّى لفظاً ظاهراً في اقتضاء الطلاق، فلا يُعْمَلُ مطلقُه.
وهذا ترتيب حسن، ولكن العموم في المقام الذي ذكره في حكم النص عند المحققين، كما نبهنا عليه.
وسنعود إليه في مسائل الطلاق، إن شاء الله تعالى (1).
...
__________
(1) جاء هنا في نسخة الأصل (ت 2/ 328) ما نصه:
تم الجزء الثالث والعشرين من كتاب نهاية المطلب يتلوه -إن شاء الله تعالى- في الجزء الرابع والعشرين
باب ما يقع به الطلاق من الكلام وما لا يقع
والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد خاتم النبيين وسلم.

(14/57)


باب ما يقع من الطلاق وما لا يقع (1)
قال الشافعي: "ذكر الله الطلاق في كتابه بثلاثة أسماء ... إلى آخره" (2).
8974 - هذا الفصل مشتمل على بيان صرائح الطلاق وكناياته، فنقول: الألفاظ التي تستعمل في الطلاق تنقسم إلى الصريح والكناية، فالصريح ما يَعْمل من غير افتقارٍ إلى النية، وهو مُنحصر في ثلاثة ألفاظ: الطلاق، والفراق، والسراح، وأخذ الشافعي الصرائح من التكرر في ألفاظ الكتاب، قال الله: {فَارِقُوهُنّ} [الطلاق: 2]، وقال: {سَرِّحُوهُنّ} [البقرة: 231] وقال: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] وتكرُّرُ لفظ الطلاق في الكتاب ظاهرٌ، وأشهر هذه الألفاظ وأظهرها الطلاق، فهذا الذي جرى في الجاهلية والإسلام، وأطبق عليه معظم طبقات الخلق، ولم يختلف في كونه صريحاً العلماء، ومذهب أبي حنيفة (3) أن الصريح هو الطلاق لا غير، وقد حكى العراقيون قولاً قديماً للشافعي موافقاً لمذهب أبي حنيفة في أن الصريح لفظ الطلاق لا غير، والفراقُ والسراحُ ملتحقان بأقسام الكنايات.
ثم الألفاظ الصادرة عن الطلاق صرائحُ: جرت أسماء، أو أفعالاً، فإذا قال: أنت طالق، أو طلقتك، أو أنت مطلَّقة، وقع الطلاق.
وإذا جرينا على الأصح، وقضينا بأن الفراق والسراح صريحان، فلو قال: فارقتك أو سرحتك، فالذي جاء به صريحٌ.
ولو قال: أنت مفارَقة أو مسرَّحة، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن اللفظ صريح، كما لو قال: أنت مطلقة.
__________
(1) نبدأ من هنا العمل على نسخة وحيدة، لا وجود لغيرها، ومن الله وحده نستمد العون، وهي نسخة (ت 6) من الورقة 26 شمال.
(2) ر. المختصر: 4/ 72، 73.
(3) ر. المبسوط: 6/ 77، البدائع: 3/ 106.

(14/58)


والثاني - أن اللفظ كناية؛ فإن الفراق والسراح [ما] (1) ظهرا وما اشتهرا اشتهار الطلاق، ومعتمد الشافعي في إلحاقهما بالصريح جريانهما في الكتاب، ثم لم يجر ذكرهما إلا على صيغ [الأفعال] (2)، فأما المفارقة والمسرَّحة، فلا ذكر لهما، والمطلقة مذكورة في القرآن مع شيوع لفظ الطلاق.
ولو قال لامرأته: أنت الطلاق، فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: إنه ليس بصريح؛ فإنه غير معتادٍ، وليس جارياً على قياس اللسان، أيضاً، وكان كالمعدول عن الوضع والعرف.
ومن أصحابنا من قال: إنه صريح، لأن لفظ الطلاق، لا يطلق -كيف فرض الأمر - إلا على قصد الفراق، فإن جرى لفظٌ على خلاف ما يعرف ويؤلف، فالاعتبار بأصل الكلمة.
ولو قال لامرأته: أطلقتك، أو أنت مُطْلَقة، واستعمل صيغة الفعل أو الاسم، من الإطلاق، فهذا لم يتعرض له الأصحاب، وفيه تردد بيّن؛ فإن الإطلاق شائع في حلّ الوثاق وإطلاق الدواب عن رباطها، وإطلاق الأسرى والمحبوسين، وإخراج اللفظ عن كونه صريحاً أقربُ وأظهر عندنا في هذا منه إذا قال: أنت الطلاق؛ فإن الطلاق لا معنى له في الاستعمال إلا الفراق، بخلافه.
ومن أسرار الصرائح أن يظهر اللفظ على غرض، [ويعد استعماله في غيره نادراً] (3) وإذا كان الاستعمال في غير جهة الطلب شائعاً، أشعر هذا بالخروج عن الصرائح في الجهة المطلوبة، على ما سنذكر التحقيق في آخر الفصل، عند نجاز المنقولات.
__________
(1) في الأصل: لما.
(2) في الأصل: صيغ الألفاظ. وهو تصحيف. سوّغ لنا تغييره وتصحيحه سياق الكلام وفحواه، ثم أكد ذلك قولُ العز بن عبد السلام: "والصريح هو الطلاق والسراح والفراق، وكذلك الأسماء والأفعال المأخوذة من الطلاق، كقوله: طلقتك، أو أنت مطلقة، وكذا الفعل من السراح والفراق، وفي الاسم كقوله: أنت مسرّحة أو مفارقة وجهان" (الغاية في اختصار النهاية: جزء3 ورقة 135 يمين).
(3) في الأصل: "ويعد استعماله وغيره قادراً" وهو تصحيف واضح. والمثبت تقدير من المحقق.

(14/59)


8975 - وممّا يتعلق بذلك أن الأصحاب قالوا: معنى الطلاق بالعجميّة صريح، وزعموا أن معناه: "توهشته اي". وحكى بعض المصنفين (1) عن الأصطخري أنه لا صريح بغير لسان العرب، وهذا غريب لا أصل له (2)، وإنما اشتهر الخلاف عن الأصطخري في النكاح، كما قدمنا ذكره في الألفاظ المشتملة على ألفاظ النكاح.
ثم كان شيخي أبو محمد يقول: كل لفظةٍ معدودة من الصرائح في العربية إذا ذكر معناها الخاص بلسان آخر، فهو صريح؛ فمعنى قول القائل: أنت طالق "توهشته اي" ومعنى قوله: طلقتك "دشت بازْداشْتَم"، ومعنى فارقتك: "از تو جُدَا كَرْدَم، ومعنى سرحتك: "تُراكسيل كردم".
وقال القاضي: الصريح من هذه الألفاظ "توهشته اي"، فأما قوله: "دستت باز داشتم" فليس بصريح.
وهذا غير سديد؛ فإن قول القائل: "دشت بازداشتم" هو تفسير قوله طلقتك، وإذا كان قوله: "توهشته اي" صريحاً؛ من حيث إنه معنى قوله: "أنت طالق" فقوله: "دشت بازداشتم" هو معنى قول القائل: "طلقتك" فلا معنى لإبداء المراء في هذا. أما معنى فارقتك وسرحتك، فالظاهر أنه ليس بصريح؛ فإنا في المفارقة والتسريح على تردد، كما نبهنا عليه. وإذا اختلف الأصحاب في المفارقة والمسرَّحة مع اتحاد اللغة، فهذا في معنى المفارَقة والتسريح أظهر.
فهذا ما رأينا نقلَه، ولا بد الآن من الكلام في مأخذ الصرائح.
8976 - الذي يقتضيه الفقه أن الصريح إذا لم يتعلق به توقيف وتعبد، يؤخذ من الشيوع، ومحاولةِ أهل العرف حصرَ اللفظ في مقصودٍ، فإذا اجتمع هذان المعنيان، ترتب عليهما ابتدار المعنى إلى الأفهام؛ فإن التردد ينبت من إشكال اللفظ في نفسه،
__________
(1) بعض المصنفين: المراد به أبو القاسم الفوراني كما أشرنا مراراً من قبل، والتعبير عنه بهذا الأسلوب دائماً، هو نوع من الحط عليه، على حد تعبير ابن خلكان.
(2) يضغف الإمامُ الفورانيَّ في هذا النقل عن الإصطخري، ويصفه بالغرابة، وهذا ما قاله السبكي، وأشرنا إليه من قبل.

(14/60)


ومن جريانه في معانٍ، فإذا ظهر لفظٌ على إرادة معنى واحد، فهو يُفهِمه ويُعلِمه، وحكمنا في مساق الفقه أن من صدر منه لفظ يبتدر فهمُ الناس معناه، فإذا زعم أنه أراد خلاف ما تبتدره الأفهام، كان ما أضمره خلافَ ما أظهره، وعند ذلك تترتب مسائل التَّديين؛ فإنّ ما يُدَيّن المرء فيه يتعلق بمقتضى اللفظ، ولكنه خلاف ما يظهر منه، ويندر من ذي الجدّ أن يطلقه على خلاف معناه المستفيض إلا أن يريد إلغازاً أو تعقيداً، ثم حُكمنا أنا لا نقبل في الظاهر خلاف الظاهر، ولا نصدِّق من يبدي إضماراً على خلاف ما أظهره، هذا معنى الصريح.
وقد يثبت في النكاح تعبّد قررناه في بابه، فلا ينبغي أن يكون على ذلك الباب التفات.
وقد أطبق الفقهاء قاطبة على أن المعتبر في الأقارير والمعاملات إشاعة الألفاظ وما يفهم منها في العرف المطرد، والعباراتُ عن العقود تُعنَى لمعانيها، وألفاظ الطلاق عبارات عن مقاصد، فكانت بمثابتها، وموجب هذه الطريقة أن لفظة أخرى لو شاعت في قُطْرٍ وقومٍ شيوع الطلاق -كما قدمنا معنى الشيوع- فهو صريح، وعلى هذا الأصل قول القائل لامرأته: أنت عليّ حرام، أو حلال الله عليّ حرام، ملتحق في قُطرنا وعصرنا بالصرائح.
8977 - وذهب ذاهبون من الأصحاب إلى أنا لا نزيد على الألفاظ الثلاثة: الطلاق، والفراق، والسراح. ولا نظر إلى الظهور والشيوع، وهذا القائل اعتقد أن مأخذ الصرائح يتعلق بالتعبدات والتلقِّي من لفظ الكتاب وتوقيف الشارع، وقد يعتضد في ذلك بإلحاق الشافعي الفراق والسراح بالصرائح، [وليست أكثر اختصاصاً] (1) من
__________
(1) عبارة الأصل: "وليس أنا اختصاص من الباين ... " وواضحٌ أن فيها خللاً لا ندري سببه، أهو تصحيف وتحريف أم خرم، أم هما معاً.
والصواب الذي لا يحتمل السياق غيره، يؤديه -إن شاء الله- هذا المثبت بين المعقفين، تصرفاً من المحقق، فالمعنى أن الشافعي رضي الله عنه ألحق الفراق والسراح بصريح لفظ الطلاق، مع أن البائن والبتة، والبتلة، والخلية ليست أقل اختصاصاً بالطلاق -في لسان العرب- من الفراق والسراح، فدل ذلك على أن مأخذ الصرائح التلقي من لفظ القرآن، وتوقيف الشارع.

(14/61)


البائن، والبتة (1)، والبَتْلَة (2)، والخليّة، في لسان العرب فإذا خصّصها الشافعي بالإلحاق وبالصرائح، أشعر هذا برجوعه إلى مورد الشرع.
وهذا يتطرق إليه نوعان من النظر: أحدهما - أنا لا نُبعد شيوع الفراق والسراح في العرب في بلادها، وهذا فيه بعض النظر، فإن الشافعي تعلق بالقرآن. والوجه الآخر من النظر - أنه ليس في إلحاق الفراق والسراح بالصّرائح ما ينفي التعلق بالإشاعة؛ إذ لا يمتنع أن يقول القائل: للصرائح مأخذان: أحدهما - الجريان في ألفاظ الشرع.
والثاني - الشيوع في الاستعمال، كما سبق تفسيره.
وفي [النفس] (3) شيء من الفراق والسراح؛ فإنه لم يظهر لنا من الخطاب قصد بيان لفظ التسريح والمفارقة، ولكن جرى معنى ترك النسوة وحل ربقة النكاح في مقابلة ذكر الإمساك، فإنه قال: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] ففهم المخاطبون أن الزوج مأمور بأن يمسك المرأة أو يخلّي سبيلها، فالغرض الذي سيق الخطاب له ترديد الزوج بين هذين المقصودين، وليس من الغرض الظاهر أن يقول لها: سرحتك، وهو بمثابة قول القائل: أكرم هذا السائل، أو سرحه. ليس المراد بهذا: قُلْ له: انسرح. وكذلك القول في فارقوهن. وأما الطلاق، فقد اشتملت الآي على الاعتناء بألفاظها وعددها، ويقوى على هذا المسلكِ القولُ القديمُ الموافق لمذهب أبي حنيفة في حصر الصريح في لفظ الطلاق.
وتحصَّل من مجموع ما ذكرناه تردّدُ الأصحاب في مأخذ الصريح، كما أوضحناه.
8978 - وحكى القاضي عن شيخه القفال أنه كان يقول في لفظ التحريم: إذا قال الرجل: حلال الله عليّ حرام، ونوى طعاماً صُدّق، وإن أطلقه وكان أَنِساً بالفقه عالماً
__________
(1) البتة: من البت والقطع، فقوله لامرأته: أنث بتة أي مقطوعة، وبتّ طلاق امرأته أي طلقها طلاقاً لا رجعة فيه (المعجم والمصباح).
(2) البتْلة: من البَتْل وهو القطع: بَتَله بتلاً: قطعه، ويمين بَتْلة: قاطعة، وصدقة بَتْلة: منقطعة عن صاحبها خالصة لوجه الله. (المعجم)، فالمعنى هنا "أنت بتلة" أي مقطوعة العقد والصلة.
(3) في الأصل: "التفسير" وهو تصحيف واضح.

(14/62)


بأن الكناية لا تعمل إلا مع النية، فإذا أطلق اللفظ ولم ينو، لم يقع الطلاق، فإن كان [عاميّاً] (1)، سألناه عما سبق إلى فهمه من إطلاق عامّي آخر لهذه الكلمة، فإن زعم أنه يسبق إلى فهمه الطلاق قيل له: لفظك محمول على فهمك لو كان اللافظ غيرك.
وهذا توسط بين الصريح والكناية وضربٌ من التحكم.
8979 - ونحن نبُدي في هذا أصلاً ضابطاً ونقول: اللفظ الصريح المتفق عليه الشائع في طبقات الخلق هو الطلاق، فحكمه أن يعمل مطلَقُهُ ممن صدر منه، ومن أبدى فيما زعم عقداً ونيّة بخلاف موجب اللفظ، التحق بباب التديين.
هذا قسم.
ويعارضه الكناية التي سنصفها، وهي لفظة محتملة غير شائعة في الطلاق، فسبيل هذا القسم ألا يعمل اللفظ إلا مع النية، ومطلَقُه لاغٍ، والرجوع إلى قصد المطلِق.
ويتخلل بين الصريح الّذي قدمناه وبين الكناية قسم ثالث يعمل مطلَقه عند الأصحاب من غير نيّة، فإذا زعم صاحب اللفظ أنه قصد خلاف الظاهر، فقد يقبل ذلك منه ظاهراً، ويكون في قبوله خلافٌ.
وبيان ذلك بالمثال أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق أحسن الطلاق، فمطلَق هذا محمول على الطلاق السُّني، وإن لم ينو الزوج الطلاق السّني، ولو زعم أنه أراد بالأحسن تعجيل الطلاق في زمن الحيض، فهو مقبول منه، فهذا يحمل مُطلَقه على محملٍ، ويجوز العدول عنه بالقصد. وسيأتي لهذا نظائر.
ثم تنقسم المسائل: فقد يتفق الأصحاب على إعمال اللفظ على جهةٍ عند الإطلاق، ويختلفون في أن تلك الجهة هل تتغير بالقصد المخالف لها، وقد يتفق الأصحاب على إعمال القصد على وجه ويختلفون في الإطلاق، وهو مثل قول القائل: أنت طالق طالق طالق، فلو زعم أنه أراد التأكيد، قبل منه، ولم يقع إلا طلقة واحدة، ولو قال: لم أقصد التأكيد، ولكن أطلقت هذه الألفاظ، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنا نحكم بوقوع الثلاث إذا كانت المرأة مدخولاً بها.
__________
(1) في الأصل: عاماً.

(14/63)


والقول الثاني - أنه لا يقع إلا واحدة.
ولكل أصلٍ من هذه الأصول ضابطٌ سيأتي مشروحاً -إن شاء الله- وإنما ذكرنا هذا المقدارَ لغرضٍ، فنقول: الطلاق لا يصرفه عن معناه إلا هازل، أو منفردٌ بقصد إلغازٍ، ولفظ التحريم قد يجرى استعماله مصروفاً عن قصد الطلاق، فإذا أُطلق، فهو شائع في قصد الطلاق، فينقدح [فيما] (1) هذا سبيله أن يصدّق في الظاهر من زعم أنه نوى غير الطلاق. وإن قال: لم أنو شيئاً، انقدح فيه الحمل على موجب الألفاظ.
وانتظم من هذا أن ما استمرت الاستفاضة فيه كلفظ الطلاق، فلا معدل عنه إلا على حكم التديين، وما شاع شيوعاً بيّناً، ولكن قد يعتاد بعض الناس استعماله على قصدٍ آخر، فما كان كذلك، وهو زائد على الألفاظ الثلاثة، فهو محلّ تردد الأصحاب: فمنهم من لم يلحقه بالصرائح، ولم يُعمل مطلَقه، ومنهم من ألحقه بالصرائح، وجعله كلفظ الطلاق. ومنهم من فصَّل بين أن يقصد غير الطلاق، وبين أن يُطلقه، كما حكيناه عن القفال رضي الله عنه، ثم على رأيه إن صار لفظ التحريم في الشيوع كالطلاق، التحق بالطلاق، فهذا وجه في الصرائح.
8985 - فأمّا الكنايات فقد وصفناها ومن ضرورتها أن تكون مشعرة بمعنى الطلاق، ولكن لا تكون شائعة على التفسير المقدم، فما كان كذلك، افتقر إلى النية ولغا مطلَقُه، وهذا كالخليّة (2)، والبرية (3)، والبائنة (4)، وما يشبهها وقد قسمها الأصحاب إلى الجلية وإلى الخفية، فالجلية منها ما ظهر معناها، وقد يجري
__________
(1) في الأصل: فيها.
(2) الخلية: أصلها مأخوذ من ناقة خليّة، أي مطلقة بغير عقال، ترعى حيث شاءت. ثم قيلت في طلاق المرأة (المصباح) وفي غريب ألفاظ الشافعي: معناها أنها خلت منه وخلا منها، فهي فعيلة بمعنى فاعلة. (فقرة: 717) من الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي.
(3) البرية: مسهلة الهمزة: "أي برئت منه وبرىء منها". قاله الأزهري (ر. الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي: فقرة: 718).
(4) البائنة: الأفصح البائن، وهي من بان الشيءَ إذا فصله وقطعه، فهو بائن، ومنه: بان صاحبه إذا فارقه وهجره (المعجم) و (الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي).

(14/64)


استعمالها جرياناً ينحط عن الاستفاضة والحصر في معنى الطلاق، وما ذكرناه من الألفاظ من الجليّات ومنها: الخلية، والبريّة.
والخفيةُ كقول القائل لامرأته: اعتدي، واستبرئي رحمك، والحقي بأهلك، وحبلُكِ على غاربكِ، ولا أَنْدَه سرْبَك (1)، واغربي، واذهبي، وتجرّعي وتجردي، وما في معناها، مما يشتمل على تقديرٍ أو استعارةٍ. والتقدير في مثل قولك: اعتدّي: معناه طلقتُ، فاعتدي، والاستعارة في مثل قولك: تجرّعي، أي معناه: تجرعي مرارة الفراق، وكذلك حبلك على غاربك، وما في معناه.
وإذا ذكر لفظة ليس فيها إشعارٌ بمعنى الطلاق، وزعم أنه نوى الطلاق، لم يقع شيء؛ لأن اللفظ غير مشعرٍ، والنية المجردة لا تتضمن وقوع الطلاق، وقد يتردد الأصحاب في بعض الألفاظ، فإذا قال لها: كلي، أو تنعمي، فهذه الألفاظ لا إشعار فيها، ولو قدّر مقدر فيها معنى الطلاق على بُعدٍ، عُدَّ ذلك من التعقيد الذي لا يتعلق بأصناف البيانا، ودرجاتِ الألفاظ المستعملة في المقاصد.
ولو قال: اشربي، فالظاهر أنه لا يقع الطلاق وإن نواه. ومن أصحابنا من قضى بوقوع الطلاق حملاً على تقدير: اشربي كأس الفراق، وهذا بعيد.
فهذا بيان مراتب الألفاظ في عقد الباب.
ولو قال لامرأته: لستِ لي بزوجة، فهذا إقرار صريح بنفي الزوجية، كما سنفصله في فروع الطلاق. ولو قصد به إنشاء الطلاق، فالمذهب أنه يقع، لإشعار اللفظ بذلك.
ومن أصحابنا من قال: لا يقع الطلاق؛ فإن اللفظ صريح في الإقرار والإخبار، وهذا ليس بشيء.
__________
(1) في الأصل: ولا أندره سربك، والتصويب من الشرح الكبير والروضة.
ومعنى لا أنده سربك: أي لا أزجر إبلك، من نده الرجل: صات، ونده البعيرَ ونحوه: زجره وطرده عن أي شيء بالصياح، وكان من طلاقهم من الجاهلية أن يقول الرجل: "اذهبي فلا أنده سربك" (المعجم. وفي الزاهر: "لا أنده سربك، أي لا أرعى إبلك ولا أردها عن مرعى تريده، لأنك لست لي بزوج، فاذهبي مع مالك حيث شئت".

(14/65)


8981 - فإذا تبين أن الكنايات لا تعمل بأنفسها، فمذهب الشافعي أنها لا تعمل مع القرائن أيضاً من غير نيّة، والرجوعُ في النية إلى الزوج، فإذا سألت الطلاق، فقال: "أنت بائن"، وظهر من مخايله أنه قصد إسعافها، فلا تعويل على ذلك عند الشافعي، وإذا قال: لم أقصد الطلاق، فالقول قوله مع يمينه، وكذلك الكلام فيه إذا أجرى الزوج بعض هذه الألفاظ في حالة الغضب، وقد ظهرت على مخايله التبرم بالمرأة، ومحاولة الخلاص منها، فالرجوع مع ذلك كلِّه إلى نيته.
وخالف أبو حنيفة (1) على تفصيل له في الألفاظ، فأعمل قرائن الأحوال، وقرينة السؤّال.
فإن قال قائل: قد ذكرتم في مأخذ الأصول (2) أن قرائن الأحوال تثير العلوم الضرورية، فإذا اقترنت تلك القرائن بألفاظ الزوج، فكيف ترون الرجوع إلى نيَّة الزوج، وقد علمتم قصده بقرائن الحال؟ قلنا: لا ينتهي الأمر في قرائن الأحوال في مأخذ الفقه إلى هذا المنتهى، وهي متفاوتة جداً، وليس من قواعد الفقه فتح أمثال هذه الأبواب؛ فإن مُدركَ قرائن الأحوال في القصود عسرٌ جداً، فحسمنا هذا الباب حسماً.
وقد تُعتمد القرائن في تحمل الشهادات مع ابتناء أمرها على طلب التحقيق، فالذي يشاهد صبياً يمتص ثدياً فيه لبنٌ قد يشهد على ارتضاعه، ولا تعويل على القرائن فيما نحن فيه، وسبب ذلك أن الصبي لا تردد فيه إذا كان يمتص ثدياً فيه لبن، ومخاطِب زوجته لا ينتهي إلى منتهى يحكم على قصده قطعاً، وقد يشهد بذلك اختياره كنايةً مع إمكان التلفظ الصريح. فهذا ما يجب التنبيه فيه.
8982 - ثم إذا بان أن النية لا بد منها، فلو قدّم النيةَ، ولما تلفظ، لم يكن ناوياً مع اللفظ، لم يقع شيء؛ فإن النية منقطعة عن اللفظ، واللفظُ متأخر عن النية، ولو قدّم اللفظ، ثم نوى، فالجواب كذلك.
__________
(1) ر. البدائع: 3/ 106، تبيين الحقائق: 2/ 215.
(2) ر. البرهان في أصول الفقه: 1/فقرة: 503.

(14/66)


ولو استفتح النية مع اللفظ وتمت نيته، وبقي من لفظه شيء، فظاهر المذهمب وقوعُ الطلاق. ومن أصحابنا من قضى بأنه لا يقع.
ولو استفتح اللفظ عريّاً عن قصد الطلاق، ثم أتى بالنية في أثناء اللفظ، وانطبق آخر النية على انتجاز اللفظ، ففي المسألة وجهان مشهوران: أحدهما - أن الطلاق يقع؛ نظراً إلى وقت انتجاز اللفظ. والثاني - أن الطلاق لا يقع؛ لأنه لم ينشىء اللفظ على قصد الطلاق، فقد مضى صدرٌ منه عرياً عن قصد الطلاق، وباقي اللفظ لا يستقل بنفسه فتجرّدت النية عن اللفظ.
ولو فرضنا إنشاء النية واللفظ، ثم انتجز اللفظ وما تمت النية بعدُ، لم يقع الطلاق.
وقد ذكرنا أمثال هذه الصور في نية الصّلاة مع تكبيرة الإحرام، وبين الأصلين فرق يتنبه له الفقيه، وهو أن نية الصلاة ليست قصداً إلى معنى التكبير، ونيةُ الطلاق قصدٌ مختص بمعنى اللفظ واللفظ دونه لا يستقل، والنية وتكبيرة الإحرام ركنان في الصلاة [وليست] (1) النية قصداً إلى خاص معنى التكبير. ثم سرُّ النية القصدُ، والقصد لا يطول، [وقد] (2) يفرض فيه تردد إلى التجرُّد، ومن كان هذا على ذُكره استغنى عن كثير من تطويلات الفقهاء، ثم القصد خصلةٌ، فلا يتصور انبساطها، واللفظ منبسط، فحق الاقتران أن يُقرن اللافظ القصدَ بأول اللفظ، ثم يُديم ذكرَ القصد لا عينَه، والذكر العلمُ، وكذلك الحفظ.
8983 - وإذا أطلق الزوج لفظاً في الكناية، وزعم أنه لم ينو الطلاق، فالقول قوله، وللمرأة تحليفه، فإن حلف، فذاك، وإن نكل عن اليمين، فلها أن تحلف، فإذا حلفت يمينَ الرد، قُضي بوقوع الطلاق، فإن قيل: على ماذا يُحمل يمينها ولا اطلاع لها على قصد الزوج؟ قلنا: معتمد يمينها قرائن الأحوال والمخايل الدالة على القصود، فلها أن تعتمد أمثال ذلك، وتبني يمينها عليه، وسنوضح في الدعاوى والبينات أن الأيمان تعتمد ذلك.
__________
(1) في الأصل: ليست (بدون واو).
(2) في الأصل: قد (بدون واو).

(14/67)


فصل
قال: "ولو قال: أنت طالق من وثاقٍ ... إلى آخره" (1).
8984 - كل ما لو ادعى الزوج القصدَ فيه،؛ دُيّن (2)، ولم يُقبل في الظاهر، فإذا وصله بلفظٍ حُمل أول اللفظ عليه، فإذا قال: أنت طالق عن وِثاقٍ، لم نقضِ بوقوع الطلاق، بهذا اللفظ؛ فإن الكلام منتظم، وأول النطق مربوط بآخره، وهذا يضاهي أصلَ الاستثناء، وحكمنَا بتصحيحه، كما سيأتي، وكذلك إذا قال: فارقتك إلى المسجد، أو سرحتك إلى أهلك، حتى تتنزهي وتعودي، فكل ذلك مقبول.
ومما ذكره الفقهاء أن الرجل إذا أطلق لفظةً صريحةً ونوى ما لا يقبل، [فهو لا يقبل] (3) ظاهراً، ولكن يُديَّن الزوج فيه، فلو ادعى الزوج شيئاً من هذا، لم يقبل قوله، ولو قال لامرأته: أنت تعلمين ذلك مني، فهو لغو؛ فإنها وإن صدّقته فيما ادعاه، فالطلاق لا يندفع رعايةً لحق الله تعالى، فلا مساغ للتحليف في هذا المجال؛ فإن الغرض من عرض الأيمان أن يرعوي المستحلَف أو يقرّ، [وقد] (4) ذكرنا أن إقرار المرأة لا أثر له، فلا معنى لتحليفها.
فصل
قال: "ولو قال لها: أنت حرة يريد الطلاق ... إلى آخره" (5).
8985 - غرض الفصل أن لفظ الإعتاق كنايةٌ في الطلاق، ولفظ الطلاق كناية في الإعتاق، وأبو حنيفة (6) يمنع إعمال الطلاق في الاعتاق، ومعتمد المذهب أن الكناية
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 73.
(2) دُيّن: أي ملّك أمر دينه، وتُرك وما يدين الله به بينه وبين نفسه.
(3) زيادة من المحقق لا ستقامة الكلام.
(4) في الأصل: قد: بدون واو.
(5) ر. المختصر: 4/ 74.
(6) ر. رؤوس المسائل: 416 مسألة: 285، إيثار الانصاف: 186.

(14/68)


تتطرّق إلى البابين جميعاً، ومعنى الكناية لفظٌ محتمل مشعرٌ كما قدمناه، وجملة كنايات الطلاق والعتاق مشتركة في البابين.
8986 - والذي يستثنى من الإشعار أن الرجل إذا قال لامرأته: "أنت طالق" وزعم أنه نوى ظهاراً، فالطلاق مشعرٌ بمعنى الظهار، وإذا قال لها: أنت عليَّ كظهر أمّي، ونوى بذلك الطلاق، فاللفظ مشعر بمعنى الطلاق، ولا يعمل واحد من اللفظين في مقصود الثاني.
والضابط فيه: أن اللفظ إذا كان صريحاً في بابه، ووجد نفاذاً، فلا سبيل إلى ردّه عن العمل فيما هو صريح فيه، وإذا كان يعمل لا محالة فيما هو صريح فيه، فيستحيل أن يكون صريحاً نافذاً في أصله ووضعه، ويكون كناية منويَّة في وجه آخر.
فإن قيل: إن كان يبعد صرف الصريح عن معناه، فأيُّ بعدٍ في الجمع (1) بين المعنيين؟ قلنا: اللفظة الواحدة إذا كانت تصلح لمعنيين، فصلاحها ليس يقتضي اجتماع المعنيين، وكذلك القول في كل لفظ مشترك سبيل صلاحه للمعاني أن يصلح لكل واحد منهما على البدل، فأما أن تكون مجتمعة اجتماع المسميات تحت صيغة الجمع، أو تحت لفظٍ عام، فلا. فإذا تعين إجراء اللفظ صريحاً، امتنع إجراؤه في معنى آخر، فإذا استعمل الطلاق في العتاق، فليس الطلاق صريحاً واجداً محلّه حتى ينفذ، وكذلك العتاق، إذا استعمل في الطلاق.
8987 - ولو قال لعبده: اعتدَّ واستبرِ رحمك، وزعم أنه نوى العتق، لم ينفذ؛ فإن هذا اللفظ في حكم المستحيل في حقه، وقد ذكرنا أن الكنايات لا بد وأن تكون مشعرةً بالمعنى المقصود.
وإذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: اعتدي واستبرئي رحمك، وزعم. أنه نوى الطلاق، فقد اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا يقع الطلاق؛ لأنها إذا لم تكن ممسوسة، فليست من أهل العدّة. والأظهر - وقوع الطلاق؛ فإنها محل العدة على الجملة، إذا توافت شرائطها، والإشعار كافٍ، وهو بيّنٌ.
__________
(1) عبارة الأصل مضطربة: هكذا "فأي بعد في المعنيين الجمع بين المعنيين".

(14/69)


ولو قال لأمته: اعتدي واستبرئي رحمك، فلا [شك] (1) أنه إذا نوى العتق، عَتَقت. ولو قال لأَمَته: أنت عليّ كظهر أمي، ونوى العتق، فالظاهر أنها تَعتِق، وذكر القاضي وجهاً - أنها لا تعتق؛ فإن هذا اللفظ بعيد عن الإشعار بالعتق.
وهذا لا أصل له، والوجه القطع بوقوع العتق؛ تعويلاً على الأصول التي مهدناها.
8988 - وقد يعترض على مضمون هذا الفصل أن الرجل إذا قال لأمته: أنت علي حرام، فمطلق هذا صريح في اقتضاء كفارة اليمين، كما سيأتي التفصيل فيه، إن شاء الله تعالى، ثم لو نوى به العتق، نفذ العتقُ، وهذا يَرِدُ على قولنا: الصريحُ إذا وَجَد نفاذاً، لم ينتقل عنه، وسأقرّر هذا على وجهه في فصل التحريم، إن شاء الله تعالى، وهو بين (2) أيدينا.
فصل
قال: "ولو قال: أنت طالق واحدةً بائناً ... إلى آخره" (3).
8989 - مضمون هذا الفصل أن البينونة الباتّة لملك النكاح منوطةٌ عندنا بوقوع الطلاق مع انتفاء العدة (4)، أو بوقوع الطلاق مع العوض، وإذا فرض استيفاء العَدد، انضم إلى زوال ملك النكاح تحريم عقد النكاح، حتى يجري التحليل، فأما وقوع الطلاق مع قيام العدة من غير عوض، ولا استيفاء عَددٍ؛ فإنه يستعقب سلطان الرجعة لا محالة، ولو أراد الزوج أن ينفي الرجعة من غير عوض ولا استيفاء عدد، لم يكن لذلك معنى مع قيام العدة، وكان كمن يريد تحريم عقد النكاح من غير استيفاء عدد، وما ذكرناه مكرراً من العدة إشارة إلى شيئين: أحدهما - أن الطلاق إذا لحق التي ليست مدخولاً بها، فلا عِدَّةَ، فلا جرم كان الطلاق مُبيناً، وكذلك إذا صادف الطلاقُ
__________
(1) في الأصل: فلا ظاهر.
(2) بين أيدينا: أي أمامنا بمعنى أنه سيأتي بعدُ.
(3) ر. المختصر: 4/ 74.
(4) انتفاء العدة: أي عدم وجوبها أصلاً، أو انتهائها وعدم بقائها.

(14/70)


ممسوسة، وجرت في العدة، فهي رجعية، فإذا لم يرتجعها زوجها حتى انقضت العدة، بانت، والسبب فيه انتفاء (1) العدّة والرجعة مع بقاء الطلاق.
وأبو حنيفة (2) ينفي الرجعة بمسلكين: أحدهما - أن يطلّق الزوج ممسوسة من غير عوض، ويشترط قطع الرجعة، فالرجعة تنقطع عنده بشرط القطع.
والمسلك الثاني - أن يقع الطلاق بكناية من الكنايات تُشعر بالبينونة، فإذا نوى الطلاق بها، كان الطلاق مُبيناً لا محالة، وإن لم يقصد الزوجُ قطعَ الرجعة.
فانتظم من مذهبنا أن الرجعة لا تنقطع بالقطع، ولا بلفظة، وإنما تنقطع بالعوض، وعدم العدة، واستيفاء العَدد.
فصل
8990 - المرأة إذا ادّعت على الزوج أصلَ الطلاق، فأنكره أو ادّعت عليه نية الطلاق، فدعواها مسموعة واليمين معروضة، ومردودة (3)، ولو لم تدّع، فشهد شاهدان حسبةً على الطلاق، سُمعت شهادتهما؛ فإن حق الله تعالى غالب في الطلاق، وآيةُ غلبته أن الواقع لا ينتفي بتراضي الزوجين.
فلو ادعى واحدٌ من الناس على رجل أنه طلق امرأته، فهذا ليس بدعوى، فإن كانت عنده شهادةٌ، فليقمها من غير دعوى، والمرأة لو أرادت أن تَشهد على طلاق الزوج، لم تجد إلى ذلك سبيلاً؛ فإن الحظ يرجع إليها من الخلاص، ولها مقام الدعوى.
__________
(1) انتفاء العدة والرجعة: يستخدم الإمام هنا "انتفاء العدة" بمعنى عدم بقائها وانتهائها، وبمعنى عدم وجوبها أصلاً. وذلك واضح تماماً في قوله في أول الفصل: "مضمون هذا الفصل أن البينونة الباتة لملك النكاح منوطة عندنا بوقوع الطلاق مع انتفاء العدة، أو بوقوع الطلاق مع العوض ... إلخ".
(2) ر. المبسوط: 6/ 73، رؤوس المسائل: 400 مسألة 283، البدائع: 3/ 112، إيثار الإنصاف: 170.
(3) أي معروضة على الزوج، ومردودة -عند نكوله- على الزوجة.

(14/71)


ْولو طلقها زوجُها طلقةً رجعيةً، ثم زعمت المرأة أنه طلقها طلقة أخرى، فإن راجعها، فلها أن تدعي حينئذٍ، وإن أرادت أن تدعي وهي جارية في عدة الرجعة، فظاهر المذهب أن دعواها مسموعة؛ فإن الرجعية زوجة، ومن أصحابنا من قال: لا تسمع دعواها؛ فإنه ليس لها غرض صحيح في الحال؛ إذ الحيلولة ناجزة، والرجعة لا تنقطع بالطلقة الثانية. والأصحُّ الأول.
فصل
قال: "ولو كتب بطلاقها، فلا يكون طلاقاً إلا أن ينويه ... إلى آخره" (1).
8991 - نقول في صدر الفصل: الأخرس يقيم إشاراته المُفْهمة مقام عبارات الناطق، فيقع بإشارته طلاقُه وعتاقه، ويصح بيعُه وشراؤه وسائرُ عقوده، وحلوله وردوده، ثم يقع طلاقه بإشارةٍ لها رتبة الصّريح، ويقع بإشارة ونيّة لها رتبة الكناية، وتصح أقاريره ودعاويه، ولا تطويل؛ فإشارة الأخرس كعبارة الناطق.
ولم يختلف أصحابنا إلا في الشهادة، فمنهم من صحح شهادة الأخرس، ومنهم من أباها، ولعله الأصحُّ.
وممّا يتعلق بتحقيق ذلك أن الأخرس إذا أبلغ في الإشارة، فالصّريح منها ما يفهم منها الطلاق، ولا يختص بفهمه أصحاب الفطنة والدرْك، بل يعمّ دركُ المقصود منه، فهذا يُلحق إشارته بالصريح الذي يفهم منه الطلاق على شيوع، فإن ترددت إشارته، وكانت صالحةً للطلاق ولغيره، أو كان يختص بدَرْكه الفطن، فهذا يلحق بالكناية.
وإذا أبلغ الأخرس في الإشارة، ثم زعم أنه لم ينو الطلاق، فالذي يظهر عندي أن هذا يلتحق بالقسم المتوسط بين الصريح والكناية حتى يتردّد فيه، [كما لو استعمل اللفظ الشائع في الطلاق، وقال:] (2) قصدت غير الطلاق، وليس كلفظ الطلاق في
__________
(1) ر. المختصر:4/ 75.
(2) عبارة الأصل: "حتى يتردّد فيه فتوى قوله قصدت غير الطلاق ... " وهي غير مستقيمة، والمثبت تصرف من المحقق على ضوء ما حكاه -بمعناه عن الإمام- كل من الرافعي والنووي، فعلى سبيل المثال قال الرافعي: "ولو بالغ في الإشارة، ثم ادّعى أنه لم يرد الطلاق، قال =

(14/72)


حق الناطق (1)، فهذا، غائصٌ فقيه، فليتأمله الناظر.
8992 - ومما وقع في الوقائع أن الأخرس إذا أشار في الصلاة بالطلاق أو بغيره من العقود [والحلول] (2)، فلا شك أنا نُنفّذ منه مقتضى إشاراته، وإذا [نفَّذناها] (3)، ففي القضاء ببطلان الصلاة تردّد، والظاهر أنها لا تبطل، وقد قدمنا ذكر ذلك فيما تقدّم.
وإذا كتب الأخرس بالطلاق، نفذ الطلاق [منه] (4)؛ فإن الكِتْبة (5) أوقع في البيان من الإشارة، ولو قدر على الكِتْبة، فأشار، نفذت إشارته؛ فإن الكتابة في مرتبة الإشارة، فليفهم الناظر هذا، وإن كانت الكتابة منتظمة والإشارات لا نظم لها.
8993 - فإذا ثبتت هذه المقدمات، استفتحنا بعدها القول في كتابة الناطق، فنقول: القادر على النطق إذا كتب الصّيغة الجازمة بالطلاق، قال الأئمة: إن كتب، وقرأ، ونوى، وقع الطلاق.
فإن قيل: إذا قرأ، فقد صرّح ونطق، فأيّ حاجةٍ إلى النيّة؟ قلت: نعم، هو كذلك، ولكن القراءة مع النظر في المكتوبات يتأتى حملها على محمل الحكاية، فيتنزل هذا عندنا -وإن كان اللفظ صريحاً- منزلة ما لو قال: في حالِ حَلّ قيدها: أنت طالق، ثم زعم أنه أراد تطليقها عن وثاق، وفيه التردد الذي قدمناه. وإن صرح وقال: إنما أريد أن أحكي، فهذا كما لو قال: أنت طالق عن وِثاق.
__________
= الإمام: هو كما لو فسّر اللفظة الشائعة في الطلاق بغير الطلاق " (ر. الشرح الكبير: 8/ 536).
(1) المعنى: أن الناطق إذا ذكر لفظ الطلاق صريحاً، ثم زعم أنه لم ينو الطلاق، لم يقبل منه، بخلاف الأخرس إذا أبلغ في الإشارة المفهمة حتى يفهم منها الطلاق جميع الخلق، ولا يختص بذلك ذوو الفطن، فهذا ملحق بصريح اللفظ، ولكنه يختلف عن اللفظ الصريح بأنه لو زعم أنه لم ينو الطلاق التحق عند الإمام بالقسم المتوسط بين الصريح والكناية.
(2) في الأصل: والحلود. (وهو تصحيف واضح).
(3) في الأصل: فإذا نفذ فلها.
(4) في الأصل: فيه.
(5) الكتبة: الكتابة، تقول: كتب كتابة، وكِتْبة بكسر فسكون، وكَتباً بفتح وسكون، والاسم الكتابة، لأنها صناعة، كالتجارة والعطارة. (المصباح).

(14/73)


وإن كتب ولم يقرأ، ونوى الطلاق، فقد نص هاهنا [على] (1) الوقوع (2)، ونصَّ في الإملاء على أنه إذا كتب بطلاق زوجته ونوى، لم يقع طلاقه، وقال في كتاب الرجعة: ولا يكون رجعة إلا بكلام، كما لا يكون نكاح ولا طلاق إلا بكلام (3).
فاختلف أصحابنا: فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما - أن الطلاق لا يقع؛ فإن الكاتب قادر على العبارة، فليعبر عن غرضه؛ فإن العبارة أصل البيان، والكتابةُ فعلٌ.
والقول الثاني - أن الطلاق يقع؛ فإن الكتابة مما يتفاهم بها العقلاء، وهي أحد البيانين.
ومن أصحابنا من قال: يقع الطلاق بالكتابة مع النية قولاً واحداً، وما ذكره في الرجعة قصد به الردَّ على أبي حنيفة (4) في مصيره إلى أن الوطء رجعة، ثم استمر في كلامه كما وصفناه، ونصُّ الإملاء عند هذا القائل محمول على الأخرس، أو على الغائب، كما سنبين التفصيل فيه.
ثم فرّع الأئمة الحاضر وجعلوه أولى بأن لا يقع طلاقه بالكتابة؛ من جهة اقتداره على الإفهام بالنطق والكلام، والغُيَّبُ يعسر عليهم المناطقة، فتصير الكتابة في حقهم بمثابتها في حق الأخرس.
والذي تحصّل من كلام الأصحاب طريقان في الحاضر، وطريقان في الغائب على العكس، فأما الطريقان في الغائب، فمن أصحابنا من قطع بوقوع الطلاق، ومنهم من ذكر قولين.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) نص هاهنا على الوقوع: المراد في المختصر، وهي العبارة التي صدّر بها الفصل: "ولو كتب بطلاقها، فلا يكون طلاقاً إلا أن ينويه".
(3) يريد بحكاية هذا الكلام أن يشير إلى القول المخرج من هذه العبارات: "ولا يكون رجعة إلا بكلام، كما لا يكون نكاح ولا طلاق إلا بكلام" حيث يؤخذ من هذا أنه إذا كتب ونوى ولم يتلفظ لا يقع الطلاق، فإنه لم يتكلم ولا طلاق إلا بكلام.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 192، المبسوط: 6/ 19، مختصر اختلاف العلماء:2/ 388 مسألة: 893، اللباب: 3/ 54.

(14/74)


[وفي] الحاضر طريقان على العكس: منهم من قطع بأن طلاقه لا يقع بالكتابة، ومنهم من قال: قولان.
وينتظم من الغائب والحاضر ثلاثة أقوال.
8994 - ثم إذا تمهد الأصل، فالكلام وراء ذلك في أمور: منها تفصيل القول فيما يتعلق بالكِتْبة من الأحكام سوى الطلاق، ومنها ما يكتب عليه، ومنها اتباع الألفاظ [المُثْبتة] (1) في الكتب وبيان صيغتها.
فأما القول فيما يتعلق بالكتابة، فترتيب المذهب فيه أن الأحكام المتعلقة بالألفاظ تنقسم إلى ما لا يفتقر إلى القبول، وإلى ما يفتقر إلى القبول، فأما ما لا يفتقر إلى القبول، فهو كالطلاق والعتاق والإبراء والعفو عن الدّم، فهذه الأشياء هل تحصل بالكِتبة؟ فيها التفاصيل التي قدمناها في الطلاق، ثم المذهب المقطوع به أن الكِتْبة بمجردها، لا تتضمن وقوع الطلاق، حتى تنضم إليها النية، ولا يحصل بها الإبراء والعفو والعتق كذلك، حتى يقترن بها نيات هذه الأشياء، وحكى الشيخ أبو علي في شرح التلخيص وجهاً غريباً أن صيغة الكِتبة إذا كانت صريحاً لو فرض النطق بها، وقع الطلاق من غير نيّة، وهذا بعيد، لم أره لغيره.
8995 - والتحق بهذا المنتهى أن الناطق لو أشار إشارة الأخرس، فهل يقع الطلاق بإشارته، قال شيخي: كان القفال يُجري إشارة الناطق بمثابة كتابته، وكان ميله إلى أن الإشارة من الناطق أولى بالإحباط من الكتابة؛ فإن الكتابة مألوفة من الناطقين على اطراد، سيما في حالة الغيبة بخلاف الإشارة، فإنها لا تصدر على قصد الإفهام إلا على ندورٍ، أو في حالة هزء، ثم إذا صدر من الناطق -على قولنا بإعمال إشارته- ما لو صدر من الأخرس، لكان صريحاً، فكيف سبيلها؟ الوجه القطع بأنها كناية عن الناطق كالكتابة، وإن كانت صريحاً من الأخرس.
وكان شيخي يقطع بأن الكتابة صريحٌ من الأخرس. ولي في هذا نظر؛ فإن كتابة الكاتب، قد تقع لنظم حروف وامتحان قلم، ومحاكاة خط، فإن انضمّ إلى الكِتبة
__________
(1) في الأصل: كلمة غير مقروءة: رسمت هكذا (المثهته).

(14/75)


قصدُ الإفهام بها، فلا ريب حينئذ في أن الكتابة مع مخايل قصد الافهام كالإشارة لو أبلغ فيها. فهذا قولنا فيما لا يفتقر إلى القبول.
8996 - فأما ما يفتقر إلى القبول، فينقسم إلى النكاح وغيرِه: فأما غير النكاح.
كالبيع والإجارة والهبة وما في معناها، نفرضها (1) مع الغَيْبة، ثم نذكر حكمَها مع الحضور:
فأما إذا جرت الكتابة بالبيع في الغيبة، فمن ضرورة ذلك انقطاع كتابة من يبتدىء عن قبول من يَرِدُ الكتابُ عليه، فيجتمع في ذلك إقامة الكتابة مقام اللفظ، وفيه التردد الذي ذكرناه في الطلاق والعتاق وما في معناهما مما لا يشترط القبول فيه، وتأخُّرُ (2) أحد شقي العقد عن الثاني، وهذا لا يقتضي تأكيداً في المنع لا محالة، فينتظم منه ترتيب القولين في البيع على القولين في الطلاق، والبيعُ أولى بالمنع.
فإن قيل: ما وجه الجواز، وقد انفصل أحد الشقين عن الثاني؟ قلنا: في ذلك وجهان: أحدهما - أن نجعل ورود الكتاب بمثابة افتتاح الإيجاب، ويتبعه القبول على الاتصال. والوجه الثاني - أن القبول إنما يشترط اتصاله بالإيجاب لأن الموجِب أنشأ كلامه على وجه يقتضي جواباً متصلاً، وإذا كتب الكاتب، فكتابته تقتضي الموافقة على حسب ما يليق بالعرف في مثل ذلك، وهذا حسن، ولكن يلزم على مساقه أن يقال: إذا أوجب في الحضور إيجاباً مقترناً بجواز تأخّر القبول، وجب تجويزه، ولا صائر إلى هذا إلا أبو حنيفة (3)، فإنه جعل مدّة المجلس وإن [طالت فُسحةً] (4) في ذلك، ونحن لا نقول به، فينضم إلى ما ذكرناه مسيسُ الحاجة في التكاتب، وهذا لا يتحقق في التخاطب. ويتصل بذلك أنه إذا ورد الكتاب، فهل يشترط اتصال القبول بالاطلاع على الكتاب أم لا؟ الوجه القطع باشتراطه على المعنيين؛ إذ لا حاجة بعد الاطلاع، وقد جعلنا الاطلاع كإنشاء الإيجاب.
__________
(1) جواب (أما) بدون الفاء. وهذا جارِ كثيراً في أسلوب الإمام، وهي لغة كوفية.
(2) وتأخرُ: معطوف على كلمة (إقامة) من قوله: فيجتمع في ذلك إقامة الكتابة ... إلخ.
(3) ر. المبسوط: 6/ 211، فتح القدير: 2/ 412، البدائع: 3/ 114.
(4) في الأصل: وإن طالب فسخه في ذلك.

(14/76)


ولو قال الغائب: بعت داري هذه من فلان، وأُشهد عليه، فإذا بلغ الخبر مَنْ هو في مقام المشتري، فهي كالكتابة، بل هذا أولى بالصحة لوجود اللفظ.
هذا بيان البيع وما في معناه.
8997 - فأما النكاح، فهو أولاً يترتب على البيع إذا فرض بالكتابة في حالة الغيبة، فليرتب على البيع، والفرقُ ما في النكاح من التعبد والتضييق في العبارات، ثم يتفرع على النكاح افتقاره إلى الشهادة. فإن صححنا النكاح وقد جرى من الغائب لفظُه، وشهد عليه عدلان، وشهدا على قبول من يبلغه الخبر، فقد ثبت ركن الشهادة، وإن شهد على قول الزوج عدلان، وشهد على قبول القابل عدلان آخران، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أن النكاح لا ينعقد؛ لأن واحداً منهم لم يشهد على عقد تامٍ.
ومن أصحابنا من قال: يصح النكاح؛ لأن العقد لو جُحد أمكن إثباته بهم، وهو المقصود. وهذا فيه إذا لَفَظَ الموجِب والقابلُ بالإيجاب والقبول. فأما إذا كتب، ولم يتلفظ، فالإشهاد على الكتابة ممكن، ولكن الكتابة كناية، ولا اطلاع على نية الكاتب، وإن زعم أنه نوى بعد الكتابة، فهذا إشهاد على الإقرار، ولا يقع الاكتفاء بالإشهاد على الإقرار، فالذي يقتضيه قياس الشافعي القطعُ بأن هذا لا يصح. ولكن أجرى كثير من الأصحاب القولين في الكتابة في النكاح، ولعلهم رأَوْا هذا محتملاً لضرورة الغيبة، وهذا بمثابة احتمال انقطاع الإيجاب عن القبول بسبب حاجة الغيبة.
هذا منتهى الكلام في هذه القاعدة.
8998 - ويتفرع عليه الكتابة في الحضور، وقد قدمنا أن الكتابة في الحضور أبعد عن الجواز؛ لانتفاء حاجة الغيبة، فإن منعنا، فلا كلام. وإن جوزنا، فقد يمكن فرض اتصال الكتابة بالقبول في الشهود والحضور، فإن كان كذلك، لم يبق إلا إقامة الكتابة من غير حاجةٍ مقام العبارة. وإن انقطع الإيجاب عن القبول في الشهود والحضور، فنقطع بالمنع، وهو بيّن.
8999 - ثم يتفرع على هذه القواعد مسائل سهلة المأخذ، فإذا كتب إلى إنسان بأنّي وكلتك في بيع مالي وعتْقِ عبدي، فهذا يترتب على أنه لو شافهه بهذا هل يفتقر إلى

(14/77)


القبول؟ فإن قلنا: لا حاجة إلى القبول مع المشافهة، فالقول في ذلك كالقول في الكتابة في الطلاق والعتاق. وإن شرطنا القبول في ذلك، التحق بالقسم الذي يفتقر إلى الإيجاب والقبول، وقد ذكرنا حكم الكتابة في هذا القسم.
وهذا نجاز الكلام في حكم الكتابة في هذه الأقسام.
9000 - فأما القول فيما يُكتب عليه، فالكتابة على الرَّق، والقرطاس، والألواح، والنقر في الأحجار والخشب، كلها بمثابة واحدة. ولو خط على الأرض خطوطاً وأفهم، فالجواب كما ذكرناه. وإذا فهم الفاهم [ما كتبه] (1) وبلّغه (2)، كان كما لو بلّغ كتابه.
ولو رسم الأسطر على الماء أو على الهواء، فلا حكم لهذه الكتابة؛ فإن الكتابة حقها أن تقع بياناً، ولا انتظام لها على الهواء أو الماء. نعم، لا يمتنع أن يلتحق هذا بالإشارات؛ فإن هذه الحركات قد يُفهم منها شكلُ الحروف، فتتنزل منزلة الإشارات المفهمة.
9001 - فأما الكلام في صيغ الكتابة ومقتضياتها، وما يطرأ على الكُتب من التغايير، فهذا خاصية الفصل وينبسط فيه الكلام بعض الانبساط، فإذا كان في الكتاب: "أما بعد فأنت طالق". فإذا وقع الحكم بالكتابة تبيّنا وقوع الطلاق من وقت الكتابة؛ فإنه لم يعلّق الطلاق ببلوغ الكتاب ووصوله، بل نجّزه؛ إذ قال: "أما بعد، فأنت طالق".
وإذا قال: إذا بلغك كتابي، فأنتِ طالق، فلا يقع الطلاق ما لم يبلغها، وإذا قال: إذا قرأتِ كتابي فأنت طالق، فلا يقع الطلاق بنفس البلوغ ما لم تقرأ أو يُقرأ عليها، كما سنفصل هذا في آخر الفصل، إن شاء الله.
__________
(1) في الأصل: فاكتبه.
(2) وبلّغه: المعنى أن واحداً فهم المكتوب في الكتاب، ثم قام بتبليغه إلى المكتوب إليه، من غير أن يحمل إليه الكتاب، فهو يكون كتسليمه الكتاب.

(14/78)


9002 - وإذا انمحى الكتاب، فإن بقيت [رقوم] (1) يُفهم منها الغرض، وقع الطلاق المعلق ببلوغ الكتاب، وإن انمحى ودرس، ولم يبق ما يُفهم منه مضمون الكتاب، فالذي قطع به الأصحاب أن الطلاق لا يقع إذا كان معلقاً ببلوغ الكتاب؛ فإن هذا خرج عن كونه كتاباً بالانمحاء، والدّليل عليه أن الكاتب لو كان كتب: إن بلغك كتابي، ثم محا بنفسه، فاتفق بلوغ ذلك القرطاس، فلا إشكال في أن الطلاق لا يقع، فإذا انمحى كان كما لو محاه الكاتب بنفسه.
وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر أن الطلاق يقع؛ فإن هذا وإن انمحى يسمى كتاباً، ويقال: "أتاني كتاب فلان"، وإن انمحى.
وهذا الذي ذكره بعيدٌ؛ فإنه إنما يسمى كتاباً بتأويل أنه كان كتاباً، ووضوح ذلك مغْنٍ عن بسطه.
9002/م- والكلام يتعلق [بعد ذلك] (2) بسقوط بعض الكتاب ووصول بعضه، ونحن نتكلم فيه إذا وصل أسطرُ الطلاق وسقط غيرها، ثم نتكلم في سقوط الأسطر التي فيها الطلاق. والتقسيمُ الجاري في ذلك أن نقول: الكلام في أربع مسائل: إحداها - في سقوط أسطر الطلاق من الكتاب.
والثانية - في سقوط الأسطر التي هي من مقاصد الكتاب، لكنها غير الطلاق.
والثالثة - في سقوط أسطر فيها التسمية والتصدير، أو الحمد والصلاة في آخر الكتاب.
والرابعة - في سقوط البياض من طرفي الكتاب أو حواشيه.
فأما إذا سقطت أسطر الطلاق، وكان في الكتاب: إذا بلغك كتابي، فأنت طالق، فحاصل ما ذكره الأصحاب في هذه الصورة ثلاثة أوجه: أحدها - أن الطلاق لا يقع؛ فإنه علّقه ببلوغ الكتاب، والكتاب عبارة عن مجموعِه، وقد سقط مقصود الكتاب، فكأن الكتاب لم يصل.
__________
(1) في الأصل: وقوم.
(2) زيادة من المحقق اقتضاها توضيح الكلام.

(14/79)


والوجه الثاني - أن الطلاق يقع؛ إذ يقال: وصل الكتاب، [وإن] (1) كان سقط منه
شيء.
والوجه الثالث - أنه يفصّل: فيقال: إن قال: إن جاءكِ كتابي هذا، لم يقع؛ لأن
الإشارة تحوي جميعَ الأجزاء. وإن كتب: إن جاءكِ كتابي، ولم يشر، وقع؛ لأنه
جاءها ما ينطلق عليه اسم الكتاب.
المسألة الثانية - إذا سقط غير الطلاق، ولكن كان من متضمنات الكتاب، كعُذرٍ
مُقدَّمٍ على الطلاق، أو ذكرِ حالٍ منها يتضمن توبيخاً، وهو معقَّبٌ بالطلاق، فإذا سقط
ما يشتمل على هذه الفنون، وكانت الأسطر المحتوية على الطلاق باقية، فتعود الأوجه،
ولكن هذه الصورة أولى بوقوع الطلاق؛ فإنه فصّل الطلاق، وهو الغرض والمنتهى.
المسألة الثالثة- إذا سقط من الكتاب محلّ التصدير والحمد، ففيه الخلاف،
والأظهر وقوع الطلاق؛ فإن الساقط لم يَفُت بسقوطه شيء من مقاصد الكتاب، وإنما
سقطت مراسم ليست معنيّة.
والمسألة الرابعة - في سقوط البياض، فالذي قطع به أئمة المذهب أن الطلاق يقع؛
لأن الكتاب محل الأسطر، والحواشي متصلةٌ وليست مقصودة أصلاً. وأشار بعض
الأصحاب إلى إبداء احتمال في هذا؛ فإنّ حواشي الكتاب تُعدُّ من الكتاب، ويحرم
على المحدث مس حواشي المصحف، كما يحرم عليه مس الأسطر.
وكنت أحب لو أجرينا في هذه المسائل -أعني المسائل الثلاث الأُوَل- الفرقَ بين
أن يبقى معظم الكتاب، أو يسقط معظمه؛ فإن للمعظم أثراً ظاهراً في بقاء الاسم.
ولو قال: إذا بلغك طلاق، فانت طالق، فبلغ الكتاب إلا الأسطر التي فيها ذكر
الطلاق، لم يقع وفاقاً، وكذلك إذا بلغ تلك الأسطر التي فيها ذكر الطلاق من غير
تفصيل. وإذا بنينا على أن الانمحاء يُخرج الكتاب عن كونه كتاباً، فالانمحاء بمثابة
السقوط في البعض.
فهذا تفصيل القول فيما يلحق الكتاب من التغايير.
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.

(14/80)


9003 - وإذا قال: إذا قرأتِ كتابي، فأنت طالق، فلم تقرأ، ولم يُقرأ عليها، لم يقع الطلاق، ولو قال: إذا قرأتِ كتابي، فأنت طالق، فكانت قارئةً، فقرىء عليها، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أن الطلاق لا يقع؛ فإنها لم تقرأ. والثاني - يقع؛ لأن هذا يراد به الاطلاع على مضمون الكتاب، لا صورة القراءة. وهذا يحصل بأن يُقرأ عليها، كما يحصل بأن تقرأ بنفسها.
ولم يختلف علماؤنا في أنها لو طالعت الكتاب، وفهمت ما فيه، ولم تلفظ بكلمةٍ، وقع الطلاق وإن لم يوجد قراءة؛ وهذا يؤكّد أن قراءة الكتاب محمولة على الاطلاع على ما فيه.
ولو كانت أُمِّيَّة، فالذي قطع به الأصحاب أن الطلاق يقع إذا قرىء الكتاب عليها؛ فإن القراءة في حقها محمولة على الاطلاع لا غير.
وأبعد بعض من لا احتفال به، فجعل تعليق الطلاق بالقراءة في حق الأمية بمثابة تعليق الطلاق على محال، وهو كما لو قال: إن صعدت السماء، فأنت طالق، فالطلاق لا يقع، لعدم الصعود، وإن كان محالاً.
وإذا قال لامرأته: إذا رأيت الهلال، فأنت طالق، فلم تره، ورأى غيرها، فسنذكر أن الطلاق يقع، وإن كانت الرؤية ممكنة منها، بخلاف ما لو قال: إذا قرأت كتابي وكانت قارئة، فلم تقرأ، وقُرىء عليها، والفرق أن قراءة غيرها ليست قراءتها، والرؤية قد يراد بها العلم، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان:45] معناه: ألم تعلم ربك، وسيأتي هذا الفرع بما فيه، إن شاء الله.
ومما فرعه صاحب التقريب: أنه إذا قال: إذا بلغك نصف كتابي، فأنت طالق، فبلغها الكتاب كله، فهل نقضي بوقوع الطلاق؟ فعلى وجهين: أحدهما- يقع؛ فإن الكتاب يشتمل على نصفين، ففي بلوغه بلوغ نصفه.
والثاني - لا يقع؛ فإنّ النصف في هذا المقام إنما يُطلق لغرض التبعيض، فإذا لم يتحقق التبعيض، لم تتحقق الصفة.
وقد انتهى ما يتعلق بفصل الكتاب؛ فقهاً، وإيضاحاً لموجب صيغ الألفاظ.

(14/81)


فصل
قال: "ولو قال لامرأته: اختاري، أو أمرك بيدك ... إلى آخره" (1).
9004 - مقصود الفصل الكلام فيه إذا فوّض الزوج الطلاق إلى زوجته، ونحن نقول: تفويض الطلاق إلى أجنبي توكيلٌ على التحقيق، ثم الأصحاب ربما يفصلون بين التوكيل وبين الأمر كما تقدم استقصاؤه في كتاب الوكالة، وبيانه أن الرجل إذا قال لصاحبٍ له: وكلتك ببيع عبدي أو إعتاقه، أو طلاق زوجتي، فهذا توكيل على الحقيقة.
واختلف الأصحاب في أنه هل يشترط القبول فيه أم لا؟ كما مضى.
وإن قال: بع عبدي، من أئمتنا من قال: هذا أمرٌ غيرُ مفتقر إلى القبول وجهاً واحداً، وإنما المطلوب [عنده] (2) الامتثال والارتسام فحسب، ومنهم من قال: هو توكيل على صيغة الأمر، ويجري فيه الخلاف في القبول، كما يجري فيه إذا قال: وكلتك.
ثم إن لم نشترط القبول، لم يتقيد إيقاع المطلوب بزمانٍ إذا لم يكن التوكيل مقيداً بمراعاة زمان، بل إن امتثل الوكيل أو المأمور على الفور أو بعد زمان، جاز ونفذ.
وإن قضينا بأن القبول لا بدّ منه، فالاتصال مرعيٌ في القبول لا محالة، ثم الكلام في تنفيذ المقصود لا يشترط فيه تعجيلٌ ولا اتصالٌ إذا لم يشترط الآمر والموكّل تعجيلاً.
9005 - فأمّا إذا فوض الزوج الطلاق إلى زوجه، فقال لها: طلقي نفسك، فقد اختلف قول الشافعي بأن هذا تمليك، أو توكيل بالطلاق، فأحد القولين أنه توكيل، أو أمرٌ كما قدمته، والقول الثاني أنه تمليك.
التوجيه: من جعله توكيلاً، اعتبر المرأة بالأجنبي، فإن مالك الطلاق الزوج،
__________
(1) ر. المختصر: 75.
(2) في الأصل: عند (بدون هاء الضمير).

(14/82)


ومن يطلّق بأمره مأمور من جهته، فلا فرق بين أن يتصل الأمر بالزوجة أو بأجنبي.
ومن قال بالقول الثاني، احتجّ بأن التفويض إليها يتضمن تمكينها من أن تملك نفسها، وهذا الأثر يرجع إليها، ويتصل بها، فكان قوله طلقي نفسك خارجاً عن محض التوكيل.
التفريع:
9006 - إن جعلنا التفويض إليها توكيلاً، فلا فور عليها، فإن طلقت على الاتصال نفسَها، فذاك. وإن طلقت نفسَها بعد زمان متطاول، وبعد مفارقة ذلك المجلس، جاز، وهل يشترط قبولها أم لا؟ فعلى ما ذكرناه من تردد الأصحاب في أن الآمر هل يفتقر إلى القبول. والمسألة فيه إذا قال لها: طلقي نفسك.
وإن حكمنا بأن التفويض تمليك، فالجواب يقتضي الفورَ، وهو بمثابة قبول العَقْد مع إيجابه، فإن خلّلت زماناً متطاولاً ينقطع بمثله الإيجاب عن القبول، فلا تملك أن تطلق نفسها بحكم التفويض الأوّل، كما لا يملك المخاطب بالإيجاب القبول بعد تطاول الزمان. هذا مسلكُ الأصحاب في التفريع.
ومما فرَّعوه على قول التمليك أن الزوج لو رجع عن تفويضه على الفور قبل أن تطلّق نفسها، انقطع ملْكها التطليق، ولم ينفذ الطلاق إن طلّقت نفسها؛ لأنا إذا جعلناها مملكة [فهي] (1) بمثابة القابلة للخلع إذا خاطبها الزوج بالإيجاب فيه، وهذا يقبل الرجوع.
وقال ابن خيران: "إذا فرعنا على قول التمليك، فليس للزوج الرجوع بعد التفويض، ولو رجع، لغا رجوعه، ونفذ تطليقها نفسَها، على الاتصال". واعتل بأن قال: كأن الزوج قال لها: إذا تلفظت بتطليق نفسك، فأنت طالق.
وهذا وجه مردود لا أصل له، والعجب أن شيخي كان لا يحكي في التفريع على قول التمليك غيرَه، وكان يعبر عنه، ويقول: "هو تمليك مضمّن بتعليق" مشيراً إلى أن الرجوع غير ممكن بتضمّن (2) التمليك التعليق.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) بتضمن التمليك التعليق: أي بسبب تضمن التمليك التعليق.

(14/83)


هذا نظم المذهب.
9007 - وسلك القاضي مسلكاً آخر، فقال: نرسم القولين في أن التفويض تمليك أو توكيل، ونقول: الأصح [أنه] (1) تمليك، وهو المنصوص عليه في معظم الكتب.
والقول الثاني - أنه توكيل، ولا يُرى للشافعي منصوصاً إلا في الأمالي المتفرقة.
فإن حكمنا بأنه تمليك، فالفور لا بد منه.
ثم غلط هاهنا بعض أصحابنا، فقال: يمتد جوابها امتداد المجلس، كخيار المكان، وهذا غلط غير معتدّ به، وإنما غلطُ هذا القائل من قول الشافعي "ولا أعلم خلافاً، أنها إن طلقت نفسها قبل أن يتفرقا من المجلس أو تُحدثَ قطعاً لذلك أن الطلاق يقع عليها" (2). والشافعي كثيراً ما يطلق المجلس ويريد به مجلس الإيجاب والقبول، والمعنى رعاية التواصل الزماني، كما قدّمنا ذكره.
وقد يطلق مثل هذا في الخلع، ولم يجسر أحدٌ من أصحابنا [على] (3) حمل ذلك على المجلس الذي يناط بمنتهاه انقطاع خيار المجلس.
قال (4): وإذا فرعنا على أن هذا توكيل، فيحتمل أن نقول: تطليقها ينبغي أن يكون على الفور أيضاً؛ فإن توكيل الزوج المرأة يشعر بتمليكها لفظاً، والتمليك اللفظي يقتضي جواباً عاجلاً، ولهذا قلنا: إذا قال لزوجته: "أنت طالق إن شئتِ"، اقتضى ذلك فوراً في المشيئة، بخلاف ما لو قال: أنت طالق إن شاء زيد، فيتضمن قوله طلِّقي نفسك جواباً عاجلاً والتماسَ تنفيذٍ أو إعراضٍ، ثم قال: وهذا إذا قال لها: طلقي نفسك.
ولو قال: وكلتك أن تطلقي نفسكِ، وصرّح بلفظ التوكيل، قال القاضي: يحتمل أن يقال أيضاً في هذه المسألة: يختص بالمجلس، كما وصفناه، وإن صرّح
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) ر. المختصر: 4/ 75، 76.
(3) زيادة من المحقق.
(4) قال: القائل هو القاضي، فما زال كلامه مستمراً.

(14/84)


بالتوكيل؛ لأنه يشوبه شُعبة من التمليك، فعلى الطريقين يكون جوابها على الفور سواء لَفَظَ بالتوكيل، أو لم يلفظ به.
وهذا الذي ذكره فقيهٌ حسن، ولكنه منفرد به من بين الأصحاب.
9008 - والمقدار الذي رمز إليه المحققون أنا إن قلنا: هذا توكيل، فحكمها حكم [الوكيل] (1)، وإن قلنا: هذا تمليك، فهل يصح من الزوج توكيلها أم كل تفويض منه إليها يتضمن تمليكاً؟ فعلى ترددٍ وخلاف، وهذا محتمل، وإيراده على هذا الوجه أمثل.
ولو قال على قول التوكيل: طلقي نفسك متى شئت، أو متى ما شئت، فهذا لا يقتضي فوراً أصلاً؛ فإن معتمد القاضي مسألة التعليق بالمشيئة. ولو قال: مهما (2) شئت، فأنت طالق، فلا فور، بل مهما شاءت، طلَّقت، فإذا كانت المشيئة تقبل التأخير، إذا قيّدت بالتأخير، فليكن الأمر كذلك في التوكيل.
ومما يهجس في النفس أن من قال: التفويض توكيل، ولا يقتضي تطليقاً منها نافذاً في الحال، فكيف وجه القطع باقتضاء قول الرجل: "أنت طالق إن شئت فوراً"؟ فإن مسألة المشيئة عندي تتوجه بتمليكها الأمر، والتمليك مضاهٍ للإيجاب المستعقب للقبول، وإلا فلا فرق في العربية بين قول القائل لامرأته: أنت طالق إن شئت، وقوله: أنت طالق إن كلمت زيداً، والمستعمل في المسألتين أداة الشرط، وأُمُّ بابه (3)، وحكم الشرط ألا يتخصّص بزمان، بل يسترسل على الأزمان المبهمة.
فليتأمل الناظر هذا فإنه [عويصٌ] (4). وسنعود في الفروع إلى مسألة المشيئة، إن شاء الله.
وكل ما ذكرناه فيه إذا فوّض الطلاق إليها بلفظٍ صريح، وطلّقت نفسها بلفظ صريح.
__________
(1) في الأصل: التوكيل.
(2) مهما شئت: (مهما) بمعنى (إذا).
(3) وأمّ بابه: المراد (إن) فهي أمّ باب الشرط.
(4) في الأصل: عريض، والمثبت تقدير منا، على ضوء أسلوب الإمام.

(14/85)


9009 - فأما إذا فوّض إليها في ظاهر الأمر بكناية، فأجابت بكناية، أو اختلف الجانبان في ذلك، فالتفصيل فيه إذا قال لها: أمرك بيدك، أو فوضت أمرك إليك، أو ملكتك أمرك، أو قال: اختاري نفسك، فهذه الألفاظ كنايات منه، فإذا أجابت بكناية، فقالت: اخترت نفسي، أو أبنت نفسي، فيتعين الرجوع إليهما، فإن زعما أنهما نويا الطلاق تفويضاً وإيقاعاً، وقع رجعياً إذا كانت بمحل الرجعية.
ولو لم ينو الزوج، لم يقع وإن نوت، ولو نوى تفويض الطلاق إليها ولم تنوِ المرأة إيقاع الطلاق، لم يقع الطلاق، فإنها الموقعة المطلِّقة، فينقسم لفظها إلى الصريح وإلى الكناية.
وقال أبو حنيفة (1): يقع الطلاق، وإن لم تنوِ إذا نوى الزوج، وكأنّ كلام المفوِّض معادٌ في جوابها، وهذا ساقطٌ لا أصل له. وهذه المسألة مشهورة في أصحاب رسول الله عليه السلام وهي ملتطم خلافهم، والمسألة مشهورة بالتخيير والاختيار، فإذا قال الزوج: اختاري، فقالت: اخترت نفسي، فقد ذهب عمرُ وابنُ عمرَ وابنُ مسعودٍ وابنُ عباسٍ وعائشة إلى أنها لو اختارت نفسها، وقعت طلقة رجعية، ولو اختارت زوجها، لم يقع شيء (2)، وحيث حكموا بالوقوع أرادوا إذا وجدت النية من الجانبين، وروي عن علي أنها لو اختارت نفسها وقعت طلقة بائنة، وإن اختارت
زوجها وقعت طلقةً رجعيةً، وبه قال زيد، وروي عن عائشة لما بلغها عن علي أنها لو
اختارت زوجها وقعت طلقة رجعية اشتدّ إنكارها عليه، وقالت: خيّر رسول الله
صلى الله عليه وسلم نساءه أترى كان ذلك طلاقاً (3)؟
__________
(1) ر. المبسوط: 6/ 210، تبيين الحقائق: 2/ 220، فتح القدير: 2/ 410.
(2) وردت هذه الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في مصنف ابن أبي شيبة:5/ 58 - 61 - كتاب الطلاق- باب ما قالوا فى الرجل يخير امرأته فتختاره أو تختار نفسها.
والأمر على ما قال إمام الحرمين فيما روي عن عمر وابن عمر وابن مسعود وابن عباس وعائشة، أما ما روي عن علي، فهو: "إن اختارت نفسها فواحدة بائنة، وإن اختارت زوجها فواحدة وهو أملك بها".
(3) السابق نفسه.

(14/86)


ومما يتعلق بالفصل أن الزوج لو أنكر نية الطلاق، فالقول قوله مع يمينه. والمرأة لو قالت: نويت الطلاق كما نويتَ، فقال الزوج: ما نويتِ أنت، فقد ذكر القاضي وجهين ذكرهما العراقيون: أحدهما - أن القول قولها؛ فإن المرأة هي الناوية، وإليها الرجوع، ولا مطّلع على النية إلا من جهتها. نعم، إن أراد تحليفها، كان له ذلك.
ومن أصحابنا من قال: القول قول الزوج، وهذا ضعيف لا أصل له، ووجهه - على بعده- أن الأصل بقاء النكاح، وعدم وقوع الطلاق، وهي تزعم أن الطلاق وقع بنيتها المنضمّة إلى لفظتها.
9010 - ولو ذكر الزوج في التفويض كناية، فقال: اختاري، أو أبيني نفسك، أو بتِّي نفسك، فقالت: طلقت نفسي، فالمذهب الظاهر أن الطلاق يقع إذا اشتمل جانب الكناية على النية.
ومن أصحابنا من قال: لا يقع الطلاق. حكاه العراقيون عن ابن خَيْران، وهذا القائل يقول: ينبغي أن يكون جوابها على صيغة التفويض إليها.
قال القاضي: وهذا الخلاف يجري في التوكيل، فلو قال لأجنبي: طلق زوجتي، فقال: أبنتها، ونوى الطلاق. ولو قال: أبن زوجتي أو خلّها ونوى الطلاق، فقال الوكيل: "طلقتها". أو "هي طالق"، فيخرّج الخلاف.
ولو قال لزوجته: أبيني نفسك، فقالت: خلّيت نفسي، وَوُجِدت نية الطلاق من الجانبين، فلا يخفى تخريج هذا على ظاهر المذهب، والطلاق واقع.
فأما إذا قلنا: اختلافُ الشقين صريحاً وكناية يمنع وقوعَ الطلاق، فإذا جرت الكناية من الجانبين، ولكن اختلفت الصيغتان، ففي المسألة تردد على هذا الوجه الضعيف. ولعلّ الأوجه الوقوع تعويلاً على النية؛ فإن اللفظ لا استقلال له في الجانبين.

(14/87)


فصل
قال: "وسواء قالت طلقتك أو طلقت نفسي ... إلى آخره" (1).
9011 - إذا قال الرجل لامرأته: أنا منك طالق، قال الأصحاب: إن نوى إيقاع الطلاق عليها، وقع الطلاق، وإن لم ينو إيقاع الطلاق عليها، لم يقع، وزعموا أن قوله: أنا منك طالق صريح في بنيته وصيغته، ولكنه أضيف إلى [الرجل] (2)، فهو بمثابة الكنايات؛ فإن المرأة محل الطلاق، فإذا أضيف الطلاق إلى الرجل، كان على تأويل إضافته إليها، من حيث إنه منها على سبب منتظم بينهما. وكذلك إذا قال الرجل: أنا منك بائن، قال الأصحاب: لا بدّ من نيتين إحداهما نيّة أصل الطلاق، والثانية نية الإيقاع عليها.
9012 - وأصل هذه المسألة مقرر في (الأساليب)، ولا نجد بداً من ذكر طرفٍ مما ذكرناه فيها أوّلاً: ذهب ذاهبون من أصحابنا إلى أن الرجل معقود عليه في حقها، كما أنها معقود عليها في حقه، وأكثروا في هذا سؤالاً وانفصالاً.
ونحن لم نرتضِ هذا المسلكَ؛ فإن المرأة لا تستحق من بدن زوجها ومنفعة زوجها شيئاً، فلا معنى لكونه معقوداَّ عَليه لها وفي حقها، وإنما المستحِق هو الزوج ومنافعها أو حِلُّها مستحَق له، فلا وجه إلا القطع بأنّ مورد العقد محل الاستحقاق.
ولكن إذا قال الزوج: أنا منك طالق، انقدح في هذا وجهان: أحدهما - أن على الزوج حجْراً من جهتها، وإن لم يكن معقوداً عليه؛ فإنه لا ينكح أختها، ولا أربعاً سواها، فإذا أضاف الطلاق إلى نفسه، أمكن حمل ذلك تقريراً على حَلّ السبب المقتضي لهذا الحَجْر.
والوجه الثاني - أن المرأة مقيدة، والزوج في حكم القيد، وقد يقال: حُلّ القيد،
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 77.
(2) في الأصل: محل. والمثبت تقدير منا رعاية للسياق.

(14/88)


كما يقال: حُل المقيّد، فإضافة الطلاق إلى الزوج تتجه من غير أن يفرض معقوداً عليه.
ثم إذا قصد الزّوج الطلاق، ولم يضف الطلاق إليها، فالذي صار إليه جمهور الأصحاب أن الطلاق لا يقع، كما قدمنا ذكر ذلك.
وذهب طوائف من المحققين إلى أن قصد الطلاق كافٍ، وإن لم يضفه لفظاً وعقداً إليها. وهذا اختيار القاضي، وهو القياس تحقيقاً، فإن الطلاق نقيضُ العقد، وإذا ارتفع العقد، فلا حاجة إلى التنصيص على محلٍّ نطقاً أو نية وقصداً.
وهذا الكلام فيه إبهام بعدُ، فإن الرجل لو قال: أنا منك طالق، وقصد الطلاق، ولم يقصد تطليق نفسه، فالأمر على ما ذكرناه.
وإن قال: أنا منك طالق، ونوى تطليق نفسه، فكيف السبيل؟ وعلى ماذا يحمل هذا القصد؟ وهل نقول: الطلاق صريح ولا حاجة فيه إلى التعرض للمحلّ؟
أما مذهب الجمهور، فبيّن، وأما المذهب الآخر، فقد بان منه أنه [إن] (1) لم يقصد إلا الطلاق على الإطلاق، كفى، وإن جرّد قصده إلى تطليق نفسه، فالوجه عندنا ألا يقع، لأن كونه محلاً لإضافة الطلاق -و (2) ليس محلاً للعقد، ولا استحقاق للمرأة فيه - بعيدٌ (3) فهذا كلام لا يستد (4) مطلَقُه، حتى يصرف بتأويل إلى مصرفٍ صحيح.
ثم الجمهور قالوا: ينصرف إليها، وقال آخرون: يكفي أن يقطع عن تخصيصه بنفسه، فأما تنفيذه مع تجريده القصد في إضافة الطلاق إلى نفسه فبعيدٌ جداً.
وقد ذكر بعض الخلافيين أن اللفظ صريح، وإن قصد تطليق نفسه، وهذا لا احتفال به. وشبّه مشبهون هذا بما لو قال لامرأته: أنت الطلاق، من حيث إن لفظ الطلاق جرى على صيغة مستبشعة حائدةٍ عن جهة العرف في الاستعمال.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) "وليس محلاً للعقد" (الواو) هنا واو الحال. فالمعنى: والحال أنه ليس محلاً للعقد، ولا استحقاق للمرأة فيه ...
(3) بعيدٌ: خبر (أن) في قوله: لأن كونه محلاً لأضافة الطلاق.
(4) لا يستدّ: أي لا يستقيم.

(14/89)


هذا تمام البيان في ذلك، ويترتب عليه فصل متصل بما تقدم من تفويض الطلاق إليها.
9013 - فلو قال لها: طلقي نفسك، فقالت: طلقتك، فخاطبته، فقال الأصحاب: إن قصدت تطليق نفسها وقع، وقال المحققون: يكفي قصدها الطلاق، وفي تخصيصها الطلاق بالزوج على قصد وعمدٍ الكلامُ الذي ذكرناه.
والمسألة ليست خاليةً عن تردّد الأصحاب في أن الرّجل إذا فوّض إليها صريح الطلاق، فأتت بالكناية، فهل يحكم بوقوع الطلاق؟ فإن قولها: طلقتك على مخاطبة الزوج كناية كما قدّمنا.
9014 - ولو قال السيد لعبده: أنا منك حُرّ، فهذا مما اشتهر فيه خلاف الأصحاب: فمنهم من قال: يحصل العتق إذا نواه، كالطلاق. ثم الترتيب في تنزيله على العبد، وفي إطلاقه، على ما مضى.
ومن أصحابنا من قال: لا يحصل العتق أصلاً؛ فإن الملك لا يوجب حجراً على المالك، والنكاح يوجب حجراً على الناكح.
ولو قال الرّجل لامرأته: أعتدُّ منك واستبرىء رحمي، ونوى الطلاق، فهذا مما اشتهر فيه ذكر وجهين: والوجه - إلغاء اللفظ؛ لأنه غير منتظم في نفسه، والكناية لفظة يظهر انتظامها في معنى، ولكن لا تتعين لذلك المعنى، فإذا كان الكلام في نفسه مثبَّجاً (1) معدوداً لغواً، فلا معول عليه.
فصل
قال: "ولو جعل لها أن تطلق نفسها ... إلى آخره" (2).
9015 - نصدّر هذا الفصل بكلام في نية العدد: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق ثلاثاًً، أو طلقتك ثلاثاًً، فلا شك في وقوع الثلاث، سواء كانت المرأة مدخولاً بها،
__________
(1) مثبَّجاً: أي مختلطاً معمّى غيرَ واضح. من ثبجَ الرجل الكلامَ والخط ثَبجاً؛ عمّاهما، ولم يبينهما.
(2) ر. المختصر: 4/ 76.

(14/90)


أو غير مدخولٍ بها، وقول الزوج ثلاثاًً لا يُقطع عن صدر كلامه؛ فإنّه منعطف عليه تبييناً وشرحاً وإيضاحاً، وليس في حكم كلام مبتدأ.
ولو قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق، وطالق، فإنها تبين بالطلقة الأولى، ولا تلحقها الثانية؛ فإن المعطوف عليه مستقلٌّ بنفسه، وليس المعطوف بياناً له، ولا كشفاً لمعناه، فإذا استقل الكلام الأول بعد موجبه، فتبين المرأة.
ثم قال الفقهاء: قول الرجل: أنت طالق ثلاثاًً مشتمل على مفسَّر وتفسير، وزعموا أن قوله ثلاثاًً ينتصب على التفسير، وهذا جهل بالعربية، وذَهاب عن وضع اللسان، وبابُ التفسير والتمييز مشهور بين النحاة، وليس هذا منه، بل قول الزوج ثلاثاًً نعتُ مصدرٍ محذوف والتقدير: أنت طالق طلاقاً ثلاثاًً، وهو كقول القائل: ضربت زيداً شديداً، والتقدير ضرباً شديدأ.
9016 - ثم معتمد المذهب، والقطبُ الذي عليه تدور المسائل أن الفعل من الطلاق والاسمَ المشتق يُشعران بالمصدر لا محالة، والمصدر يصلح للواحد والجنس، فتَطرَّق إمكانُ العدد، فإنْ لَفَظَ الزوج به، فذاك، وإن قال: أنت طالق، ونوى عدداً، وقع العدد الذي نواه، خلافاً لأبي حنيفة (1)، فاستبان أن الفعل من لفظ الطلاق والاسمَ صريحان في أصل الطلاق، صالحان للعدد على التردّد، والنيةُ شأنها تعيين وجهٍ من وجوه التردد.
ولو قال لامرأته: أنت طالق واحدة، ونوى الثلاث، أو ثنتين، فهذا ينقسم قسمين: أحدهما - أن ينصب قوله واحدةً نصبه قوله ثلاثاًً، والآخر أن يقول واحدةٌ بالرفع، فأمّا إذا نصبَ قوله واحدةً، فهذا يستدعي ذكر مقدمة، ستأتي مشروحةً في موضعها، إن شاء الله، ونحن نذكر مقدار غرضنا منها.
فإذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، ولم يخطر له إلى استتمام اللفظ الاستثناءُ،
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 4/ 411 مسألة 918، تبيين الحقائق: 2/ 197، اللباب: 3/ 41.

(14/91)


ثم لمّا تم لفظ الطلاق، خطر له أن يقول على الاتصال: إن شاء الله؛ تداركاً لما تقدّم، فقال: إن شاء الله متصلاً، فقد قال أبو بكر الفارسي - في كتابه المترجم مسائل الإجماع: يقع الطلاق في هذه المسألة إجماعاً، ووافقه معظم الأصحاب في دعوى الإجماع، وتعليلُه: أن لفظ الطلاق تم، ثم حاول استدراكه من بعدُ، فكان قصده في الاستدراك مردوداً.
ومن أصحابنا من قال: لا يقع الطلاق؛ فإن شرط وقوعه ألاّ يُجري على الاتصال به لفظاً ما يكون استدراكاً. وهذا الوجه على اشتهاره مزيّفٌ، لا تحصيل له، وسنعود إلى ذلك في مسائل الاستثناء، إن شاء الله.
9017 - فنقول الآن: إذا قال لامرأته: أنت طالق واحدة، ثم زعم أنه قصد بجميع كلامه ثلاث طلقات، وبسط قصده على أوّل كلامه وآخره، فهل يقع الثلاث؟ اختلف أصحابنا في المسألة: منهم من قال: لا يقع الثلاث؛ لأن لفظه يناقض قصدَه، والقصد بمجرده لا يعمل ولا ينفذ [في] (1) الثلاث واللفظ على مناقضته، كنية الطلاق عند ذكرٍ من الأذكار عند قراءة القرآن. هذا إذا نوى الثلاث بجميع اللفظ.
ولو نوى الثلاث بقوله: أنت طالق، ثم خطر له أن يقول واحدة، فعلى طريقة الفارسي يقع الثلاث؛ فإنه طبق نية الثلاث على لفظ محتملٍ لها، ثم أتى بعد ذلك بلفظٍ يناقض ما تقدّم، فلا حكم له.
وإن جرينا على الوجه الضعيف وأعملنا الاستثناء الذي وصله لفظاً، وإن قصده بعد نجاز اللفظ، فيخرّج على ذلك الوجهان المذكوران فيه إذا نوى بجملة اللفظ الثلاث.
وإذا ضممنا هذه الصورة إلى الصورة الأولى، انتظم فيها أوجهٌ: أحدها - أن الثلاث تقع، والثاني - أنها لا تقع. والثالث - أنه إن نوى الثلاث بقوله: أنت طالق، تقع، وإن نوى الثلاث بمجموع اللفظ، لا تقع.
ولو قال: أنت طالق واحدةً، وزعم أنّي أردت طلقةً واحدةً ملفّقاً من ثلاث
__________
(1) في الأصل: فيه.

(14/92)


طلقات، وقعت ثلاث طلقات، [فإنّ] (1) ما قاله ممكن، والطلاق الواحد الملفق حكمه ما ذكرناه.
وذكر بعض أصحابنا وجهاً أن الثلاث لا تقع؛ لأن لفظ الواحد ينافي العدد، وتقدير التلفيق بعيد عن الدّرْك، والنياتُ إنما تعمل إذا كانت تطابق وجهاً مفهوماً من صيغة اللفظ.
والخلاف في هذا يقرب من تردد الأصحاب في ألفاظٍ اختلفوا في إلحاقها بالكنايات، كما سنصفها من بعدُ، إن شاء الله.
9018 - ولو قال لامرأته: أنت واحدةٌ، ونوى الثلاث، فالذي قطع به الأئمة في طرقهم أنها تقع على تأويل حمل الواحدة على التوحّد والتفرد عن الزوج، والمرأة قد تنفرد عن زوجها بطلقة، وقد تنفرد عنه بثلاث طلقاتٍ، وذكر القاضي هذا، وصححه، وحكى معه وجهاً آخر: أن الثلاث لا تقع، لمنافاة لفظة الواحدة لها.
وهذا فيه نظرٌ دقيق عندي، فأقول: إن خطر له التوحّد وربطَ الطلاق به، على التفصيل الذي ذكرناه، فلا يجب أن يكون في هذا خلاف. وإن نوى الثلاث، ولم يخطر له وجهُ حمل الواحدة عليها، فهذا فيه احتمال، وينبغي أن يكون هذا المسلك على ذُكر الفقيه في مسائل ستأتي على القرب.
9019 - ومما وصله الأصحاب بهذا المنتهى أنه لو قال لامرأته: أنت طالق واحدةٌ -بالرفع في واحدة- فهذا يُبنى على ما لو قال لها: أنت واحدةٌ، وقد ذكرنا أن الأصح أنه إن نوى الثلاث، وقع. فلو قال: أنت طالق واحدةٌ يُحمل هذا في العربية على إتباع الصفةِ الصفةَ، وكأنه قال: أنت طالقٌ أنتِ واحدةٌ.
ثم الكلام -في إفراد الواحدة بالذكر- ما (2) ذكرناه.
وقد يعترض في هذه المسألة وفيه إذا قال: واحدةً بالنصب الفرقُ (3) بين أن يكون
__________
(1) في الأصل: وإن.
(2) ما ذكرناه: خبر لقوله: ثم الكلام في إفراد الواحدة بالذكر.
(3) الفرقُ: فاعل يعترض.

(14/93)


صاحب اللفظ معرباً أم غيرَ معرِبٍ، وهذا فنٌ سيأتي، ولسنا نخوض فيه الآن، والتنبيهُ عليه كافٍ.
9020 - ولو قال لامرأته: أنت طالق، فماتت، فقال: ثلاثاً، ووقع موتُها مع قوله ثلاثاًً، ففي المسألة أوجه: أحدها - أن الثلاث تقع، لأن الموقَع هو الطلاق، وقد صادف حالة الحياة والثلاث منعطفة على الطلاق، فلا يضر وقوع اللفظ الثاني في حالة الموت.
والوجه الثاني - أنه لا يقع شيء؛ لأن جميع الكلام في حكم المقصود الواحد، فإذا وقع بعضه في حالةٍ تنافي وقوعَ الطلاق، لم يقع الطلاق، كما لو قال لامرأته: "أنت طالق"، فوقع اللام والقاف في حالة موتها.
والوجه الثالث - أنه يقع طلقة واحدة؛ فإن قوله: "طالق" مستقل بإفادة الطلاق، وهذا صادف الحياة، فوجب إعمال هذا، وإحباط ما يقع بعد الموت.
ولو قال: أنت طالق، وكان على عزم الاقتصار عليه، فماتت، فقال: ثلاثاً، فلا شك أن الثلاث لا تقع في هذه الصورة، وينتفي الوجه الثاني أيضاً، فلا يبقى إلا الحكم بوقوع الواحدة.
وهذا يلتفت على مسألة الفارسي إذا قال: أنت طالق، ثم بدا له أن يقول: إن شاء الله، وقد ذكرنا أن المذهب إلغاء الاستثناء، وفيه وجةٌ أن الاستثناء لا يلغو، ويبعد أن نقول في التفريع عليه: إنه لا يقع شيء على وجهٍ؛ فإنه أتى بما لو قصده ابتداء، لما وقع شيء في وجهٍ.
ولو قال: إن شاء الله بعد موتها، والتفريع على الوجه الضعيف، فيجب القطع بأن الاسثتناء لا يعمل - والله أعلم.
ولو كان قصد أن يقول: إن شاء الله، فلما قال: أنت طالق، قال: إن شاء الله مع موتها، هذا محتمل لمصادفة الاستثناء حالة الموت.
وسنعود إلى هذا في فروع الاستثناء، إن شاء الله.

(14/94)


9021 - وإذا قال لامرأته: أنت بائن، ونوى ثنتين، وقعتا، كما إذا نوى واحدةً أو ثلاثاًً، وقال أبو حنيفة (1): يقع الثلاث إذا نواها، وتقع الواحدة، ولا يقع الثنتان، وله في ذلك مسلك اشتملت الأساليب على ذكره والردّ [عليه] (2).
وكل ما ذكرناه في تأسيس المذهب في احتمال اللفظ للعدد إذا كان منشىء الطلاق هو الزوج.
9022 - ونحن نعود وراء ذلك إلى مسائل تتعلق بتفويض الطلاق؛ فإذا قال الرجل: لامرأته: طلقي نفسك واحدةً، فطلقت نفسها ثلاثاًً، وقعت الواحدة، ولغا الزائد.
ولو قال: طلقي نفسك ثلاثاًً، فطلقت نفسها واحدةً، وقعت الواحدة. وقال أبو حنيفة (3): إن فوّض إليها ثلاثاًً، فطلقت واحدة، وقعت الواحدة، كما ذكرنا، وإن فوض إليها واحدة، وطلّقت نفسها ثلاثاً، لم يقع شيء.
ولو قال لامرأته: طلقي نفسك، ونوى تفويض الثلاث إليها، فقالت: طلقت نفسي، ونوت الثلاث، وقعت الثلاث؛ فإن التفويض بالنية في العدد بمثابة التفويض بالكنايات، مع العلم بأن التعويل فيها على النية.
فإذا قال: أبيني، فقالت: أبنت نفسي، فلا بد من النية في الجانبين، فالقول في النية المتعلقة بعدد الطلاق كالقول في النية المتعلقة بأصل الطلاق.
ولو قال لها: طلقي نفسَك، ونوى الثلاث، فقالت: طلقت نفسي، ولم تتعرض للنية، فالمذهب الذي عليه التعويل أنه لا يقع إلا طلقةٌ واحدة؛ فإنها لم تنو العدد، فنفذ اللفظ فيما هو صريح فيه من غير مزيد، وهو كما لو قال لها: طلقي نفسك ثلاثاًً، فقالت: طلقت نفسي واحدة.
__________
(1) ر. المبسوط: 6/ 73، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 421 مسألة 921، الاختيار: 3/ 133، اللباب: 3/ 42.
(2) زيادة من المحقق.
(3) ر. البدائع: 3/ 124، إيثار الإنصاف: 156، الاختيار: 3/ 137.

(14/95)


وذهب بعض الأصحاب إلى أن الزوج إذا نوى الثلاث ولم تتعرض المرأة للنية، وقد جرى النطق بالصريح من الجانبين، فيقع الثلاث؛ تعويلاً على نيته؛ فإنه فوض إليها لفظ الطلاق، وهو تَولَّى قصدَ العدد.
وهذا ضعيفٌ جداً؛ إذ لا خلاف أنه لو قال: أبيني نفسك، ونوى، فقالت: أبنت نفسي، لم يقع الطلاق تعويلاً على نيته، فليكن الأمر كذلك في العدد؛ فإن الصريح كناية في العدد.
9023 - ولو قال لامرأته: طلقي نفسك ثلاثاًً، فقالت: "طلقت نفسي"، أو قالت: "طلّقتُ"، ولم تتلفظ بعدد ولم تنوِه (1)، فقد قال القاضي: يقع الثلاث؛ فإن قولها جرى جواباً، والإيجاب في حكم المعاد في الجواب، وقد يجري القبول على وجهٍ لا يفهم لو قدر منفرداً، ولكنه ينتظم مع ابتداء الخطاب بسبب البناء عليه، ثم قال: ليس هذا كما لو قال: طلقي نفسك، ونوى الثلاث، ولم يتلفظ بها، فقالت: طلقت نفسي ولم تنو الثلاث، وذلك أن العدد في جانب الزوج مربوط بالنية، فلا يمكن بناء كلامها على النية، فإن التخاطب لا يقع إلا بالنية وهي على الجملة لا تحل محل الصّريح.
هذا كلامه.
وقد ذكرنا خلافاً فيه إذا نوى الزوج العدد، ولم تنو المرأة، ومن تمسك بالوجه الضعيف، وحكم بأنّ الثلاث تقع، فله أن يعتضد بما إذا قال الزوج صريحاً: طلقي نفسك ثلاثاًً، فقالت: طلقت نفسي.
ولنا تفصيلٌ ونظر في تصريح الزوج بتفويض الثلاث مع اقتصارها على الطلاق من
__________
(1) عبارة الأصل، فيها تكرار، وزيادة هكذا: "ولو قال لامرأته: طلقي نفسك ثلاثاً، فقالت: "طلقت نفسي، أو قالت: طلقت نفسي، أو قالت: طلقت نفسي، ولم تتلفظ ... "
والتعديل والتصويب من المحقق على ضوء مختصر العز بن عبد السلام، فقد جاء فيه: "وإن قال: طلقي نفسك ثلاثاًَ، فقالت: طلقت نفسي، أو قالت طلقت، ولم تنو العدد، طلقت ثلاثاً عند القاضي ... " (ر. الغاية في اختصار النهاية: ورقة 139 يمين جزء: 3).

(14/96)


غير ذكر عددٍ، [فنقول] (1): إن كان التفريع على أن تفويض الطلاق تمليكٌ، وجوابها بمثابة القبول في مقابلة الإيجاب، فيتجه ما ذكره من بناء كلامها على كلامه؛ فإن قولها على قول التمليك بمثابة القبول مع الإيجاب.
فأما إذا جعلنا التفويض توكيلاً، فالوجه أن لا يقع الثلاث؛ فإنّ تصرف الوكيل لا ينبني على التوكيل، وإنما هو افتتاح تصرّف، ولو كان مبنياً على التوكيل، لشُرط اتصاله به.
ومن قال: يشترط على قول التوكيل اتصالُ كلامها بالتفويض، فقد يخطر له ما ذكره القاضي أيضاً.
ويجوز للفقيه أن يقلب هذا الترتيب، فيقول: إن جعلنا التفويض توكيلاً، فلا نبني كلامها على كلامه، وإن جعلناه تمليكاً، فالمسألة محتملة: يجوز أن يسلك فيه مسلك البناء، كما ذكره القاضي، ويجوز أن يقال: لا يبنى قولها على قوله؛ فإنها متصرفة على الابتداء تصرفاً له صيغة التمام، وليس كالقبول الذي لا يقع إلا شقّاً، والدليل عليه أنه لو قال: طلقي نفسك ثلاثاً، فقالت: طلقت نفسي واحدة، وقعت الواحدة، ولو قال: طلقي نفسك واحدة، فطلقت نفسها ثلاثاًً وقع من الثلاث واحدة، ولو كان تطليقها مع تفويضه كالإيجاب والقبول، لما وقع الطلاق مع الاختلاف؛ فإن الرجل لو قال لمن يخاطبه: بعت منك عبدي هذا بألف، فقال: اشتريته بألفين، لم ينعقد العقد، ولم نقل: ينعقد بالألف ويلغو الألف الزائد، وهذا النوع ينفذ من الوكيل.
هذا منتهى القول في تفويض العدد مع تصوير موافقتها ومخالفتها لفظاً وقصداً.
9024 - ثم قال الشافعي: "ولو طلق بلسانه واستثنى بقلبه ... " (2) وهذا طرف من أطراف التديين، وقد استقصيناه فيما تقدم.
__________
(1) في الأصل: ونقول.
(2) تمام العبارة: "ولو طلق بلسانه، واستثنى بقلبه، لزمه الطلاق، ولم يكن الاستثناء إلا بلسانه. (ر. المختصر: 4/ 76).

(14/97)


فصل
قال: "ولو قال: أنت عليَّ حرام يريد تحريمها بلا طلاق ... إلى آخره" (1).
9025 - هذا الفصل نفرضه حيث لا نحكم بأن لفظ التحريم صريح في الطلاق، ثم نذكر مقصود الفصل، حيث نحكم بكونه صريحاً في الطلاق.
9026 - فإذا لم نجعله صريحاً في الطلاق وقد قال لامرأته: أنت عليَّ حرام، أو قال: حرّمتك، أو أنت محرّمة، فقد قال الأصحاب: إن نوى بما قال طلاقاً، فهو طلاق.
وإن نوى الظهار، فهو ظهار.
وإن نوى تحريم ذاتها على نفسه، تلزمه كفارة اليمين بنفس اللفظ، ولم يتوقف لزومها على إلمامه بها.
وإن أطلق اللفظ، ولم يقصد شيئاً، فحاصل ما ذكره الأئمة ثلاثة أوجه: أحدها - أن اللفظ صريح في إيجاب الكفارة.
والثاني - أنه كناية بحيث لا يجب بمُطْلَقه من غير نيةٍ شيءٌ.
والثالث - أنه كناية في حقّ الحرة، صريحٌ في حقّ الأمة إذا خاطبها به، وهذا الوجه ذكره العراقيون.
9027 - التوجيه: من جعله صريحاً في إيجاب الكفارة، تعلق بظاهر قوله تعالى في مخاطبة النبي: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الآيات [التحريم:1 - 3]، والصحيح في سبب نزولها أنه عليه السلام خلا بمارية القبطية في نوبة حفصة، فاطلعت عليه، وقالت: أفي بيتي؟ وفي يومي؟ فاسترضى رسول الله صلى الله عليه وسلم قلبها،
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 76.

(14/98)


وحرّم مارية على نفسه، فنزلت الآية وقال تعالى في مساقها: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} (1)، ثم مقتضى القرآن إيجاب الكفارة بنفس اللفظ من غير تعرّض لقصد،
__________
(1) قصة تحريم مارية القبطية على هذا النحو الذي ساقه إمام الحرمين رواها سعيد بن منصور في سننه: 1/ 390 ح 1707، والبيهقي في الكبرى: 7/ 353، ورواها الدارقطني من حديث عمر في السنن: 4/ 41، 42 ح 122، وأبو داود في المراسيل: 202 ح 240.
وهو عند النسائي من حديث أنس بلفظ: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1]: سنن النسائي الصغرى: كتاب عشرة النساء، باب الغيرة، ح 3411، ومن حديث أنس أيضاً أخرجه الحاكم في المستدرك، بلفظ النسائي، وقال: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجه" وأقره الذهبي (ر. المستدرك: 2/ 493).
قال الحافظ بعد أن ساق هذه الأحاديث: "وبمجموع هذه الطرق، يتبين أن للقصة أصلاً، أحسب، لا كما زعم القاضي عياض أن هذه القصة لم تأت من طريق صحيح، وغفل رحمه الله عن طريق النسائي، وكفى بها صحة، والله الموفق" انتهى كلام الحافظ (ر. تلخيص الحبير: 3/ 421، 422، ح 1732).
قال عبد العظيم: خرّج الحافظ في التلخيص هذه الأحاديث، عن قصة مارية وحفصة كما أوردها الرافعي في الشرح الكبير، ولم يتعقبه -كعادته- بذكر الأحاديث (الأصح) التي اتفق عليها الشيخان البخاري ومسلم، وغيرهما، وجاء فيها قصة أخرى لنزول الآيات، لا علاقة لها بمارية، ومخالطتها في بيت حفصة، فقد روى البخاري بسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب بنةِ جحش، ويمكث عندها، فواطأت أنا وحفصة عن: أيتنا دخل عليها، فلتقل له: أكلتَ مغافير، إني أجد منك ريح مغافير، فال: "لا، ولكن كنت أشرب عسلاً عند زينب بنة جحش، فلن أعود له، وقد حلفت، لا تخبري بذلك أحداً" (البخاري، كتاب التفسير: سورة التحريم، باب {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1]، ح 4912، وانظر أرقام: 5216، 5267، 5268، 5431، 5599، 5614، 6691، 6972) وبنحوه رواه مسلم عن عائشة، كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته، ولم ينو الطلاق، ح 1474، ورواه أيضاً ابن سعد، وابن المنذر، وعبدُ بن حميد، وابن مردويه، قال ذلك الألوسي، وفي رواية أخرى عند البخاري ومسلم وأبي داود والنسائي عن عائشة أن شرب العسل كان عند حفصة، والقائل سودة وصفية.
قال النووي عند شرح حديث مسلم: هذا ظاهر في أن الآية نزلت في سبب ترك العسل، وفي كتب الفقه أنها نزلت في تحريم مارية ثم نقل عن القاضي عياض قوله: الصحيح في سبب =

(14/99)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
= نزول الآية أنها في قصة العسل لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين، ولم تأت قصة مارية من طريق صحيح، قال النسائي: إسناد حديث عائشة في العسل جيد صحيح غاية" انتهى كلام النووي ناقلاً إياه عن القاضي عياض.
ثم قال النووي: "قال القاضي بعد هذا: الصواب أن شرب العسل كان عند زينب".
ثم أقول: قال الألوسي: "وبالجملة الأخبار متعارضة، لكن قال الخفاجي: قال النووي في شرح مسلم: الصحيح، أن الآية في قصة العسل، لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين، ولم تأت قصة مارية في طريق صحيح". ثم قال الخفاجي: نقلاً عن النووي أيضاً: "الصواب أن شرب العسل كان عند زينب رضي الله عنها" انتهى ما قاله الألوسي نقلاً عن الخفاجي ناقلاً إياه عن النووي. (روح المعاني: 28/ 146، 147).
وبهذا أصبح القائل إن الصحيح أنها في قصة العسل، وأن قصة مارية لم ترد من طريق صحيح، وأن الصواب أن شرب العسل كان عند زينب، أصبح القائل لكل هذا هو النووي في شرح مسلم. والواقع أن النووي نقله عن القاضي عياض وبالرجوع إلى حاشية الشهاب الخفاجي، برئت ساحة الألوسي، فالذي قَوَّل النووي ما لم يقله هو الخفاجي في حاشيته، حيث نسب إليه جازماً ما حكاه عن القاضي عياض، فقد قال الشهاب عند تفسير أول سورة التحريم: "اختلف في سبب النزول: فقيل: قصة مارية، وقيل: قصة العسل، وقال في شرح مسلم: الصحيح أنها في قصة العسل، لا في قصة مارية المروية في غير الصحيحين، ولم تأت قصة مارية من طريق صحيح ... وفي شرح مسلم أيضاً: الصواب أن شرب العسل كان عند زينب" انتهى بنصه كلام الخفاجي، وعنه أخذه الألوسي، وكم من الأبحاث أخذت عن الألوسي ونسبت إلى النووي ما لم يقله بل نقله عن القاضي عياض!!! ووقوع الخفاجي في هذا (الوهم) أو هذا (التسرّع) شاهد صدق على قصور البشر.
الخلاصة: وخلاصة ما تقدم نجمعها في أمور:
ا- أن الأحاديث في سبب نزول الآيات متعارضة بعضها في قصة العسل، وبعضها في قصة مارية.
2 - أن أحاديث قصة العسل في أعلى درجات الصحة؛ فهي في الصحيحين وغيرهما.
3 - أن قول القاضي عياض: إن قصة مارية لم تأت من طريق صحيح لم يخالفه فيه أحد، إذا حملناه على تفاصيل القصة من مخالطة مارية في بيت حفصة، وحوار حفصة في ذلك، فهذا بالاتفاق لم يأت من طريق صحيح.
4 - احتج الحافظ ابن حجر في إنكاره على القاضي عياض -قال: أحسب أن للقصة أصلاً- بأمرين: =

(14/100)


وهذا بمثابة ذكر الظهار وكفارته في آيات الظهار.
ومن قال: مطلق التحريم لا يكون صريحاً في اقتضاء الكفارة، احتج بأنّ الزوج لو نوى به الطلاق، لكان طلاقاً، ولو كان صريحاً في اقتضاء الكفارة، لما جاز نقله عما هو موضوع فيه، كالطلاق إذا نوى الزوج به ظهاراً، وكالظهار إذا نوى به طلاقاً.
ومن قال بالوجه الثالث، اعتمد القرآن وسببَ نزوله، وقال: المعتمد في هذا الأصل الكتاب، وهو وارد في المملوكة، والحرّةُ مشبَّهةٌ بالمملوكة، فلا يمتنع أن يكون اللفظ صريحاً في موضوعه.
9028 - ثم مذهب الشافعي أن التحريم حيث يوجب الكفارة لا يتنزّل منزلة اليمين، حتى يقال: يتوقف وجوب الكفارة على مخالفة التحريم بالإقدام
__________
= أ- مجموع الطرق.
ب- رواية النساني من حديث أنس.
وأقول: ليس في الأمرين ما يردّ كلام القاضي عياض، أما مجموع الطرق، ففيه ما فيه، وليس هذا الموضع مما يعتمد فيه التصحيح أو التقوية بمجموع الطرق.
أما حديث النسائي، فليس فيه تفاصيل القصة، بل لفظه كما رواه الحافظ نفسه: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَك} فيبقى قول القاضي عياض: "لم تأت قصة مارية من طريق صحيح" على صوابه، حيث يردّ القصة التي تحوي هذه التفاصيل.
ثم يأتي هنا السؤال: هل يجوز الترجيح بقوة الرواية؟ وهل يمكن الجمع بين القصتين، كما جعله الحافظ احتمالاً في الفتح، وكما قاله الشوكاني في تفسيره.
ولكن يجب أن نؤكد عند الجمع أن تحريم مارية لم يكن على هذا النحو الذي ورد في الفصة، فليس هذا ثابتاً باتفاق، بل يجب الوقوت عند ما رواه النسائي: "حرمها على نفسه" فليس من الرواية ولا من الدراية أن نخترع تفاصيل لسبب التحريم إذا صح أصله. والله أعلم.
وأختم بتساؤل: هل يفهم من قول الإمام النووي في شرح مسلم: "وفي كتب الفقه أنها نزلت في تحريم مارية" هل يفهم من هذا نوع إنكارٍ على الفقهاء؟ لا سيما وأنه لم يتعرض للقضية أصلاً وأعرض عنها تماماً في (الروضة). الله أعلى وأعلم.
ونضيف ملاحظة أخرى، هي أن كتب الفقه اعتمدت هذه القصة -قصة مارية- دون قصة العسل على ضعف قصة مارية؛ لأنها هي الأوفق للتمثيل والاستشهاد في تحريم الأبضاع، فهذا عذرهم، والله أعلم.

(14/101)


والاستمتاع، وأبو حنيفة (1) جعل لفظ التحريم يميناً بمثابة قوله: "والله لا أطؤك" ثم أقامه إيلاءً في النكاح، وحلفاً في ملك اليمين، ثم لم يخصص أصله بالفروج، بل قضى بأن تحريم الأطعمة والأشربة وغيرها من المستحلاّت بمثابة اليمين المعقودة على الامتناع منها. فإن خالف اليمين، وجبت الكفارة.
وما ذكرناه من اقتضاء التحريم الكفارةَ يختص بفرج الحرّة والأمة ولا يتعداهما إلى ما عداهما من المستحلات، وسنذكر حقيقة هذا في أول كتاب الأَيْمان، إن شاء الله.
9029 - ولو قال لزوجته أو أمته: أنت عليّ حرام، ثم زعم أنه أراد الحلف على الامتناع من الوطء، ففي قبول ذلك منه وجهان: أحدهما - أن اليمين لا تنعقد، وهو الذي صححه أئمة المذهب؛ فإن عماد اليمين ذكرُ اسمٍ معظَّم أُمرنا بالإقسام به إذا أردنا القسم، ولفظ التحريم ليس صريحاً فيه ولا كناية، وإنما لفظ التحريم ذكر المقسَم فأين القسم والاسم المقسَم به؟
ومن أصحابنا من قال: يثبت القسم إذا نواه؛ فإن موجب القسم عند الحنث يضاهي موجب التحريم، وقد قال أهل اللسان: "قول القائل: "لأدخلنّ الدار" قسمٌ، واللام لام قسم" فليس يبعد تحصيل اليمين بالنية إذا جرى مقصود اليمين بعبارة مؤكدة.
وهذا غير مرضي؛ فإنا لا نعرف خلافاً أن الرّجل إذا قال: لأدخلن الدار، ونوى القسم، لم يكن مقسماً، وأحكام الشرع لا تؤخذ من تقديرات العربية، واليمينُ منها منوطةٌ تعبداً باسم الله، أو بذكر صفةٍ من صفاته الأزلية.
ثم من جعل التحريم بالنية يميناً تردَّدُوا في لفظ التحريم في سائر المستحلاّت كالمطاعم والملابس وما في معناها، فقال القيّاسون من هؤلاء المفرّعين: التحريم يصير يميناً بالنية في جميع هذه الأشياء.
وقال آخرون: التحريم إنما يصير يميناً في المنكوحات والإماء.
__________
(1) المبسوط: 6/ 70، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 413 مسألة 922، حاشية ابن عابدين: 2/ 553.

(14/102)


ومما يجب الإحاطة به أن هذا الخلاف الذي ذكرناه آخراً إنما نشأ من لفظة الشافعي، وهي أنه قال: "إذا حرم زوجته، يقال له: أصب وكفّر" (1)، فظن ظانون أنه رضي الله عنه أوجب الكفارة بالإصابة على تقدير اليمين، وليس الأمر كذلك، بل أراد أن التحريم لا يحرّم وطأها بخلاف الظهار، فإنه يثبت تحريماً ممدوداً إلى التكفير، فأبان الشافعي أن التحريم لا يوجب حجراً أو حظراً في الوطء.
فإن قيل: هلا كان التحريم كالظهار؟ قلنا: لو كان كالظهار، لكان ظهاراً، فهو إذاً لا يقتضي التحريم، ولكن يقتضي وجوب الكفارة، وهو نازع من وجهٍ إلى اليمين، وليس يميناً ويشبه في ظاهره الظهارَ، وليس ظهاراً ولا في معناه.
9030 - ولو قال لنسوة: حرمتكن وقصد تحريم أنفسهن، فيلزمه كفارة واحدة أم كفارات بعددهن؟ فعلى قولين ذكرهما صاحب التقريب والقاضي، وكان شيخي وطوائف من أئمة المذهب يقطعون بأن الكفارة تتّحد، فمن ذكر القولين قرّب التحريم المضاف إلى النسوة في هذا المقام من الظهار، [فلو] (2) قال الزوج لنسوةٍ: أنتنّ عليّ كظهر أمّي، ففي تعدد الكفارة قولان، سيأتي ذكرهما.
ومن قطع باتحاد الكفارة، فوجهه أن الظهار يُثبت التحريم في النسوة، ويشابه الطلاق من هذا الوجه، والتحريم لا يثبت في ذواتهن ويشابه اليمين من هذا الوجه، ويشابهها أيضاً في صفة الكفارة.
ومن سلك طريقة القولين قال: وجوب الكفارة في التحريم لا يتوقف على المخالفة، فكان حريّاً بأن يشبّه بالظهار، ولو خاطب إماء وحرمهن بكلمة، فهو كما لو حرّم نسوة بكلمة.
ثم إن قضينا باتحاد الكفارة إذا خاطب النسوة أو خاطب الإماء، فلو قال لنسوته وإمائه أنتن محرمات عليّ، أو حرمتكن، فمن أصحابنا من قال: لا تجب إلا كفارة
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 76. (وأصله في الإملاء رواه عنه المزني في المختصر).
(2) في الأصل: ولو (بالواو).

(14/103)


واحدة تفريعاً على اتحاد الكفارات إذا خاطب نسوةً مجردات أو إماء منفردات، وهذا ظاهر القياس.
ومن أصحابنا من قال: هاهنا تتعدد الكفارة لتعدد الجهة نكاحاً وملكاً.
وهذا خيالٌ لا أصل له، وإن كان مشهوراً، حكاه الصيدلاني وغيره، ثم صاحب الوجه الضعيف حيث انتهى التفريع إليه لا يوجب إلا كفارتين؛ نظراً إلى تعدد الملك والنكاح، وهذا كلام مضطرب، والوجه تنشئة الخلاف من عدد المحرمات منكوحات كنّ، أو إماء، أو مختلطات.
9031 - وكل ما ذكرناه مفروض فيه إذا لم يكن لفظ التحريم صريحاً في الطلاق.
فإن كان صريحاً في الطلاق لاستفاضته وشيوعه، وتفريعنا على أن مأخذ الصرائح الشيوع، فإذا أطلق التحريم، فهذا نفرّعه على أن التحريم في اقتضاء الكفارة صريح أم كناية؟ وتحقيق القول فيه أنا إن حكمنا بأن مأخذ الصرائح الشيوع، فلا يتصور كون لفظ التحريم صريحاً في البابين؛ فإن المعنيّ بالشيوع أن لا يستعمل في اطراد العادة إلا في معنىً، ولا يقع الحكم للفظ بكونه صريحاً إلا بشرطين: أحدهما - الاستفاضة، والآخر - أن لا يستعمل إلا في معنى المطلوب.
وإذا بان أنا نضم إلى الشيوع الحصر، فلا يتصور أن يشيع لفظ على الحد الذي ذكرناه في معنيين مع اتحاد الزمان والمكان، وهذا بمثابة إطلاق الغلبة في النقود، فالغالب هو الذي يندر التعامل على غيره، ويستحيل تقدير الغلبة في نوعين؛ فإنّ قصارى هذا التقدير يجرّ تناقضاً، وهو أن كل واحدٍ منهما أغلب من الثاني، فيلزم منه إثبات شيئين كلّ واحدٍ أغلب مما هو أغلب منه. فإذا شاع اللفظ في مسألتنا في أحد المعنيين، كان صريحاً فيه كناية في الثاني.
9032 - وإن جوزنا أن يكون للصريح مأخذان: أحدهما - ورود الشرع، والآخر - الشيوع على النعت المقدّم، واعتمادُ الشرع في باب الصرائح يشهد له نصُّ الشافعي على أن الفراق والسراح صريحان، وإن عرفنا قطعاً أنهما ما شاعا شيوعاً يتميزان به عن الخليّة، والبريّة، والبائن.

(14/104)


فلو فرض شيوع التحريم في الطلاق وفرعنا على أن الصرائح تؤخذ من مأخذ الشرع أيضاً، فهل ينتهي التفريع إلى كون التحريم صريحاًً في البابين؟ وكيف السبيل في ذلك؟ هذا فيه نظر يجب الاهتمام به، ولا يتجه فيه إن أثبتنا المأخذين إلا أمران: أحدهما - أن نسلك مسلك التغليب إذا جرى اللفظ مطلقاً، ونعتقد أن الطلاق أغلب مثلاً لوجوه لا تكاد تخفى، واللفظ يطابق المعنى إذا كان طلاقاً؛ فإن الطلاق يحرم النفس، والتحريمُ الموجب للكفارة لا يحرم النفس. هذا مسلكٌ.
وإن انقدح للفقيه استواء الوجهين، فلا مطمع في تحصيل معنيين بلفظ واحدٍ، هذا ما لا سبيل إليه وإن جرّد القاصد قصده إليهما جميعاًً؛ لأن اللفظ الواحد لا يصلح لمعنيين جميعاً إذا لم يوضع في وضع اللسان للجمع، فلا يتجه إذاً إن لم ينقدح وجهٌ في الترجيح إلا أنه يخرج عن كونه صريحاًً في البابين جميعاًً، لتعارض العرف والشرع، واستحالة الجمع، وامتناع تخصيص أحد الجانبين، فلا [يعمل] (1) اللفظ إذاً في أحد المعنيين إلا بالقصد.
هذا منتهى النظر.
9033 - ومن لطيف الكلام في هذا أن الصريح [الذي هو] (2) على الدّرجة العليا.
كالطلاق، فإنه لا يُعدَل عن ظاهره إلا على مسلك التديين، ويلتحق الظهار به أيضاً لاستوائهما في الجريان في الجاهلية والإسلام، وكل ما يلتحق بالصرائح لعموم عرفٍ متجدّدٍ -فالعرف لا ثبات له- فقد يعرض استعقاب العرف عرفاً آخر، وقد مهدنا في قاعدة الصرائح أن من الألفاظ ما يعمل مطلَقُه، وتنصرف النية فيه، وهذا من ذاك، فالتحريم إذا شاع على الحدّ الذي نعهده، فلا يكاد يبلغ مبلغ شيوع الطلاق في كل زمانٍ ومكانٍ، ولا يعد مستعمل التحريم في غير مقصود الطلاق آتياَّ بَشاذًّ نادرٍ، بخلاف من يستعمل الطلاق ويبغي غير معناه، ومن أحاط بهذه المرتبة من الصرائح، بنى عليه ما ذكرناه، من أن التحريم وإن كان صريحاً في اقتضاء الكفارة، فيصير طلاقاً بالنية.
__________
(1) في الأصل: يعلم. والمثبت تصرف من المحقق.
(2) في الأصل: الصريح (النهوُ) على الدرجة العليا (بهذا الرسم تماماً).

(14/105)


هذا تحصيل القول في ذلك، وتبليغه المرتبة الأقصى في البيان.
9034 - ومما يتعلق بتمام الكلام في فصل التحريم أنه لو قال لأمته التي هي أخته من الرضاع أو النسب: حرّمتك، أو أنت عليّ حرام، وزعم أنه أراد تحريمها في ذاتها، فلا تلزمه بهذا القول كفارةٌ، لأنه وصفها بما هي متصفة به من التحريم، وإنما يُلزم لفظُ التحريم الكفارةَ إذا خاطب به مستحلّه، فيناقض لفظُه موجَبَ الشرع، فيعدّ ما جاء به كلاماً مخالفاً للشرع، ثم تعبّد الشرعُ فيه بكفارة.
وإذا قال لأمته المعتدة، أو المرتدة، أو المزوّجة، أو الوثنية، أو المجوسية: أنت عليّ حرام، وأراد تحريمها في ذاتها، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لايلزمه شيء لأنه وصفها بالتحريم في حالةٍ كانت فيها محرّمة، فلا تناقض، ولا حلف.
والثاني - يلزمه لأنها بمحل أن يستبيحها بتغاييرَ تلحق.
وإذا خاطب بالتحريم امرأته المُحْرِمة، ففيه وجهان، كما ذكرناه.
وأطبق المحققون على أنه لو خاطب الرجعية، لم يلتزم شيئاً، لأنها مُحرَّمة خالية عن الحلّ، وفيها احتمال من طريق المعنى، وإن لم نجد فيه نقلاً.
وإذا خاطب بالتحريم الصائمة والحائض، التزم الكفارة؛ فإن تلك العوارض لا حكم لها، والتحريم لا يعم أيضاً جميع وجوه الاستمتاع، ولفظ التحريم عام من جهة الوضع.
فإذا قال لامرأته: أنت عليّ كالميْتة، أو الدم، أو الخمر، أو الخنزير، فهو كما لو خاطبها بلفظ التحريم، ويمكن أن يقال: إن جعلنا التحريم صريحاً لمورد القرآن، فهذه الألفاظ لا تكون صرائح، والعلم عند الله. وقد انتجز قولنا في قاعدة التحريم.

(14/106)


فصل
قال: "فأما ما لا يشبه الطلاق مثل قوله: بارك الله فيك ... إلى آخره" (1).
9035 - غرض الفصل أنّ شرط ما يوصف بكونه كناية أن يكون مشعراً بالمقصود، ثم إن ظهر إشعاره، لم يخف كونه كنايةً، وإن خفي، فقد يُثيرُ خفاؤهُ خلافاً. فلو قال لامرأته: تجرّعي أو تردّدي أو ذوقي، فهذه الألفاظ كنايات، فإنها من طريق الاستعارة تشعر بالفراق، ولو قال: اشربي، وزعم أنه نوى الطلاق، فوجهان، قدمنا ذكرهما، ومن جعله كناية قدّر فيه اشربي كأس الفراق.
وكان شيخي يقطع بأن قوله: "كلي" ليس بكنايةٍ، وألحق القاضي والعراقيون كلي بقولهِ: "اشربي" وهذا فيه [بعد] (2) ولو قال: بارك الله فيك، أو اسقيني، أو أطعميني، أو ردّديني، أو ما أشبه ذاك، فليس بطلاق، لأن هذه الألفاظ غيرُ مشعرةٍ بالفراق.
وإن حملها حامل على معنىً بعيد، عُدَّ متكلفاً، آتياً بما يلتحق بقسم التعقيد والإلغاز.
ولو قال: "أغناكِ الله"، ونوى الطلاق، فقد ذكر العراقيون وجهين، ومأخذ أحدهما من قوله عزّ وجل: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] فكأنَّه قال لها: فارقيني يغنك الله. وهذا بعيد، ولا يجوز أن يحمل على ذلك قوله: "بارك الله فيكِ"، وإن أمكن على بعدٍ أن يقول: أردت أغناك الله؛ فلا تنتهي التقديرات في الكنايات إلى هذا المنتهى.
فليقس القائس على محل الوفاق والخلاف ما لم نذكره.
فصل
9036 - ثم قال الشافعي: "ولو قال للتي لم يدخل بها: أنت طالق ثلاثاًً [للسُّنة] (3) وقعن معاً ... إلى آخره" (4).
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 77.
(2) في الأصل: بعيد. والمثبت اختيار من المحقق.
(3) زيادة من نص المختصر.
(4) ر. المختصر: 4/ 77.

(14/107)


9037 - مقصود الفصل أن الرجل إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق ثلاثاً وقعت الثلاث عند الشافعي وأصحابه، وهو مذهب عامة العلماء.
وذهب بعض السلف إلى أنه لا يقع إلا واحدة، وهذا إنما قاله بسبب أن قول الرجل: "أنت طالق" مستقلٌّ بنفسه، فينبغي أن تبين المرأة، به فإذا بانت، لم يلحقها إلا واحدة. ومعتمد مذاهب العلماء أنّ آخر الكلام منعطفٌ على أوّله، كما أنّ أوّله مربوط بآخره، وقوله: "ثلاثاً" من تمام قوله: "طالق".
ولو قال للّتي لم يدخل بها: "أنت طالق وطالق" بانت بالأولى، ولم تلحقها الثانية وستأتي هذه المسائل بما فيها موضحة إن شاء الله تعالى.
***

(14/108)


باب الطلاق بالوقت وطلاق المكره
قال الشافعي: "وأي أجلٍ طلّق إليه لم يلزمه قبل وقته ... إلى آخره" (1).
9038 - إذا علق الرجل طلاق زوجته بأمرٍ في الاستقبال، تعلّق به، ولم يقع قبل تحققه، ولا فرق بين أن يكون ما علّق الطلاقَ به مما يأتي لا محالة، وبين أن يكون الظن متردداً فيه: قد يكون وقد لا يكون؛ فإذا قال: إن دخلت الدارَ، فأنت طالق، فهذا مما لا يقطع بكونه (2).
فإذا قال: إذا طلع الشمس، فأنتِ طالق، فهذا مما يكون لا محالة، والطلاق لا يقع في الموضعين قبل تحقق الصفة؛ خلافاً لمالك (3)؛ فإنه قال: إذا علق الزوج الطلاق بما يكون لا محالة، انتجز الطلاق في الحال، وإنما يقف وقوفه على وجود الصفة إذا لم تكن مستيقنة الكون، قد تكون وقد لا تكون.
9039 - ثم ذكر الشافعي مسائل في ذكر الأوقات التي تُفرض متعلقاً للطلاق والعتاق، والغرض منها بيان معاني الألفاظ المستعملة فيها، فقال: "لو قال في شهر كذا ... إلى آخره" (4).
إذا قال الزوج لزوجته: أنت طالق، في أول شهر رمضان، طلقت كما (5) أهلّ الهلال.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 77.
(2) بكونه: أي بوجوده.
(3) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 748 مسألة 1357، وعيون المجالس له: 3/ 1227 مسألة 854.
(4) ر. المختصر: 4/ 77.
(5) كما: بمعنى عندما.

(14/109)


ولو قال: أنت طالق في شهر رمضان، وقع الطلاق مع أوّل جزء منه، وكذا إذا قال: في أول شهر كذا، أو في غرّة شهر كذا، أو في أول غرة شهر كذا، فالطلاق في هذه المسائل يقع مع أول جزء من الهلال، والأصل المعتمد أن اسم الشهر إذا تحقق، فقد تحققت الصفة التي هي متعلق الطلاق، والطلاق ليس معلَّقاً بدوام الصفة، ولا بنجازها، فاقتضى ذلك الوقوع مع أول الاسم.
ومن دقيق الكلام في هذا أنه قد يظن الظان أن الوقت ظرفٌ للطلاق وشرط الطلاق الواقع فيه أن يحتوش بزمان سابق، وهذا تقدير محال، فالمعنيّ بالظرف الزماني انطباق فعلٍ على زمان، فأما اشتراط تقدم [زمان] (1) أو تأخّر، فلا.
9040 - وإذا قال: أنت طالق في يوم كذا، وقع الطلاق مع أول جزء من الفجر، وقال أبو حنيفة (2): يقف وقوع الطلاق على انتهاء ذلك اليوم بغروب الشمس، وهذا بناه على أصلٍ له في العبادات، وذلك أنه قال: "كل فعلٍ عُلِّق بوقتٍ موسّع، تعلّق بانتهاء ذلك الوقت" كمصيره إلى أن الصلاة تجب بآخر الوقت، وهذا جهل بموضوع البابين: أما الصلاة، فإن ربط وجوبها بآخر الوقت أخذاً من أن المؤخِّر لا يعصي، فهذا له وجهٌ على حال، وفي معارضته كلامُ أصحابنا. فأما مأخذ وقوع الطلاق المعلق، فمِن تَحقُّق الصفة، ولا وقوف بعد تحقق الصفة، وليس هذا مأخوذاً من وجوبٍ حتى ينظرَ الناظرُ في إثبات المعصية ونفيها.
9041 - وإذا قال: أنت طالق في آخر شهر رمضان، ففي المسألة وجهان ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنها تطلق في آخر جزء من آخر الشهر؛ فإن ذلك الجزء هو الآخر حقاً.
والوجه الثاني - أنها تطلق مع أول جزء من ليلة السادس عشر؛ فإنه إذا مضى النصف الأول عُدَّ ما بعده آخراً، وهذا أول الآخر. وقد ذكرنا أن الطلاق يقع كما (3) تحقق الاسم.
__________
(1) في الأصل: زماني.
(2) ر. فتح القدير: 3/ 376، حاشية ابن عابدين: 2/ 445، الفتاوى الهندية: 1/ 368.
(3) كما: أي عندما.

(14/110)


وإذا قال: أنت طالق في أول آخر الشهر، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنها تطلق في أول ليلة السادس عشر، فإنا أوضحنا أن النصف الأخير ينطلق عليه اسم الآخر، والجزء الأول من النصف الثاني أول الآخر، وهذا بناء على ما ذكرناه من أنه إذا قال: أنت طالق في آخر الشهر، يقع الطلاق في الجزء الأول من ليلة السادس عشر، وأولُ الاَخِر والآخرُ بمثابة، فإن الآخر، وإن كان مطلقاً، فنحن نكتفي بأوله.
هذا أحد الوجهين.
والوجه الثاني - أن الطلاق يقع كما (1) طلع الفجر من اليوم الأخير من الشهر، وهذا بناء على قولنا: إذا قال لامرأته: أنت طالق آخر الشهر تطلق مع الجزء الأخير، فإذا ضَمَّ إلى الآخر أوّلاً مضافاً إليه، وقال: أنت طالق في أول آخر الشهر، طلبنا أقرب أولٍ إلى الآخر، فوجدناه اليوم الأخير.
والمسألة محتملة حسنة.
9042 - ولو قال: أنت طالق في آخر أول الشهر، ففي المسألة أوجه ذكرها العراقيون وغيرهم: أحدها - أنها تطلّق مع آخر جزء من الليلة الأولى من الشهر؛ فإن هذا أقرب زمان يضاف فيه الآخر إلى الأول.
والوجه الثاني - أن الطلاق يقع مع آخر جزء من اليوم الأول، فنعتبر الليلة واليوم في الأولية، ثم نأخذ آخر هذا الزمان.
والوجه الثالث - أنا نحكم بوقوع الطلاق مع آخر جزء من اليوم الخامس عشر، فإن النصف الأول يعدّ أول الشهر، وآخر هذا الأول ما ذكرناه.
9043 - ولو قال وهو في بياض نهار: إذا مضى اليوم فأنت طالق، طلقت بغروب شمس ذلك اليوم، وإن لم يبق من اليوم إلا لحظة، لأنه عَرَّف اليوم، فاقتضى التعريف ما ذكرناه.
ولو قال والحالة هذه: إذا مضى يومٌ، فأنت طالق، فلا يقع الطلاق حتى ينتهي في الغد إلى الوقت الذي عقد اليمين فيه، لأنه نكّر اليوم، فالاسم المنكر
__________
(1) أي: عندما طلع الفجر.

(14/111)


يقتضي مسمّى كاملاً، وسبيلُ [التكميل] (1) ما ذكرناه.
ولو قال بالليل: إذا مضى يومٌ، فأنت طالق، فيقع الطلاق بغروب شمس الغد.
ثم لا يخفى أن الطلاق يقع مع الغروب، وهو أول جزء من الليلة المستقبلة، فلا يقع الطلاق مع آخر جزء من النهار؛ فإن الطلاق معلق بمضي النهار.
9044 - ولو قال: أنت طالق في سَلْخ شهر رمضان، ففي ذلك أوجه: قال العراقيون: يقع الطلاق مع آخر جزء من الشهر؛ إذ به الانسلاخ.
وقال قائلون: يقع الطلاق كما (2) يطلع الفجر من اليوم الأخير، وهذا ما ذكره القاضي.
ويحتمل أن يقال: يقع الطلاق مع أول جزء من اليوم الذي يبقى معه ثلاثة أيام إلى آخر الشهر؛ فإن السلخ يطلق على الثلاثة من آخر الشهر، كما أن الغُرة تطلق على الثلاثة من أول الشهر.
وذكر صاحب التقريب وجهاً آخر - أنه إذا مضى من الشهر جزء، وقع الطلاق؛ فإن هذا أول الانسلاخ. وهذا على نهاية السقوط وليس مما يعتدّ به.
ولو قال: أنت طالق عند انسلاخ شهر رمضان، لم يتجه فيه إلا القطع بأنه يقع مع آخر جزء من الشهر، ووجهه لائح.
9045 - ووصل الأصحاب بهذا أنه إذا قال لامرأته: إذا رأيت الهلال، فأنت طالق، فإذا رأى الهلالَ غيرها، وهي لم تره، فالذي ذكره الأصحاب أن الطلاق يقع؛ فإن الرؤية تُطلَق والمراد بها العلم، ولو قال: أردت بالرؤية العيان، فلا شك أن هذا مقبول باطناً، إن كان صادقاً بينه وبين الله تعالى، وهل يقبل ذلك ظاهراً؟ فعلى وجهين: أحدهما - أنه لا يقبل؛ لأن الرؤية المطلقة إذا أضيفت إلى الأهلّة عُني بها في الظاهر وقوع الهلال وثبوته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته" وأراد العلم به.
__________
(1) في الأصل: التمليك. وهو تصحيف طريف.
(2) كما: أي عندما.

(14/112)


والوجه الثاني - أنه يُقبل؛ فإن إرادة العيان بالرؤية ليس من الأمور البعيدة.
ولو قال: إذا رأيت فلاناً، فأنت طالق وكان غائباً، فقدم، فلم تره، فالظاهر حمل ذلك على العيان، وذلك أنا قلنا ما قلنا في الهلال لجريان الاعتياد فيه، وللألفاظ مجاري مختلفة باختلاف المحالّ؛ فإن الذي لم ير الهلال قد يقول -إذا غاب عن بلده -: ورأينا الهلال في الليلة الفلانية، ولا يقول: رأيت فلاناً وما رآه، والسبب فيه أن رؤية الأشخاص فيها أغراض، وليس في رؤية الهلال غرض، [وينبغي] (1) للمحصل أن يعتقد أن مجاري العبارات التي يستعملها أرباب العقول لا تختلف إلا لأغراض مختلفة قد يظهر مُدركها، وقد يخفى.
وقال القفال: إذا ذكر الرؤية بالفارسية وأضافها إلى الهلال، فهي العيان، لا العلم، وهذا إنما قاله؛ من جهة أن الرؤية تطلق في العربية والمراد بها العلم، كما قال سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان:45] وهذا الذي ذكره القفال فرقٌ متخيل بين اللغتين، لكن فيه خلل ناجع، وهو أنا لا ننكر أن المعنى الأظهر للرؤية العيانُ إذا لم يُعدَّ إلى مفعولين، فإذا قلت رأيت زيداً، كان ظاهره عاينت زيداً، وإذا عدّيته إلى مفعولين كان بمعنى الظن كقولك: رأيت زيداً عالماً، فإذا قال لامرأته: إذا رأيت الهلال، كان هذا على معنى العيان في اللغة، وإنما حملنا ظاهره على العلم للعُرف واكتفاء الناس فيه برؤية الغير، وهذا يتحقق في لغة العجم، فلا فرق إذاً بين اللغتين.
فصل
قال: "ولو قال إذا مضت سنة، فأنت طالق، وقد مضى من الهلال
خمسٌ ... الفصل" (2).
9046 - إذا قال لامرأته: إذا مضت السنة، فأنت طالق، انصرفت إلى السنة العربية المفتتحة بالمحرم، فإذا كان في بقيةٍ من السنة، فانقضت، وقع الطلاق وإن
__________
(1) في الأصل: "ولا ينبغي".
(2) ر. المختصر: 4/ 78.

(14/113)


كانت تلك البقية لحظة، كما ذكرناه في اليوم المعرّف.
ولو قال: إذا مضت سنة فأنت طالق، فلفظه يقتضي سنة كاملة؛ لما ذكرناه من أن الاسم المنكّر محمول على المسمى الكامل، والسنة الكاملة اثنا عشر شهراً بالأهلة، ولا معتبر بالشهور العجمية، وفي التواريخ شهور مختلفة يعرفها المقوّمون وفيها كبائس، ولا اعتبار بشيء منها في الآجال المطلقة في عقود الإسلام، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] ثم عمّ في عرف أهل الدين إطلاق السنة والأشهر على هذا المراد، فانضمّ إلى التعبد عمومُ العرف، فالسنة الكاملة اثنا عشر شهراً، فإن لم ينكسر الشهر الأول ومضت اثنا عشر شهراً بالأهلة، طُلِّقت، ولا يتصور ألا ينكسر الشهر الأول إلا بأن يعلق الطلاق على وجه يتأتى هذا الغرض فيه، وهو أن يقول: إذا مضت سنة من أول رمضان، فأنت طالق؛ فيتأتى اعتبار الأشهر بالأهلة.
9047 - فأما إذا أنشأ وقال: إذا مضت سنة فأنت طالق، فقد يعسر تصوير عدم انكسار الشهر الأول؛ فإن قوله يقع في شهرٍ، والتنبيهُ في هذا كافٍ.
فإذا انكسر الشهر الأول، فهذا الشهر المنكسر لا بد وأن يكمل ثلاثين يوماً، سواء خرج ذلك الشهر ناقصاً، أو كاملاً.
ثم قال الأئمة رضي الله عنهم: نعدّ بعد مضي [كسر هذا] (1) الشهر الأول أحدَ عشرَ شهراً بالأهلة، ثم نكمل ذلك الشهرَ الذي انكسر من الشهر الثالث عشر، حتى إذا كان مضى من الشهر الذي انكسر خمسٌ، ثم عددنا بعد هذا الشهر المنكسر أحد عشر بالأهلة من بين ناقص وكامل، فننظر الآن في حساب الشهر الأول المنكسر، فإن كان كمل ذلك الشهر ثلاثين، فقد مضى خمسة وعشرون، فنحسب من هذا الشهر خمسة أيام، فإن كان ذلك الشهر ناقصاً، فنحسب من ذلك الشهر أربعة وعشرين، ونحسب من الشهر الثالث عشر ستة أيام.
__________
(1) في الأصل: كلمة غير مقروءة.

(14/114)


هذا معنى استكمال ذلك الشهر ثلاثين يوماً. وقال أبو حنيفة (1): مهما (2) انكسر السْهر الأول، انكسر سائر الشهور، فإذا وجب اعتبار التكميل في الشهر الأول، وجب اعتبار التكميل في كل شهر، وقد قال بهذا بعض أصحابنا.
ووجهه أنه إذا انكسر الشهر الأول، فالوجه أن يكمل من الذي يليه؛ فإنّ السنة لا تنقطع أيامها، فيستحيل أن نحتسب منها شهوراً والشهر الأول معلق، لم يمض بعد، فإذا كان يجب أن يكمل الشهر الأول، فينكسر الثاني بالأول، ثم ينكسر الثالث بالثاني وهكذا إلى نجاز السنة، وهذا المذهب مطرود في العِدد والآجال الشرعية والأيْمان، وهو على ما فيه من الإخالة بعيدٌ؛ فإن اعتبار الأهلّة أصل غير منكر، وخروج اعتبار الأهلة في أحد عشر [شهراً] (3) محال، وإذا كان كذلك، فلا وجه إلا ما ذكرناه أولاً.
فصل
قال: "ولو قال لها: أنت طالق الشهرَ الماضي ... إلى آخره" (4).
9048 - مضمون الفصل الكلام فيه إذا قال لامرأته: أنت طالق الشهر الماضي، والكلام في ذلك يقع على وجوه: أحدها - أن يُطلِق هذا اللفظَ، ولا يتعرض لقصد ونيةٍ، فالحكم أنه يقع الطلاق في الحال، ويلغو قوله الشهر الماضي. وسبب [ذلك] (5) أن قوله: "أنت طالق" صريح في التنجيز، وقوله: "الشهر الماضي" لفظ ملتبسٌ متردّد بين جهات، كما سنذكرها، فإذا لم يقصد بلفظه شيئاً، سقط أثر المجمل منه، وعمل اللفظ المستقل. ولو أطلق اللفظ، فلم نتمكن من مراجعته، حتى مات أو جنّ، فيحكم بالوقوع في الحال؛ بناء على ما ذكرناه من استقلال اللفظ باقتضاء التنجيز.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 380 مسألة 885.
(2) مهما: واضح أنها هنا بمعنى إذا.
(3) زيادة من المحقق.
(4) ر. المختصر: 4/ 78.
(5) زيادة اقتضاها السياق.

(14/115)


9049 - ولو قال: أردت بقولي: "أنت طالق الشهر الماضي" أن يقع في الحال الطلاق، ولكن يترادّ إلى الشهر الماضي، ويستند إليه، ويتنجز في الحال وينعكس إلى ما مضى، فهذا الذي قاله كلام لا أثر له، والطلاق يتنجز في الحال، ولا ينعكس على ما تقدم؛ فإن التصرف في الزمان الماضي بأمرٍ ينشأ في الحال مستحيل، وقضايا (1) الألفاظ لا تتقدم عليها قط.
وحكى بعض الأئمة عن الربيع أنه قال: لا يقع الطلاق؛ فإنه قصد طلاقاً [يعتمد] (2) الانعكاس، وفي لفظه إشعارٌ به، والطلاق على هذا الوجه مستحيل، والمستحيل لا يقع، وقال الأئمة: هذا من تصرف الربيع وتخريجه، وتصرّفُه إذا لم يوافق قاعدة المذهب مردود، والمقبول منه منقولُه لا مقوله، واستدل الربيع على ما قال بان قال: إذا علّق الرجل الطلاق بمستحيل، لم يقع، مثل أن يقول: لامرأته إن طرْتِ أو صعدتِ السماء، فأنت طالق، فلا يقع الطلاق.
ومن أصحابنا من قال في مناكرة الربيع: إن قال: "إن طرتِ، فأنت طالق"، يقع الطلاق، وفي الوصف والتعليق تصرفٌ للأصحاب نذكره، ثم نوضح الصحيح فيه. قالوا: إذا وصف الطلاق بصفة مستحيلة لا يُنظم في الجدّ مثلُها، لغت الصفة ويقع الطلاق، مثل أن يقول: "أنت طالق طلاقاً لا يقع عليك"، فقد وصف الطلاق بصفة مستحيلة، وهذه الصفة لا يتخيلها ذو عقلٍ وتحصيل، فقيل: الطلاق نافذ وحظّ الهزل منه مردود، وهو بمثابة ما لو قال: "أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً" فالثلاث واقعة والاستثناء المستغرق مردود، وإن وصف المطلِّق الطلاقَ بصفة مستحيلة حكماً، ولكن لا يبعد أن يتخيلها متخيل، وذلك كقول القائل: أنت طالق الشهر الماضي، فإذا أراد طلاقاً شابَه الانتجازُ في الحال، والانعكاس على ما مضى، فالطلاق واقع، والصفة باطلة؛ بناء على حكم الشرع، بإبطال تلك الصفة.
وقال الربيع: لا يقع الطلاق؛ فإن الذي أوقعه من الطلاق لا يتصور وقوعه على النعت الذي ذكره، وهو لم يوقع غيره.
__________
(1) وقضايا الألفاظ: بمعنى مقتضياتها.
(2) في الأصل: يعتدّ.

(14/116)


وهذا مردود عليه؛ فإن اللفظ صريح في اقتضاء التنجيز، وهو لم ينف التنجيز في الحال، ولكنه ذكر وراء التنجيز أمراً محالاً، فوجب الحكم بالتنجيز أخذاً باللفظ والقصد، ووجب إلغاء الانعكاس؛ فإنه مستحيل، ثم الربيع جعل الوصف كالشرط، وقال: إذا ذكر الانعكاس، فكأنه قال: "إن انعكس الطلاق على الزمان الماضي، فأنت طالق الآن". وهذا كلام مستكره متكلَّف.
9050 - ثم نعود بعده إلى تعليق الطلاق بالمستحيلات: فإذا قال: "إن صعدت السماء، أو إن طرتِ، أو إن أحييت ميتاً، فأنت طالق" فحاصل ما ذكره الأصحاب في هذه الفنون ثلاثة أوجه: أحدها - أن الطلاق يقع بقوله: أنت طالق ويلغو التعليق المحال؛ فإن التعليق إنما يثبت إذا أمكن، وجرى شرطاً يرتقب حصوله لتعلق المشروط به، فإذا لم يكن كذلك، كان خارجاً عن حقيقة التعليق، ويلزم إبطاله لخروجه عن وضعه، وإذا بطل، بقي التطليق من غير تعليق.
والوجه الثاني - وهو الذي قطع به معظم الأئمة أن الطلاق لا يقع؛ فإنه لم ينجزه فيتنجز، بل علقه، ثم إن كان التعليق في ممكن، فالوجه أن ينتظر [و] (1) إذا كان التعليق في غير ممكن، فغرض الزوج أن يمتنع وقوع الطلاق حسب امتناع الصفة التي [ذكرها] (2).
والوجه الثالث - أنه إذا قال: إن [طرتِ] (3) أو صعدت، لم يقع الطلاق، لأن الربّ تعالى موصوف بالاقتدار على إقدارها على الطيران، والترقي في السماء، فهو من الممكنات والمقدورات، فإذا قال: "إن أحييت ميتاً"، يقع الطلاق؛ لأن هذا من المستحيلات؛ لأن إحياء الموتى لا يتصف بالاقتدار عليها إلا الإله الأزليّ، فيتحقق التحاق هذا بالمستحيلات، فلا يبعد إلغاء التعليق فيه، هذا ما ذكره الأصحاب.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: ذكرناها.
(3) في الأصل: طردت.

(14/117)


9051 - والوجه عندنا القطعُ بمخالفة الربيع في الصفة، والقطع بأن التعليق في المستحيل وغير المستحيل يمنع انتجاز الطلاق؛ فإنا لو نجّزناه، لأوقعنا طلاقاً لم يوقعه، وليس يخرج على الانتظام تعليق الطلاق بما لا يكون على قصد أن الطلاق لا يقع، كما أن الصفة المذكورة لا تكون، وهذا كقوله تعالى: {حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف:40] فاقتضى ظاهر الخطاب من جهة الصيغة تعليقَ خروج الكفار من النار على أن يلج الجمل على هيئته في سم الخياط على ضيقه، وهذا مستحيل، والمقصود أنهم لا يخرجون أبداً، كذلك القول في تعليق الطلاق بالمحال.
9052 - ولو قال: أردت بقولي: "أنت طالق الشهرَ الماضي" أن الطلاق يصادف في وقوعه الشهرَ الماضي، [وإن] (1) كان لفظ الإيقاع حاصلاً الآن. وهذا يتميز عن الصورة المتقدمة بشيءٍ، وهو أنه في الصورة المتقدمة قصد التنجيز في الحال مع العكس على ما مضى، فكان المذهب الحكم بالتنجيز، وإبطال قصد العكس، وهو في هذه الصورة يبغي ألا ينجّز في الحال طلاقاً، وإنما يعكسه على ما مضى ويقدّر وقوعه فيما سبق، ثم هو يسترسل على الزمان استرسال الطلاق، فإذا أراد ذلك، فلفظه غير بعيد عن الإشعار بهذا. وقد يتخيل بعض الناس إمكان ذلك، فيخرج ما أبداه عن الهزل الذي لا يخفى مُدركه، ففي هذه الصورة وجهان: أحدهما - أن الطلاق لا يقع؛ لأنه لم يقصد تنجيزه، وقصْدُ الإيقاع على ما رَامَ غيرُ ممكن.
والوجه الثاني - أن الطلاق يقع؛ فإنه ليس يُنكَر انبساط الطلاق على الزمان الذي أنشأ اللفظ فيه، فهذا الزمان من مضمّنات قصده في الطلاق، فلينتجز في الوقت وليلغُ ما يزيد على ذلك. والشافعي ذكر في هذه الصورة لفظةً محتملة مترددة، فقال: "إيقاع الطلاق الآن في شهرٍ مضى محال" (2) فمن أصحابنا من قال: لا يقع؛ لأنّ الشافعي أحاله، والمحال لا يقع، ومنهم من قال: يقع؛ لأنه نجَّز الطلاق، والإحالة في الصفة مُخْرَجة من البَيْن، فيجعل كأنه أطلق، ولم يصفه.
__________
(1) في الأصل: فإن.
(2) ر. المختصر: 4/ 78.

(14/118)


وكان شيخنا يقول: إذا قال: أردت إيقاع الطلاق في الحال ووقوعه في الشهر الماضي، فيقع في الحال، ولو قال: أردت إسنادَ الإيقاع والوقوعَ إلى الشهر الماضي، ففيه وجهان مشهوران، وفي لفظه تعقيد.
والأولى في التفصيل ما ذكرناه، فإن أراد الإيقاع في الحال على شرط الانعكاس، فهذه صورة الرّبيع، وإن أراد أن يسند (1) وقوع الطلاق بإيقاعه ولفظه المسموع منه في الحال، فهذه صورة الوجهين، فأما إسناد الإيقاع والوقوع إلى ما مضى، فكلامٌ مضطرب، وقصد شيخنا ما ذكرناه، وإنما التعقيد راجع إلى العبارة.
9053 - ومن تمام الكلام في المسألة أنه إذا قال: أردت بقولي: "أنتِ طالق الشهرَ الماضي" أنك قد طلقك زوج في الشهر الماضي، فأردت الإخبار عنه، قال الأصحاب: إن أقام بينة أن زوجاً طلقها في الشهر الماضي، قُبل منه ما يدعيه في معنى لفظه، ثمّ وإن اتهم مع ذلك، حُلِّف، وإن لم يمكنه أن يُثبت أن زوجاً طلقها في الشهر الماضي، فلا يقبل ذلك منه، ويحكم بانتجاز الطلاق. هكذا قال الأصحاب.
وفي القلب من هذا شيء؛ فإن اللفظ إذا كان محتملاً، وهو صاحب اللفظ والإرادة، فإذا فسر لفظَه بممكنٍ، فلا يبعد أن يقبل تفسيره، ثم يكذَّب في إخباره، وإذا كنا نجعل المسألة على وجهين فيه إذا فسر لفظه بمحال، وهو إسناد [الوقوع] (2) إلى ما مضى، حتى نقول في وجهٍ: لا يقع الطلاق، فلا يبعد أن ينزل لفظه إذا فسره بالإقرار منزلة ما لو ابتدأ، فقال: قد طلّقكِ في الشهر الماضي زوجٌ غيري، وهذا لا يوجب وقوع الطلاق منه، وإن كان كاذباً؛ فإذاً هذا متجهٌ على ما ذكرناه، ولو كان قوله لا يحتمل الإقرار، لَما جاز الحملُ عليه، وإن أمكنه أن يثبت بالبينة طلاقاً من زوج.
ولو قال: أردت بقولي: "أنت طالق الشهر الماضي" أني طلقتك في نكاحٍ في الشهر الماضي، ثم جددت عليك [نكاحاً] (3) بعد البينونة، فهذا بمثابة ما لو فسر
__________
(1) أن يسند وقوع الطلاق: المعنى أن يوقعه في شهرٍ مضى، أي واقعاً من ذلك الوقت.
(2) في الأصل: الوقاع.
(3) في الأصل: نكاحها.

(14/119)


لفظه بطلاق صدر من زوجٍ غيره، والتفصيل فيه ما مضى.
9054 - ولو قال الزوج: أردت بهذا أني طلقتك في الشهر الماضي طلقة رجعية، وأنتِ الآن في عدّة الرّجعة، فالذي ذكره المحققون أن هذا مقبول منه؛ فإن لفظه محتمل، وهو متضمنٌ ثبوتَ الطلاق في هذا النكاحِ إقراراً به، وإذا تردد لفظه بين الإقرار وبين الإنشاء والنكاحُ متّحد، فالوجه تصديقه من غير أن يُحْوَج إلى بيّنة، وغاية الأمر أن يُحَلَّف.
ونقل بعض النقلة عن القاضي أنه قال: إن صدّقته المرأة، قُبل ذلك منه، وحُمل قوله على الإقرار بالطلاق، وإن كذبته، فالقول قولها؛ لأن الظاهر منه إيقاع الطلاق في الحال، فنحكم إذاً بوقوع طلاقين: أحدهما - إنشاء، والآخر - إقرار منه، وهذا كلام مضطرب، لا يجوز نسبةُ مثله إلى القاضي؛ فإنا إن قلنا: لا نقبل تفسيره بالإقرار، فقد يكون لهذا وجه؛ فإن صيغة الإيقاع أغلب، والدليل عليه أنه لو قال: "أنت طالق"، فهذا في ظاهره صفة، فلو قال: أردتُ أني طلقتك؛ فأنت الآن بحكم التطليق الماضي طالق، فهذا غير بعيد عن صيغة اللفظ، ولكنّه لا يقبل.
فلو قال قائل: لا يقبل حَمْلُ قوله: أنت طالقٌ الشهرَ الماضي على الإقرار أصلاً، لكان كلاماً، ويلزم منه ألا يُقبل إقرارُه إذا فسره بتطليق زوج غيره أو بتطليقه في نكاح آخر، وإن أقام بينة عليه؛ فإذ قُبل ذلك على الشرائط المقدّمة وقال هذا الناقل في هذه المسألة: لو صدَّقَتْه قُبل، ولا أثر لتصديقها؛ فإن الطلاق يتعلق بحق الله، فلو قال لامرأته: أنت طالق، وزعم أنه أراد طلاقها عن وِثاق، لم يقبل منه ظاهراً، ولو صدَّقته المرأة، فلا تعويل على تصديقها، فلا وجه لهذا التفصيل.
وينبغي أن يقال: تفسير الرجل قولَه بالإقرار، ويُحَلّف، ويُفْصل بين هذه الصورة وبين ما إذا حُمل لفظه على الطلاق من [غيره] (1)، أو منه في نكاح آخر؛ لأن هذا إنكار منه للطلاق في هذا النكاح، فإن لم يُقْبل حَمْلُه اللفظَ على الإقرار، وجب ألا
__________
(1) في الأصل: من غير (بدون هاء الضمير).

(14/120)


يؤثر تصديقُها، ووجب ألا يقبل [حمل كلامه على طلاق غيره] (1)، وعلى طلاقه في نكاح آخر.
9055 - فإن قيل: "لو قال الزوج: إذا مات فلان، فأنت طالق قبله بشهرٍ، فمات
قبل مُضيّ الشهر"، فالطلاق لا يقع في هذه الصورة، فهلا غلبتم الإيقاع في ظاهر الحال، كما لو قال: أنت طالق الشهرَ الماضي؟ قلنا: علق الطلاق بما لا يستحيل أن يُتصور: أن يبقى ذلك الشخص أشهراً، وهو الظاهر الذي عليه بناء الأمر، فإن اتفق استئخار موته، وقع الطلاق قبل موته بشهرٍ، وإن مات قبل مضيّ الشهر، فلفظه صريح في ترتيب الطلاق على هذا النسق، فإذا جرّ محالاً، لم نوقع الطلاق، وهذا قد يقوّي مذهب الربيع في الحكم بأن الطلاق لا يقع، إذا أراد إيقاع طلاقٍ في الحال على أن ينبسط منعكساً على ما مضى.
9056 - ولو قال لامرأته: أنت طالق غَدَ أمس، أو أمس غدٍ: على الإضافة في الموضعين، فيقع الطلاق في اليوم؛ فإن اليوم غدُ أمسٍ، وأمسُ غدٍ.
ولو قال: أنت طالق غداً أمسِ من غير إضافةٍ، وقع الطلاق غداً، ولغا ذكر أمسِ، وكذلك لو قال: أنت طالق أمسِ غداً، لغا ذكر أمس، وطلقت غداً.
وهذا فيه نظر عندنا؛ فإنه إذا قال: أنت طالقٌ أمس، فهذا بمثابة قوله: أنت طالق الشهرَ الماضي، فلو أطلق هذا اللفظ، لانتجز الطلاق في الحال، فذكرُه غداً مع ذكره أمس لا يغيّر هذا المعنى، ولا يؤخر الطلاق [في] (2) الحال. وهذا بيّن إذا تأملته.
9057 - وممّا نذكره متصلاً بهذا الفصل أنه إذا قال: إذا قدم فلان، فأنت طالق قبله بشهر، فقدم قبل مضي الشهر، لم يقع الطلاق؛ فإنا لو قضينا بوقوعه، لقدمناه على القدوم بشهر، ثم هذا يتضمن أن يتقدم وقوع الطلاق على لفظ المعلِّق وهذا محال.
__________
(1) في الأصل: حمله على كلامه على طلاق غيره.
(2) في الأصل: من.

(14/121)


وكذلك إذا قال: إن ضربتك، فأنت طالق قبله بشهر، فإذا ضربها قبل مضي شهرٍ، لم يقع الطلاق.
وإذا علق بالقدوم والضرب على ما صوّرنا، فقَدِم الشخص المذكور بعد شهرٍ، ووقع الضرب بعد شهرٍ، قضينا بوقوع الطلاق متقدماً على القدوم والضّرب بشهر، على نحو ما ذكره المعلّق.
وقال أبو حنيفة (1): إذا ذكر القدومَ أو غيرَه، ثم أسند الطلاق إلى شهر قبل الصفة المذكورة، فلا حكم للزمان المذكور، والطلاق يقع عند القدوم والضّرب، سواء تخلل شهر أو لم يتخلل، ووافق أنه إذا قال: إذا مَات فلان، فأنت طالق قبله بشهرٍ، فمات بعد شهرٍ. أن الطلاق يقع مستنداً (2)، ولو قال: إن ضربتك، فأنت طالق قبل ضربي بشهر، ثم ضربها قبل شهر، فقد ذكر أن الطلاق لا يقع، ثم تنحلّ اليمين، بهذا الضرب حتى لو ضرب بعد ذلك بشهرٍ أو أشهر، لم يقع الطلاق أيضاً؛ فإن اليمين انحلت بالضرب الأوّل، ولم يمكن وقوع الطلاق (3).
ولو قال قائل: الضرب المعقود عليه هو ضرب يتصور أن يقع الطلاق قبله بشهر، فموجب هذا ألا تنحل اليمين بالضرب الأول، لما كان هذا بعيداً؛ تخريجاً على أن صفة اليمين إذا وجدت في حالة البينونة لا تنحل اليمين، قد ذكرنا هذا في أول الخلع محكيّاً عن الإصطخري، وسنعود إلى هذه الأجناس في فروع الطلاق، إن شاء الله تعالى.
فصل
قال: "ولو قال لها: أنت طالق إذا طلقتك ... إلى آخره" (4).
9058 - هذا من أصول الكتاب، وهو كثير التدوار في المسائل، ومضمونه الكلامُ
في (إن)، و (إذا)، و (متى)، و [متى ما] (5) إذا اتصلت بالإثبات، أو اتصلت
__________
(1) ر. الفتاوى الهندية: 1/ 368.
(2) يقع مستنداً: أي يقع منذ الوقت الذي حدده، فيقع قبل القدوم والضرب بشهرٍ كما علقه.
(3) كل هذا حكاية قول أبي حنيفة رضي الله عنه.
(4) ر. المختصر: 4/ 78.
(5) في الأصل: (وميتما) وهو تحريف واضح.

(14/122)


بالنفي، وفيه بيان تعليق الطلاق على التطليق، وعلى وقوع الطلاق، والفرق بين الممسوسة وغير الممسوسة.
فإذا قال لامرأته: "إن طلقتك، فأنت طالق" أوقال: "إذا طلقتك، فأنت طالق، أو متى طلقتك، أو [متى ما] (1) طلقتك"، فإن كانت مدخولاً بها فطلقها، طلقت بالتنجيز، وطلقت بالتعليق، فتلحقها طلقتان. ثم هذه الألفاظ لا تقتضي فوراً، فمهما (2) طلقها، لحقها [طلاقان] (3): [طلاقٌ] (4) بحكم التعليق الماضي، وانتجز ما نجزه.
ولو قال: (إن) طلقتك أو (إذا) أو (متى)، أو (متى ما) طلقتك، فأنت طالق. [فهذه] (5) الألفاظ لا تقتضي قط بداراً، وكذلك إذا أضيفت إلى دخول الدار وغيرها من الصفات.
وإن أضيفت إلى ما يقتضي عوضاً [، فإن] (6) و (إذا) يحملان على الفور، فإذا قال: (إن) أعطيتني ألفاً [أو إذا] (7) أعطيتني ألفاً، فهذا يقتضي الفور، كما قدّمناه في أصول الخلع.
فأما (متى) و (متى ما) و (مهما)، فإنها لا تقتضي الفور، وإن قرنت بطلب العوض.
هذا أصل المذهب، وقد مهدناه في الخلع.
والفقهُ المتبع في هذه الأبواب أنّ (متى)، و (متى ما) (8)، و (مهما) بمثابة
__________
(1) في الأصل: (وميتما) وهو تحريف واضح.
(2) مهما بمعنى إذا.
(3) في الأصل: طلاقاً (بالنصب).
(4) زيادة من المحقق.
(5) في الأصل: وهذه.
(6) زيادة اقتضاها السياق.
(7) في الأصل: وإذا.
(8) في الأصل وميتما: كذا يرسم (متى ما). ولعله أراد وصل (متى) مع (ما)، فرسم الألف =

(14/123)


قولك أيّ وقتٍ، وهذا تنصيص على إدخال الأزمنة كلها، فإذا قرنت بالعوض، فالنص لا يحال (1)، والخلع يقبل التأخير والتعجيل.
وأما (إن) و (إذا)، فليسا ناصَّين على الأوقات وإدخالِ جميعِها تنصيصاً، [فإذا] (2) اقترن بهما قصد التعويض، انتصب التعويض قرينةً في تخصيص (إن) و (إذا) بالزمان المتصل، هذا إذا كان في الكلام قصد تعويض.
فإن لم يجر ذكر العوض، (فإنْ) و (إذا) بمثابة (متى) و (متى ما) في التأخير، فإذا قال: إن دخلتِ الدار، فأنت طالق، لم يقتض ذلك فوراً في الدخول، وكذلك إذا قال: (إذا) دخلتِ الدار و (مهما) (3) بمثابة ما لو قال: (متى) أو (متى ما) دخلتِ الدارَ فأنت طالق.
والمشيئة في الصفات مستثناة، فإذا قال: أنت طالق إن شئت، اقتضى ذلك فوراً، بخلاف قوله: إن دخلت، وإن كلمت زيداً، وما جرى هذا المجرى، والسبب فيه أن تفويض الطلاق إلى المشيئة يتضمن تمليكها نفسها، والتمليك يقتضي قبولاً أو ما في معنى القبول متصلاً بالتمليك، وسنذكر مسائل المشيئة، إن شاء الله عز وجل.
فانتظم من مجموع ما ذكرناه أنّ (إن) و (إذا) محمولان على الفور عند ذكر العوض، و (متى) و (متى ما) يجريان على التأخير، و (إن) و (ومتى) و (متى ما) في الصفات كلها على التأخير إلا في المشيئة.
__________
= المقصورة (ياءً)، ثم جاء الخطأ في وضع النقط فقدم التحتية، وأخر الفوقية، وكأنه كان يريدها هكذا (متيما).
(1) كذا في الأصل تماماً (رسماً ونقطاً) والمعنى واضح على أية حال، وهو أن (متى) و (متى ما) و (مهما) إذا قرنت بالعوض، فلا تقتضي الفور، فإنها تنبسط على الأزمنة كلها، بخلاف (إن) و (إذا).
(3) في الأصل: وإذا.
(4) هنا ينص الإمام على أن مهما فيها معنى الظرفية، وقد علمت قريباً -في بعض تعليقاتنا- ما قاله النحاة في هذا الموضوع.

(14/124)


9059 - ولو علق الطلاق بنفيٍ، نظر في هذه الأدوات، فإن قال: إن لم أطلقك (1) إن لم أضربك، إن لم تدخلي الدار، أو ما جرى مجرى هذه الصفات، (فإنْ) في جميعها لا تقتضي فوراً، كما لو ربط بالإثبات. فقوله: إن [لم تدخلي] (2) كقوله: إن دخلت في أن لا فور فيهما جميعاًً.
وإذا قال: إن لم أطلقك، فأنتِ طالق، فالأمر على التراخي والتمادي ما بقي الزوجان، وأمكن التطليق وتوقعه، فلو ماتت أيسنا حينئذ من التطليق، فنحكم بوقوع الطلاق قُبَيْل مَوتِها، فإنه كان قال: إن لم أطلقك، فأنت طالق. وقد تحقق أنه لم يطلقها.
وإن مات الزوج، فقد تحقق اليأس بموته أيضاًً، فنتبين وقوعَ الطلاق قبيل موته، ولو جن الزوج، فلا يأس من التطليق، بل نتوقع الإفاقة، فلو اتصل الجنون بموت الزوج، فنتبين وقوعَ الطلاق قبيل الجنون، فإنا تحققنا بالأَخرة أن الطلاق تعذّر من وقت الجنون.
ولو قال: إن لم أطلقك، فأنت طالق، ثم بانت عنه بفسخٍ، وجدّد عليها نكاحاً، ففي عَوْد الحِنث قولان: فإن حكمنا بأن الحنث يعود، فكأنها لم تَبِنْ، ويعود استمرار توقع التطليق على الترتيب الذي ذكرناه.
وإن قلنا: الحِنث لا يعود، فهذا موقفٌ يجب التوقف عنده للوقوف على ما فيه،
فإذا قال: إن لم أضربك، فأنت طالق، ثم بانت عنه بطلاق أو فسخٍ، فالضرب بعدُ غير مأيوس -وإن بانت عنه- فلو ضربها بعد البينونة أو بعد نكاحٍ، فالطلاق المعلق بعدم الضرب لا يتوقع له وقوع، فإنه قال: إن لم أضربك، [فقد] (3) ضربها، ولو لم يضربها في النكاح الأول، فبانت، وماتت أو نكحها، وماتت في النكاح الثاني، فالطلاق المعلّق في النكاح الأول لا يقع في النكاح الثاني؛ فإنا نفرّع على منع العَوْد،
__________
(1) الكلام هنا جارٍ على حذف حرف العطف، وهو جائز صحيح، والمعنى: إن لم أطلقك، أو إن لم أضربك، أو إن لم تدخلي الدار.
(2) في الأصل: إن تدخلي (بدون لم) وهو لا يستقيم مع السياق.
(3) في الأصل: وقد.

(14/125)


وقد تحقق اليأس من الضرب، وعجزنا عن إيقاع الطلاق في النكاح الثاني.
9060 - وإن صوّرنا في البائنة موتها من غير تجديد نكاح، فهذا يُغني عن التفريع على عود الحنث، فنقول: إذا تحقق اليأس من الضرب آخراً، وعسر الحكم بوقوع الطلاق قبيل موتها؛ فإنها بائنة، أو منكوحة نكاحاً جديداً لا يقع فيه الطلاق المعلق في النكاح الأول؛ فإذا كان كذلك، فهل نتبين أنها طلقت في النكاح الأول قبيل البينونة؟ هذا موضع النظر.
والوجه ألا نحكم بوقوع الطلاق؛ فإنا إنما نحكم بوقوع الطلاق عند تعليق الطلاق بالنفي متى تحقق اليأس، فوقْتُ وقوع الطلاق يتقدم على اليأس بلحظة، وقد صادفت هذه اللحظة بينونةً، أو نكاحاً جديداً، ولو ذهب ذاهب إلى ردّ الطلاق إلى النكاح الأول ليأسٍ بعده، استرسل هذا الكلام إلى أصل، لم يصر إليه أحد من الأصحاب، وهو أن نقول: إذا تحقق اليأس والنكاح واحد، فنتبيّن عند اليأس وقوع الطلاق من وقت اللفظ.
وهذا من دقيق الفقه، فتأمّلوه ترشدوا.
ولم يصر أحد من الأصحاب إلى إسناد الطلاق إلى وقت اللفظ إذا تحقق اليأس، وهذا محتمل؛ من جهة أن المذهب الأصح أن المستطيع المستجمع لأسباب الاستمكان إذا لم يحج وقد تمادت سنون في الاستطاعة، فنحكم بأنه يموت عاصياً، وفي الأصحاب من يبسط المعصية على أول وقت الاستطاعة، ومنهم من يحصر التعصية في السنة الأخيرة، فليتنبه الناظر لما يُنَبّه له.
ولم نقل هذا ليكون وجهاً؛ فإن الأصحاب مجمعون على أن الطلاق لا يستند إلى وقت اللفظ، والزوج متسلط على الوطء إجماعاً، وإن كان بيده أن يضرب ويخلّص نفسه من هذا التوقع.
9061 - ونعود بعد ذلك إلى ما كنا فيه، فنقول: إذا قال لامرأته: "إن لم أطلقك، فأنت طالق"، ثم انفسخ النكاح بسببٍ، وماتت على البينونة، فقد عسر التطليق بالانفساخ، ثم اتصلت البينونة بالموت، فهذا عندنا بمثابة الجنون إذا طرأ،

(14/126)


وقد قال: إن لم أطلقك، فأنت طالق، فإذا جنّ، فالجنون لا يقطع توقع التطليق بتقدير الإفاقة، ولكن إذا اتصل بالموت أسندنا اليأس إلى أول الجنون، كذلك البينونة تنافي التطليق، ولا تنافي توقّعه، فإذا استمرت البينونة إلى الموت، كان بمثابة اتصال الجنون بالموت، فيلزم من هذا المساق إسناد اليأس إلى الفسخ، فليقع الطلاق قُبَيْله.
وليتصوّن المرء الآن من الوقوع في الدَّوْر؛ فإن الطلاق المعلق لو كان رجعياً، انتظم فيه تصوّر الفسخ، وإن كان بائناً، وقع في قاعدة الدَّور، فلا التفات إليها؛ فإنها بين أيدينا (1)، وسنفري فيها فريّنا (2)، والله المستعان.
9062 - والغرض الآن الفرق بين أن يقول: إن لم أطلقك فأنتِ طالق، وبين أن يقول: إن لم أضربك، فأنت طالق، فإن اليأس عن التطليق يستند إلى أول البينونة؛ فإن البينونة تنافي التطليق، والبينونة لا تنافي الضرب، فاليأس من الضرب يقع قبيل الموت، ولا يصادف محلاً للطلاق.
ولو قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، فانفسخ النكاح بردةٍ أو غيرها، ثم جدد عليها نكاحاً، فالتطليق يتصوّر في النكاح الثاني، وإن منعنا عَوْد الحنث، فإن الذي يمتنع هو الطلاق المعلّق لا التطليق في صورته، وصورة التطليق في النكاح الثاني
__________
(1) بين أيدينا: أي أمامنا.
(2) وسنفري فيها فريّنا: يقال: فلانٌ يفري الفريّ، وهو أن يبالغ في الأمر حتى يتعجب منه، والفريّ الأمر العظيم.
وإمام الحرمين هنا ناظرٌ إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمر بن الخطاب: "فلم أر عبقرياً يفري فريّه" (ر. غريب الحديث للخطابي: 2/ 571) وفي القاموس: الفريّ كغني يأتي بالعجب في عمله. والحديث متفق عليه، رواه البخاري: كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، ح 3634، وأطرافه في 3676، 3682، 7019، 7020.
ورواه مسلم: كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر، ح 2393.
وتمام الحديث: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بينا أنا نائم رأيتني على قليبٍ عليها دَلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قحافة، فنزع بها ذنوباً أو ذنوبين، وفي نزعه ضعف، والله يغفر له، ثم استحالت غرباً، فأخذها عمر بن الخطاب، فلم أر عبقرياً يفري فريّه".

(14/127)


كالضرب، فلا يتحقق اليأس من التطليق قبيل الموت، ثم إذا منعنا عَوْد الحنث لا يتصوّر وقوع الحِنث في تلك اللحظة.
وهذه أصول بيّنةٌ للفطن ملتبسةٌ على من لا يردّ نظره إليه.
9063 - وكل ما ذكرناه نفرّع على تعليق الطلاق بنفيٍ بكلمة (إن) التي هي أم باب الشرط، فلو علق الطلاق [بنفيٍ] (1) واستعمل (إذا) أو (متى) أو (متى ما) أو (مهما) فقال: إذا لم أضربك أو إذا لم أطلقك فأنت طالق، فالقول في (متى) و (متى ما) كالقول في (إذا) فإذا مضى من الزمان ما يسع التطليقَ أو الضربَ أو صفةً أخرى علق الطلاق بها، ولم يأت بما ذكره، يقع الطلاق الذي علقه، وليس كما لو قال: إن لم أطلقك.
ولا يستقل بمعرفة الفرق بين (إن) و (إذا) من لم يفهم طرفاً يتعلق بهذا الفصل من العربية، فنقول: (إذا) ظرفُ زمان، وهو اسم مشعر بالزمان، وكذلك (متى) و (متى ما)، و (إن) حرف، وليس بظرف، وليس اسماً للزمان. فإذا قال القائل: إذا لم أطلقك، فمعناه أيُّ وقت لم أطلقك، فأنت طالق، فقد علق طلاقها بوقت لا يطلقها فيه، فإذا مضى وقت لم يطلقها فيه، فقد وُجدت الصّفة التي علق الطلاق بها، و (إن) ليس اسماً لوقتٍ، وإنما هو حرف مسترسلٌ على الاستقبال، لا إشعار فيه بزمان.
هذا هو الفرق ويترتب عليه أنّ (متى) و (متى ما) في معنى (إذا)؛ فإن معناهما أي وقتٍ لم أطلقك، وابتناؤهما على التأخير في مثل قوله: متى أعطيتني ألفاً، فأنت طالق، لا يغيّر غرضَنا في المقام الذي نحن فيه، فإن متى تنطلق على الزمان القريب انطلاقه على البعيد، والطلاق يقع بأول الاسم، فإذا تحقق الزمان الأول عريّاً عن التطليق، فقد وُجدت صفة الطلاق، ثم يتسق من هذا أن آثارها تقع على الفور، بخلاف ما إذا فرضت في إثبات الأعواض في مثل قول القائل: إذا أعطيتني مع قوله: متى أعطيتني، والسبب فيه ان متعلق الطلاق ثمَّ اعطاءٌ، فإن قرن بلفظ لا ينص على
__________
(1) في الأصل: فبقي. وهو تصحيف واضح.

(14/128)


عموم الزمان، اقتضت قرينة العوضية تعجيلاً، وإن قرنت بلفظ ناصٍّ على عموم الأوقات، حمل على العموم، والطلاق بالإعطاء والزمان ظرفُه.
والمعتمد فيما نحن فيه تحقق زمان عارٍ عن الصفة.
وهذا بيّن لا إشكال فيه.
والذي ذكرناه قاعدة المذهب.
9064 - والذي سنذكره بعدُ فيه غيرُ معدودٍ من متنه وأصله، ولذلك أخرته، ولا أجد بداً من ذكره؛ لأنّي وجدته في تصانيف الأئمة مسطوراً. قال العراقيون: من أصحابنا من لم يتضح له الفرق بين (إن) و (إذا) في النفي، فقال: أجعل المسألة فيهما على قولين نقلاً وتخريجاً: أحدهما - أن الأمر يُحمل فيهما على الفور إذا كان متعلَّق الطلاق نفياً، فإذا قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، فمضى أقل زمان إمكان الطلاق، وقع الطلاق، كما لو قال: إذا لم أطلقك.
والقول الثاني - أنّ (إن) و (إذا) بمثابةٍ واحدة، ولا يقع الطلاق منهما ما لم يتحقق اليأس من الطلاق كأنْ لو كانت الصفةُ إثباتاً؛ فإنَّ (إن) و (إذا) في الإثبات مستويان في قول القائل: إن دخلت الدار، وإذا دخلت الدار، وهذه الطريقة مزيفة، نقلها العراقيون وبالغوا في تزييفها، وذكرها الشيخ أبو علي على هذا النسق، وحكى عن صاحب التلخيص أنه قال: إذا قال: إذا لم أطلقك [أو إن لم أطلقك] (1)، فكلاهما على التراخي، وهذا خطأ، وهو مذهب أبي حنيفة (2).
ومما نذكره بعد عقد المذهب أن صاحب التقريب، قال: إذا قال: إذا لم أطلقك فأنت طلاق، فهذا على الفور عند الإطلاق، فلو قال: أردتُ بذلك إن فاتني طلاقك فأنت طالق، فهل يقبل ذلك منه أم لا؟ ذَكَر وجهين وأجرى الكلامَ على أن (إذا) في
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، ووجدناها بمعناها عند صاحب التلخيص، ونص عبارته: "ولو قال لامرأته: أنت طالق إذا لم أطلقك، أو إن لم أطلقك، لم يقع الطلاق حتى يموت أحدهما؛ فتطلق واحدة" (ر. التلخيص لابن القاص: 523).
(2) ر. البدائع: 3/ 131، تبيين الحقائق: 2/ 206، الاختيار: 3/ 128.

(14/129)


الإطلاق مع النفي للفور، فإن [حَمَل] (1) المطلقَ على التراخي بالتأويل الذي ذكرناه، ففي قبول ماجاء به في الظاهر وجهان. وهذا الذي قاله حسنٌ، ملتحق بمتن المذهب؛ لما فيه من الاحتمال.
ثم شبَّب في مساق كلامه بشيء، فقال: إذا قال الرجل لامرأته: إن أعطيتني ألفاً، فأنت طالق. ثم قال: أردت متى أعطيتني، فيحتمل أن يُقبل ذلك. وهذا عندنا يجب ألا يُتردد فيه؛ فإنه فيما يبديه موسّعٌ للطلاق، وكل ما يقبل التديين فيه، فإذا قاله الرجل وهو عليه (2) فيقبل، ولكن يتطرق إليه أنه قد يقصد استحقاق العوض المتراخي؛ فيجب أن يقال: إن وافقته المرأة في تصديقه، استحقَّ العوض، وإن أبت وقد أتت بالعوض في زمانٍ متراخٍ، فهذا الآن محتمل.
وقد نجز الكلام على (إن) و (إذا) و (متى) و (متى ما) و (مهما) في النفي والإثبات، مع العوض ومن غير عوض. ويلتحق (بمتى) و (متى ما) و (مهما) قولك: أيّ وقتٍ، وأي حين، وأي زمانٍ، فهذه الألفاظ بمثابة قولك: (متى) في كل تفصيل.
وقد نجز بنجاز هذا ركنٌ واحد من مضمون الفصلِ المعقود، وقد بيّنا أن مضمونه ثلاثة أركان. وهذا الذي مضى ركن.
9065 - الركن الثاني في تفصيل القول في المدخول بها وغير المدخول بها في الأغراض التي نُجريها، فإذا قال لامرأته المدخول بها: إن طلقتك، فأنت طالق، أو إذا طلقتك، أو متى، فإذا طلقها، انتجز ما نجزه، ووقع الطلاق الذي علَّقه بالتطليق؛ إذ قال: إن طلقتك، فأنت طالق.
9066 - ثم هذه الألفاظ، وهي (إن) و (إذا) و (متى) و (متى ما) و (مهما) ليس فيها اقتضاء التكرار، وإنما فيها عموم [الزمن] (3)، ثم اليمين تنحل بمرة واحدة،
__________
(1) في الأصل: حمله.
(2) كذا. والسياق واضح على أية حال.
(3) في الأصل: الزمنه.

(14/130)


ولا أثر لهذا، والطلاق ثلاث، وإنما يظهر أثر ما نقول في العتاق، فإذا قال: "مهما أعتقت عبداً من عبيدي، فعبد آخر معه حرّ"، فإذا أعتق عبداً، عتق عبدٌ، ولو أعتق بعد ذلك عبداً لم يعتِق عبدٌ آخر بحكم التعليق المقدم، فإن اليمين انحلّت بالكرَّة الأولى.
والصّيغة المقتضية للتكرار في العربية قول القائل: "كلما ضربتك، فأنت طالق" فإذا ضربها، طلقت، ثم لو ضربها مرة أخرى، طُلّقت طلقة أخرى، وكذلك حتى تستوعب الطلقات، ولو كانت أعداد الطلاق أكثر من الثلاث، لاسترسلت كلمة (كلما) على جميعها.
9067 - ولو قال لامرأته التي لم يدخل بها: إن طلقتك، أو إذا طلقتك، فأنت طالق، فإذا طلقها، انتجز ما نجّز، ولم تلحقها الطلقة المعلّقة، والسبب فيه [أنها تبين] (1) بالطلاق [المنجز] (2)، وإذا بانت، لم يلحقها طلاقٌ ثانٍ مع البينونة، وهذا متفق عليه، وتعليله بيّن.
وقد يتصل به سؤال وجواب عنه، وبهما يحصل الغرض.
فإن قيل: إذا قال الرجل [لامرأته] (3) التي لم يدخل بها أو (4) للمدخول بها: إذا دخلت الدار، فأنت طالق، فالطلاق متى يقع؟ قال قائلون: الطلاق يترتب على دخول الدار؛ فإن الفاء تقتضي التعقيب والترتيب، فليترتب الطلاق على الدخول، ونقول: دخولٌ والطلاق بعده، كما يترتب عتق القريب المشترَى على حصول الملك.
وقال المحققون: يقع الطلاق مع الدخول، لا قبله ولا بعده، وأما المصير إلى أن الفاء تقتضي التعقيب والترتيب، فهذا لا ننكره من معناه، ولكنه ترتُّبُ اللفظ في هذا المقام، وليس الغرض تأخير وقوع الطلاق عن الدخول، وإنما الغرض تطبيق التطليق
__________
(1) في الأصل: أنها إذا نبيّن.
(2) زيادة من المحقق اقتضاها السياق، وتوضيح العبارة.
(3) ساقطة من الأصل.
(4) في الأصل: وللمدخول.

(14/131)


على الدخول، غير أن الفاء تُستعمل جزاءً والجزاء ينتظم كذلك، وإلا فلا يستريب ذو عقلٍ أن غرض الناطق تطبيق الطلاق على الدخول، حتى كأنّ الدخول علّته.
وإذا قال القائل: صيغة الجزاء تتضمن تعقيباً أيضاًً؛ فإن الرجل إذا قال: إن جئتني، فأنا أكرمك، تضمّن هذا ترتُّبَ الإكرام على المجيء.
قلنا: إذا كان الجزاء فعلاً ينشأ ويكون مربوطاً [بالشرط] (1)، فمن ضرورة وقوع الفعل أن يترتب، وليس كذلك وقوع الطلاق؛ فإنه حكمٌ لا يمتنع تقدير حصوله على الاقتران، بل لا يمتنع تقدير حصوله متقدماً؛ فإنه لو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، قبْل [دخولك] (2) بيوم، أمكن تقدير الوقوع كذلك، وهذا جزاءٌ متقدم على الشرط، غير أنّ وجه انتظام الجزاء فيه يرجع إلى نسق اللفظ، ثم الجزاء مرتبط بالشرط على معنى أنه لا يحصل دونه، فإن قُرن، اقترن، وإن قُدّم، تقدّم، وهذا منتظم من طريق اللفظ، ولكن شواهد الحكم في المذهب تدل على الوقت، وآية ذلك أن الرجل المريض إذا قال: إن أعتقت سالماً، فغانم حرّ، ثم أعتق سالماً في مرضه، فإن وفّى الثلث به فحسب، عَتَق سالم فحسب، وهذا يدل على ترتيب العتق في غانم على سالم.
ولو قال: أعتقتكما، ازدحما على الثلث، ومما يدل على الترتيب أنه إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم طلقها، وقع ما نجّزه، ولم يلحقها الطقة المعلّقة، وهذا لا يخرّج إلا على أصل الترتيب؛ فإنا لو قدّرنا وقوع المعلّق مع وقوع المنجز، لم يبعد الحكم بوقوعهما، والمصير إلى أنها بانت بهما؛ فإن قيل: لا يلحقها الطلاق المعلّق، دل هذا على ترتب المعلق في وقوعه على المنجّز، وهذا يشعر بترتب كل طلقة على الصفة، وهذا بالغٌ في الإشكال؛ فإن الذي يقتضيه اللفظ ما ذكرناه من الجمع، والذي يقتضيه مذهب الفقهاء الترتيبُ، وما حكيته في ترتّب الوقوع على الدخول، وفي وقوعه معه نقلته من كلام الأصحاب.
ثم لم يختلفوا أن التي لم يدخل بها لا تطلق الطلقة المعلّقة على التطليق المنجز،
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: دخوله.

(14/132)


وإن كان يظنّ ظانّ أن الترتب من آثار الفاء، قيل له: هذه المسائل لا تختلف أحكامها بأن تذكر الفاء فيها أو لا تذكر؛ فإن الرجل إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: إذا طلقتك فأنت طالق، فحكم هذا ما قدمناه: من أنه إذا طلقها لم يلحقها الطلاق المعلّق، ولو قال: أنت طالق إذا طلقتك، فلا (فاء) والجواب كما مضى، فإذا طلقها انتجز ما نجّز، ولم يقع ما علّق، ولعلنا في الفروع نعود إلى مزيد مباحثةٍ في ذلك.
9068 - والقدر الذي هو غرض الفصل أنه إذا قال للتي لم يدخل بها: إذا طلقتك، فأنتِ طالق، أو أنت طالق إذا طلقتك، فإذا طلقها وقع ما نجّز، ولم يلحقها ما علَّق.
وكذلك قال الشافعي: إذا قال لامرأته التي دخل بها: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم خالعها أو طلقها على مالٍ، نفذت بينونة الخلع، ولم يلحقها الطلقة المعلقة؛ فإن المختلعة لا يلحقها الطلاق عندنا كالبائنة قبل المسيس، فالبينونة بالخلع في منافاة لحوق الطلاق كالبينونة لعدم العدة في حق التي لم يدخل بها.
هذا بيان هذا الركن.
9069 - والركن الثالث من مضمون الفصل متصل بما نجّزناه الآن، وهو القول في تعليق الطلاق وتسمية التعليق تطليقاً، فإذا قال لامرأته المدخول بها: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها: إذا دخلت الدار فأنت طالق. فإذا دخلت الدار، طلقت بالدخول، وطلقت بالتعليق الأول على التطليق، والمقصود من ذلك أنه قال أولاً: إذا طلقتك، فأنت طالق، وقال بعد ذلك: إذا دخلت، فأنت طالق، فصار تعليق الطلاق بالدخول مع الدخول بمثابة تنجيز التطليق بعد التعليق الأول.
ولو قال لها أولاً: إذا دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال بعد ذلك: إذا طلقتك فأنت طالق، فدخلت الدار، فوقع الطلاق بوجود الصفة، فإنها لا تطلق بسبب قوله إذا طلقتك، فأنت طالق؛ فإنه لم يطلقها بعد هذا القول، ولم ينشىء التعليق بعد هذا القول أيضاً، بل جرى التعليق بالدخول متقدماً على قوله: إن طلقتك.
فانتظم من مجموع هذا أنه إذا قال: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم نجّز

(14/133)


[هذا] (1) بعد هذا، وقع ما نجّز وما علّق بالتطليق.
ولو أنشأ تعليقاً بعد قوله: إن طلقتك، فنفس التعليق لا يكون تطليقاً، ولكن إذا وجدت الصفة، وقد جرى التعليق بعد قوله: إن طلقتك، كان التعليق مع الوقوع بمثابة التطليق من بعدُ.
ولو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، فإذا دخلت الدار، طلقت بالدخول، وطلقت بتعليق الطلاق بالوقوع، فإنه علق لحوق الطلاق بوقوع الطلاق لا بالتطليق، وهذا بيّنٌ.
ومما نجريه متصلاً بهذا أنه إذا قال لها: إن أوقعت عليك طلاقي، فأنت طالق،
ثم قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، فدخلت الدار، لحقها طلاقان كما قدمنا.
وهو كما لو قال: إن طلقتك، فأنت طالق، ثم علق الطلاقَ من بعدُ.
9070 - ووجدت للعراقيين أنهم قالوا: إذا قال للمرأة المدخول بها: إذا أوقعتُ
عليك طلاقي، فأنت طالق، ثم قال لها بعد ذلك: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار، طُلّقت بدخول الدار، ولم تطلّق بسبب قوله السابق: "إن أوقعتُ عليك طلاقي" طلقة أخرى، وكأنهم قد رأَوْا أنه إذا علق طلاقها، فهذا لا يكون إيقاعَ طلاق عليها، وإنما يتحقق الإيقاع [بالتنجّيز] (2)، من غير توسط سببٍ وتعليق وهذا مردود في قول المراوزة، باطلٌ قطعاً على قياسهم، وكنت أحسب هذا خللاً واقعاً في نسختي، ثم طالعت نسخاً ومجموعات وتعليقاتٍ معتمدةً، فوجدت الأمر مثبتاً على هذا النسق. فإن كانوا يقولون ما يقولون فيه إذا قال للمدخول بها: إن أوقعت عليك طلاقي ولا [يقولونه] (3) فيه إذا قال: إذا طلقتك، [فالفرق] (4) بين التطليق وإيقاع الطلاق عسرٌ.
وإن عمّمُوا هذا في الإيقاع والتطليق، فهو خروج عما عليه الفقهاء؛ فإن التعليق
__________
(1) في الأصل: هكذا.
(2) في الأصل: بالتنجز، وواضح أن الفعل نجّز.
(3) في الأصل: ولا يقولون.
(4) في الأصل: والفرق.

(14/134)


على الاختيار تطليقٌ في اللسان، فإذا قال الرّجل لامرأته: "إن قمت، فأنت طالق" فقامت وطُلِّقت، يقال: طلّق فلان زوجته، وهذا لا سبيل إلى إنكاره.
9071 - ومما نذكره في هذا الفصل أنّ (كلّما) كلمة تتضمن التكرار [في العربية] (1) بخلاف (متى ما) و (مهما) فإنهما يعمّان الأزمان ولا يقتضيان التكرار، فإذا قال لامرأته المدخول بها: كلما وقع عليك طلاقي، فأنتِ طالق، ثم طلقها طلقت ثلاثاًً؛ فإنه يقع عليها بالتنجيز طلاق، وبالتعليق السابق طلاق، ثم يتكرر، ولو زادت أعداد الطلاق على الثلاث لاستوعبتها الكلمة، وتضمنت وقوع جميعها.
9072 - وذكر الأصحاب فرعين هذّبوا بهما أصلين: أحدهما - معنى التكرار المتلقَّى من قول القائل كلّما.
والثاني - يتضمن تمهيد تأخر التعليق وتقدّمه، والفرق بينهما إذا قال: إن طلقتك
فأنت طالقٌ.
9073 - فأمّا الفرع الموضِّح لمعنى التكرر، فإذا كان للرجل أربع نسوة وعبيد، فقال: كلما طلقت واحدةً منكن، فعبدٌ من عبيدي حرّ، وكلما طلقت ثنتين منكن، فعبدان من عبيدي حرّان، وكلما طلقت ثلاثاًً منكن، فثلاثة أعبدٍ من عبيدي أحرار، وكلّما طلقتُ أربعاً، فأربعة أعبدٍ من عبيدي أحرار.
فالمسلك الحقّ في هذه المسألة: أنه عَقَدَ أربعةً من العقود بكلمةِ (كلما) وهي للتكرار، فيتكرر العتق بتكرر كلّ عقد منها، ولكن ما حُسب في مرّة لا يحسب هو ولا شيء منه في عقدٍ مماثلٍ له، فإذا طلّق واحدة، حنث في يمين الواحدة، وعتَق عبدٌ، فإذا طلّق الثانية، حنث في يمينين يمين الواحدة، فإنها على التكرر، ويمين الاثنين؛ لأنه لما طلقها صار مطلقاً لواحدة أخرى سوى الأولى، وصار مطلقاً بتطليقها ثنتين، فيعتِق إذاً ثلاثةُ أعبدٍ سوى ما تقدم: عبدٌ بتطليقه الثانية وهي واحدة، وعبدان بسبب تحقق طلاقين على امرأتين، فقد عَتَقَ من العبيد أربعة.
__________
(1) في الأصل: التكرار والعربية.

(14/135)


فإذا طلق الثالثة، حنث في يمينين: يمين الواحدة ويمين الثلاث؛ لأنه بتطليقها صار مطلقاً واحدة أخرى، وكلمة (كلما) للتكرار، وصار محققاً تطليق الثلاث؛ لأن هذا مع الأوليين قبلها ثلاث، فيعتِق الآن أربعةُ أعبدٍ سوى ما تقدّم: واحد بالحنث الواقع بتطليق الواحدة، وثلاث بتطليق الثلاث؛ فيكمل العتق في ثمانية. ولا يحنث في يمين الاثنين مرة أخرى، لأن الثانية التي قبل الثالثة حسبت في يمين الثنتين مرة، فلا تحسب في يمين الثنتين مرة أخرى؛ فإن هذا يؤدي إلى تكرير الحنث مراراً، مع اتحاد صنف اليمين، ومحلّ اليمين. فإذا طلق الرابعة، حنث الآن في ثلاث الأيْمان: يمين الواحدة، ويمين الأربع؛ لأنه حقق طلاق الأربع، وحنث في يمين الثنتين مرةً أخرى، لأن الرابعة مع الثالثة ثنتان، فيعتق سبعة عبيدٍ، ويكمل الذين عتقوا خمسة عشر، ولا يحنث مرة أخرى في يمين الثلاث؛ لأن الثالثة والثانية حسبتا في يمين الثلاث، فلا يحسبان مرة أخرى في يمين الثلاث؛ لأن ما حسب في عقدٍ لا يحسب في عقد مثله.
وهذا كما لو قال لها: كلما دخلت الدار، فأنت طالق، فإذا دخلت الدار مرةً طلقت، فإذا دخلت ثانيةً طلقت طلقةً واحدةً، ولا يقال: تطلق طلقتين طلقة بهذه الدخلة وطلقة بالدخلة الأولى؛ لأن الدخلة الأولى حسبناها، فلا نحسبها في مثلها مرة أخرى.
وإذا طلق النسوة الأربع دفعة واحدة، عتق من العبيد خمسة عشر؛ إذ لا فرق بين أن نجمع تطاليقهن، وبين أن نُرتبه، فحكم اللفظ ومقتضى التكرار لا يختلف.
هذا هو المذهب الذي عليه التعويل.
ومن أصحابنا من قال: إذا طلق الثالثة يحنث في يمين الثنتين مرّة أخرى فيبلغ مجموع الذين يعتقون سبعة عشر.
وهذا غلط صريح، وإن كان مشهوراً؛ لأنا لو حنثناه بالثالثة في يمين الثنتين، لزم أن نحنثه أيضاً بالرابعة في يمين الثلاث، ونحكم عليه بعتق عشرين عبداً، وهذا لا قائل به.

(14/136)


9074 - وكل ما ذكرناه إذا قال: كلما طلقت، فَعَقَد الأيْمان بكلمةِ (كلما)، فأما إذا قال: إن طلقت واحدةً من نسائي، فعبد من عبيدي حر، وإن طلقت ثنتين، فعبدان حرّان، وإن طلقت ثلاثاًً، فثلاثة من عبيدي أحرار، وإن طلقت أربعاً، فأربعة من عبيدي أحرار.
فإذا طلقهن ترتيباً أو جمعاً عَتَقَ من عبيده عشرة، فلا ننظر إلى عدد الأيمان ومعقود كل يمين، ولا يكرّر الحنث في واحدة منها، فعدد الأيمان أربعةٌ: يمين بواحدة، ويمين باثنتين، ويمين بثلاث، ويمين بأربع، فنأخذ مضمون الأيمان من غير تكرر، فيبلغ عشرة.
وفي بعض التصانيف ذكر صِيغَ هذه الأيمان بكلمة كلما، والجوابَ فيها أنه يعتِق عشرةٌ من العبيد؛ فهذا غلط صريح لم أذكره ليلحق بالوجوه البعيدة، ولكن سبب ذكره التنبيهُ على أن هذا من عثرات الكتّاب، وما ذكره جواب الأيمان المعقودة، (بإن) و (متى) و (متى ما)؛ فإن هذه الكلمة لا تتضمن التكرار.
فأما إذا كانت الكلمة متضمنة تكراراً، فلا تنحلّ اليمين بالواحدة بأن يطلّق واحدةً، وكذلك القول في الثتنتين.
9075 - فخرج من مجموع ما ذكرناه أن معنى التكرار أن لا نحل يميناً بحنث في مثله، ولكن لا نحسب شيئاً واحداً مرتين في يمينين متماثلين.
وإذا اختلفت صيغ الأيمان، فحينئذ يحسب النسوة عن جهاتٍ في الأيمان المختلفة.
فهذا فرعٌ مهدّنا به أصل التكرار.
9076 - فأما الفرع الثاني، فإنا نمهدّ به معنى تقدم التعليق وتأخره.
فإذا كان للرجل امرأتان حفصة وعمرة، فقال: مهما طلقت عمرة، فحفصةُ طالق، ثم قال: مهما طلقت حفصة فعمرةُ طالق، ثم إنه بدأ بحفصة وطلقها، فتطلق بالتنجيز وطلقت عمرة بالحنث؛ لأنه علّق طلاق عمرة بتطليق حفصة، وعادت طلقة على حفصة؛ لأنه علّق طلاق حفصة بطلاق عمرة في الابتداء، لما قال: مهما طلقت

(14/137)


عَمرة فحفصة طالق، وقد طلق عمرة بعد هذا بأن علق طلاقها بتطليق حفصة، ثم نجّز تطليق حفصة.
وقد ذكرنا أن التعليق إذا اتصل به الوقوع، كان تطليقاً.
ولو بدأ بعمرة وطلقها، طُلِّقت بالإيقاع والتنجيز، وطلقت حفصة بالحنث؛ لأنه علّق طلاقها بطلاق عمرة ولا تعود طلقة على عمرة، وإن كان علق طلاقها بطلاق حفصة؛ لأن هذا [وقع] (1) على حفصة بحكم تعليق طلاقها بطلاق عمرة، وهو سابق على يمين عمرة.
وليس في هذه المسألة غائلة، وإنما الذي فيها فهمُ التقدم والتأخر في التعليق، وسبب ما فيها من أدنى تعقيدٍ أن المبتدىء ينظر إليها، فيرى تطليقاً وتعليقاً، فيلتبس عليه معنى التعليق لذكره مع التطليق.
وبيان ذلك أنه إذا قال لعمرة: إذا طلقتك، فحفصة طالق، فهذا تعليق طلاق حفصة، وإن خوطبت عمرة بالتطليق. وإذا قال لحفصة: إذا طلقتك، فعمرة طالق، فهذا تعليق طلاق عمرة، وإن خاطب بالتطليق حفصة، فليفهم الفاهم التعليق، ولينظر إلى تقدّمه وتأخّره.
9077 - ومما ذكره الأصحاب في اختتام هذا الفصل أنه إذا قال لامرأته: إن لم أطلقك، فأنت طالق، أو إن طلقتك، فأنت طالق. فهذا تعليل في موجب العربية، ومن ذكر [لفظَ] (2) الطلاق وعلّله، وقع الطلاق، ولم ينظر إلى العلّة كانت أو لم تكن، وتقدير الكلام: أنت طالق لأن لم أطلّقك، ثم اللام تحذف وتستعمل، هذه الكلمة كذلك في اللغة الفصيحة، ولو استعمل هذا اللفظ من لا يَفْصِل بين أنَ وإنِ في العربيَّة، فهو محمول على التعليق، وسنذكر هذا الأصل في الفروع، إن شاء الله عز وجل.
__________
(1) في الأصل: وقوع.
(2) في الأصل: رسمت هكذا (لللفظ).

(14/138)


فصل
قال: "ولو قال لامرأته: أنت طالق إذا قدم فلان فقدم به ميتاً، [أو مكرهاً] ... إلى آخره" (1).
9078 - غرض الفصل بيان الإكراه والاختيار والعمد والنسيان، ولكنه مفروض في صفة تجتمع فيها غوامض، وينفصل باتضاحها قطبٌ من الأقطاب. ونحن نقول في مفتتح الفصل:
9079 - إذا قال القائل: والله لا أدخل الدار، فحُمل وأدخل الدار قهراً، لم يحنث؛ فإن هذا ليس بدخول، ولو أمَرَ حتى حُمل وأدخل الدار حَنِثَ؛ فإن هذا يسمى دخولاً، وركوبه الأكتافَ كركوبه دابّهً، وأَمْرُ الحاملين بالدخول به كإمالته العنان إلى صَوْب الدار، ولو حُمل وكان قادراً على الامتناع وأدخل الدار، فلم يأمر ولم يزجر، فهذا فيه تردد، سيأتي مشروحاً في كتاب الأيْمان، إن شاء الله تعالى.
ولو حلف بالله لا يدخل، فأكره حتى دخل بنفسه، ففي حصول الحنث قولان: أحدهما - أنه يحنث؛ لأنه دخل الدار.
والثاني - لا يحنث؛ لأن فعل المكره كالمسلوب، واختياره فيه موجوداً كالمفقود.
ولو نسي يمينه، فدخل الدار، ففي حصول الحنث قولان، وللأصحاب مسلكان في ترتيب النسيان على الاستكراه، والاستكراه على النسيان، وسيأتي ذكرهما في الأيْمان.
والقدر الذي تمس حاجتنا إلى ذكره الآن أن سبب الخلاف في النسيان أن الناسي غير هاتكٍ لحرمة اليمين، وليس بهاجمٍ على المخالفة، هذا هو المرعي.
فأما المكره، فسبب الخلاف فيه قضاء الشرع بتضعيف اختياره، ويتحقق فيه أيضاًً عدم الانتساب إلى اعتماد الهتك.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 79. والزيادة بين المعقفين من نصه.

(14/139)


ومن نسي صومه [فأكلَ] (1)، لم يفطر، ومن أكره على الأكل، فأكل، ففي حصول الفطر قولان.
وهذه نبذة مست الحاجة إليها، فذكرناها واستقصاءُ أصولها وفصولها في كتاب الأيمان.
9085 - ونبتدىء بعد ذلك الكلامَ في الطلاق، فنقول: إذا علق الرجل الطلاق بصفة، فلا يخلو إما [أن] (2) يعلقه بصفةٍ تصدر منه، وإما أن يعلّقه بصفة تصدر من المرأة، وإما أن يعلقه بصفةٍ تصدر من أجنبي:
فإن علّق الطلاق بصفةٍ تصدر منه، فالمذهب الصحيح أنه يجري فيه الخلاف في الإكراه والنسيان، ولا خلاف أنه لو حُمل وأدخل كرهاً، لم يقع الطلاق، فلو نسي اليمين، فدخل أو اكره حتى دخل بنفسه، جرى في كل صورةٍ من النسيان والإكراه قولان.
وكان القفال يقول: إنما يختلف القول في الإكراه والنسيان إذا كانت اليمين بالله، فالتعويل في اليمين بالله على تعظيم اسم الله تعالى، والتعويل في تعليق الطلاق بالصفات على وجود الصفات على أي وجهٍ فرضت.
وهذا مختص بالقفال. والأصحاب على طرد الخلاف في الباب، والسبب فيه أن الغرض في اليمين بالطلاق الامتناع عن أمرٍ، فإذا كان قصد اليمين هذا، فقد يتوهم خروج النسيان والاستكراه عنه. وهذا يجري مطرداً في اليمين بالله تعالى، وفي اليمين بالطلاق والعتاق، والدليل عليه أن الإكراه على الطلاق بمثابة الإكراه على اليمين بالله.
وإذا فرض الإكراه في سبب الحنث، فوجه تضعيف الاختيار في سبب الحنث بالطلاق في الطلاق كوجه تضعيفه في سبب الحنث في اليمين بالله تعالى، والدليل عليه أن من حلف لا يدخل الدار، لم يعصِ بالدخول، ولم تؤثر اليمين عندنا في تحريم ما كان مباحاً قبل اليمين، فلا انتساب إذاً إلى هتك الحرمة والشرعُ لا يحظر المخالفة، فالذي
__________
(1) في الأصل: فالحل.
(2) سقطت من الأصل.

(14/140)


ذكره القفال إنما [يستدّ] (1) على مذهب أبي حنيفة (2) في مصيره إلى أن اليمين يحرّم الحلال.
هذا إذا كانت اليمين بالطلاق ومعقودةٌ على فعل الزوج.
9081 - فإن علّق الطلاق بفعل المرأة؛ فإن قال ذلك وهي لم تسمع، ولم يقصد الزوج إسماعها اليمين حتى تنزجر -بسبب الطلاق-من الصّفة المحلوف عليها-، فالمذهب الأصح أن الطلاق يقع إذا دخلت الدار مكرهةً على الدّخول، وذلك أنه لم يعلق الطلاق بقصدها، ولم يظهر [من] (3) تعليقه منعُها من الدخول، حتى يحمل ذلك على العمد، فوجب الحملُ على صورة الدخول. نعم، لو حملت وأدخلت، فهذا لا يسمى دخولاً، فلا يقع الطلاق؛ لأن الصّفة لم توجد.
ومن أصحابنا من أجرى القولين في دخولها مكرهة؛ لأن الإكراه على أحد القولين يضعف اختيارها، ويلحقها -وإن دخلت- بالمحمولة المُدخَلة. وهذا فقيه حسن، أورده القاضي واختاره، ولا يمكن فرض النسيان في هذه الصورة؛ فإن المسألة موضوعة فيه إذا لم يكن عندها علم [عن] (4) اليمين، فإذا دخلت مختارة، ولا علم عندها، طلقت بلا خلافٍ.
هذا هو التفصيل فيه. إذا علق طلاقها، وهي لم تشعر.
9082 - فأما إذا علّق طلاقها وهي تشعر، فيظهر أنه يقصد أن يكون الطلاق مانعها من الدخول، فإذا أُكرهت، فدخلت مكرهةً، كان إجراء القولين في هذه الصورة أظهر من إجرائهما في الصورة الأولى.
ولو نسيت يمين الزوج، جرى القولان على الأصح.
__________
(1) في الأصل: "يستمرّ" وما أكثر ما تصحفت هذه الكلمة على النُّسّاخ.
(2) ر. فتح القدير: 4/ 56.
(3) زيادة من المحقق.
(4) في الأصل: من.

(14/141)


والقفال إذا كان لا يُجري القولين في فعل الحالف إذا نسي أو أكره، فلا شك أنه لا يجريهما فيه إذا كان المعقود عليه فعلَ المرأة.
9083 - فأما إذا كان المعقود عليه فعلَ أجنبي، نظر: فإن جرى اليمين من حيث لا يشعر، فلا يتصور فرض النسيان فيه، ولكن إذا أكره ذلك الشخص، فوُجد منه متعلّق الطلاق مكرهاً، ففيه طريقان للأصحاب: أظهرهما عندنا - إجراء القولين لضعف الاختيار، وتخيّل التحاق فعل المكره بأحوال المحمول.
وإن شعر ذلك الأجنبي بيمين الحالف، لم يخلُ إما إن كان ممّن لا يُبالي بيمين الحالف ولا يزعه ذاك عن فعله، أو كان ممن يمتنع بسبب حلف الحالف، فإن كان ممّن لا يمتنع بسبب حلف الحالف، فلا يبالي ببرّه وحنثه، فمثل هذا الشخص إذا بلغه خبر اليمين، ثم نسيها، فلا أثر للنسيان منه؛ فإن الفرق بين الناسي والعامد إنما يظهر في حق من يمتنع في الذكر، فيجوز أن يُعذر إذا نسي.
فأما المكره، فالرأي عندنا طرد القولين فيه؛ لما ذكرناه من تأثير الإكراه في سلب حكم الاختيار.
وإن كان ذلك الأجنبي ممن يرتدع ويمتنع بسبب يمين الحالف، فإذا نسي، اختلف مسلك الأصحاب؛ من حيث لا تعلق للنكاح به، ويتجه عندنا طرد القولين في النسيان.
ولو حلف الحالف بمشهدٍ من زوجته، وعقد على فعل زوجته، ولم يقصد منعها، وإنما أراد تعليق الطلاق على الصفة مهما وجدت، فالوجه القطع بأن النسيان لا أثر له.
والضابط فيه أنه إن أسقط أثر النسيان بعدم العلم باليمين، أو بعدم مبالاة المحلوف عليه بحلف الحالف، أو يقصد الحالف التعليق على الصفة المجردة من غير قصد في المنع بسبب الطلاق، فلا وجه لذكر الخلاف في النسيان. والقولان في الاستكراه جاريان.
هذا بيان هذه التفاصيل على القواعد المحققة.

(14/142)


9084 - ونعود إلى ترتيب (السواد) (1) فنقول: إذا علق طلاق امرأته بقدوم زيد، فقدم مختاراً، قضينا بوقوع الطلاق.
وإن كان مكرهاً، فعلى القولين.
وإن كان غير عالم باليمين، ففيه التفصيل المقدّم.
ولو أدخل البلدة محمولاً، لم يقع الطلاق، ولو رد إلى البلدة ميتاً، لم يقع الطلاق.
وهذا المذكور في السواد قسم من الأقسام التي استوعبناها.
9085 - ثم قال: "ولو قال: إذا رأيتُه، فرآه في تلك الحالة، حنث ... إلى آخره" (2)
إذا قال لامرأته: إذا رأيتِ فلاناً فأنتِ طالق، فرأته حياً أو ميتاً، وقع الطلاق، ولسنا لتعليل البيِّنات (3)، وكذلك إذا رأته والمرئي نائمٌ أو سكران، ولو رأته في المنام، فهو حلم، لا يقع به طلاق، ولو رأته وهو في ماء، والماء بلطفه يحكيه، فالظاهر عندنا القطع بوقوع الطلاق، فإنه رؤي حقّاً، وصار الماء اللطيف بين الناظر والمنظور إليه بمثابة أجزاء الهواء.
وحكى من يُعتمد عن القاضي أن الطلاق لا يقع، وهذا لا اتجاه له؛ فإن ما ذكرناه رؤية في الإطلاق والعرف والحقيقة، وهو انكشافٌ في وضع الشريعة، ولهذا جعلنا الواقف في الماء اللطيف الذي يحكي العورة عارياً، وقضينا بأن صلاته لا تصح، فلا وجه إلا ما ذكرناه.
نعم، إذا نظر في المرآة وخَطَر من ورائه مَنْ حَلَف على رؤيته، فتراءى له ذلك الخاطر في المرآة، أو في الماء، فهذا فيه احتمال. وإن كان ذلك المرئيُّ في الحقيقة
__________
(1) السواد: المراد به مختصر المزني.
(2) ر. مختصر المزني: 4/ 79.
(3) البينات: أي الواضحات التي لا تحتاج إلى تفسير وتسبيب.

(14/143)


مرئيّاً، ولكن سبب التردد العرفُ وإطلاقُ أهله بأني لم أر فلاناً، ولكني رأيت مثاله في المرآة.
ولو قال لامرأته، وهي عمياء: إن رأيت فلاناً، فأنت طالق، فالمذهب أن هذا لغوٌ فيها؛ فإن الطلاق معلق بمستحيل، فلا يقع.
ومن أصحابنا من جعل قوله: إن رأيت فلاناً بمثابة قوله: إن رأيت الهلال، ثم رؤية الغير تقوم مقام رؤيتها، غير أنا نفعل هذا في مسألة الهلال؛ حملاً للرؤية على العلم، ومن سلك هذا المسلك في رؤية زيد وعمرٍو، لم يكتف بالعلم بوجود من علّقت اليمين به، ولكنه حمله على أن يحضر عنده، ويقرب منه، ويجلس منه مجلس المخاطبة، وهذا محمول على قول الضرير قد رأيت اليوم فلاناً، وأحطت بما عنده، والمراد أنِّي حضرته وشهدته.
ثم لو رأته وهي مجنونة أو سكرانة، وقع الطلاق؛ لأن رؤية السّكرانة والمجنونة
صحيحة.
9086 - وألحق الأصحاب مسائل بهذا الفن منها: أنه لو قال لها: إن مسست فلاناً، فأنت طالق فمسته حياً كان أوميتاً، طُلِّقت، ولو كان بين البشرتين حائل، لم تطلق.
وقد ذكرنا تردداً في أن لمس شعر المرأة هل يوجب نقض الطهارة؟ وفي مسّ الشعر تردد لبعض الأصحاب؛ فإن مسألة الملامسة متلقاة من ظاهر الكتاب، والتصرف فيها متعلق بصيغ الألفاظ، والوجهُ عندنا القطعُ في اليمين بأن الحنث لا يحصل.
ولو قال: إن ضربتِ فلاناً فأنت طالق، فضربته حياً، وقع الطلاق، ثم الذي ذهب إليه معظم الأصحاب أنا نشترط أَلَماً، وإن لم يكن مبرّحاً شديداً، وذهب طوائف من المحققين إلى أن الألم ليس بشرطٍ، والضَّربُ يحصل بصدمةٍ وإن كانت لا تؤلم، ورُبّ شخص يُضرب مجتمع اللحم منه بجُمعِ كفك، فيلتذّ به التذاذ المغموز بالغمز، وهذا ضرب، ولو وَضَع حجراً ثقيلاً على عضوٍ-من ذلك المعيّن- ضعيفٍ، فانطحن تحته، فهذا إيلام، وليس بضرب.

(14/144)


ولو ضربته ميتاً، لم تطلق؛ فإن الضرب المطلق في العرف لا يحمل على ضرب الميت.
والذي أطلقتُه من الصدمة لا ينبغي أن يعتمد الإنسان مُطلَقها؛ فإن من ضرب أنملةً على إنسان لا يتصور أن يقع بمثله إيلام، لم يتعلق بها بَرٌّ ولا حنث، فالمحكَّم إذاً ما يسمى ضرباً، وهو صدمٌ بما يفرض منه وقوع الألم، حصل الألم أو لم يحصل.
ولو قال: إن قذفتِ فلاناً، فأنت طالق، فقذفته حياً أو ميتاً، طُلقت؛ لأن قذف الميت كقذف الحي إطلاقاً، وحكماً.
ولو قال: إن قذفت فلاناً في المسجد، فأنت طالق، فالشرط في حصول الحنث أن تكون القاذفة في المسجد. هكذا قال الأصحاب.
ولو قال: إن قتلت فلاناً في المسجد، فالشرط أن يكون المقتول في المسجد، والفرق أن نفس القذف يُجتنبُ في المسجد، ولا يفهم من إضافة القذف في المسجد إلا كون القاذف في المسجد؛ فإن هتك حرمة المسجد بإنشاء القذف فيه. وإذا أضيف القتل إلى المسجد، فُهم من مُطلَقه [إيقاعُه] (1) بالمقتول وهو في المسجد.
هذا ما ذكره الأصحاب. ولم يحملوا القتل في المسجد على كون القتل في المسجد بتأويل أن يرمى إلى ذلك المعيّن أو يناله برمح والقاتل في المسجد والمقتول خارج المسجد، والأمر على ما ذكروه، واللفظان مطلقان.
فأما إذا قال: أردت بالقذف في المسجد كَوْن المقذوف في المسجد، وأردت بالقتل في المسجد كون القاتل في المسجد، فهل يقبل ذلك منه ظاهراً؟ هذا فيه احتمال بيّن وتردُّدٌ ظاهر؛ من قِبل أن قوله في المسجد ظرفٌ متردد بين القاذف والمقذوف، والقاتل والمقتول، وهو في محض اللغة الفصحى صالحة لهما.
والذي ذكرناه في الإطلاق موجَب العرف تلِّقياً من الهتك، فإذا فسّر لفظةً بما يصح على اللسان (2)، وينطبق على اللغة، وجب أن يكون في قبوله خلاف، وهذا من
__________
(1) في الأصل: إيقاع.
(2) يصح على اللسان: المراد تداول الألسنة والعرف.

(14/145)


أصول الكتاب، فمن خالف اللغة إلى ما لا يبعد انسياغُه في العرف، كان في قبوله ظاهراً خلاف، ومن خالف العرف إلى ما يوافق اللغة ولا يبعد بعداً كليّاً عن العرف، ففى قبول تفسيره خلاف.
وإذا أكثرنا المسائل في الظاهر والباطن، وحصل الأُنس بها، هان ضبطها في الآخر.
9087 - ثم قال: "ولو حلف لا تأخذ مالك عليّ ... إلى آخره" (1).
إذا قال: إن أخذتَ مالك عليّ، فامرأتي طالق، فإذا أخذه، وقع الطلاق، سواء أعطاه الحالف، فأخذه، أو أخذه قهراً من غير إعطاء منه، وكذلك لو أجبره السلطان فأعطى فأخذه مختاراً، أو أخذه السلطان من ماله وسلّمه إليه، فإذا أخذه على اختيارٍ، وقع الطلاق، والتعويل على أَخْذه كيف فرض.
ولو كان عليه دين، فقال من عليه الدّين: إن أخذتَ مالك عليّ، فأخذه قهراً - ولا امتناع ممن عليه الدّين- فلا يكون هذا آخذاً لماله رجعةً، فلا يقع الطلاق إلا حيث يكون راجعاً إلى حقه، وهو في الصورة التي ذكرناها غاصبٌ، واليمين معقودةٌ على أن يأخذ ماله.
ولو أجبره السلطان، فأخذ ماله -والأولى فرض ذلك فيه إذا كان عيناً من الأعيان- فإذا كان مجبراً على الأخذ، ففي وقوع الطلاق قولان مذكوران في المكره على ما تفصّل.
ولو قبض السلطان حقه قهراً، حيث يجوز للسلطان ذلك، فهذا يحل محل أخذه حكماً، ولكن لا يحصل الحنث؛ فإن التعويل في الأَيْمان على الأسماء والإطلاقات، لا على الأحكام.
ولو حلف لا تأخذ مني مالك عليّ، فإن أعطاه مختاراً، فأخذه حَنِثَ، ولو أخذ السلطان ماله وسلمه إلى مستحقه المحلوف عليه، فلا حِنْث؛ لأنه حلف لا تأخذ منّي، وهذا ليس أخذاً منه.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 79.

(14/146)


ولو أجبره السلطان على التسليم، ففي هذا نظر [يبين] (1) بتقديم أمرٍ عليه، وهو أن مستحق الحق لو سلبه من الحالف، وقد حلف لا تأخذ مني، فالظاهر عندنا أن الطلاق يقع. وفي كلام القاضي ما يدل على أن الطلاق لا يقع، وفيه على حالٍ إخالةٌ واحتمال؛ فإن الإنسان إنما يقول: أخذت مني إذا كان عن طواعيةٍ من المعطي، وإن لم يكن، يقال: سلبت مني.
وهذا بعيدٌ والوجه ما قدمناه.
قال القاضي: لو أجبر السلطان الحالف على التسليم، فعلى قولين، وهذا بناه على اشتراط الاختيار في الإعطاء، ونحن لا نرى هذا أصلاً، والتعويل على أخذ المحلوف عليه من يد الحالف أَعْطَى أو لم يُعط، رضي أو كرِه.
ولو حلف لا يعطيه، فأعطاه مختاراً ذاكراً، حَنِث، ولو كان مكرهاً أو ناسياً، فعلى الخلاف، ولو أخذه السلطان وسلمه إلى صاحب الحق، فلا حنث.
ومن أحكم الأصول، هانت عليه المسائل.
9088 - ثم قال: "ولو قال: إن كلمتِه، فأنت طالق ... إلى آخره" (2).
إذا قال لها: إن كلمتِ فلاناً، فأنت طالق، فكلمته بحيث يسمع، وسمع، وقع الطلاق. وإن لم يسمع لعارض لفظ (3)، وذهول في المكلَّم، فقد قال الأصحاب: يقع الطلاق، وفي هذا نظر سننعكس عليه به، إن شاء الله.
ولو كان المكلَّم أصمَّ، فكلمته على وجه لا يسمعه الصم، ويسمعه من لا صمم به، فقد ذكر الأصحاب وجهين: أحدهما - أن الطلاق يقع؛ فإن هذا يسمى تكليماً، وليست اليمين معقودة على الإسماع.
والوجه الثاني - أن الطلاق لا يقع؛ فإن ما جرى ليس تكليم الصمّ، فهو في حقه بمثابة همسٍ لا يسمعه السميع.
__________
(1) في الأصل: بين.
(2) ر. المختصر: 4/ 79.
(3) كذا، والمراد: لفظٌ عارض يشوّش على المكلَّم.

(14/147)


واللفظ الذي ذكرناه يتفصّل -بعد الإحاطة بفصل الأصمّ- فإن كان اللفظ بحيث لا يتصوّر أن يسمع معه وإن جرّد المكلّم قصده في الدّرْك والإصغاء، فهذا فيه احتمال مأخوذ من تكْليم الأصمّ، وإن كان اللفظ بحيث يتصوّر السّماع معه، لو فرضت الإصاخة والإصغاء، لأمكن الإسماع، فيجب القطع هاهنا بالحِنث؛ فإنه يقال: كلمته فلم يُصغِ.
وقد ينقدح [في] (1) هذا نظر في تكليم الأصم إذا كان وجهه إليه، وهو أنه يعلم أنه يكلّمه، فالوجه هاهنا القطع بوقوع الطلاق، وكذلك القول في مثل هذه الحالة، والمانع اللفظ.
وإن كان كلمته على مسافة بعيدةٍ لا يحصل الإسماع في مثلها ولم يحصل، فلا يقع الطلاق، ولو اختطفت الريح كلامها وسحلته (2) في أذني المكلَّم، فالظاهر أنه لا يقع الطلاق.
ولو كلمته ميتاً أو نائماً، لم يقع الطلاق، ولو هذت هي بالكلام، لم يقع الطلاق، وإن كان على صيغة تكليمه، لأن هذا لا يسمى تكليماً. وإن سمي كلاماً.
ولو جُنّت، فكلمته، قال القاضي: يقع الطلاق، وهذا يخرج على أنها لو أكرهت على التكليم هل يقع؟ فإنّ قصد المجنون أضعف من قصد المكره، وسنذكر في حصول الحِنث مع الجنون كلاماً بالغاً في كتاب الإيلاء، إن شاء الله.
ولو كلمته سكرانةً أنبني أمرَها على أنها كالصاحية أم لا؟ فإن جعلناها كالصاحية، وقع الطلاق، وإلا فهي كالمجنونة، ولو انتهت إلى السكر الطافح، فهذت، فهذيانها كهذيان النائم، وسيأتي على الاتصال بهذه الفصول أحكام السّكران.
__________
(1) في الأصل: من.
(2) سحلته: أي صبته، يقال: سحلت السماء أي صبّت الماء (معجم)، والمعنى إذا كلمته من مسافة بعيدة، لا يكون الكلام من مثلها، ولكن الريح حملت كلامها إليه، فلا يسمى تكليماً.

(14/148)


فصل
قال: "ولو قال للمدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالقٌ ... الفصل" (1).
9089 - إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وقعت عليها طلقة وبانت، ولم تلحقها الثانية، والثالثة؛ فإن اللفظة الأولى مستقلة بإفادة الطلاق، وليس ما بعدها تفسيراً لها؛ فإن استقلت، ثبت حكمها، وحصلت البينونة.
9090 - وإذا قال للمدخول بها أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، وأتى بهذه الكلمات على الوِلاء، وقعت الطلقة الأولى، ونظرنا في الثانية والثالثة، فإن زعم أنه نوى بهما الإيقاع، حُملتا على الإيقاع، وطُلقت ثلاثاًً، وإن نوى باللفظة الثانية والثالثة تأكيد اللفظة الأولى، قُبل ذلك منه، ولم [يقع] (2) إلا واحدة.
فإن قيل: لم كان كذلك، وكل لفظةٍ مستقلّة بنفسها في إفادة الطلاق والإشعار بمعناه، فالثانية كالأولى، والثالثة كالثانية، والتمسك باللفظ أولى من التمسك بقصدٍ يزيل فائدةَ اللفظ؟ قلنا: التأكيد من القواعد التي لا سبيل إلى إنكارها وجحدها، وهو من مذاهب الكلام، ثم أصل التأكيد عند أهل العربية ثلاثة أقسام: الدرجة العليا من التأكيد لتكرير اللفظ، وكأن الذي يكرره يبغي بتكريره شيئين: أحدهما - التوثق بإيصال الكلام إلى فهم السامع عند تقدير ذهوله وغفلته. والثاني - الإشعار بأن هذا اللفظ لم يسبق إلى لسانه؛ فإنه إذا كرّره قطع هذا الوهم، فهذا أمّ باب التأكيد، وهو ممثل بقول القائل: رأيت زيداً زيداً، ومررت بزيدٍ زيدٍ.
والمرتبة الثانية في التأكيد - تلي التكرار والإعادة، وهو كقول القائل: رأيت زيداً نفسه.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 80.
(2) في الأصل: يقعد.

(14/149)


والمرتبة الثالثة في التأكيد - الإتيان بألفاظ تؤكّد معنى ما تقدم، وهو كقول من يريد التأكيد في عمومٍ، فيقول: رأيت القوم أجمعين، ثم قد يتبعون هذه الكلمة بكلمٍ لا يستقل مفرده ولا يشتق من معنىً وهو كقوله: جاءني القومُ أجمعون أَكْتعون أَبْصَعون. فهذا مراتب التأكيد وأصلها التكرير، كما ذكرنا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد تحقيق أمرٍ كرّره ثلاثاًً.
فإذا كان هذا أصلَ التأكيد، وكل لفظةٍ من الألفاظ التي ذكرها ليست مُفردةً في الذكر، فإذا فسَّرها بالتأكيد، والتأكيدُ أصلٌ في نفسه، والتكرير أصل التأكيد، لَزِمَ قبول ذلك منه.
ولو أطلق هذه الألفاظ، ولم يذكر أنه قصد الإيقاع أو التأكيد، بل قال: لم يكن لي قصد، ففي المسألة قولان: أحدهما - أنها محمولة على تجديد الإيقاع، والثاني - أنها محمولة على التأكيد.
فمن حملها على الإيقاع، فتمسكه باستقلال كل لفظة لو أنفردت.
ومن حملها على التأكيد، احتج بما مهدّناه قبلُ من أنّ أصل التأكيد التكرير، ومن أراد التجديدَ، فالعباراتُ الجامعة للعدد معلومة، وقَصْدُ التجديد بتكرير الكلم ليس أصلاً، وقَصْدُ التأكيد بالتكرير أصل في بابه، والأصل أنا لا نوقع من الطلاق إلا ما نستيقن.
9091 - ولو قال للتي دخل بها: أنت طالق وطالق، لحقتها طلقتان، ولا مساغ لقصد التأكيد في ذلك؛ فإن المؤكِّد لا يعطف على المؤكَّد، وحكم كل معطوف أن يكون مجدّداً مستأنفاً حالاًّ محلّ المعطوف عليه في الفاصل والاستقلال.
ولو قال: أنت طالق وطالق ثم طالق، فالألفاظ متغايرة، والحكم وقوع الثلاث إذا كان مدخولاً بها، وذلك؛ لأن اللفظة الثانية معطوفة على الأولى، فلا تصلح لتأكيدها، واللفظة الثالثة متعلقة [بصلة] (1) لم يسبق لها ذكر، حتى يفرض فيها التكرير، فاستقلت كُلّ لفظة.
__________
(1) في الأصل: بصلته.

(14/150)


9092 - ولو قال: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، ثم زعم أنه أراد بالثانية طلاقاً بائنا مجدّداً وأراد بالثالثة تأكيد الثانية، فهذا مقبول؛ فإن الثالثة على صيغة الثانية، وليس بينهما حائل يمنع من التأكيد، وهو متصل بالمؤكَّد. ولو قال: أردت إيقاع الأولى والثانية، وأردت بالثالثة تأكيدَ الأولى، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن التأكيد على هذا الوجه باطل غير مقبول، وإذا بطل التأكيد، حُمل اللفظ على التجديد، فيقع ثلاث طلقات؛ لأن من شأن ما يقع التأكيد به أن يكون متصلاً بالمؤكَّد، غيرَ منفصل عنه، وهو قد نوى باللفظة الثانية تجديد الطلاق، وهي فاصلة بين الأولى والثالثة، فامتنع من تخللها قصدُ التأكيد، وإذا بطل التأكيد تعيَّن التجديد.
والوجه الثاني - أن قوله مقبول؛ فإن الغرض أن يؤكّد الطلاق السابق، ولا يرجع التأكيد إلى اللفظ، وإنما يرجع إلى معناه، واللفظة الثالثة متصلة بوقوع الأولى، والأولى والثالثة متشابهتان لا تتميز إحداهما عن الأخرى، والأصح عند المحققين الوجه الأول.
9093 - ولو قال: أنت طالق، وطالق، وطالق، فيقع الطلقة الأولى والثانية وأما الثالثة، فإنها على صيغة الثانية، فإن أراد بالثالثة تأكيد الثانية، قبل منه.
وفي هذا أدنى غموض؛ لمكان واو العطف، وانفصال اللفظ به عن اللفظ، وقد
ذكرنا أن التأكيد ينافي الانفصال، ولكن لا خلاف أن قصده في التأكيد على ما ذكرناه مقبول، وسببه أن اللفظة الثالثة تكريرُ اللفظة الثانية، وقد ذكرنا أن أم التأكيد التكرير، والواو إذاً في الثالثة لا تكون عاطفةً، وإنما هي تكرير الواو الأولى، والكلمة بعدها تكرير الكلمة الثانية.
ولو أطلق ولم يقصد شيئاً، وقعت طلقتان معطوفة ومعطوف عليها، وفي الثالثة قولان، كما قدمناه. ولو قال: أردت بالثالثة تأكيد الأولى، لم يقبل منه وجهاً واحداً؛ فإنه مخالف للفظة الأولى باتصالها بالواو، فلا يصلح للتأكيد.
9094 - ولو قال: أنت طالق طالق طالق، وزعم أنه قصد التأكيد، لم يقع إلا واحدة.

(14/151)


فإن قيل: الكلمة الثانية ليست مصدرةً بالضمير، وكذلك الثالثة، والأولى مصدرة بالضمير؟ قلنا: هذا لا أثر له؛ فإن التأكيد يتعلق بالطلاق، ولا فاصل بين الألفاظ.
ولو قال: "أنت طالق طالق أنت طالق"، فالتأكيد يتطرق إلى الثانية مع الأولى، واللفظة الثانية انفصلت عن الثالثة بإعادة الضمير، ولا معول على هذا الفصل، فإن هذا الضمير ليس عاطفاً، حتى يقال: العطف يقتضي استئنافاً، فأمر التأكيد متجه، وإعادة الضمير محمول على التنبيه للتأكيد.
9095 - وحكى صاحب التقريب نصاً للشافعي يكاد يخرِم ما قدّمناه من الأصل، ونحن نحكيه على وجهه، ونذكر تصرفه فيه، ثم نعود إلى ترتيب الفصل ونستوعب أطرافه وبقاياه. قال: قال الشافعي: "لو قال: أنت طالق، وطالق، لا بل طالق، فيقع طلقتان بقوله: أنت طالق وطالق".
فلو قال: عَنيْت بقولي "لا بل طالق" تحقيقَ ما مضى وتأكيده، قال: قال: الشافعي يقبل ذلك منه. قال صاحب التقريب: جعل أصحابنا المسألة على قولين: أحدهما - هذا، وهو بعيد عن القياس.
والثاني -وظاهر النص في المختصر- أنه يقع الثلاث، كما لو اختلفت الألفاظ من وجهٍ آخر، مثل أن يقول: أنت طالق، وطالق، ثم طالق، فإن الطلقات تتعدد إجماعاً.
ثم قال صاحب التقريب: هذا فيه إذا قال: لا بل طالق. فلو قال: "طالق وطالق بل طالق" من غير (لا)، ففي المسألة طريقان: من أصحابنا من قطع بوقوع الثلاث في هذه الصورة، ومنهم من جعل المسألة على قولين، كما قدمناه فيه إذا قال: لا بل طالق.
وهذا النص الذي حكاه صاحب التقريب حكاه العراقيون كذلك، وإذا بعد الشيء، استأنستُ بكثرة النقلة، ولا شك أن الذي يقتضيه القياس [أن] (1) يُحمل اللفظ
__________
(1) مزيدة من المحقق.

(14/152)


على التجديد وامتناع [حمله] (1) على التأكيد، ولا ينبغي أن يُغيَّر أصلُ المذهب وقاعدتُه، بما يجري نادراً من حكايات النصوص.
والذي يمكن توجيه النص به: أنّ (بل) يتضمن استدراكاً في مخالفة ما مضى ومضادّته، حتى إن كان الكلام الأوّل نفياً، كان (بل) إثباتاً، وإن كان صَدْرُ الكلام إثباتاً، كان (بل) نفياً. هذا معنى الكلمة ووضعها، فإذا قال أولاً: أنت طالق، ثم قال آخراً: لا بل طالق، أو بل طالق، فهذه الكلمة ليست على وضعها في اقتضاء المخالفة فضعفت ووهت، وكانت كالساقطة المُطَّرحة، وهذا المعنى لا يتحقق في سائر التغايير الحاصلة بالصّلات المختلفة، وهذا لا بأس به.
على أنّ المذهب ما قدّمناه.
9096 - ولو قال: "أنت طالق، وطالق، فطالق" وقعت الطلقات الثلاثة (2).
فإن قيل الفاء كالواو في معنى العطف، فهلاّ جوزتم أن يكون اللفظ الثالث تأكيداً للفظ الثاني؟
قلنا: الفاء عاطفة، والعطف ينافي التأكيد وليست الفاء تكريرَ الواو، فإذا امتنع التكرير في الفاء، وجب إجراؤه على حقيقة العطف، والعطفُ مقتضاه الاستئناف.
9097 - وإذا أردنا نظمَ هذه المسائل المتفرّقة تحت ترجمةٍ، قلنا: إذا تغايرت الألفاظ بصلاتِ عواطفَ مختلفة، فهي على التجديد.
وإذا لم يتخللها عواطف، فهي بين التجديد والتاكيد: فإن قَصَد التأكيد، قُبل، وإن قَصَد التجديدَ، نَفَذ. وإن أطلق، فعلى الخلاف، فإذا تخلل بين لفظين ما يمنع من التأكيد، وقعت الثنتان، وفي الثالثة ما ذكرنا من التفصيل، فإن أكد بها الثالثة، قُبل، وإن أكد الأولى، فعلى وجهين قدمنا ذكرهما.
__________
(1) في الأصل: لفظه.
(2) كذا (الثلاثة) بالتأنيث، وهو جائز صحيح، لتقدم المعدود، حيث تجوز الموافقة والمخالفة.

(14/153)


9098 - ولو قال: أنت طالق طلقةً، فطلقة، نص على وقوع طلقتين، ونص على أنه لو قال: "عليَّ درهمٌ فدرهم" لم يلزمه إلا درهم واحد، فمن أصحابنا من جعل في المسألتين قولين: بالنقل والتخريج، وهذا بعيد.
ومنهم من أجراهما على الظاهر، وفرّق بأن الطلاق إيقاعٌ لا يَدْرأُ لفظَه إلا مَحْملُ التأكيد، والفاء تمنع من التأكيد، والإقرار إخبار والإخبارُ يحتمل من التأكيد والتكرار ما لا يحتمله الإيقاع، والدليل عليه أنه لو قال: أنت طالق طلقةً، بل طلقتين، فالمنصوص أنها تطلق ثلاثاًً، ولو قال: عليّ درهمٌ، بل درهمان، لزمه درهمان، ولو أعاد كلمة الطلاق على الهيئة الأولى في المجلس مع تخلل فصلٍ، وقعت طلقتان، ولو أعاد الإقرار على هيئته الأولى في مجلس أو مجلسين وأراد الإعادة، قُبل منه.
ولي في قوله: أنت طالق طلقة، بل طلقتين نظرٌ؛ فإنه ربما يبغي بهذا ضمَّ طلقةٍ إلى الأولى، فيتطرّق إمكان الإعادة على هذا التأويل، وهذا يتجه على النص الذي حكاه صاحب التقريب، بل هو أوجه منه.
ووجه ما ذكره الأصحاب أنه إذا قال: بل طلقتين، وجب حملهما (1) على الإنشاء، وإذا ذكرنا احتمال الضم، كان التقرير ضم إنشاء إلى إقرار، كأنه يقول: تيك الطلقة الأولى واقعة، والأخرى أُنشئها، وحَمْلُ الألفاظ في الطلاق على الإقرار بعيد.
9099 - ولو قال: أنت طالق طلاقاً، فهي واحدة إن لم ينو أكثر منها؛ فإن قوله: طلاقاً مصدر، والمصدر إذا أُكّدّ الكلام به، لم يقتض تعديداً، أو تجديداً، وهو كقول القائل ضربت زيداً ضرباً.
فهذا بيان الأصول في مضمون الفصل، ولا فصل إلا ويترتب عليه فروع، وأنا أرى تأخيرها حتى تقع الفروعُ نوعاً، والأصولُ نوعاً.
__________
(1) في الأصل: وجب في حملهما على الإنشاء.

(14/154)


9100 - والذي أختتم به هذا الفصل، وهو سرٌّ لطيف أنه إذا قال لامرأته: "أنت طالق، إن شاء الله" على الاتصال، فسنوضّح أن الطلاق لا يقع إذا أنشأ اللفظ على قصد الاستثناء، والشرطُ أن يكون الاستثناء متصلاً، والمنفصل منه لا يعمل، فهذا مما يراعى فيه الاتصال، ومما يعتبر فيه الاتصال أيضاًً الإيجاب والقبول، وما في اللفظ المحمول على التأكيد يشترط اتصاله بالمؤكَّد (1).
وأنا أقول: ليس اتصال المؤكِّد بالمؤكَّد والاستثناء بصدْر الكلام على مساق اتصال القبول بالإيجاب، بل يجب أن يكون اتصالُ كلام الشخص الواحد بكلامه أبلغ من اتصال القبول بالإيجاب، والمرعي في كل باب ما يليق به، فإذا انفصل القبول انفصالاً [يُخرجه] (2) عن كونه جواباً، ويُشعر الفصلُ بإعراض القابل عن الجواب، فهذا هو القاطع، وبدون ذلك ينقطع الاستثناء عن صدر الكلام؛ فإنَّ تواصُلَ الكلام الواحد فوق اتصال جواب خطاب، ويشهد لهذا أن تخلل كلام بين الإيجاب والقبول لا يقطع على الرأي الأصح.
والذي أراه أن تخلل كلام بين الاستثناء والمستثنى عنه يقطع الاستثناء، حتى لو قال: أنت طالق -قم يا عبدُ- ثم قال: إن شاء الله، لم يعمل الاستثناء، وقياس التأكيد كقياس الاستثناء، وقد يرد على هذا أنه إذا قال: أنت طالق طالق أنت طالق، ثم قال: أردت التأكيد باللفظة الثالثة، فهذا مقبول، كما قدّمته، وقوله في اللفظة الثالثة: "أنت" كلام زائد، ولكنه في معناه التنبيه للتأكيد، وما كان كذلك لم يكن فاصلاً قاطعاً.
وإذا ذكرنا هذا تبين أن السكتات إذا تخللت واللفظ واحد، فينبغي أن تكون أقصر ما يُفرض بين الإيجاب والقبول، ولا يشترط أن يجمع المتكلم الكلام والاستثناء، والتأكيد والمؤكَّد في نفسٍ واحد. هذا نجاز ما أردناه.
__________
(1) عبارة الأصل: " ... فهذا مما يراعى فيه الاتصال، ومما يعتبر فيه الاتصال أيضاًً الإيجاب والقبول، (وذلك الاتصال) وما في اللفظ المحمول على التأكيد يشترط اتصاله بالمؤكَّد" والتعديل بالحذف من المحقق.
(2) في الأصل "يخرج".

(14/155)


فصل
قال: "وكلّ مكرهٍ ... إلى آخره" (1).
9101 - نذكر في هذا الفصل حكمَ الإكراه على الطلاق، والعتاق، والعقود، حتى إذا نجز وتفرّعت مسائله نختتم الفصل بالإكراه ومعناه، فنقول: طلاق المكره وعتاقه لا يقع إذا تحقق الإكراه، وأتى المكرَهُ بالطلاق على مقتضى الإكراه.
ولو جرى ما يكون إكراهاً، فطلق المكرَه على حسب الاستدعاء منه، وزعم أنه اختار إيقاع الطلاق، فيقع الطلاق [و] (2) لا يمتنع أن يوافق قصدُه واختيارُه صورةَ الإكراه من المكرِه.
وإن أُجبر على أن يقول لامرأته: أنت طالق، فقال ما قال [وهو] (3) مُجْبرٌ، ونوى تطليقها عن وِثاقٍ، لم يقع الطلاق.
وهذا نهاية التصوير في الإكراه؛ فإن اللاّفظ أتى بلفظه على مطابقة المجبِر للخلاص منه، ولم يأل جهداً في التغيير وصرف النية عن الفراق إلى غيره.
ولو أُجبر، فوافق، ولكنه لم ينو تطليقها عن وثاقٍ، وكان من الممكن أن ينوي ذلك، هل نحكم بوقوع الطلاق؟ ذكر القاضي وجهين: أحدهما - وهو اختيار القفال أن الطلاق يقع؛ لأنه كان متمكناً من أن يورِّي، ويضمر ما ذكرناه، فيكون بقصده حائداً عن الفراق، فإذا لم يفعل، جرّ هذا إليه حكمَ المختارين؛ من حيث لم [يستفرغ] (4) وُسعه في الحَيْد عن الطلاق، وكان يقول: لو نوى الطلاق عن الوِثاق في حالة الاختيار، لم يقع الطلاق بينه وبين الله تعالى، ولكنه لا يصدّق إذا ادعى ما أضمره؛ من حيث إن الظاهر يكذّبه؛ فإنّ ذا الجدِّ لا يطلق لفظ الطلاق ومراده حلّ الوثاق، فإذا كان مكرهاً وأضمر حلَّ الوثاق، كان مصدَّقاً؛ لاقتران الإجبار بظاهر
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 81.
(2) زيادة اقتضاها إيضاح العبارة.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: يتفرع.

(14/156)


قوله، وهو (1) بمثابة الإقرار في الاختيار والإجبار، وإذا أقرّ بالطلاق كاذباً، لم يُحكم بوقوع الطلاق باطناًً، ولكن لو ادّعى أنه كان كاذباً في إقراره، لم يُصدّق، وإذا أكره على إقراره، ثم زعم أنه كان كاذباً، صُدّق؛ لأن ظهور الإجبار يُغلِّب على الظن صدقَه في دعوى الكذب في الإقرار. هذا أحد الوجهين وبيان اختيار القفال.
والوجه الثاني - أن الطلاق لا يقع، وإن لم يُوَرِّ؛ لأنّه أنشأ اللفظ مجبراً عليه، فسقط حكمه، ولم يأت بنيةٍ تُشعر باختياره.
هذا ما ذكره الأصحاب. وفي المسألة مزيد تفصيل عندي، فإن فرضت في غرٍّ غبيّ لا يفهم التورية، فلا ينبغي أن يكون في انتفاء طلاقه تردّدٌ، وإن كان المجبَر فقيهاً عالماً لمسألة التورية، ولم يفته ذكر هذه المسألة حالة الإجبار، فالأظهر عندنا أن الطلاق يقع، [وللاحتمال مجالٌ] (2) بيِّن إذا لم يقصد ولم يختر، وهذا محلّ الوجهين.
ولو كان الرجل عالماً ولكن أذهله الوعيد وبهَرَهُ السَّيفُ المسلول، فهو كالغِرّ الغبي الذي لا يذكر ولا يشعر.
9102 - ومما نذكره في ذلك أن الأصحاب قالوا: لو أكرهه المكرِه على طلقةٍ، فقال: هي طالق ثلاثاًً، وقعت الثلاث؛ لأنه لمّا زاد على الطلقة المطلوبة منه، ظهر بذلك اختياره وقصدُه وإرادتُه الطلاق.
وقال الأصحاب: لو أكرهه على أن يطلقها ثلاثاًً، فطلقها واحدةً، وقع الطلاق.
وطردوا في ذلك أصلاً وقالوا: مهما (3) خالف المكرَهُ المكرِهَ بزيادة على ما طلبه أو بنقصان منه، نحكم بوقوع الطلاق؛ لأنه إذا خالفه، فقد أتى بغير ما طلبه، فكان كالمبتدىء بلفظه، وموجب ذلك الحكمُ بالوقوع.
وقالوا: لو أكرهه على أن يطلّق زوجته عَمْرة، فضمها إلى ضرّتها، وطلقهما،
__________
(1) وهو بمثابة الإقرار في الاختيار والإجبار: المعنى أن حكم لفظ المكرَه إذا ورَّى حكمُ الإقرار بالطلاق في حالتي الاختيار والإجبار.
(2) في الأصل: والاحتمال مجاز.
(3) مهما: بمعنى إذا.

(14/157)


حُكم بوقوع الطلاق؛ بناء على ما ذكرناه من مخالفته إياه.
ولو أكرهه على تطليق امرأتين، فطلق إحداهما، قالوا: وقع الطلاق، كما لو أكرهه على ثلاث طلقات، فطلق واحدةً.
وقالوا أيضاًً: لو قال المكرِه: قُلْ: طلقتها، فقال: فارقتها، أو سرّحتها، حكم بوقوع الطلاق؛ طرداً للأصل الذي قدمناه، من أن المكرَه إذا خالف المكرِه المُجبِرَ، حكم بوقوع الطلاق؛ من جهة أن المخالفة تُصوِّر المكرَه بصورة المبتدىء المنشىء الذي لا ينبني كلامُه على استدعاء المجبِر.
ولي في هذه المسألة نظر: أما إذا أكرهه على طلاق عمرة، فطلّق عمرة وحفصة ففي تحقق الإكراه في عمرة وعدم وقوع الطلاق عليها احتمال بيّن ظاهرٌ؛ فإنه لا منافاة بين اختياره طلاقَ حفصةَ وبين كونه مجبراً على طلاق عمرة، فكأنه أتى بما استدعاه المجبر منه، وضمّ إليه ما كان في نفسه اختياره، والذي يحقق ذلك أنه لو كان على [نيّة] (1) أن يطلق حفصة، فقال المجبر: طلق عمرة معها، فهذا ظاهر في تحقق الإكراه في طلاق عَمْرة.
وأما إذا أكرهه على تطليق عمرةَ وحفصة، وطلق عمرة، فقد يظهر أنه يبغي بهذا إجابة المجبر في بعض ما قال، وهو يرجو أن يكتفي بذلك، فهذا فيه احتمال من هذا الوجه أيضاًً، والاحتمال في الصورة الأولى أظهر؛ من جهة أنه يتخلص [بما يفعله] (2) عن إرهاق من يجبره، ويتخلص عن الإكراه بتطليق واحدة، والمطلوب منه تطليق اثنتين.
ولو قال - وقد طلب منه طلاق اثنتين: أنت طالق وأنت طالق، فهذا مما يجب القطع به في كونه مكرهاً، فإنه ساعد (3) المجبر على هذه الصيغة، فكان بمثابة ما لو جمع طلاقهما في صيغة التثنية.
فأما إذا أجبره على طلقة، فطلق ثلاثاًً، فلا شكّ في وقوع الثلاث؛ فإن الذي صدر
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: ما يفعله.
(3) "ساعد" هنا بمعنى: أجاب، لا بمعنى أعان.

(14/158)


منه يشعر بانشراح صدره للطلاق، ولا يتميز طلقة عن طلقة، وليس كامرأتين، يضم إحداهما إلى الأخرى. نعم، إذا أجبره على الثلاث، فطلق واحدةً، فهذا فيه من الاحتمال ما فيه إذا أجبره على تطليق نسوةٍ، فطلّق واحدةً.
9103 - ثم قال الأئمة: الهازل بالطلاق يقع طلاقه، وهو الذي يقصد اللفظ دون المعنى، وليس هو الذي يقصد طلاقاً عن وِثاقٍ، فمطلَقُ اللفظ من الهازل يوقع الطلاق ظاهراً وباطناً، ولا يُلحقه بالذي ينوي طلاقاً عن وثاق، فإن نواه في هَزلِه باللفظ دُيّن، فإن الجادَّ يُدَيّن، فالهازل في معنى الجادِّ.
9104 - وأما اللاغي، فلا يقع طلاقه، وهو الذي يبدُر منه لفظ الطلاق من غير قصدٍ، فلا يقع طلاقه.
وهذا في تصويره فقهٌ؛ فإن الرجل إذا سمعناه يتلفظ بالطلاق، ثم ادّعى أنه كان لاغياً، فقد لا يُقبل ذلك منه ظاهراً وإن كان مقبولاً باطناًً لو كان صادقاً، فصوّر الأصحاب اللّغوَ على [نيته] (1) فقالوا: إذا كان اسم زوجته طاهرة، فقال: يا طالقة، وذكر أن هذا سبق إلى لسانه، وانقلب لسانه في بعض حروف اسمها، فقرينة الحال قد تصدّقه، فقال الأصحاب: إن ادعى اللّغوَ والحالة هذه، صُدِّق.
ولو اقترن بقوله: أنت طالق حَلُّ وِثاق، ثم زعم أنّه أراد بالطلاق أنها محلولة الوثاق، ففي [قبول] (2) ذلك وجهان، والسبب فيه أن لفظ الطلاق مستنكر مع هذه الحالة، فإن العاقد لا يختار إطلاق هذا اللفظ، والمسألة مفروضة في اختيار اللفظ، فأما التفات اللسان في حرفٍ مع ظهور القرينة، فلا وجه إلا القطع بقبوله.
ووصل أصحابنا بهذا أن امرأته لو كان اسمها طالقة فقال: يا طالقة، وهو يقصد نداءها، لم يقع الطلاق، وكذلك لو كان اسم العبد حرّاً، فقال مولاه يا حرّ، وقصد النداء، لم يُقضَ بوقوع العَتاق، ولو قصد الطلاق، وقع الطلاق، ولو أطلق اللفظ ولا يقصد نداءً ولا إنشاءَ طلاق.
__________
(1) مكان كلمة تعذرت قراءتها (انظر صورتها).
(2) في الأصل: قبوله.

(14/159)


فحاصل ما ذكره الأصحاب في العَتاق والطلاق وجهان، والمسألة محتملة جداً شديدة الشبه بما إذا قال: أنت طالق طالق طالق، ولم يقصد تجديداً ولا تأكيداً.
والإكراه على تعليق الطلاق يمنع انعقادَه، [كالإكراه] (1) على تنجيزه، وكذلك الإكراه على الأيْمان والنذور، والبيع والهبة، والأجارة، والنكاح، والعقود، [جُمَع] (2) وكان شيخي يقول: الهازل بالبيع فيه احتمال: يجوز أن يقال: هو كالجادّ، وكالهازل بالطلاق والعتاق، ويجوز أن يقال: لا ينفذ البيع من الهازل به؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث جدّهن جدٌ وهزلهنَّ جدٌّ: الطلاق والعَتاق والنكاح"31) وموجب الحديث التحاق النكاح بالطلاق.
وفيه إشكال؛ فإنه في معنى البيع؛ من حيث إنه لا يعلّق، ولا يصح باللفظ الفاسد، ولا يَشيع من الجزء إلى الكل، بخلاف الطلاق والعتاق.
9105 - وأما الإكراه على الردة، فإنه يسلب حكمَها؛ قال الله: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل:106].
ومن فقهائنا من يقول: يجب التلفظ بالردة لابتغاء الخلاص، كما يجب شرب الخمر عند الإكراه عليه، وهذا خطأ عندنا، فلو أصرّ الأسير على الدّين الحق، واستقتل، جاز ذلك، بل هو الأولى، وسنذكر جُملاً من هذا في كتاب الجراح، إن شاء الله.
فإذا أكُره الحربيّ على الإسلام، فنطق بالشهادتين تحت السيف، حكم بكونه
__________
(1) في الأصل: فالإكراه على تنجيزه.
(2) في الأصل: مجمع.
(3) الحديث رواه الطبراني في الكبير: 18/ 304 ح 780، ورواه أبو داود: كتاب الطلاق، باب في الطلاق على الهزل، ح 2194، والترمذي: كتاب الطلاق، باب ما جاء في الجد والهزل في الطلاق، ح 1184، وابن ماجة: كتاب الطلاق، باب من طلق أو نكح أو راجع لاعباً، ح 2039، والدارقطني: 4/ 18، والحاكم في المستدرك: 2/ 197، 198، رووه جميعاًً بلفظ (الرجعة) بدل (العتاق) وقد صححه الحاكم وتعقبه الذهبي في أحد رجاله، ووافق الحاكم في تصحيحه صاحبُ الإلمام، وانتهى الحافظ ابن حجر إلى الحكم عليه بأنه (حسن) (ر. التلخيص: 4/ 423 ح 1737).

(14/160)


مسلماً؛ فإن هذا إكراه بحق، فلم يغير الحكم، اتفقت الطرق على هذا، مع ما فيه من الغموض من طريق المعنى، فإن كلمتي الشهادة نازلتان في الإعراب عن الضّمير منزلة الإقرار، والظاهرُ من المحمول عليها بالسيف أنه كاذب في إخباره.
ولو أكَره ذميّاً على الإسلام، فأسلم فقد ذكر أصحابنا وجهين في أنا هل نحكم بإسلامه؟ والمصير إلى الحكم بإسلامه بعيد، مع أن إكراهه عليه غير سائغ، فلئن [استدّ] (1) ما ذكرناه في إكراه الحربيّ من جهة أنه إكراه بحقٍ، فلا ثبات لهذا المسلك والمكرَهُ ذميٌّ والإكراه ممنوع.
9106 - ومما نلحقه بهذا الأصل [أنّا ذكرنا] (2) قولين في الإكراه على الصفة الّتي علّق العتق بها، مثل أن يقول الزوج: إن دخلتُ الدار، فأنتِ طالق، فإذا أكره على الدخول ففي وقوع الطلاق قولان، والفرق بين الإكراه على صفة الطلاق وبين الإكراه على تنجيز الطلاق أو تعليقه أنا نبطل اختيار المكرَه في التنجيز والتعليقِ بالإكراه المقترن به، وهذا لا يتحقق في الصفة؛ فإن قول القائل: إن دخلتُ الدار متناول لما ينطلق عليه اسم الدخول سواء كان على صفة الاختيار، أو على صفة الإجبار، فكان الحكم بوقوع الطلاق مأخوذاً من تناول العقد لطَوْرَي الإكراه [والاختيار] (3)، وعقدُ اليمين على ما يوجد من المكره ممكن، فإنه لو قال في اختياره: إن دخلتُ الدار مكرهاً، فأنت طالق، فأجبر على الدخول فدخل، وقع الطلاق وفاقاً. وقد نجز ما أردناه في هذا الفن.
9107 - وبقي من الفصل الكلامُ فيما يكون إكراهاً، وفيما لا يكون إكراهاً، وهذا غائصٌ عويص، قلّ اعتناء الفقهاء به، ونحن نرى أن ننقل فيه ما بلغنا، ثم ننعطف عليه، ونتصرّف فيه بترتيب المباحثات.
أما العراقيون، فقد ذكروا فيما يكون إكراهاً على الطلاق أوجهاً: أحدها - أنه
__________
(1) في الأصل: "استمرّ". وهذه اللفظة تصحفت كثيراً كثيراً على بعض النساخ - و (استدّ) أي استقام. وهي المناسبة للسياق.
(2) في الأصل: ما ذكرنا.
(3) في الأصل: والإجبار.

(14/161)


التخويف بالقتل مع غلبة الظن بوقوعه لو لم يساعِف المجبَر.
والثاني - أن الإكراه هو التخويف بالقتل أو القطع.
والوجه الثالث - أنه التخويف بالقتل أو القطع أو إتلاف المال، وكل ما يصعب احتماله، ويعدّ في العرف من أسباب الإلجاء.
ثم قالوا: ويختلف ذلك بأحوال ذوي المروءات.
فهذا منتهى كلامهم.
ونقل (1) القاضي رضي الله عنه عن القفال طريقةً في حدّ الإكراه، وارتضى لنفسه مسلكاً، وحكى عن العراقيين مسلكاً:
أما ما حكاه عن القفال، فهو أنه قال: الإكراه أن يخوّفه بعقوبة تنال بدنَه عاجلاً، لا طاقة له بها، فلو قال: إن قتلتَ فلاناً وإلا قتلتُك، أو إن لم تقتله، لأقطعنّ طرفاً من أطرافك، أو لأضربنّك بالسياط أو لأجوّعنّك، أو لأعطشنّك، أو أخلِّدُ الحبسَ عليك، فهذا كله إكراه.
فإن قال: أفعل بك هذه الأشياء غداً، لم يكن إكراهاً.
وإن قال: لأتلفَنَّ مالك، أو لأقتلنَّ ولدك، لم يكن إكراهاً؛ لأنّ هذه عقوبةٌ لا تنال بدنه.
وقال: إن قال: لأصفعنّك في السوق، والمحمول من ذوي المروءات، فليس هذا بإكراه، فإن احتمال هذا يصعب على أصحاب [المروءات] (2)، والمتمسكون بالدّين ربما يؤثرون المشي مع الحفاء وتحسر الرأس (3).
هذا ما حكاه عن شيخه القفال.
وقال رضي الله عنه: الإكراه عندي أن يخوّفه بعقوبة لو نالها من بدنه مبتدئاً،
__________
(1) يعرض هنا لرأي الخراسانيين (المراوزة) بعد أن انتهى من كلام العراقيين.
(2) في الأصل: الرعونات.
(3) يضرب هذا مثلاً لما يمكن أن يعاقب به ويكره به: الحفاء وتحسّر الرأس. وكأن المعنى: أن المتمسكين بالدين يتحملون أمثال هذا، ويؤثرونه على الخضوع والاستجابة للمكرِه المجيز.

(14/162)


لوجب عليه القصاص، فعلى هذا إذا خوفه بتخليد السجن، لم يكن إكراهاً إلا أن يخوّفه بالتخليد في قعر بيتٍ يغلب الموت من الحبس فيه.
قال: وقال العراقيون: إنْ قال له: إن قتلتَ فلاناً وإلا قتلتك، أوقطعتُ طرفَك، كان إكراهاً، ولو قال: إن قتلته، وإلا أتلفت مالك، لم يكن إكراهاً، وإن قال: إن أتلفتَ مال فلان وإلا أتلفت مالك، يكون هذا إكراهاً.
قال القاضي: الإكراه لا يختلف باختلاف المحالّ، فلا فرق بين أن يكون المطلوب من المكره قتلاً، أو طلاقاً، أو عِتاقاً، أو بيعاً، أو [عُقدة] (1) من العقود.
وفي بعض التصانيف: اختلف أصحابنا في صفة المكرَه: منهم من قال: إذا توعده بما لا تحتمله نفسه، والغالب أنه يحقق ما توعّد به، فهذا إكراه، ومنهم من قال: يختلف ذلك باختلاف عادة الناس، فالشريف إذا خُوّف بالصفعة الواحدة على ملأ من الأشهاد، فهو إكراه في حقه، وفي هذا الكتاب (2): وإن خُوف بإتلاف المال والولد، فهل يكون إكراهاً؟ فعلى وجهين.
وكان شيخنا أبو محمّد يقطع جوابه بأن الإكراه يختلف باختلاف المطلوب، والإكراهُ على الطلاق دون الإكراه على القتل، ثم كان يختار أنّ الرجوع فيما يكون إكراهاً إلى ما يؤثر العقلاءُ الطلاقَ عليه، وهذا يجري في الحبس الطويل، والضربِ المبرّح، والنقصِ الظاهر من المروءة.
فهذا مجموع ما ذكر في هذا الفصل.
9108 - ونحن نقول: إذا كان التخويف يتعلق بالروح، وذلك بأن يكون التخويف بالقتل، أو القطع الذي لو فرض وقدّر سريانه إلى الهلاك، لكان موجباً للقصاص، فهذا إكراهٌ في جميع المواضع، لا يجب أن يكون فيه خلاف، وإن ردّد العراقيون فيما حكيته جوابهم في التخويف بقطع الطرف.
__________
(1) في الأصل: عنده.
(2) هذا الكتاب: يعني به (بعض التصانيف) المشار إليه آنفاً، وصاحبه هو الإمام أبو القاسم الفوراني.

(14/163)


وإذا كان التخويف بضربٍ لو فُرض وقوعُهُ، لكان من موجبات القصاص إذا أفضى إلى التلف، فهو بمثابة التخويف بقطع الطرف، وهذا جارٍ في كل محل، يخالف فيه من يخالف في التخويف بقطع الطرف إلا أن يكون التخويف بضرب لا يتصوّر البقاء معه، فيكون بمثابة التخويف بالقتل.
فأما إذا كان التخويف بتخليد الحبس، أو إتلاف المال، أو قتل الولد، فهاهنا موقف يجب التنبه له: ذهب ذاهبون إلى أن المرعي في هذا المقام أن يكون المطلوب من المجبَر أقلَّ في نفسه ممَّا خُوّف به، وبنَوْا عليه أنه إذا كان كذلك، فإنه سيؤثر الطلاق في غالب الأمر، فيكون محمولاً على اختيار الطلاق، ومن كان محمولاً على اختياره، سقط اختيارُه؛ فإن الاختيار الحقيقي هو الذي لا يكون المرء محمولاً عليه.
وإن كان المطلوب منه أكبرَ في النفوس مما يخوَّف به، فلا يتحقق الإكراه حينئذٍ، وهذا المسلك يوجب الفرق بين المطلوب والمطلوب، فإن كان المطلوب قتلاً؛ فإن احتمال الحبس على انتظار الفرج [هو] (1) أهون من الإقدام على قتل مسلم.
وإن كان المطلوب الطلاق والعتاق، لم يهن احتمال الحبس، وهذا يرجع إلى الجبلّة، وليس من أوزان الفقه وتصرفه في الفرق بين الخطير وما دونه، بل لا تحتمل النفس الحبس والمطلوبُ الطلاق، فيصير محمولاً على اختيار الطلاق، وليس الأمر كذلك في القتل.
وعليه يخرّج الفرق بين المناصب والمراتب، والنظر إلى ذوي المروءات، وسرّ هذا المسلك ردّ الأمر إلى كون الإنسان محمولاً على اختيار ما يطلب منه.
فقد لاح أن هذا السبيل يوجب الفرق بين المطلوب والمطلوب، وبين المطالَب والمطالَب.
9109 - والطريق مبهمٌ بعدُ [وسنذكر] (2) فيه الممكن من التفصيل بعد تمام البيان في التقعيد والتأصيل.
__________
(1) في الأصل: وهو.
(2) في الأصل: سنذكر (بدون وأو).

(14/164)


ومسلك المحققين أن الإكراه هو الذي يسلب الطاقة والإطاقة، ولا يُبقي في غالب الأمر للمرء خِيَرَة التقديم والتأخير، حتى يصير كأنه لا اختيار له، والمخوّف بالقتل والقطع كذلك، [فلا يقع] (1) المطلوب منه لنظره وتخيره (2).
فأما الذي يؤثر الطلاق على الحبس، فإنما هو مفضّلٌ حالةً على حالة، ومرتاد عيشة على عيشةٍ، واختياره صحيح، فلا يتحقق الإكراه والحالة هذه.
والذي فرضه الأولون من الموازنات، والنظر في الأقدار مسلكٌ من مسلك الرأي والاستصواب، فقد يُرهق الزمانُ المرءَ إلى أمثاله، فيستصوب له أن يطلّق أو يبيع، وليس هذا من الإكراه الحقيقيّ في شيء، فينحصر الإكراه على هذا المسلك فيما يكاد يُعدِم الاختيار، حتى لا يبقى إلا ما يؤثره من يفر من الأسد في وطء الأرض المشوكة، فقد يتخطاها الفارّ وهو لا يحس بوخز الشوك.
وبين هذه الطريقة والطريقة الأولى تباين عظيم.
ثم لا نفرّق فيه بين أن يكون الإكراه على إتلاف مالٍ قلّ أو كثر، أو على بيع مال، أو طلاق، أو قتلٍ، ولا يعترض على هذا إلا شيء واحد، وهو أنه لو خُوّف بإيلامٍ عظيم لا يصابَر، وإن لم يكن مما يقصد به القتل، فقد يحصل بمثل هذا قريبٌ من سلب الطاقة، وفيه نظر.
وأنا أقول: التخويف به لا يكون إكراهاً، أما مفاتحته (3) بالإيلام، ففيه [الاختلاف] (4)، وليس هذا كالتخويف بالقتل؛ فإن وقوع الخوف أشد من وقوع هذا الإيلام.
هذا بيان تأصيل الطريقين.
9110 - وعلينا بعد هذا أمران: أحدهما - التفصيل والآخر - الإشارة إلى العثرات: أما التفصيل، فتأصيل الطريقة الأخيرة بفصلها (5)، ولا يرد عليها إلا الألم
__________
(1) في الأصل: ولا يقع.
(2) المعنى لقطع نظره وتخيّره بالإكراه.
(3) مفاتحته بالإيلام: المعنى بدء إيلامه.
(4) في الأصل: الاحتلام.
(5) بفصلها: أي كما هي عليه في بياننا وشرحنا لها.

(14/165)


المرهق الذي ذكرنا، ومسألةٌ أخرى وهي أن الأخرق لو خوّف، فما يحسبه مهلكاً ولم يكن كذلك، فقد ينتهي إلى سقوط الاختيار، وهذا يُخرَّج على ما إذا رأى سواداً ظنه عَدُوَّاً، فصلى صلاة الخوف، ثم لم يكن كما ظنّ.
فأما الطريقة الأولى، فمن ضرورتها الفصل بين المطلوب والمطلوب، فالإكراه على القتل فوق الإكراه على الطلاق وإتلافه المال. ثم الإكراه على القتل يقع بالتخويف بالقتل لا غير في وجهٍ، أو بالتخويف بالقطع الذي يكون مثله عمداً في قتل النفس، فأما ما عداه، فلا يكون إكراهاً على القتل؛ فليس التخويف بإتلاف المال والولد إكراهاً على القتل.
فأما الإكراه على الطلاق، فلا يشترط فيه القتل والقطع، ثم قال الأصحاب: يختلف الإكراه باختلاف درجة المكرَه، كما حكيناه.
وذكروا خلافاً فيما يتعلق بغير بدن المطالَب: كالإكراه بإتلاف المال وقتل الولد ومن في معناه.
فينتظم منه أن ما يتعلق ببدن المطالَب المكرَه، فإن كان عقوبةً وإيلاماً، أو حبساً يهون الطلاق في مقابلته، فهو إكراه، ثم الآلام تختلف بقوّة المكرَه وضعفه، فقد يحتمل القوي الضربَ العنيف، والضعيفُ لا يحتمله، فهذا مما يختلف باختلاف الأبدان لا محالة، وما يرجع إلى حط الجاه، والغضّ من المروءة كالصفع على رؤوس الأشهاد، وتكليف الإحفاء وتحسر الرأس في الأسواق، فهذا مختلف فيه: فمن أصحابنا من لا يراه إكراهاً، ومنهم من يراه إكراهاً في حق من يعظم وقعُه في حقه.
هذا فيما يتعلق بالمُطالَب.
فأما ما يتعلق بغيره، فهو التخويف بإتلاف المال، وقتل الولد، أو الوالد، فهذا فيه اختلاف: فمنهم من يجعله إكراهاً، ومنهم من لا يجعله إكراهاً، ففي كلام العراقيين ما يدل على أن التخويف بالمال في مقابلة المال إكراه، وليس التخويف بإتلاف المال في مقابلة الطلاق إكراهاً.

(14/166)


9111 - هذا مجموع ما ذكروه. وهو خارج عن الضبط؛ فإن [انتقاص] (1) المروءات والأقدار التي يصعب وقعها أو يهون احتمالها بالإضافة إلى الروح لا تنضبط، ويرجع الأمر فيه إلى النظر في آحاد الأشخاص؛ فإنهم على تفاوتٍ ظاهر، وإن كانوا [يُعدّون] (2) داخلين تحت نوع أو جنسٍ.
وإذا جعلنا الإكراه بإتلاف المال إكراهاً، فالنظر ينتشر في هذا من [وجه] (3) أنا إن سوّينا بين القليل والكثير، كان ذلك مردوداً، فلا خطر في إتلاف الدرهم فما دونه، وإن نظرنا إلى نصاب السرقة، عارضه المقدار الذي تغلظ اليمين فيه، ثم هما جميعاً توقيفان، والذي نحن فيه معنى معقول، وهو الإلجاء الغالب المؤثر في توهين الاختيار، فإحالة هذا على التوقيفات محال، وأخذ هذا الأصل من جواز الدفع عن المال قلّ أو كثر بعيدٌ؛ فإن معنى الإلجاء يبطل بالكلّية، وإن رجعنا إلى عزة المال في النفوس وضِنّتِها بها، عارضه تخرّق الأسخياء، وهذا نَشَرٌ لا مطمع في ضمّه أصلاً، ولا ينقدح فيه إلا النظر إلى حال كل شخصٍ، ثم لا مطلع عليه إلا من جهته، والكلام يخرج عن ضبط الفقه، فيجب ردّ الإكراه إلى التخويف بالقتل، أو التخويف بما يؤدي إلى القتل، كما ذكرناه.
هذا منتهى التفريع.
9112 - فأما العثرات، فعَدُّ القفال الحبسَ إكراهاً على القتل عثرةٌ، ولا سبيل إلى اعتقادها؛ فإن الحبس لا يسلب الاختيار، وهو في مقابلة القتل قليلٌ في كل مسلك، والجمع بين سقوط الطاقة وبين المصير إلى أن الحبس إكراهٌ هفوةٌ.
والقطع بأن التخويف بقتل الولد ليس بإكراه والحبس إكراهٌ هفوةٌ.
وقد انتهى الغرض على أكمل وجه في البيان.
__________
(1) مزيدة من المحقق لاستقامة الكلام، ولعلها سدّت مكان خرم أكثر من هذا.
(2) في الأصل: يغدون.
(3) في الأصل: من أوجه.

(14/167)


فصل
قال: "ومغلوب على عقله خلا السّكران ... إلى آخره" (1).
9113 - أما المغلوب على عقله بالنوم، أو الجنون، أو الإغماء، فلا يقع طلاقه، وأما السّكران، وهو مقصود الفصل، فنتكلم في حكمه، ثم نتعرض لبيان السكر، فنقول: طلاق السّكران واقع في ظاهر المذهب، ولا يُلفى للشافعي نصّ في أنه لا يقع طلاقه، ولكن نصّ في القديم على قولين في ظهاره، فمن أصحابنا من نقل من الظهار قولاً إلى الطلاق، وخرّج المسألتين على قولين.
ومعظم العلماء صائرون إلى وقوع طلاق السكران، وذهب عثمان وابن عباس وأبو يوسف (2) والمزني وابن سُريج في أتباعٍ لهم إلى أن طلاق السكران لا يقع.
وأما سائر تصرفات السكران، فللأصحاب فيها طرق: منهم من قال: في جميعها قولان: أحدهما - حكمه فيها حكم الصاحي.
والقول الثاني - حكمه فيها حكم المجنون. والقولان مُجْريان في أقواله وأفعاله فيما له وعليه.
ومن أصحابنا من قال: ما عليه ينفذ، وفيما له قولان.
ومنهم من قال: أفعاله كأفعال الصاحي، وفي أقواله قولان؛ وهذا لمكان قوة الأفعال.
هذه مسالك الأصحاب، وأشهرُها طرد القولين في الجميع، ولا خلاف أنه مأمور بقضاء الصلوات التي تمرّ عليه مواقيتها في حالة السّكر، وإن كان السكر بمثابة الإغماء، على معنى أنه لا يتصور إزالته بالتنبيه، كما يُزال النّوم به.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 81. وتمام العبارة في المختصر: "وكل مكرهٍ ومغلوب على عقله فلا يلحقه الطلاق خلا السكران من خمر أو نبيذ".
(2) لم نجد في كتب الأحناف من نسب إلى أبي يوسف القول بعدم وقوع طلاق السكران، ولكنهم ينتقلون إلى الكرخي، والطحاوي وينسبون القول بعدم الوقوع إليهما (ر. بدائع الصنائع: 3/ 99، حاشية ابن عابدين: 2/ 424، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 431 مسألة 941).

(14/168)


وكان شيخي يقول: من أُوجر (1) خمراً، وانتهى إلى السكر الطافح، فمرت عليه مواقيت صلوات، لم يلزمه قضاؤها، كالمغمى عليه.
وتردد الأصحاب في أنا إذا جعلنا السّكران كالصاحي، فهل نجعل صورة السكر حَدَثاً ناقضاً للطهارة؛ فإنه على صورة الإغماء، وقد قدّمنا هذا في كتاب الطهارة.
فهذا قولنا في أحكام السكران.
وقد قال الشافعي: إذا ارتد السكران، ثبت حكم الردة، ولكنّه لا يستتاب حتى يُفيق، وعن هذا النص نشأ للأصحاب الفرق بين ما له وعليه، والأَوْلى حمل ذلك على رعاية [مصلحته] (2)، وإلا فالإسلام يصح ممن تصحّ منه الردة.
9114 - فأما حدّ السكر، فقد نقل عن الشافعي أنه قال: إذا اختلط كلامه المنظوم، وانكشف سره المكتوم، فهو سكران.
وقال قائلون: إذا أخذ يهذي في الكلام ويتمايل في المشي، فقد انتهى إلى السكر.
وقال بعض الأصحاب: السكران من لا يعلم ما يقول، وهذا يعتضد بظاهر قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43].
وهذه العبارات متقاربة، ولكنها ليست على الحدّ الذي أرتضيه في البيان، فأوّل السكر لا يسلب الكلامَ، ولا يُنهي السكران إلى الهذيان الذي يصدر مثله من النائم، ولكن السكران هو الذي يكون في كلامه وخطابه وجوابه وما يقوله ويفعله كالمجنون، وللمجنون مَيْزٌ وفهم، وهو يبني عليه الجوابَ والإصغاء وفهم الخطاب، فإذا انتهى السكران إلى مثل حاله، فهو في حد السكر.
ثم قد ينظم المجنون كلاماً وقد يخبطه، ولا تخفى تاراته في نظمه وخَبْطه، والمعنىُّ بكلام الشافعي إذا اختلط كلامه المنظوم أن يتطرق إلى كلامه الاختلاطُ الذي يتطرق إلى كلام المجانين.
__________
(1) أُوجر: من أوجرت المريض إذا صببت الدواء في حلقه (المصباح).
(2) في الأصل: مصلحةٍ.

(14/169)


ومن قال: السكران من يهذي ويتمايل، فالذي جاء به لا بيان فيه، والتمايل لا معنى له.
ومن قال: السكران من لا يعلم ما يقول، فعليه مراجعةٌ، لما ذكرنا من أن أصل العلم لا يمكن سلبُه من البهائم، فضلاً عن السكارى والمجانين، ومن أراد الإحاطة بهذا على التحقيق، فليجدّد عَهْده بمجموعاتنا (1) في حقيقة العقل، ثم ليَبْنِ عليه أن السكران من لا يتصف بالعقل، وإن نجّزنا طرفاً منه: فمن لا عقل له، [لا يتصوّر] (2) منه النظر العقلي، وإن ذكر من مباديه شيئاً، فهو عبارات الفقهاء، ولا يخفى عروُّه عن حقيقتها.
9115 - فإذا دبّت الخمرة (3)، انتشى الشارب وعَرتْه طَرِبَةٌ وهِزّةٌ، وهذا قد يَحُدّ (4) العقل، فليس من السكر (5).
وبعد ذلك ما (6) وصفناه من السكر، مع بقاء أفعال وأقوال.
ومنتهى (7) السكر الاتصاف بصفة المغشي عليه.
__________
(1) بمجموعاتنا في حقيقة العقل: المراد مؤلفاتنا، ومباحثنا في حقيقة العقل، وللإمام كتاب بعنوان (مدارك العقول) لما نصل إليه بعدُ. وقد أشبع قضية العقل والعلم بحثاً في كتابه الفذّ (البرهان في أصول الفقه) في الفقرات من 36 إلى 69. وكان من نعم الله علينا أن هيأ لنا إخراج هذا الكتاب لأول مرة، بعد أن ظل مخطوطاً قروناً طويلة يُسمع به ولا يرى، فلله الحمد والمنة.
(2) في الأصل: "ولا يتصوّر" (بزيادة الواو).
(3) أول صور السكر عند الإمام.
(4) يحدُّ العقل: من باب قتل. وهي هنا من معنى حدَّ السيفَ: إذا شحذه. كذا فسر الرافعيُّ كلام الإمام (الشرح الكبير: 8/ 566).
والمعنى أن الخمر في أول أمرها قد تشحذ العقل، قبل أن تغيبه وتذهبَ به، وهذه أول مرحلة من مراحل السكر الثلاث - عند الإمام.
(5) فليس من السكر: أي هذه الحالة الأولى من حالات السكر ومراحله، وهي لا تحسب في أحكام السكران.
(6) هذه الحالة الثانية أو المرحلة الثانية من مراحل السكر.
(7) وهذه هي الحالة الثالثة، أو المرحلة الثالثة.

(14/170)


ثم في هذا نظر.
فإن انتهى إلى حالة الإغماء وسقوط الاختيار بالكلية، فالوجه القطع بإلحاقه
بالمغمى عليه، حتى إذا بدرت منه كلمة الطلاق بُدورَها من النائم الهاذي، فلا حكم لها، وكذلك القول في أفعاله، فهي منزّلة منزلة ما يصدر من المغشي عليه.
وإنما التردد والكلامُ فيه إذا كان السكران على [مضاهاة] (1) المجانين.
وأبعدَ بعض أصحابنا فألحق ما يصدر من ذي السكر الطافح بما يصدر منه، وهو يفعل ويقول ويتردد، وهذا إنما أخذه من إيجابنا عليه قضاء الصلوات وإن انتهى السكر إلى رتبة الإغماء (2).
ثم الفقه في الصّلاة يستدعي الإشارة إلى مسائل قدمناها في كتاب الصلاة، منها:
__________
(1) في الأصل: مضادّة. والمثبت تصرّفٌ من المحقق على ضوء السياق.
(2) لخص الإمام الرافعي هذا الفصل -في حدّ السكر- من كلام الإمام تلخيصاً حسناً، وليس في عرضنا لهذا التلخيص والترتيب من كلام الرافعي خروج على المنهج الذي نراه وندعو إليه، وألزمنا به أنفسنا، وأعني به عدمَ إثقال الكتاب المحقق بالتعليقات التي لا تخرج عن كونها شرحاً، أو تلخيصاً، أو إعادة صياغة، وإنما هو من صلب منهجنا حيث يدخل في (إضاءة النص) والإعانة على فهمه، فقد جاء كلام الإمام عن حدّ السكر متداخلاً يصعب ضبطه، وهذا ما سوّغ لنا أن نورد تلخيص الرافعي، وهذا نصه:
"ولم يرضَ الإمام عبارات الأصحاب، وقال: شارب الخمر تعتريه ثلاثة أحوال: إحداها - هزة ونشاط يأخذه إذا دبت الخمر فيه، ولم تستول عليه بعد، ولا يزول العقل في هذه الحالة، وربّما يحتد.
والثانية - نهاية السكر، وهو أن يصير طافحاً، ويسقط كالمغشي عليه، لا يتكلم، ولا يكاد يتحرك.
والثالثة - حالة متوسطة بينهما، وهي أن تختلط أحواله، فلا تنتظم أقواله وأفعاله، ويبقى تمييزٌ وفهم كلام.
فهذه الحالة الثالثة سكرٌ، وفي نفوذ الطلاق فيها الخلاف الذي بيناه.
وأما في الحالة الأولى، فينفذ طلاقه لا محالة؛ لبقاء العقل، وانتظام القصد والكلام.
أما في الثانية، فالأظهر عند الإمام، وهو المذكور في الوجيز أنه لا ينفذ؛ لأنه لا قصد له، كأنه جرى على لسانه لفظ، فهو كما يفرض في حق النائم، والمغمى عليه، ومن الأصحاب من جعله على الخلاف المذكور لتعدّيه بالتسبب إلى هذه الحالة، وهذا أوفق لإطلاق أكثرهم، والله أعلم" ا. هـ (ر. الشرح الكبير: 8/ 566).

(14/171)


أنّ من ردّى نفسه من شاهقٍ، فانخلعت قدماه، وصلّى قاعداً، فإذا [استبلّ] (1) وبرأ، فالأصح أنه لا يلزمه قضاء الصلوات التي أقامها قاعداً؛ من جهة أن الرخص والتخفيفات وإن كانت لا تثبت للعصاة، فالمعصية قد انقضت بالتَّرْدية، ودوامُ العجز كان بعد انقضائها.
ومن أصحابنا من أوجب القضاء تغليظاً على الذي عصى بترْدية نفسه. وإذا عاطت (2) المرأة فأَجْهَضَتْ جنيناً، ونُفِست، فالمذهب القطع بأنها لا تقضي الصلوات التي تمر مواقيتها في النفاس، وفيه خلاف.
ثم من يُلزم القضاء في الضروب التي أشرنا إليها يستدل بالسّكران؛ فإن الشّرب هو الذي يتعلق الاختيار به كترْدية النفس، وكالسعي في الاستجهاض، والسكر لا يقع مختاراً.
وفصل المحققون بين السكر وبين الصّنوف التي قدمناها بأن قالوا: مطلوبُ من يشرب السُّكر، وإلا فالسَّكر في نفسه والمشروب مرٌّ بشعٌ، وليس مطلوباً، ومبنى الشرع على التغليظ على من يبغي ما لا يجوز ابتغاؤه، فلما كان السُّكر شوْفَ النفس، التحق عند حصوله بمعصية مختارة، وانخلاع القدم، واسترخاء النفاس ليس مطلوبَ
__________
(1) في الأصل: "استقلّ"، وهو تحريف والتصويب من المحقق على ضوء أسلوب الإمام، واستخدامه هذا اللفظ في هذا المعنى دائماً و "استبلّ" أي شُفي وعادت إليه عافيته.
(2) عاطت المرأة: لم تحمل سنوات من غير عقم، وقيل: إن ذلك بسبب سمنها وشحمها (اللسان، والمعجم، والقاموس).
ثم هي في الأصل غاطت (بالغين المعجمة) ومع ذلك فالكلمة (عاطت) غير مستقيمة في سياقها؛ إذ المعنى أن المرأة تفعل فعلاً تتسبب به إلى الإجهاض وإلقاء جنينها، وهذا لا تؤديه (عاطت).
ولما أصل بعدُ إلى اللفظة التي يظن أن هذه حرفت عنها، مع تقليبها على جميع صورها الممكنة. والله أعلم.
الآن والكتاب ماثل للطبع حصلنا على صورة من هذا الجزء من (صفوة الذهب) ووجدنا الكلمة فيها واضحة وهي: "وإذا (عالجت) المرأةُ؛ فأَجْهَضَت" والمعنى إذا تسببت في الإجهاض وتعاطت أسبابه من شراب أو طعامٍ، أو فعلٍ. (فانظر واعجب كيف تصحفت الكلمة (عالجت) إلى (غاطت)!!!.

(14/172)


النفوس، ثم السُّكر في عينه تركٌ للصلاة، أو سببٌ خاصٌّ فيه، فلم يُسقط قضاءَ الصلاة قولاً واحداً.
وأما الحكم بوقوع الطلاق، فمما يقع متفرعاً على السكر، وقد لا يتفرع، وكأن التردد فيه وفي أمثاله لما نبهنا عليه، والسُّكر بالإضافة إلى الصلاة عينُ الترك، أو سببٌ خاصّ في الترك.
9116 - ومن تعاطى شيئاً يزيل العقل من غير حاجة عصى ربّه، ثم قال الأصحاب: حكمه إذ اختلط عقله كحكم السكران.
والذي أراه فيه أنه لا يُلحق بالسَّكران، والتحقيق فيه أن هذا النوع من زوال العقل إذا لم يكن مقصوداً، فهو عندنا في حكم الصّلاة كانخلاع القدم في حق من يردّي نفسه، وكالنفاس في حق المستجهضة.
وإذا كان الفقه المحض يقتضي إسقاط قضاء الصّلاة مع خلافٍ فيه، فالقطع بإلحاقه بالسكران لا وجه له، وكذلك إذا تسبب فجنّن نفسَه، ففي الأصحاب من ألحقه بالسكارى. وهذا غفلةٌ عن المعنى الذي نبهنا عليه.
ولما أراد المزنيّ نصرة مذهبه في أن طلاق السّكران لا يقع، احتج بالذي جنّن نفسه، ولم ير أنه يخالَف في وقوع طلاقه، وللأصحاب فيه التردد الذي حكيناه، وفي كلام القاضي ما يدل على القطع بإلحاقه بالسكارى، وهذا فيه خلل ظاهر لما نبَّهت عليه.
ولم يختلف أصحابنا في أنّ من أُوجر خمراً، فسكر، وطلّق، لم يقع طلاقه.
ومن تداوى ببَنْجٍ (1)، أو غيره، فزال عقله، لم يقع طلاقه.
وإذا حرّمنا التداوي بالخمر، فالمتداوي بها عاصٍ بشربها، ولا يخفى الحكم وراء
ذلك.
...
__________
(1) ببَنْجٍ: البَنْج: مثال فلس، نبت له حب يخلِط بالعقل (المصباح).

(14/173)


باب الطلاق بالحساب
قال الشافعي: "ولو قال لها: أنت طالق واحدة في اثنتين ... إلى آخره" (1).
9117 - إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق واحدة في اثنتين، فإن قال: نويت واحدةً مع اثنتين -والمرأة مدخول بها- وقعت الثلاث، لأن ما قاله محتمل، ونحن نوقع الطلاق بأدنى احتمال يبديه، وإن كنّا لا ندفع الطلاق بمثله، وكلمةُ (في) قد تستعمل بمعنى (مع) قال الله تعالى: {ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ} [الأعراف: 38] أي (مع) أمم.
وإن أراد جعل الطلقتين ظرفاً، ورأى الواقع واحداً هو المقصود بالوقوع، فهذا مقبول منه؛ فإن (في) معناه الظاهر إفادة الظرف، والإشعار به، ثم الذي في الظرف يخالف الظرف.
وإن أراد به الحساب -وكان عالماً به- حُمل لفظه على الحساب، ووقع ثنتان.
وإن أطلق لفظه، وزعم أنه لم يرد شيئاً، فقد ذكر القاضي وغيرُه من المحققين قولين: أحدهما - أنه محمول على الحساب، فيقع ثنتان.
والثاني - أنه لا يقع إلا واحدة؛ لأنه يحتمل الحساب، ويحتمل الظرف، ولا مزيد على المستيقن، وهو طلقة واحدة، وما زاد مشكوك فيه، وقرّبوا هذين القولين من قول الزوج لامرأته المدخول بها: أنت طالق طالق طالق، إذا زعم أنه أطلق لفظه، ولم يَعْنِ تأكيداً ولا تجريداً.
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 81.

(14/174)


وهذا في عالمٍ بعبارة الحساب يزعم أنه أطلق لفظه، ولم يخطُر (1) له معنى.
وفي بعض التصانيف ذِكْرُ قول ثالث، وهو أنه يقع ثلاث طلقات وذكره شيخنا، وهو بعيدٌ، ووجهه على بعده أنه يعرض لثلاث طلقات مع صلةٍ والأصلُ وقوع العدد الذي تلفظ به.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان عالماً بمراد الحُسّاب بمثل هذه اللفظة.
9118 - فإن كان جاهلاً بمراد الحُسّاب، وقد أطلق اللفظ، فالذي قطع به المحققون أنه لا يقع إلا واحدة إذا زعم أنه لم يكن له قصد. وينقدح عندنا خروج القول الذي حكيناه عن بعض التصانيف في إيقاع الثلاث، نظراً إلى التلفظ بها، ولكنني لست أثق بهذا القول.
ولو قال مُطلِق هذا اللفظ -وهو جاهل بالحساب وعبارةِ أهله-: أردت بهذا اللفظ ما يعنيه الحُسّاب، ولست عالماً به، ففيما يقع والأمر كذلك وجهان ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنه يقع ما يقتضيه الحساب، فإنه قصد الطلاق، وربط العدد بمقصودهم، فيقع الطلاق ويراجع الحُسّاب في مقصودهم، وهو كما لو قال: إن كان الطائر غراباً، فامرأته طالق، فليس هو على علم بموقع الطلاق في الحال، ولكن إذا تبينا تحقق الصفة، حكمنا بوقوع الطلاق تبيّناً.
والوجه الثاني - أنه لا يقع إلا واحدة؛ فإنه لم يفهم معنى اللفظ، والنياتُ لا تثبت على الإبهام، وإنما تثبت على التحقيق والتفصيل، ولا خلاف أن الأعجمي إذا نطق بالطلاق بلغة العرب، ونوى معناه عند أهله، ولم يفهمه عند إطلاق اللفظ، ثم وضح له معناه، لم يقع الطلاق باتفاق الأصحاب، وليس هذا كما لو علّق الطلاق على صفةٍ هو جاهل [بها] (2) فإن قصده إلى الطلاق ثابت ومتعلّقه مشكل، فيبحث عنه، ومعظم التعليقات كذلك تقع.
ويخرّج عندنا على هذا الخلاف أن يقول القائل: طلقت فلانة مثل ما طلق فلان
__________
(1) من بابي: ضرب وقعد.
(2) مزيدة من المحقق.

(14/175)


زوجته، وكان لا يدري أنه طلق زوجته واحدة أو أكثر، فيقع الواحدة، وفي الزيادة الخلافُ الذي ذكرناه.
9119 - وهذا أصلٌ، فلتسند إليه مسائله، وحاصله أن من لفظ ولم يدر أصلَ معنى الطلاق، ثم بُيّن له أنّ معناه الطلاق، فلا خلاف أنه لا يقع الطلاق، وإن علق الطلاق على مبهمٍ تعّلق به.
وإن قصد أصلَ الطلاق، وأبهم فيما زعم قصدَه في العدد وأحالَه على قول الغير، فهذا موضع التردد.
9120 - ثم قال الشافعي: "ولو قال: أنت طالق واحدة لا تقع [عليك] (1) فهي
واحدة تقع" (2).
والأمر على ما ذَكَر، فإنه أتى بالطلاق، ثم أتى بما يدفعه على وجهٍ لا ينظم ذو الجدّ مثلَه، فكان بمثابة ما لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاًً، وسنعيد هذا في أصل الاستثناء، ونجمع من هذا الجنس محلّ الوفاق والخلاف.
فصل
قال: "وإن قال: واحدة قبلها واحدة، كانت طلقتين ... إلى آخره" (3).
9121 - إذا قال لامرأته التي دخل بها: أنت طالق وطالق، طلقت طلقتين على الترتب، فيلحقها واحدة بقوله الأول، والثانيةُ بقوله الآخر.
ولو قال لها: أنت طالق ثلاثاًً، فالمذهب المبتوت أن الثلاث تقع عند الفراغ من قوله: ثلاثاً.
ومن أصحابنا من يقول: إذا فرغ عن قوله: ثلاثاًً، تبيّنا وقوعَ الثلاث بقوله: أنت طالق.
__________
(1) زيادة من متن المختصر.
(2) ر. المختصر: 4/ 82.
(3) ر. المختصر: 4/ 82.

(14/176)


وهذا الخلاف مأخوذ [ممّا] (1) إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق، فماتت، ثم قال: ثلاثاً، فمن قال ثَمَّ: لا يقع شيء، فيقول في سلامة (2) الحال: يقع الثلاث عند قوله ثلاثاًً.
ومن قال ثَمَّ: يقع الثلاث، يقول في سلامة الحال: يقع الثلاث بفراغه من قوله: أنت طالق.
ومن قال ثَمَّ: إذا ماتت المرأة، وقعت طلقة بقوله: "طالق" في حياتها، فيلزمه على هذا المساق أن يقول: يقع طلقة بقوله طالق، ويتم الثلاث بقوله ثلاثاًً.
هذا مسلكٌ لبعض الأصحاب، وهو ساقط عندنا؛ فالوجه القطع بأن الثلاث تقع مع الفراغ من الكلام؛ إذ لا خلاف أنه إذا قال للتي لم يدخل بها: أنت طالق ثلاثاًً، طلقت ثلاثاً، ولو كانت تطلق واحدة بقوله أنت طالق، لبانت ثم لا يلحقها غير الواحدة.
ومن لطيف الكلام في هذا أنه إذا أنشأ قولَه: أنت طالق، وعزم على أن يقول ثلاثاًً، فهذا ليس يطبِّق قصدَ الثلاث ونيّتَها على قوله طالق؛ فإنه بنى كلامه على أن يصرّح ويعوّل على ذكر الثلاث، فلا معنى للمصير إلى أنه في حكم من يقول: أنت طالق وينوي الثلاث، ولكن إن تمّ اللفظ واتَّسق على ما أراد، فالتعويل على اللفظ.
والوجه القطع بوقوع الثلاث مع الفراغ من اللفظ، وإن طرأ ما يمنع نفوذ الطلاق كالموت في المخاطبة، فيثور الإشكال الآن؛ فإن تعطيل لفظه، وقد أتى بما يستقل ويفيد في حالة الحياة محال، فاضطرب رأي الأصحاب عند طريان ما وصفنا، فمن [طرد] (3) القياس الذي قدمنا صائر إلى أن بعض اللفظ إذا وقع بعد الموت، لغا كلُّه، وهذا وهم، والمصير إلى وقوع الثلاث وهمٌ، والأقرب ألا يعطَّل ويُكتفى بموجب اللفظ المصادف للحياة.
__________
(1) في الأصل: فيما.
(2) سلامة الحال: أي عدم موت الزوجة.
(3) في الأصل: "طارد".

(14/177)


وينتظم من هذا أنه إذا أنشأ الطلاق على أن يفسّره، فالأمر فيه موقوف؛ فإن انتظم اللفظ من غير مانع، قطعنا بوقوع الكل مع آخر اللفظ، وإن طرأ مانع، فعند ذلك يضطرب الرأي، كما نبهنا عليه.
9122 - ولو قال لامرأته التي لم يدخل بها: أنت طالق وطالق، فلا يلحقها إلا الطلقة الأولى. ولو قال: أنت طالق ثنتين، أو قال: أنت طالق ثلاثاًً، فيلحقها العدد المفسِّر إجماعاً.
9123 - ولو قال لامرأته التي دخل بها: أنت طالق طلقةً قبلها طلقةٌ، أو أنت طالق طلقةً بعد طلقةٍ، فيلحقها طلقتان؛ فإنه وإن رتّب لفظه وجاء بالطلقتين في صيغتين، فالمدخول بها تحتمل الطلقات المتتابعات.
9124 - ثم إذا لحقها طلقتان، فلا خلاف أنهما يقعان في زمانين؛ فإنه مصرّح بإيقاعهما كذلك، وذكر العراقيون وجهين في كيفية وقوع الطلقتين بهاتين الصيغتين بعد القطع بوقوعهما في زمانين: أحد الوجهين - أنه يتنجّز طلقةً، ويستبين وقوع طلقة قبلها. والثاني - أن المُوقَع المنجَّز يتنجّز ويعقبه طلقة أخرى.
وقد ذكر القاضي الوجهين على هذا النسق.
وهذا مضطرب عندي، فإنا ننظر إلى الطلاق المنجَّز، فإن قدّرنا وقوع طلقة قبله على معنى أنها تتقدم على لفظ المطلِّق، فهذا من المحالات؛ فإن الطلاق لا يتقدم وقوعه على لفظ المطلِّق، وإن نظرنا إلى الطلاق الموقَع، وقلنا: يقع [بعد] (1) طلاق آخر، فهذا أحد الوجهين الذي لا يفهم غيره في الإمكان والوقوع.
ولكن يسوغ للقائل الأول أن يقول: إذا قال: أنت طالق طلقة قبلها طلقة، فلا يقع ما في ضمن قوله: أنت طالق طلقة، حتى يقدُمه طلاق، وهذا الطلاق الذي يتقدّم يقع أيضاًً بعد اللفظ، وكأن المعنى: أنت طالق طلقة من قبلها طلقة تقع، فهذا يزيل الخبط والاضطراب، ويقطع توهم الغلط.
__________
(1) في الأصل: "بعده طلاق" وهو مخالف للسياق.

(14/178)


فإذا انتظم الوجهان، فتمام المراد أنه لو أراد بقوله: قبلها طلقة إسناد الطلاق إلى ما قبل تلفّظه، فيكون ذلك بمثابة قوله: أنت طالق الشهر الماضي، وقد قدمنا ما فيه من الأقسام، ويعترض في أقسام تلك المسألة أنه لو أراد الإيقاع في زمانٍ مضى، فهل يُحكم بالوقوع؟ فعلى وجهين. وفي هذه المسألة إن أراد بقوله: قبلها طلقة ما ذكرناه، فالكلام كالكلام المقدّم في الشهر الماضي، وإنما قطع الأصحاب بوقوع الطلقتين من غير إعادة تلك الأقسام، لبنائهم المسألة على ترتيب الطلقتين بعد اللفظ، ولا ينتظم والمسألة هكذا إلا مع تأخير وقوع مضمون قوله: أنت طالق، فليفهم الناظر ذلك؛ فإنه دقيق المُدرك.
9125 - ونعود بعده إلى إطلاق الوجهين، ونفرّع عليهما أمر التي لم يدخل الزوج بها.
فإذا قال للتي لم يدخل بها: أنت طالق طلقةً قبلها طلقة، أو قال: أنت طالق طلقة بعد طلقة، فكيف الوجه؟ لا خلاف أنه لا يلحقها طلقتان؛ فإن هاتين الطلقتين تقعان على المدخول بها في زمانين، ولا يتصور أن يلحق بها طلاقان في زمانين؛ فإنها تبين بأولهما، ولكن تلحقها طلقة واحدة أم لا يلحقها شيء؟ هذا محل النظر.
قال القاضي: إن حكمنا بأن مضمون قوله: "طلقة" يقع، ثم يتبعه طلقة، فهذه يلحقها طلقة وهي الموقعة وتبين، ولا يلحقها ما بعدها.
وإن قلنا: يتأخّر مضمون قوله طلقة ويقدُمها طلقة بقوله: "قبلها طلقة". قال القاضي: على هذا لا تطلق هذه أصلاً، واعتلَّ بأن قال: لمَّا قال لها: "أنت طالقة قبلها"، فحاصل كلامه: أنت طالق طلقةً مسبوقة بطلقةٍ، ولا يتصور في غير المدخول بها طلقة مسبوقة بطلقةٍ، وإذا لم يقع الطلقة المعيّنة بقوله: "أنت طالق طلقة" لا تقع الطلقة السابقة تقديراً؛ فإن الأُولى شرطها أن تكون قبل ثانيةٍ، وإذا عسرت الثانية، فالتي يقدرها سابقة لا يقال فيها قبلها، فعسُر إيقاع الطلقتين، ودارت المسألة. وهذا على نهاية الحسن واللطف.
ثم في المسألة غائلة، وذلك أن القاضي قال: من ذهب مذهب ابن الحداد،

(14/179)


وصار إلى أن الدَّور يمنع وقوع الطلاق، فالجواب ما ذكرناه، من امتناع وقوع الطلاق على التي لم يدخل بها بالعبارة التي ذكرناها.
ومن ذهب مذهب أبي زيد ولم يُدِر المسألة قال: تلحق المرأة طلقة واحدة، فإن القول بالدّور -على أصله- باطلٌ.
9126 - وهذا كلام مختلّ؛ من جهة أن صورة الدّور: أن يقول لامرأته: "إذا طلقتك، فأنت طالق قبل تطليقي إياكِ ثلاثاً". فإذا نجّز تطليقها، لم يقع شيء على رأي ابن الحداد ومعظم الأصحاب، وسببه أنه لو وقع ما نجز، لوقع قبله ثلاثاًً، ولو وقعت الثلاث، لامتنع وقوع ما نجّز.
ووجه قول أبي زيدٍ أن الشرط لا يقف على المشروط، بل المشروط يقف على الشرط، وما نجّزه شرط، فليقع، ثم ننظر في الجزاء وتيسره وتعسّره.
والمسألة التي نحن فيها ليست من هذا القبيل؛ فإنه ليس في لفظ المطلِّق شرطٌ ولا جزاء، نعم، فيها صفة وموصوف، وارتباط على هذا الحكم؛ فإن كانت الطلقة المقدّمة المعنيّة [بقوله] (1) قبلها موصوفة بكونها سابقة، فلتقع لاحقة، وإن وقعت فردة، فليست سابقة، فهذا من باب تعذّر الصفة، ثم تتعذر المسبوقة تعذراً حقيقياً، إذ ليس من الممكن فرض طلقة مسبوقةٍ في التي لم يدخل بها إذا كان يوقعهما في قَرَن، فليس هذا مأخذ الدور، وإن كان يشابهه من طريق التعذر بالارتباط.
ولو صحّ هذا، لقال أبو زيد: لا يلحقها طلقة، وإن كان الشرط المنجّز عنده يقع في مسألة الدَّور.
9127 - فالوجه وراء هذا أن نقول: إن أوقعنا مضمون قوله: أنت طالق أولاً، فهذه تلحقها طلقة، كما قدمنا، وإن رأينا في المدخول بها أن نوقع أولاً مضمون قوله قبلها، فيحتمل وجهين: أحدهما - ما ذكرناه، وتوجيهه الصفة والموصوف.
ويحتمل - أن نقول: يقع طلقة؛ فإنه قصد توزيع طلقتين على زمانين، ولا يكون طلقة قط صِفة لطلقة، فعلى هذا يلحقها الأولى، وكأن هذه العبارة بمثابة قول
__________
(1) في الأصل: بقولها.

(14/180)


القائل: أنت طالق طلقةً وطلقةً، فإذاً نُجْري الوجهين على أحد الوجهين ونوجههما بهذا، فأما الأخذ من قول ابن الحداد وقول أبي زيد، فلا وجه له.
ولو قال للتي دخل بها: أنت طالق طلقة قبل طلقة، أو قال: أنت طالق طلقة بعدها طلقة، فاللفظان معناهما واحد، ولا حاجة بنا إلى تكلف [بيان] (1) ذلك، فليتأمله الناظر، واستواء هذين اللفظين في معنيهما كاستواء اللفظين الأوّلين في معناهما.
فإذا خاطب بما ذكرناه امرأته المدخولَ بها، وقعت طلقتان. وإذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة قبل طلقةٍ، أو طلقة بعدها طلقة، فتلحقها طلقةٌ لا محالة؛ فإن الطلقة الموقعة أولى، وإذا كانت أولى؛ فإنها تقع. وقد يتمسك الفطن بهذا محتجاً لأحد الوجهين في المسألة الأولى، ويقول: إن صح مذهب الوصف والموصوف، وجب أن يقال: لا تقع الطلقة الأولى؛ فإنها لا تقبل الوصف باستعقاب أخرى، وإذا امتنع هذا، فقد زالت الصفة، فيزول الموصوف.
وقد ينقدح عن هذا جواب لا يخفى؛ فإن الرجل إذا قال لأمته: أول ولدٍ تلدينه، فهو حر، فإذا ولدت عن نكاح أو سفاح عَتَق، وإن لم تلد بعده، وستأتي هذه الألفاظ بمعانيها، إن شاء الله.
9128 - ولو قال للتي دخل بها: أنت طالق طلقة [معها طلقة، أو مع طلقة، طلقت طلقتين] (2) واختلف أصحابنا في كيفية وقوعهما، فمنهم من قال: يقعان معاً؛ لأن كلمة مع للاقتران، والوفاءُ بمعنى لفظه، ممكن، فيجب الحكم بالإيقاع على نحو ما ذكره، ومعنى لفظه الجمع.
والوجه الثاني - أنه تقع طلقة وتعقبها طلقة أخرى؛ فإنه أتى بلفظتين ليست واحدة منهما تفسيراً للأخرى، وكل لفظة مستقلة، فليقع الطلاقان بهما في زمانيهما، وقد
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) ما بين المعقفين ساقط من الأصل. وأثبتناه أولاً رعاية للسياق، ثم وجدناه بنصه -والحمد لله- في مختصر ابن عصرون (ر. صفوة المذهب: جزء3 ورقة 4 شمال).

(14/181)


صدرا منه في زمانين، فليقع كلّ طلاق عند منقرض كل لفظ، وليس كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً؛ فإن آخر الكلام بيانُ الأول.
ويتّصل ببيان الوجهين أنا إذا قلنا: يقع الطلاقان في وقتين، فلا إشكال أنهما يترتبان، وإن قلنا: يقعان معاً، فلا يقع بقوله: "أنت طالق طلقة" شيء، حتى يتنجّز الفراغ من اللفظ الأخير، ويتنزل اللفظان منزلة قول القائل أنت طالق ثلاثاًً، وقد أوضحنا أنه إذا جرى هذا اللفظ، ولم يطرأ مانع، وقع الثلاث مع الفراغ من آخر الكلام.
9129 - فإذا تبين هذا فرّعنا على الصورة التي ذكرناها مخاطبة المرأة التي لم يدخل بها بما ذكرناه، فإذا قال: أنت طالق طلقة مع طلقة، أو قال: معها طلقة، فإن قلنا: في المدخول بها يلحقها طلاق واحد، ثمّ يعقبه طلاق، [فإذا] (1) لم يكن مدخولاً بها، لحقها طلاق ولم تلحقها أخرى. وإذا قلنا في المدخول بها: إن الطلاقين [يلحقانها] (2) على جمع واقتران، فنقول: يلحق غيرَ المدخول بها طلاقان، كما لو قال لها: أنت طالق طلقتين.
وقال أبو حنيفة (3): إذا قال لغير المدخول بها: أنت طالق طلقة قبلها طلقة، أو بعد طلقة، تقع طلقتان.
وهذا يخالف جميعَ مسالكنا، وهو قول من لا يدري ولا يحيط بحقائق الألفاظ، فإن قوله: (قبلها) و (بعد) صريح في الترتيب والنصِّ على الزمانين. وقال: إذا قال لها: أنت طالق طلقة قبل طلقة، أو بعدها طلقة وهي غير مدخول بها، لم يلحقها إلا طلقة واحدة.
فرع:
9130 - إذا قال: أنت طالق طلقة تحت طلقة، أو قال: تحتها طلقة، أو فوق طلقة، أو فوقها طلقة، أو على طلقة، أو عليها طلقة. فقد قال الأئمة: هذا
__________
(1) في الأصل: وإذا.
(2) في الأصل: يلحقهما.
(3) ر. مختصر الطحاوي: 198، المبسوط: 6/ 133، تبيين الحقائق: 2/ 213.

(14/182)


بمثابة ما لو قال: أنت طالق طلقة مع طلقة، أو معها طلقة؛ فإن هذه الصلات تقتضي من الجمع ما يقتضيها (مع) فكان الجواب فيها كالجواب في (مع).
فرع:
9131 - لو قال لغير المدخول بها: إن دخلت الدار، فأنت طالق وطالق، فدخلت الدار، فكم يلحقها من الطلاق؟ اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: لا يلحقها إلا طلقة واحدة؛ لأن المعلَّق بلفظ بمثابة المنجّز عند وجود الصفة، فكأنه قال لها عند الدخول: أنت طالق وطالق، ولو نجّز ذلك على هذا الوجه، لم يلحقها إلا واحدة.
والوجه الثاني - أنه يلحقها الطلاقان، فإن كل واحد منهما معلّق بالدخول، ولو فرضا في حق المدخول بها، لقيل وقعا معاً مع الدخول، أو على الترتيب، كما أشرنا إليه، وليس كما لو نجَّز فقال: أنت طالق وطالق، فإن كل لفظ مستقل بتنجيز الطلاق، ولا تعلّق لأحد اللفظين بالآخر. ونحن في الطلاق المعلق لا نقدّر تصحيح النطق بالطلاق عند وجود الصّفة؛ فإنه لو قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم جُنَّ، فدخلت الدار، وقع الطلاق، وإن لم يكن الزوج عند دخول الدار من أهل التطليق، فإذاً الطلاقان يتساوقان في الدخول، ويقعان على جمع (1).
وهذا فيما إذا قدّم الشرط وقال: إن دخلت الدار، فأنت طالق وطالق.
فأما إذا أخّر الشرط، وقال: أنت طالق وطالق إن دخلت الدار، فهذا رتّبه الأصحاب على ما لو قدّم الشرط. فإن قلنا هناك: يقع طلقتان فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: يقع واحدة، فهاهنا وجهان، والأظهر وقوعهما؛ فإنه قدّم ذكر الطلاق، ثم ذكر الرابط من بعد، فكان مشبهاً بما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً.
وهذا الترتيب لا يتحصَّل عندنا والتعليق شرطٌ قدِّم أو أخِّر، والوقوع جزاء قدّم أو أخر، فلا يعتدّ بمثل هذا إلا من لا دُرْبَة له في نظم الكلام والعربيّة.
__________
(1) على جمع: أي يقعان معاً.

(14/183)


فصل
قال: "وإن قال: رأسكِ أو شعرك ... إلى آخره" (1).
9132 - إذا أضاف الطلاق إلى جزء يتصل بها اتصال خِلقة مثل أن يقول: رأسُكِ أو يدكِ، أو شعركِ طالق، فيقع الطلاق، ولو أضاف الطلاق إلى جنينها، لم يقع الطلاق، اتفق (2) عليه نقلة المذهب.
ولو أضاف الطلاق إلى فضلات بدنها كالدمع، والريق، والبول، والعرق، وما في معناها، ففي المسألة وجهان: أصحهما - أنه لا يقع؛ لأن هذه الأجزاء لا يلحقها الحلّ والحرمة، [وليست متَّصلة] (3) بها اتصال خلقة؛ فإن قيل: ما الفرق بين هذه الأشياء وبين الجنين، والجنين متكون من فضلة منها؟ قلنا: ولكن له حكم الاستقلال والانفصال.
وإذا قال: روحك طالق، وقع الطلاق؛ فإنه يعبَّر به عن الجملة، وكأنه الأصل المقوِّم، وما عداه فرع.
وإذا قال: دمك طالق، فلأصحابنا طريقان: منهم من قطع بوقوع الطلاق؛ فإن الدم في معنى الروح؛ إذ به قوام البدن، وليس من الفضلات التي تنفضها الطبيعة، كالبول وما في معناه.
ومنهم من قال نُجري الوجهين في الدم؛ لأنه غير متصل اتصال التحام والتئام وليس [الروح] (4) المقوِّم بمثابة الفضلات، ثم البدن لا يخلو عن الفضلات وتنفض الطبيعة بعضها، والدم كذلك.
ولو قال للمرأة: لبنك طالق، أو قال: منيّك طالق، قال الأصحاب: اللبن
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 82.
(2) لم يسلّم الرافعي للإمام باتفاق الأصحاب نقلة المذهب على ذلك، ونقل عن أبي الفرج الزاز حكايته وجهاً في وقوع الطلاق إذا أضافه إلى جنينها. (ر. الشرح الكبير: 8/ 568).
(3) في الأصل: وليس متصلاً بها.
(4) في الأصل: الزوج.

(14/184)


كالرجيع والبول، فإنه يُنْتَفَض لا محالة، بخلاف الدّم القارّ في العروق. وإذا قال: منيك طالق، فهو في معنى اللبن؛ فإن ما يصير [منيّاً] (1) يُنْتَفَض ومادته الدّم، وما دام دماً لا يكون منيّاً.
ولو أضاف الطلاق إلى صفة من الصفات التي ليست من الأجزاء كالحُسن، والقبح، واللون، لم يقع الطلاق.
ولو قال: سِمَنُك طالق، فالسِّمَن جزء من أجزائها ملتحم [بها] (2).
ولو قال: شحمك طالق، والشحم على الثَّرْب (3) كالشيء الجامد، ولا التحام له، ولا روح فيه وإذا اندلقت حشوةُ (4) الإنسان من الجرح فيُبَان الشحم منه ولا يألم، فهذا فيه ضرب من التردد (5)، وليس عندنا مذهبٌ ننقله.
ولو قال: حياتك طالق والحياة صفة، فالأشبه أنها بمعنى الروح، ولا يختبطن الفقيه في الروح والحياة، فيقع فيما لا يعنيه.
9133 - ولو أبينت أذنها فالصقتها بحرارة الدم والتحمت -إن أمكن ذلك وتُصوّر- فلو أضاف الطلاق إلى هذه الأذن الملتحمة، ففي وقوع الطلاق وجهان: أحدهما - أنه يقع للاتصال الحقيقي من جهة الخلقة.
والوجه الثاني - أنه لا يقع؛ لأنها مستحقة الإبانة والفصل لأجل الصلاة (6)، فكأنها
__________
(1) في الأصل: ميتاً.
(2) زيادة من المحقق.
(3) الثرب: بالمثلثة المفتوحة، بعدها راء مهملة ساكنة، شحم رقيق يغطي الكَرِش والأمعاء (القاموس والمعجم). وفوقه تتراكم الشحوم ومظاهر السّمن.
(4) حشوة الإنسان (بضم الحاء وكسرها) جميع ما في البطن عدا الشحم (المعجم) وخصها الفيومي في (المصباح) بالأمعاء.
(5) واضح أن ميل الإمام إلى عدم الوقوع كما يفهم من تصويره، وقد فهم ذلك الرافعي، ولم يوافقه، بل رجح الوقوع. (ر. الشرح الكبير: 8/ 568).
(6) تعقب ابن أبي عصرون الإمام، فقال: "قوله: لأن هذه الأذن مستحقة الإبانة لأجل الصلاة لا يصح؛ لأن ما يبان من أجزاء الآدمي في حياته طاهر على المذهب، والصلاة معه تصح، وما عليه من دم معفو عنه، سيما إذا خيف من قطعه" (صفوة المذهب: جزء (5) ورقة: 5 شمال).

(14/185)


كالمبانة، وحكمها حكم الجماد والميتة، وهذه المسألة صوّرها الفقهاء وبنَوْا الحكم على اعتقاد تصوّرها، وهي ليست متصوَّرة، فإن ما أبين وفصل لا يلتحم قط في طرد العادة، وقد يبان البعض فيلتحم ما أبين، ومثل هذا لو أضيف الطلاق إليه وبعضه مبانٌ غير ملتحم، فالطلاق يقع مع انقطاع البعض قبل التحامه.
ولو أضاف إلى الأخلاط المنسلكة في البدن كالبلغم والمِرّتين (1) فسبيل الإضافة إليها كسبيل الإضافة إلى فضلات البدن، وليس كالدّم؛ فإن به قوام البدن، وهو مادة خَلَف ما ينحل من الإنسان.
9134 - ومن بقية الكلام في هذا الفصل أنه إذا أضاف الطلاق إلى جزء منفصلٍ أو إلى جزء شائع، وحكمنا بوقوع الطلاق، فللأصحاب اختلاف مشهور في تقدير ذلك، فمنهم من قال: يصادف الطلاق الجزء المعيّن، أو الشائع، ثم يسري منه ويستوعب، كما يسري العتق من النصف.
ومنهم من قال: تقديرُ وقوع الطلاق بتنزيل عضو أو جزء منزلة الكل، فإذا قال: يدك طالق، أو نصفك طالق، كان كما لو قال: أنت طالق، وإذا كان التقدير على هذا الوجه، فلا حاجة إلى تقدير توجيه الطلاق على البعض والتسرية منه إلى الباقي.
توجيه الوجهين:
9135 - من قال يقدّر فيه التَّسرية استدلّ بمقتضى اللفظ أولاً، وبما استشهدنا به من التسرية في العتق.
__________
(1) المرّتين: المرة خلط من أخلاط البدن، وكان القدماء يعتقدون بأخلاط أو عناصر أربعة يجعلون لها التأثير في استعداد الإنسان ومزاجه، وهذه الأخلاط هي الدم، والبلغم، والصفراء، والسوداء. وكانوا ينسبون إليها فيقولون: دموي، وبلغمي، وصفراوي، وسوداوي (المعجم مادة: م. ر. ر، م. ز. ج).
وقال الإمام هنا المرتين من باب التغليب، فهو يريد: الصفراء، والسوداء، والصفراء هي المرّة فسماهما معاً المرّتين. وهذا مفهوم من السياق، حيث ذكر الدم من قبل، وذكر هنا البلغم، فلم يبق من الأخلاط -التي كانت معروفة عندهم- إلا الصفراء والسوداء، فهما (المرتين).

(14/186)


ومن قال: لا تقدر التسرية احتج بأن الطلاق لا يفرض له ثبات على جزء شائع حتى يُبنى عليه التسرية منه، وليس كذلك العتق المضاف إلى الجزء الشائع وإذا كانت التسرية نتيجة إمكان الثبات على الجزء المذكور، وذلك غير ممكن في الطلاق، فيتصدّى بعد ذلك إبطال اللفظ وإلغاؤه، أو إعمالهُ بتنزيله منزلة مخاطبة الجملة، فإذا لم يمكن الإلغاء، لم يبق إلا الوجه الثاني.
والذي يحقق هذا أنه لو قال: أنتِ طالق نصف طلقةٍ، لم يفرض ثبوتٌ وسريان، بل جعل النصف عبارة عن الكل، فإذاً ثبت الوجهان، وفائدتهما أن الرجل إذا قال لامرأته: "إن دخلت الدار [فيمينك طالق، فقُطعت يمينها، ثم دخلت الدار] (1) فإن جعلنا تنفيذ الطلاق بتقدير التسرية من الجزء المعين، لم يقع الطلاق؛ لأن التسرية تستدعي تمكيناً من أصل، [وذلك] (2) الأصل زائل.
وإن جعلنا العبارة عن الجزء عبارة عن الكل، فالطلاق واقع، وقوله: يمناك بمثابة قوله: أنت طالق.
ولو قال لامرأته التي لا يمنى لها: يمناك طالق، فمن أصحابنا من خرّج هذا على التردد الذي ذكرناه؛ وقال: إن جعلنا ذكر الجزء كالكل، فالطلاق واقع، وإن قدرنا التسرية، لم يقع.
وهذا غير سديد في هذا المحل، والوجه القطع بأن الطلاق لا يقع؛ لأن العبارة لم تصادف معبَّراً، فكان كما لو قال لامرأته: لحيتك طالق، أو قال: ذكرك طالق.
وهذا يجب أن يكون متفقاًعليه.
ولو أضاف العتق إلى عضوٍ معيّن من عبدِه، اختلف الأصحاب فيه أيضاً على حسب ما ذكرناه في الطلاق؛ فإن تقدير تثبيت العتاق في الجزء المعيّن ليبنى عليه التسرية مستحيل، فكان العتاق فيه كالطلاق في الجزء الشائع والمعيّن. ولو قال مالك العبد: نصفك حرٌّ، فظاهر المذهب تقدير التسرية.
__________
(1) ما بين المعقفين زيادة من صفوة المذهب جزء: 5 ورقة: 6 (يمين).
(2) في الأصل: فذلك.

(14/187)


ومن أصحابنا من قال: النصف في العبد الخالص عبارة عن الكل، ولا يسلك فيه مسلك التسرية؛ فإن العتق في المملوك الواحد لا يتبعض، وإنما تفرض التسرية من ملك إلى ملك.
9136 - وما ذكرناه من الإضافة إلى الجزء المعين والشائع لا يجرى إلا فيما يقبل التعليق بالأغرار ويبنى على السّريان والغلبة. قال القاضي: إضافة الإقالة والفسوخ إلى الجزء المعين فاسد لاغٍ؛ فإن الفسوخ ينحى بها نحو العقود، ولا تُعَلّقُ كما لا تُعَلَّقُ العقود؛ فما لا تصح إضافة العقد إليه لا يصح إضافة الفسخ إليه، والإقالة بين أن تكون بيعاً أو فسخ بيع.
فصل
قال: "ولو قال: أنت طالق بعض تطليقة ... إلى آخره" (1).
9137 - إذا قال لامرأته: أنت طالق بعض تطليقة، طلقت طلقة واحدة، وهذا على مذهب تنزيل العبارة عن البعض منزلة العبارة عن الكل، ولا تتخيل التسرية في ذلك.
ولو قال: أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقة، أو أربعة أثلاث، أو خمسة أرباع، أو ما شابه ذلك، فزاد على الأجزاء الطبيعية، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أنه لا يقع إلا طلقة؛ فإنه أضاف الأجزاء التي ذكرها إلى طلقة واحدة، فكان الاعتبار بالمضاف إليه، فإن زادت الأجزاء، فالزائد ملغى؛ فإن الأضافة من غير مضاف إليه لاغية، لا حقيقة لها.
والوجه الثاني - أنه يقع طلقتان؛ فإنه زاد على أجزاء طلقة، فانصرف نصفان إلى طلقة وتمت بهما، والزائد محتسب من طلقة أخرى والطلاق على الغلبة والسّريان.
وحقيقة الوجهين ترجع إلى أن من الأصحاب من يعتبر المضاف إليه ولا يزيد عليه، ومنهم من ينظر إلى الأجزاء المذكورة، فإن كانت على قدر طلقة أو أقل، نفذت
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 82.

(14/188)


طلقة، وإن كان في الأجزاء المذكورة زيادة، فهي محتسبة طلقة أخرى.
9138 - ويتفرع على ما ذكرناه مسائل: فإذا قال: أنت طالق أربعة أنصاف طلقة، ففي وجهٍ طلقة، والزيادة لاغية، وفي الوجه الثاني طلقتان.
وإذا قال: خمسة أنصاف طلقة، فهي في وجهٍ طلقة، وفي وجهٍ ثلاث طلقات؛ فإن الطلقتين يكملان بأربعة أنصافٍ، والنصف الخامس يُعتد به من الطلقة الثالثة.
وعلى هذا قياس سائر الأجزاء، إذا زادت على أجزاء واحدة.
9139 - ولو قال: أنت طالق نصف طلقتين، وزعم أنه أراد نصفاً من كل طلقة، وقعت طلقتان، ولو أطلق لفظه، فالأصح أنه لا يقع إلا طلقة، فإنه يظهر حمل نصف الطلقتين على طلقة من غير أخذ جزء من كل طلقة.
ومن أعظم الأصول المعتبرة ألا نوقع الطلاق إلا على استيقان، أو ظهورٍ يلي الاستيقان، والضابط فيه أن يكون تقدير الحَيْد عن ذلك الظهور في حكم المستكره في الكلام المستبعد، وحمل نصف الطلقتين على طلقة لا استكراه فيه.
ومن أصحابنا من قال: يقع طلقتان؛ فإن نصف الطلقتين بمثابة نصف العبدين، ونصف العبدين نصفٌ من كلّ عبدٍ، فليكن الأمر كذلك في نصف الطلقتين.
فإذا حمل هذا على الإشاعة، لزم وقوع طلقتين، وينشأ من هذا أنه لو قال: لفلان نصف هذين العبدين، ثم قال: أردت أن أحد العبدين له، لم يقبل ذلك منه وفاقاً، والسّبب فيه أنهما شخصان، فلا شك لا يتماثلان، فإضافة النصف إليهما تتضمن إضافة النصف إلى كل واحد منهما لا محالة، وليس كذلك إضافة النصف إلى طلقتين؛ فإن الطلقتين تضاهيان عدداً محضاً من غير تمثيل معدودٍ، فإذا أضيف النصف إلى اثنين من العدد، اتّجه فيه الحمل على واحدٍ.
ومن سلك المسلك الآخر جعل الحكم المسمى بالعدد كالشخص الماثل.
هذا إذا قال: أنت طالق نصف طلقتين وأطلق.

(14/189)


[فإن] (1) قال: أردت [بنصف] (2) الطلقتين طلقة، فإن حملنا المطلَق على هذا، فلا شك أنه إذا فسّر به قُبل، وإن لم يحمل المطلق على هذا، فإذا فسّر به، ففيه وجهان. ولهذا الفنّ أمثلة ومسائل مضى بعضها، وسنكمل الأُنس بذكر باقيها.
9140 - وبالجملة الألفاظ ومعانيها على مراتبَ عندنا، فمنها: ما لا سبيل فيه إلى الإزالة ظاهراً وباطناًً، وهذا يفرض في جهات مخصوصة، وهو ممثل بأن يقول لامرأته: "أنت طالق"، ثم زعم أنه نوى طلاقاً لا يقع، فهذا مردود ظاهراً وباطناً، وضبطه أنه لو صرح به متصلاً، لرُدّ وأُلغي، فلا يزيد منويُّه على ملفوظه.
والرتبة الثانية - ما لا يُقبل فيه تغيير اللفظ ظاهراً، [ويدَيَّن] (3) اللافظ بينه وبين الله تعالى. وهذا كقول القائل: أنت طالق، مع إضماره التطليق عن الوثاق، وقد ضبطنا قاعدة التديين بما فيه أكملُ مَقْنع، وهذه المرتبة تضبط بأن يضم اللافظ ما لا يعتاد إرادته باللفظ مع اختلاف الأحوال، ثم ينقسم مسلك المذهب: فمن الأصحاب من يضبطه بما يمكن النطق به، ومنهم من يضبطه بذلك ويشترط معه إشعار اللفظ به في وضعه على بُعدٍ كالتطليق عن الوثاق.
والمرتبة الثالثة ظهور اللفظ في غرضٍ مع صرفه بتأويلٍ آخر إلى وجهٍ آخر، والصرفُ إلى ذلك الوجه قد يجري في مجاري الكلام، ولا يبعد بُعْدَ ما ذكرناه في المرتبة الثانية.
وهذا ينقسم ثلاثة أقسام: قد يظهر التأويل حتى يكاد [يكون] (4) اللفظ في حكم المتردّد بين معنيين، فيظهر في هذا المقام ألا نحكم بالوقوع بحكم اللفظ.
وقد يخفى التأويل -وإن كان يفرض جريانه- فيغلب أن مطلِق اللفظ لا يُطلِق اللفظَ إلا على مقتضى ظهور؛ فإن أراد غيره صُرِف بالنية، فما كان كذلك يضطرب الرأي في حكم إطلاقه.
__________
(1) في الأصل: بأن.
(2) في الأصل: تنصيف الطلقتين.
(3) في الأصل: يبيّن.
(4) زيادة من المحقق.

(14/190)


وقد يتناهى ظهور اللفظ، ويخفى التأويل، حتى يقتضي الرأيُ القطعَ بحمل المطلق على الوقوع، ويتردد الرأي في قبول التأويل في حكم الظاهر، فيصير التأويل في نظرٍ مائلاً إلى التديين، وفي نظرٍ يمتاز بتقدير إجرائه في الفرق وإن كان على ندور.
وتُهذَّب هذه الأقسام بأن نقول: إذا تردّد اللفظ بين أن يقع ولا يقع، وظهر التردّد، قطعنا بنفي الوقوع.
وإن تعلّى عن التردّد، وكان الوقوع أظهر، ولم ينته التأويل إلى الخفاء، [قطعنا] (1) بقبول التأويل؛ فترددنا في صورة الإطلاق.
وإن اتصل التأويل برتبة الخفاء، أعملنا اللفظ المطلق، وإن ادعى اللافظ صرفه إلى التأويل، ترددنا فيه.
وهذا الذي نذكره أقصى الإمكان في الضبط.
وميزان هذه الأقسام قريحة الفقيه على شرط الرسوخ في معرفة اللفظ والعادة.
9141 - وما ذكرناه الآن مثال قسم من هذه الأقسام. فإذا قال: أنت طالق نصف طلقتين، فالذي نراه أن الحمل على طلقة مع الحمل على نصفي طلقتين في رتبة التقاوم واللفظ مردّد بينهما، فكان الأظهر أن المطلق [منه] (2) يحمل على الأقل، ومن أبدى فيه خلافاً؛ فلإلفه بالخلاف في الألفاظ المطلقة وعدم اعتنائه بمعرفة الإقرار (3).
ولو قال: أنت طالق نصفي طلقتين، فاللفظ محمول على طلقتين كيف فرض وقدّر.
ولو قال: أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقتين، فالأجزاء المضافة زائدة على المضاف إليه، فمن راعى المضاف إليه، أوقع طلقتين، وألغى الزيادة، ومن راعى الأجزاء في أنفسها أوقع ثلاث طلقات على القياس المقدم.
__________
(1) في الأصل: وقطعنا.
(2) في الأصل: عنه. والمثبث تقدير منا. والمعنى أن المطلق من هذا النوع من الألفاظ يحمل على الأقل.
(3) غير واضحة بالأصل. وقراءتها على هذا النحو غير مُرْضية. (انظر صورتها).

(14/191)


ولو قال: أنت طالق خمسة أنصاف طلقتين، فمن راعى المضاف إليه، لم يزد على طلقتين؛ فإنه إذا ألغى الزيادة، لم يكترث بمبلغها، ومن نظر إلى الأجزاء أوقع الثلاث؛ فإنه لم يجد أكثر من الثلاث.
9142 - ولو قال: أنت طالق سدس وثلث وربع طلقة، فالواقع طلقةٌ.
ولو قال: أنت طالق سدس طلقةٍ وربع طلقةٍ وثمن طلقةٍ، فالمذهب الصحيح أنه يقع ثلاث طلقاتٍ؛ فإنه عطف الجزء على الجزء، وأضاف كل جُزءٍ إلى طلقةٍ، فاقتضى ذلك تغاير الطلقات المضاف إليها، وإذا تغايرت، انصرف كل جزءٍ إلى طلقةٍ، وهذا يقتضي التعدّد لا محالة.
ومن أصحابنا من قال: إذا نوى صَرْفَ هذه الأجزاء إلى طلقة واحدة، قُبل ذلك منه، وإن تعددت الألفاظ، ومثَّل هذا القائل المسألةَ بما لو قال: أنت طالق طالق طالق؛ فإن الألفاظ وإن تعدّدت تطرّق إليها إمكان التوحيد والتأكيد، فكذلك الطلقات وإن تعدّدت، فالأمر فيها على التردد، وإذا تردّدت الطلقات بين التأكّد والتجدّد والأجزاء مضافة [إليها] (1)، تبع المضافُ المضافَ إليه.
وهذا ساقط لا أصل له، والأصل ما قدّمناه؛ وذلك أنه لو قال: أنت طالق طلقة طلقةً طلقةً، فالتأكيد مقبول، ولو خلل بين الطلقات صلاتٍ متغايرة، فهي على التجدّد، والإتيان بالأجزاء المتغايرة يفيد من التجدد في المضاف إليه ما تفيده الصلات المتغايرة، والمسألة مفروضة فيه إذا قال: أنت طالق سدس طلقةٍ وثمن طلقة.
وقد يجرى ذلك الوجه الضعيف فيه إذا قال: أنت طالق ثلث طلقةٍ وثلث طلقة وثلث طلقةٍ.
9143 - ومن قواعد هذا الفصل إيقاع طلقةٍ بين نسوةٍ، فإن هذا قد يُفضي إلى التبعيض، فكان منتظماً مع تبعيض الطلاق. فإذا قال لأربع نسوة: أوقعت عليكن طلقة، وقع على كل واحدة منهن طلقة لا محالة، فإنه عمّمهن، وصرّح باشتراكهن، فكأنه طلق كل واحدة ربع طلقة.
__________
(1) في الأصل: إليهما.

(14/192)


ولو قال: أوقعت عليكن طلقتين وقصد قسمة [الطلقتين] (1) عليهن على استواء وتعديل من غير إفراد كل طلقةٍ بالتوزيع على جميعهن، فمقتضى هذه القسمة أن يخص كل واحدة نصف طلقة، فيطلقن واحدة واحدة.
ولو قال: أردت كل طلقةٍ على جميعهن، فيخص كل واحدة منهن جزءان من طلقتين، فتطلق كل واحدة طلقتين.
ولو أطلق، ولم يتعرض لتفصيل القسمة، فلفظه في الإطلاق محمول على استواء القسمة من غير تقدير فضّ (2) كل طلقةٍ على جميعهن؛ فإن تقدير هذا تأويل بعيد، ولا تحمل اللفظة مع إطلاقه على التأويل البعيد.
وإذا قال الرجل لعبده: اقسم درهمين على هؤلاء الأربعة، لم يفهم المأمورُ منه تقسيمَ كل درهم على جميعهم.
9144 - ولو قال: أوقعت بينكن تطليقةً، ثم زعم أنه أراد تطليق واحدة منهن دون الباقيات، والمعنيَّ باللفظ أوقعتُ طلقةً على واحدة منكن، فإذا كانت المطلّقة بينهن، فالطلاق بينهن، وهو كقول القائل وهو يتّهم بالسرقة واحداً من جمع: [المسروق] (3) لا يخرج من بين هؤلاء، فيطلِقُ اللفظ، وإن كان يرى أنه في يدٍ واحد منهم دون غيره من أصحابه. فإذا فسّر قوله: أوقعت بينكن تطليقة بما ذكرناه، فقد ذكر الأصحاب وجهين: أحدهما - أن ذلك لا يقبل؛ فإن مقتضى اللفظ التشريك وترك هذا المقتضى إزالةٌ للظاهر بتأويل بعيدٍ.
والوجه الثاني - أن هذا مقبولٌ منه، وهذا الوجه صححّه بعض المصنّفين، وزعم أنه الأظهر، وهو غير سديد. والصحيح حمل اللفظ على الاشتراك؛ لأن الطلاق أضيف إلى جميعهن بصلةٍ اتصلت بضميرهنّ.
__________
(1) في الأصل: الطلقة. وكذا في (صفوة المذهب) لابن أبي عصرون، والمثبت اختيار منا على ضوء ما يأتي من شرح الإمام للمسألة. والله أعلم.
(2) فض: أي تقسيم.
(3) في الأصل: والمسروق.

(14/193)


وقد زيّف القاضي قبول تخصيص الطلاق بواحدة منهن، ولم يحك الشيخُ أبو عليّ هذا الوجهَ أصلاً، بل قطع بأنّ اللفظ محمول على الاشتراك، ثم الذين يصححون وجوب الحمل على الاشتراك ويضعّفون الوجه الآخر قاطعون بأن اللفظ المطلق من غير إبداء قصد محمول على الاشتراك.
ومن صحح قبول حمل الطلاق على واحدة لا بعينها ذكر في الإطلاق أن الظاهر الحَملُ على الاشتراك، وشبّب بوجهٍ مخالفٍ لهذا واللفظُ مطلق. وهذا باطل قطعاً، فلا شك في الحمل على الاشتراك في الإطلاق، وإنما التردد فيه إذا قال: أردتُ تطليق واحدة لا بعينها، والأصح أنه لا يقبل.
9145 - ولو قال: أوقعت بينكن ثلاثَ طلقات، وأراد القسمة المستوية، أو أطلق اللفظ، فتطلّق كلّ واحدة طلقة، ويخصها من القسمة ثلاثةُ أرباع طلقةٍ، ثم تُكمّل.
ولو قال: أردت توزيع كل طلقةٍ عليهنّ، طُلقت كل واحدة ثلاثاًً، والمطلَق محمول على القسمة المستوية.
ولو قال: أوقعت بينكن أربعَ طلقاتٍ، وأراد الاستواء، أو أطلق، طلقت كل واحدة طلقةً، وأصابها من حساب القسمة طلقة.
ولو قال: أوقعت بينكن خمسَ طلقات [وهن] (1) أربع، طُلِّقت كل واحدة طلقتين؛ فإن القسمة المستوية توجب أن يخص كلَّ واحدة طلقةٌ وشيء.
ثم هذا جارٍ في الست والسّبع والثمان.
فإن قال: أوقعت بينكن تسعَ طلقات وأراد القسمة المستوية أو أطلق اللفظ، طلقت كلُّ واحدة ثلاثَ طلقات؛ فإن تسوية القسمة على الأربع والمقسوم تسعة يوجب أن يخص كل واحدة [طلقتان وربع] (2)، أو جزء [طلقة] (3) فَتُكَمَّلَ.
وإن أراد تقسيط كل طلقة، فقسمة الثلاث عليهنّ يوجب تكميل الطلقات في حق
__________
(1) في الأصل: ومن.
(2) في الأصل: "طلقتين وشيء" والمثبت من صفوة المذهب.
(3) في الأصل: أو جزء الطلاق.

(14/194)


كل واحدة، فلا معنى لذكر هذا القسم وراء الثلاث (1).
9146 - ولو قال: أوقعت بينكن خمسَ طلقات وكن أربعاً، فإن أطلق لفظه، طلقت كل واحدة طلقتين، كما تقدم، وإن قال: أردت تطليق واحدةٍ ثلاثاًً، وتطليق واحدة اثنتين، وتبرئة اثنتين عن الطلقات، فهذا خارج على الخلاف الذي ذكرناه: فمن أصحابنا من قال: لا يجوز إخراج واحدة منهن عن الطلاق؛ لما يقتضيه اللفظ من التشريك.
ومن أصحابنا من قال: يُقبل ذلك منه، وقد قدمنا هذا الخلاف.
ولو قال: أردتُ تطليق فلانة منهن ثنتين، وفضَّ ثلاث طلقات من الخمس على الباقيات، حتى يطلقن واحدة واحدة، فهذا ليس فيه إخراج واحدة عن أصل الطلاق، ولكن فيه تفاوت بينهنّ في المقدار، فمن قبل منه إخراج بعضهن عن قسمة الطلاق، فلا شك أنه يقبل هذا أيضاً، ومن لم يقبل إخراج بعضهن عن الطلاق، فهل يقبل التفاوت في القسمة؟ هذا فيه تردّد: من أصحابنا من قال: لا بد من تقدير التسوية والقسمة، ثم ننظر إلى ما يقتضيه حكم القسمة في حق كل واحدة.
وقطع الشيخ أبو علي بأن التفاوت في القسمة مقبول من تفسيره؛ فإنه أضاف الطلقات إليهن وأبهم القسمة مردَّدةً بين تخيّر التفاوت وبين التعديل، فإذا لم يأت ما يخالف الاشتراك [والإضافةُ] (2) مبهمة، اتّجه قبول تفسيره.
9147 - ولو قال: بينكن -وهنَّ أربعٌ- عشرُ طلقات، فإن أراد القسمة المستوية قُبل، وطلقت كل واحدة ثلاث طلقات؛ فإنه ينالها طلقتان ونصفٌ.
ولو قال: أردت [فضَّ] (3) العَشْر على أن يكون ثلاث على زينب، وثلاث على عَمْرة، وثلاث على فاطمة، وواحدة على عائشة، فهذا يخرّج على التردد الذي ذكرناه واختيار الشيخ (4) فيه القبول.
__________
(1) المعنى: أنه سبق أن قلنا: إن قسمة الثلاث عليهن (الأربع نسوة) توجب تكميل ثلاث طلقات، فلا معنى لذكر هذا القسم في كل ما هو وراء الثلاث، أي زيادة على الثلاث.
(2) في الأصل: فالإضافة. والتصويب من المحقق. والله الهادي إلى الصواب.
(3) فضّ: أي قسمة. ثم هي في نسخة الأصل "نض" والتصويب من المحقق.
(4) الشيخ: المراد هنا أبو علي.

(14/195)


ولو قال: أوقعت بينكن طلقتين وهُنّ أربع، ثم ادّعى أنه أراد تطليق اثنتين دُون الأُخريين، ففي المسألة وجهان، وكذلك لو قال: أوقعت بينكن أربعاً، ثم قال: أردت طلقتين على واحدة وطلقتين على واحدة، ففي المسألة الوجهان المذكوران.
ولو ادعى أنه أراد إيقاع الأربع على واحدة منهن، وفرّعنا على أنه يقبل منه تفسير التخصيص، فهاهنا تطلّق المعيّنة ثلاثاًً، وفي الطلقة الرابعة جوابان للقاضي: أحدهما - أنها تلغو، فكأنه قال لواحدة: أنت طالق أربعاً؛ فإنا إذا قبلنا التخصيص في الأصل، فهذا من موجبه.
والجواب الثاني - أن هذه الطلقة الرابعة توزّع على الثلاث الباقيات، حتى لا تضيع؛ فإن تفسير التخصيص إنما يقبل إذا لم يتضمن إحباط طلاقٍ مما جاء به.
والمسألة محتملة حسنة.
9148 - ولو قال وتحته أربع نسوةٍ لثلاث منهن: أوقعت بينكن طلقةً، وحملنا هذا على الاشتراك، فيقع على كل واحدة منهنّ طلقة بحكم اللفظ، فلو قال للرابعة: أشركتك معهنّ -والمسألة لصاحب التلخيص (1) -، قال الأئمة فيها: إن لم ينو بقوله أشركتك طلاقاً، لم يقع شيء؛ فإنه كناية. وإن قال: أردت بذلك طلقةً واحدةً وعنيت بالإشراك أن تكون كواحدة منهن، فيقبل هذا منه؛ فإن هذا الاحتمال ظاهر.
ولو قال: أردت بالإشراك أن تصير الرابعة شريكة لكل واحدة من الثلاث على التفصيل، فينالها من شركة كل واحدة طلقة، فتطلق ثلاثاً.
ولو قال: نويت الإشراك، ولم يخطر لي لا الواحدة ولا الثلاث، فقد قال القفال فيما حكاه الشيخ أبو علي: إن هذه الرابعة تطلق طلقتين؛ فإنه نال الثلاث ثلاث طلقات، وهن حزِبٌ، وهذه الواحدة في مقابلتهن، وقد لحقهن ثلاث طلقاتٍ طلقة طلقةً، فإشراكها يتضمن أن تكون على النصف من ثلاث طلقات، فينالها طلقة ونصف، وإذا كمّلنا، أصابها طلقتان.
__________
(1) صاحب التلخيص هو ابن القاصّ، وقد سبقت ترجمته، وكتابه (التلخيص) طبع في مجلد متوسط، والمسألة في ص 520 منه.

(14/196)


قال الشيخ أبو علي: الصواب عندي أن هذه الرابعة في صورة الإطلاق لا تطلّق إلا واحدة؛ فإن ظاهر التشريك في الطلاق يقتضي أن تكون كواحدة منهن، حتى تنزل منزلة الواحدة، هذا أقرب إلى الفهم، وأقرب إلى الدرك من جمع ثلاث طلقات، وتقدير التشطير [فيها] (1) والأمر على ما ذكره الشيخ، ولا اتجاه لغيره.
9149 - ومما يتعلق بتمام المسألة أنه لو قال لأربع نسوة: أوقعت بينكن ثُلثَ طلقة وسدُس طلقةٍ ونصفَ طلقة. قالى العراقيون: يقع على كل واحدة ثَلاث طلقات، فإنه فصل الطلقات، وقسم كل جزء من طلقةٍ عليهنّ، وهذا الذي ذكروه ينبني أولاً على ما لو قال لواحدة: أنت طالق سدس طلقةٍ وثلث طلقةٍ ونصف طلقة، وهذه المسألة قدّمناها. فإن قلنا فيها: الواحدة لا تطلق ثلاثاًً إذا أطلق الزوج هذه الألفاظ، فهذا في القسمة أَوْلى، وإذا قلنا: الواحدة إذا خُوطبت بهذه الألفاظ، طلقت ثلاثاً، فإذا قال لأربع نسوة: أوقعت بينكنّ سدس طلقةٍ، وثلث طلقة، ونصف طلقة، فالمسألة محتملة: يجوز أن يقال: هو كما لو قال: أوقعت بينكنّ ثلاث طلقات، والقسمة المستوية لا توجب في ذلك إلا طلقة.
ويجوز أن يقال: لمّا أفرد ذكرَ كل جزء من طلقة، ظهر من ذلك قصد توزيع كل طلقة على الجميع، والتقديرُ قسمت عليكن طلقة، ثم أخرى، ثم أخرى.
ولو قال على الطريقة التي ارتضاها العراقيون: أوقعت بينكن طلقة وطلقة وطلقة، فهذا محتمل على قياسهم، يجوز أن يقال: تطلّق كل واحدة ثلاثاًً لما في لفظه من التفصيل، ويجوز أن يقال: هذا كما لو قال: أوقعت بينكن ثلاث طلقات، ويجوز أن يقدر فرقٌ بين هذا وبين أن يقول: أوقعت بينكن سدس طلقة، وثلث طلقةٍ، ونصف طلقةٍ؛ فإن في تغاير أجزاء الطلاق مزيد دلالة على تفصيل بعضها عن البعض بالقسمة، وليس في عطف الطلقة على الطلقة هذا.
__________
(1) في الأصل: فقهاً.

(14/197)


فصل
قال: "ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا اثنتين، فهي واحدة ... إلى آخره" (1).
9150 - قدمنا في كتاب الأقارير أصل الاستثناء وتفصيلَه، والقولُ في صورة الاستثناء يتسّع في الأقارير؛ فإنّ فرض الأعداد ممكن، فيتوسع المجال في ورود النفي على الإثبات، والإثباتِ على النفي، ولا مزيد على الثلاث في الطلاق، وفيما قدمناه من الأقارير ما يُطْلع على تمام المقصود في الطلاق، ونحن نتوفَّى التكريرَ جهدنا، ولكن لا يمكن إخلاء هذا الفصل مما ذكره الأصحاب، فإن اقتضى الترتيب تكريراً، كان محتملاً، ونحن نحرص ألا نُخلي ما نذكره عن زوائدَ وفوائدَ.
وفي الاستثناء أصلان معتبران: أحدهما - الاتصال، وقد مضى بيانهُ وسببُ اشتراطه. والآخر - ألا يكون الاستثناء مستغرقاً للمستثنى عنه (2)؛ فإن استغرق، كان مردوداً ولا يتوقف الرّد على بعضه، بل يَحبَط كلُّه، وينفُذ المستثنى منه بكماله.
ومن الأصول المرعيّة أن الاستثناء يناقض المستثنى عنه، فإن جرى بعد نفي، كان إثباتاً، وإن جرى بعد إثباتٍ، كان نفياً.
ومن الأصول أن الاستثناء المعطوف على الاستثناء في معناه، فلا يكون استثناء منه، بل يكون مع المعطوف عليه استثناء عما تقدم، وإن جرت صيغة الاستثناء بعد الاستثناء من غير واو عاطفة، فالثاني استثناء من الاستثناء الأول، ويجري على مضادته لا محالة.
9151 - ونحن بعد الإشارة إلى الأصول نذكر المسائل؛ فإن قال: أنت طالق ثلاثاًً إلاّ ثلاثاً، طلقت ثلاثاً، وبطل الاستثناء، وصار كأنه لم يكن.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا واحدة، طلقت ثنتين.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلاّ واحدة، وإلا واحدة، فقد استثنى طلقتين بعبارتين
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 82.
(2) كذا. وفي نيابة حروف الجر بعضها عن بعض كلام معروف.

(14/198)


معناهما واحدٌ، فكان كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين إلا واحدة، فاللفظة الأخيرة استثناء من الاستثناء؛ فإنها غير معطوفة، والتقدير: أنت طالق ثلاثاًً تقع، فهو إثباتٌ، إلا ثنتين لا تقعان، وهذا نفي ما أثبته، إلا واحدة تقع، وهذا إثبات ما نفاه.
وإذا عَطَف المستثنى عنه بعضَه على بعض، وأَتى بالعدد في صيغٍ وعَطَف البعض منها على البعض، ثم عَقّبه باستثناءٍ، فهل نجمع المستثنى عنه حتى كأنه في صيغةٍ واحدة أم نتركه على إفراده ونقطعه؟ ذكر القاضي وجهين ذكرهما الشيخ أبو علي، وتصوير المسألة أن يقول: أنت طالق واحدةً، وواحدة، وواحدة، إلا واحدة. فقد ذكر ثلاث طلقات في ثلاث صيغ، فمن جمع تلك الصيغ، صحح الاستثناء، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا واحدة، ومن يترك تلك الصيغ على تقطيعها، فالاستثناء عنده باطل، فإنه قال آخراً: وواحدة، ثم قال: إلا واحدة، فانصرف استثناء الواحدة إلى الواحدة، فكان مستغرقاً، والاستثناءُ المستغرق باطل.
ولو قال: أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة إلا ثنتين، فهذا يخرج على الوجهين، فإن جمعنا الصيغ، لم يقع إلا طلقة واحدة، وكان كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثنتين، ولو تركنا الصيغ على تقدّمها وتقطعها، وقع الثلاث وبطل الاستثناء؛ فإنه قال آخراً: وواحدة إلا ثنتين، فاستثنى ثنتين من واحدة والاستثناء زائد على ما يقع به الاستغراق.
ولو قال: أنت طالق واحدة وواحدة [وواحدة] (1) إلا ثلاثاًً، فلا شك في وقوع الثلاث كيفما قدّرنا: ضممنا الصيغَ، أو تركناها مفرّقة.
9152 - ولو عطف الاستثناءات بعضَها على البعض بحرف الواو، فالكل في معنى واحدٍ لما مهدناه من اقتضاء العطف الإشراك، ولكنا هل نجمعها على تقدير أنها كالمذكورة في صيغة واحدة أم نتركها على تقطعها ونفرّق صيغها؟ قال القاضي
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(14/199)


وغيره: في المسألة وجهان كالوجهين فيه إذا عطف المستثنى عنه بعضه على البعض بالصيغ المتفرقة.
وبيان الغرض بالصور أنه لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا واحدةً، وواحدة، وواحدة، فإن جمعنا هذه الصيغ وجعلناها [كالصيغة] (1) الواحدة، بطلت بجملتها، ووقع الثلاث، وكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً.
ولو تركناها على تقطعها، فيصح الاستثناء في ثنتين وتبطل الصّيغة الأخيرة، فإنها مستغرقة، فيختص الإبطال بها، ويصير كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا واحدة وواحدة.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين وإلا واحدة، فإن جمعنا الصيغ، أوقعنا الثلاث، وصار كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً، وإن فرعنا على التفريق، فاستثناء الثنتين صحيح واستثناء الواحدة باطلٌ مردودٌ.
ولو قلب، فقال: إلا واحدة وثنتين، فالثلاث تقع على أحد الوجهين، ويقع ثنتان على الوجه الثاني، فإن الصّيغة الأولى في الاستثناء مشتملة على واحدة، والصيغة الثانية مستغرقة، وإذا بطل بعض مضمونها بطل الجميع.
9153 - ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً، إلا ثنتين، فالتقدير: أنت طالق ثلاثاًً تقع، إلا ثلاثاًً لا تقع، إلا ثنتين تقع، ففي المسألة أوجه: أحدها - أن الثلاث تقع؛ لأن الاستثناء الأول، كان مستغرقاً فلغا، ولغا الثاني، لأنه استثناء من لاغٍ، وهذا ضعيف.
والوجه الثاني -وهو الأصح- أنا نصحح الاستثناءين، فنجعل الاستثناء الثاني منصرفاً إلى الاستثناء الأول على حكم المضادة، فيخرج الاستثناء الأول من كونه مستغرقاً، فإذا خرج عن كونه مستغرقاً، صحّ، والتقدير على ما قدمناه أنت طالق ثلاثاًً تقع، إلا ثلاثاًً لا تقع إلا ثنتين تقعان فيعود الاستثناء الأول إلى واحدة، فيقع طلقتان، وكأنه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة.
__________
(1) في الأصل: بالصيغة.

(14/200)


والوجه الثالث - أن الاستثناء الأول يلغو، ويرفع من البين، فيقدّر كأنه لم يكن، فيبقى الاستثناء الثاني، والطلقات الثلاث، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين، ولو قال ذلك، لم يقع إلا طلقة واحدة.
وهذا على نهاية الضعف، ولولا اشتهاره [وتوّلع الأصحاب بحكايته] (1)، لما ضمَّنته هذا المجموع، فإنه خارج عن صيغة اللفظ، وعن حكم القصد والمراد، وليس في المصير إليه استمساكٌ بمقتضى فقهيّ.
ولو قال: أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة إلا واحدة وواحدة وواحدة، وقع الثلاث إجماعاً؛ لأنا إن جمعنا، لم نخصص بالجمع جانباً، وكان التقدير أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً، وإن فرقنا، لم نخصّص بالتفريق واحداً من الجانبين، فيؤول الكلام إلى استثناء واحدة عن واحدة، فيقع الثلاث على التقديرين جميعاًً.
وكان شيخي أبو محمد يقول: "كل تفريق يؤدي إلى تصحيح الاستثناء، فهو مختلف فيه؛ ميلاً إلى إيقاع الطلاق".
ولا أصل لهذا؛ فإنا نتبع الألفاظ وصِيغَها، فإن عنّ لفقيهٍ تغليبُ وقوع الطلاق، عارضه أن الأصل عدم وقوعه، ومن الأصول الممهدة أنا إذا ترددنا في وقوع الطلاق، قلنا: الأصل عدم الوقوع.
9154 - ومما يتعلق بتتمة الفصل أمرٌ فرّعه ابن الحدّاد، وتكلم الأصحاب فيه، وذلك أنه قال: إذا زاد المطلّق على العدد الشرعي في الطلاق، فالاستثناء بعده يتردّد كما نصف ونصوّر. فإذا قال لامرأته: أنت طالق خمساً إلا ثلاثاًً، فقد اختلف أصحابنا في المسألة اختلافاً مشهوراً، فمنهم من قال: يقع الثلاث؛ فإن الخمس التي ذكرها عبارة عن الثلاث، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً، ولو قال، لوقعت الثلاث؛ لأن الاستثناء مستغرق.
والوجه الثاني - وهو اختيار ابن الحداد أنه يقع ما استبقاه بعد الاستثناء، والخمسُ إذا استثني منها ثلاث، بقيت ثنتان، فتطلق طلقتين، وسرّ هذا الوجه أنه ذكر الخمس
__________
(1) في الأصل: تولع الأصحاب حكايته.

(14/201)


ليتوسّع في الاستثناء، فليقع ما يلغو في مقابلة ما يستثنى؛ إذ هذا طباع الاستثناء، وليقع ما بقي.
ولو قال: أنت طالق أربعاً إلا ثنتين، فهذا يخرج على الوجهين، فمن قال: الأربع عبارة عن الثلاث، يقول في هذه الصورة: لا يقع إلا طلقة، وكأنه قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثنتين، ومن قال: يقع ما أبقى، حَكَم بوقوع طلقتين.
ولو قال: أنت طالق ستاً إلا ثلاثاًً، فيقع الثلاث على المذهبين، وخروجه بيّن، فإن من يعتبر ما يبقى بعد الاستثناء يقول: قد بقي ثلاث، ومن جعل الست عبارةً عن الثلاث، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاًً، وهذا بيّن إذا تأمّلته.
ولو قال: أنت طالق طلقتين ونصفاً إلا واحدة، قال ابن الحداد: يقع الثلاث، وإنما بناه على أصلٍ ذكرناه في تقطيع العبارة، فكأنه قال: أنت طالق ثنتين وواحدة إلا واحدة (1).
9155 - ومما يتعلق بتمام الفصل أن بعض الطلقة في الإيقاع طلقةٌ، كما سبق تمهيده، وإن غالط مغالط وقال: لا يقع طلقةٌ بلفظ النّصف، ولكن إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق نصفَ طلقة، وقع الطلاق بقوله: "أنت طالق"، ولغا قوله: نصف طلقة. ولو قال: أنت طالق طلاقاً لا يقع، لوقع، فذكر النصف بعد ذكر الطلاق لا معنى له.
وهذا ليس بشيء؛ فإنه لو قال: أنت طالق طلقةً ونصفاً، وقعت طلقتان، ولا حيلة في الطلقة الثانية -وقد استقل الطالق بطلقة- إلا حملُ نصف طلقة على طلقةٍ، وكذلك لو قال: أوقعت عليك نصف طلقة، وقعت طلقة.
فهذا أصلٌ لا مدافعة فيه.
ثم قال الأئمة رضي الله عنهم: إذا قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا نصف طلقة، وقعت الثلاث ولغا استثناء النّصف، هذا ما صار إليه حملة المذهب.
__________
(1) وقعت الثلاث لأننا جمعنا في جانب الإثبات ثنتين وواحدة، فصارت ثلاثاً، ثم لغا الاستثناء لأنه مستغرق، إذ هو استثناء واحدة من واحدة.

(14/202)


9156 - وذكر الشيخ أبو علي في شرح الفروع ما ذكرناهُ، وحكى وجهاً غريباً أن النصف في الاستثناء بمثابة الطلقة، ونجعل البعض عبارةً عن الكل في الإيقاع والإسقاط، وهذا غريب، لم أرَهُ إلاّ لهُ.
ووجهه -على بعده- أنا نحكم بوقوع الطلقة إذا جرى ذكر بعضها، لا على مذهب السريان، كما تقدّم شرح ذلك، بل لا يتجه فيه إلا إقامة العبارة عن الجزء مقام العبارة عن الواحدة، ولعلّ السر فيه أن ما لا ينقسم فبعضه ككلّه.
وهذا غير صحيح؛ فإن الطلاق يُغَلَّب في وقوعه، والاستثناءُ مناقَضةُ الوقوع، وإذا استثنى من يبغي النفي بنصف طلقة، فقد ألغى نصف طلقةٍ والذي أبقاه يُكمَّل.
ولو كنا نجري على أن الجزء عبارة عن الكل فيما لا ينقسم، للزم أن نقول: ما قاله بعض أصحاب أبي حنيفة (1) في أن الرجل إذا قال: زوَّجْتك نصف ابنتي، كان بمثابة ما لو قال: زوجتك ابنتي، لم يختلف أصحابنا في أن النكاح لا يصح بذكر الجزء من المنكوحة.
فالتفريع إذاً على أن استثناء الجزء باطل، فإذا قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا طلقةً ونصفاً، بطل استثناء النصف، وصح استثناء الواحدة، ووقعت طلقتان.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا اثنتين ونصفاً، فإن جعلنا النّصف عبارة عن طلقةٍ في الوجه الغريب الذي حكاه الشيخ أبو علي، فالتقدير: أنت طالق ثلاثاًً إلا اثنتين وواحدة، ثم يقع هذا في أنا هل نجمع المفرّق؟ فيه التفصيل المقدّم.
وإن قلنا: إنَّ ذكر الجزء في الاستثناء باطل، فهذا فيه احتمال على هذا المقام: ظاهر القياس أن النصف يبطل، ويبقى استثناء ثنتين، فكأنه قال: أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين، [ولا يتجه فيه إعمال الاستثناء؛ لأن في إعماله إبطاله] (2)، إذ لو عمل النصف، لصار الاستثناء مستغرفاً مع التفريع على أن المفرّق كالمجموع، ونحن نغلب وقوع الطلاق في هذه المنازل.
__________
(1) ر. المبسوط: 6/ 90.
(2) عبارة الأصل: "ويتجه فيه إعمال الاستثناء في إعماله إبطاله" والتصويب من صفوة المذهب ج 5 ورقة 11 شمال.

(14/203)


ولو قال -والتفريع على الأصحّ-: أنت طالق ثلاثاًً إلا طلقتين إلا نصفَ طلقة، فهذا الاستثناء الأخير صحيح؛ فإنه إيقاعٌ، والتقدير أنت طالق ثلاثاًً تقعُ إلا ثنتين لا يقعان، إلا نصفاً [يقع] (1).
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا طلقة ونصف، فإذا فرعنا على الأصح، فذكر النصف باطل؛ لأنه للإسقاط لو صح، فالتعويل على هذا، فمهما (2) كان الاستثناء للإيقاع، صح فيه لفظ الجزء، ومهما كان للإسقاط لم يصح على الأصح.
وفي هذا نجاز مسائل الاستثناء، والله أعلم بالصواب.
فصل
قال: "ولو قال: كلّما ولدت ولداً، فأنت طالق ... إلى آخره" (3).
9157 - هذا الفصل يشتمل على أحكامٍ منوطةٍ بمقتضى الألفاظ، والقولِ في انقضاء العدة بوضع الحمل، وإذا اشترك في المسألة النظرُ في الألفاظ والكلامُ في الأحكام، أحوجت المسألةُ الناظرَ إلى مزيد تدبّر، ومضمون المسألة يتأدّى بمسألتين: إحداهما - مفروضة في لفظةٍ لا تقتضى التكرّر، والأخرى مفروضة [في لفظةٍ] (4) تقتضي التكرر، ثم تتشعب كل مسألة. ونحن نأتي في كل واحدة بما يليق بها.
9158 - فإذا قال لامرأته: إن ولدت ولداً، فأنت طالق، فولدت ولداً، ثم أتت بولدٍ آخر لأقلّ من ستة أشهرٍ من ولادة الولد الأول، فيلحقها طلاق واحد بالولادة الأولى، وتنقضي عدتها بوضع الولد الثاني، ولا يتكرر الطلاق؛ فإنه علّقه بقوله: (إنْ)، وهو لا يقتضي التكرر، والولد الثاني يلحقه نسبُه، فإن الأول لحقه؛ إذ
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، ووجدناها في صفوة المذهب (الموضع السابق نفسه).
(2) "مهما" بمعنى (إذا).
(3) ر. المختصر: 4/ 82.
(4) زيادة اقتضاها السياق.

(14/204)


العلوق به كان في النكاح والولد للفراش، والولد الثاني في معنى الولد الأول؛ فإنهما من بطن واحد، وحكم البطن لا يختلف احتمالاً ولحوقاً.
فإن كان بين الولدين -والمسألة بحالها- أكثرُ من ستة أشهُرٍ، فلا شك أن العلوق بالولد الثاني وقع بعد انفصال الأول؛ إذ لو كانا من بطنٍ واحدٍ، لما تخلل بينهما ستة أشهر، فإذا تبين أن العلوق بالثاني وقع بعد الأول، فهل يَلحق الولدُ الثاني الزوجَ؟
في المسألة قولان مبنيان على صورة نرسمها، ونُحيل استقصاءها على كتاب العدة، وهي أن الرجل إذا طلق امرأته طلقة رجعيةً، ثم أتت بولدٍ لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق، ولأقلّ من أربع سنين من وقت انقضاء العدة، وكان الطلاق رجعياً، فابتداء أربع سنين يحتسب من وقت الطلاق أو من وقت انقضاء العدة؟ فعلى قولين: أحدهما - وهو الأصح عند المحققين أنه يحتسب من يوم الطلاق؛ فإن الطلاق وإن كان رجعياً، فهو قاطع لاستحلال الافتراش، وإن كان الملك قائماً، ونحن إنما نلحق الولد بالفراش؛ لاطراد استحلال الافتراش، والطلاق وإن كان رجعياً، فهو قاطع لهذا المعنى، ولهذا استعقب الاعتدادَ، وهو غير معقول إلا في زمان الانعزال.
والقول الثاني - أن ابتداء السنين الأربع محتسب من آخر العدة؛ لأنّ الرجعية في العدة زوجة، وسلطنة الزوج قائمة عليها.
وسيأتي تحقيق ذلك توجيهاً وتفريعاً، إن شاء الله.
9159 - وإذا أتت المرأة بولدٍ ولحقها الطلاق عند الولادة، ثم أتت بولدٍ بعد ذلك لستة أشهرٍ فصاعداً، فنحن نعلم قطعاً أن العلوق بالولد الثاني لم يكن في حال استمرار النكاح، كما نعلم قطعاً أنها إذا أتت بولدٍ بعد الطلاق الرّجعي لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق، فالعلوق به لا يكون متقدّماً على الطلاق، فاستوت المسألتان في تحقق وقوع العلوق بعد الطلاق، فخرجت المسألة على قولين في لحوق الولد الثاني. فإن قلنا: الولد يلحق، فقد طُلِّقت هذه عند الولد الأول، ثم انقضت عدتها بوضع الولد الثاني، وإن قلنا: الولد لا يلحق، فلا تنقضي العدة به؛ فإن عدة الرجل إنما تنقضي بوضع المرأة حملها إذا كان الولد ملتحقاً بمن العدة منه.

(14/205)


ولو أتت -والمسألة كما صورناها- بولدين بينهما أقل من ستة أشهرٍ، ثم أتت بثالث لأكثر من ستة أشهر من الولادة الثانية، فيلحقها طلقة بوضع الولد الأول، وتنقضي عدتها بوضع الولد الثاني، ويلحقه الولدان، ولا يلحق الولد الثالث قولاً واحداً؛ فإنا نعلم أن العلوق به وقع بعد الولد الثاني، وهذا ثابت بوضع الولد الثاني، وعاد إمكان العلوق إلى زمان البينونة، وإذا كان كذلك، ترتب عليه انتفاءُ الولد الثالث؛ فإن الولد اللاحق قولاً واحداً هو الذي يمكن تقدير علوقه في صُلب النكاح، والولد الذي اختلف القول فيه هو الذي يمكن تقدير علوقه في زمان الرجعة، ولا يمكن تقديره قبل الطلاق.
ولو قيل: لو أتت بالولد الثالث لأكثر من ستة أشهرٍ من وضع الولد الأول، ولأقلَّ من ستة أشهرٍ من وضع الولد الثاني، وكان بين الثاني والأول أقلُّ من ستة أشهر، فكيف الحكم فيه إذاً؟ قلنا: هذه مغالطة والمسألة لا تتصور كذلك؛ فإن الرحم إذا اشتمل على أولادٍ، كانت المدة بين وضع الأول وبين وضع الآخر أقل من ستة أشهر، فإن الرحم تنتفض عما فيه وتبرأ عما عداه في أقلَّ من ستة أشهر.
وما ذكرناه فيه إذا ذكر لفظة لا تقتضي التكرار.
9160 - فإن ذَكَر لفظة مقتضاها التكرار؛ فقال: كلما ولدتِ ولداً، فأنت طالق، فأتت بأولادٍ من بطن واحدٍ، فإن أتت بأربعة أولادٍ، لحقتها ثلاث طلقات، فتطلق بالوضع الأول واحدةً، وبوضعِ الثاني ثانيةً، وبوضع الثالث ثالثة، وتنقضي عدّتها بوضع الولد الرابع، ولا إشكال؛ فإن الطلقات كملت، وفي الرحم بقية.
فأما إذا ولدت ثلاثة أولادٍ من بطن واحدٍ، ولم يتخلل بين الأول والآخر ستة أشهرٍ، فيلحقها طلقتان: الأولى والثانية.
ثم المنصوص عليه في الجديد أن العدّة تنقضي بوضع الثالث، ولا يقع الطلاق بوضعه، ونص في الإملاء على أنّ الطلقة الثالثة تقع بالولد الثالث، وتستأنف العدة بالأقراء.
9161 - فاختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قطع القولَ بأن الطلاق الثالث

(14/206)


لا يقع أصلاً، وأنها تَبين بوضع الولد الثالث، ووجهه بيّنٌ؛ فإن الطلاق لو لم يلحقها، لبانت بالولادةَ؛ لمكان براءة الرحم، فإذا كان وضع الولد مقترناً بالبينونة، فالطلاق الثالث مضافٌ إذاً إلى حال البينونة، وهذا محالٌ، وهو كما لو قال لامرأته التي لم يدخل بها: إذا طلقتك فأنت طالق، فإذا طلقها تنجيزاً تنجّز الطلاق، ولا يقع ما علّقه؛ لأنها تبين بوقوع الطلاق الأول.
وهذا القائل يتأوّل نصَّ الإملاء ويحمله على ما إذا ولدت الولد الثاني، فراجعها وردّها إلى صلب النكاح، فولدت الولد الثالث في النكاح، فتلحقها الطلقة الثالثة، ثم تستقبل العدة، وتكون كما لو قال لامرأته الحامل بولد واحدٍ، وهو لا يملك إلا الطلقة الثالثة: إذا ولدت، فأنت طالق، فإذا ولدت، طُلِّقت، واستقبلت العدة.
وهذه الطريقة مستدّة في المعنى، ولكنها مخالفة للنصّ؛ فإن الأصحاب عن الإملاء نقلوا التصريح بتصوير اعتقاب الولادات من غير تخلل رجعةٍ.
والطريقة المشهورة طرد القولين: أحدهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن الطلاق لا يقع بالولادة الثالثة، ووجهه مما ذكرناه.
والقول الثاني - أن الطلاق يقع، وقد تكلف الأصحاب توجيه هذا القول لاشتهاره، فلم يتحصّلوا على معنى عليه مُعوّل.
9162 - وقد ذكر القفال مسلكاً نحن نذكره، ثم نوضح اختلاله، قال: اختلف قول الشافعي في أن الرجعية إذا طلقها زوجها في عدة الرجعة، فهل تستأنف عدةً إذا لحقها الطلاق أم تتمادى على العدة الأولى؟ وقد أشرنا إلى هذين القولين فيما سبق، وسنستقصيهما في العدد، إن شاء الله.
ثم إذا قلنا: تتمادى على العدة بانيةً، فلا كلام. وإن قلنا: يستعقبُ الطلاقُ عدةً جديدة، فالعدّة الأولى تنقطع، وتستأنف هذه عدة جديدة، ثم لا نقضي بأن الطلاق وقع، وهي في بقية من العدة الماضية، [ولكن نقول: يقع الطلاق على مفصل الانقطاع والاستقبال] (1)، وهو كما لو قال لامرأته: أنت طالق بين الليل والنهار؛ فإذا
__________
(1) عبارة الأصل: ولا نقول: "يقع الطلاق على متصل الانقطاع والاستقبال"، والتصويب بالتعديل والتغيير من صفوة المذهب: جزء (5) ورقة: 12 شمال.

(14/207)


صادفها الطلاق، لم يكن الطلاق واقعاً في جزء من النهار، ولا في جزءٍ من الليل.
هذا كلامه.
وقال بانياً عليه: إذا حكمنا بأن الطلاق يقتضي عدّة مستقبلة، فالطلاق الثالث يلحق مع انفصال الولد، ويتصل به استقبال العدة، فلا يكون واقعاً في جزءٍ من العدة المستقبلة ولا في جزء من الزمان قبل تمام الانفصال، ولكن يقع على المتصل.
هذا ما ذكره.
9163 - وهو كلام مضطرب، ولو التزمنا في هذا المجموع أن [نُري] (1) -بفضلةٍ في اللسان- الباطلَ في صورة الحقّ، لكنا مُلبِّسين، ونحن نبرأ إلى الله من ذلك، ومقصودنا فيه أن نوضح ما عندنا في كل مسألة على [حقيقتها] (2)، وهذا مما يقطع قولَنا فيه بأن هذا القول لا يتوجه؛ فإن الولادة هي الانفصال، ويتحقق معه من غير ترتبٍ انقضاءُ [العدة] (3)، فالطلاق المعلق على الولادة لا يقع إلا مع الانفصال، وحق الإنسان أن يتحفظ في ذلك جهده، ولا يقول إلا ما يُشعر بالتحقيق.
فإن قال القائل: يقع الطلاق بعد الانفصال؛ بناء على ما ذكرناه من قول الأصحاب في أن الطلاق المعلّق على الصفة يترتب على حصولها، فهذا وجهٌ، ولكن يزداد توجيه القول بعداً؛ فإن الانقضاء يحصل بالانفصال، وتقع البينونة معه حكماً؛ فإن هذا ليس تعليقاً وشرطاً مشروطاً، وإنما هو حكم شرعي.
فإن قلنا: يقع الطلاق مع الصفة، فيصادف أول حال البينونة، وإن قلنا: يترتب عليه، فيقع مسبوقاً بالبينونة، فلا وجه أصلاً.
وما ذكره القفال غير سديد؛ فإنه فرض حكماً في غير زمانٍ، وهذا خارج عن المعقول؛ فإن التي يقال فيها: ليست [مُطلَّقةً] (4)، ثم يقال: طلقت، فمن ضرورة
__________
(1) كذا قرأناها بصعوبة بالغة على ضوء أطراف الحروف الباقية، واستجابةً للسياق.
(2) في الأصل: حقيقته.
(3) في الأصل: القول. والتصويب من (صفوة المذهب: ج 5 ورقة 13 يمين).
(4) في الأصل: طلقة، والتصويب من صفوة المذهب (السابق نفسه).

(14/208)


حكم مرتب على حكم أن ينفصل كل واحد منهما عن الثاني بزمان، وقد تبيّن أن الطلاق لم يقع قبل تمام الانفصال، فليقع مع الانفصال أو بعده.
فأما [الفصل] (1)، فكلام غير معقول، وأما ما استشهد به من قول الرجل لامرأته: أنت طالق بين الليل والنهار -وليس بينهما فاصل زماني- فالوجه عندنا القطع بأن الطلاق يلحقها في آخر جزء [من الليل أو آخر جزء] (2) من النهار، وبذلك تكون طالقاً بين الليل والنهار.
فإن قيل: هلا قضيتم بأن الطلاق يقع في أول جزء من الليل؛ قلنا: لأن معنى وقوع الطلاق بين الليل والنهار أن تكون متصفةً بالطلاق في منقطع النهار ومبتدأ الليل (3)، وهذا إنما ينتظم على الوجه الذي ذكرناه.
9164 - ثم إن أصحابنا اختبطوا وراء هذا من وجوهٍ نصفها، فقال قائلون: إذا قال الرجل لامرأته الرجعية: أنت طالق مع انقضاء العدة، ففي الحكم بوقوع الطلاق قولان مبنيان على القولين في مسألة الولادة. وهذا لا شك ينطبق على مسألة الولادة، ومن أقام القولين في مسألة الولادة، التزم إقامتهما في هذه المسألة.
والذي أُنكره من قول هؤلاء أنهم قالوا: القولان في مسألة الولادة مبنيان على ما لو قال لامرأته: أنت طالق مع انقضاء العدة. وهذا كلام سخيف؛ فإن الشافعيّ نصّ على القول البعيد في الولادة، ولا نصّ له في تعليق الطلاق بانقضاء العدة، فكيف يُبنى قولٌ منصوصٌ على صورة مفرعةٍ عليه. نعم، لو قيل: هذا القول يقتضي الحكمَ بوقوع الطلاق إذا قال: أنت طالق مع انقضاء العدة. لكان ذلك وجهاً.
9165 - ومما ذكره بعض النقلة عن القاضي: أن هذا مفرّع عليه أن الرجل إذا قال للرجعية: أنت طالق في آخر العدّة، فهل يقع الطلاق أم لا؟ فإن قلنا: في مسألة الولادة بوقوع الطلاق، وقع الطلاق في هذه الصّورة.
__________
(1) في الأصل: المتصل. والتصويب من صفوة المذهب (نفسه).
(2) زيادة اقتضاها السياق، على ضوء كلام ابن أبي عصرون في مختصره.
(3) عبارة ابن أبي عصرون: "لأن معنى كونه بينهما أن تتصف بالطلاق في منقطع أحدهما ومبتدأ الثاني" السابق نفسه.

(14/209)


وإن قلنا في مسألة الولادة المُبرئة للرّحم: لا يقع الطلاق، فلا يقع فيه إذا قال: أنت طالق في آخر العدة.
وهذا غلط صريح؛ فإن آخر العدة من العدة، كما أن آخر اليوم من اليوم، وآخر الشهر من الشهر، وقد ذكرنا العبارات الدائرة في ذكر الآخِر والأول، وإذا لاح ذلك، فإضافة الطلاق إلى جزء من العدة كيف يمتنع وقوعها؟ وأين هذا من تعليق الطلاق بالولادة المُبرئة للرحم، والعدة تنقضي بالانفصال والطلاق يقع بالانفصال، أو يترتب عليه، والانفصالُ يعقب منقَرَضَ العدة [كما يعقب] (1) السّوادُ البياض من غير تخلل خلوّ عن اللون بينهما.
وإن ظنّ الناقل أن قول القائل في آخر العدة يقتضي كون زمان الطلاق ظرفاً، ثم ظنّ أن ما كان في ظرف يجب أن يكون محتوشاً به، فهذا وهم لا يشتغل بمثله طالبُ معنىً؛ فإن الظرف الزمانيّ هو الزمن الذي ينطبق عليه ما يضاف إليه ذو الظرف، فأما الإحاطة [به] (2)، فمن خيالات النفوس.
ومن عجيب الأمر أن هذا القائل شبَّه قول القائل: أنت طالق في آخر جزء من العدة بقول الرّجل لامرأته: أنت طالق في آخر الحيض. ثم للأصحاب وجهان في أنه هل يبدّع بهذا الطلاق.
وهذا اضطراب فاحش، وخلطٌ للأصول، فما قدمناه من وقوع الطلاق مأخوذ من مصادفة الطلاق زماناً من الرجعة، وما استشهد به هذا القائل من إضافة الطلاق إلى آخر الحيض مأخوذ من التردّد في أنا نتبع التعبّد، وقد ورد النهي عن الطلاق في الحيض، أو نستمسك بطرفٍ من المعنى، وهو اعتبار تطويل العدة، وليس في إضافة الطلاق إلى آخر الحيض تطويلُ العدة، فقد تباعد الأصلان، وبان أن الطلاق المضاف إلى آخر عدة الرجعية واقع قطعاً، وليس هو ناظراً لمسألة الولادة، فلم نتحصل من
__________
(1) في الأصل: "كما لا يعقب" والتصويب بناء على السياق. وكلام ابن أبي عصرون (ر. صفوة المذهب: جزء 5 ورقة 13 شمال).
(2) زيادة اقتضاها السياق.

(14/210)


المسألة على ما نوجّه به قول [القاضي] (1)، ولم نقف في هذا وقوف ناظرٍ أو محيلٍ على ذي فكر بعدنا، ولكن القول الضعيف ضعيف كما وصفناه.
فصل
قال: "ولو قال: إن شاء الله، لم يقع ... إلى آخره" (2).
9166 - إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، لم يقع الطلاق، وهذا لا يختص بالطلاق، بل لو عقّب العِتاق أو البيعَ، أو الهبة، أو غيرَها من الألفاظ التي يتعلق بها العقودُ، أو غيرُها من الأحكام بالتعليق بالمشيئة، بطلت الألفاظ جُمعُ، ولم يتعلق الحكم بشيء منها.
ولو قال [مستحق] (3) الدم: "عفوت إن شاء اله "، فالذي جاء به ليس بعفوٍ.
وهذا سمّاه العلماء الاستثناء، وهو في التحقيق تعليق، وسبيل تسمية قول القائل: "أنت طالق إن شاء الله تعالى" استثناء، كسبيل تسمية قول القائل: أنت طالق إن دخلت الدار استثناء، وليس يبعد عن اللغة (4) تسمية جميع ذلك استثناء؛ فإن مَنْ أطلق قوله: أنت طالق، كان يقتضي لفظُه وقوعَ الطلاق على الاسترسال من غير تقيُّد بحالٍ، فإذا عقَّب اللفظ بالاستثناء، فكأنه ثَناه عن مقتضى إطلاقه، ثَنْي [الحبل] (5) عن امتداده، وإنما سُمّي قولُ القائل: أنت طالق ثلاثاً [إلا اثنتين استثناء] (6)، لأن الاستثناء يَثْني موجب اللفظ عن الوقوع.
وممّا نمهده في صدر الفصل أن الرجل إذا قال: "أنت طالق إن شاء الله"، فهذا في التحقيق نفي بعد إثبات، وهو مقبول، وليس كقوله: لفلان عليّ عشرة إلا عشرة،
__________
(1) مكان كلمة تعذر علينا قراءتها، ورسمت هكذا (الاياا) انظر صورتها.
(2) ر. المختصر: 4/ 383.
(3) في الأصل: بمستحق.
(4) في صفوة المذهب: الفقه بدلاً من اللغة.
(5) في الأصل: الخبل. والمثبت من صفوة المذهب: جزءه ورقة 14 يمين.
(6) زيادة من صفوة المذهب (السابق نفسه).

(14/211)


وأنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً؛ فإن الاستثناء المستغرق باطل، والمستثنى عنه نافذ بكماله، وفرّق الأصحاب بين البابين، بأن قالوا: الإتيان بالاستثناء المستغرق لا يبني عليه الجادُّ ابتداءً كلامَه، ولا يعدّ الكلام المتصل به منتظماً على جدٍّ وتحصيلٍ، وأمّا تعليق الكلام بالمشيئة، فمما يعدّ منتظماً، ثم قيل: الكلام بآخره.
وهذا يعتضد بأن قول القائل: أنت طالق ثلاثاًً إلا ثلاثاًً تعقيبُ إثبات بنفيٍ على التناقض [المحض] (1)، وقول القائل: "أنت طالق إن شاء الله" تعليقٌ بصفة صيغتها تتضمن التردّد؛ فإن مشيئة الله غيبٌ لا يُطَّلع عليه، فلم يكن مبنى الكلام على [التنافي] (2) والتناقض، ثم إن وقع الحكم بانتفاء الطلاق لأمرٍ يقتضيه الشرع، فهذا لا يرجع إلى اختلال الكلام في نفسه. هذا هو الفرق.
9167 - وقد حكيتُ فيما أظن عن صاحب التقريب: أن التعليق بمشيئة الله تعالى لا يؤثر في إبطال الألفاظ، وهذا شيء غريبٌ لا تعويل على مثله، وقد قدّمت ذكرَه في كتاب الإقرار، فالتفريع إذاً على ما عليه الأصحاب.
ثم لا فرق بين الطلاق والعتاق؛ فإن مشيئة الله غيبٌ في جميعها. وعن مالك: أنه قال: العتق المعلق بمشيئة الله ناجزٌ، والطلاق المعلّق بالمشيئة لا يقع (3)، وقد أورد إسحاق في مسند مُعَاذ بن جَبَل عن يحيى بن يحيى عن إسماعيل بن عيّاشٍ عن حميد بن مالك اللخمي عن مكحُول عن معاذٍ أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معاذ ما خلق الله شيئاً على وجه الأرض أحبَّ إليه من العتاق، وما خلق الله شيئاً على
__________
(1) في الأصل: المحيض، والمثبت تقدير منا.
(2) في الأصل: التناهي، والمثبت من المحقق.
(3) هكذا يروي الإمام عن مالك رضي الله عنهما: "أن العتق المعلق بمشيئة الله ناجز، والطلاق المعلق بالمشيئة لا يقع" ولكن الرافعي رضي الله عنه يقول: "روى هذا إمام الحرمين وجماعةٌ عن مالك، والأثبتُ عنه أنه لا يؤثر الاستثناء في العتق، ولا في الطلاق، وإنما يؤثر في اليمين بالله تعالى" (ر. الشرح الكبير: 9/ 34) وما قاله الرافعي صدَّقته مصادر الفقه المالكي وأمهات كتبه. (ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 748 مسألة: 1361، وعيون المجالس: 3/ 1240 مسألة: 864، وجواهر الإكليل: 1/ 351، والتاج والإكليل للمواق بهامش الحطاب: 4/ 74، وحاشية الدسوقي: 2/ 392).

(14/212)


وجه الأرض أبغضَ إليه من الطلاق؛ فإذا قال الرّجل للمملوك: أنت حر إن شاء الله، فهو حرّ، ولا استثناء له، وإذا قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فله استثناؤه، ولا طلاق فيه" (1)، وروى أبو الوليد في تخريجه في الأيمان عن معدي كَرِب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أعتق أو طلّق واستثنى، فله ثُنَيَّّاه" (2).
ولو قال أنت طالق: إن شاء زيد، توقف وقوع الطلاق على مشيئته، فإن شاء وقع، وإلا لم يقع، والاطّلاع على مشيئته منتظَرٌ كالاطلاع على سائر أفعاله وأقواله التي يفرض تعليق الطلاق بها.
9168 - ولو قال: انت طالق إلا أن يشاء الله، فهذا فصلٌ فيه اضطرابٌ للأصحاب، والرأي في التدرج إليه أن نفرض في مقدمة الخوض في التعليق بالمشيئة تعليقاً بصفةٍ أخرى، ثم تعليقاً بنفيه، ثم نفرض التعليق على هذه [الصِّفة] (3) بمشيئة زيدٍ، ثم نعود بعد ذلك كُلِّه، ونبيّن الحكم فيه، إذا قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله تعالى، فنقول:
إذا قال لامرأته: أنتِ طالق إن دخل زيدٌ الدّار، فهذا طلاق متعلق ثبوته بثبوت الدخول، ولو قال: أنت طالق إن لم يدخل زيدٌ الدارَ، فالطلاق ثبوته متعلق بعدم دخول زيد الدار، والطلاق القابل للتعليق يتأتّى تعليقهُ بثبوت الصّفات، ويتأتى تعليقه بانتفائها؛ فإن التعويل على قول المعلِّق، والصفاتُ وإن أُخرجت مخرج الشروط،
__________
(1) حديث معاذ رواه إسحاق في مسنده، وأبو يعلى الموصلي، وعبد الرزاق في مصنفه: 6/ 390 رقم 11331، ورواه الدارقطني: 4/ 35، والبيهقي في الكبرى: 7/ 361، وقال: حديث ضعيف، وقال الحافظ في المطالب العالية: منقطع، وكذا البوصيري في إتحاف الخيرة المهرة. (ر. المطالب العالية: 1643، وإتحاف الخيرة المهرة: 5/ 79 حديث رقم: 4461، ونصب الراية: 3/ 235).
(2) حديث معدي كرب رواه أبو موسى المديني في ذيل الصحابة، وبمعناه رواه البيهقي من حديث ابن عباس، ولفظه: "من قال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله، فلا شيء عليه، ومن قال لغلامه: أنت حر إن شاء الله، أو عليه المشي إلى بيت الله، فلا شيء عليه". قال الحافظ: وفي إسناده إسحاق بن أبي يحى الكعبي، وفي ترجمته أورده ابن عدي في الكامل وضعفه (ر. البيهقي: 7/ 361، والتلخيص 3/ 430 ح 1745، ونصب الراية: 3/ 235).
(3) في الأصل: الصيغة.

(14/213)


فهي في التحقيق بمثابة الأوقات لما عُلق بها، ويجوز أن يعلق الشيء بوقت ثبوت شيء، ويجوز أن يعلّق بوقت انتفائه.
ثم إذا قال الرجل: أنت طالق إن لم يدخل زيدٌ الدار، لم يحكم بوقوع الطلق، ما دام الدخول منتظراً من زيد؛ فإن مات وفات إمكان دخوله، حكمنا بوقوع الطلق.
ثم ما عليه الأصحاب أنّ الطلاق [يقع] (1) إذا تحقق اليأس من الدخول، ثم يسند وقوع الطلاق إلى ما قبل اليأس، كما تقدّم.
ولو قال لامرأته: "أنت طالق إلا أن يدخل زيد الدار"، [فإنه] (2) إن دخل، لم تطلق، وإن لم يدخل، طُلِّقت، كما إذا قال: أنت طالق إن لم يدخل زيد الدار، فقوله إلا أن يدخل زيد الدار يعطي من المعنى في الحال والمآل على طوري النفي والإثبات ما يعطيه قوله: أنت طالق إن لم يدخل زيد الدار.
وينتظم من ذلك أنه إذا قال: أنت طالق إلا أن يدخل زيد الدار، فالطلاق معلَّق بعدم دخوله.
9169 - ومما لا يستريب فيه من لا يرضى بالتخابيل أن الطلاق بين أن يُنَجّز أو يعلّق، وهذا تقسيمٌ لا يُفرض عليه مزيدٌ.
فإن تعلّق الطلاق، فلا انتجاز في الحال، ومتعلَّق الطلاق نفي أو إثبات، وإن تنجز، فلا يجوز أن يكون له ارتباط بأمرٍ منتظرٍ، ولا يجوز أن يقدّر معنى التنجز، ثم يفرض [فيه] (3) مستدرك.
وإنما ذكرنا هذا حتى لا يعتقد الناظر أن قول القائل: أنت طالق إلا أن يدخل زيد الدار تنجيز بعده مستدرك؛ فإن الطلاق المنجز لا يستدرك، ولكن حق الفقيه أن ينظر في عاقبة اللفظ ومغزاه؛ فإن رُوعي نفيٌ أو إثبات مأخوذ من اللفظ بوقوع الطلاق، فهو متعلّق الطلاق، والطلاق متعلّق به، ونحن نبني على هذا القول إذا قال: أنت طالق
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: إنه. والمثبت تصرف من المحقق.
(3) في الأصل: منه.

(14/214)


إن لم يدخل زيد الدار، ثم [إن] (1) مات زيد ولم ندر أدخل أم لم يدخل، فالرأي الأصحّ أن الطلاق لا يقع؛ فإنا لم ندر هل انتفى دخوله، [فالطلاقُ] (2) متعلق بعدَمِ دخوله.
وأبعد بعض من لا بصيرة لهُ، وقال: إذا أشكل دخوله، فالأصل عدم دخوله، وهذا هذيان لا حاصل لمثلِه، فإنَّ توقع الدخول كتوقع عدم الدخول، وهما في مسلك الاحتمال متساويان، ويعارض تساويهما أن الطلاق لا يقع بالشك.
ولو قال: أنت طالق إلا أن يدخل زيد الدار، ثم مات، ولم ندر أدَخَل أم لم يدخُل، فالذي ذهب إليه الجمهور كُثرهُ (3) أن الطلاق يقع، وإنما صاروا إلى هذا من حيث اعتقدوا أنّه نجّز الطلاق، ثم عقبه بمستدرك، فإذا لم يثبت الاستدراك، فالطلاق مقرّ على تنجيزه. وهذا عندنا خيالٌ (4) لا حاصل له؛ فإن مضمون قوله إلا أن يدخل زيد الدار تعليق، كما أن مضمون قوله إن لم يدخل زيد الدار تعليق، وإذا لم يتحقق متعلّق الطلاق، فالوجه القطع بأن الطلاق لا يقع (5).
وعضَدُ هذا وتأييدُه بأن نقول: لم يعلق الزوج الطلاق بأن لا يعلم دخوله، وإنما علّقه بأن لا يدخل، معلِّقاً كان أو مستثنياً.
9170 - فإذا ثبتت هذه المقدمة، رجعنا بعدها إلى تعليق الطلاق بمشيئة شخصٍ، فإن قال: أنت طالق إن لم يشأ زيد، فمعناه في تنزيل الكلام وتقديره:
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: بالطلاق. والمثبت تصرف منا.
(3) كُثره: أي معظمه، فالكُثْر: المعظم. (معجم).
(4) كذا خيال (بالخاء المعجمة والمثناة التحتية) وأرجح أنها (خبال) بالخاء المعجمة ثم بالموحدة التحتية. حيث يُكثر من هذا اللفظ.
(5) خالف الإمام هنا الجمهور، واستقر المذهب على رأي الإمام، قال الرافعي: "وأما الإمام، ففد اختار عدم الوقوع، وهو أوجه وأقوى في المعنى" (ر. الشرح الكبير: 9/ 38).
وكذلك قال النووي: "واعلم أن الأكثرين قالوا بالوقوع فيما إذا شككنا في الفعل المعلق عليه، واختار الإمام عدم الوقوع في الصورتين، وهو أوجه وأقوى". ثم قال النووي في زياداته: قلت: الأصح عدم الوقوع، للشك في الصفة الموجبة للطلاق. والله أعلم" ا. هـ (ر. الر وضة: 8/ 98).

(14/215)


أنت طالق إن لم يشأ زيدٌ طلاقَك، أي إن شاء طلاقَك لم تطلقي، فكأنه علق الطلاق بأنْ لا يشاء الطلاق.
ثم ممّا يجب التنبّه له -على ظهوره- أنه إن شاء الطلاق لم يقع الطلاق؛ فإن متعلق الطلاق أن لا يشاء، ولو لم يبلغه الخبر، أو بلغه، فلم يشأ نفياً ولا إثباتاً حتى فات الأمر، وقع الطلاق؛ فإنه لم يعلِّق الطلاق بأن يشاء أن لا يطلِّق، وإنما علق الطلاق بأن لا يشاء أن يطلِّق، ثم تنتفي مشيئته بإعراضه وإضرابه، وتنتفي مشيئته بعدم الطلاق بأن يشاء الطلاق، ثم إذا شاء الطلاق، لم يقع بمشيئته الطلاق، وإنما يقع الطلاق بعدم مشيئته الطلاق.
وهذا يُحوج الناظر إلى أدنى تدبّر، وهو الذي يقفه على المقصود، وإيجاز اللفظ الكافي أنجع وأوقع في مثل ذلك.
ولو قال: أنت طالق إلا أن يشاء زيد، فمعناه كمعنى قوله: أنت طالق إن لم يشأ زيد، والتقدير أنت طالق إلا أن يشاء زيد أن لا تُطلَّق، فلا تُطلَّق.
9171 - ومما يتعلق بهذا الفنّ سؤال وجواب. فإن قيل: إذا زعمتم أن متعلق الطلاق أن لا يشاء زيد الطلاق، واعتقدتم أن عدم مشيئته متعلَّقُ الطلاق، فلو شاء الطلاق، ثم أعرضَ، أو ترك، فقد تحقق عدم المشيئة، فأوقعوا الطلاق، كما لو قال: أنت طالق إن شاء زيد، فلم يشأ زيد زمناً، ثم شاء، فإن الطلاق يقع إذا شاء، والثبوت بعد النفي كالنفي بعد الثبوت؟
قلنا: هذا وهم وذهولٌ عن دَرْك معاني الألفاظ، (فالنفي) المرسل محمول على العموم والاستدراك، ولذلك يقتضي النهيُ استيعابَ الأزمنة بالانكفاف، و (الأمرُ) على الرأي المحقق لا يقتضي التكرار واستيعابَ الأزمان بتجديد الامتثال حالاً على حال، والتنبيه في مثل هذا كافٍ.
9172 - فإذا تبيَّن هذا، عُدنا بعده إلى ما هو مقصود الفصل: فإذا قال القائل: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فالذي حكاه الصّيدلاني أن الطلاق لا يقع، وحكى قولاً آخر أن الطلاق يقع، وزعم أن الشيخ لم يحكه، ونقل من يوثق به عن القاضي أنه كان

(14/216)


يختار الحكم بوقوع الطلاق، إذا قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله.
ولستُ أنكر أن الفطِن الفقيهَ النفس قد يبتدر إلى هذا الجواب، ولكن لو تثبّت، وغضّ نَزَقَات (1) القريحة، ولم يُتْبع نظرَه بوادر مُضطرب النفس، وكان بصيراً بمعنى اللفظ، لتبيّن أن الوجه القطعُ بأن الطلاق لا يقع؛ وذلك أنه قال: إلا أن يشاء الله، فمعناه إلا أن يشاء الله أن لا يقع، فلا يقع، ومشيئةُ الله في تعلقه وعدم تعلّقه بالنفي والإثبات غَيبٌ، وقد أوضحنا بالمقدمات أن النفي في هذه الصّيغة متعلق بالطلاق، وليس الطلاق منجَّزاً، فهذا طلاق معلّق بنفي هو في حقنا غيبٌ، والأصل استمرار النكاح، وعدمُ وقوع الطلاق.
ثم قال قائلون من أصحابنا: إذا مات زيد، وكان قال الزوج: أنت طالق إلا أن يشاء زيد، ولم ندر أشاء أم لم يشأ، فالطلاق واقع.
ولو قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فمشيئة الله غيب، ولا نحكم بوقوع الطلاق. ثم أخذ يفرق ويقول: المشيئة صفةٌ طارئة على زيدٍ، فالأصل عدمها، ومشيئة الله صفته الأزلية، فلا يقال: الأصل عدمها.
وهذا كلام أخرق لا بصيرة معه؛ فإن الطلاق ليس معلّقاً بنفس المشيئة، وإنما تعلُّقه بعدم مشيئة عدَمِ الطلاق، ومشيئة الله تتعلق ولا تتعلق، فعدم التعلق فيها متعلَّق طلاق الرجل، فما معنى قول القائل: الأصل ثبوت مشيئة الإله؟
ومن ألف كلامَنا وغشيَ أطراف مجلسنا، استهان بمثل هذا الكلام؛ فلا فرق إذاً بين أن يموت زيد ويستبهم علينا مشيئته، وبين أن يقع التعليق بمشيئةٍ أزليةٍ تعلُّقها غيب مستبهَمٌ علينا، فلا يقع الطلاق في الوجهين.
9173 - وقد انتجز تمام الغرض، على تبرّم منا بالإطناب فيه، فإنه واضح، ومن أنعم النظر في مقدّماته، لم يخْفَ عليه دَرْكُ المقصود من آخره.
وإنما إشكال الفصل في أن يقول القائلُ: إذا أشكل أمر زيدٍ يقع الطلاق، وإذا قال: إلا أن يشاء الله لا يقع، وهذا أمرٌ لا ينفصل أبداً.
__________
(1) نزقات: من النزق: وهو الخفة والطيش. (المعجم والمصباح).

(14/217)


وقد يقال: عدم مشيئة زيدٍ إذاً لا تبين. قيل: لكن [مشيئة الله عز وجل] (1) كذلك ثم إذا شاء الطلاق، فقد جزم العدم، لما ذكرنا من أن العدم المحلوف عليه حقه أن يستمر.
فهذه فصول كافية في غرضنا، ونحن نرى أن نصل بمختتم هذا الفصل فروعاً تتعلق بالمشيئة.
فروع:
9174 - إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شئت، فقد ذكرنا أن المشيئة تتعلق بالمجلس، والمعنيُّ بالمجلس قربُ الزمان المعتبر في اتصال الخطاب بالجواب، وقد قدمنا تعليلاً في ذلك، ومِلْنا في التعليل إلى ما في المشيئة من التمليك.
ولو قال: "أنت طالق إن شاء فلان"، لم يختص ذلك بقرب زمانٍ ومجلس، وهو بمثابة ما لو قال: "أنت طالق إن قدم فلان".
وإذا قال لأجنبي: إن شئتَ فامرأتي طالق، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا على التراخي، كما لو قال: إن دخلت الدار. والثاني - إنه على الفور؛ فإنه استدعاء نطقٍ يقع جواباً، فحقه أن يكون على الفور، وقد قال الشافعي: في الإيلاء لو قال لها: والله لا أقربك إن شئت، فشاءت في المجلس، كان مولياً، فشَرَطَ المشيئةَ في المجلس، وإن لم تكن قد مُلّكت الطلاق، [لم] (2) يُعلّق بمشيئتها الطلاق. وهذا يؤكد أحدَ الوجهين في الأجنبي. ويجوز أن يفرضَ في محل النص [تخريجاً] (3) أخذاً من الخلاف المذكور في الأجنبي.
ويجوز أن يفرّق بينها وبين الأجنبي، [بأن] (4) الإيلاء قد يُفضي إلى الطلاق، فهي في حكم المملَّكةِ على هذا التقدير.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: "ولم" بزيادة (الواو) وهو يقلب المعنى، إذ المقصود: أنها لو لم تملك الطلاق، لم يتعلق بمشيئتها، فهو عُلِّق بمشيئتها لأنها ملكته.
(3) في الأصل: تخريجٌ. والتصويب منا على ضوء السياق، فالمعنى: يجوز أن يفرض هذا الوجه تخريجاً من الخلاف المذكور في الأجنبي. وهذا قريب من عبارة ابن أبي عصرون.
(4) في الأصل: فإن.

(14/218)


وإذا قال الزوج: امرأتي طالق إن شاءت، قال القاضي: هذا مما أتوقف فيه؛ فإنها لو شاءت، لوقع الطلاق، وملكت نفسها، فهي مخيّرة مُملّكة على هذا الرأي.
وينتظم ممّا ذكرناه أنه إذا خاطب امرأته بالمشيئة بحرف (إن)، فهذا على الفور، لاجتماع معنى التمليك والاستنطاق بالجواب، ولو قال: أنت طالق إن شاء زيد، فهذا لا يُحمل على الفور، لانتفاء معنى التمليك واستدعاء الجواب.
ولو قال لزيد: زينب طالق إن شئتَ، فوجهان لوُجُود استدعاء الجواب وانتفاء التمليك.
وإذا قال: امرأتي طالق إن شاءت، فهذا فيه معنى التمليك، وليس فيه استدعاء الجواب.
وفي هذا الفصل الأخير مستدرك عندي، فإذا قال: وامرأته حاضرة: امرأتي طالق إن شاءت، فيجوز أن يُتخيل في هذا تردد. وإن كانت غائبةً، فقال ما وصفناه، فيبعد اعتبار اتصال [الجواب] (1)؛ فإن الحالة ناطقة بصريح التعليق والبعدِ عن قصد التمليك، وإذا قال لامرأته: أنت طالق إن دخلتِ الدار، فقد ملكها التسبب إلى الطلاق، ثم لم يكن لهذا أثر في حمل الدخول على الفور، ويجوز أن نقول: إذا بلغها الخبر، فيحتمل أن يطلب منها الابتدار إلى المشيئة، وليس هذا بعيداً عن غرض المتكلم.
9175 - وإذا قال: أنت طالق إن شئت أنت وأبوك، فمشيئتها تختص بالمجلس، وإن شاءت هي في المجلس، وأخّر الأبُ، ثم شاء، قال القاضي: لم يقع الطلاق، لأنه قرن بين مشيئة الأب ومشيئتها على الفور، فلزم من المشيئة المقترنة بمشيئتها ما يلزم من مشيئتها. وهذا حكاه رضي الله عنه، وراجعه أصحابه فيه، فأصر عليه.
والتحقيق أن مشيئة الأب قرينةُ مشيئةٍ يشترط فيها التعجيل والاتصال، فتكتسب مشيئةُ الأب من الاقتران التعجيلَ؛ فإن حقها أن تكون مقترنة بمشيئة الزوجة، وإذا
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، ثم هي في عبارة ابن أبي عصرون.

(14/219)


تعجّلت مشيئة الزوجة، واقترنت بها مشيئة الأب، كانت على التعجيل.
ويحتمل احتمالاً ظاهراً أن تكون مشيئتها على البدار والاتصال، ولا يجب رعاية ذلك في مشيئة الأب، وتقرّ كلّ مشيئةٍ على حكمها لو كانت مفردةً، وهو كما لو قال: أنت طالق إن شئت ودخلتِ الدار، فالمشيئة حقها أن تتنجّز، ودخول الدار لو استأخر، ثم وقع، وقع الطلاق.
9176 - ولو قال: أنت طالق إن شئتِ، فقالت: شئتُ إن شئتَ، فقال الزوج: شئتُ، لم يقع شيء؛ لأن المشيئة حقها أن تكون مبتُوتةً مجزومة؛ فإذا قالت: شئتُ إن شئتَ، فقد أخرجت ما قالت عن كونه خبراً عن المشيئة الحقيقية. وهذا واضح (1).
9177 - ولو قال: أنت طالق ثلاثاً إلا أن يشاء أبوك واحدةً، فشاء واحدةً، فالمذهب المشهور أنه لا يقع شيء؛ لأن معنى الكلام وتقديره الظاهر: "أنتِ طالق ثلاثاًً إلا أن يشاء أبوك واحدةً، فلا يقع شيء"، فعلّق عدم وقوع الثلاث بمشيئته واحدةً، وقد شاء واحدةً.
وهو كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً إلا أن يدخل أبوك الدار، فإذا دخل الدار، لم يقع شيء، فمشيئته واحدة بمثابة دخوله الدار في الصورة التي ذكرناها.
وذهب بعض أصحابنا إلى أنهُ يقع واحدةً، والتقدير عنده: أنت طالق ثلاثاًً إلا أن يشاء أبوك واحدة، فواحدة، فكأنه يقول: الثلاث يقعن إلا أن يكتفي الأب بواحدةٍ، فلا يقع إلا واحدة، وهذا التردد فيه إذا أطلق اللفظ، ولم يُرد شيئاً؛ فإن أراد وقوع واحدة على التأويل الذي ذكرناه في توجيه الوجه الضعيف، فلا شك أن الواحدة تقع؛ فإن التأويل وإن بعد، فهو مقبول، إذا كان مقتضاه وقوع الطلقة.
ومن قال: إنه يقع واحدة إذا أطلق لفظه، وهو الوجه البعيد، فلو قال اللافظ:
__________
(1) علق ابن أبي عصرون على هذا قائلاً: "قلت: بل لم تأت بالمشيئة في الحال، وإنما علقت وجود مشيئتها على وجود مشيئته" (ر. صفوة المذهب: جزء5 ورقة 16 شمال) فهو يرى عدم الوقوع موافقاً للإمام، ولكن يخالف في التعليل.

(14/220)


أردت تعليق انتفاء الثلاث بمشيئته واحدة، فهل يقبل ذلك منه حتى لا يقع شيء؟ فعلى وجهين: أظهرهما - أنه يصدّق، ولا يقع شيء.
9178 - ولو قال لامرأته: أنت طالق إن شئت، فقالت بلسانها: شئتُ، وكانت كارهةً بقلبها، فلا شك أنا نحكم بوقوع الطلاق ظاهراً، وهل يقع في الباطن؟ قال القفال: جرت هذه المسألة بيني وبين أبي يعقوب الأَبيْوَرْدي، فذهبَ إلى أنه لا يقع الطلاق باطناًً، كما لو قال: أنت طالق إن حضتِ، فقالَت حِضتُ كاذبةً، فهي مصدّقة ظاهراً، ولا يقع الطلاق باطناً.
قال القفال: قلتُ: يقع الطلاق باطناًً، وكأنه معلّق بوجود لفظ المشيئة وقد وجد، والدليل عليه أنه لو قال: أنت طالق إن شاء فلان، فقال: شئت، حُكم بوقوع الطلاق وصُدّق، ولو كان معتبر الطلاق مشيئةَ القلب، لكان ذلك بمثابة ما لو قال: "أنت طالق إن دخل فلان الدار"، فقال فلان: دخلتُ، لم يصدق، فدلَّ [على] (1) أن الطلاق معلق بالنطق بالمشيئة (2)، وقد جرى قطعاً.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في هذا الكلام والاستدلال حذف لمعلومٍ أدى إلى ما يشبه التناقض. وبيان ذلك أنه يستدل على أن وقوع الطلاق غير معلّق بمشيئة القلب، فذكر دليلاً على ذلك عدم تصديق فلان إذا قال: "دخلتُ الدار" وهذا عكس المطلوب، فلو كان التعليق بالظاهر، لصدق ووقع الطلاق، ولكن في الكلام حذفٌ للعلم به، والتقدير: وإذا كان من المعلوم المسلم أنه إذا قال لامرأته: "أنت طالق إن دخل فلان الدار" فقال فلان: دخلت، وقع الطلاق، فدلّ ذلك على أن الطلاق معلق بوجود اللفظ الدال على المشيئة والدخول، لا على حقيقة ذلك، ولو كان معلقاً على حقيقة المشيئة، لم يُصدّق فلانٌ المعلّقُ بدخوله إذا قال: دخلتُ. ويشهد لمحاولتنا هذه تلخيص الإمام ابن أبي عصرون لكلام إمام الحرمين؛ إذ قال ما نصه:
"ولو قال: أنت طالق إن شئت، فقالت بلسانها: شئت -وهي كارهة- وقع الطلاق ظاهراً، وهل يقع باطناً؟ حكى القفال عن أبي يعقوب الأبيوردي أنه لا يقع، كما لو قال: أنت طالق إن حضت، فقالت: حضت -كاذبةً-، لم يقع في الباطن شيء.
وقال القفال: يقع باطناً؛ لأنه معلق بلفظ المشيئة؛ ولهذا لو قال: أنت طالق إن شاء فلان، فقال: شئت، صُدِّق ووقع الطلاق. ولو تعلق بمشيئة القلب، لكان بمثابة قوله: إن دخل فلان الدار، فأنت طالق، فقال: دخلت، وقع الطلاق" ا. هـ (صفوة المذهب/جزء 5 ورقة: 17 يمين).

(14/221)


قال القاضي: لعل ما ذكره الأبيوردي أصح، وما استدلّ به الشيخ (1) فيه نظر؛ من جهة أن تعليق الطلاق على مشيئتها فيه معنى التمليك، وهو يعتمد الإرادة ومحلها القلب، وليس في تعليق الطلاق على مشيئة زيدٍ معنى التمليك، [بل هو] (2) فيه لفظ مجرد منه ظاهراً وباطناًً.
وهذا كلام لا يشفي الغليل؛ فإن لفظ المشيئة مشعر بإرادة القلب في الموضعين، ولا وقع لملكها نفسها لو طلقت في هذا المقام، فالوجه في الجواب أن مشيئة زيدٍ وإن تعلقت بإرادة قلبه، فلا مطلع على إرادته إلا من جهته، وما كان كذلك، فلا طريق فيه إلا التصديق، وليس كما [لو] (3) قال: أنت طالق إن دخل فلان الدار؛ فإن الدخول يمكن أن يعرف لا من جهة الداخل.
ولو قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، فقالت: دخلت، لم تصدق. ولو قال: أنت طالق إن حضت، فقالت: حضتُ، صُدّقت؛ لأن الحيض لا يعرَف إلا من جهتها، كما ستأتي المسائل المعلّقة على الحيض.
ومساق كلام القاضي دليل على احتكامه على أبي يعقوب؛ فإن الطلاق إذا كان معلقاً على مشيئة زيدٍ، فقال: شئت، ولم يرد بقلبه - أن (4) الطلاق يقع باطناً تعويلاً على اللفظ، وإنما لا يقع باطناًً إذا كان معلقاً بمشيئة المرأة ولم تُرد بقلبها، وهذا تحكُّم محال.
وأبو يعقوب أفقه من أن يسلّم الفرق بين المسألتين، ولكن المسألة تدور على [نكتة] (5)، وهي أن المرأة لو أرادت الطلاق بقلبها ولم تنطق بالمشيئة، فإن كان
__________
(1) الشيخ: المراد به هنا القفال.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) زيادة من المحقق.
(4) المعنى أن الطلاق يقع ظاهراً وباطناًً إذا كان معلقاً بمشيئة زيد ولم يشأ بقلبه، بل بلفظه فقط، وإذا كان معلقاً بمشيئة المرأة، فلا يقع باطناًً إلا إذا شاءت بقلبها؛ لأن في التعليق بمشيئتها معنى التمليك، بخلاف الأجنبي. هكذا وبهذا التفريق رجح القاضي كلامَ الأبيوردي.
(5) في الأصل: ثلاثة، ورسمت هكذا (ثلثه). ويعلم الله كم أضنانا هذا التصحيف، حتى بلغ بنا الضيق والضجر مبلغاً سدّ منافذ الفكر والطاقة نحو يومين، ونحن نراوح في مكاننا صباح =

(14/222)


أبو يعقوب يزعم أن الطلاق يقع باطناً لتحقق إرادة القلب، ولكن لا يقع الحكم به لعدم الاطلاع، [فيستدُّ] (1) كلامُه، وإن سلّم أن الطلاق لا يقع باطناًً، فيضعف ما ذكره، ونتبين أن متعلق الطلاق اللفظُ المجرد.
والذي أراه أن استدلال القفال حَرَّفه النقلة، والخلل يتسرع إلى النقل، سيّما في العلوم المعنوية، وعندي أن القفال ألزمَ الأبيوردي وقوع الطلاق بإرادة القلب، فقال أبو يعقوب: يقع، فقال القفال: يجب أن يصدّق إذا أخبر عن إرادة قلبه، هذا يجب أن يكون مجال الكلام، ولأبي يعقوب أن يرتكب (2) مسألة الأجنبي، ويقول: يصدّق.
9179 - فأما إذا قال لامرأته: أنت طالق إن شئت، فأرادت بقلبها، ولم تنطق، فيجب القطع بأن الطلاق لا يقع باطناًً وظاهراً؛ فإنَّ شرطَ جوابها أن يكون على صيغة الأجوبة واتصالها بالخطاب، والكلام الجاري في النفس لا يكون جواباً، فكأن الزوج علق الطلاق بإرادة وجوابٍ، فإذا لم يتحقق الجواب، لم يقع الطلاق ظاهراً وباطناًً.
ولو قال لامرأته: أنت طالق متى شئت، فهي كالأجنبي، فإن الجواب غير ملتمسٍ منها.
9180 - وانتظم من مجموع ما ذكرناه أن التعليق إن كان على مشيئةٍ تقع جواباً، فالطلاق لا يقع بمجرّد إرادة القلب ظاهراً وباطناًً. وإن شاءت على الاتصال، وهي كارهة بقلبها، وظهر اللفظ منها، فهذا موضع تردّد الإمامين (3). وإن كان الطلاق معلقاً بالمشيئة من غير اشتراط صيغة الجواب، فإن وُجد لفظ المشيئة مع كراهية
__________
= مساء، حتى علم الله صدق عزيمتنا فألهمنا قراءتها، فله وحده الحمد والمنة، وإليه ألجأ لائذاً بحوله وقوته بارئاً من حولي وقوتي (انظر صورة الكلمة).
(1) في الأصل: "فيستمرّ" والمثبت تقدير منا على ضوء معرفتنا بألفاظ الإمام. والله أعلم.
(2) سبق أن أشرنا إلى معنى (الارتكاب) الذي يعنيه إمام الحرمين في مثل هذا السياق. وهو واضح هنا من هذا السياق. فكل من يُلجئه مُناظره ويُلزمه ما لا يصح، فإذا لم يجد جواباً، والتزم ما لا يُسلّم ولا يصح، فهو (مرتكب).
(3) الإمامين: القفال والأبيوردي.

(14/223)


القلب، فالطلاق يحكم به ظاهراً وفي الباطن التردد الذي ذكرناه، وإن وجدت الإرادة باطناًً، ولم يوجد لفظ المشيئة، فمن لا يعتبر الباطن، يقول: لا يقع الطلاق باطناًً لعدم اللفظ، والأبيوردي قد يقول: يقع الطلاق بإرادة القلب باطناًً، إذا لم يجر في التعليق استدعاء جواب.
هذا منتهى الكلام في ذلك.
فرع:
9181 - ولو قال لزوجته الصبية: أنت طالق إن شئت، فقد قدّمنا ترددَ الأئمة في ذلك، وميلُ الأكثرين إلى أن الطلاق لا يقع، وهذا قد يؤكّد مذهب الأبيوردي، فإنه لو كان التعويل على مجرد اللفظ، فلفظها منتظم كائن، وذهب ذاهبون إلى أن الطلاق يقع، كما لو قال للصبية: أنت طالق إن تكلمتِ أو قلت: شئتُ، فقالت: شئت.
ولو قال لمجنونةٍ: أنت طالق إن شئت، فقالت: شئت، لم يقع الطلاق وفاقاً، والسبب فيه أنا وإن كنا نعتمد اللفظَ، فالشرط صدَر (1) اللفظ ممّن يتصوّر أن يكون لفظه إعراباً عن مشيئة قلبه، ولا يثبت للمجنونة قصدٌ على الصحة، وليس هذا كما لو قال: إن تكلمتِ.
وإن قال: إن شئتِ، فقالت في سكرها: شئتُ، فهذا يخرّج على أن السّكران كالمجنون أو كالصاحي.
وكان شيخي يقطع بأنه لو قال للصبيّة: أنت طالق على ألف، فقالت: قبلت لا يقع شيء؛ فإنه لا عبارة لها في معاملات الأموال، وليس كما لو قال: إن شئت، فقالت: شئتُ، ففيه الخلاف المقدم.
وقال القاضي: قبول الصبيّة يجوز أن يكون بمثابة قبول المحجورة السّفيهة، حتى يقع الطلاق رجعياً، ولا يثبت المال. وهذا بعيد جداً.
ولو قال: طلّقي نفسك إن شئت، والتفريع على أن هذا تمليك يستدعي جوابها
__________
(1) صَدَرُ: أي صدور. وهذا الاستعمال لهذا المصدر هو الغالب، بل الدائم في لغة إمام الحرمين.

(14/224)


على الفور، فللزوج الرجوع قبل أن تجيب. ولو قال لها: أنت طالق إن شئت، وأراد الرجوع قبل أن تقول: "شئت"، فلا يقبل رجوعه، فإن هذا في ظاهره تعليق، والتعليق لا يقبل الرجوع. كما لو قال: إن أعطيتني ألف درهم، فأنت طالق، ثم قال: رجعتُ عما قلت، فلا أثر لرجُوعه. وإذا اتصل الإعطاء، وقع الطلاق.
فإذا قال: طلقي نفسك إن شئت، والتفريع [على أن هذا تفويض، فلا يستدعي جوابَها على الفور] (1)، فلو ابتدرت وقالت: طلقت نفسي [و] (2) شئت، فلا إشكال، ولو قالت: طلقت نفسي، فقال الزوج: رجعتُ -قبل أن تقول: شئت- فلا أثر لرجوعه؛ فإنه لم يبق إلا التعليق بالمشيئة، وقد ذكرنا أن التعليق لا يقع فيه الرجوع، ولو أراد الزوج أن يرجع قبل أن تقول: طلقت نفسي، نفذ رجوعه؛ فإن تفويض الطلاق يقبل الرجوع قبل أن [تجيب] (3)؛ فقد اشتمل كلامه على ما يؤثر الرجوع فيه وعلى ما لا يؤثر الرجوع فيه. فانتظم الأمر في قبول رجوعه مرةً وردِّه
أخرى، كما وصفنا.
9182 - ومما ذكره الأئمة في المشيئة أنه لو قال لامرأته: يا طالق إن شاء الله.
قالوا: يقع الطلاق، ويلغو الاستثناء؛ فإن الاستثناء إنما يعمل في الأخبار وصيغ الأفعال، فأما الأسامي، فلا عمل للاستثناء فيها.
وهذا فيه نظر؛ فإن الطالق وإن كان اسماً، فمعناه يعني طلقتك، ولو أراد أن يصرف اللفظ عن اقتضاء الإيقاع، لم يقبل منه أصلاً. وإذا قال: أنت طالق ثلاثاً إن شاء الله، لم يقع شيء والثلاث تقع تفسيراً لمصدرٍ يُضمِّنه الطلاق، وهو متعلق الاستثناء، فالوجه عندنا صحة الاستثناء، وانتفاء الطلاق. وقد وجدت هذا في مرامز المحققين.
ولو قال: يا طالق أنت طالق ثلاثاًً إن شاء الله، انصرف الاستثناء إلى الثلاث، ووقعت طلقة بقوله: يا طالق، وهذا بيّن.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، واستقامة الكلام.
(2) (الواو) زيادة من (صفوة المذهب: جزء 5 ورقة 18 يمين).
(3) في الأصل: تجيز. والمثبت تقديرٌ منا.

(14/225)


9183 - ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً يا طالق إن شاء الله. قال الأصحاب: لا يقع عليها شيء؛ لأن قوله: يا طالق لا يعمل الاستثناء فيه، فانصرف إلى ما يقبل الاستثناء، وهو قوله: أنت طالق ثلاثاًً، وامتنع وقوعها، ولم نُوقع طلقة [بقوله] (1) يا طالق بعد إيقاع الثلاث؛ لأنه وصفها بالطلاق [لإضافة الطلاق] (2) الثلاث الذي أوقعها [إليها] (3) وقد لغت الثلاث؛ فلغا الوصف الصادر عنها، ولم ينقطع حكم الاستثناء بما تخلل بينه وبين المستثنى عنه من قوله يا طالق، لأنه على وفق المستثنى عنه من جنسه، فالاستثناء إنما ينقطع إذا تخلل بينه وبين المستثنى عنه ما ليس من جنس النظم الذي يتسق فيه الاستثناء، فلو قال: طلقتك يا فاطمة إن شاء الله، أو أنت طالق [ثلاثاًً] (4) ياحفصة إن شاء الله، فالاستثناء يعمل، ولايضرّ تخلل التسمية بين الاستثناء وبين المستثنى عنه.
وهذا فيه وجهان من النظر: أحدهما - ما قدمناه من صرف الاستثناء إلى الطالق، فلا امتناع فيه، فيتّجه إذاً ربط الاستثناء بالطالق وقطعه عن الثلاث، وإذا انقطع الاستثناء عن الثلاث وقعنَ، فيبقى الطالق القابل للاستثناء في وضعه، والاستثناء مختص به، ولكن لا يعمل في هذه المسألة بعد أن طلقت ثلاثاً.
ولا يمتنع أن يقال: يلغو الاستثناء، لتخلل "الطالق"؛ فإنه في حكم اللّغو الذي لا حاجة إليه، وليس كالتسمية؛ فإنها تجري على سَداد الكلام وحسن النظم، والطالق في قوله: "أنت طالق ثلاثاًً يا طالق إن شاء الله" فضلةٌ [مستغنى عنها] (5)، فيُقْطع الاستثناء ويقع الثلاث على هذا التأويل.
ويتجه وجهٌ آخر - وهو صرف الاستثناء إلى الثلاث وإبطال الثلاث، فيبقى قوله: "يا طالق"، فتطلق طلقة بذلك، ولا حاصل لقول من قال: هذه الصفة صادرة عن
__________
(1) في الأصل: لقوله.
(2) زيادة اقتضاها السياق، وهي في صفوة المذهب (السابق نفسه).
(3) زيادة من المحقق.
(4) زيادة من صفوة المذهب (السابق نفسه).
(5) في الأصل: فضلة مستغثة.

(14/226)


الثلاث، بل هي مقالة مستقلة بنفسها، فيرتبط بها حكمها.
9184 - ما سبق ثلاثة أوجه: أحدها - إنه لا يقع شيء وهو الذي حكاه القاضي.
والثاني - إن الثلاث تقع، وله معنيان.
والثالث - إنه يقع طلقة واحدة، كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً إن شاء الله يا طالق؛ فإنه لو قال هذا، بطلت الثلاث بالاستثناء، ويقع طلقة بقوله آخراً: "يا طالق".
9185 - ولو قال: أنت طالق يا زانيةُ إن دخلت الدار، فالطلاق معلق بالدخول، ولا يضرّ تخلل ما جرى.
9186 - ومما نذكره في خاتمة الفصل ونجمع فيه تراجم، أنه لو قال لامرأته: أنت طالق إن لم يشأ الله، فقد نص الشافعي على أن الطلاق لا يقع؛ فإنه علقه بمحال؛ فإذا كان المحال لا يقع، كما لو قال: أنت طالق إن صعدت السّماء، فإذا استحال صعودها، انتفى الطلاق، وكذلك إذا قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فعدم تعلق المشيئة بالطلاق مع وقوع الطلاق محال.
قال صاحب التلخيص: لو قلت: "يقع الطلاق"، لم أكن مُبعداً؛ فإنه خاطبها بالطلاق وقال بعده محالاً غيرَ ممكن في العقد، وما لا إمكان له لا تعليق به، وليس كالتعليق بصعود السماء؛ فإن الرب قادر على إقدار العبد عليه، وقد قدمنا خلافاً بين الأصحاب فيه إذا قال: "أنت طالق إن صعدت السماء" ورتبنا عليه جملاً تُوضِّح الغرض، وسنعود إليها في الفروع، إن شاء الله.
فانتظم فيه أنه لو قال: أنت طالق إن شاء الله، لم يقع الطلاق.
وحكى صاحب التقريب والشيخ أبو علي قولاً غريباً أن الطلاق يقع، ونقلا للشافعي نصاً أنه لو قال: أنت علي كظهر أمي إن شاء الله، فهو مظاهر، وطرد المحققون هذا القولَ في الطلاق، والعقودِ جُمَع والحلول، وكلَّ لفظ حقه أن ينجزم، ورام بعض الأصحاب أن يفرق بين الظهار وغيرِه، ولست أرى لذكر ما لا أفهمه وجهاً.
وقال بعض المحققين: الاستثناء بعد الإقرار باطل، فإذا قال الرجل: لفلان علي عشرة إن شاء الله، فالعشرة ثابتة، والاستثناء باطل؛ فإنه أخبر ثم رام بآخر كلامه أن

(14/227)


ينفي، فأما ما هو إنشاء، فشرطه أن يصح اللفظ فيه، فإذا قال: إن شاء الله، لم يأت بلفظ صحيح، فلا يصلح اللفظ المضطرب للإثبات.
وكل ذلك خبطٌ والصّحيح أن التعليق بالمشيئة [يفنِّد] (1) جميعَ ما تقدم من إقرار وإنشاء، وحَل وعَقْد، وطلاق وظهار.
ولو قال: أنت طالق إن لم يشأ الله، فالنص أنه لا يقع، وخَرَّج صاحب التلخيص الوقوع.
ولو قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فالصحيح أن الطلاق لا يقع، وقد أطنبنا
فيه.
وفي المسألة قولٌ آخر: إنه يقع، زعم القاضي أنه القياس، وهو غفلة منه، والصحيح أنه لا يقع. قال الصّيدلاني: كان القفال لا يذكر غيره.
9187 - ومما نذكره متصلاً بالفصل أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق، ثم كما (2) تم اللفظ بدا له أن يقول: "إن شاء الله تعالى"، فقاله على الاتصال، ولكنه لم ينشىء اللفظ على قصد أن يعقبه بالاستثناء، قال أبو بكر الفارسي: لا خلاف أن الطلاق يقع؛ فإن الاستثناء أنشاه بعد وقوع الطلاق، وهذا المعنى ظاهر، لا مناكرة فيه، ولكنه جمعَ مسائلَ عويصةً، وادّعى الإجماع فيها، فلم تسلم له دعوى واحدةٍ منها، وخالفه الأصحاب في جميعها، فكذا (3) حتى ذكروا خلافاً في هذه المسألة، وكان شيخي يَعْزيه إلى الأستاذ أبي إسحاق، ورأيته لغيره.
ولست أرى له وجهاً؛ فإن الطلاق يقع مع تمام اللفظ، فإنشاء الاستثناء بعده تداركُ طلاقٍ واقعٍ. وأبو بكر ما نقل الإجماع في المسائل، ولكن ذكرَ مسائلَ غريبةً تستند إلى معانٍ ظاهرة لا مُدرك فيها إلا المعنى، ولا ينقدح فيها إلا وجهٌ واحد، وهذه المسألة من أظهرها.
__________
(1) في الأصل: يفيد. وفي صفوة المذهب: "يبطل". والمثبت اختيارٌ منا لأقرب الصور إلى الموجود في الأصل.
(2) كما: أي عندما.
(3) كذا بهذا الرسم (فكذا). (انظر صورتها).

(14/228)


ثم ما ذكره يجري في التعاليق، فلو قال: أنت طالق، ثم بدا له أن يقول: إن دخلت الدار، فقاله، فالطلاق يتنجز على ما ذكر، والتعليق بعده طائحٌ (1).
ومن خالف في مسألة الاستثناء يخالف في هذه. قال شيخي عن القفال: إذا قال: أنت طالق واحدة ثلاثاً إن شاء الله، فلا يقع شيء، وينصرف الاستثناء إلى جميع الكلام، والواحدة التي قدّمها معادة في الثلاث، فانصرف الاستثناء إلى [جميع] (2) الكلام.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً ثلاثاً إن شاء الله، لم يقع شيء.
ولو قال: أنت طالق واحدةً وثلاثاً -بالواو العاطفة- إن شاء الله، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن الاستثناء يرجع إلى الجميع؛ فإنه وإن عطف، فلا مزيد على الثلاث، وإذا تعلقت الثلاث بالمشيئة، لم يقع شيء.
والوجه الثاني - أن الطلقة الأولى تقع، والواو فاصلة.
ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً وثلاثاًً إن شاء الله، فوجهان: أحدهما - لا يقع شيء.
والثاني- يقع الثلاث، والواو فاصلة مانعة من انعطاف الاستثناء.
ولو قال: أنت طالق واحدة واثنتين إن شاء الله، فهذا مخرَّج على أنا هل نجمع ما يفرقه من الصيغ؟ فإن لم نجمع، وقعت الطلقة الأولى، وإن جمعنا، لم يقع شيء.
...
__________
(1) في هامش الأصل: "حاشية: أي ساقط" وعبارة (صفوة المذهب: 5/ورقة 19 يمين): "فالطلاق يقع، ويلغو التعليق".
(2) في الأصل: يوم الكلام.

(14/229)


باب طلاق المريض
قال الشافعي: "وطلاق المريض والصحيح سواء ... إلى آخره" (1).
9188 - طلاق المريض واقع كطلاق الصحيح، لا مراء فيه، ومقصود الباب الكلام في انقطاع الميراث، وتحصيلُ المذاهب في ذلك، فنقول: إذا طلق في الصحة، وأبان، انقطع الميراث، من الجانبين سواء اتفق موت الزوج، وهي في العدة بعدُ، أو مات بعد انقضاء العدة، وسواء كان الطلاق بسؤالها أو لم يكن بسؤالها.
وإن كان الطلاق رجعيّاً، فالرّجعية زوجة في الميراث: إن مات الزوج وهي في عدة الرجعية، ورثته، وإن ماتت في العدة ورثها.
9189 - فأما الطلاق في مرض الموت، فإن كان رجعياً، فالتوارث قائم ما دامت في العدة، حتى لو ماتت قبل انقضاء العدة، ورثها الزوج ولو مات، ورثته.
ولو أبانها، نُظر: فإن أبانها بسؤالها أو اختلاعها، انقطع الميراث، ولم يكن الزوج فارّاً؛ لأنه غير مُتّهم؛ إذ هي الراغبة في البينونة.
وذكر العراقيون: أن من أصحابنا من أجرى القولين اللذين سنذكرهما في انقطاع الميراث، ونسبوهُ إلى ابن أبي هريرة، وهذا وإن كان غريباً في الحكاية، فهو معتضد بقصة عبد الرحمن بن عوف وزوجتِه تماضر (2)، فإنها [سألت] (3) الطلاق، فطلقها
__________
(1) ر. مختصر المزني: 4/ 83.
(2) قصة عبد الرحمن بن عوف رواها الشافعي من حديث عبد الله بن الزبير، وقال: هذا حديث متصل (الأم: 5/ 138)، ورواها عبد الرزاق في مصنفه (7/ 62 ح 12192)، والبيهقي في الكبرى (7/ 329، 330)، ورواها مالك في الموطأ عن أبي سلمة بن عبد الرحمن (2/ 571 ح 40). أما الرواية التي فيها أن الطلاق كان بسؤال زوجة عبد الرحمن، فقد رواها مالك في الموطأ عن ربيعة (2/ 572 ح 42).
(3) في الأصل: "سات" هكذا ولعلها صحفت إلى (شاءت).

(14/230)


ثلاثاًً، وورّثها عثمان. وهذا غير مُعتدٍّ به، وقد ذكرنا في الطلاق البدعي اتفاقاً في أن الخلع ليس بدعياً، وفي الطلاق بالسؤال [قولين، و] (1) لست أدري هل نجريهما [هاهنا] (2) في الاختلاع؟ ولا ينبغي أن نعتني بالتفريع على الضعيف.
9190 - وإن لم تسأل الطلاق، فطلقها ثلاثاً، أو طلقها الطلقةَ الثالثة الباقية، أو سألت طلقةً أو طلقتين رجعيتين، فطلقها ثلاثاًً، فلا أثر للسؤال في هذا المقام، [فالمسائل] (3) يُخرّجُ في جميعها قولان: أظهرهما - وهو المنصوص عليه في الجديد أن الميراث ينقطع، والعبارة المشهورة عن هذا القول: "أنا لا نجعله فارّاً، بل نقضي بانقطاع الميراث؛ لأن علة الوراثة عصمة الزوجية، وقد انقطعت".
والقول الثاني - أن الميراث لا ينقطع، نص عليه في القديم، واعتمد حديثَ عبد الرحمن -كما ذكرناه- في المسائل، وهو في القديم كان يقدم الأثر على القياس، والعبارة عن القول القديم: "أنا نجعله فارّاً ونتّهمه بقصد قطع الميراث، ونعاقبه بضدّ مقصوده، كما نحرم القاتلَ الميراثَ؛ من جهة أنا نتّهمه باستعجال الميراث".
ثم إذا فرّعنا على القديم، فعبارتنا عنه أنه فارّ، وإن جرت مسألة فيها خلاف وردَّدنا هذه العبارة بين النفي والإثبات، فليعرف الناظر هذا في صدر الباب، ثم ينتظم في التفريع على هذا القول اتباع التهمة، والتفريعات مطردة على هذا المعنى.
وإن لم يكن له ثبات في سبر النظر وإقامة الجدال، ورُبَّ معنىً نستعمله رابطةً للتفريعات، فيجري، ولا نرى التمسك به في الخلاف.
9191 - فإن ورثنا المبتوتة، فإلى متى نورثها؟ فعلى أقوال: أحدها - أنا نورثها إلى أن تنقضي العدة؛ فإن مات الزوج قبل انقضاء العدة، ورثته، وإن مات بعد انقضاء العدة، لم ترث؛ فإنّ العدة تابع من توابع النكاح، وعُلْقَة من بقايا أحكامه، وهذا مذهب أبي حنيفة (4).
__________
(1) زيادة من المحقق اقتضاها السياق.
(2) زيادة رعاية للسياق.
(3) في الأصل: "والمسائل" والمثبت تقدير من المحقق.
(4) ر. مختصر الطحاوي: 203، مختصر اختلاف العلماء: 2/ 432 مسألة 942، طريقة الخلاف: 123 مسألة 51، إيثار الإنصاف: 179.

(14/231)


والفول الثاني - أنا نورثها إلى أن تنكح، وهذا مذهب ابن أبي ليلى (1)، ووجهه أن اعتبار العدة باطل؛ فإنها بائنة في العدة وبعد انقضائها؛ فلا معنى للنظر إلى العدة، ولو طلقها في الصحة، ثم مرض ومات وهي في العدة، لم ترثه، فإذا بطل اعتبار العدة، فالنظرُ إلى النكاح؛ فإنها لو نكحت، صارت محل أن ترث زوجها الثاني، فبعُد أن تورّث من زوجين، ولا يمتنع أن نجعل تزوجها إسقاطاً منها لحقها، والأولى التعلّقُ باستبعاد توريثها من زوجين.
والقول الثالث - أنا لا نُسقط ميراث المبتوتة بشيء إلا بأن تموت قبل زوجها، فلو نكحت أزواجاً، فميراثها قائم؛ فإن حق الإرثِ إذا ثبت لم يسقط، وإذا أدمنا توريثها بعد الزوجية، لم نُبق لمستبعدٍ متعلَّقاً، وهذا مذهب مالك (2).
9192 - وممّا نفرّعه أن المريض لو طلق زوجته التي لم يدخل بها، فإن قلنا في المدخول بها: إذا انقضت عدتها لم ترث، فغير المدخول بها لا ترث؛ إذ لا عدة عليها، وإن لم نعتبر العدة في المدخول بها، ورّثنا هذه، ثم إلى متى ترث؟ فعلى قولين: أحدهما - أنها ترث إلى أن تتزوج.
والثاني - أنه لا ينقطع حقها من الميراث ما لم تمت قبل المطلِّق.
9193 - ومن الأصول المفرّعة على القول القديم أنه لو كان تحته أربع نسوة، فطلقهن في مرض الموت، وتزوج بأربعٍ سواهن، ثم مات، ففي المسألة ثلاثة أوجهٍ: أحدها - أن حق الإرث للمطلقات، ولا ميراث للواتي نكحهن في المرض؛ فإنه نكحهن ونصيبُ الزوجات مستحَق من الميراث، فلا حظ لهن؛ إذ لا سبيل إلى حرمان الأوائل، ويبعد توريث أكثر من أربع.
والوجه الثاني - أن الميراث بين البائنات وبين المنكوحات؛ فإن البائنات لم ينقطع
__________
(1) ر. بداية المجتهد لابن رشد: 2/ 89، عيون المجالس للقاضي عبد الوهاب: 2/ 1243 مسألة 866، اختلاف الفقهاء للمروزي: 241 مسألة 98.
(2) ر. الإشراف للقاضي عبد الوهاب: 2/ 750، 751 مسألة 1363 - 1365، عيون المجالس 3/ 1240 مسألة 865.

(14/232)


استحقاقهن، وإذا ورثناهن، استحال أن نحرم المنكوحات، وعلى هذا الوجه لا يمتنع أن نورث عدداً كثيراً من النسوة بفرض نكاحهن وطلاقهن.
والوجه الثالث - أن الميراث للمنكوحات، ويسقط بهن حق المطلقات، فإنا ورثناهن لتعلقهن بآثار [النكاح] (1) والمنكوحات الجديدات مستمسكات بعين النكاح؛ فكنَّ أولى من صواحبات العلائق والآثار.
وهذه الأوجه إنما تنشأ لزيادة [العدد] (2) على مبلغ الحصر، فلو طلق امرأة ونكح أخرى، فلا وجه إلا الاشتراك إذا كنا نفرّع على الوجه الأول، أو على الوجه الثاني، أمّا الوجه الثاني، فمقتضاه الاشتراك، وأما الوجه الأول، فمقتضاه تخصيص المطلقات في الصّورة الأولى، وهذا لا ينقدح في هذه الصورة؛ فإنا نقدّر كأنّ التي طلقت لم تطلق، ولو لم يطلق الأولى ونكح عليها أخرى، لاشتركتا، وهذا على وضوحه يجب ألا يُغْفَلَ عنه؛ إذ قد يظن [ظانٌّ] (3) أن الواحدة تستغرق الربع أو الثمن كالأربع، ويحسَبُ أن الخلاف يجري في مطلقة ومنكوحة، وليس الأمر كذلك؛ [فما] (4) ذكرناه من إدخال منكوحة على منكوحة، وهذا لا يتحقق مع الزيادة على الحصر.
فأما إذا فرعنا على الوجه الثالث، وهو أن الميراث للمنكوحات الأربع المتأخرات، فإذا طلق واحدة ونكح أخرى، فكيف الوجه وقد وجهنا الوجه الثالث باستمساك المتأخرات بحقيقة النكاح؟ نقول: لا ينقدح إلا التشريك؛ فإن التشريك بين اثنتين ممكن، وهذا كما لو نكح امرأتين، فأبان إحداهما في المرض -والتفريع على القديم- فالميراث بين الباقية في حالة النكاح وبين البائنة، فاستبان أن الأوجُه في فرض الزيادة على العدد المحصور.
9194 - صورة أخرى: إذا طلق أربعاً وأبانهنّ، ونكح واحدةً، فإن رأينا تخصيص
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق، وهي في صفوة المذهب.
(2) في الأصل: "العبد" وهو تصحيف واضح.
(3) في الأصل: طلق.
(4) في الأصل: (ما) والمثبت تصرف منا رعاية للسياق.

(14/233)


المطلقات، حرمنا الجديدة، وإن رأينا الإشراك أشركنا، وإن رأينا في الصورة الأولى تقديم المنكوحات، [فلا] (1) وجه إلا صرف جميع ميراث الزوجات إلى الواحدة الجديدة، فإن الذي نحاذره الزيادة على العدد، وإذا عسر، خصصنا الميراث بأحد [الحِزْبَيْن] (2) والمنكوحة أولى.
ولو طلق واحدةً، ونكح أربعاً، فإن أشركنا، فلا كلام، وإن خصصنا المنكوحات، حرمنا المطلقة، وإن خصّصنا [المطلقات] (3)، انفردت الواحدة [البائنة] (4) بجميع الميراث، وسقطت الزوجات.
9195 - ولو علّق طلاقها في المرض نُظِر: فإن علَّقهُ بفعل نفسه، ثم أوجد ذلك،
فهو فارٌّ.
وإن علّق بفعلها، ولها منه بدٌّ، ففعلت وبانت، فليس بفارٍّ، كما لو سألت (5).
وإذا ذكرنا قولاً بعيداً، لم نعُد إليه.
وإن لم يكن لها منه بدٌّ وكانت مدفوعةً إلى ذلك الفعل محمولةً عليه طبعاً أو شرعاً: كالنوم، والطهارة، وتأدية الفرائض، فالرجل فارّ.
وإن علّق الطلاق في المرض بفعل أجنبيّ أو بمجيء وقتٍ، أو جريان شيء من الحَدَثان (6)، فتحقَّقَ ذلك، فالرجل [فارّ] (7) بمثابة المنجِّز في المرض.
__________
(1) في الأصل: ولا، والمثبت تقدير منا.
(2) في الأصل: الجزأين. والمثبت تصرف من المحقق، ووجدناه في عبارة صفوة المذهب.
(3) في الأصل، وفي صفوة المذهب: "المطلقة" وهو تصحيف، حيث الكلام عن صورة طلاق
الأربع ونكاح أربع أخريات.
(4) في الأصل: الثانية، والمثبت تقدير من المحقق. ثم هي مصحفة أيضاًً في صفوة المذهب: جزء (5) ورقة (20) شمال.
(5) كما لو سألت: أي سألت الطلاق.
(6) الحدثان: بفتحاث ثلاث ثم ألف مد بعدها نون: يراد بها هنا نوائب الدهر وحوادثه (ر. المعجم).
(7) في الأصل: "فان" وهو تصحيف واضح.

(14/234)


ولو علق الطلاق بفعلها، فنسيت، قلنا؛ إن لم يكن عندها علم من (1) اليمين، فالرجل فارّ.
وإن كان عندها علم، وظهر من قصده أنه رام منعها عن ذلك الفعل، فإذا نسيت وفعلت، وحكمنا بوقوع الطلاق مع نسيانها، فهل نجعل الرجل فارّاً؟ هذا يحتمل: إن نظرنا إليه، فإنه لم يجرّد تطليقها، وإن نظرنا إليها، فلم يوجد منها ما يحل محلَّ سؤالها الطلاق، والأشبه أنه فارّ؛ لأنه علق الطلاق في المرض، فوقع من غير قصدها، والمعلَّق على هذا الوجه كالمطْلَق.
وممّا يتعلق بذلك أنه إذا علق الطلاق بتطعّمها، فما حدّ الحاجة؟ أنجعلها على حدّ الضرورة كالتي لا تختار الطلاق ونجعلها دون الضرورة مختارةً أم نعتبر شيئاً آخر؟ وما قولنا في التَّفِلَة (2)؛ هذا كلام منتشر.
أما الضرورة، فلا نرعاها، فإذا أكلت أكلاً عَدَمُه يضرّ بها، فليست مختارة، وإن تلذّذت بالطعام، وذلك يضرها، فنجعلها كالمختارة، وإن تلذذت والأكل ينفعها، فيجوز أن يُلحق بجنس الطعام؛ فإن الفصل بين هذه المراتب عسر، يعجز عنه مهرة الأطباء، ويجوز أن تجعل كالمختارة فيه.
والذي أراه أن التعويل في هذا على ظنّها، فإن ظنت تطعّمَها على حدٍّ يضر تركه، فليست مختارةً -وإن كان الأمر على ضدّ ذلك- بناءً على ما مهّدتُه في النسيان.
وإن ظنت أن ذلك التطعّم مضرّ، فهي مختارة وإن كان الأمر على خلاف ما ظنت، فهذا نوع من الكلام في تعليق الطلاق.
9196 - ومما يتعلق بتمام الكلام في هذا القولُ في تعليق الطلاق في الصحّة مع وقوعه في المرض، أو في زمنٍ يتصل بهِ، ونحن نفصِّل هذا بالمسائل.
__________
(1) كذا في الأصل وفي صفوة المذهب أيضاًً. والمعنى -كما هو واضح- أنها ليس عندها علم عن يمين تعليق طلاقها.
(2) التفلة: في الحديث: "وليخرجن تفلات" أي غير متطيبات، ولا متزينات.
فالتفلة التي تركت زينتها هذا معناها في الأصل، ثم استخدم هذا في معنى الزهد والتقلل، والرغبة عن الطعام.

(14/235)


فإن علق الصّحيحُ الطلاق بمقدمات الموت وما يُنبىء عنه، فهو فارٌّ، وإن جرى التعليق في حالة الصحة، وذلك مثل أن يقول: إذا وقعتُ في النزع، أو تردّدت روحي في الشراسيف (1)، فأنت طالق، وإنما قطعنا بكونه فارّاً؛ لأنه اعتمد الفرار وأضافه إلى المحل الذي ينشأ منه التهمة.
وكذلك لو قال: أنت طالق قبل موتي بيوم أو يومين، وذكر مدة قريبةً، الأغلبُ أن مرض الموت ينبسط عليها، فإذا مات وتبيّنا بتاريخ تلك المدة أن الطلاق وقع في أولها، وأولها في الصّحة -كذلك اتفق (2) - فالرجل فارٌّ، والتعليقُ في الصحة والوقوع في الصّحة (3)؛ فإن معتمد هذا القول تحقق التهمة.
وقد ذكرت في مقدمة الباب [أننا] (4) نعتبر التهمة تطرد في التفريع على القول القديم، وقد وقع الطلاق في هذه المسألة في وقتٍ لو نجّزه فيه لم يكن فارّاً (5).
وكان شيخي أبو محمدٍ يقول: "إذا علق الصحيح الطلاق على الموت، أو على مرض الموت، ففي كونه فارّاً خلاف".
وهذا مجازفة وذهول عن المسألة. نعم، الصورة الأخيرة التي ذكرناها صعبة؛ فإن التّهمة وإن تحققت، فينبغي أن يقع أحد الطرفين في المرض، فتقدير الخلاف في هذا ظاهر.
وحكى من يوثق به أن القاضي قال في مجالس الإفادة: "إذا قال: إذا مرضت مرض الموت، فأنت طالق قبله بيومٍ، أو قال لعبده إذا مرضتُ مرض الموت، فأنت
__________
(1) الشراسيف: جمع شرسوف، وهو الطرف اللين من الضلع مما يلي البطن، والمعنى: إذا تردّدت روحي بين أضلعي عند خروجها. (المعجم).
(2) أي صادف.
(3) كون التعليق في الصحة واضح، حيث أنشأه كذلك، وكون الوقوع في الصحة يظهر إذا علمنا أن الحكم بوقوع الطلاق كان قبل موته بيوم أو يومين، ولما ضبطنا التاريخ، تبين لنا أنه كان في حال الصحة يومئذٍ.
(4) في الأصل: أن.
(5) هذا هو موضع المفارقة في المسألة، أنه يعتبر فارّاً، مع أنه علّق ووقع المعلَّق في وقتٍ لو نجز فيه ما عَلّق لم يكن فارّاً.

(14/236)


حرٌ قبله بيومٍ، قال: ليس بفارٍّ، وليس العتق من الثلث لوقوع الطلاق والعتق في حال الصحة".
وكان يجوز أن نقول: المطلِّق فارّ، والعتق من الثلث: أما الفرار، فالمتبع فيه التهمة، وهي لائحة، والشاهد لهذا المسألةُ التي [نذكرها] (1) الآن: وهي إذا قال: أنت طالق قبل موتي بيومٍ، ثم مضى يوم في أوّله صحيح، ومرض في آخره ومات، فالطلاق وقع في الصّحة، وهو طلاقُ فارّ على القياس البيّن، فليكن الأمر كذلك في تقديمه على مرض الموت.
ثم إذا تحقق هذا في الطلاق، فالعتق يتبعه، فكل طلاق يفرضُ طلاقُ فارٍّ، فالعتق إذا أقيم في محله، فهو عتق تبرّع.
9197 - ولنا وراء هذا تصرفان: أحدهما - أنه لا يبعد فرق بين المسألة الأولى التي استشهدنا بها وبين الثانية؛ فإنه ذكر في الأولى أياماً يغلب على القلب انبساطُ المرض عليها، وصرّح في المسألة التي أفادها القاضي بالتقديم على المرض، فإن كانت تهمةٌ (2)، فلتكن، فإنا لا نلتزم مضادّته في كل تهمةٍ، ولا بدّ من ضربٍ من الارتباط بالمرض. هذا وجهٌ. والأَوْجه أنه فارّ؛ فإنّ هذا ينشأ من استشعار الموت.
والوجه الثاني في النظر - أن ما ذكرناه من الفرار متجه، فأمَّا عتق يفرض وقوعه في الصحة ويختلف في احتسابه من رأس المال، فلا وجه له؛ فإن مأخذ الاحتساب من الثلث وقوعُ التبرّع في حالة الحجر، ومرض الموت يجرّ على المرء حجراً ويردّ مضطربة (3) إلى ثُلثه، فلا التفات في هذا على التهمة.
__________
(1) في الأصل: "ذكرناها" والمثبت اختيارٌ منا، على ضوء السياق، ويشهد لاختيارنا عبارة ابن أبي عصرون ونصها: " ... ويجوز أن يقال: إن المطلق فارّ، وإن العتق من الثلث؛ لأن المتبع في الفرار التهمة، وهي لائحة، ويشهد لهذه المسألة: إذا قال: أنت طالق قبل موتي بيوم، فمضى يوم هو في أوله صحيح، ومرض آخره ومات، فالطلاق وقع في الصحة، وهو طلاق فارّ على القياس البيّن، فليكن الأمر كذلك" ا. هـ (ر. صفوة المذهب: جزء (5) ورقة (21) شمال).
(2) كانت تهمة: كان هنا تامة: أي فإن وجدت تهمة.
(3) مضطربة: المراد هنا تصرفاته.

(14/237)


9198 - ومما يتعلق بهذا أنه لو علق الطلاق في الصحة بفعل من أفعال نفسه، ثم مرض، فَفَعَله في المرض، قطع القاضي بأنه فارّ؛ فإنّه اعتمد سبب الطلاق في مرضه، فكان كما لو نجّز الطلاق في المرض، وهذا حسنٌ فقيه، وكان شيخي يذكر وجهين في هذه الصورة، والوجه عندي القطعُ بما ذكره القاضي؛ فإن عماد القول التهمةُ، وتحققُها في هذه الصورة كتحققها في تنجيز الطلاق.
وإن علَّق الطلاق في الصّحة بفعل أجنبي، أو بأمرٍ يجوز أن يقع في الصحة، ويجوز أن يقع في المرض مما لا يتعلق به، فاتفق وقوع ذلك في المرض، فحينئذٍ في المسألة قولان: أحدهما - أن الاعتبار بحالة التعليق، ولقد كان صحيحاً فيه، فليس فاراً.
والقول الثاني - أنه فارّ؛ نظراً إلى وقت وقوع الطلاق، ولعلّ الأقيس القولُ الأول؛ فإنّ التهمة لا تتحقق.
وكما طرد الأصحاب قولين في الطلاق طردوهما في العِتاق ومحلِّ احتسابه، وجريانُ القولين في العِتاق في الصورة التي انتهينا إليها حسنٌ تردداً في وقت التعليق ووقت النفوذِ.
فإن قال قائل: إذا كان عماد الفرار على التهمة، فكيف يخرج قول الفرار في الصورة التي ذكرتموها؟ قلنا: إذا علّق بصفةٍ مترددةٍ بين أن تقع في الصّحة أوالمرض، ولو أوقع في المرض، لاتّهم، فإذا أطلق التعليق بما يجوز تقدير وقوعِه في المرض، انبسط التعليق على زمانٍ لا تهمةَ فيه، وعلى زمانٍ فيه تهمة، فلا يبعد أن يُنْظَر إلى العاقبة. وإن وقع في زمانِ نفْي التهمة، فلا فرار، وإن وقع في زمان التهمة، جعلناه فارّاً.
وقال أبو حنيفة (1): إذا وقع العتق في المرض، وقد جرى التعليق في الصّحة، فالعتق من الثلث، وإذا جرى تعليق الطلاق في الصّحة، ووجدت الصّفة في المرض، فلا يكون الزوج فارّاً، وتعلَّق في الفرق بفصل التهمة، وكنت أودّ لو كان ذاك مذهباً
__________
(1) ر. المبسوط: 6/ 157 وما بعدها.

(14/238)


لأصحابنا. وقد قدمنا رمزاً إلى مثله في الفرق بين العتق والطلاق.
9199 - ومما يتعلق بهذا أنه إذا أقرّ في المرض بطلاقها في الصحة، فليس بفارٍّ، وإقراره مقبول، ولو أقر في المرض بعتقٍ نجّزه في الصحة، فهو من رأسِ المال.
قال القاضي: يجوز أن يُخرَّج في المسألتين قولٌ آخر أنه يكون فاراً، والعتق من الثلث. وأقرب مأخذٍ لهذا أن المريض في حالة حجرٍ، والمحجور عليه إذا أقرّ وأسند إقراره إلى حالة الإطلاق، ففي قبول إقراره في الحالِّ قولان، كالمفلس يقرّ بعد اطراد الحجر عليه بدين [فيما مضى] (1) زعم التزامَه في حالة الإطلاق، فهل يزاحم المقَرُّ له سائرَ الغرماء؟ فعلى قولين، قدمنا ذكرهما.
ولو أبان في مرض الموت امرأته الأمةَ، فعَتَقَت أو امرأته الذِّمية، فأسلمت، أو كان الزوج عبداً، فطلّق ثم عَتَق، فالذي قطع به الأئمة أنه لا يكون فارّاً في هذه المسائل؛ لأنه لم يكن متعرضاً للتهمة حالة الطلاق؛ فإن السبب المورّث لم يكن ثابتاً في ذلك الوقت، فإن طرأ سببٌ، فذلك لا حكم له.
وقد يتطرق إلى ما ذكرناه نظرٌ مأخوذ من إقرار الرجل لعمّهِ وله أولادٌ ذكور، فإذا جرى الإقرار في مرض الموت، ثم اتفق موت الأولاد ومصير العمّ وارثاً، والتفريع على أن الإقرار للوارث مردود، فهل يُردّ الإقرار في هذه الصّورة؟ فعلى قولين، وكذلك لو فرض الأمر على عكس ذلك، وقدّر المقَرّ له وارثاً لو فرض موت المقِرّ، ثم حدث حاجبٌ، ففي [قبول] (2) الإقرار قولان.
فلو قال قائل: إذا جرى الطلاق، ثم أفضى الأمر إلى الوراثة، فيخرّج كون المطلق فارّاً على ما ذكرناه من القولين في اعتبار الحال أو المآل، لم يكن ذلك بعيداً.
والضابط في الباب أن الوصية يُرعى فيها المآل حتى لو أوصى لأجنبيّة، ثم نكحها، فالوصية مردودة، ولهذا لم نفرق بين وصية الصحيح وبين وصية المريض؛
__________
(1) عبارة الأصل: مضى فيما زعم.
(2) في الأصل: "قبوله" والمثبت تصرف منا.

(14/239)


فإن محل الوصية في حق الكافة بعد الموت، والإقرار تنجيز التبرّع في المرض؛ [فخرج] (1) على قولين في اعتبار الحال والمآل.
ولو أقرّ لأجنبية في مرضه، ثم نكحها، فهل نجعل ذلك إقراراً لوارثٍ؟ فعلى طريقين: منهم من قطع بقبول الإقرار، ومنهم من جعل المسألة على قولين، على الأصل الممهّد.
9200 - ولو نكح ذمّي ذميةً، ثم أسلم الزوج في مرض الموت، وأصرت المرأة، وأفضى اختلاف الدّين إلى انقطاع [التوارث] (2)، فلا يكون الزوج فارّاً إجماعاً؛ لأنّ الزوج أدّى مفروضاً عليه، ثم لا يتطرق التهمة إليه في قصد الحرمان، وكذلك لو فسَخَ النكاحَ بعيبٍ، فلا يُجعل فارّاً؛ لأنه استوفى حقاً مستحقاً له، فلم يُحمل ما جرى منه على قصد الحرمان.
ولو ارتدّ الزوج، فانبتَّ النكاح، ثم عاد، فهل نجعله فارّاً؟ فعلى وجهين: ذكرهما العراقيون: أحدهما - أنا لا نجعله فارّاً، لأنه لا يظن به أن يبدّل دينه لقصد الفرار، مع تمكنه من الطلاق.
والثاني - أنه فارّ، ولا يُمهَّد له عذر.
والمرأة لو ارتدت يجري الوجهان فيها، والأصح انقطاع ميراث الزوج عنها؛ فإنا وإن كنّا نطرد معنى التهمة، فلا ينبغي أن نبعد عن مورد الأثر، وهذا وارد في الطلاق والطلاق مثبَتٌ لرفع النكاح، والردة ليست تصرفاً في النكاح.
9201 - وإن لاعن الزوج، نظرنا: فإن لم يكن ثَمَّ نسبٌ، وكانت لا تطلب اللعان، فقد قيل: إنَّه فارّ، كما لو أبانها بالطلاق، ولو كان ثَمَّ نسبٌ متعرّض للثبوت، فنفاه باللعان، أو طلبت اللعان، [ولو لم] (3) يلتعن، لعوقب على ما صدر منه من قذفٍ، فلا يكون فاراً.
__________
(1) في الأصل: يخرج. والمثبت اختيار منا.
(2) في الأصل "النكاح".
(3) في الأصل: "ولم" والمثبت من صفوة المذهب: جزء (5) ورقة (22) شمال.

(14/240)


وفي كلام الأئمة رمزٌ إلى أن اللعان لا يكون فراراً، وإن لم يكن ثَمَّ نسبٌ ولا طلب؛ فإن التهمة بعيدة مع ما في اللعان من التعرض للشهرة والخزي، والطلاقُ ممكن دون ذلك.
9202 - ثم إذا طلق الزوج زوجته وأبانها، فالقولان في توريثها منه لو مات، فأما إذا اتفق موت المبتوتة، فلا خلاف أن الزَّوج لا يرثها، والسبب فيه أنه المطلِّق المُؤْثرُ للقطع، وإذا كنا نقول: الطلاق إذا كان صادراً عن سؤالها، فينقطع ميراثها، فلأن ينقطع ميراث الزوج وهو المنشىء للطلاق أولى وأحرى.
***

(14/241)


باب الشك في الطلاق
9203 - صدر الشافعي الباب بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم وردَ في الشك في الحدث، وذلك أنه قال: "إن الشيطان ليأتي أحدَكم بين إليتيه في الصّلاة، فلا ينصرفنّ حتى يسمع صوتاً أو يشمّ ريحاً" (1) فأمر صلى الله عليه وسلم عليه بالبناء على اليقين وطرح الشك، فاتبع الشافعي هذا الحديث، واتخذه أسوته في الشكوك الطارئة على محالّ اليقين، وأراد أن يبني مسائل الشك في الطلاق على هذا الحديث، وإنما استدلّ بهذا الحديث في صدر باب الطلاق لسببٍ وهو أن مالكاً (2) رضي الله عنهُ قال: "إن شك في عدد الطلاق أخذ بالأكثر"؛ بناء على أصل له، وهو أن الأصل المطرد إذا حدث فيه أصل آخر، فالتمسك عنده بالأصل الثاني، ولذلك يقول: لو شك في الحدث قبل الشروع في الصّلاة، لم يبن على يقين الطهارة، لأنه الآن متيقّن عدم انعقاد الصّلاة، فإذا عقدها، فهو على شك في الانعقاد، وإذا شك في الحدث بعد الشروع في الصّلاة، لم يخرج منها بما طرأ له من الشك؛ لأن الأصل انعقادُها. هذا أصله، فلم يُرد الشافعي أن يتمسك بمحلّ [مناقضة، وجعل] (3) ما يسلمه معتبره؛ فإنه لا يستنبط المعنى إلا من محالّ الإجماع، ولم يثق بإجماع، فاتخذ الحديث مستنده في قاعدة طريان الشّك على الأصل، ثم بنى عليه الكلام واتسع في الكلام.
9204 - والمسلك الضابط في طريان الشكوك على الأصول لا يبين إلا بأن نذكر
__________
(1) حديث: "إن الشيطان ليأتي أحدكم ... " إلخ. أصل هذا الحديث متفق عليه: البخاري، ح 137، 177، 2056، وعند مسلم، ح 361، 362، وبهذا اللفظ ذكره البيهقي في الخلافيات عن الربيع عن الشافعي، والمزني في المختصر عن الشافعىِ، ورواه البزار بلفظ قريب (مختصر زوائد البزار، ح 171، والبيهقي في السنن الكبرى بمعناه: 1/ 161، وكذا الحاكم: 1/ 134 وانظر: تلخيص الحبحر: 1/ 222 ح 170، 171).
(2) ر. الإشراف 2/ 753 مسألة 1370، عيون المجالس: 3/ 1246 مسألة 871،
(3) في الأصل: "مناقضته ويجعل" والمثبت من صفوة المذهب جزء (5) ورقة: 23 يمين.

(14/242)


عبارة الفقهاء ونبُدي ما فيها من الإشكال، ثم نأتي بالمعتبر الموثوق.
فعبارة الفقهاء: "إن اليقين لا يترك بالشك" وهذا مختلٌّ؛ فإن الشك إذا طرأ، فلا يقين. ثم إن حُمل هذا على ما مضى، وقيل: معنى قول الفقهاء إن اليقين السّابق لا يترك بالشك الطارىء، فليس هذا على هذا الإطلاق، ولكن القول في ذلك ينقسم، فإن طرأ الشك وأمكن الاجتهاد، تنوّع الكلام، فقد يتمهد مسلك الاجتهاد بالمتعلّقات الواضحة، كمسائلِ الاجتهاد في الطلاق التي اختلف العلماء فيها، وصار صائرون إلى أن الطلاق يقع، وذهب آخرون إلى أنه لا يقع، فالمتبع الاجتهاد، ولا حكم للنكاح السابق وما تقدم من استيقان انعقاده.
وإن جرى الاجتهاد وخفيت العلامة، فإن دعت الضرورة إليه، وجب التمسك به، وهذا كما إذا كان مع الرجل إناءان أحدهما طاهر والآخر نجس، فلا سبيل إلا ترك الماءين، أو الاجتهاد في الأخذ بأحدهما، ولا سبيل إلى الترك، فتعيّن الاجتهاد.
وإن كان مع الرّجل إناء واحد وفيه ماء، [فشك] (1) في طريان النجاسة عليه، وغلبت عنده علاماتها، فهل يأخذ بالاجتهاد، وعلاماتُ النجاسة خفية، وقد أدرك خفاءها من أحاط بأبواب النجاسات. وإذا رَقتِ (2) العلامات إلى الظهور، وقدت في اليقين، فلا جرم اختلف القول في أنه هل يجب التمسك بالعلامات، أو يستصحب اليقين السابق، وهذا هو استصحاب الحال الذي يخوض فيه الأصوليون.
وإن انحسم الاجتهاد، وطرأ الشك، فعند ذلك يرى الشافعي أن يستمسك باليقين السابق، ولا يقيمَ للشك وزناً، وسببه من طريق المعنى أن الشّك يتعلق بمعتقدين متعارضين ليس أحدهما أولى من الثاني، ولا يخلو -في غالب الأمر- المرءُ عن الشك، سيّما إذا بُلي بأطراف الوسوسة، فرأى الشافعي التمسكَ باليقين المستصحب أولى، واعتضد فيما رآه بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وهذا تأسيس الباب. ونحن نقول بعده:
9205 - مَنْ شك في الطلاق، فالأصل بقاء النكاح، وله الأخذ بحكم استصحابه،
__________
(1) في الأصل: فشكه.
(2) رقت العلامات إلى الظهور: أي سَمَتْ وارتفعت، من الفعل رقا يرقو رَقواً (المعجم).

(14/243)


ولا يخفى الورع والأخذ به على أصحابه، ولو علم الطلاقَ، وشك في العدد، فالواقع القدر المستيقن، والمشكوكُ فيه لا يقع في الظاهر المحكوم به.
وكذلك العتق وما في معناهما. وعلى هذا بنى الشافعي الشك في أعداد ركعات الصّلاة.
9206 - ثم إذا تمهّد أصل الباب، فنذكر صوراً تجرّ شكوكاً منها: أنه لو طار طائر، فقال الزوج: إن كان هذا غراباً، فامرأتي طالق، ولم يتبيّن له حقيقة الحال، فلا يقع الطلاق؛ لاحتمال أنه لم يكن غراباً، وكذلك لو قال: إن كان غراباً، فامرأتي طالق، وإن كان حماماً، فعبدي حرّ، فلا نحكم بالطلاق ولا بالعتاق، فإن الطائر قد يكون جنساً ثالثاً.
ولو قال: إن كان غراباً فعمرة طالق، وإن لم يكن غراباً، فزينب طالق، فتطلق إحداهما؛ فإن الطائر إما أن يكون غراباً أو لا يكون غراباً، فقد وقعت طلقةٌ مبهمة بين زوجتيه، وسيأتي هذا الأصل في الباب، فهو المقصود.
ولو صدر هذان القولان من رجلين: قال أحدهما: إن كان غراباً، فامرأتي طالق، وقال الآخر: إن لم يكن غراباً، فامرأتي طالق، فلا نحكم عند إشكال الأمر بوقوع الطلاق على زوجةِ واحد منهما، بخلاف ما لو اتحد الحالف وتعدّد المحلوف بطلاقه، والفرق أن الحالف إذا اتحد، فقد تعين الحانث، وأمكن توجيه الخطاب عليه بربط بعض أمره بالبعض، وحمله على مقتضى وقوع الالتباس، وإذا تعدّد الرّجلان، امتنع الجمع بينهما في توجيه خطاب، ومعلوم أن أحدهما لو انفرد بمقالته، لما حكمنا بوقوع الطلاق على زوجته، فإذا ذكر صاحبه شيئاً، استحال أن يتغيّر حُكْمنا على زيد بسبب مقالةٍ صدرت من عمرو، فيتعذر المؤاخذة إذاً.
وهذا قد يناظر ما إذا سمعنا صوت حدثٍ بين رجلين، ثم قام كل واحدٍ منهما
واستفتح الصّلاة، فلا معترض على واحد منهما؛ فإن كل واحد يورِّك (1) بالذنب على
__________
(1) يورّك بالذنب على صاحبه: أي يحمله عليه ويحمله إياه. يقال: ورّك فلان ذنبه على غيره توريكاً إذا أضافه إليه وقرنه به (اللسان والأساس).

(14/244)


صاحبه. نعم، إذا أراد أحدُهما أن يقتدي بالآخر، لم يجد إلى ذلك سبيلاً، والإمام لا معترض عليه؛ فإنه في حكم المنفرد.
وبمثله لو تيقن الرجل -وقد صلى صلاة الصبح وصلاة الظهر- أنه كان محدثاً في إحداهما، والتبس [الأمر] (1) عليه، فلم يدر الصلاة التي كان محدثاً فيهما، فنأمره بقضاء الصّلاتين جميعاًً؛ فإن المحكوم عليه واحد، ولا يمتنع توجيه الخطاب عليه بمؤاخذة تتعلق بواقعتين، ثم سبيل الاستدراك قضاء الصّلاتين.
وفي مسألة الطلاق إذا اتحد الزوج واستبهم الأمر، فالطلاق يقع على إحداهما.
ولو فرضنا كلام الرجلين في العِتاق، لكان على هذا النسق، فإذا قال زيد: إن كان الطائر غراباً، فعبدي حر، وقال عمرو إن لم يكن غراباً، فعبدي حرّ، فلا نحكم بالعتق في واحد منهما؛ بناء على الأصل الذي قدمناه في الطلاق في مثل هذه الصورة.
9207 - ولكن مما يجب التنبه له أنا وإن لم نحكم في حق واحدٍ منهما بحصول الطلاق والعتاق، فإنا نقول: إحداهما طالق، وأحد العبدين حرٌ في علم الله، وإن كنا لا نطّلع على ذلك، فقد يظهر أثر ما ذكرناه بمسألة تتصوّر في العتاق دون الطلاق، وهي أنه إذا جرى التعليق من مالكَي العبدين على حسب ما ذكرناه، فلا نحكم بالعتق في واحدٍ من العبدين؛ لاشتباه المحكوم عليه، غيرَ أن أحد العبدين لو صار إلى المالك الثاني بشراءٍ، أو بجهة من جهات الملك، فإذا ملكه، فلا بد من الحكم بالعتق في أحد العبدين؛ فإنّه اتحد المخاطَب الآن، ثم سبيل التفصيل فيه أنه إن لم يكن قال شيئاً سوى ما تقدم من التعليق، فنقول: أحد العبدين في يدك حرّ، فعيّن أحدهما، [والبحث] (2) عن سبيل البيان.
وبالجملة تصير الصورة كما لو قال ابتداء: إن لم يكن غراباً، فسالم حرّ، وإن كان غراباً، فغانم حرّ.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: والحنث.

(14/245)


وإن كان قد قال: ما حنثتُ في يميني، فكما (1) ملك عبد صاحبه، حُكم بحرّيته عليه؛ لأنه إذا نفى الحنث عن نفسه، فلا بدّ وأن يكون صاحبه حانثاً، ومن أقر بحرّية عبدٍ لغيره، ولم يصدّق عليه، ثم اشتراه، فيؤاخذ بحكم قوله، ويُقضى بعتقه.
ثم في هذه الصورة التي انتهينا إلينا ليس له أن يرجع بالثمن على صاحبهِ؛ لأنه إنما عَتَق بحكم إقراره وإقرارُه مردود على البائع، وصاحبه مكذّبٌ له. فهذا أصل الباب.
9208 - ثم ذكر الشافعي بعد هذا حنثاً واقعاً من رجل مردَّداً بين الطلاق والعتاق، وأنا أرى من الرأي أن أذكر التردد في طلاق زوجتين أو زوجات، وأعتبر [به] (2) التردد في العتاق، ثم أبني عليه تردداً بحنث بين الطلاق والعتاق.
فصل
قال: "ولو قال: إحداكما طالق ثلاثاًً منع منهما ... إلى آخره" (3).
9209 - إذا قال لامرأتين تحته: إحداكما طالق ثلاثاًً، فلا يخلو إما أن ينوي إحداهما بالقلب، أو يُطْلق إطلاقاً، ولا ينوي عند إطلاقه اللفظَ واحدةً منهما بعينها: فإن نوى بقلبه واحدةً منهما، فهي الطالق في حكم الله، ولكن الأمر مبهم، وهو محبوس عنهما، مأمور بالإنفاق عليهما؛ لأنهما في حبسه، وإن كانت إحداهما مطلقة ثلاثاًً، فيطالب بالبيان، ويقال له: بيّن المطلّقة عندك.
ثم قال الأصحاب: الطلاق يقع باللفظ السابق، فلا يتأخّر وقوعه إلى البيان الذي يطالب به، والعدة تحسب من يوم اللفظ على ظاهر المذهب، وخُرِّج قولٌٌ آخر: إن العدة محسوبة من يوم البيان.
وبنى الأصحاب هذين القولين الظاهر والمخرّج على القولين في أن المستفرشة
__________
(1) فكما: أي عندما.
(2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها، وهي موجودة في صفوة المذهب. ومعنى "وأعتبر به التردد في العتاق": أي أقيس به التردد في العتاق.
(3) ر. المختصر: 4/ 85.

(14/246)


بالنكاح الفاسد إذا فرقنا بينها وبين الواطىء بالشبهة، فالعدة من آخر وطأة أو من وقت التفريق بينهما، ووجه التشبيه أن الأمر ملتبس، فاختلف القول في تاريخ ابتداء العدة، كذلك إذا لم يُبيّن، فالأمر ملتبس في ظاهر الأمر مع كل واحدة، فإذا فرض البيان، كان هذا كالتفريق.
وهذا غير سديد، والأصح في استبهام الطلاق [الاعتداد] (1) بالعدة من وقت اللفظ، والسبب فيه أن استرسال الواطىء بالشبهة على المرأة ينافي صورة الانعزال الذي تتصف به المعتدة، فنشأ القولان من ذلك، وليس كذلك استبهام الطلاق؛ فإن الحيلولة ناجزة، وقد فرقنا بين الزوج وبينها، والنيّة مقترنة باللفظة، فالوجه تأريخ ابتداء العدة باللفظ.
ثم مما يتعلق بهذا القسم أن قوله: "إحداكما" غير صالح للتعيين في وضع اللسان، ولكنه صالح لكل واحدة منهما، فإذا انضمّت النية إلى اللفظ المبهم، صار اللفظ معها كالنّص في التعيين، وهذا كالكنايات؛ فإنها في نفسها صالحة لجهات من الاحتمالات، ثم يتعين الطلاق بالنية، كذلك القول المبهم المتردّد بين الزوجين يتعيّن بالنية، ويختصّ بإحداهما.
9210 - ومما يجب ذكره أن اعتقاد ضرب الحيلولة بينه وبينهما صحيح، أطلقه الأصحاب، وحكموا به، كما ذكرناه، فليس [له] (2) أن يُقدم على [وطء] (3) واحدة ما لم يقدّم بياناً.
وهذا فيه فضل نظرٍ عندي؛ فإنه إذا كان يعرِف المطلّقة منهما باطناًً، وإليه الرجوع، وإذا قال صُدِّق، وإن اتهم حُلّف، فإذا أقدم على إحداهما، فما الوجه في سبب منعه؟ نعم، هو ممنوعٌ من غشيانهما جميعاًً، فأما إذا غشي إحداهما، فما سبب المنع والحالةُ كما وصفناها؟ قلنا: هذا محل التثبت، وإن كان ظاهراً عند المتأملين.
__________
(1) في الأصل: الاعتياد.
(2) زيادة رعاية للسياق.
(3) زيادة من معنى كلام ابن أبي عصرون في اختصاره (صفوة المذهب).

(14/247)


فنقول: إذا قال الرجل لامرأتيه: إحداكما طالق، ولم يشعر بهذا القول أحد، ونوى إحداهما، وكانت متعينة، فإذا لم ترفع الواقعة إلى القاضي، فالمطلقة في حكم الله هي المنويّة، ولا يجب حبسٌ ووقفٌ، وهو يقدم على استحلال المستحَلَّة عنده وعند الله تعالى.
وإنما مسألة الوقف فيها إذا ظهرت هذه الواقعة لمن إليه الحكم، فيقول: قد طلقتَ يا رجلُ وأبهمتَ، فحق عليّ ألا أتركك تختلط بهما كما كنت تفعل من قبل، ولست أجعل إقدامك على غشيان إحداهما بياناً، ولو رأيتك تغشاها، لم أتبيّن أنها المنكوحة؛ فإن الوطء لا يُعيِّن إذا كنت نويت المطلَّقة لمَّا أطلقت اللفظ، فقد تطوقتُ عهدةً في الشرع؛ إذ علمتُ وقوعَ الطلاق، وأشكل علي الأمر، ففصِّل، ثم أَقْدِم، فإذا قال: أيّها القاضي عنيتُ بالطلاق هذه، فالقاضي يرجع إلى قوله، ويزول الاستبهام، وبيانُه وإن استأخر بمثابة اقتران البيان بلفظه.
فإن سكتت الموطوءة، أضرب القاضي [عنه] (1) وقد تعينت المطلَّقة، وإن خاصمت تلك، قال القاضي: انكفّ عنها، حتى تنفصل الخصومة بينكما، كما سنبيّن فصل الخصومة.
فهذا سرّ القول في الحبس الذي ذكره الأصحاب.
وقد يخطر للفطن أن المرأة إذا لم تخاصم، وقال القاضي: أبهمتَ الطلاق، فاحلف بالله أنك عنيت بالطلاق من أبهمتها، فلست أرى للقاضي هذا؛ فإن الرجوع إلى الزوج في هذا، وإنما يثبت التحليف لذاتِ حظٍّ، وهي المرأة، ونحن إذا قلنا: يحلَّف من يؤدي الزكاة، فرأينا المقطوع فيه أنه استحبابٌ، ثم ذاك محض حق الله، والغالب في الطلاق والنكاح طلب الحظوظ.
9211 - ومما أطلقه الأصحاب في ذلك -ولا بدّ فيه من مزيد كشفٍ- أنهم قالوا: إذا حبسناه عنهما [أو خلّينا] (2) بينه وبينهما، فيجب عليه أن ينفق عليهما، ويُدرَّ
__________
(1) زيادة لإيضاح الكلام، وفي صفوة المذهب: "كف القاضي عنه".
(2) في الأصل: وخلنا.

(14/248)


عليهما من حقوق النكاح، ما كان يُدرّه قبل الإشكال الواقع، وهذا متفق عليه، ثم إذا [بيّن] (1)، فلا يسترد النفقة المصروفة إلى المطلقة.
وهذا من النوادر؛ فإنه أنفق على مطلقة ثلاثاً، وقد تكون غير مدخول بها -حتى لا يرتبط الفكر بالعدّة- والسّبب فيه أنها كانت محبوسةً حبس الزوجاتِ، وقد يظن الظانّ أن النفقة إنما لا تستردّ لامتناع الزوج نكداً (2) عن التعيين مع تمكنه منه.
وهذا يرد عليه ما إذا لم يكن الزوج متمكناً من البيان، وذلك بأن يقول: إن كان الطائر غراباً، فزينب طالق، وإن لم يكن غراباً، فعمرة طالق، ثم حلّق الطائر ومرّ، وأيس من درك جنسه، فلا توانيَ من الزوج، وقد يقال: [هو] (3) الذي ورّط نفسه وزوجته في الإبهام، فَيَرِدُ عليه [ما لو] (4) طلق إحدى امرأتيه، ثم التبست المطلقة عليه بغير المطلقة، ولا مبالاة بالصور؛ فإن المخطىء في التزام الكفارة وحرمان الميراث ملحق بالعامد في وضع الشرع، وإن كنا نستبق إلى فهم التكفير من الكفارة ومضادة المقصود بالحرمان.
9212 - وممّا يتعلق بتأصيل المقصود في الفصل أن الزوج إذا أبهم الطلاق، فحتمٌ عليه أن يبيّن ولا يترك الأمرَ مبهماً، ولو امتنع عن البيان وتركهما معلقتين، عصى ربَّه، وقد قدّمنا في نكاح المشركات أنه يتعين عليه اختيار أربعٍ إذا أسلم على أكثرَ من أربع نسوة، وذاك مبني على ضربٍ من التروِّي، ثم [لم] (5) نعذره في التأخير، وهاهنا المطلقة بيّنة عنده، فيتعين عليه إزالة الإبهام، وإن ادّعى إشكال الأمر عليه، فسنوضح ذلك في فصل الخصومات، إن شاء الله.
__________
(1) في الأصل: تبين.
(2) نكداً. كذا بهذا الرسم تماماً، ومعناها -كما هو مفهوم من السياق- عناداً، ولم أصل إلى هذا المعنى في المعاجم المعروفة (اللسان- القاموس- الأساس- المصباح- المختار- الوسيط - النهاية في غريب الحديث).
(3) في الأصل: هذا.
(4) زيادة اقتضاها السياق. وعبارة الأصل: "فيرد عليه أنه طلق إحدى امرأتيه".
(5) زيادة من المحقق.

(14/249)


9213 - ووجه الرأي عندنا أن نذكر ما يتعلق بالمسألة من فقه ونظرٍ إلى قضيةٍ لفظيّة، ثم نختتم الفصل بالخصومة وسبيل فصلها، ونحن الآن فيه.
إذا أجمل طلقةً وبيّن بقلبه المطلقة، فنستتم هذا الفصل قائلين: إذا طلبنا المبهِم بالبيان، وكان أجمل طلقةً بين امرأتين، فقال لمّا أخذناه بالبيان، وكان أجمل طلقة: هي هذه أو هذه، فنقول: ما زدتنا بياناً، والذي أتيتَ به عبارةٌ عن الإشكال، ولا نجعل قوله هذا تعييناً؛ فإن الكلام بآخره. وإن قال: أردتُ هذه وهذه، فقد أقر فيهما بالطلاق، فحكمنا بوقوع الطلاق عليهما بإقراره.
وإن قال: هذه بل هذه، تعينت الأولى بصدْر كلامه، ثم أراد أن يرجع عنه بقوله بل هذه، فلم يُقبل رجوعه في حق الأولى، وثبت إقراره في حق الثانية.
وإن قال: "هذه هذه" إن أشار بهذه الكلمة إلى إحداهما، وكرّر الكلمة في خطابها، فهي المتعينة، وإن واجهٍ إحداهما فقال: أردت هذه، ثم واجه الأخرى على الاتصال، وقال: هذه، حكمنا بوقوع الطلاق عليهما، كما لو قال: أردت هذه وهذه.
فلو قال: أردت هذه ثم هذه، قال القاضي: يتعين الأولى ولا تطلق الثانية، لأن كلمة ثم تقتضي التأخير والتراخي، فقد أثبت في الثانية على حكم الإخبار طلاقاً واقعاً على موجب التراخي، وهو إنما طلق واحدةً لا غير، ولم يسبق منه طلاقٌ يُحمَل على ترتيب.
وهذا كلام مختل؛ فإن قوله: "ثم هذه" اعترافٌ بالطلاق فيهما، فليَثْبُت وليَفْسُد ما جاء به من اقتضاء التأخير أو الترتيب، والدليل عليه أنه لو قال: أردت هذه وهذه، حكمنا بوقوع الطلاق عليهما، وإن لم يكن في لفظه ما يوجب وقوع الطلاق عليهما.
9214 - ولو قال الرّجل لامرأتيه: إحداكما طالق، ونوى طلاقهما، فالوجه عندنا أنهما لا تطلقان جمعاً، وقد ذكرنا تردداً فيه إذا قال لامرأته: أنت طالق واحدة وزعم أنه نوى ثلاثاًً، وتلك المسألة قد يتطرق [إليها] (1) تأويل، أمّا حمل إحدى المرأتين
__________
(1) في الأصل: إليه.

(14/250)


عليهما، فلا وجه له، وإيقاع الطلاق بمجرد النية لا سبيل إليه. ومع هذا إذا قال في التفسير: أردت هذه وهذه، وقع الحكم بوقوع الطلاق عليهما، وإن كان الإقرار لا يوقع الطلاق، وليس إقراره مرسلاً فيحمل على طلاق ماضٍ، ولكنه أحاله على اللفظ الذي أبهمه لما راجعناه مستفسرين، ثم هذا الحكم يقع ظاهراً، وسببه أن كل امرأة حكمها متميز عن حكم ضَرَّتها، وقد ثبت في حق كل واحدة إقرار، فجرى الحكم في حقهما بالطلاق، وإذا كنا لا نُبْعد هذا، فلا فقه في التمسك بما في "ثُمّ" من التأخير.
ويتفرع على ما ذكرناه أنه لو قال: أردت هذه بَعْد هذه، فقياس قول القاضي أن الثانية تطلق، فإنها وإن ذُكرت آخراً، فهي مقدَّمة في المعنى، إذ قال: "بعد هذه" والتي أشار إليها أولاً لا تطلق؛ فإنها المؤخَّرة في المعنى.
وهذا بعيد.
ولو قال: هذه قبل هذه، فالأولى تطلق، ولا تطلق الثانية على قياس القاضي، وهما طالقتان على المسلك الحق.
وسنكثر المسائل والصّور بعد ذلك لتدريب المبتدئين، ولا نعيد في كل صورة "أردتُ" وإن كنا نريده، ونقتصر على إطلاق "هذه" وما يتصل به من صلاتٍ.
9215 - فلو كان تحته ثلاث نسوةٍ، وقد أبهم بينهنّ طلقة، فلمّا راجعناه أحبس واحدة منهن وحدها، وأحبس اثنتين مجتمعتين، ثم أشار إلى الاثنتين مثلاً، وقال: هذه وهذه، ثم وقف وقال: أو هذه. قال الأصحاب: الطلاق مردّد بين الثالثة الفردة، وبين الأوليين المجتمعتين، وعلى الزوج بيان، فإن بيّن في الثالثة، تعينت، وتعينت الأوليان للزوجية. هذا مقتضى اللفظ.
وإن عين الأوليين للطلاق، وقع الحكم بطلاقهما، وتعينت الثالثة للزوجية، ولو عيّن من الأوليين إحداهما، طلقت صاحبتها المجتمعة معها، فإنه قال أولاً: هذه وهذه مشيراً إليهما، والواو عاطفة مشرِّكة، فلا يفترقان.
وحاصل كلامه ترديد الطلاق بين واحدة فردةٍ إن طلقت، تعينت ثنتان للزوجية،

(14/251)


وبين زوجتين تجتمعان في الطلاق وإذا تعينتا له، تعينت الثالثة الفردة للزوجية. وهذا بيّن.
وبمثله لو أشار إلى الفردة أولاً وقال: أردت هذه أو هذه وهذه، فالجواب كما مضى، ولا يختلف موجب اللفظ ومأخذه بتقديم الواحدة أو تأخيرها.
وما ذكرناه فيه إذا جعل الثلاث حزبين واحدةً واثنتين، ثم أشار على الصّيغة التي قدّمناها، وفَصَل بين الحزب والحزب بوقفةٍ، [فلو] (1) جرى على سرد الكلام واطرادهِ، وقال: أردت هذه أو هذه وهذه، ولم يفصل بين الواحدة والثنتين بوقفٍ في الكلام وسكتةٍ ولا بنغمةٍ تدلّ على التقطيع، بل قال مرسلاً: هذه أو هذه وهذه، فإذا جرى الكلام سرداً، احتمل أن تكون الثالثة معطوفةً على الأولى مضمومةً إليها، واحتمل أن تكون مضمومةً إلى الثانية، فلا بدّ من المراجعة. فإن زعم أنه أراد عطف الثالثة على الثانية، فالثانية والثالثة حزب والأولى حزب، ورجع التفصيل إلى ما إذا أشار إلى واحدة وقال: هذه، ثم فصل عنها ثنتين، وقال: أو هذه وهذه.
فإن زعم أن الثالثة مضمومة إلى الأولى معطوفة عليها، فالأولى [والثالثة] (2) حزب [والثانية] (3) حزب والكلام في ترديد اللفظ، كما مضى حرفاً حرفاً.
ولو اتَّسق الكلام من غير فصلٍ بوقفٍ ونغمةٍ، وقال: هذه وهذه أو هذه، فيحتمل أن تكون الثالثة مضمومةً إلى الثانية دون الأولى، ولو كان كذلك، طلقت الأولى وإحدى الأخريين من الثانية والثالثة، ويحتمل أن تكون الثالثة مضمومةً إليها (4) فتكون الأولى والثانية حزباً والثالثة حزباً، والجواب لو كان كذلك: فالرجوع إلى نيته في محالّ الاحتمال؛ فنقول: أبهم الطلاقَ بين فردةٍ وهي الثالثة وبين ثنتين وهما الأولى والثانية فتطلق الثالثة وحدها أو الأخريان جمعاً، كما قدّمنا نظائر ذلك، فيؤخذ بالبيان، كما مضى.
__________
(1) في الأصل: فله.
(2) في الأصل: "والثانية" وهو مناقض للسياق.
(3) في الأصل: "والثالثة" وهو مخالف للسياق.
(4) إليها: أي إلى الأولى.

(14/252)


9216 - ولو كنّ أربعاً، فأبهم بينهن طلقةً، ثم قال: هذه أو هذه أو هذه أو هذه، فما زاد بياناً، وإن قال: هذه وهذه وهذه وهذه، فقد أقر في الكل بالطلاق، وكذلك لو قال: هذه بل هذه بل هذه، فكل استدراك إقرارٌ مبتوتٌ في محل الاستدراك، وما فيه من الرجوع مردود. ثم إن قسم الأربع، فيتصوّر في تقسيمهن تحزيبات وتفريقات أكثر المتكلفون الصورَ فيها. ومن أحاط بمأخذ الكلام فيما قدمناه، هان عليه مُدرك الجميع، ولو كنتُ أرى فيها إشكالاً، لم أتبرم بتكثير الصور.
9217 - والذي يجب اختتام الكلام به أنا ذكرنا في أثناء المسائل: الوقفةَ والنغمةَ، ويجب أن يكون عنهما بحث؛ فإنا بنينا هذا المجموع على التعرض لأمثال ذلك، فنفرض صورةً واحدةً، ونعيد فيها حكم الوقفة والنغمة، فإذا كنَّ ثلاثاًَ فحزَّبهنَّ حزبين، ثم قال: هذه وأشار إلى الفردة، ثم أقبل على المجتمعتين، وقال: أو هذه وهذه، فقد ذكرنا أن تفصيل الكلام يخالف سردَ الكلام وطردَه؛ إذ ذكرنا في السرد احتمالين، وذكرنا في التفصيل احتمالاً واحداً، ثم الذي ذكره القاضي أنا نَفْصل بالوقفة والنغمة، أما الوقفة، فهي أن يقول: "هذه" قال القاضي: ثم يقف لحظة، ويقول: مشيراً إلى الثنتين: أو هذه وهذه، فَذَكَر الوقفةَ وقيّدها باللحظة.
وأول ما يجب فهمه في ذلك أن المبيِّن يقول: أردت هذه، ويشير إلى واحدة مثلاً، فإن أطال الوقوف حتى انتهى إلى الانقطاع، ثم قال: أو هذه وهذه، طلقت الأولى، ولغا قوله: "أو هذه وهذه"؛ فإن هذا كلام لا استقلال له، فقد انقطع نظم الكلام بطول الفصل، فلم يرد القاضي بالوقفة الوقفةَ الفاصلة القاطعة للنظم، وإنما أراد وقفةً تدل على التفصيل مع انتظام الكلام، ولهذا قرّب الوقفةَ باللحظة، ثم عاد فقربها بالنغمة، وتلك النغمةُ لا تَبين بالكِتْبة (1) ومراسم الخط، ولكن يفهم الفطن معناها ووجهَ إفضائها إلى إفادة الفصل والإشارة إلى التحزيب.
9218 - وفي هذا فضلُ نظرٍ على المتأمل، فإن ما ذكره ليس تعلقاً بالألفاظ، وإنما
__________
(1) الكِتبة بكسر الكاف: مصدر كتب يكتب. (المصباح).

(14/253)


هو من قبيل القرائن، والعملُ بالقرائن -وإن كانت دالَّةً في مجاري التخاطب- بعيدٌ عن مذهب الشافعي، فإنه لا يعوّل على القرائن في إلحاق الكنايات بالصرائح، وهذا الذي ذكرته تنبيهٌ على الإشكال، وإلا فالحق المبتوت الذي لا يجوز غيره ما ذكرناه من التعلق بدلالة الوقف، ونعتبر النغمةَ.
والقرائنُ التي ينكرها الشافعي هي مثل سؤال المرأة الطلاق، مع قول الرجل: أنت بائن في جوابها، وممّا أنكره الغضب، فإن أبا حنيفة (1) جعل الغضب قرينةً على الطلاق عند التلفظ بالكناية، والشافعي أبَى هذا؛ فإن السّؤالَ حالُ المرأة، والرجلُ قد يُسعِف وقد يخالف، والغضبان قد لا يطلق.
فالذي أنكره الشافعي هذه الضروب، فأما أصل القرينة، فلا ينكره ذو فَهمٍ، والدليل عليه أن الرّجل لو قال حاكياً: "أنت طالق" في درج كلام، وكانت زوجته حاضرةً، لم نقض بوقوع الطلاق، وإن جرّد قصدَه في مخاطبتها، وقع الطلاق، إذا لفظ الزوج بالصريح، وصيغة الحكاية كصيغة الخطاب لا تتميز إحداهما عن الأخرى إلا بتحديقٍ أو نغمة مخصوصة، أو وقفةٍ تقطع المخاطبة بالطلاق عن [انثيال] (2) الكلام، ولو لم يقل القائل بهذه الضروب، لما انتظم كلام، [ولالتبس] (3) ما يخاطِب به بما يحكيه.
وهذه الضروب من القرائن تورث العلومَ الضرورية، وعليها تُبْتَنى صيغ الألفاظ في الأخبار، والإقرار، والإنشاء، والأمر، والنهي، فوضح أن الذي أنكره الشافعي ما لا يُثبت العلمَ ويَبْقَى معه التردّدُ واللفظ كنايةٌ في نفسه، فأما ما يفيد العلم، فقرائن الأحوال مع الألفاظ كقيود المقال.
9219 - وكل ما ذكرناه فيه إذا أبهم طلقةً -ونوى واحدةً بعينها، فأما إذا أوقع طلقة بين امرأتين أو نسوةٍ ولم يعين واحدةً منهنَّ بقلبه، فيطالب بتعيين واحدة، كما يطالب
__________
(1) ر. الهداية مع فتح القدير: 3/ 401.
(2) في الأصل: "أثناء" والمثبت تقدير من المحفق.
(3) في الأصل: "ولا لنفسٍ" وهو تصحيفٌ ألهمنا الله صوابه.

(14/254)


في القسم الأول بتبيين المنوية المعنية عند إطلاق اللفظ، فالمطالبة في ذلك القسم بالتبيين، وفي هذا القسم بالتعيين.
ثم إذا عيّن واحدةً، فالطلاق يقع من وقت التعيين أو يستند إلى وقت التلفظ؟ فعلى وجهين مشهورين: أحدهما - أنه يقع من وقت التعيين.
والثاني - أنه يقع من وقت اللفظ.
توجيه الوجهين: من قال: إنه يقع من وقت اللفظ، احتج بأمورٍ منها أنه جزم الطلاق ونجّزه؛ إذ قال: إحداكما طالق، وليس في لفظه تعليق، فلو أخرنا وقوع الطلاق إلى وقت التعيين، لكان ذلك مخالفاً لمقتضى قوله، وأيضاً؛ فإن التعيين؛ المتأخر ليس بياناً للكلام الأوّل، وليس إنشاءَ طلاق، فإذا كان لا يتأتى منه أن يقول: "عنيت بالطلاق هذه" على معنى الإخبار عما خطر له قبل [الطلاق] (1)، [لم] (2) يكن قوله عنيت هذه طلاقاً، والطلاق لا بعض له، ويستحيل أن يصير التعيين مع اللفظ السابق بمثابة لفظ منتظم؛ فإن اللفظ الواحد أو الجملة الواحدة لا تتقطع، وقد تخلل بين الأول وبين هذا التعيين زمان ينقطع الوصل بمثله، فلا وجه إلا استناد وقوع الطلاق إلى اللفظ.
ومن قال: يقع الطلاق عند التعيين، احتج بأن الزوج يعين أيتهما شاء عن خِيَرةٍ وتشهٍ، ويستحيل وقوع الطلاق مبهماً من غير نزولٍ على محلٍّ مخصوصٍ ويستحيل بقاء الطلاق محوِّماً على محلٍّ إلى النزول عليه، فلا وجه إلا المصير إلى أنه يقع عند التعيين.
9220 - وأهمّ ما يجب الاعتناء به فهْمُ هذا الخلاف وتنزيلُه على حقيقته، ثم ابتداء التفريع وراء ذلك.
ذكر القاضي أن هذه المسألة بينها وبين الكلام في أن القسمة بيعٌ أو إفراز حق مشابهةٌ ومضاهاةٌ في المعنى؛ فإن الشريكين في الدار المشتركة إذا اقتسماها، فوقع
__________
(1) في الأصل: "المسيس" ولعلها سبق قلم من الناسخ، فلا معنى لها في هذا الموضع.
(2) في الأصل: "ولم".

(14/255)


بعض الأبنية في حصةٍ والبعض في حصّةٍ، فللشافعي قولان في حقيقة القسمة وماهيتها، قال في أحد القولين: القسمة بيعٌ، وكأن الذي وقع في حصته البيت الشرقي باع حصته من البيت الغربي الذي وقع في حصة صاحبه بحصّة صاحبه من البيت الشرقي، وإلا فالحقان كانا شائعين في البيتين، وهذا القائل يقول: ثبت اختصاص كل واحدٍ منهما بالقسمة ثبوتاً مبتدءاً. هذا أحد القولين.
والقول الثاني - أن القسمة إفراز حق، ومعنى هذا القول أنا نتبين بالأخرة أن حق كلّ شريكٍ من الدار ما تبين وتميز بالقسمة، ولا نُثبت لواحد منهما ملكاً مجدداً.
هذا بيان القولين، ووجه تشبيه ما نحن فيه بمأخذ القولين أنا في وجهٍ نقول: يقع الطلاق على إحداهما على إبهام، ثم إذا تعينت، تبين لها أنها الطالقة قبلُ.
وفي وجهٍ نقول: يقع الطلاق عند التعيين [كما يثبت] (1) اختصاص كل شريك عند القسمة.
وقد بالغ القاضي في استنباط ذلك، وأحسن في إيضاح وجه الشبه؛ فإن الدار كانت على الشيوع حساً، كما جرت اللفظة على الإبهام فيما نحن فيه، وتميُّزُ الحصة ثَمَّ كتعيُّن المطلقة والزوجةِ هاهنا، واستناد [التمييز] (2) ثَمّ إحرازاً أو إفرازاً كاستناد وقوع الطلاق هاهنا.
والمصير ثَمَّ إلى أن القسمة هي المفيدة للتخصيص على الابتداء بمثابة مصيرنا إلى أن التعيين هو الذي يفيد الوقوع متصلاً به غيرَ مستند إلى اللفظ.
وهذا وإن كان حسناً فالوجهان مستقلان في الباب دون هذا التشبيه.
9221 - فأما من قال: يستند الطلاق إلى اللفظ، فوجهه بيّن؛ فإن صيغة الطلاق جازمة لا تعليق فيها، ولا سبيل إلى ردّ الطلاق، والتعيين يبيّن بالأخرة التي طُلقِّت أولاً، وهو كما لو أسلم المشرك على نسوة، فالإسلام يدفع الزائدات على الأربع، ولا يتوقف اندفاعهن على تعيين الزوج الممسَكات والمفارقات، غير أن تعيين
__________
(1) في الأصل: لا يثبت، والمثبت من عمل المحقق.
(2) في الأصل: البيتين. والتصويب من صفوة المذهب.

(14/256)


الزوجات مرتبط باختيارالزوج، فإذا اختار أربعاً، تبيّنا أن صواحباتهن اندفعن بالإسلام، وتبيّن لنا ذلك آخراً مستنداً إلى الأول.
والقائل الثاني يقول: إيقاع الطلاق من غير محلٍّ محال، ولكن قول الزوج: إحداكما طالق جزمٌ منه في الإيقاع، فاقتضى إيقاع الحيلولة؛ فإن الطلاق -وإن لم يتم - صدر صدوراً لا يرد، فلم يستقل ليقع، ولم يتعلق لينتظر متعلقه، فكان مقتضاه إلزام الزوج إتمامَه ولو بعد حين، فإذا أتمه إذ ذاك وقع الطلاق، فكأنه أوجب الطلاق، ولم يوقعه، وأبو حنيفة (1) يصير إلى أن اللّعان يوجب الفراق ولا يوقعه، والإيلاء عنده (2) يوقع الفراق عند انقضاء المدة، وعندنا يوجبه إذا امتنع من الفيئة، وإبهام الطلاق فيما نحن فيه لا يوقع الفراق، ولكنه [فوق] (3) الإيلاء، فيوقع الحيلولة
ويلزم الإتمام.
والفقيهُ من يطلب في كل موضع ما يليق به، وقد اجتمع في هذه المسألة تنجيزٌ، فعسر ردّه، ولم يصادف محلاًّ متعيناً نُطقاً وعقداً، فمست الحاجة، إلى التعيين إذا (4) لم يجر التعيين أولاً، ثم كان الطلاق مفتقراً إلى التعيين غيرَ معلق به، فنشأ منه الخلاف في أنه واقعٌ أو واجب الوقوع.
هذا حقيقة الوجهين في وضعهما.
9222 - ويتم الغرض والبيان بالتفريع، فنقول أولاً: إذا أبهم الطلقة، ولم ينو واحدة، فلا دعوى للزوجات، بخلاف ما لو أطلق اللفظ ونوى بقلبه، فإن للزوجات الدّعوى على الزوج: كل تدّعي أنك عنيتني-على ما سنذكر [في] (5) فصل التداعي والخلاف.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 505 مسألة 1050، مختصر الطحاوي: 215، المبسوط 7/ 19، 43.
(2) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 473 مسألة 998، رؤوس المسائل: 423 مسألة 295، المبسوط: 7/ 20.
(3) في الأصل: فوت. وهو تصحيف أجهدنا أياماً حتى ألهمنا الله صوابه.
(4) إذا: بمعنى (إذْ).
(5) زيادة لإيضاح العبارة.

(14/257)


وإذا لم يكن من الزوج نيّة، فالدعوى منهن لا معنى لها، ولكنه مطالبٌ بإنشاء التعيين عن خِيرَةٍ وتشهٍ، وهذا بمثابة مطالبة المسلم على النّسوة الزائدات على الحصر بأن يعيّن منهن أربعاً، فلهن الطَّلِبة، وليس لهن الدعوى.
9223 - وممّا نفرع على ذلك أنا إن حكمنا بأن الطلاق يقع من يوم التعيين، فالعدة من ذلك الوقت.
وإن قلنا: من يوم اللفظ، [ففي] (1) احتساب العدة وجهان، كما تقدم ذكرهما فيه إذا لفظ بالطلاق وعيّن بالعقد والنية؛ وذلك أن الطلاق في المسألتين وقع من وقت اللفظ، ولكن لما التبس الأمر، اختلف الأصحاب في تاريخ أول العدة، كما تقدم شرح ذلك.
9224 - ومما يتفرّع على ذلك أنه إذا أبهم طلقةً ثم وطىء واحدةً، وكان الإبهام بين امرأتين مثلاً، فينظر: إن نوى لمّا لفظ بالطلاق وعين بالقصد، فالوطء لا يكون تعييناً، واتفق الأصحاب أنه لا يكون تبييناً للتعيين السابق الحاصل [بالقصد] (2)؛ فإن الوطء فعلٌ، والفعل لا صيغة له، ونحن جعلنا الوطء من البائع في زمن الخيار فسخاً، وجعلناه من المشتري إجازة؛ لأن الفسخ والإجازة أمران منشآن، فوقع الحكم بحصولهما، وإنما المستنكر وقوع الفعل بياناً.
هذا إذا نوى لما لفظ بالطلاق.
فأما إذا لم ينو، وكان مطالباً بالتعيين، فهل يكون الوطء الصادر منه تعييناً للمنكوحة حتى تتعين الأخرى بالطلاق، فعلى وجهين: قال القفال: الوجهان مبنيان على أن الطلاق يقع بالتعيين أو يستند إلى اللفظ، فإن حكمنا بأن الطلاق يقع بالتعيين، فالوطء لا يُوقع الطلاقَ، وإن حكمنا بأن الطلاق يقع باللفظ، فالوطء يضاهي اختيار الفسخ، أو اختيار الإجازة من المتعاقدَيْن، وكما اختلف الأئمة في أن الوطء هل يكون تعييناً للطلاق المبهم في التي يكف عن وطئها.
__________
(1) في الأصل: (نهي) وهو تصحيف واضح.
(2) في الأصل: "بالعقد" وهي كذلك في صفوة المذهب: جزء (5) ورقة 26 يمين.

(14/258)


كذلك اختلفوا في العتاق إذا أبهم المالك العتق بين أَمَتين، ولم يعيّن واحدة منهما بقلبه عند تلفظه، فإذا وطىء إحداهما، فهل تتعين الموطوءة للملك والأخرى للعتق، فعلى الخلاف الذي ذكرناه، وأبو حنيفة (1) يفصل بين العتق والطلاق، فيقول: الوطء تعيين في الطلاق، وليس تعييناً في العتاق، والمسألة مشهورة معه في الخلاف.
9225 - ومما يتعلق بما نحن فيه أنه إذا أبهم الطلاق ولم ينو، فلما طالبناه بالتعيين في هذا القسم، قال: عَنَيْتُ هذه أو هذه، فنقول: ما زدتنا بياناً، ولم توقع تعييناً. وإن قال: هذه وهذه، أو قال: هذه بل هذه، تعينت الأولى، ولغا لفظه في الثانية، أما تعيين الأولى، فتعليله بيّن، وأما بطلان لفظه في الثانية، فسببه أن تعيينها للطلاق محالٌ، ولا مجال للحمل على الإقرار في هذا القسم والقضاء بموجبه، بخلاف ما إذا نوى عند اللفظ، ثم قال: هذه وهذه، أو قال: هذه بل هذه، فإنا نؤاخذه بموجب إقراره وإخباره عما مضى، ثم يعترض لنا قبول الإقرار الثاني وإن طال الرجوع على (2) الأول إذا لم ينو عند اللفظ، فلا مساغ للإخبار عن ماضٍ، والإقرار إخبارٌ عن ماضٍ، وإذا انحسم الإقرار، فالتعيين يصحّ على وجهٍ يقتضيه اللفظ، واللفظ لا يقتضي إلا مطلّقةً واحدةً، وقد ذكرنا أنه إذا قال: إحداكما طالق ونواهما لم تطلقا، وإنما تطلق واحدةٌ منهما، ثم إذا صح التعيين في واحدة، انحسم التعيين في الأخرى، وهذا فقه حسنٌ، وسواء فرّعنا على أن الطلاق يقع عند التعيين، أو يستند إلى اللفظ، فإن حكمنا بأن الطلاق يقع عند التعيين، فتعليل ما ذكرناه بيّن، وإن أسندنا الوقوع إلى اللفظ تبيُّناً، فاللفظ يكمل بالتعيين؛ فإنه لم يكن كاملاً إذا (3) طلّق ولا مقترناً بنيّةٍ، فإذا حصل إكماله آخراً، لم يقبل الإكمال إلا على صيغة اللفظ.
وتمام البيان فيه أنه إذا نوى عند اللفظ ثم قال: هذه بل هذه، فلا تطلق إلا واحدة في علم الله، والذي ذكرناه مؤاخذة تتعلق بالظاهر؛ لأنا وجدنا للإقرار مساغاً، وإذا
__________
(1) ر. طريقة الخلاف: 155 مسألة: 65، إيثار الإنصاف: 189.
(2) "على" بمعنى: "عن".
(3) إذا: بمعنى (إذ).

(14/259)


اتضح أن لا مساغ للإقرار، فلا وجه إلا ما قدّمناه، وهذا متضح لا إشكال فيه.
9226 - وممّا نفرعه على هذا الأصل أنه إذا قال لامرأتيه: إحداكما طالق، ولم يعيّن واحدةً بنيّة، فلو ماتتا، وبقي الزوج، فالذي قطع به أئمة المذهب أن التعيين لا ينحسم بموتهما، وهذا يؤكد أحد الوجهين في استناد الوقوع إلى اللفظ، وإذا قلنا لمن يصير من الأصحاب إلى أن الطلاق يقع عند التعيين: كيف سبيل الحكم بوقوع الطلاق بعد الموت؟ وهلاّ قلتَ: إن الطلاق يمتنع وقوعه بعد فقدان المحل؟ يقول: إن هذا اللفظ وإن كان لا يوقع الطلاق ابتداء، فإنه يوجبه إيجاباً لا يُدفع، ولو حكمنا بأنه يفوت، لوجب أن نقول: إذا بدا للزوج ألا يعيّن، ورأى أن يبقيَهما على النكاح، فلا معترض عليه والنكاحُ يستمرّ، فإذا لم نقل ذلك، تبين أن الطلاق لا بد منه. وقد ذهب أبو حنيفة (1) إلى أنهما إذا ماتتا في الصّورة التي ذكرناها، فقد فات التعيين بموتهما. ومذهبه أن الطلاق يقع عند التعيين، وكان شيخي يميل إلى هذا المذهب، وليس هذا ملتحقاً بمذهب الشافعي، والمذهب المقطوع به ما ذكرناه.
ثم إن كنا نرى استناد الطلاق إلى اللفظ، فلا إشكال؛ فإن فرّعنا على أن الطلاق يقع عند التعيين في حياتهما، ففرض الوقوع عند التعيين بعد الموت محال، ولا بدّ من فرض استناد على هذا الوجه في هذه الصورة، ثم كيف الاستناد؟ وما المستند؟ المذهب الأصح أن الطلاق يستند إلى اللفظ في هذه الصورة، ويلتقي الوجهان؛ فإنا لم نجد إلى رد الطلاق سبيلاً، ولم يمكنا أن نحقّقه عند التعيين، وترددنا بين اللفظ والتعيين، فإذا عسر تحقيق الطلاق عند التعيين، استند إلى اللفظ تبيّنا.
ومن أصحابنا من قال: تطلق المعينة قبيل موتها، فإن عُمرها كان محلّ التعيين، فإذا تصرّم، رددنا وقوع الطلاق إلى آخر زمن يمكن فرض التعيين فيه، وهذا فقيه حسنٌ، وهو يناظر في الظاهر مذهب أبي حنيفة (2) في حكمه بَعتاقة المكاتَب الذي خلف وفاء إذا أخذت النجوم من تركته، فالعتق لا يحصل بعد الموت عنده، ولكن
__________
(1) ر. مختصر الطحاوي: 199.
(2) ر. المبسوط: 7/ 216، رؤوس المسائل: 546 مسألة: 403، طريقة الخلاف: 177 مسألة 70، إيثار الأنصاف: 185.

(14/260)


إذا أُدّيت النجوم، تبين حصول العَتاقة قبيل الموت، ويقرب هذا من قولنا برجوع المبيع إلى ملك البائع قبيل التلف، فيصادف الانفساخ ملكاً قائماً، وإن كان قيام الملك ينافي الانفساخ، ولكن لما عسر الحكم بالانفساخ بعد الموت، ودلّ الشرع على أن العقد لا يبقى مع تلف المبيع في ضمان البائع، فانتظم من مجموع ذلك أنا اضطررنا إلى إيقاع الفسخ بالموت قبله. ويكثر نظائر ذلك.
فصل
قال: "فإن ماتتا، أو إحداهما ... الفصل" (1).
9227 - إذا طلق إحدى المرأتين، ثم فرض طريان الموت قبل التبيين، أو قبل التعيين، فلا يخلو إما أن يفرض في جانبه وإما أن تموتا ويبقى، وإما أن تموت إحداهما ثم يموت الزوج.
فإن ماتتا وبقي الزوج، نظرنا: فإن كان لفَظَ ونوى وكان مؤاخذاً بالتبيين، فإذا بيّن الطلاق في إحداهما، سقط ميراثه منها، وبقي ميراثه من الأخرى، وبيانه لا شك مقبول، فلو ادّعى ورثةُ التي عينها للزوجيّة ليرثها أنه كان عيّنها للطلاق عند اللفظ، فالقول قوله مع اليمين ما عيّنها (2)، فإن نكل، حلفوا وخرج الميراثان: أحدهما لإقراره، والثاني لقيام يمين الرد بعد إنكاره ونكوله.
وإن أطلق اللفظ أولاً، ولم ينو بقلبه ثم ماتتا -وقد ذكرنا أنه يعيّن بعد الموت- فإذا عين واحدة للطلاق، ورث الأخرى، ولا يتوجّه عليه الدعوى، وقد ذكرنا الآن أن التعيين لا ينحسم بموتها، وأبو حنيفة لمّا صار إلى انحسام التعيين، ورّث الزوج منهما جميعاً، ولكن لم يُثبت له تمامَ الميراث من واحدة منهما، وقضى بأنه يأخذ من تركة كل واحدة منهما نصف ميراث زوج.
وهذا كلام مختبط لا أصل له، فإن التعيين إن انحسم، فمقتضاه سقوط الطلاق رأساً، وإن ماتتا على الزوجية، فالزوج يرثهما ويثبت له من تركة كل واحدة منهما
__________
(1) ر. المختصر: 4/ 85.
(2) في الأصل: فالقول قوله مع اليمين مع ما عينها.

(14/261)


ميراث زوج، وكان شيخي في ميله إلى هذا المذهب يُثبت له ميراثين، وفرّع أبو حنيفة مذهبه، فقال: إذا ماتت إحداهما، تعيّنت الحيّة للطلاق، ووقع الحكم بأن التي ماتت زوجة، وكان شيخي في تقدير اختياره وراء (1) المذهب يصحح هذا التفريع ويقول به، وهو لعمري صحيح لو صح الأصل، ولكن ما ذكره الشيخ إظهار ميلٍ، وما أجمع عليه الأصحاب أن التعيين لا ينحسم بالموت.
هذا كله فيه إذا ماتتا وبقي الزوج.
9228 - فأما إذا مات الرجل وبقيتا، فهل يقوم الوارث مقام الزوج في البيان والتعيين؟ اختلف طرق أصحابنا: فمنهم من قال: في التبيين والتعيين جميعاًً قولان: أحدهما - يقوم الوارث مقامه في البيان والتعيين جميعاًً؛ لأن الوارث خَلَف الموروثَ، فيقوم مقامه في التبيين والتعيين جميعاً، كما يخلفه في حق الشفعة والردِّ بالعيب، وحبسِ المبيع واستلحاقِ النسب.
والثاني - لا يقوم الوارث مقامه؛ لأن حقوق النكاح لا خلافة فيها، فلا تتعلق الوارثة بشيء منها، كحق اللعان، وأقرب الأحكام شبهاً بما نحن فيه أن من أسلم (2) وتحته عشر ومات قبل البيان، فالورثة لا يقومون مقام المورّث في تعيين أربع، ولا يكاد ينفصل هذا عن إطلاق الطلاق من غير نيةٍ، هذه طريقة الأصحاب.
ومنهم من قال: إن كان نوى [لمّا] (3) لَفَظَ، فالوارث يقوم مقامه في البيان؛ إذ قد يكون للوارث اطلاع على ما نواه المورث، [كأن] (4) كان سمعه أو تبيّنه من مَخيلةِ حاله، وعلى مثل ذلك تَعْتَمد المرأة في الحلف إذا أفضت الخصومة إلى ردّ اليمين عليها.
ومن أصحابنا من قلب الترتيب، وقال: يقوم الوارث مقام المورث في التعيين إذا لم يكن اقترن باللفظ نية، فإن اقترن باللفظ نيّة، فهل يقوم الوارث مقام المورث في التبيين، فعلى قولين.
__________
(1) وراء المذهب: أي مع اختياره المذهب.
(2) في الأصل: أن من أسلم وأسلمت وتحته ...
(3) في الأصل: "لصّاً" وهو من عجائب وغرائب التصحيف.
(4) في الأصل: "فإن".

(14/262)


وينتظم من جميع هذه الطرق أقوال: أحدها - أن الوارث يقوم مقام المورثِ في التبيين والتعيين.
والثاني - أنه لا يقوم مقامه فيهما.
والثالث - أنه يقوم مقامه في التبيين ولا يقوم مقامه في التعيين كالعدد الزائد في مسألة نكاح المشركات.
هذه طرق مرسلة.
وذكر الشيخ القفال طريقة مفصلة حسنة، موافقة لظاهر النص، فكان يقول: إن كانت المرأتان حيتين، فليس للوارث التعيين ولا البيان؛ لأنه [لا] (1) غرض للوارث في أن تكون المطلقة هذه أو تلك، فإن ميراث الواحدة ميراث الاثنتين ربعٌ أو ثمن، وإذا لم يكن له غرض، فهو كالأجنبي وليس كالزوج، فإنه صاحب الأمر، ومنه الواقعة، وإليه المآل.
9229 - وإن ماتت إحداهما ثم مات الزوج، ثم ماتت الأخرى، فإن عين الوارث الميتة (2) للطلاق، قُبل قوله، فإنه أقر على نفسه بما يوجب حرماناً من حقٍ، واقتضى استحقاقَ حقٍّ عليه، فكان هذا من قبيل قبول الأقارير، فهذا مقبول قولاً واحداً؛ فإنه في التحقيق أضر بنفسه من وجهين.
وإن عين الطلاق في الحيّة بعد الزوج، فله في هذا غرض صحيح، وللقصد به تعلُّق، فإن هذا لو ثبت، يخلُصُ له ميراث أبيه، ويثبت حق الإرث في تركة الميتة، فهل يُقبل قول الوارث حتى يثبت غرضه في التركتين؟ فعلى قولين، ثم يحسن في هذا المقام إعادة الطرق في التبيين والتعيين.
9230 - ولو كانتا ميتتين، فقد يظهر غرض الوارث في التعيين بأن يكون الميراث من إحداهما أكثر، وقد يكون له غرض في عينٍ من أعيان التركتين. وهذا كلام مستعارٌ، فلا ينبغي أن يكون إلى أقدار المواريث التفات أصلاً، والغرض أن يكون
__________
(1) في الأصل: لأنه اغرض للوارث.
(2) في الميتة: أي الميتة قبل الزوج، كما يفهم من السياق، ويزداد وضوحاً بما يأتي.

(14/263)


للخصومة تعلّقٌ بالوارث، فلا نظر إلى الغرض مع هذا.
وإذا كانتا حيتين، فهذا المعنى معدوم، ولكن عبّر الأصحاب عما ذكرناه بالأغراض.
ولو كان أجمل عتقاً بين عبدين ومات وبقيا، فهذا محل القولين في بيان الوارث؛ فإن استحقاقه يتعلق بأحدهما، وهذا لا يتحقق في الزوجتين الحيتين.
9231 - فحاصل كلام القفال وإليه ميل معظم المحققين أن الكلام يقع مع الوارث في ثلاث صورٍ: إحداها - ألا يكون له غرض في التبيين والتعيين، فلا نجعله من أهل واحدٍ منهما.
والثاني - أن تتعلق الواقعة بغرضه، فيأتي بكلام يَضرُّ به نفسَه، فيقبل ذلك منه قبولَ الأقارير.
وإن كانت الواقعة متعلقة بغرضه، وقال قولاً في البيان والتعيين ينفعه من كلّ الوجوه، أو ينفعه من وجهٍ، ففي قبول البيان والتعيين قولان. هذا مسلكه.
ثم يجري الفرق بين البيان والتعيين على المراسم التي قدمناها، حيث يجري اختلافُ القول في القبول، ويتطرق إلى ما ذكره من القطع بالقبول في صورة الإضرار أن يُقْبَلَ البيان إقراراً، وفي التعيين وإن كان مضراً التردد الذي ذكرناه.
9232 - وأطلق العراقيون وصاحب التقريب إجراءَ القولين في تبيين الورثة وتعيينهم وإن لم يكن لهم غرض.
وهذه الطريقة ليست بالمرذولة، فإنا لا نقبل قول الوارث بغرضه، إذ قبول الأقوال لا يناط بأغراض القائلين، وإنما يناط بكونهم من أهل القبول تأصلاً أو خلافةً، وهذا المعنى يتحقق في حق الورثة وإن لم يكن لهم غرض.
وهذا لا بأس به إلا في صورة واحدة، وهي إذا أقر الوارث بما يضره، فيجب قبولُ ذلك وقطعُ القول بهِ، وشرطه أن يكون إقراراً، ولا يكون تعييناً، فهذه الصورة مستثناة، لا يرتاب فقيه في استثنائها؛ فإنه أقرَّ بحرمان نفسه واستحقاق غيره، وقبول ذلك لا مراء فيه.

(14/264)


هذا منتهى القول فيما يقبل ويرد من تبيين الورثة وتعيينهم وذكْرِ اختلاف الطرق والمسالك.
9233 - ثم يتفرع عليه أنا إذا لم نقبل قول الوراث والزوجتان ميتتان نُظر: فإن ماتتا بعد الزوج، وقفنا بين ورثتيهما ميراث زوجة من تركة الزوج، وإن كانتا حيتين، وقفنا بينهما ميراث زوجة.
وإن مات الزوج، ثم ماتت إحداهما والأخرى حيّة، وُقِف ميراث زوجةٍ بين الحيّة وبين ورثة الميتة، ولو ماتتا ثم مات الزوج، وُقِف لورثة الزوج من تركة كل واحدة منهما ميراث [زوج] (1) إلى أن يصطلحوا.
ولو ماتت إحداهما، ثم الزوج، ثم الأخرى، وُقِف لورثة الزوج من تركة الأولى ميراث زوج، ووقف من تركته لورثة الأخرى ميراث زوجة إلى أن يصطلحوا.
وإن أقبلنا، (2) قول الوارث، فقد يُفرض نزاع وخلاف، وسنذكره في فصلٍ مفردٍ عند نجاز الباب.
9234 - وقد كنّا أخّرنا فصلاً في وقوع الإشكال بين الطلاق والعَتاق، وهذا أوان ذكره، وإذا انتجز، ذكرنا بعده الخلاف بين المطلِّق والزوجتين، ثم بين الزوجتين والورثة ونُلحق بهذا المنتهى فروعاً نستدرك ما انسلّ عن ضبط الأصول.
فصل
قال: "ولو قال: حنِثتُ بالطلاق أو العتاق، وقف عن نسائه ورقيقه ... الفصل" (3).
9235 - إذا حلف يمينين: إحداهما بالطلاق والأخرى بالعَتاق، وتيقّن الحِنث [في] (4) إحداهما، ولم يدر أنه حنث في أيتهما. وتصوير ذلك هيّن، فلو سَقَته في
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.
(2) في الأصل: قلنا.
(3) ر. المختصر: 4/ 85.
(4) في الأصل: مِنْ.

(14/265)


ظلمة الليل جاريةٌ، فقال: إن كانت الساقية امرأةً من نسائي، فهي طالق، وإن كانت جارية، فهي حرة، وقد يفرض هذا في الطائر، فإذا قال: إن كان غراباً، فامرأتي طالق، وإن لم يكن غراباً، فعبدي حر.
هذا هو التصوير.
قال الشافعي: يوقف عن النساء والعبيد، ولا يمكّن من أن يستمتع بالنساء، ويتصرف في العبيد، ويؤمر بالإنفاق عليهم، لأنهم في حبسه، ثم يؤمر بالتبيين، كما تفصّل من قبل.
9236 - ولو مات قبل البيان، فلأصحابنا طريقان: منهم من قال: في قيام الوارث مقامه في البيان أو التعيين قولان، كما ذكرناهما في المرأتين وفي العبدين، وكل كلام يجري في الطلاق المبهم الفرد، أو العَتاق المبهم الفرد، وجب أن يجري إذا ارتبط الاستبهام بالطلاق والعَتاق.
ومن أصحابنا من قطع القول بأن الوارث لا يبيِّن ولا يعيِّن إذا تعلق الإبهام بالطلاق والعَتاق، والسبب فيه أن القرعة تجري في العَتاق، وإن عارضه الطلاق.
وهذا من الهذيان الذي لا مبالاة به إلا أن يُجري صاحب هذه الطريقة مسلكه في العتق الممحّضّ؛ فإن العتق إذا تمحّض، فهو أولى بالقرعة منه إذا عارض العَتاقُ الطلاقَ.
ثم من قال بالبيان قدّمه على القرعة، كما في حالة الحياة.
وإن لم نقل بالبيان، أو قلنا به، ولكن لم يبيّن الوارث، فالقرعة تجري، فَنُقرِع بين الأمة والزوجة، فإن خرجت على الأمة عَتَقَت، وتعينت المرأة للزوجية؛ إذ لا يتصور التعيين إلا مع زوال الإبهام. ومن ضرورة زوال الإبهام ما ذكرناه.
وإن خرجت القرعة على المرأة، لم تطلق؛ فإن القرعة لا تؤثر في إيقاع الطلاق أصلاً، وإنما [أثرها] (1) في العتاق. ثم إذا خرجت القرعة على المرأة، وحكمنا بأن
__________
(1) في الأصل: أثرنا.

(14/266)


القرعة لا تؤثر، فالمذهب المبتوت أن الأمر يبقى ملتبساً، ويسقط ما كنا نبغيه بالقرعة من البيان.
وفي بعض التصانيف أن القرعة تعاد مرّة أخرى عند بعض أصحابنا، وعندي أن صاحب هذه المقالة يجب أن يخرج من أحزاب الفقهاء؛ فإن القرعة إذا كانت تعاد ثانية، فقد تعاد ثالثة، ثم لا يزال الأمر كذلك حتى تقع على الأمة؛ فإن القرعة تُسْتَخْرجُ عليها. وحق صاحب هذا المذهب أن يقطع بعتق الأمة، وهذا لا سبيل إليه.
وذكر طوائف من أصحابنا أن الطلاق وإن كان لا يقع على المرأة، فالقرعة تؤثِّر في إرقاق الأمة.
9237 - فقد تحصّل سوى الوجه الفاسد وجهان: أحدهما - أن الأمر يبقى ملتبساً في العتق، والطلاق. والثاني - أن الأمة تَرِقُّ.
فإن قيل: ألستم قلتم: إذا خرجت القرعة على الأمة، عَتَقت وتعينت الزوجة للزوجية، وقطعتم بهذا؟ فهلاّ قطعتم بأن الأمة ترِق؟ قلنا: لأن القرعة إذا وردت على الأَمَة، فقد خرجت على محلٍّ تؤثِّر القرعة فيه وهو العَتاق، وإذا خرجت على الطلاق، فلا أثر لهذا في هذا المحل، وإذا لم يكن لها أثر، لم يبعد أن تُلغى حتى يستمر اللبس.
ويتعلق بهذا الفصل مسائل لطيفة في الاختلاف، سنذكرها في فصلِ الاختلاف، وهذا أوان افتتاحه.
فصل
مشتمل على وجوه الاختلاف
مسائله:
9238 - إذا قال الرجل لامرأتيه: إحداكما طالق، وكان نوى واحدةً منهما بقلبه، فلما طالبناه بالبيان، [فإن] (1) عيّن واحدة منهما تعينت، فإن لم تخاصم الأخرى، فلا تعرّض لهما ولا تبقى طَلِبةٌ من جهة السّلطان.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(14/267)


وإن قالت الأخرى: نويتني وعنيتني، فالخصومة تدار بينهما: فيحلف الزوج بالله لم ينوها ولم [يعنها] (1)، فإن حلف، انقطعت الخصومة، ويمينه على البت، فإنه ينفي فعلَ نفسه، فإن نكل، رُدَّت اليمين على المرأة، فإن حلفت، حكمنا بوقوع الطلاق عليها ظاهراً، لأجل يمينها، وقد نُثبت طلاق الأولى بإقراره.
وإن نكلت عن يمين الردّ، كان نكولها بمثابة حَلِفهِ.
ولو قال الزوج لما طالبناه بالبيان: قد كنت نويت وعنيت إحداكما ثم نسيت، فإن صدقناه، فلا طَلِبةَ، فإن المطالبة بالتعيين تأتي من جهتهما، فإذا رضيتا بالمقام تحت الاحتباس، فلا تعرض للسلطان. نعم، يُمنع من مُلابستهما جميعاًً، ومن مُلابسة كل واحدة منهما.
فأما إذا ادعى الرجل النسيان، فكذبتاه، فإذا سبقت واحدة وقالت: عنيتني، فقال في جوابها: لا أدري، فلا يقبل ذلك منه. ولو قال: حلّفوني بالله: لا أدري، لم نكتف بهذه اليمين منه، فإن المحلوف عليه فعله، فلتكن يمينه جازمةً، ولو فتحنا هذا الباب، لما توجهت يمين جازمة على من يُدّعى عليه استقراضٌ، أو إتلافٌ، أو قتلٌ أو غيرُها.
فإن قال الزوج: أتجوّزون صدقي؟ قلنا: نعم، فلو قال: فلم تطالبونني باليمين الجازمة، وأنا أمنحكم يميناً جازمةً في أني نسيت؟ قلنا: لا سبيل إلى إجابتك.
ولكن وراء هذا سرّ، وهو أنا لا نقضي بنكولك عن اليمين المعروضة عليك، بل نقول: اليمين مردودة على المدّعية، فإن حلفت، وقع القضاء بيمين الرد، وهي حجة جازمةٌ في الخصومة نازلةٌ في طريقةٍ منزلةَ البيّنة، وفي طريقةٍ منزلةَ الإقرار.
9239 - ومما نذكره على الاتصال بهذا أنه لو كان قال: إن كان هذا الطائر غراباً فزينبُ طالق، وإن لم يكن غراباً، فعمرةُ طالق، ثم فرضت الدعوى منهما أو من إحداهما وكانتا لا تدعيان طلاقاً إلا من هذه الجهة، فلو قال: قلت ما قلت من تعليق
__________
(1) في الأصل: بعينها.

(14/268)


الطلاق، وأنا في كِنٍّ والليلُ ملقٍ [سُودَ أكنافه] (1) على الآفاق، وقد مرّ الطائر، فكيف أطلع على جنسه، فاقنعوا مني بيمينٍ على نفي العلم؛ إذ لا خلاف أن المحلوف عليه لو كان أمراً أنفيه من فعل غيري، لكنت أحلف على نفي علمي به، مثل أني لو قلت: إن دخلتِ الدار، فأنت طالق، ثم ادّعت المرأة الدخول، كان يكتفى مني بالحلف على نفي العلم بالدخول؛ من جهة أن إحاطة العلم بنفي فعل الغير يعسر، وإذا كان يقع الاكتفاء بنفي العلم لتعذر الإحاطة، فإحاطة العلم بجنس الطائر في الصورة التي ذكرناها أعسر، والدَّرك فيه أبعد.
قلنا: إن سلمت المرأتان الصورة التي [ذكرها] (2) الزوج، فقد تحقق أن العلم منه بجنس الطائر غيرُ ممكن، فهذا اعتراف منهما بأنه ليس يعلم حقيقة الحال. وإن اعترفتا كذلك، فلا يتصوّر من واحدة منهما دعوى منضبطة عليه. وحكم هذه الصورة ما تقدم من أنهم إذا اعترفوا بالإشكال، تُرك الأمر مبهماً، وانقطعت طَلِبةُ البيان، ويلزمه أن يَرُد عليهما حقوقَ النكاح.
وإن ادعى الزوج حالةً لا يتصوّر معها الإحاطة بجنس الطائر، وأنكرت المرأتان ذلك، وادعت كل واحدة منهما على البت أنه طلقها، فلا يُكتفى منه بادعاء نفي العلم، وإن أبدى الجهلَ، جُعل ذلك إنكاراً منه، وعُرضت عليه اليمين الجازمة، فإن تمادى على ادعاء الجهل، جُعل ذلك بمثابة النكول عن اليمين، وتردّ اليمين على المدعية، فإن قال الزوج: إذا كان لا يمتنع صدقي في دعوى الجهالة، فكيف تستجيزون إثبات الطلاق؟ قلنا: لسنا نثبت الطلاق بنكولك عن اليمين، وإنما أثبتناه بيمينها الجازمة في إثبات الطلاق، ولكن سبيل الوصول إلى يمين الرد في ترتيب الخصومة ما ذكرناه.
وهذا قدمنا تقديره فيه إذا قال: إحداكما طالق، وكان قد عيّن بقلبه إحداهما، ثم زعم أنه نسي من نواها.
__________
(1) في الأصل رسمت هكذا: سودا كنا فيه.
(2) في الأصل: ذكرناها.

(14/269)


9240 - ولو ذكر في مجلس الحكم صورة الحال، وكانت المرأتان لا تدعيان الطلاق إلا من جهة التعليق في مسألة الطائر، فتقدمت امرأة كان علق طلاقها بكون الطائر غراباً، [فقد ادعت] (1) أن الطائر الذي علق الطلاق به كان غراباً، فهذه الدعوى يجب أن يجيب عنها؛ فإن التنازع محصور في صفة الطائر.
فالذي أراه أن الزوج ينفي كونه غراباً جزماً؛ فإن الاطلاع على جنس الطائر ممكن، وهو من قبيل الإثبات الذي حقه أن يحلف عليه جزماً، فإن ادعى الجهل، جُعل منكراً ثم ناكلاً، وتُعرض اليمين الجازمة على المدّعية. وإن كان الشيء في جنسه مما يفرض الاطلاع عليه، فلا ننظر إلى تفاصيل الصور، وهذا كما أنا إذا جعلنا اليمين على نفي فعل الغير على [نفي] (2) العلم، فلا نغيّر هذا الأصل بتصوّر الإحاطة بالنفي في بعض الصّور.
فإن قيل: نفي كون الطائر غراباً ليس بإثبات. قلنا: كم من نفي يجب أن يكون اليمين عليه جزماً، وإنما تكون اليمين على نفي فعل الغير على [نفي] (3) العلم فحسب، ونفي صفةٍ في طائر كإثبات صفة فيه، وسبيل العلم في البابين على نسق واحدٍ.
فهذا ما أراه في ذلك.
وبالجملة ما يفرض من إشكالٍ في ذلك بمثابة ما لو قال الزّوج: نسيت ما نويت، ولا ينفع الزوج ذلك، وإن كان ما يدّعيه ممكناً.
فهذا منتهى الغرض في ذلك.
9241 - ومما نذكره في [الاختلاف] (4) أنه لو وقع الإبهام بين الطلاق والعَتاق، كما صورناه في جاريةٍ وزوجةٍ، فإن قال: حَنِثْتُ في العتق عَتَقت، وبقيت الدعوى للمرأة؛ فإن حلف الزوج، أنه لم يحنَث في طلاقها، انفصلت الخصومة، وإن
__________
(1) في الأصل: "فقال: أدعي" وهو تحريف لا يستقيم معه الكلام، والمثبت تصرّف من المحقق.
(2) زيادة اقتضاها السياق.
(3) زيادة اقتضاها السياق.
(4) في الأصل: اختلاف.

(14/270)


نكل، رُدت اليمين على المرأة. ولو قال: لا أدري، لم نقنع منه بهذا، كما تقدّم ذكره.
ولو كان علق عتق عبيدٍ وطلاقَ نسوةٍ على الإبهام، فادّعت واحدة من النساء الحِنْث، فنكل الزوج، وحلفت، ثبت طلاقُها، ولم يثبت طلاقُ صواحباتها، وإن كان اليمين بطلاقهن والحِنْث لا يتبعّض، ولكن إنما ثبت الحنث باليمين ويمينُ واحدةٍ لا يثبت في حق الغير، وهذا كما لو مات رجل وخلّف ابنين، وكان له على إنسانٍ دين، فلو أقام أحدهما شاهداً وحلف معه ثبتت حصته من الدّين، ولم تثبت حصة أخيه، وهو على دعواه، ولو أقام أحد الابنين شاهدين، ثبت جميع الدّين في حق الأخوين، وهذا واضح.
ولو قال الزوج: إن دخلتُ الدار فأنتن طوالق، فادعت المرأة أنه دخل الدار وعرضنا اليمين عليه فنكل، فحلفت تلك المدعية، طلقت، ولم تطلق صواحباتها؛ لما ذكرناه.
وقد يعترض للإنسان أن الطلاق يتعلق بحق الله، ولكن حق الله لا يثبت في حق الغير بيمين الغير أيضاًً، وإذا كانت الدعوى تتوجه والخصومة تَتَرتّبُ تحليفاً ورداً، فالأصل الثابت الذي لا مراء فيه ما ذكرناه من أن اليمين لا تُثبت شيئاً في حق غير الحالف.
9242 - ومن بقية الكلام في الاختلاف أن الذي أبهم الطلاق إذا مات، فقد ذكرنا أن الوارث هل يقوم مقامه في البيان، فإن قلنا: لا يُقبل بيانه، فلا تتوجه عليه الدّعوى؛ فإنه بمثابة الأجنبي في القول الذي نفرّع عليه.
وإن قلنا: إن بيانه مقبولٌ، فإن كان لا يتعلق به حقّ وغرض، ورأينا قبولَ قوله في بعض الطرق، وذلك مثل أن يموت الزوج ويخلّفَ زوجتين قد أبهم بينهما طلقةً مُبينةً، فلو امتنع عن البيان، فلا تتوجه عليه الدعوى منهما؛ فإنه لا يتعلق بعين واحدةٍ منهما [غرضه] (1) بوجهٍ.
__________
(1) في الأصل: "بغرضه".

(14/271)


وإن كانت المسألة مفروضةً حيث يتعلق الأمر بغرضه مثل أن يكون الإبهام في عتق عبدين، فتتوجّه الدّعوى على الوارث، ثم [إن] (1) ادعى أحدهما أن أباه حَنِث، فإنه يحلف على نفي العلم: "بالله لا يعلم أن أباه حَنِث" ثم لا يخفى تمام الخصومة، لو فرض النكول والردّ.
فهذا تمام المراد، ثم ما لم نذكره لا يخفى قياسه، فلم نر المزيد على هذا.
وإذا كان الإبهام بين العتق والطلاق، ومات المبهِم وقلنا: تعيين الوارث مقبول، فإذا زعم أنه كان حَنِثَ في الطلاق، قُبل قوله، وللمرأة أن تحلِّفه، فيحلف على الإثبات أن أباه حَنِث في الطلاق.
ثم للعبد أن يحلّفه، فيحلف بالله: لا يعلم أن أباه حَنِث في عتقه؛ فإن اليمين في حقه متعلقة بنفي فعل الغير، وهذا جارٍ على الأصل الذي مهدّناه.
وقد نجز ما أردناه في ذلك والله المستعان.
فروع متعلقة بالباب:
9243 - إذا أشار الرجل إلى امرأته وأجنبية، وقال: إحداكما طالق، ثم ادّعى أنه أراد بذلك الأجنبية، فهل يصدق في ذلك؟ اختلف أصحابنا في المسألة، فذهب الأكثرون إلى أنه يصدّق فيما يدعيه؛ فإن قوله إحداكما صريح في الترديد بينهما.
ومن أصحابنا من قال: يقع الطلاق على زوجته، فإنه أرسل الطلاق بين أجنبية ليست محلاً لطلاقه، وبين زوجته، فينزل الطلاق على التي هي محل الطلاق، ويلغو موجبُ الترديد، وهو كما لو أوصى بطبلٍ من طبوله، وله طبل حربٍ وطبولُ لهو، فالوصية تنزل على طبل الحرب؛ فإنه محل الوصية الصّحيحة، والطلاق أولى بالنفوذ من الوصية.
ومما ذكره الأصحاب متصلاً بهذا أن الزوج إذا قال: زينب طالق، وكانت زوجته تسمى زينب ثم قال: أردت بذلك جارتي وهي زينب، فالأكثرون من الأصحاب
__________
(1) زيادة من المحقق، مع أنها ساقطة أيضاًً من صفوة المذهب: جزء (5) ورقة: 30 يمين.

(14/272)


صاروا إلى أن الطلاق واقع، ولا يُقبل حمله إيّاه على الجارة؛ فإن الطلاق لا يردّ، ولا يحمل على [اللغو] (1).
ومن أصحابنا من قال: يقبل ذلك؛ فإن لفظه محتمل له، والأصل بقاء النكاح ومال إلى اختيار ذلك القاضي، وهذا التردد في الظاهر.
فأما من أنكر قبول قوله ظاهراً لا (2) يُنكر أن الطلاق لا يقع باطناًً بينه وبين الله إذا صُدِّق.
والجهل لا يمنع وقوعَ الطلاق بلا خلاف، فلو كان نسي أن له زوجة، فقال: زوجتي طالق، طلقت.
ولو أشار إلى عبدٍ لأبيه وقال: أعتقتك، ثم تبين له أنه كان قال هذا وأبوه قد مات والعبد رجع إليه ميراثاً، فالعتق نافذ.
فرع:
9244 - إذا أبهم طلقة مُبينة بين امرأتين، فيلزمه البيان أو التعيين، كما مضى تفصيله، ولو أبهم طلقةً رجعيّة بينهما، فهل يلزمه أن يُبيِّن أو يعيّن، فعلى وجهين: أحدهما - لا يلزمه؛ فإن الرجعيّة زوجة.
والثاني - يلزمه؛ فإنها محرّمة، والحيلولة مستحقة بالطلاق الرجعي، والأصح الأول. والله أعلم.
فرع:
9245 - إذا طار طائر، فقال زيد: إن كان غراباً فعبدي حر، وقال عمرو: إن لم يكن غراباً فعبدي حر، فلا نحكم بعتق واحد منهما، كما تقدم ذكره، فلو اشترى أحدهما عبد الثاني، فالشراء صحيح، ولكن إذا اجتمع العبدان في ملكه؛ فلا شك أن أحدهما في معلوم الله حر، وإنما كنا لا نحكم بهذا لتعدد المالكَيْن وتعذر
__________
(1) في الأصل: "ولا يحمل على موجب العادة" والمثبت من المحقق على ضوء عبارة ابن أبي عصرون، وهي: "فإن الطلاق لا يردّ، ولا يلغو"
وربما كان صوابها: "فإن الطلاق لا يردّ، ويحمل على موجب العادة" أي أن العادة لا تجري بتطليق الرجل زوجة جاره.
(2) جواب (أما) بدون الفاء.

(14/273)


جمع الخطاب وهما متفرقان، فإذا اجتمع العبدان، في ملكٍ واحد منهما، فهما في حقه مجتمعان الآن، وهو مخاطب واحد.
وقد ذكر صاحب التقريب وجهين بعد التنبيه لما ذكرناه: أحدهما - أنهما إذا اجتمعا في يده وتصرّفه، فيوقف عنهما جميعاًً إلى أن يتبين الأمر، ويصير بمثابة ما لو كان العبدان جميعاًً في ملكه أو لا، فقال: إن كان هذا الطائر غراباً، فعبدي سالم حرّ، وإن لم يكن غراباً، فعبدي غانم حرّ، [وهوى] (1) الطائر وأشكل الأمر، وهذا أصح الوجهين، وقد قدّمت ذكره.
والوجه الثاني - أن يده لا تُقبض عن التصرّف في عبده الأوّل؛ لأن الحكم فيه هكذا جرى، فلا نغير الحكم المتقدم، وإنما نمنعه من التصرف في عبده الذي اشتراه، فإن هذا عبد جديد، فنجدّد فيه حكم الوقف، ثم لا نقطع في العبد الثاني بالحرية، ولكن نقفه عن التصرّف فيه إلى أن يبين حقيقة الأمر، والوجه الأول أقيس.
والله أعلم.
...
__________
(1) في الأصل: وهو.

(14/274)


باب الهدم
9246 - إذا طلق الرجل الحرّ زوجته ثلاثاً أو استوفى العبدُ ما يملك، فطلّق زوجته طلقتين، حرمت الزوجة وحرم نكاحُها، ثم يمتدّ تحريم النكاح إلى التحليل، كما قدمنا وصفه في الأبواب المتقدمة، وقد أطلق الفقهاء أن وطء الزوج المحلِّل يهدم الطلقات الثلاث، وترجمة الباب توافق هذا، وهذا فيه استعارة وتجوّز؛ فإن الطلاق بعد وقوعه لا يتصور هدمه، ولكن الطلاق الواحد والاثنين في حق الحر لا يحرِّم عقدَ النكاح، بل إن كان رجعياً، لم يخف حكمه، وإن كان مُبيناً، فلا بدّ من نكاح جديد، وإن استوفى ما يملك من الطلاق، تعلّق باستيفائه تحريمُ النكاح، ثم هو في التوقيف ووضع الشرع ممتد إلى اتفاق التحليل والتخلّي من الزوج المحلل، ثم يقال: انقضت الطلقات الثلاث، وانتهى حكمها، وصارت المرأة إذا نكحها الأول بمثابة أجنبية ينكحها الرجل ابتداء، فيملك عليها ثلاث طلقات.
ثم أطلق الفقهاء الهدم وعنَوْا به أنها تعود بثلاث طلقات، ولم يُريدوا أن تلك الطلقات الواقعة تُهدَم بعد وقوعها وتزول؛ إذ لو زالت، لعادت المرأة منكوحةَ الأول من غير احتياج إلى نكاح جديد.
ولو طلق امرأته طلقةً أو طلقتين، ولم يستوف العددَ، فانسرحت المرأة ونكحت وأصيبت، ثم تخلّت، ونكحها الأول؛ فإنها تعود إلى الأول ببقية الطلاق عندنا وعند محمد، وقال أبو حنيفة (1): إذا نكحت ووطئها الزّوج، ثم تخلّت عن النكاح والعدة ونكحها الأول عادت إليه بثلاث طلقات، والمسألة مشهورة في الخلاف.
__________
(1) ر. مختصر اختلاف العلماء: 2/ 409 مسألة 914، رؤوس المسائل: 420 مسألة 292، المبسوط: 6/ 95، طريقة الخلاف: 100 مسألة 42، إيثار الإنصاف: 162، الغرة المنيفة: 160.

(14/275)


وقد نجزت المسائل المنصوصة في (السواد) (1) وما يتصل بها.
وهذا الكتاب من بين الكتب كثير الفروع والشعب؛ فإنه مبني على الألفاظ، ولا نهاية لما ينطق الناطقون به تنجيزاً وتعليقاً، وينضم إلى دَرْك الصيغ أمورٌ تتعلق بالعادات، والحاجة تَمس إلى الإحاطة بحقيقتها ضمّاً إلى دَرْك الألفاظ، ونحن لا نألوا جهداً في الإتيان بها والتنبيه على ضوابطَ فيها، وتقرير أصولٍ تهدي إلى المراشد فيما نذكره، وفيما ينسلّ عن ذكرنا وحفظنا، ونحرص أن نُجري الفروع مصنفةً، ونذكرها صنفاً صنفاً وما لا يدخل تحت ضبط التنويع نجمعه في مسائل شتى، وإلى الله الرغبة في التوفيق، وهو بإسعاف راجيه حقيق.
فروع في تعليق الطلاق بالحيض:
9247 - إذا قال لامرأته: إن حضت، فأنت طالق، اقتضى ذلك حيضةً مستأنفة، حتى لو كانت في خلال حيض، لم تطلق في الحال؛ حتى تطهر ثم تحيض، والسبب فيه أن الشرط يستدعي استئنافاً، وبقية الشيء لا تكون استئنافاً فيه لساناً وعرفاً، حتى لو قال لامرأته والثمار مُدركةٌ إذا أدركت الثمار، فأنت طالق، اقتضى ذلك إدراكاً مستأنفاً يأتي في العام القابل.
ثم إذا رأت دماً مستأنفاً، لم نحكم بوقوع الطلاق، وإن كان على ترتيب الأدوار؛ فإنه قد ينقطع دون أقل الحيض ويكون دمَ فسادٍ، والطلاق معلق بالحيض، فإذا استمر الدم المسبوق بطهرٍ كامل يوماً وليلةً، تبينا أنه دم حيضٍ، ثم الطلاق يتبين وقوعه مستنداً إلى أول جزءٍ من الدّم؛ [فإنّا] (2) تحققنا آخراً أن ما رأته أولاً دمُ حيضٍ وتوقُّفنا، كان لنتبين.
ويعترض في ذلك أنها إذا رأت الدّم، فهل يجب اجتنابها في الاستمتاع ناجزاً؟ هذا بمثابة ما لو قال: إن لم تكوني حاملاً، فأنت طالق، وقد ذكرنا في ذلك بياناً كافياً.
__________
(1) السّواد: المراد مختصر المزني، كما أشرنا مراراً من قبل.
(2) في الأصل: فأما.

(14/276)


9248 - ثم إذا قالت المرأة -وقد علّق الطلاق بحيضها-: "قد حضت"، فالقول قولها مع يمينها، ولو كذّبها الزوج، فلا معتبر بتكذيبه.
والذي عليه التعويل في ذلك يبينُ بتقسيمٍ: فإن علق الرجل طلاق امرأته بأمرٍ يظهر ويُتَصور إثباته بالبينة مثل أن يقول: إن دخلت الدار، فأنت طالق،. فإذا زعمت أنها دخلت، وأنكر الزوج دخولها، لم نصدقها، ولم نقض بوقوع الطلاق حتى يَثْبت الدخول بالبينة.
ولو قال: إن حضتِ، فأنت طالق، فقالت: "حضتُ"، صُدّقت مع يمينها، وقال الفقهاء: النساء مؤتمنات في أرحامهن، وزاد زائدون بياناً وقالوا: لا يتبين الحيض إلا من جهتها؛ فإن الدّم في عينه، وإن رُئي، فلا يمكن القضاء عليه بكونه حيضاً، ما لم تخبر بترتيبٍ في أدوارها، يقتضي ذلك كونَ ما تراه حيضاًً.
فهذا ما ذكره الأصحاب ووراءه كلام يأتي الشرح عليه، إن شاء الله.
ولو قال لامرأته: إن زنيتِ، فأنت طالق، فزعمت أنها زنت، فالمذهب الذي عليه التعويل أنا لا نحكم بوقوع الطلاق؛ من جهة أن الزنا يفرض الاطلاع عليه لا من جهتها.
وقال بعض أصحابنا كل عملٍ خفيٍّ لا يفرض الاطلاع عليه، فهي مصدقة فيه، والزّنا منه، وهذا حائد عن التحقيق غيرُ معدودٍ من المذهب.
ولو قال الرجل لامرأته: إن أضمرتِ بُغضي، فأنت طالق، فزعمت أنها أضمرت، وقع الطلاق، وإن اتُّهمت، حُلّفت؛ إذ لا مطّلع على مكنون الضمائر إلا من جهات أصحابها، فلا وجه إلا أن نصدقها، وهذا أصل جارٍ في القصود والنيات المعتبرة.
9249 - وما ذكره الأصحاب من الفرق بين الأفعال التي يتطرق إليها إمكان الإثبات وبين ما لا يُعلم إلا من جهة المرأة يكاد يوافق مذهب مالك (1) في ادعاء المودَع التلف، فإنه قال: إن ادعى سبباً جلياً يظهر مثله ويتأتى في الغالب الإشهاد عليه، فلا يقبل
__________
(1) ر. حاشية الدسوقي: 3/ 430، جواهر الإكليل: 2/ 141.

(14/277)


قوله، وإن ادعى سبباً خفياً يعسر الإشهاد عليه، فيصدّق حينئذٍ.
وعندنا لا فرق في المودَع إذا أمكن صدقه، وذلك الكتاب مبني على أن صاحب الوديعة [يحُل] (1) محلَّ المؤتمنين في إيداعه، فكان التزامُ تصديقه فيما يمكن صدقه [فيه] (2)، ولم يوجد من الزوج ائتمان المرأة في جليّ ولا خفيّ، فامتاز هذا بوضعه عن المودَع وقياسِه، وبان أنا إنما نُصدّق المرأة في ذكر الحيض، والإعرابِ عن معنىً في الضمير يفرض متعلَّقاً للطلاق؛ من جهة أن كل معلِّقٍ [بصفةٍ، فقضيةُ] (3) كلامه إمكان وقوع الطلاق عند وجود الصفة؛ فإن من ضرورة التعليق ترديد الأمر، فإذا كان [لا مطَّلِع] (4) على ما جعله متعلَّقَ الطلاق إلا من جهتها، وهي في التقدير مكذَّبة، فكيف الوقوع [ونفسُ] (5) تعليقه -وما به التعليق لا يأتي إلا من جهتها- في حكم الالتزام لتصديقها. وهذا أظهر من التزام المودِع تصديق المُودَع؛ فإن ذلك المعنى [لا يستدّ] (6) في ذلك الكتاب ما لم يُعضَّد بمصلحة الإيداع، كما قرّرناه في موضعه.
9250 - وممّا يتعلق بهذا الأصل أنه لو قال لإحدى امرأتيه: إن حضت، فَضَرّتك طالق، فإذا زعمت أنها حاضت، لم نحكم بوقوع الطلاق على ضَرَّتها، وإنما تُصدّق في حق نفسها إذا علق طلاقها بحيضها، وهذا يكاد يخرِم ما مهدّناه من قولنا: لا يُطَّلع على الحيض إلا من جهة المرأة، ويعترض أيضاًً على ما ذكرناه عَضُداً للكلام، إذا (7) قلنا: التعليق يتضمن إمكان وقوع الطلاق على الجملة.
وسبيل الجواب عما نبهنا عليه أن المرأة إذا علق طلاقها بحيضها، فليست مصدَّقةً من غير يمين، وكلُّ مؤتمن، فمعنى ائتمانه الاكتفاءُ بيمينه، ثم تحليفها ممكن في حق نفسها، وإذا علق طلاق الضَّرّة بحيضها، فإن لزم تصديقُها من غير يمين، كان بعيداً،
__________
(1) في الأصل: (احمل).
(2) في الأصل: منه.
(3) في الأصل: "معلق بصيغة كلامه"، والمثبت تصرّف من المحقق على ضوء السياق.
(4) في الأصل: لا يطلع.
(5) في الأصل: فنفس.
(6) في الأصل: يستمرّ.
(7) إذا:: بمعنى (إذ).

(14/278)


فإنه إثبات الطلاق من غير حُجّة، وإن حلفت، كان تحليفها لغيرها -ولا تعلّق للخصام بها- محالاً.
وقد يرد على هذا ما يتم البيان بالجواب عنه، وهو أن الرجل إذا قال لامرأته: إن حضت، فأنت وضرتك طالقان، فزعمت أنها حاضت، فهي مُصدّقة مع يمينها، والطلاق واقع عليها، ولا يلحق ضَرَّتَها وإن ثبت حيضها بيمينها المرتبطةِ بخاصّتها، والجواب أن اليمين وإن اشتملت على حق الحالف وحق غيره، فإذا ثبت حقُّ الحالف، لم يثبت حقُّ غيره؛ إذ الأيْمان بعيدةٌ عن قبول النيابة، وعن إثبات الحقوق لغير الحالفين.
ولو مات رجل وخلّف ابنين ودَيْناً، فادعى أحد الابنين الدين، وأقام شاهدين يثبت بالبينة حقُّه وحقُّ أخيه، ولو أقام شاهداً واحداً، وحلف معه، لم يثبت من الدّين إلا حصتُه، وإن تعرّض في اليمين لواقعةٍ يشتمل ذكرها على تمام الدين.
فهذا قاعدة الفصل.
9251 - وإذا قال: إن حضت حيضةً، فأنت طالق، اقتضى ذلك حيضةً تبتدئها وتختمها بخلاف ما لو قال: إن حضت، فأنت طالق، فإنا نحكم بوقوع الطلاق مع أول جزءٍ من الحيض إذا تبيّناه باستمرار الدم يوماً وليلةً.
وإذا قال: إن حضت حيضةً، اقتضى ذلك حيضة كاملةً، ثم الطلاق يقع مع انقضاء الحيضة؛ فإنه متعلَّق الطلاق.
وإذا قال لامرأتيه: إن حضتما فأنتما طالقان، فلو حاضت إحداهما لم تطلق الحائض، ولا صاحبتها؛ فإنه علّق الطلاقين على الحيضين، فلا وقوع ما لم تحيضا.
ولو قال: إن حضتما حيضةً، فأنتما طالقان، فللأصحاب وجهان: أحدهما - لا يقع على واحدة، وإن حاضتا؛ لأن مُطْلَقَ هذا اللفظ يقتضي أن تحيضا حيضةً واحدةً، وهذا مستحيل؛ فإنهما إذا حاضتا، فالصادر منهما حيضتان، فكأن الطلاق معلّق بمستحيل.

(14/279)


والوجه الثاني - أنه يقع، لأن حمل قوله: "حيضة واحدة" على حيضةٍ واحدةٍ من كل واحدة ممكن، وإذا أمكن تنزيل اللفظ على ممكن له تصوّر، وجب حمل اللفظ عليه، فإن مبنى النطق على ألا يُلغى ما أمكن استعماله، وهذا قطب في الكتاب، فليتنبه المرء له، وهو إذا تردّد اللفظ (1) على وجه يحتمل استحالةً ويحتمل إمكاناً، فمن الأصحاب من لا يُبعد الحملَ على الاستحالة؛ حتى لا يقع الطلاق، ومنهم من يوجب الحمل على الإمكان حتى لا يلغو اللفظ؛ فإن التعرض للاستحالات يكاد أن يكون كالهزل، وهَزْلُ الطلاق جدّ. وعن هذا قال قائلون: الطلاق المعلَّق بالاستحالة على التصريح يتنجز ولا يتعلق.
ومن الأصل الذي نبهنا عليه قول القائل لامرأته وأجنبية: "إحداكما طالق"، فإذا زعم أنه أراد الأجنبية، فهو من فنّ الحمل على المحال، وفيه التردد الذي ذكرناه في فروع باب الشك.
وإذا قال لامرأتيه: إن حضتما، فأنتما طالقان، فقالتا: حضنا، نظر: فإن صدّقهما، طُلِّقتا، وإن صدق إحداهما وكذَّب الأخرى، طُلقت المكذَّبة (2)، لأن صاحبتها مصدّقة وقولها في حق نفسها مقبول.
هذا ما ذهب إليه جماهير الأصحاب، ووجهه ما نبهنا عليه من أن المكذَّبة مصدّقة في حق نفسها، والمصدّقة يثبت حيضها بتصديقها، وأما المصدَّقة، فإنها لا تطلق؛ فإن حيضها وإن ثبت في حقها، فحيض المكدَّبة لا يثبت في حقها، فلم تطلق المصدَّقة؛ من جهة أن حيض المكذَّبة غيرُ ثابت في حقها.
وإذا كذبهما لما قالتا: حضنا، لم تطلق واحدة منهما: هذه لا تطلق؛ لأن حيض صاحبتها مردود في حقها، والأخرى لا تطلق بمثل هذه العلة.
__________
(1) في الأصل: إذا تردد اللفظ له على وجه يحتمل استحالة ...
(2) تطليق المكذَّبة؛ لأنه وقع الحيضان، حيضُها بإقرارها -فيما لا يعرف إلا من جهتها- وبحيض صاحبتها.
وعدم تطليق المصدَّقة؛ لأنه لم يقع الحيضان بالنسبة لها، فهي مصدّقة في حيضتها، أما صاحبتها، فلا اعتداد بحيضها وقد كُذِّبت.

(14/280)


9252 - وإذا قال لأربع نسوة: إن حضتن، فأنتن طوالق، وقلن: حضنا، فإن صدّقهن، طلقن وإن كذبهن، لم تطلق واحدةٌ منهن، لا لأنها مكذبة في حق نفسها، ولكن لأن طلاق واحدة لا يقع ما لم يثبت حيض الجميع، وحيض صواحبات كل واحدة لا يثبت في حقها، وظهور ذلك يغني عن الإطناب فيه.
وإن صدّق واحدةً منهن وكذب ثلاثاًً، فلا تطلق واحدة، وتعليله ما مضى، وكذلك إن صدّق ثنتين وكذّب ثنتين، وإن صدّق ثلاثاًً وكذّب واحدةً، طلقت المكدَّبة، لأنها مصدَّقة في حق نفسها، وقد ثبت حيض صاحباتها بتصديق الزوج، ولا يطلق المصدقات، ولا واحدة منهن؛ لأن حيض المكذَّبة لا يثبت في حقوقهنّ.
وإذا تمهدت الأصول، وجب الاكتفاء في التفريع بالمرامز.
9253 - فإذا قال: إن حاضت واحدة منكن، فصواحباتها طوالق، فإذا حاضت واحدة، لم تطلق الحائض، وطلقت صواحباتها، طلقة طلقة، وقد ذكرنا أنه لو كذب هذه، لم تطلق صواحباتها.
فإن قيل: كيف يصدقها ولا حجة؛ فإنها لا تحلف في حق الغير لو كُذّبت، ولا يعلم الزوج صدقَها قطعاً، والطلاق لا يقع من غير تثبّتٍ، وإن قيل إقرار الزوج يُلزمه موجَبَ قوله، فكل إقرار له مستند، فما مستند إقرار الزوج، وهو لم يتعرض لإقرار مرسلٍ بوقوع الطلاق، وإنما قال: "صُدِّقت في ادّعاء الحيض".
وهذا السؤال له وَقْعٌ؛ إذ لو قال الزوج: سمعتها، وأنا أجوّز أن تكون صادقةً وكاذبةً، ويغلب على ظنّي صدقُها، فلو لم يذكر إلا هذا، لم نحكم بوقوع الطلاق، وإذا قال: صدقتِ، فلا مستند لتصديقها إلا هذا، وقد قال الشافعي: إذا اعترف السيّد بوطء أمتهِ، ولم يدع استبراءً، لحقه النسبُ، فإنه لو استلحقه، لم يُسنده إلى ما ذكرنا، فلا جرم جعل الشافعي الإقرار بالوطء استلحاقاً؛ إذ الاستلحاق معناه الإقرار بالوطء. فهذا نهاية السؤال.
وقد سمعت بعض أكابر العراق يحكي عن القاضي أبي الطيب (1) أنه حكى عن
__________
(1) القاضي أبو الطيب الطبري. سبقت ترجمته.

(14/281)


الشيخ أبي حامدٍ (1) تردداً في الحكم بوقوع الطلاق إذا لم يكن للتحليف وجهٌ، فأما إذا حلفها، والمعلّق طلاقها، فاليمين حجّة، وحجج الشريعة مناط الأحكام، وينتظم منه [أنه] (2) إن اكتفى بتصديقها ولم يُحلِّفها، فالحكم بوقوع الطلاق مشكلٌ كما ذكرناه.
وهذا نقلتُه وأسندتُه، ولست أعتمد ذلك؛ فإن المعتمد ما أطبق الأصحاب عليه، وقد تتبّعت طرقاً منقولةً عن الشيخ أبي حامدٍ، فوجدتها عريّةً عن ذلك.
وسبيل دفع السؤال أن جواز الحلف قد يستند إلى مخايلَ وأحوالٍ دالةٍ على الصّدق؛ حتى جوّرنا للمرأة أن تحلف على نية الزوجِ الطلاقَ، ولا مستند ليمينها إلا مخايلُ تتبيّنها من قصده، ولا قطعَ؛ إذ لو كانت تيك المخايلُ تورث قطعاً، لما صُدِّق الزوج في أنه لم ينو الطلاق، فإذا كان مثل هذا مستند الحلف، والحلفُ حجة، فإذا استند الإقرار إليه كيف لا نحكم به، وإنما ذكرت السؤالَ والجوابَ، ونَقْلَ التردد، حتى نُرسِّخ التنبه لما ذكرته في قلب الناظر.
9254 - ولو قال: أيتكن حاضت، فصواحباتها طوالق، فقلن: "حضنا". إن كذَّبهنّ، لم تُطلَّق واحدةٌ منهنّ، وإن صدّقهنّ، طُلّقن ثلاثاًً ثلاثاًً؛ لأن لكل واحدة منهن ثلاثَ صاحبات، فتأتيها ثلاثُ طلقات من جهاتهنّ.
وإن صدّق واحدةً، طلقت صواحباتها طلقة طلقةً بلا مزيد، ولم تطلق المصدَّقة.
وإن صدق ثنتين، طلقت كل واحدة من المصدّقتين طلقةً لأن لها صاحبةً مصدَّقةً، فتأتيها من جهة صاحبتها طلقة، وطلقت المكدَّبتان طلقتين طلقتين؛ لأن لكل واحدة منهما صاحبتين مصدّقتين، وإن صدّق ثلاثاًً وكذّب واحدة، طُلقت المكذَّبة ثلاثاًً؛ إذ لها ثلاث صاحبات مصدَّقات، فتأتيها من جهاتهن ثلاث طلقات، وتطلق كل واحدة من المصدَّقات طلقتين؛ لأن لكل واحدة صاحبتين مصدّقتين.
فهذا بيان أصول هذه الفروع والإرشاد إلى كيفية تفريعها.
__________
(1) الشيخ أبو حامد الإسفراييني. سبقت ترجمته.
(2) زيادة اقتضاها السياق.

(14/282)


فروع في تعليق الطّلاق بالولادة.
9255 - قد قدمنا الأصلَ المقصود في ذلك فيما سبق، فإن عاد فيما نجدّده بعضُ ما سبق احتُمل، فلو قال لأربع نسوةٍ: إن ولدتنّ فأنتن طوالق، فلا تطلق واحدة ما لم تلدن.
ولو قال: كلما ولدت واحدة منكن، فأنتن طوالق، فولدت واحدة، طلقت الوالدة طلقةً، وطلقت صواحباتها طلقة طلقة؛ فإن الولادة متحدة بعدُ، فإذا ولدت الثانية وقد كانت في العدّة عن الطلقة التي لحقتها، انقضت عدتها في الجديد، ولم تلحقها طلقة أخرى، والأُولى لما ولدت وطلِّقت استقبلت العدة بالأقراء، وإذا كانت في بقية من عدتها، فتلحقها بولادة الثانية طلقة ثانية، والثالثة والرّابعة تلحقها طلقتان.
هذا الذي ذكرناه في الثانية تفريعٌ على الجديد، وإن فرعنا على القديم، قلنا: يلحقها أيضاًً طلقة ثانية، وتستقبل العدة بالأقراء، وهذا قولٌ لا ينقدح لي توجيهه، وقد نقلت ما قيل فيه.
فإذا ولدت الثالثة، انقضت عدّتها في الجديد عن طلقتين، وطلّقت الأولى الطلقة الثالثة إن كانت في بقية العدة، وتطلق الرابعة ثلاثاً، وفي القديم تطلق الثالثة الطلقة الثالثة، وتستقبل الأقراء، وتلحق الطلقةُ الثالثةُ الثانيةَ.
ومهما فرضت ولادة في مطلَّقة جاريةٍ في العدة، والطلاقُ يتعلق بالولادة، فالقول الجديد مقتضاه انقضاء العدة، والانسراح وعدم لحوق الطلاق، والقول القديم مقتضاه وقوع الطلاق واستقبال العدة بالأقراء.
وهذا في الولادة المبرئة للرحم، وقد مهدنا هذا فيما تقدم.
9256 - وإذا قال: كلما ولدتْ واحدةٌ منهن فصواحباتها طوالق، فولدت واحدة، طُلقت صواحباتها طلقة طلقة، فإذا ولدت الثانيةُ -والتفريع على الجديد، ولا عَوْد إلى القديم- انقضت عدّتها عن طلقةٍ، ووقعت على الأولى طلقة، وكملت للثالثة والرابعة طلقتان، فإذا ولدت الثالثة، انقضت عدّتها من طلقتين وكملت للأولى

(14/283)


طلقتان، والرابعة ثلاث؛ فإذا ولدت الرابعة، انقضت عدتها عن ثلاث وكملت للأولى ثلاث إن كانت في بقية العدة.
وإن ولدت ثنتان منهن دفعةً، ثم ثنتان دفعة، وقعت على كل واحدة من الأوليين طلقة من جهة صاحبتها. وعلى كل واحدة من الأُخريين طلقتان بولادة الأوليين، إذ تأتي كلَّ واحدة منهما طلقتان من الولادتين، فلما ولدت الأخريان، وقع على كل واحدة من الأوليين -على تقدير بقاء العدة- طلقتان أخريان، فتكمل الثلاث في حق كل واحدة من الأوليين، ولم يقع على الأخريين بولادتهما شيء في الجديد؛ لأنهما ولدتا معاً، فصادف آخر انقضاء العدة في كل واحدة من الأخريين ولادة الأخرى، وإذا وجدت صفة الطلاق في حال انقضاء العدة، فلا فرق بين أن تكون تلك الصفة ولادة غيرها وبين أن يكون ولادتها.
فهذا بيان هذه الفروع ومنشؤها، وما لم نذكر منها، فالمذكور مرشد إليه.
فروع في المسائل الدائرة:
9257 - إذا قال الرجل لامرأته: إذا طلقتك، فأنت طالق قبله ثلاثاًً، فطلقها، لم يقع عند ابن الحداد، ومعظمِ الأصحاب، وهذا مما يجرُّ ثبوتُ الطلاق فيه سقوطَه، وإذا كان كذلك، استدارت المسألة، وسقطت من أصلها؛ لأنّا لو أوقعنا الطلقة الّتي نجزها، للزمنا أن نوقع ثلاثاًً قبلها، ولو وقعت الثلاث قبلها، لامتنع وقوع هذه المنجّزة، وإذا امتنع وقوعها، امتنع وقوع الثلاث قبلها، فهذا معنى دورانها.
وذهب الشيخ أبو زيد إلى أن الطلقة المنجّزة تقع، وهذا مذهب (1) أبي حنيفة، واحتج محمدٌ لأبي حنيفة، بأن الجزاء إذا رُتّب على الشرط، ترتب عليه، ولا يترتب الشرط، على الجزاء في وضع الكلام، فيجب على هذا المقتضى تحقيقُ الشرط، والنظر في الجزاء، فإن أمكن إمضاؤه أُمضي، وإن كان من عُسرٍ، انحصر على الجزاء، فأما أن ينعطف الجزاء على الشرط، فبعيد عن وضع الكلام، وتمسك أبو زيد باستبعاده في انسداد باب الطلاق.
__________
(1) ر. فتح القدير: 3/ 371.

(14/284)


وهذا ليس بذاك.
ووضع ابنُ الحداد هذه المسألة وذكر فيها زيادةً مستغنىً عنها، فقال: إذا [قال: " إن] (1) طلقتك طلقةً أملك رجعتك بعدها، فأنت طالق قبلها ثلاثاًً " ولا حاجة إلى التقييد بالرّجعة، فإن المسألة تدور دون ذكرها لو قال: "إذا طلقتك، فأنت طالق قبله ثلاثاًً".
وإن قال: إن طلقتك طلقة أملك رجعتك، فأنت طالق قبلها طلقتين أفادت الزيادة، ودارت المسألة، فلا تقع المنجزة، ولا المعلقة؛ فإنه لو وقعت المنجزة، لوقعت قبلها طلقتان، وتكون المنجزة ثالثة، والثالثة لا تستعقب الرجعة.
ولو أطلق فقال: "إذا طلقتك، فأنت طالق قبلها طلقتين" فإذا طلّقها طُلّقت ثلاثاً ولا دَوْر.
وإن قال لغير المدخول بها: إذا طلقتك، فأنت طالق قبلها طلقةً، دارت المسألة؛ فإنه لو وقعت المنجّزة، لوقعت قبلها طلقة، ولبانت المرأة، ثم لا تلحقها المنجّزة بعد البينونة، وتدور.
وإذا فرّعنا على القول بالدَّور وأراد الزوج أن يتّخذه ذريعةً، فليقل: إذا طلقتك، فأنت طالق قبله ثلاثاً. ثم إذا أراد طلاقاً، فليوكل؛ فإن تطليق الوكيل لا يندرج تحت تطليق الزوج.
ولو قال: مهما وقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثاً، فينحسم عليه باب التطليق والتوكيلِ (2) على القول بالدور.
وقد يلزم على مذهب ابن الحداد تصوير انسداد الطرق من كل وجه بأن يقول: "مهما وقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثاًً، ومهما فسخت نكاحكِ، فأنت طالق قبله ثلاثاً"، فلا ينفذ منه لا فسخ ولا طلاق.
9258 - ومذهب من ينكر الدورَ تنفيذُ المنجّزةِ وردُّ ما قبلها. هذا هو المشهور.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) أي: وباب التوكيل.

(14/285)


وذكر الشيخ أبو علي وجهاً على إبطال الدور أنها تطلق ثلاثاًً، قال: ثم اختلف الصّائرون إلى ذلك في وجه وقوع الثلاث، فمنهم من قال: يقع الثلاث المشروطة تقدمها، ولا تقع هذه التي أنشأها، وكأنه قال: مهما تلفظت بإنشاء طلقة، فأنت طالق قبلها ثلاثاًً، فوقوع الثلاث موقوف على لفظه، وإن كان لا يقع بلفظه طلاق منجّز.
وهذا رديء لا خروج له إلا على مذهب من يحمل اللفظَ المطلقَ على الفاسد والصحيح جميعاًً، وعليه خُرّج قول للشافعي فيه إذا أذن الرجل لعبده في النكاح، فنكح نكاحاً فاسداً ووطىء، قال في قول: يتعلق المهر بكسبه.
وهذا بعيد لا يفرّع على مثله.
قال الشيخ: وقال قائلون: تقع الواحدة التي أنشأها واثنتان من الثلاث المعلّقة.
9259 - فانتظم أوجهٌ: أحدها - الدّورُ والقولُ به، وعليه تفريع معظم الأصحاب.
والثاني - وقوع ما ينجّز؛ لأنه شرطٌ، وإبطال الجزاء.
والثالث - تكميل الثلاث، ثم له مأخذان حكاهما الشيخ، كما بيناهما.
9260 - ولو كانت المرأة غيرَ مدخول بها، فقال: مهما طلقتك، فأنت طالق قبلها، فالمسألة تدورُ على مذهب ابن الحداد، كما ذكرنا. فأما على مذهب أبي زيد فالطلقة المنجزة تقع، ومن قال ممن يخالف ابنَ الحداد في المسألة الأولى بوقوع الثلاث، فلا يوقع هاهنا أكثرَ من طلقةٍ واحدةٍ؛ فإن الطلقتين متباينتان زماناً ووقتاً، ويستحيل لحوق طلقتين كذلك بامرأة غيرِ مدخول بها، ولكن اختلف هؤلاء في أن تلحقها الطلقة المعلقة أو المنجزة، والمذهب عندهم وقوع المنجّزة.
9261 - ومن صور الدّور في العتق أن العبد إذا كان مشتركاً بين شريكين، فقال أحدهما وهو موسر: مهما أعتقتَ نصيبك، فنصيبي حرّ قبل نصيبك، والتفريع على تعجيل السّراية، فمهما (1) أعتق الشريك، لم ينفذ عتقه، فإنه لو نفذ، لنفذ عتق شريكه قبله وسرى إلى نصيبه، ثم كان لا ينفذ عتقه.
__________
(1) فمهما: "مهما" بمعنى إذا.

(14/286)


ولو ذكر كلُّ واحد منهما لصاحبه مثلَ ذلك -وهما موسران- لم ينفذ عتقُ واحد منهما.
أما أبو زيدٍ، فإنه يمنع ذلك ويشتدّ على ابن الحداد؛ فإنه استبعد انحسام الطلاق على المطلِّق، وهذا حَسْمُ الإعتاق على المالك ممّن ليس مالكاً، فكأنّ كل واحد منهما حجر على صاحبه أن يتصرّف بأقوى التصرفات في ملكه.
9262 - ومن صور الدّور في هذه الأجناس أن يقول لامرأته: إن وطئتك وطأ مباحاً، فأنت طالق قبله. فإذا وطئها، لم يقع الطلاق؛ فإنه لو وقع، لما كان الوطء مباحاً. قال الشيخ (1): وأبو زيد يوافق في هذا؛ فإن الذي نحاذره انحسامَ الطلاق وانسداد باب التصرف، وهذا لا يتحقق في تعليقٍ بفعلِ (2) واحدٍ.
ولو قال لامرأته: إن ظاهرتُ عنكِ أو آليت عنك، فأنتِ طالق قبله ثلاثاًً، فلا يصح الإيلاء والظهار على أصل ابن الحداد للدّور، وعند أبي زيدٍ يصح الإيلاء والظهار؛ فإنه سدُّ بابٍ من التصرفات، ولا يقع الطلاق قبلهما.
ومن المسائل أن يقول للرجعية: إن راجعتك، فأنت طالق قبلها ثلاثاًً، فلا يصح الرّجعة عند ابن الحداد للدّور، ويصح عند أبي زيدٍ، حتى لا يؤدي إلى حَسْم التصرف.
ومن الصور أن يكون للرجل امرأة وعبد، فيقول لامرأته: مهما دخلتِ الدار وأنت زوجتي، فعبدي حر قبل دخولك، وقال لعبده مهما دخلت الدار وأنت عبدي، فزوجتي طالق قبل دخولك، ثم دخلا معاً، لم تطلق المرأة، ولم يعتِق [العبد] (3) وتعليله بيّن، والشيخ أبو زيد لا يخالف في هذه المسألة؛ لأنه ليس فيه سدّ بابٍ.
وذكر الشيخ صوراً واضحةً، لم أر في ذكرها فائدة. ومَنْ فَقُه نفسُه (4) لا يتصور أن
__________
(1) الشيخ المراد به -كما هو اصطلاح المؤلف- أبو علي السنجي، وهو هنا يحكي عن أبي زيد قوله بالموافقة.
(2) في الأصل ضبطت بفعلٍ.
(3) زيادة من المحقق.
(4) فقه نفسه: أي صار فقيه النفس، وإمام الحرمين يجعل فقْه النفس أحد شروط الاجتهاد؛ فهو =

(14/287)


تُلقى عليه مسألة دائرة، فلا يتنبه أما من احتدّت قريحته، فإنه يبتدر فهمَ الدّور، ومن كان في دركه بطء يتبين الدّورَ إذا لم تنتظم المسألة.
9263 - ومما ذكره أن قال: من أصحابنا من حكى عن ابن سُريج أنه قال: إذا قال لامرأته: مهما (1) طلقتك طلقة أملك فيها الرّجعة، فأنت طالق ثلاثاًً، قال ابن سريج - فيما حكاه هذا الحاكي: تدور المسألة، ولا يقع المنجّز ولا المعلّق؛ لأنه لو وقع ما نَجَّز، لوقع الثلاث، وإذا وقع الثلاث، لم تثبت الرّجعة، وإذا لم تثبت، لم تقع الثلاث، فلا يقع.
قال الشيخ: حُكي عنه هذا، ونُسب إلى كتاب له يسمى "كتاب العيبة" (2) ولم ينقلوا في هذه المسألة التقييد "بما قبلُ" [فلم] (3) يقل: مهما طلقتك طلقةً أملك الرجعة، فأنت طالق (قبلها) ثلاثاًً. قال الشيخ: ابن سريج أجلّ من أن يقول ذلك، فلعلّ المنقول سقطة من كاتب أو ناقل، والمسألة لا تدور، والثلاث تقع؛ لأنه إذا طلق واحدةً، استعقبت الرجعةَ، ووقع الثلاث على الاتصال بها مترتبةً عليها، وهي التي تقطع الرجعة؛ فلا وجه في الدور.
ولكن لو قال: إن طلقتك طلقةً رجعيةً، فأنت طالق معها ثلاثاًً، فإذا طلقها، فيجوز أن تخرّج المسألة على وجهين: أحدهما - لا يقع شيء؛ لأن الثلاث تقترن بالطلقة المنجَّزة، فلا تكون رجعيةً، فتدور المسألة.
والوجه الثاني - يقع الكل على الترتيب، وإن قُيّد بالجمع.
وهذا كاختلاف أصحابنا في أنه لو قال لغير المدخول بها: إذا طلقتك، فأنت
__________
= الذي يمكن صاحبه من الإحاطة بالفقه، فيقول: "والصنف الثاني من العلوم -التي يجب على المجتهد الإحاطة بها- الفن المترجم بالفقه ... وأهم المطالب في الفقه التدرّب في مآخذ الظنون في مجال الأحكام، وهذا هو الذي يسمى فقهَ النفس، وهو أنفس صفات علماء الشريعة" (ر. الغياثي: فقرة رقم: 582).
(1) مهما: بمعنى إذا.
(2) في الأصل: الغيبة.
(3) في الأصل: لم.

(14/288)


طالق [طلقة معها طلقة] (1)، فطلقها هل يقع الطلقة المعلَّقةُ؟ فيه وجهان ذكرناهما.
وعندي أن المسألة المنقولة عن ابن سريج على وجهها؛ فإنه قال: إذا طلقتك طلقة أملك فيها الرجعة، ولا يتصوّر ملك الرجعة مع وقوع الثلاث، فلا تتحقق الصفة (2)، وإذا لم تتحقق، لم يقع [الثلاث] (3). وتحقيقُ ذلك أنه لا يفرض حال فيها رجعة [لا يصادمها] (4) وقوع الثلاث؛ فالثلاث تمنع الرّجعة ولا تقطعها، فلا وجه لاستبعاد الشيخ؛ فإنّ ما ذكره إن كان متجهاً، فما ذكره ابن سريج أو حُكي عنه لا ينحط عن وجهٍ ظاهر.
فروع متعلقة بالتعليق بصفات الأولاد والحمل
9264 - قد ذكرنا أنه لو قال لها: إن كنت حاملاً، فأنت طالق، فأتت بولد لأقلَّ من ستة أشهر، طلّقت، وإن أتت به لأكثرَ من أربع سنين، لم تطلق. وإن أتت لأقلَّ من أربع [سنين] (5) وأكثرَ من ستة أشهر، فقد تقدّم التفصيل فيه.
ونحن ننشىء الآن فروعاً تتعلق بتغايير الصيغ والألفاظ.
9265 - فإذا قال: إن كنتِ حاملاً بذكرٍ، فأنتِ طالق، وإن كنت حاملاً بأنثى، فأنت طالق طلقتين، فإن وضعت ذكراً فحسب، انقضت عدتها عن طلقةٍ؛ فإنه لم يتعلق الطلاق بالولادة، وإن وضعت أنثى فحسب، انقضت عدتها عن طلقتين، ولو وضعت ذكرين فحسب، فالطلقة واحدة، لا تزيد بزيادة الذكور، وكذا إن وضعت أنثيين، فيقع بالثنتين ما يقع بالواحدة، ولو وضعت ذكراً وأنثى، انقضت عدتها عن ثلاث؛ فإنا تبينا أنها حامل بذكر وأنثى؛ فلحقها الثلاث، ولم يتوقف [وقوع الطلاق] (6) على الولادة، حتى نقع في تفريع مصادفة وقوع الطلاق انقضاء العدة.
__________
(1) في الأصل: إذا طلقتك، فأنت طالق معه. والمثبت من تصرف المحقق.
(2) الصفة: أي الرجعة، كما صرح بذلك في صفوة المذهب.
(3) زيادة لاستقامة المعنى.
(4) في الأصل: لا يصادفها.
(5) زيادة لاستقامة الكلام.
(6) زيادة اقتضاها السياق.

(14/289)


9266 - ولو قال: إن كان حملك ذكراً، فأنت طالق طلقةً. وإن كان أنثى، فأنت طالق طلقتين، فإن وضعت ذكراً فحسب، [انقضت] (1) عدتها عن طلقة. وإن وضعت أنثى، انقضت عدتها عن طلقتين، وإن وضعت ذكراً وأنثى، لم يقع عليها شيء؛ لأن قوله: "إن كان حملك ذكراً" يقتضي أن يكون جميع حملها ذكراً، وكذلك قوله: "إن كان حملك أنثى" يقتضي كون جميع الحمل أنثى؛ فإذا كان البعض ذكراً والبعض أنثى، لم توجد الصفة في الوجهين جميعاًً، فلم يقع شيء.
ولو كانت المسألة بحالها، فأتت بذكرين لا أنثى معهما، أو أتت بأنثيين لا ذكر معهما، فقد قال القاضي: يقع الطلاق، وقوله: إن كان حملك ذكراً محمول على جنس الذكور، وقوله: إن كان حملك أنثى محمول على جنس الإناث.
وهذا ليس على وجهه عندنا، وكان شيخنا يقول: إذا أتت بذكرين، لم يقع شيء؛ فإن حملها زائد على ذَكَر، فهو كما لو أتت بذكر وأنثى، والاسم المنكور مقتضاه التوحيد في مثل ذلك، فإذا أتت بعددٍ، فصفة التوحيد غيرُ متحققة، وصار كما لو أتت بذكر وأنثى، والمسألة مفروضة فيه إذا كانت مُطْلقة، والحكم بوقوع الطلاق حملاً على الجنس في صورة الإطلاق بعيد.
نعم، إن قال: أردت الجنس، فنحكم بوقوع الطلاق للاحتمال الذي يبديه، وقد ذكرنا أن الطلاق يقع باحتمال خفيّ إذا أراده الرجل.
9267 - ولو قال: إن كان ما في بطنك ذكرٌ فأنت طالق طلقةً، ولو كان ما في بطنك أنثى، فأنت طالق طلقتين، فهو كما لو قال: إن كان حملك ذكراً وإن كان حملك أنثى. ولو قال: إن كان في بطنك ذكر، فأنت طالق واحدةً، وإن كان في بطنك أنثى، فأنت طالق ثنتين، فإذا ولدت ذكراً وأنثى، تبينا أنها طلقت ثلاثاً قبل الوضع، وانقضت عدّتها بآخر الولدين، والفرقُ ظاهر؛ فإن قوله: إن كان ما في بطنك تعبير عن جميع ما في البطن، وقوله: إن كان في بطنك لا يتضمن حصراً، ولكن يتضمن كون الذكر والأنثى، أو كونهما.
__________
(1) في الأصل: انقطعت.

(14/290)


ولو قال: إن كان مما في بطنك ذكر، فأنت طالق طلقةً، وإن كان مما في بطنك أنثى، فأنت طالق طلقتين، فهذا لا يقتضي أولاً كون جميع الحمل ذكراً أو أنثى؛ فإن كلمة (مِن) للتبعيض. ولكن لو أتت بذكرٍ، فالذي أطلقه الأصحاب أنها تطلق طلقة، وإن لم يشتمل رحمها على غيره، ولو كان في رحمها أنثى فحسب، طلقت طلقتين.
وهذا فيه بعض النظر، والوجه ألا يقع شيء إذا أتت بولدٍ واحدٍ؛ لأن (مما) مركّبٌ مِن (مِنْ وما) و (مِن) للتبعيض، فكأنّ الطلاق معلّق بالذكر إن كان بعضاً من الحمل، وإذا كان وحده لم يتحقق هذا المعنى.
وكذلك القول في الأنثى الفردة.
ولو أتت بذكرين، وقع الطلاق؛ لتحقق التبعيض، وكذلك القول في الأنثيين.
ولو قال: إن كنت حاملاً بذكر، فأنت طالق واحدة، وإن كنت حاملاً بأنثى، فأنت طالق ثنتين، فإن وضعت ذكراً، فطلقةٌ، وإن وضعت أنثى فطلقتان، وإن وضعت ذكراً وأنثى، انقضت عدتها عن ثلاث طلقات.
وكل ما ذكرناه فيه إذا كان الطلاق معلّقاً على الحمل.
9268 - فأما إذا علّق بالولادة، فقد تمهّدت الأصول فيها، ولكنا نذكر مسائل.
فإذا قال: إن ولدت ذكراً، فأنت طالق طلقةً، وإن ولدت أنثى، فأنت طالق طلقتين، فلو ولدت ذكراً فحسب، وقعت عليها طلقةٌ، واعتدت بالأقراء، فإن ولدت أنثى [فحَسْب] (1) فطلقتان، وتعتد بالأقراء. وإن ولدت ذكراً وأنثى، فإن وضعتهما متعانقين دفعةً واحدةً، طلقت ثلاثاًً، واستقبلت العدة بالأقراء.
وإن وضعتهما على الترتيب، نُظر: إن وضعت الذكر أولاً، فطلقة وانقضت عدتها بالأنثى في الجديد عن طلقة.
__________
(1) في الأصل: "فبَسْ" و (بَسْ) كلمة فارسية معناها: حَسْب: أي فقط. (المعجم الكبير، والمعجم الوسيط).
ولقد هممتُ بتركها في الصلب كما هي، لاحتمال أن تكون من الإمام، لكنّي عدت فاستبعدت ذلك، ورجحت كونها سبق قلم من الناسخ والله أعلم.

(14/291)


وإن وضعت الأنثى أولاً، فطلقتان، وانقضت عدتها بالذكر عن طلقتين، على المذهب الجديد.
ولا يخفى القديم والتفريع عليه.
وإن أشكل المتقدّم منهما، أخذنا بالأقل وحكمنا بوقوع طلقةٍ.
وإن وضعت ذكرين وأنثى، نُظر: فإن وضعتهما ثم وضعت الأنثى، لحقتها طلقة بالأول فحسب، وانقضت العدّة بالأنثى.
وإن وضعت الأنثى أولاً، ثم وضعتهما على الترتيب، لحقتها طلقتان، وطلقة أخرى بالأوّل من الذكرين، وانقضت العدة بالثاني.
وإن وضعت الذكرين بعد الأنثى ملْتفَّين معاً، لحقتها طلقتان بالأنثى، وانقضت العدة بوضع الذكرين على الجديد، وعلى القديم يلحقها طلقة بأحد الذكرين بعد الثنتين، وتستقبل العدّة بالأقراء.
وإن وضعت في هذه الصورة ذكراً، ثم أنثى، ثم ذكراً، فطلقة، ثم طلقتان، وتنقضي العدة بالذكر الثاني عن ثلاث. وإن وضعت ذكراً وأنثيين، فالقياس على ما مضى.
9269 - ولو كانت له امرأتان عمرة وزينب، فقال: كلما ولدَتْ واحدةٌ منكما، فأنتما طالقان، فولدت عمرة يوم الخميس [ولداً] (1)، وزينب يوم الجمعة ولداً، ثم ولدت عمرة يوم السبت ولداً آخر، وزينب يوم الأحد ولداً آخر، فنقول: لما ولدت عمرة وقعت على كل واحدة منهما يوم الخميس طلقة، ووقعت على كل واحدة منهما يوم الجمعة طلقة أخرى، ثم تنقضي عدة عمرة بما ولدت يوم السبت عن طلقتين في الجديد، ووقعت بها طلقة أخرى على زينب، فكمل لها الثلاث وانقضت عدتها بولادتها يوم الأحد عن ثلاث.
ولو قال: إن ولدتِ أنثى، فأنت طالق طلقتين وإن ولدتِ ولداً، فأنت طالق طلقة، فولدت أنثى، طُلِّقت ثلاثاً؛ لأنها وضعت ما يسمى ولداً وما يسمى أنثى، فهو
__________
(1) زيادة لاستقامة الكلام.

(14/292)


كما لو قال: إن كلمت رجلاً، فأنت طالق، وإن كلمت زيداً فأنت طالق وإن كلمت فقيهاً، فأنت طالق، فكلمت زيداً وكان فقيها طلقت ثلاثاًً لاجتماع الصفات الثلاث به.
فروع في تعليق الطلاق بالحلف بالطلاق.
9270 - إذا كانت له امرأتان زينبُ وعمرةُ، فقال: إن حلفت بطلاقكما، فعمرة طالق، ثم قال ثانية وثالثةً: إن حلفتُ بطلاقكما، فعمرة طالق، فلا يقع الطلاق أصلاً، فإنه انعقد يمينه أولاً، ثم لم يحلف بعدها بطلاقهما، بل حلف بطلاق عمرة، فإن المحلوف بطلاقها هي التي تطلق، ولم يقع التعرض إلا بوقوع الطلاق على عمرة، وهو قد علق الطلاق على أن يحلف بطلاقهما.
فلو قال أولاً: إن حلفت بطلاقكما فعمرة طالق، ثم قال: إن حلفت بطلاقكما، فزينب طالق، فلا تطلق بعدُ واحدةٌ منهما؛ فإنه علّق طلاق عمرةَ على الحلف بطلاقهما، فليقع بعد ذلك حلف بطلاقهما، ولم يحلف بعد ذلك إلا بطلاق زينب، فلو ذكر الحلف بطلاق زينب مراراً، فلا يقع الطلاق أصلاً.
ولو ذكر عمرة أولاً على الصيغة التي ذكرناها، ثم ذكر زينب على الصيغة التي وصفناها، ثم ذكر عمرة مرَّة أخرى، فتطلق عمرة الآن؛ فإنه حلف بطلاقها أولاً، وعلّق طلاقها بأن يحلف بطلاقهما، ثم جرى بعد ذلك حلف بطلاق زينب، ثم حلف بطلاق عمرة، فقد تحققت الصفتان، واجتمع اليمينان في حقها. وأما زينب، فلم يوجد بعدُ الحلف بطلاقهما بعد الحلف بطلاق زينب.
فصوِّرْ واحْكُم، وهذا سهل المُدرك.
9271 - ولو كانت له امرأتان، فقال: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها منكما، فصاحبتها طالق، قال صاحب التلخيص (1): إذا سكت ساعةً يمكنه أن يحلف فيها بطلاقهما فلم يحلف، طلقتا، ولو قال مرةً أخرى: "أيما امرأة لم أحلف بطلاقها، فصاحبتها طالق" على الاتصال باليمين الأولى قال: قد برّ في اليمين الأولى، فإنه
__________
(1) ر. التلخيص: 522

(14/293)


قال: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها، فإذا كرّر هذه اللفظة مرة أخرى، فقد حلف بطلاقهما جميعاًً، وبرّ في اليمين الأولى، ولكن انعقدت يمين أخرى، فإن كرّر ثلاثاً على الاتصال، برّت اليمين [الثانية] (1)، وانعقدت اليمين الأخرى، فلو سكت عقيب اليمين الأخيرة لحظةً يتصور فيها الحلف بالطلاق، فلم يحلف طُلِّقتا جميعاً.
والمسألة فيها إشكال؛ من قِبل أنه جعل ما يجري مقتضياً للفور، حتى قال: لو سكت عقيب اللفظ لحظة، حكم بوقوع الطلاق بالحلف الأوّل، قال الشيخ أبو عليَّ: عرضت هذه المسألة على الشيخ القفال، وعلى كل مَنْ شرح التلخيص، فصوَّبوه.
والذي يقتضيه القياس عندي أن قوله: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها، فغيرها طالق، لا يقتضي الفور أصلاً، ولو سكت على ذلك، لم نحكم بوقوع الطلاق على واحدة منهما إلى أن يتحقق اليأس بأن يموت هو أو تموتا (2).
وإنما قلنا ذلك، لأن الذي يقتضي الفور في هذه المنازل هو الذي ينطوي على ذكر وقتٍ مع التعلق بالنفي، مثل قوله: أيُّ وقتٍ لم أطلّق، أو إذا لم أطلّق، أو متى لم أطلّق، وقد نصّ الأصحاب على أنّه إذا قال: "متى لم أطلقك" فهذا يقتضي الفور، ولو قال: "إن لم أطلقك" فهذا على التراخي. وقوله: أيُّما امرأة ليس فيه تعرض للأوقات أصلاً.
والذي ذكره الشيخ أوضح من أن يُحتاج فيه إلى الإطناب، ولست أدري لما ذكره صاحب الكتاب وجهاً.
فإن قيل: قد نص الأصحاب على أنه لو قال لامرأته: (كلما) لم أطلقك، فأنت طالق، فهذا على الفور، وليس فيه تعرّض للوقت؟ قلنا: هذه المسألة صحيحة،
__________
(1) في الأصل: الثالثة.
(2) نسب ابن أبي عصرون هذا إلى صاحب التلخيص، وجعله من كلامه، ونصّ عبارته: "وقال صاحب التلخيص: وعندي أنه لا يقتضي الفور، ولا تطلق واحدة منهما حتى نيئس بموته أو بموتهما، لأن مقتضى الفور ذكر الوقت مع النفي" 1. هـ بنصه (ر. صفوة المذهب: جزء (5) - ورقة: 36 شمال).

(14/294)


وأجمع أهل العربيّة على أنّ (ما) في كلما ظرف زمانٍ، وأمّا قوله: فأيما امرأة فـ "أيّ" تسمية المرأة.
ولو قال: أنت طالق ما لم أطلقك، فهذا على الفور أيضاًً؛ فإن (ما) في هذه المنزلة بمثابة (إذا)، فهو ظرف زمان.
9272 - ومما نذكره في الحلف بالطلاق أن الرّجل إذا قال لامرأته: إن حلفت بطلاقك، فأنت طالق، ثم قال لها: إن دخلت الدار، فأنت طالق، طلقت بهذا التعليق؛ فإنه حلف بطلاقها.
وبمثله لو قال بعد الكلام الأول: إذا طلعت الشمس، فأنت طالق، لم تطلق، هكذا ذكره ابن سريج رحمه الله، واعتل بأن اليمين ما يقصد بها استحثاث على إقدامٍ، أو على إحجامٍ، وذِكْر طلوع الشمس في الصّورة التي ذكرناها تأقيتٌ، ليس فيه حث على فعلٍ ولا على ترك فعلٍ، وقد وجدت الأصحاب على موافقته.
ولو قال: إذا دخلت الدّار، فأنت طالق، ففي المسألة وجهان: أحدهما - أن هذا يمين؛ لأنّ قصده المنع، فصار كما لو قال: إن دخلت الدّار.
والثاني - إنه ليس بيمين، والاعتبار باللفظ، وإذا للتأقيت.
ولو قال: إن طلعت الشمس، فأنت طالق، فقد ذكر بعض أصحابنا وجهين في أن هذا هل يكون يميناً؟ وهذا زللٌ؛ فإن ما لا يتصور الاستحثاث عليه لا يفرض اليمين فيه كيف صرفت العبارات.
مسائل شتى وفروع مختلفة:
فرع:
9273 - إذا قال لامرأته: إن بدأتك بالكلام، فأنت طالق، فقالت: إن بدأتك بالكلام، فعبدي حرّ، ثم كلمها، ثم كلمته، لم تطلق هي، ولم يعتق عبدها؛ لأن الزوج بتكليمها بعد عقد يمينها، لم يكن بادئاً بالكلام، وإنما كان تالياً، فإنها بدأته بقولها: إن بدأتك بالكلام فعبدي حرّ، والرمز في مثل هذا كافٍ، فلا نبسُط بعد هذا، إلا في محل الحاجة.
ولو قال لواحدٍ: إن بدأتك بالسلام، فعبدي حرّ، فقال له ذلك الإنسان: إن

(14/295)


بدأتك بالسلام، فعبدي حرّ، فسلم كل واحد منهما على صاحبه دفعةً واحدةً، لم يحنث واحد منهما؛ لأنه لم يوجد منهما البداية بالسّلام، وانحلت اليمين.
فلو سلم أحدهما بعد ذلك، لم يحنث؛ فإن سلامه لا يقع ابتداء مع ما تقدم.
فرع:
9274 - إذا قال لها: إن أكلت رمانةً فأنت طالق، وإن أكلت نصف رمانةٍ، فأنت طالق، فأكلت رمانةً كاملة، طُلقت ثنتين، لأنها أكلت رمانةً ونصفَ رمانةٍ، وهذا من الأصول؛ فإنّ (إن) [وإن] (1) كان لا يقتضي تكراراً، فإذا ذكر لفظ (إن) وجرى موجودٌ واحد تحت اسمين، فقد وجد الاسمان، فالتعدد من تعدد الاسم، لا من التكرار.
ولو قال لها: إن أكلتِ رمانةً، فأنتِ طالق، وقال: كلما أكلت نصف رمانة، فأنت طالق، فأكلت رمانة، طلقت ثلاثاًً، وهذا من أصل التكرار، وقد أكلت نصفي رمانة ورمانة، وفي المسألة الأولى تحقق اسمان: الرمانة ونصف الرمانة.
فرع:
9275 - إذا كانت له امرأتان حفصة وعمرة، فقال: مَنْ بَشَّر بقدوم زيدٍ، فهي طالق، فبشرته حفصة، ثم عمرة، طُلقت حفصة، ولم تطلق عمرة؛ لأن البشارة هي الأولى.
ولو ذكرت حفصة كاذبةً، لم تطلق، فإذا ذكرت عمرة صادقة، طلقت.
ولو بشره أجنبي بقدوم زيد صادقاً، ثم بشّرتاه أو إحداهما، لم يقع الطلاق.
والبشارة الكلامُ الأول الصدق الذي يقرع سمع الإنسان.
ولو بشرتاه معاً صادقتين، طلقتا.
ولو قال: من أخبرني بقدوم زيدٍ فهي طالق، فأخبرتاه على الجمع أو على الترتيب صادقتين أو كاذبتين، طلقتا؛ فإن اسمَ الخبر يتناول ذلك كلّه.
9276 - فرع لابن الحداد: إذا كان له امرأتان زينب وعمرة، فنادى عمرة، وقال: يا عمرة، فأجابت زينب، فقال: "أنت طالق"، فنَسْتَفْصِلُ الزوجَ أولاً، ونقول: هل عرفت أن التي أجابتك زينب أم ظننتها عمرة؟ فإن قال: عرفت أن التي أجابتني
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(14/296)


زينب، فيقال له: فما كان قصدك بعد ذلك؟ فإن قال: أردت تطليق زينب، ولم أرد تطليق عمرة، فيقبل قوله؛ إذ قد ينادي الرجل امرأةً، ثم لا يطلقها ويطلق غيرها، وربما نادى عمرة لشغل، فلما [أجابته] (1) زينب غاظه ذلك؛ فطلقها، فليس من ضرورة النداء السّابق أن تكون المناداة مطلّقةً.
ولو قال: علمت أن التي أجابتني زينب، ولكني أردت بقولي: "أنت طالق" تطليقَ عمرة، لا تطليق زينب. أما عمرة فتطلق ظاهراً وباطناً، فإنه سمّاها، وقال: أنت طالق، وأما زينب، فتطلق ظاهراً، فإنه خاطبها بالطلاق، ولا يقبل ما قاله ظاهراً في درء الطلاق عن زينب، ولكن يُدَيَّن باطناًً.
وفي هذا فضل نظر؛ فإنه إن نادى واسترسل في كلامه، ولم يربط قوله: "أنت طالق" بانتظار جواب، وبان ذلك في جريانه في الكلام واتحاد جنس صوته ونغمته، ثم قال: أردت عمرة، لم تطلق إلا عمرة ظاهراً وباطناً. وقد أوضحنا فيما تقدّم ظهور أثر النغمات والتقطيعات.
فأما إذا نادى منتظراً جواباً، فاتّصل جواب زينب، فقال: أنت طالق، وَرَبَط بالنغمة قوله على جواب زينب، فعند ذلك نقول: تطلق زينب ظاهراً وعمرة لا يظهر طلاقها والحالةُ هذه، غيرَ أنه إذا قال: نويتُها صُدِّق ظاهراً، وإلا فلا يتصوّر ظاهران على التنافي، غير أنا ذكرنا أن القصد الخفي في الوقوع ملحق بالظاهر.
هذا كله إذا قال: علمت أن المجيبة زينب.
9277 - فأما إذا قال: حسبت أن التي أجابتني عمرة، وما ظننتها زينب [فخاطبتها] (2) بالطلاق على ظن أنها عمرة.
قال ابن الحداد: أما عمرة، فلا تطلق؛ فإنه ناداها وسمّاها، ثم خاطب بالطلاق غيرَها، فانقطع خطاب الطلاق عن النداء، فنجعل كأنّ النداء لم يكن، فلا يبقى فيها عُلقة إلا أنه ظن المخاطبةَ عمرة، وهذا لا يقتضي وقوعَ الطلاق على عمرة؛ فإنه لو
__________
(1) في الأصل: أجابتهاء
(2) في الأصل: فخاطبها. والمثبت تصرّف من المحقق ساعدنا عليه الإمام ابن أبي عصرون.

(14/297)


خاطب واحدةً من نسائه وقال: أنت طالق، ثم قال خاطبتها على ظن أنها عمرة، فإذا هي زينب، فيقع على زينب المخاطبة، ولا تطلق عمرة. هذا قولنا في عمرة.
وهل تطلق زينب التي أجابت؟ ذَكَر فيه وجهين: أحدهما - تطلق، وهو الظاهر، ولهذا قطعنا الطلاق عن عمرة، ولو قيل: المخاطبة تطلق ظاهراً والتي ناداها أولاً هل تطلق أم لا؟ فعلى وجهين، لكان محتملاً.
فرع:
9278 - إذا كان تحته امرأتان، فقال لإحداهما: أنت طالق إن دخلتِ الدار، لا بل هذه، وأشار إلى الأخرى، قال أصحابنا: إن أطلق لفظه، وتحقق أنه رام تطليق الثانية بقوله: "لا بل هذه" فمطْلَق ذلك يقتضي أن المرأتين جميعاًً تطلقان. إذا دخلت الأولى الدار.
ومعنى الكلام: "أنت طالق إن دخلتِ الدار لا بل هذه عند دخولك"؛ فلا يصح رجوعه عن طلاق الأولى ويُثبت الثانية، فيقع الطلاق عليهما جميعاً عند دخول الأولى.
ولو قال: أردت بقولي: "لا بل هذه" أن هذه تطلق إذا دخلت هي بنفسها الدار، فهل يُقبل ذلك منه أم لا، فعلى وجهين: أحدهما - يُقبل منه ويحمل الكلام عليه للاحتمال الظاهر فيه، وحقيقة عطف هذه على الأولى أن تكون مثلَها وشريكتَها في المعنى. ثم الأولى لا تطلق إلا بدخول الدار، فكذلك الثانية ينبغي ألا تطلق حتى تدخل بنفسها الدار؛ إذا فُسّر قوله بهذا.
والوجه الثاني -وهو اختيار القفال- أنه لا يقبل ذلك منه في الثانية على هذا الوجه، ولكن يحمل لفظه على طلاق الثانية بدخول الأولى، ولا يصدق فيما قاله من إرادة دخولها بنفسها، وتمسك فيما قاله بمسألة، وهي أنه قال: الطلاق يقع بالكناية تارةً وبالصّريح أخرى، والأيْمان لا تنعقد بالكنايات، وبيانه أنه لو قال لإحدى امرأتيه: أنت طالق إذا دخلت الدار، ثم قال للأخرى: أنت شريكتها، فإن أراد بذلك أن الثانية تطلق إذا طلقت الأولى، فيقبل منه ذلك، وإن أراد بذلك أنها إذا دخلت الدار بنفسها طلقت، كالأولى إذا دخلت، فلا يقبل ذلك منه.
وهذه المسألة التي استشهد القفال بها ربما لا تَسْلَم دعوى الوفاق فيها، والقول

(14/298)


الجامع فيه: أنه لو حلف بالله على فعلٍ أو تركٍ، ثم قال: الفعلُ الآخَر مثلُ الفعل [الأول] (1)، فلا يكون حالفاً؛ فإن عماد اليمين بالله تعالى ذكر الاسم المعظم، ولم يجر ذلك الاسم في الفعل الثاني الذي أشار إليه.
وإذا قال لإحدى امرأتيه: أنت طالق، ثم قال لضرتها: "أنت شريكتها" ونوى التسويةَ بينهما في الطلاق، فهذا مقبول. ولو قال لإحدى امرأتيه: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال للأخرى أنت شريكتها، وأراد أنك تطلقين إذا طلقت فهذا يثبت؛ فإنه إشراك في الطلاق عند وقوعه.
ولو علق طلاق الأولى بصفة، ثم قال للأخرى: "أنت شريكتها" ونوى تعليق طلاقها بالدخول، فهذا محل الوجهين؛ فإن هذا يتردد بين الإشراك في اليمين وبين الإشراك في الطلاق، فإذا قلنا: يقبل الإشراك في الطلاق، فالتعليق قريب منه، ومن لم يَقْبل قوله في حق الثانية إن قال: أردت تعليق طلاقها بدخول نفسها، فلا يوقع عليها طلاقاً إذا دخلت الأولى، بل تُلغى اللفظة، ولو قال لإحدى امرأتيه: "إن دخلت الدار، فأنت طالق، لا بل هذه" ثم زعم أنه نوى تعليق طلاق الثانية بدخولها في نفسها، فإن قبلنا هذا، فلا كلام، وإن لم نقبله، حكمنا بأنها تطلق بدخول الأولى؛ فإن قوله: "لا بل هذه" يترتب على كلام صريح في الطلاق منتظمٍ معه انتظاماً يقتضي الطلاق لا محالة، وقوله: أنت شريكةُ الأولى كلامٌ مبتدأ متردّدٌ، فإن حمل على محملٍ غير صحيح، بطل اللفظ والحمل.
فرع:
9279 - إذا قال الرجل وتحته امرأتان: زينب وعمرة، فقال لزينبٍ: إن طلقتك، فعمرة طالق، وقال لعمرة: إن طلقتك، فزينب طالق، فقد علق طلاق عمرة ابتداء، ثم علّق طلاق زينب انتهاء، فلو طلق عمرة أولاً تنجيزاً، طُلِّقت، وطلقت زينب؛ فإنه قال: إن طلقت عمرة، فزينب طالق، [وهل] (2) تطلق عمرة طلقة أخرى غير المنجزة بسبب أن الطلاق وقع على زينب -وقد قال: إن طلقت زينب فعمرة طالق-؟
__________
(1) زيادة لاستقامة الكلام.
(2) في الأصل: فهل.

(14/299)


طريق التحقيق في ذلك أن نقول: قد قال ابتداء: إن طلقت زينب فعمرة طالق، فمهما أنشأ بعد ذلك تعليق طلاق زينب، ثم وقع الطلاق بالصفة، فقد طلق زينب، ومعلوم أنه بعد ما ذكر أولاً تعليق طلاق عمرة، علق بعد ذلك طلاق زينب، حيث قال آخراً: إن طلقت عمرة، فزينب طالق، فلما طلقت زينب بوجود الصفة، فتعود طلقة إلى عمرة لا محالة، فتطلق طلقتين: طلقةً بالتنجيز، وطلقة بالصّفة، وزينب لا تلحقها إلا طلقة واحدة.
ولو كان المسألة بحالها ولكنه طلّق زينب أولاً، فتطلق عمرة؛ فإنه قد قال ابتداء: "إن طلقت زينب، فعمرة طالق" ولا تعود طلقة إلى زينب؛ وذلك أنه لم يعلق طلاق زينب إلا انتهاء، لمّا قال: إن طلقت عمرة، فزينب طالق، فينبغي أن تطلق بعد هذا عمرة إنشاء، أو يبتدىء، فيعلق بعد ذلك طلاقها، ولم يوجد بعد القول الأخير تعليق طلاق عمرة، وإنما علّق طلاقها قبل ذلك.
وعبرة هذه المسألة أنه لو قال لامرأته زينب: "إن دخلتِ الدار، فأنتِ طالق"، ثم قال لعبده: "إن طلقتُ زينب، فأنت حرّ"، فإذا دخلت الدار وطلقت، لم يعتِق العبد؛ فإن تعليق طلاق المرأة سبق تعليق العتق.
وبمثله لو قال [لعبده] (1) أولاً: إن طلقتها، فأنت حرٌ. ثم ابتدأ بعد ذلك فعلّق طلاقها بدخول الدار، فإذا دخلت، طلقت وحصل العتق.
هذا هو الأصل، وقد يحوّج بعض الصور إلى مزيد فكرٍ.
فرع:
9280 - الذمي الحرّ إذا نكح امرأة وطلقها واحدة، ثم نقض العهد، واستُرِق، فأراد أن ينكح امرأته التي طلقها في الحرّية طلقةً واحدة، فنكحها بإذن السّيد، ملك عليها طلقةً واحدةً؛ فإنه طلقها من قبلُ طلقةً، وهي محسوبةٌ، ثم نكح وهو رقيق، ولا يملك الرقيق إلا طلقتين، وقد استوفى إحداهما.
وبمثله لو نكح في الكفر امرأة وطلقها طلقتين، ثم التحق بدار الحرب، فاستُرق بعد نقض العهد، وأراد أن ينكح تلك المرأة بعينها، قال ابن الحداد: له ذلك،
__________
(1) في الأصل: قال العبد.

(14/300)


ويملك عليها طلقة واحدةً؛ والعلّة فيه أنه لما طلقها في الحرّية، لم تحرَّم عليه، إذ هو حر، فيستحيل أن يقال: طرْدُ الرق يحرم عليه امرأة لم تكن محرمة في الحرية.
قال الشيخ: من أصحابنا من قال: إذا طلقها ثنتين في الحرّية، ثم استُرق، فأراد أن ينكح تلك المرأة قبل أن تنكح غيره، فليس له ذلك؛ فإنه الآن عبد، وما مضى من الطلاق محسوب عليه، وقد سبقت طلقتان، فيجعل كأنهما سَبقتا في الرق.
والصّحيح الأول.
ومما [يلحق] (1) بهذه المسألة: أن العبد إذا طلق امرأته طلقةً واحدة، ثم عَتَقَ، فيملك عليها طلقتين في الحرّية، وبمثله لو طلق طلقتين، ثم عَتَقَ فالذي ذكره الأصحاب بأجمعهم أنه لا ينكحها حتى تنكح غيره.
قال الشيخ: رأيت لبعض أصحابنا وجهاً غريباً أنه إذا عتق، فله أن ينكحها على طلقة، وهذا قد يخرّج على الوجه الذي حكيناه في الحرّ الذمّي إذا طلق طلقتين ثم استرق، فإن قلنا: الاعتبار برقّه في الحال، فلا [ينكحها] (2). فنقول: الاعتبار بالحرية الطارئة، والحرّ يملك ثلاثاًً، وهذا بعيد جدّاً. ولكن حكى الشيخ الوجهين في المسألتين، وصرّح بالحكاية.
فرع:
9281 - إذا قال لامرأته التي لم يدخل بها: إذا دخلت الدار، فأنت طالق واحدةً، ثم قال لها قبل الدخول: إذا دخلت الدار، فأنت طالق ثنتين، فإذا دخلت الدار، طلقت ثلاثاً؛ فإن مضمون اليمينين يقعان معاً.
ولو قال لغير المدخول بها: "أنت طالق وطالق"، فلا تلحقها إلا الطلقةُ الأولى.
ولو قال لعبد من عبيده: إذا مت، فأنت حرّ، ثم قال لآخَر هكذا: إذا مت فأنت حر، فإذا مات لم يقدّم المذكور أولاً بالحرية وإن قَدّم ذكرَه، فهذا نظير تعليقين متعاقبين.
__________
(1) في الأصل: يليق.
(2) في الأصل: ينكح.

(14/301)


ولو قال في مرضهِ: "سالم حرّ وغانم حر" فسالم مقدم؛ فإن العتق ينفذ فيه قبل التعبير عن غانم، وهذا نظير ما لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق، ولو قال لغير المدخول بها: إذا طلقتك، فأنت طالق، فطلقها، وقعت المنجّزة، ولم تقع الأخرى بعدها؛ فإن المنجزة متقدمة، وقد أوضحنا هذا في الأصول.
ولو قال: مهما (1) أعتقت سالماً، فغانم حرّ، فإذا أعتق سالماً، فيكون عتقه مقدّماً على عتق غانم عند ضيق التركة.
9282 - ولو قال لغير المدخول بها: "إذا طلقتك، فأنت طالق مع الطلقة المنجزة" ثم طلقها، فهل يقع الطلقةُ الأخرى عليها؟ فعلى وجهين ذكرهما رضي الله عنه: أحدهما - يقعان؛ لاجتماعهما واقترانهما.
والثاني - لا يقع إلا المنجّزة؛ فإنه غاير بينهما في اللفظ.
قال: وكذلك اختلف أصحابنا في أنه لو قال: إذا أعتقت سالماً فغانم حر معه، ثم أعتق سالماً، فهل يقدّم عتقه على عتق غانم، فعلى وجهين.
وكل ذلك مما قدمنا أصوله، فإن أعدنا شيئاً مما سبق، فالقصد الإفادة لا الإعادة.
9283 - ومما ذكره رضي الله عنه أنه لو قال لغير المدخول بها: "أنت طالق طلقة قبلها طلقة" قال: في المسألة ثلاثة أوجه: أحدها - لا يقع عليها شيء، وتدور المسألة، فإذا وقع عليها [طلقة] (2) وهي غير ممسوسة، فلا تلحقها الثانية، وإذا لم تلحقها الثانية، لم تلحقها الأولى؛ فإن الارتباط مشروط بينهما.
والوجه الثاني - تلحقها طلقتان: أما الواحدة فبقوله: أنت طالق طلقة، وأما الثانية بقوله (3) قبلها طلقة، فيلغو قوله: "قبلها" فيكون كما لو قال: أنت طالق الشهر الماضي، فكأنه جمع عليها طلقتين.
__________
(1) مهما: بمعنى (إذا).
(2) عبارة الأصل: "فإذا وقع عليها واقعة قبلها أخرى، وهي غير ممسوسة ... " والمثبت تصرف من المحقق على ضوء المفهوم من المسألة.
(3) بقوله: جواب (أما) بدون الفاء.

(14/302)


وهذا ضعيف لا اتّجاه له.
والوجه الثالث - أنه تلحقها طلقة واحدة، وهو المشهور نقلاً وتعليلاً، وسرّ الدّور في هذه المسألة قد ذكرته فيما تقدّم، وأوضحت أن هاتين الطلقتين تقعان على المدخول بها بدفعتين في زمانين، وكيف وقوعهما وترتّبهما، فلا نعيد ما سبق.
والذي زدناه الوجه الذي حكاه الشيخ في وقوع الطلاقين على غير المدخول بها.
فرع:
9284 - إذا علق العبد ثلاث طلقات بصفة، فقال لامرأته: إن دخلتِ الدار فأنت طالق ثلاثاًً، فعتَقَ العبد أولاً، ثم وجدت الصفة [بعدُ] (1)، فقد اختلف أصحابنا اختلافاً مشهوراً، فذهب بعضهم إلى أنه لا يقع إلا طلقتان، فإنه كان لا يملك غيرهما حالة التعليق، وكان تعليقه للثالثة بمثابة تعليق الطلاق قبل النكاح.
والوجه الثاني - أن الثالثة تقع؛ فإنه كان مالكاً لأصل النكاح، والطلاق تصرّفٌ فيه. والأقيسُ الوجه الأول.
وإذا قال الرّجل لأَمته: إذا علقت بمولود بعد لفظي هذا، فهو حرٌ، فالولد الجديد إذا أتت به هل تنفذ فيه الحرية؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا ينفذ؛ لأنه لم يكن مالكاً لذلك المولود حالة التعليق؛ إذ شرط كون الشيء مملوكاً أن يكون موجوداً.
والثاني - ينفذ؛ نظراً إلى المِلْك في الأصل.
9285 - ولو قال العبد لزوجته: إذا مات مالكي، فأنت طالق طلقتين، وقال السيد لذلك العبد: إذا مت، فأنت حرّ، فمات السّيد، وحصلت الحرية، قال ابن الحداد: يقع طلقتان، ويملك الرجعة، وعلّل فقال: لأن الطلاق [وقع بعد] (2) الحرية.
قال الشيغ: جوابه في المسألة صحيح، وتعليله باطل؛ فإنه قال: وقع الطلاق بعد الحرية، وليس كذلك، بل وقعا معاً؛ فإنهما عُلِّقا بالموت على وجهٍ واحد، فلا معنى لتقدم الحرية على الطلاق، وإذا وقعت الطلقتان في الحرية، اقتضى وقوعُهما
__________
(1) في الأصل: أولاً.
(2) زيادة لا يستقيم الكلام بدونها.

(14/303)


فيها استعقابَ الرّجعة، وليس كما لو وقعا في الرق.
وحكى الشيخ عن بعض الأصحاب وجهاً بعيداً أنها تحرم عليه؛ لأن الحرية لم تتقدم على الطلاق. وهذا على نهاية الضّعف.
وإذا فرعنا على ما أفتى به ابن الحداد، وهو المذهب الذي لا يجوز غيره، فلو قال العبد لزوجته: إذا مات سيّدي، فأنت طالق (1) في آخر جزء من حياته، وقال السيد: إذا مت، فعبدي هذا حرّ، فالطلاق يقع في زمان الرق، ولا رجعة؛ فإن الرّجعة لا تثبت بعد الطلاق، وإنما تثبت حيث تثبت مع الطلاق، ومعنى وقوع الطلاق في الرق وقوع الحرمة الكبرى، وهذا يناقض ثبوتَ الرجعة لا محالة، وهذا ذكرناه على وضوحه؛ ليقطع وهمَ من يظن أن وقوع الطلاق يستعقب الرجعة، وقد يطلق الفقهاء ذلك، وهو تجوّز منهم، والتحقيق ما نصصنا عليه.
فرع:
9286 - لو تزوج الرجل بجارية أبيه، وعلّق طلاقها بموت الأب، فإذا مات، لم يقع الطلاق على ظاهر المذهب؛ لأن الملك يحصل في الرقبة، وحصوله يتضمّن انفساخ النكاح، فلو وقع الطلاق، لكان واقعاً على مملوكته، وهذا محال.
وأبعد بعض أصحابنا، وقال: يقع الطلاق.
وهذا وهمٌ وغلط، وإنما تخيّله من صار إليه؛ من حيث اعتقد أن الملك يحصل مع الموت، والانفساخُ يترتب عليه (2)، كما يشتري الرجل من يَعْتِق عليه، فيملكه في لحظة، ثم يعتِق عليه، فظنّ ظانّون أن الانفساخ مع الملك كذلك يكون، وليس الأمر كذلك؛ فإن الانفساخ يحصل مع الملك، والملك مع النكاح يتعاقبان تعاقب الضّدين، وليس كما وقع الاستشهاد به؛ فإنا قدّرنا ملك القريب اضطراراً ليصحّ العقد، وهاهنا لا ضرورة إلى مناقضة الحقائق والقياسِ، ولا تناقض في الحكم بالملك والفسخ جميعاًً؛ فإن الملك سيبقى بعد الانفساخ مطرداً.
وقد قال أبو إسحاق المروزي: من اشترى قريبه، حصل الملك والعتق معاً.
__________
(1) فأنت طالق: أي طلقتين، كما هو أصل المسألة التي نفرع عليها.
(2) يعني أن الملك يقع أولاً، فإذا وقع الملك، وقع الطلاق المعلق عليه، قبل أن يقع الفسخ المترتب على الملك.

(14/304)


وزعم أن موجب العتق الملك، وموجب الملك العقد، وقد وقع الموجبان معاً، ثم زعم أنه لا يمتنع ثبوت حكمين نقيضين يقتضيهما القياس، وإنما الممتنع وجود ضدّين حساً ووقوعاً.
وهذا على نهاية السقوط؛ فإن التناقض غير محتمل شرعاً وعقلاً.
وما ذكرناه فيه إذا لم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين، فالجواب على ظاهر المذهب ما ذكرناه؛ لأن الدين لا يمنع الميراث على الصحيح من المذهب، وقال الإصطخري: الدّين المستغرق يمنع الميراث، وعلى هذه الطريقة يقع الطلاق؛ لأنها لا تنتقل بالموت إليه.
فرع:
9287 - إذا قال لامرأته: أنت طالق مع أول موتي، أو مع موتي، أو قال: أنت طالق مع انقضاء عدتك، فالمذهب أنه لا يقع الطلاق؛ فإنه جعل وقوع الطلاق مقارناً بحالة لا يتصوّر فيها نكاح، وإنما يقع الطلاق في وقت يفرض فيه النكاح لولا الطلاق، فصار كما لو قال: أنت طالق بعد موتي، أو بعد انقضاء عدتك، والمخاطبةُ رجعية.
ولو قال: أنت طالق مع آخر جزء من عدتك، فقد ذكر الأصحاب وجهين في وقوع الطلاق، ومنْعُ الوقوع ضعيف ساقط، ولا تعلق لاشتراط كون محل الوقوع [محبوساً] (1).
وحكى الشيخ عن الخِضْري أنه قال: إذا قال: أنت طالق مع موتي [أوْ مع] (2) انقضاء العدة، يقع الطلاق، وهذا خرجه على القول عن (الإملاء) فيه إذا قال لامرأته وهي حامل بولدين: كلما ولدت ولداً، فأنت طالق، فإذا ولدت الولد الأول طَلَقت (3)، وإذا ولدت الثاني، لم تَطْلُق بالولادة الثانية، وتنقضي عدتها على الصحيح المنصوص عليه في الجديد.
__________
(1) في الأصل: محتوشاً، والمثبت من (صفوة المذهب)، والمعنى: لا يشترط أن تكون المرأة، التي هي محل وقوع الطلاق محبوسة للزوج، أي ليست في العدة.
(2) في الأصل: ومع.
(3) طلقت: بفتح اللام وضمها، -وهذا الضبطُ من نسخة الأصل- أي انحلت عنها عقدة الزواج (المعجم).

(14/305)


وقال في (الإملاء) (1): يلحقها طلقة ثانية وتستقبل العدة بالأقراء، ونحن نعلم أن العدة تنقضي بوضع الولد، والطلاقُ المعلق بالولادة يقع مع انقضاء الولد، فيقع الطلاق إذاً مع انقضاء العدة، فخرجت المسألة في الموت والتعليق بالانقضاء على قولين.
قال الشيخ: القول المذكور عن (الإملاء) في نهاية الضعف، ولا استقامة له في القياس، فهو ممّا لا يفرّع عليه، والتخريج على الضعيف يقود المخرِّج إلى مقاربة مخالفة الإجماع.
فرع:
9288 - إذا نكح امرأةً حاملاً من الزنا، فقد ذكرنا أن النكاح يصحّ، وفي حلّ الوطء وجهان: أصحهما - أنه لا يحرم. فلو قال لها الزوج -وهي حامل من الزنا وقد وطئها-: "أنت طالق للسُّنة" قال ابن الحداد: لا يقع الطلاق أصلاً؛ فإنه وطئها في طهر ووجود الحمل وعدمه بمثابةٍ، وقد جرى الوطء فكان الطلاق في طهر جامعها فيه.
ولو كان الحمل من الزوج، ووطئها بعد ظهور الحمل، ثم طلقها للسُّنة، فيقع الطلاق، فكأنا لا نجعل للحمل أثراً.
وممّا يتعلق بذلك أنها لو كانت ترى الدم وهي حامل من الزنا، وقلنا: الحامل تحيض: فلو قال في زمن الدَّم: أنت طالق للسُّنة، فلا يقع الطلاق لمكان الدم، وهي كحائل رأت الدّم.
ولو كان الحمل من الزوج، وكانت ترى دماً، وقلنا: إنها تحيض، فقال لها في زمان الدم الموجود في الحبل: أنت طالق للسُّنة، ففي وقوع الطلاق وجهان مشهوران ذكرناهما، والفرق أنا لا نجعل للحمل من الزنا حكماً أصلاً.
وكان شيخي يقول: على هذا القياس يجب أن نقطع بأنّ الحامل من الزنا تحيض، وهذا فيه نظر؛ فإن اختلاف القول في أن الحامل هل تحيض أم لا؟ أمرٌ متعلق بأن وجود الحمل هل يَنفي الحيضَ حكماً؟ وهذا يستوي فيه الولد النسيب والدّعي.
__________
(1) الإملاء: أي في القديم، فهو هنا في مقابلة الجديد.

(14/306)


فرع:
9289 - العبد إذا نكح امرأة وطلقها طلقتين، وتبين أن سيده قد أعتقه، ولم يدر أن العتق كان قبل الطلاق، أو الطلاق كان قبل العتق، فإن كان العتق مقدماً، فلا شك في ثبوت الرجعة، وإن كان الطلاق متقدّماً، فقد حَرُمَت حتى تنكح زوجاً غيره.
وإذا أشكل الأمر، ولم يَدْرِ، واتفق الزوجان على الإشكال، قال ابن الحدّاد: تحرُم حتى تنكح غيره، فإنا استيقنا رقّه، وعرفنا وقوع الطلاق، والأصل أن العتق لم يكن قبل الطلاق، وقد وافقه معظم الأصحاب.
وذهب بعضهم إلى أن الرّجعة ثابتة؛ فإن الأصل أن تحريم العقد لم يحصل، فلا نقضي به إلا بثبت، والأول هو المذهب.
فأما إذا اختلف [الزوجان] (1) فقال الزوج: أُعتقت أولاً، ثم طلقتُ، وقالت الزوجة: طلقتَ أولاً، ثم عَتَقْت؛ فقد حرمتُ عليك. فإن اتفقا في وقت العتق، واختلفا في وقت الطلاق، مثل أن يتفقا على أن العتق كان يوم الخميس، وقال الزوج: إنما طلقتُ يوم السبت، وقالت المرأة: بل يوم الأربعاء قبل الخميس، فالقول في هذه الصورة قول الزوج؛ فإن المطلِّق هو الأصل، والطلاقُ يومَ الأربعاء إليه، فإذا نفاه، انتفى.
وإذا اتفقا على وقت الطلاق، وأنه يوم الخميس، واختلفا في وقت العتق، فقال الزوج: كان العتق يوم الأربعاء، والطلاق بعده. وقالت المرأة: لا بل كان العتق يوم الجمعة، فالقول في هذه الصورة قولها، فإن الأصل دوام الرق يوم الأربعاء.
ولهذا نظير في الرجعة سنذكره، ونعيد هذه المسألة وأمثالَها، إن شاء الله، ونذكر ضابطاً في المذهب جامعاً.
فرع:
9290 - إذا قال لامرأته: أنت طالق يوم يَقْدَم فلان، فقدم وقت الظهر، فإنها تطلّق. ومتى تطلق؟ فعلى قولين مخرّجين: أحدهما - أنها تطلق عقيب القدوم، ولا يتقدم الطلاق على القدوم.
__________
(1) في الأصل: الزوج.

(14/307)


والقول الثاني - أنه إذا قدِم، بان لنا أنه وقع الطلاق مع أول الصّبح؛ فإن اسم اليوم يتحقق ذلك الوقت، وابن الحداد فرّع على قول التبيّن، وله أصل مشهور في النذور، سيأتي مشروحاً، إن شاء الله.
فلو ماتت امرأته ضحوةً، أو خالعها، ثم قدِم فلان وقت الظهر، والطلاق معلَّق بقدومه ثلاثٌ. فإن قلنا: يقع الطلاق عقيب القدوم؛ فلا يقع في هذه الصورة شيء؛ فإنه قدم وهي ميّتة، أو مختلعة.
وإن قلنا بالتبين، [تبيّن] (1) لنا عند قدومه أنها ماتت مطلقةً، وأن الخلع جرى بعد وقوع الثلاث، ولا يكاد يخفى تفريع ذلك في العتق.
فرع:
9291 - إذا قال لامرأته المدخول بها: "أنت طالق واحدة، بل ثلاثاًً إذا دخلت الدار" فلا شك أن الثلاث لا تقع ما لم تدخل الدار، ولكن هل تقع واحدة؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ: أحدهما - أن التعليق يرجع إلى جميع ما تقدّم، فما لم تدخل الدار لا يقع شيء؛ فإن الشرط ينعكس على جميع ما تقدّم. ولو قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق واحدة بل ثلاثاًً، لا يقع شيء حتى تدخل، فليكن الأمر كذلك إذا تأخر التعليق.
والوجه الثاني - وهو اختيار ابن الحداد أن الطلقة الأولى تقع، وما ذكره بعدَ (بل) هو المعلق بالدخول؛ فإن (بل) تَضَمَّنَ قطعاً لكلام عن كلام على سبيل الاستدراك.
ولو كانت المرأة غيرَ مدخول بها، فقال: "أنت طالق واحدةً بل ثلاثاًً إن دخلت الدار"، فإن قلنا: جميع الطلقات تتعلق بالصّفة، فلا تطلق في الحال. ثم إذا دخلت الدار، وقعت طلقة وفاقاً، وهل يقع الباقي؟ فعلى وجهين حكيناهما في مواضع، وهو كما لو قال لغير المدخول بها: إذا دخلت الدار، فأنت طالق وطالق، وهذا يجري في كل طلاقين في لفظين مقتضاهما الوقوع معاً، وإن قلنا: الطلقة الأولى لا تتعلّق [بل] (2) تتنجز، فتبين بالطلقة الأولى، ولا تلحقها الأخرى إذا دخلت؛ فإنها
__________
(1) في الأصل: فتبين.
(2) في الأصل: بان.

(14/308)


بائنة، ولو نكحها فدخلت، لم يعد الحِنث؛ فإن التعليق وقع بعد البينونة حيث انتهينا إليه.
وحكى الشيخ وجهاً عن بعض الأصحاب أن هذا يخرّج على عَوْد الحنث، ولولا عِظم قدر الشيخ، لما نقلت هذا الوجه.
فرع:
9292 - إذا قال لامرأته: إن دخلت الدّار طالقاً فأنت طالق، أو قال: أنت طالق إن دخلت الدار طالقاً، فإن دخلت الدار وما كان طلقها قبل الدخول، فلا يقع بالدخول طلاق؛ فإنه علّق الطلاق على صفتين إحداهما دخول الدار، والثانية أن تدخلها طالقةً، وهذا يبتني على أن الطلاق المعلّق بالصفة يترتب على الصفة، ولا يقع معها. وقد كرّرت هذا مراراً، ونبهت على ما فيه من الإشكال، ثم أوضحت استمرار اتفاق الأصحاب في التفريع. ولو كنا نقول: يقع الطلاق المعلّق بالدخول مع الدخول، لكنا لا نوقع الطلاق أيضاًً؛ فإن قوله: إن دخلت الدار طالقاً يقتضي أن تكون طالقاً بغير الدخول حتى يتعلقَ الطلاقُ بكونها طالقاً مع الدخول، ويستحيل أن يكون الطلاق المعلق هو الطلاق الذي علق به الطلاق، واقتضاء اللفظ التغاير الذي ذكرناه بيّن لا إشكال فيه.
فرع:
9293 - إذا نكح الرّجل أمةً، ثم قال: إن اشتريتك، فأنت طالق ثلاثاًً، وقال مالكها: إن بعتكِ، فأنت حرّة، فإذا باعها (1) عَتَقت في زمان خيار المجلس.
قال ابن الحداد: ويقع الطلاق؛ فإن الشراء قد وجد. قال أصحابنا: هذا تفريع منه على أن الملك في زمان الخيار للبائع.
فإن قلنا: الملك بنفس العقد ينتقل إلى المشتري، فينفسخ النكاح بالملك على المشهور، ولا يقع الطلاق، فإن قيل كيف ينتقل الملك إليه بعد نفوذ عتق البائع؟ قلنا: لما صح البيع، فمن حكم صحته نقل الملك على هذا القول، وهو كما ذكرناه في شراء من يعتِق على المشتري؛ إذ لولا ذلك، لما انعقد العقد على القول الذي عليه نفرع.
__________
(1) فإذا باعها: أي لزوجها، كما هو مفهوم من السياق، وصرح به النووي في الروضة.

(14/309)


فرع:
9294 - إذا قال لامرأته: إن كان أول ولدٍ تلدينه ذكراً، فأنت طالق واحدة، وإن كان أول ولدٍ تلدينه أنثى، فأنت طالق ثلاثاًً، فولدت ذكراً وأنثى، ولم يخرجا معاً، ولكن أشكل المتقدم، فلا يقع إلا طلقة واحدة، هكذا قال أصحابنا أخذاً بالمستيقن، وهذا واضح.
ولو خرجا معاً دفعة واحدة، قال الشيخ: ما ذهب إليه معظم الأئمة أنه لا يقع الطلاق أصلاً؛ فإنه علق طلقةً بأن يخرج ذكرٌ أولاً، وثلاثاًً بأن تخرج الأنثى أولاً، فإذا خرجا معاً، لم يتحقق الأوّلية في واحد منهما.
قال الشيخ: لو قلت: وقع الثلاث، كان محتملاً؛ فإن الأول هو الذي لا يتقدمه شيء، وليس من ضرورة الأول أن يستأخر عنه شيء، والدليل عليه أنه لو قال لها: إن كان أوّل ولدٍ تلدينه ذكراً فأنت طالق، فولدت ذكراً، ولم تلد سواه في عمرها، فيقع الطلاق؛ فعلى ذلك يجوز أن يقال: [الذكر] (1): لم يتقدمه أنثى، والأنثى لم يتقدمها ذكرٌ.
قال الشيخ: عرضت ذلك على القفال، فقال: المسألة محتملة.
والمذهب ما قدّمناه؛ لأن الرجل لو قال لعبديه: من جاء منكما أولاً، فهو حرٌّ، فلو جاءا معاً، لم يعتِقْ واحد منهما، هكذا ذكر الأصحاب، ولا يجوز أن يُتَخيّل في هذه المسألة خلاف، فإنه علق العتق على السّبق، ولا سبق إذا جاءا متساوقين، وليس كما إذا ولدت ولداً واحداً؛ فإنه لم يتعرّض في تلك المسألة لولدين وتقدير أولية فيهما.
فرع:
9295 - إذا نكح جارية أبيه، أو أخيه، ثم قال: إذا مات سيدك، فأنت طالق، فإذا مات، فملكها الزوج، أو ملك بعضها -على ما يقتضيه التوريث- فلا يقع الطلاق، بل ينفسخ النكاح.
قال ابن الحداد: هذا هو الصحيح.
ومن أصحابنا من قال: يقع الطلاق، وقد قدمت هذا في الأصول.
__________
(1) في الأصل: لذكر.

(14/310)


ولو قال السيد لها: إذا متُّ، فأنت حرّة وقد سبق من الزوج التعليق كما ذكرنا، فمات، وهي خارجة من الثلث؛ فيقع الطلاق لا محالة، ولو علق الزوج الطلاق، فقال السّيد: إذا متّ، فأنت حرّة بعد موتي بشهر، فإذا مات، فتبقى تلك مملوكةً إلى شهر، والتفريع على ما اختاره ابن الحدّاد، وهو أن الفسخ أولى بالتنفيذ من الطلاق، وفي هذه الصورة في وقوع الطلاق وجهان مبنيان على أن الملك فيها إلى أن تعتق لمن؟ وفيه وجهان: أحدهما - أن الملك للوارث.
والثاني - أنه تبقى على ملك الميت إلى أن تَعتِق، فعلى هذا يقع الطلاق، ولا ينفسخ النكاح، وإن قلنا: الملك للوارث، ففي الانفساخ وجهان: أحدهما - أنه ينفسخ، وهو الأصح لحصول الملك.
والثاني - لا ينفسخ؛ لأن هذا ملك تقديري، ثبت لانتظام كلام، وإلا فلا حقيقة له، ولا يُفضي إلى مقصود.
فرع:
9296 - إذا قال: أنت طالق أكثرَ الطلاق، فتطلق امرأته ثلاثاً؛ فإن الأكثر صريح في أقصى عدده، والكثرة مُصرِّحة بمعنى العدد، ولو قال: أنت طالق أكبرَ الطلاق، ولم ينو عدداً، فلا يقع إلا واحدة؛ لأن الكِبَر لا يُنبىء عن العدد، وكذلك لو قال: أعظم الطلاق، أو قال: أنت طالق ملءَ الأرض أو ملءَ العالم، فلا يقع بمطلق اللفظ إلا طلقة، ولو قال: أنت طالق ملءَ هذه البيوت الثلاثة، فهذا يقتضي تعدّد الطلقات وكذلك إذا قال: أنت طالق ملءَ السموات.
فرع:
9297 - قال ابن سريج إذا قال لامرأته: أنت طالق هكذا، وأشار بأصبع واحدة، فهي طلقة، وإن أشار بأصبعين، فطلقتان، وإن أشار بثلاث، فثلاث.
هذا إذا قال: (هكذا)، وأشار إلى أصابعه.
فإن قال: أنت طالق، ولم يقل: (هكذا) ولكن أشار بأصابعه، فلا نحكم بوقوع الثلاث ما لم ينوها، وهذا بيّن، ولم أر فيه -إذا قال (هكذا) وأشار إلى أصابعه الثلاث- خلافاً، وذاك فيه إذا أشار إلى أصابعه إشارة تكون قرينةً مثبتةً للعلم، فلو لم تقم قرينةٌ، فلا وجه للحكم بالثلاث؛ فإن الرجل قد يعتاد الإشارة بأصابعه الثلاث في الكلام، فإذا لم يوضح ينظر إلى الأصابع أو ترديد نغمة على صيغة إلى أن

(14/311)


يتبين الغرض، فلا نحكم بالوقوع، وما أجريناه من الكلام على القرائن من الأصول والأقطاب.
فرع:
9298 - إذا قال لزوجته: أنت طالق إن دخلت الدار إن كلمت زيداً، فيقف وقوع الطلاق على الدخول والكلام.
ثم قال الأصحاب: يشترط ترتُّبُ الكلام على الدخول، حتى لو كلمتْ، ثم دخلتْ، لم تطلق؛ لأنه في الحقيقة علّق وقوع الطلاق عليهما عند الدخول بكلام، فكان هذا تعليقَ التعليق، والتعليقُ يقبل التعليق، كما [أن] (1) التنجيز يقبل التعليق، وهذا كما لو قال لعبده: إن دخلت الدار، فأنت مدبّر، فالتدبير يقف على دخول الدار، ثم لا عتق حتى يموت السّيد بعد دخول العبد الدار، وليس كما لو قال: أنت طالق إن كلمت ودخلت، بشرط وجود الوصفين لا غير، لأن الواو للجمع خصوصاً في المعاملات.
هذا ما ذكره القاضي والأصحاب: أما المسألة الأخيرة، فسديدة، وأما المسألة الأولى، ففيها نظر؛ فإنه ذَكَر صفتين من غير عاطف، فالوجه الحكم بتعلّق الطلاق بهما، فأما الترتيب، فلا معنى للحكم [به] (2).
ولو قال: إن دخلتِ الدار إن كلمتِ زيداً إن أكلتِ رغيفاً، فأنت طالق، فالطلاق يتعلق بوجود هذه الصفات، والحكمُ بترتّب بعضها على بعض تحكُّمٌ، لا أصل له، فإن كان هذا مسلماً، فلا فرق بين أن يُقدِّم ذِكْرَ الطلاق وبين أن يؤخره. وإن كان ممنوعاً، فما قدمناه من الكلام كافٍ (3).
ولو قال: أنت طالق إن كلمت زيداً إلى أن يقدَمَ فلان، فالتأقيت راجع إلى الصفة، والتقديرُ: إن كلمته قبل قدوم زيدٍ، فأنت طالق، ولا يرجع هذا التأقيت إلى أصل الطلاق؛ إذ لو رجع إليه، لتنجز في الحال، كما لو قال: أنت طالق إلى شهرٍ،
__________
(1) زيادة لاستقامة الكلام.
(2) في الأصل: بهما.
(3) عبارة ابن أبي عصرون: وإن منع فما قدمناه كافٍ. والمعنى إن اشترط الترتيب ومنع وقوع الطلاق، فما قدمناه من الحجج كافٍ في نقضه.

(14/312)


ثم إن كلّمتْه قبل أن قدِمَ زيد، طلقت، ولو لم تكلمه حتى قَدِم زيد، لم تطلق، ولا يضر التكلم بعدُ.
هذا معنى التأقيت.
فرع:
9299 - لو قال: "إن دخلتِ الدار فأنت طالق" ثم كرّر هذا اللفظ ثلاثَ مراتٍ، فإن أراد التأكيد، فطلقة واحدة عند دخول الدار، وإن أراد التجديد، فإن دخلت الدار، طُلِّقت ثلاثاًً بدخلةٍ واحدة.
ولو قال: أردت عقد ثلاثة أيمان، حتى تطلقَ طلقاتٍ [ثلاث] (1) بثلاث دخلات، فهذا لا يحمل عليه مُطلقُ الكلام بالإجماع؛ فإن اليمين الأخيرة حقها أن تنحل بأول دخلةٍ لتحقق الصّفة، وكذلك القول في الثانية والأولى، ولكن يُديّن فيما يقول باطناً، ولا وجه لقبوله ظاهراً.
فرع:
9300 - إذا قال لأربع نسوة: أربعكن طوالق إلا فلانة، أو إلاّ واحدة على الإجمال، لغا الاستثناء، لأنه أوقع الطلاق على الأربع بجملتهن، فإذا قال: إلا فلانة، فقد قصد إبطال اللفظ في حقها، ورفْعَ مقتضاه بالكلية، فصار كما لو قال: أنت طالق ثلاثاًً لا تقع، أو ثلاثاًً إلا ثلاثاًً، وليس كما لو قال ثلاثاًً إلا واحدة، فإن الاستثناء في الواحدة صحيح.
ولو قال: أربعكن إلا فلانة طوالق، فيصح الاستثناء في فلانة.
هذا ما أورده القاضي والمسألة [مخيلة] (2) حسنة.
[و] (3) يحتمل أن نقول: يصح الاستثناء؛ طرداً لقاعدة الاستثناء، فإنه إذا قال: أنت طالق ثلاثاً، فقد تعرّض لعدد الطلقات، ولو سكت عليه ولم يستثن، لكان الكلام مستقلاً في إيقاع الثلاث، ثم صح مع هذا استثناء الواحدة والثنتين بعد ذكر الثلاث، فلا فرق بين عدد الطلقات وبين عدد المطلّقات.
__________
(1) زيادة من المحقق.
(2) في الأصل: محتملة، والمثبت اختيار من المحقق.
(3) (الواو) زيادة من المحقق، وهي في عبارة ابن أبي عصرون.

(14/313)


ووجه ما قاله القاضي أنه إذا قال: أربعكن طوالق إلا فلانة، فهذا اللفظ لا يستعمل كذلك في الاعتياد، كما لا يستعمل قول القائل ثلاثاًً إلا ثلاثاً، [ويستعمل] (1) أنت طالق إن شاء الله، ولو تكلفنا فرقاً سوى ذلك، لم نجده، ولعلّ القاضي يقول: إذا قال: "هؤلاء العبيد الأربعة لك إلاّ هذا"، وأشار إلى واحد منهم، قال: الاستثناء باطل، ولعلّ ممّا يقوّي كلامَه ثبوتُ الكلام بالإشارة، وللإشارة أثر ووَقْعٌ في تثبيت الكلام. ولو قال: "لفلان أربعة أعبدٍ عليّ إلا عبداً" فالاستثناء صحيح.
فرع:
9301 - إذا قال قائل للزوج: أطلّقت امرأتك؟ فقال: نعم، فقال (2):
ذكر صاحبُ التلخيص في ذلك قولين: أحدهما - أن الطلاق يُحكم بوقوعه لقوله: (نعم) مع السؤال المتقدِّم، وإن لم ينو الطلاق.
والقول الثاني - إن الطلاق إنما يقع به إذا نوى، فإذا لم ينو شيئاً، لم يقع.
قال الشيخ: حكمَ بأن الطلاق يقع بهذه اللفظة مع النيّة في قولٍ، ويقع من غير نيّة في قولٍ، وجعل هذا إنشاءً للطلاق صريحاًً أو كناية.
ووافقه بعض أئمتنا، وقال: ما ذكره من [القولين] (3) مبنيّ على قولين للشافعي فيه إذا قال الولي: زوجتك هذه، فقال في جوابه: قبلتُ، ولم يقل قبلت نكاحها، فهل ينعقد النكاح بذلك؛ بناء على ما تقدم من الإيجاب؟ فعلى قولين.
قال الشيخ: هذه الطريقة غير مرضية، فقوله (نعم) في جواب السؤال ينبغي ألا يكون صريحاًً في الطلاق ولا كناية، بل هو صريح في الإقرار بالطلاق، ثم إن كان صادقاً، فلا كلام، وإن كان كاذباً، فلا يقع به الطلاق باطناًً، وينفذ الحكم بالإقرار ظاهراً، ثم لا يجوز أن يكون في ثبوت الإقرار اختلافُ قولٍ، ومن قال لرجل بين يدي القاضي: ألي عليك ألف درهم؟ فقال: نعم، قضى القاضي بكونه مُقرّاً، ولو جرى ذلك بين يدي الشهود تحمّلوا الشهادة على صريح إقراره، فعلى هذا لو قال في جواب
__________
(1) في الأصل: ويستعمله.
(2) القائل هو الشيخ أبو علي.
(3) في الأصل: القول.

(14/314)


السؤال كما ذكرنا، ثم قال: أردت بذلك أني كنت نكحتها من قبل هذا، وطلقتها في ذلك النكاح السابق، فهذا ينزل منزلة ما لو قال لامرأته: أنت طالق الشهر الماضي، ثم فسّره بأنه كان طلقها في نكاحٍ سابق، وقد تقدم تفصيل ذلك.
9302 - ولو قيل: ألك زوجة؟ فقال: لا. قال أصحابنا: هذا كذبٌ صريح لا يتعلق به حكم، وقال المحققون: هذا كناية في الإقرار، قال القاضي: عندي أن هذا صريح في الإقرار بنفي الزوجية، وقال رضي الله عنه: إذا أشار المشير إلى امرأةٍ، فقال لبعلها: هذه زوجتك، فقال: لا، كان ذلك تصريحاًً بالإقرار بنفي الزوجية.
ولو قيل له: أطلقت زوجتك، فقال: قد كان بعض ذلك، فلا نجعل هذا إقراراً بالطلاق؛ لأنه يحتمل التعليق، ويحتمل أنها كانت تُلاجّه (1) وتخاصمه، وتسأل منه الطلاق، ولم يكن قد أوقع بعد، فعبّر عن بعض المفاوضة التي جرت.
ولو قال الدّلال لصاحب المتاع: بعتَ متاعك هذا بألف درهم من هذا الرجل، فقال: نعم، فلا يكون هذا إيجاباً بلا خلاف؛ فإنّ نعم خبرٌ يدخله الصّدق والكذب، فلا يصلح للإنشاء، وكذلك لو قال القابل: نعم، لم يكن ذلك منه قبولاً.
ولو قال الدلال لصاحب المتاع: بعتَ متاعك هذا بألفٍ من هذا الرجل، فقال: "بعتُ" فالوجه القطع بأن هذا لا يكون بيعاً، إذا لم يُعِد [ذكرَ] (2) الثمن وخطابَ الطالب، ولم يأت بكلام ينتظم مبتدءاً، وليس كما لو قال المخاطب: قبلتُ؛ فإن قوله مع الإيجاب كلامان ينتظم أحدهما مع الثاني.
وإذا قال الدلال: بعتَ عبدك هذا من هذا الرجل، فقال: بعتُ، فيقع قوله جواباً للدلال، وما كان جواباً له لم يصلح أن يكون خطاباً لذلك [الطالب] (3)، فلا يتجه في كونه جواباً إلا الخبر، وهو مضطرب في كونه إقراراً أيضاًً؛ فإن قرينة استدعاء الدلال شاهدة على أنه يبغي منه الابتداء.
__________
(1) تُلاجّه: من اللجاجة.
(2) زيادة لاستقامة الكلام، وهي في عبارة ابن أبي عصرون.
(3) زيادة من المحقق، اقتضاها السياق.

(14/315)


وقال الأصحاب: لو قالت المرأة لزوجها؛ طلاق ده مرا، فقال: "دادم" لا يقع به شيء، لأن قوله: "دادم" (1) لا يصلح للإيقاع.
قال القاضي: عندي يقع الطلاق؛ لأن المبتدأ يصير معاداً في الجواب، وهذا الذي ذكره مذهب أبي يوسف، وهو متجه؛ فإن السؤال مع الجواب يترتبان ترتب الإيجاب والقبول. فأما إذا قال الدلال: بع عبدك هذا بألف، فقال: بعت، فلا يستقل قول صاحب العبد: "بعت" كلاماً مبتدأ، ولا يترتب على قول الدلاّل جواباً.
فرع:
9303 - لو قال: أنت طالق طلقةً عددَ التراب، وقعت طلقة واحدة؛ لأن التراب في نفسه جنس واحد. فإن قال: أنت طالق عدد أنواع التراب، طلقت ثلاثاً.
فرع:
9304 - لو قال: أنت طالق طلقةً وطلقتين، وقع الثلاث، فإن قال: أردت إعادة تلك الطلقة الأولى في الطلقتين، وضمَّ أخرى إليها، قيل: يقبل ويقع طلقتان؛ فإن هذا محتمل.
والذي صار إليه الجمهور أنه تقع الثلاث؛ لأن المعطوف غير المعطوف عليه.
ولو قال بالفارسية: (تو از زني مَن بيك طلاق ودو طلاق هشته اي) (2)، كان القفال يفتي بالثلاث قياساً على ما ذكرناه في العربية قال القاضي يقع عندي طلقتان، لأن الناس يقصدون منه إيقاع طلقتين، ومن أراد منهم الثلاث زاد، فقال: (بيك طلاق وبدو طلاق وبسه طلاق هشته اي).
فرع:
9305 - إذا قال الزوج: طلّقي نفسك إن شئت ثلاثاً، فلا بُدّ في هذه
__________
(1) هذه الألفاظ الفارسية معناها كالآتي: "طلاق ده مرا" معناها: أعطني الطلاق: أي طلقني. وكلمة (دادم): أي أعطيت.
(2) جملة فارسية صوابها: "توزَنْ مَنْ بَيَكْ ودُو طلاق" والمعنى الحرفي: تو= أنتِ، زَن: زوج، من= ضمير المتكلم (أنا) = زوجتي. بَيَكْ= بواحد طلاق، ودو طلاق= واثنين طلاق.
والمعنى الأجمالي: أنت يا زوجتي طالق بواحدة وطالق باثنتين.
واختلف في هذا، فقال القفال: يقع ثلاث طلقات، وقال القاضي: يقع ثنتان فقط، ومن أراد الثلاث قال: " بَيَكْ طلاق، وبدُو طلاق، وبـ سِه هسته إي "
ومعنى: بـ سِه= بثلاث، هسته إي= أسلوب تأكيد
والمعنى الأجمالي: أنت طالق بواحدة وباثنتين وبثلاثة قطعاً.

(14/316)


المسألة من أن تشاء، هذا هو الذي عليه التفريع، فلو أنها شاءت، فتطلِّق نفسها، وتقول: شئت، وطلقت نفسي، ولا يكفي أن تقول: شئت؛ فإنه لم يعلّق الطلاق على مشيئتها بل علق تفويض الطلاق إليها على مشيئتها.
فلو قال: طلقي نفسك ثلاثاًً، فطلقت واحدة، وقعت الواحدة، وهذا الأصل مشهورٌ قدمنا ذكره.
فلو قال: طلقي نفسك إن شئت ثلاثاً، فلو أنها شاءت طلقةً واحدةً، وطلقت نفسها واحدة، قال صاحب التلخيص لا يقع شيء، وكذلك لو قال لها: طلقي نفسك إن شئت واحدة، فشاءت ثلاثاًً، فطلقت نفسها ثلاثاًً، فلا تقع واحدة منها.
وعلة ما ذكره أنه لم يملّكها الثلاث ولا الواحدة في المسألتين تمليكاً مجرداً، بل علّق التمليك بمشيئة موصوفة بصفةٍ، فإذا قال: طلقي نفسك إن شئت ثلاثاًً، فقد شرط في ملكها الطلاق أن تشاء ثلاثاً، وكذلك عكس هذا.
وذكر الأصحاب ما ذكره، ووافقوه.
ومسألتاه مصورتان فيه إذا خلّل ذكرَ المشيئة بين قوله: طلقي وبين قوله ثلاثاًَ أو واحدة، فلو قال: ثلاثاًَ إن شئت، أو طلقي نفسك واحدة إن شئت، فذكر المشيئةَ بعد ذكر العدد أو بعد ذكر الواحدة، فلو شاءت واحدةً وقد جرى التفويض في ثلاث، وقعت الواحدة.
ولو طلقت نفسها في مسألة الواحدة ثلاثاً، وقعت الواحدة، كما لم يكن في المسألة مشيئة، ولكن لا بدّ من أن تذكر المشيئة. ومجرد تطليقها نفسها لا يكفي.
والفرق بين ذكر المشيئة قبل [العدد] (1)، وبين ذكرها بعدَه أنه إذا قال لها: "طلقي نفسك إن شئت ثلاثاً"، فإذا لم تشأ ثلاثاًَ لم تتحقق مشيئتها؛ فإنه وصف مشيئتها بالتعلّق بالثلاث، فإذا لم تحصل المشيئة المشروطة، فلا يقع الطلاق، فمهما (2) ذكر العدد بعد المشيئة فالعدد متعلق المشيئة، وكذلك لو قال: طلقي نفسكِ
__________
(1) في الأصل: العدّة.
(2) فمهما: بمعنى: فإذا.

(14/317)


إن شئت واحدة، وليس كذلك قوله: طلقي نفسك ثلاثاًً إن شئت.
وهذا الذي ذكره الأصحاب ظاهر إذا كان الكلام مطلقاً.
وإن زعم أني أردت بقولي ثلاثاًً بعد المشيئة تفسيرَ الطلاق، لا وصفَ المشيئة، فهذا مقبول.
وإذا قال لها: طلقي نفسكِ إن شئت واحدةً، فطلقت نفسها ثلاثاًً، فهذا فيه احتمال عندي؛ فإن من شاء الثلاث فقد شاء واحدة؛ إذ الثلاث تنطوي على الواحدة، ويحتمل ما قاله الأصحاب؛ فإنه جعل الواحدة متعلَّق المشيئة، فلا يمنع أن تكون المشيئة موصوفة باتحاد المراد.
فرع:
9306 - قد ذكرنا أنه إذا قال: إن حلفت بطلاقك، فأنت طالق، ثم قال: إذا طلعت الشمس أو مطرت السماء، أو هبت الريح، أو ما أشبه ذلك، مما لا يتعلق باختيارٍ لها، ولا يتصور فيه منع ولا تحريض، فلا يقع الحِنث بذلك.
ولو زعم الزّوج أن الشمس قد طلعت فخالفته المرأة، فقال: إن لم تطلع، فأنت طالق، فيحنث بهذا في يمينه الأولى، وهو قوله: إن حلفت؛ فإنه قصد تصديق نفسه، وهذا من مقاصد الأَيْمان، فصار قوله يميناً على هذا الوجه.
فروعٌ تتعلق بالمعاياة وطرائف الأسئلة:
9307 - إذا قال لها: إن لم تعرّفيني عدد الجوز الذي في هذا البيت، فأنت طالق، وكان البيت ممتلئاً جوزاً، وربما يضيق عليها الزمان الذي تجيب فيه، قال الأصحاب: الحيلة في نفي الطلاق أن تذكر المرأة عدداً يقدّر الجوز عليه، فإن استرابت زادت حتى تستيقن أنها ذكرت فيما ذكرت عدد الجوز، ولا يضرها الزيادة على العدد، فإنها وإن زادت، فقد ذكرت العدد المطلوب.
وهذا خطأ عندي إن ذكر في سؤاله التعريف؛ فإنّ اللفظ يشعر بأن [غرضه أن] (1) تفيده المعرفة بعدد الجوز، والذي ذكرْته على مجازفةٍ ليس بتعريفٍ، وإنما فرض الفقهاء هذه الصورة فيه إذا قال لها: إن ذكرت لي عدد ما في البيت وإلا فأنت طالق،
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(14/318)


فإذا ذكرت عدداً على النسق الذي ذكرناه، فتكون ذاكرةً لذلك العدد فيما تذكره من الأعداد، ولكن الشيخ ذكر في المسألة التعريف.
ثم إذا فرضنا في الذكر -وهو الوجه- فلتأخذ من عدد [تستيقنه] (1) مثل أن تعلم أن عدد الجوز في البيت يزيد على ألفٍ، ثم تذكر الألف، وتزيد ضمّاً للعدد إلى العدد، حتى تنتهي إلى مبلغٍ تستيقن أن ما في البيت لا يزيد عليه، ولا يتصور هذا ما لم تزد [إلى] (2) أن يفرض وفاق، وهو نادرٌ في التصور.
ومما يجب الاعتناء به أنها إذا ذكرت الألف، كما صوّرناه، فقد ذهب القاضي إلى أنها تزيد على ما استيقنته واحداً واحداً، فلو قالت: ألفاً ثم ألفين، أو مائة ألفٍ، لم يكفها ذلك، إذ لو كان يكفيها ذلك، لذكرت عدداً على مبلغ عظيم أوّل مرّةٍ، فإذا قال الأئمة: تذكر ما تستيقن، ثم تزيد عليه، فلا وجه للزيادة إلا ما ذكرناه؛ فإنها سَتَمُرّ إذا كانت تزيد واحداً واحداً بالعدد الخاص بجَوْزِ البيت، وإذا لم تفعل هكذا، وذكرت مائة ألفٍ وعددُ ما في البيت ينقص عن هذا، فما ذكرت عدد الجَوْز في البيت، وإنما ذكرت عدداً عددُ ما في البيت بعضه.
ثم هذا الذي ذكرناه في اللفظ المطلق، فلو أراد الزوج بهذا تنصيصها على العدد المطلوب، فلا ينفع ما ذكرناه.
والذي يدور في خلدي من هذه المسألة أن مطلق هذا في العرف لا يُشعر إلا بالتنصيص، وقد نصّ الأصحاب على خلاف هذا، وكنت أودّ لو فرضت هذه المسألة فيه إذا نوى الزوج ما ذكرناه، ثم كان يقال: هل يزال ظاهر الإطلاق بنيّته، فعلى تردد.
9308 - ولو قال: إن لم تعُدِّي الجوز الذي في هذا البيت في ساعة، فأنت طالق، ذكر أصحابنا وجهين: أحدهما - أنها تأخذ من مبلغ [تستيقنه] (3)، ثم تأخذ في
__________
(1) في الأصل: تستبقيه. والمثبت من مختصر ابن أبي عصرون.
(2) في الأصل: "إلا".
(3) في الأصل: تستيقن.

(14/319)


الزيادة، كما ذكرناه فيه إذا قال لها: إن لم تذكري عدد الجوز.
ومنهم من قال: إذا كانت اليمين معقودة على العدّ، فلا بد وأن تبتدىء من الواحدة، وتأخذ في الزيادة، حتى تنتهي إلى الاستيقان كما ذكرناه؛ فإن العدّ متضمّنه التفصيل من الواحدة إلى المنتهى، وليس كالذكر، ولم يذكر أحد من الأصحاب أن العدّ محمول على تولّي العدّ، فعلاً، وزعموا أن العدّ إنما هو العدّ باللسان.
ولست أرى الأمر كذلك؛ فإن من [جلس] (1) نَبْذةً من بيتٍ فيه جَوْز، ثم أخذ يهذي ويذكر باللّسان أعداداً، فهذا لا يسمى عدّاً في الإطلاق، وإن حمل [لفظُهُ] (2) عليه، كان تأويلاً، والنظر في أن التأويل المزيل للظاهر، هل يقبل؟ نعم، إذا قال: "إن لم تعدّي"، فرمقت الجوز، وأخذت تعدّ وترمق كل جوّزة، فهذا عدٌّ، وإن لم يوجد فعلٌ باليد، فأما قول اللسان، فلست أراه عدّاً.
9309 - ولو قال - وقد خلط دراهم لامرأته بدراهمَ كانت في كفّه: إن لم تميّزي دراهمَك من هذه الدراهم، فأنت طالق. قال الأصحاب: المخلّص أن تميز الدراهم كلها تمييزاً عاماً، بحيث لا تبقي منها درهماً ودرهمين ملتصقين.
وكذلك إذا كانا يأكلان تمراً أو مشمشاً، فقال: إن لم تميزي نوى ما أكلت، فأنت طالق، فالطريق ما ذكرناه.
وهذا فيه نظر عندي، فإن نوى التنصيص في التمييز، فالذي ذكرناه ليس بمخلّص، وإن أطلق اللفظ، فالذي ذكره الأصحاب أن ما ذكرناه [مُخلِّص] (3).
ولست أرى الأمر كذلك إن كنا نأخذ المعاني مما تبتدره الأفهام، ولئن كان للفقه تحكم في حصر الصرائح أخذاً من التعبد [والتكرّر] (4) في الشرع، فألفاظ المعلِّقين لا نهاية لها، وليس للصفات التي يذكرونها ضبط، فسبيل الكلام على الظواهر تنزيلها
__________
(1) في الأصل: حبس. ومعنى العبارة: أن من انتبذ جانباً من البيت، وفيه جوز، ثم أخذ يهذي ... إلخ.
(2) في الأصل: لفظ.
(3) في الأصل: تخلّص.
(4) في الأصل: غير مقروءة (انظر صورتها).

(14/320)


على ما يُفهم، وإنما يتميز الظاهر عن الكلام المتردد بشيء واحدٍ، وهو أن يفرض الإطلاق، ثم لا يفرض مراجعة المطلِق واستفسارُه، فما كان كذلك، فهو ظاهرٌ، والنص كذلك، غيرَ أن مُطْلِقَه لو ذكر له تأويلاً، لم يُقبل، ولم يُرَ له وجهٌ في الاحتمال، وأمثال هذه الألفاظ لا يستريب الفاهمون أن معانيها على خلاف ما وضعها أصحاب المعاياة، فالوجه وضعها مع تجريد القصد إليها على حسب ما يذكره الفقيه.
9310 - ولو كان في فم المرأة تمرة، فقال الزوج: إن بلعتيه، فأنت طالق، وإن لفظتيه، فأنت طالق، وإن أمسكتيه، فأنت طالق، فالمخلِّص أن تأكل نصفه وتلفظ نصفه، ولا يحصل الحِنث بوجهٍ من الوجوه التي ذكرناها.
9311 - ولو قال - وهي في ماءٍ جارٍ: إن مكثت فيه، فأنت طالق، وإن خرجت منه فأنت طالق.
قال الأصحاب: لو مكثتْ، لم تطلق، لأنّ الدُّفع من الماء التي تَلْقاها قد جرت وانحدرت، فلم تمكث فيه، ولم تخرج منه.
وهذا قريب من الفنون المقدمة.
فإن نوى الزوج الخروج من ماء النهر، فما ذكرناه ليس بمخلِّص، وإن خطر له ما ذكرناه، أمكن أن يقبل، وإن أطلق، ففيه نظر، وهذا من الأقطاب؛ فإن أمثال هذه الألفاظ لو ردّت إلى اللغة، فيمكن تنزيلها على ما ذكره الفقهاء، وإن ردّت إلى ما يفهم منها في الإطلاق، فالأمر على خلاف ما ذكروه، والحمل على موجب الفهم عند الإطلاق أوْلى.
هذا منتهى القول في هذه الأجناس.
9312 - وإذا كانت على سلّم، فقال: إن نزلت من هذا السّلم، فأنت طالق، وإن زَنأتِ (1)، فأنت طالق، وإن وقفت، فأنت طالق، فالوجه أن تطفر إن قدرت عليه، وإلا تُحْمل من السلم، أو يُضْجَع السلم وهي عليه، أو ينصب بجانب السُّلّم سُلَّم آخر حتى تتحول إليه.
__________
(1) زنأتِ: أي صعدت. من قولك زنأت في الجبل إذا صعدت فيه (المعجم).

(14/321)


ولست بالراغب في هذه الفنون، واللائق بهذا المجموع [أن] (1) يبتنى على ما هو الوجه، وما ذكرته من نظر الناظرين إلى اللغة والإضراب عن المفهوم من الألفاظ.
ولو قال لامرأته: إن أكلت هذه الرمانة، فأنت طالق، فأكلتها إلا حبة، لم تطلق، وهذا سديد في اللغة والعرف، وقد يقول القائل: أكلتُ رمانة، وإن فاتته حبّة، ولكن للاحتمال فيه مجالٌ. وإذا اجتمعت اللغة وتردد العرف، فالحكم بوقوع الطلاق لا وجه له، ولا يعدُّ من قال: لم يأكل رمانةً إذا ترك حبّةً حائداً عن ظاهر الكلام.
ولو علق الطلاق بأكلِ رغيفٍ، فجرى الأكل فيه، وبقيت فُتَاتةٌ، قال القاضي: لا تطلق، واعتبر الفتاتة بحبات الرمانة.
والقول في هذا مفصل عندي، فإن كان ما سقط قطعةً محسوسةً وإن صغرت، فهي كالحبة من الرمانة، وأما ما دق مُدركه من الفتاتة، فما عندي أنه يؤثر في الحِنث والبر، وهذا عندي مقطوع به في حكم العرف إن كان على العرف معوّل في الأَيْمان.
وسمعت شيخي كان يقطع بهذا في الفتاوى.
والضبطُ لهذه الأجناس أن من سئل عن لفظة، فإن كان لا يدري معناها في اللغة، فلا يهجم على الجواب، ولكن من جوابه: إني أراجع في هذه من يعرف اللغة، وإن كان يعرف معناها في اللغة وأحاط بأنه منطبق على العرف، جرى في الجواب.
وإن جهل العرف، سأل عنه أهل العرف، وإن كان العرف متردّداً كان صغوه الأكثر إلى استبقاء النكاح.
وإن صادف العرفَ على خلاف اللغة في وضعها، كان واقعاً في المعاياة، والوجه عندي تحكيم العرف على اللغة، كما أوضحته وبينت مسلك الأصحاب، ولا يسوغ الميل عن جادّة الفقه، حتى تحلو المسائل في استماع العوام.
فروع في المكافأة والتعليقات بالصفات النادرة:
9313 - وهي كثيرة الجريان في الخصومات الناشئة بين الزوجين، وأكثر ما تقع هذه المسائل فيه إذا بدأت المرأة، فواجهت زوجها بما يكرهه، ووصفته بصفةِ ذمٍّ،
__________
(1) زيادة من المحقق.

(14/322)


وقال الزوج: إن كنتُ كما قلتِ، فأنت طالق، فهذه المسائل تجري على ثلاثة أقسام: أحدها - أن يقصد الزوج تعليقاً على التحقيق.
والثاني - أن يقصد مكافأتها ليغيظها بالطلاق، كما غاظته بما أسمعته.
والثالث - أن يُطْلِق اللفظَ.
فإن قصد التعليق، فلا بدّ من النظر في الصّفات: فإن تحققت، وقع الطلاق، وإن انتفت، لم يقع، وإن أشكلت، فالأصل أنْ لا طلاق، ثم كثيراً ما يجري في المهاترات، والإفحاش، والخنا (1) في المنطق - صفاتٌ لا تكون، فيقع الناظر في التطلب، فالوجه الحكم بأن الطلاق لا يقع.
وأنا أذكر من جملتها واقعةً رُفعت في الفتاوى، وهي أن المرأة قالت لزوجها: يا (جهوذروى) (2)، فقال في جوابها: إن كنت كذلك، فأنت طالق؛ فوقع المسْتَطْرِفُون وبَنُو الزمان في طلب هذه الصفة، فذهب بعضهم إلى الحمل على صفار الوجه، وسلك سالكون مسلك مخيلة الذل في خبطٍ لا أصفه، وكان جوابنا فيه: إن المسلم لا يكون على النعت المذكور، فلا يقع الطلاق، ولم أوثر ذكر ما فيه فحش، وفيما أوردته التنبيه التام للفطن.
وإن قصد الرجل بذلك مكافأتها، فاللفظ صريح في التعليق، ولكن إذا أراد الزوج مكافأةً، فلها وجه، والتقدير: إن كنت كذلك، فأنت طالق إذاً. ومما مهدته أن الاحتمال الخفي مقبول في وقوع الطلاق إذا أراده اللافظ.
وإن أطلق اللفظَ، فهو محمول عندي على التعليق، إلا أن يعم عرفٌ في المكافأة، فيجتمع وضع اللغة والعرف، وقد سبق الكلام فيه.
وقد رأيت كثيراً من المشايخ يميلون إلى المكافأة للعجز عن النظر في الصفات،
__________
(1) الخنا: الفحش في المنطق، يقال: خنا فلان يخنو خَنْواً، وخناً: أفحش في منطقه.
(المعجم).
(2) كلمة فارسية وصوابها (جهره زَرْدْ) أي أصفر الوجه. هذا هو المعنى الحرفي، ويبدو أنها كانت عبارةً دارجة تستخدم في السب كناية عن صفات قبيحة يفحش التصريح بها، وقريب من ذلك قول العامة في سبابهم: يا أسود الوجه.

(14/323)


وسبب ذلك أنهم حسبوا كلّ مذكورٍ كافياً. ومعظم بدائع الشتائم غير كائنة، فلا يقع الطلاق.
فرع:
9314 - إذا قال: أنت طالق يوم يقدَم فلان، فقدم ليلاً، فالمذهب أن الطلاق لا يقع، فإنه لم يعلّق الطلاق على مجرّد القدوم، حتى ربطه بالوقوع في يوم، وذكر بعض الأصحاب وجهاً أن مطلق هذا يحمل على وقت القدوم، وهذا بعيد لا أعده [من المذهب] (1) ومن أحكم الأصول إلى هذا المنتهى، لم يخف عليه دَرْكُ مثل هذا.
فرع:
9315 - حكى العراقيون عن ابن سريج أنه قال: إذا قال الزوج لامرأته: إن لم أطلقك اليوم، فأنت طالق اليوم، فلا يقع الطلاق أصلاً؛ وذلك أنه ما دام اسم اليوم موجوداً، فيقدّر التطليق فيه، فلا يقع الطلاق. وإذا انقضى اليوم، فقد فات الإيقاع والوقوع جميعاً.
قال الشيخ أبو حامدٍ: وهذا هفوة، والوجه القطع بأن الطلاق يقع في آخر جزء من اليوم، ونتبين ذلك بعد انقضائه، والدليل عليه: أنه لو قال: أنت طالق إن لم أطلقك، فإذا مات ولم يطلقها، فيتضح لنا أنها طلقت قُبيل موته، وما ذكره ابن سريج يقتضي ألا يقع الطلاق، ولو هجم هاجم على ركوب هذا، لكان خارقاً للإجماع.
فرع:
9316 - إذا قال لامرأته: إن خالفت أمري، فأنت طالق، ثم قال لها: لا تكلمي زيداً، فكلمته، لم تطلق؛ لأنها خالفت نهيه، ولم تخالف أمره.
ولو قال لها: إن خالفتِ نهيي فأنت طالق، ثم قال لها قومي، فقعدت، فقد ذهب الفقهاء إلى أن الأمر بالشيء نهي عن أضداد المأمور به، وقالوا على حسب معتقدهم: إذا قعدت، فقد خالفت نهيه، فيقع الطلاق، وقد أوضحنا في مجموعاتنا في الأصول أن الأمر لا يكون نهياً، ولا يتضمن نهياً، فلا يقع الطلاق إذاً.
ولو كنا نعتقد اعتقاد الفقهاء، لتوقفنا في وقوع الطلاق أيضاًً؛ فإن الأيْمان لا تحمل على معتقدات الناس في الأصول، وإذا قال لها الرجل: قومي، فلم يوجد منه نهي
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(14/324)


حتى يفرض تعلّق الطلاق بمخالفته، والطلاق لا يقع بالضِّمْن إذا لم يجر الوصف الذي هو متعلق الطلاق تحقيقاً.
فرع:
9317 - إذا قال لنسائه: من أخبرتني بقدوم زيدٍ، فهي طالق، فأخبرته منهن واحدة، طلقت، صادقةً كانت أو كاذبةً.
وقال بعض المصنفين: لا يقع الطلاق ما لم تكن صادقة، وهذا فيه احتمال.
ولو قال: من أخبرتني أن زيداً قَدِمَ، فهي طالق، فأخبرته واحدة، طلقت، وإن كانت كاذبة، وإنما أوردنا هذا الفرع لحكاية هذا الفرق بين اللفظين، وهو حسن، فانتظم منه أنه إذا قال: من أخبرني بأن زيداً قد قَدِمَ فلا فرق بين الصّدق والكذب، وإن قال: من أخبرني بقُدومِ زيدٍ، فأخبرت واحدة كاذبةً، ففي المسألة وجهان، لم أقدّم ذكرهما.
فرع:
9318 - إذا قال: أنت طالق بمكة، وأراد تعليق الطلاق على أن تأتي مكة وتطلّق حينئذ، فهذا محتمل، وإن قال: أردت التنجّيز، قَبِلْنا، ولم نتأنّق في إظهار وجهٍ من الوقوع.
وإن أطلق لفظه، فقد حكى شيخي وجهين في أنه هل يحمل على التعليق، أو على التنجيز، ففي المسألة احتمال، أما التعليق، فسابق إلى الفهم، وأما التنجيز، فسببه أنه ليس في اللفظ أداة تصلح للتعليق.
فرع:
9319 - إذا قال لامرأته: إذا دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال: عجّلت تلك الطلقة المعلقة وجعلتها منجّزة، فإنها تقع في الحال.
ولو وُجدت تلك الصفة، ففي وقوع الطلاق وجهان ذكرهما شيخي، وحاصلهما يرجع إلى [أن] (1) الطلاق المعلق هل يقبل التنجيز أم لا؟ وقد قدمت هذا في أول كتاب الخلع، ولكن رأيت هذين الوجهين للشيخ أبي عليّ، فأحببت نقلهما.
فرع:
9320 - إذا قال: أنت طالق إلى حين، أو زمان، فإذا مضت لحظة وإن لطفت، حكمنا بوقوع الطلاق؛ فإن اسم الحين والزمان ينطلق عليه.
__________
(1) زيادة اقتضاها السياق.

(14/325)


ولو قال لها: إذا مضى حِقَبٌ أو دهرٌ، فأنت طالق، قال الأصحاب: هذا كما لو قال: إذا مضى زمان أو حين، وهذا مشكل جداً؛ فإن اسم الدهر والحقب لا يقع على الزمان اللطيف، وإيقاع الطلاق بعيد مع حسن قول القائل هذا الذي مضى ليس بدهرٍ، وقيل: سُئل أبو حنيفة (1) عن تعليق الطلاق بالدهر، فقال: لا أدري، وروجع مراراً فأصرّ عليه.
والذي أراه فيه أن العَصر عبارة عن زمانٍ يحوي أمماً، فإذا انقرضوا، فقد انقرض العصر، أو من قول الناس: انقرض عصر الصحابة. ومن كلام الأصوليين هل يشترط في انعقاد الإجماع انقراض العصر؟ هذا بيّن في معنى العصر، والحكم بوقوع الطلاق دون ذلك، أو في الزمن القريب بعيد عندي، وأما الدّهر، فإطلاقه على الزمان القريب بعيدٌ، [بعد] (2) ما تمهّد من وجوب إمالة الفتوى إلى نفي الطلاق.
وهذه الألفاظ تُصوّر مطلقةً، وفيها يقع الكلام، وبحقٍّ توقّف أبو حنيفة في هذه المسألة، وفي القرآن ما يدل على أن الحين من الدّهر، قال الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان:1] وسُمي القائلون بقدم العالم دهريةً، وقد يطلق الدهر، ولا يراد به الزمان، وهو معنى تسمية الملحدة دَهْرية، فإنهم يضيفون مجاري الأحكام إلى الدّهر، وإلى هذا أشار الرسول عليه السلام، وقال: "لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر" (3) وليس ينقدح لي في الدهر معنى إذا كان مطلقاً، وقرن بالمضي إلا الحمل على العصر، فإنه يقال مضى عصر الأكاسرة، وانقضى دهرهم، ولست واثقاً بهذا أيضاًً، والذي حكيته عن الأصحاب تنزيل الدهر والعصر منزلة الحين والزمان.
فرع:
9321 - قال صاحب التقريب: إذا قال: أنت طالق اليوم إذا جاء الغد، فلا يقع أصلاً، فإنه علق وقوع الطلاق في اليوم على مجيء الغد، فلا يقع الطلاق قبل
__________
(1) لم نصل إلى هذا النقل عن أبي حنيفة في كتب الأحناف التي رجعنا إليها، أما المسألة فانظر المبسوط 6/ 105، 114، وفتح القدير، والكفاية: 3/ 371.
(2) زيادة من المحقق.
(3) حديث: "لا تسبوا الدهر ... " أخرجه مسلم في كتاب الألفاظ من الأدب وغيرها، باب كراهية تسمية العنب كرماً، ح 2247. =

(14/326)


مجيء الغد، ثم إذا جاء الغد، فقد مضى اليوم، فلا يمكننا أن نوقع الطلاق في الزمان الماضي.
ولا يبعد أن يقال: يقع الطلاق إذا جاء الغد مستنداً إلى اليوم، كما لو قال: إذا قدم زيد، فأنت طالق قبل قدومه بيوم، فالمسألة مشكلة.
فروع ذكرها ابن الحداد من مسائل الخلع
9322 - منها: إن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثنتين إحداهما بألف، فنقول: لا تخلو المرأة إما أن تكون مدخولاً بها، وإما ألا تكون مدخولاً بها، فإن كانت مدخولاً بها، فلا يخلو إما أن قبلت الألف أو لم تقبلها: فإن قبلت الألف، حكمنا بوقوع الطلقتين على الصحيح، وسنذكر فيها خلافاً في أثناء المسألة، إن شاء الله.
وإن لم تقبل الألف، فهل يقع طلقة واحدة أم لا؟ فعلى وجهين: أحدهما - لا يقع شيء؛ فإنه ذكر عوضاً في مقابلة إحداهما، وجعل الأخرى تابعة لها، فإذا لم تقع التي هي بعوض، فلا تقع الأخرى.
والوجه الثاني - تقع واحدة من غير عوض رجعية؛ فإنّه علق إحداهما بعوض، ولم يعلق الأخرى بالعوض، فينبغي أن تقع، فلا تفتقر إلى القبول، قال الشيخ هذا هو القياس، واختار ابن الحداد الوجه الأوّل.
ثم قال رضي الله عنه، ولا خلاف أنه لو قال: أنت طالق ثنتين واحدة بألفٍ، والأخرى بغير شيء، فتقع تلك الواحدة من غير قبول، [وحكي] (1) الوفاق في هذه الصيغة، وليس يبعد عندنا طرد الوجهين فيها أيضاًً تشبيهاً (2) بالمسألة الأولى.
فإن قلنا: إنه لا يقع شيء أصلاً لو لم تَقبل، فإذا قبلت وقعتا جميعاًً.
وإن قلنا: إن طلقةً تقع من غير قبول، فعلى هذا كما (3) قال الزوج ما قاله،
__________
(1) في الأصل: نحكمي (رسمت هكذا تماماً).
(2) في الأصل: وتشبيهاً.
(3) كما: بمعنى كلما، أو عندما.

(14/327)


حكمنا بوقوع طلقة رجعيةٍ، فإذا قبلت فيكون ذلك بعد وقوع طلقة رجعية، فإذا قبلت، فيكون ذلك اختلاعاً بعد وقوع طلقةٍ رجعيةٍ.
وقد اختلف المذهب في أن الرجعية هل يصح اختلاعها؟ فإن جوّزناه، فقد لزمها الألف وبانت، وإن قلنا: لا يلزمها المال أصلاً، قال الشيخ: فهل يقع الطلاق الثاني رجعياً مع الأوّل، فيقع طلقتان رجعيتان، فعلى وجهين: أحدهما - لا يقع؛ فإن المال لم يلزم وهو [ملازمٌ للمال] (1).
والثاني - إنه يقع؛ فإن المرعي في وقوع الطلاق القبول، وقد جرى، فأشبه ما لو خالع امرأته المحجورة.
هذا كله إذا كانت المرأة مدخولاً بها.
9323 - فإن كانت غير مدخول بها والمسألة بحالها، فإن قلنا: لا يقع طلقة من الطلقتين إلا بالقبول، فإن قبلت، صح الخلع ووقعتا جميعاًً.
وإذا قلنا: تقع طلقة مجّاناً، فتبين بها قبل أن تجيب، ولا يصح الخلع أصلاً، فلا حكم لقبولها، فإنه جرى بعد البينونة.
وفي المسألة مباحثةٌ نُطلع على لطفها وسرِّها، وذلك أنا إذا قلنا: لا يقع شيء إذا لم تقبل، فإذا قبلت، وقعت الطلقتان، فإحداهما تُقابل بالعوض والأخرى عريَّةٌ عن العوض، والطلاق المقابَل بالعوض في حق المدخول بها مُبينٌ، والطلاق الذي لا عوض معه، ولا يحصل استيفاء العدد به ليس بمُبين، فيقع طلاقان: أحدهما - المبين ويقترن [به] (2) طلاق على نعت الطلاق الرجعي.
9324 - ولو قال لامرأته التي دخل بها: إذا طلقتك، فأنت طالق، ثم خالعها، طُلِّقت طلقةً بعوض، ولم تلحقها الطلقة المعلقة؛ فإنها لو لحقتها، لصادفت بينونةً، واقتران البينونة يمنع وقوع الطلاق، كما أن تقدّم البينونة يمنع استعقاب الطلاق، فكيف يقع طلاقان مختلفان أحدهما بمال والآخر عريٌّ عن العوض، فالطلاق المُبين
__________
(1) في الأصل: غير مقروءة (انظر صورتها).
(2) في الأصل: بها.

(14/328)


ينافي وقوع الطلاق الذي لو انفرد، لكان رجعيّاً.
وإن قيل في جواب ذلك: لا يمتنع في الاجتماع هذا؛ فإن من طلق امرأته ثلاثاً، فلو فرضنا الاقتصار على طلقتين، لكانتا رجعيتين، والثالثة توقع الحرمة الكبرى، ثم لم يمتنع الاقتران.
وهذا لا يدفع بالسؤال، فإن الثلاث إذا جمعت، فحكمها تحريم العقد، ولا يتصف طلقة منها بكونها رجعية، بل حكم جميعها تحريم النكاح، والطلاق بالمال متميز عن الطلاق المقترن به صفةً وحكماً، فيقع الطلاق المقترن به مع البينونة، والواقع مع البينونة يصادف بائنة، وإذا صادف بائنةً، وجب ألا يمتنع وقوعه بعد البينونة.
فوجه الجواب إذاً أن نقول: إذا فرعنا على أن المرأة لو لم تقبل المال، لم يقع واحدة من الطلقتين، فاستحقاق المال يتعلق بالطلاقين، وإن أثبت أحدهما أصلاً والثاني تبعاً، فسبب وقوع التابعة ارتباطها؛ بالأخرى؛ من حيث إنها تتوقف على قبول المال توقف الأخرى.
هذا هو الوجه في الانفصال عن السؤال، وقد تركنا على الناظر فضلَ نظر، فلينظر، فقد مهدنا السبيل.
9325 - ولو قال: أنت طالق ثلاثاًً على ألف، فقالت: قبلتُ واحدة، أو قالت: قبلت واحدةً بثلث الألف، فلا يقع الطلاق أصلاً، وبمثله لو قالت المرأة لزوجها: طلقني ثلاثاً بألف، فطلقها واحدة، استحق ثُلثَ الألف.
وقد قدمنا هذا في أصول الخلع، واستفرغنا الوُسع (1) في الفرق.
قال الشيخ: رأيت لبعض أصحابنا تخريجاً في جنب الزوج، أنها إذا سألت ثلاثاًً بألف، وأجابها إلى واحدةٍ لم يستحق شيئاً، ولم يقع الطلاق قياساً على جانبها.
وهذا غريب جداً.
ولو قال لامرأته: أنت طالق على ألف، فقالت: قبلت واحدة بألفٍ، قال
__________
(1) عبارة الأصل: واستفرغنا الوسع في الوسع، في الفرض ...

(14/329)


الشيخ: المذهب الصحيح أن الطلاق يقع على الجملة على ما سنفصله، إن شاء الله، وإنما قلنا ذلك، لأن التعويل في جانبها على قبول المال، وقد قبلت المال.
ومن أصحابنا من قال: لا يقع الطلاق لاختلاف الإيجاب والقبول، فأشبه ما لو قال الرجل: بعت منك هذين العبدين بألف، فقال المخاطب: قبلت البيع في هذا العبد بألف، فلا يصح البيع.
قال الشيخ ويحتمل أن نقول: يصح البيع في ذلك العبد بالألف، تخريجاً على أصلٍ وهو أنه لو قال لوكيله: بع عبدي هذا بألفٍ، فباعه بألفٍ وثوبٍ، فهل يصح ذلك؟ فيه قولان وتفصيلٌ طويل.
وهذا التخريج في البيع بعيد؛ من قِبل أن المخاطب في البيع إذا غير طريق المقابلة يخرج كلامه عن كونه جواباً، والمرأة إذا قبلت الألف، فتعرضها لعدد الطلاق وتوحيده لا معنى له، فإذا عرفت أن الأصح وقوع الطلاق، فكم يقع؟
اختلف أصحابنا في المسألة: فمنهم من قال: يقع واحدة، فإنها قبلت واحدة، وهذا ظاهر كلام ابن الحداد. وإن لم يصرح به، وذلك أنه قال: قد أجابته وزادته خيراً، فلو كان يقع الثلاث، لما كان لما قاله ابنُ الحداد معنى.
والوجه الثاني - وهو اختيار القفال أنه يقع الثلاث، وهذا هو المذهب الصحيح، وذلك أن قبول الطلاق وتفصيله ليس إليها، وإنما إليها قبول المال فحسب، فمهما (1) قبلت ما رامه الزوج من المال، وقع ما قاله الزوج من الطلاق، وما ذكره الشيخ أبو علي من التخريج في البيع ينقدح على رأي ابن الحداد، ولا خروج له على الأصح الذي اختاره القفال، ولا يخفى دَرْكُ ذلك على الناظر.
ثم إذا حكمنا بوقوع الطلاق، فالمذهب الصحيح أن الألف يلزم.
قال الشيخ: رأيت لابن سريج وجهاً أن العوض يفسد، والرجوع إلى مهر المثل،
قال الشيخ، وهذا محتمل [إن] (2) قلنا: يقع طلقة واحدة، بل هذا [أوجه] (3) على
__________
(1) "مهما" بمعنى: "إذا".
(2) في الأصل: وإن قلنا. (وحذْف الواو تصرّفٌ منا).
(3) في الأصل: الوجه.

(14/330)


هذا الوجه، وإن قلنا يقع الثلاث، ففساد العوض أبعد على ذلك.
9326 - ثم ذكر ابن الحداد مسائل في الاختلاف نشير إلى بعضها؛ فإن أكثرها متعلق بكتب ستأتي، إن شاء الله.
فمما ذكره أن الرجل إذا كان تحته صغيرة وكبيرة، فخالع الكبيرة، على مال، وأرضعت الكبيرة الصغيرة، وأشكل الأمر، فلم ندر أيهما أسبق، ولا يخفى حكم سبق كل واحدٍ منهما لو ظهر، فلو سبق الرضاع، لغا الخلع، ولو سبق الخلع صح، ولا أثر للرضاع في الإفساد؛ فإن اختلف الزوجان، نُظر: إن اتفقا على وقت الخلع، وأنه جرى يوم الجمعة، واختلفا في وقت الرضاع، فقال الزوج: جرى يوم السبت، فقالت: بل يوم الخميس، فالقول قول الزوج، والأصل بقاء النكاح يوم الخميس، وإن اتفقا على أن الرضاع كان يوم الجمعة، واختلفا في الخلع، فقال الزوج: كان يوم الخميس وقالت: لا بل يوم السبت، فالقول قولها؛ فإن الأصل بقاء النكاح، وذكر من هذا الجنس مسائل ستأتي في كتبٍ، إن شاء الله، فلم نأت بها.
فرع:
9327 - إذا قالت المرأة لزوجها، طلقني على ألف درهم طلقة، فقال: طلقتك بخمس مائة، فالمذهب أن الطلاق يقع بمجرد ذلك.
ومن أصحابنا من قال: لا يقع لاختلاف الإيجاب والقبول، كما لو قال: بعني عبدك بألفٍ، فقال بعتكه بخمسمائة، قال الشيخ أبو علي: تصحيح البيع محتمل عندي، وقد قدمنا لذلك نظيراً.
ثم إذا وقع الطلاق، فكم يستحق الزوج؟ فعلى وجهين ذكرهما الشيخ: أحدهما - أنه يستحق تمام الألف؛ فإن تقدير المال إليها، والطلاق إليه.
والوجه الثاني - أنه لا يستحق إلا خمسمائة؛ فإنه رضي بها ولم يقبل الملك إلا فيها، والعوض لا يُمْلَك إلا بتمليك وتملك، ويحتمل عندي أن يُخرّج وجهٌ في المسألة في فساد العوض، والرجوع إلى مهر المثل.
وقد ذكر الشيخ لهذا نظيراً فيما سبق، ولم يذكره هاهنا.
ولو قال الرجل لآخر: إن رددت علي عبدي الآبق، فلك عليّ دينار، فقال

(14/331)


المخاطب: أرده بنصف دينارٍ، فالوجه عندي القطع بأنه يستحق الدينار؛ فإن القبول لا أثر له في الجعالة، وقد ينقدح فيه خلاف أيضاًً؛ فإن قبول المال لا أصل له في الخلع أيضاًً، فالطلاق ثَمَّ كردّ العبد هاهنا، غيرَ أن الطلاق قولٌ شُرط اتصاله بالاستدعاء، فضاهى القبول ولبسه (1).
فرع:
9328 - الزوج إذا ادعى اختلاع امرأته بألف درهم، فأنكرته، فأقام شاهداً وحلف معه، أو شاهداً وامرأتين، ثبت المال؛ فإن المال يثبت بما ذكرناه، أما الفرقة، فقد ثبتت (2) بقوله.
ولو ادعت المرأة الخلع، فأنكره الزوج، فلا بد من شاهدين؛ فإن غرضها إثبات الفرقة.
قال الشيخ: لو ادعى الرجل الوطء في النكاح، وغرضه إثبات العدة والرجعة، فلا يقبل منه إلا شاهدان [إن] (3) أراد إقامة البينة.
ولو ادعت المرأة مهراً في النكاح، وأنكر الزوج أصل النكاح، فأقامت شاهداً ويميناً على النكاح، وغرضها إثبات المهر، قال الشيخ: لم يثبت شيء بخلاف ما قدمناه، وذلك أن النكاح ليس المقصود منه إثبات المال، وإنما المال تابع، والنكاح لا يثبت إلا بشهادة عدلين.
وكان شيخي يقول: يثبت المهر إذا قصدته. وما ذكره الشيخ أبو علي أفقه (4)؛ فإنها وإن أثبتت مقصود المال، فمقصودها في النكاح غيرُ المال، والشاهد لهذا أن الشافعي لم يقض بانعقاد النكاح بحضور رجل وامرأتين، وهذا مشعر بأن النكاح من الجانبين لا يثبت إلا بعدلين، ولا يثبت شيء من مقاصده، وفي المسألة احتمال على حال.
__________
(1) كذا. بهذا الرسم تماماً، ولم أدر لها وجهاً. (انظر صورتها).
(2) في الأصل: تثبت.
(3) زيادة من المحقق. وهي موجودة فيما نقله السبكي في طبقاته عند ترجمته للإمام.
(4) جزم الرافعي بأن المهر يثبت بالشاهد واليمين، ولكن السبكي نقل المسألة كاملة، وأطال النفس في الانتصار لقول الإمام رادّاً لكلام الرافعي (ر. الطبقات: 5/ 220).

(14/332)


وسأجمع بتوفيق الله في الدعاوى والبيّنات قواعدَ المذهب فيما يثبت بالشاهد والمرأتين، وما لا يثبت إلا بعدلين.
وإلى الله الابتهال في تصديق الرجاء وتحقيق الأمل، وصرف ما نتعب فيه إلى نفع المسلمين، وقد نجز ما حصرنا من مسائل الطلاق أصلاً وفرعاً، وستأتي بقايا في الرجعة، والإيلاء، والظهار، إن شاء الله.
9329 - وقد كنا وعدنا أن نجمع في آخر الكتاب قولاً ضابطاً يجري مجرى التراجم المذكّرة، والكتابُ مشتمل على أحكام وتصرُّفٍ في ألفاظ، فأما الأحكام، فلها أصول، وقد تمهدت وتفرعت.
وأما الألفاظ، فالكلام فيها على أنحاء، منها: القول في الصريح والكناية، وقد مضى موضّحاً، ولا مَعْدِل عما هو صريح لفظاً ومحلاً وصيغةً إلا بجهات التديين، وقد انتظمت قواعد التديين.
والقول في الكنايات مضبوطٌ، فلا حاجة إلى إعادته، والصرائح تجري على صيغ، وصلات، وتكريرات تتردد بين التأكيد والتجديد وغيرها، فيلقى الفقيه أقساماً [وربما] (1) يقتضي الإطلاق وقوعاً، وينتظم في إبداء تأويل يخالف الوقوع خلافٌ (2).
وربما يقع الوفاق في قبول التأويل، ويجري في الإطلاق خلاف. وقد قدمت مراتب المذهب فيه.
هذا كله تصرف في الصريح والكناية ومبانيها وصلاتها، ومحالّها.
9330 - فأما ألفاظ المطلّقين في صفاتهم وتعليقاتهم، فلا ضبط لها، فكل ما يتفق فيه موجب اللسان والعرف، فالحكم به، ولا حيد عنه إلا بالتّدْيين على شرطه (3).
وإذا أشكل اللفظ في اللسان والعرف، فإن كان مثبَّجاً (4)، فلغوٌ؛ فإن النية
__________
(1) في الأصل: وبما.
(2) خلافٌ: فاعل لقوله: ينتظم.
(3) على شرطه: أي على شرط التديين.
(4) مثبجاً: ثَبجَ الرجل الكلامَ والخط ثبجاً عماهما ولم يبينهما. (المعجم) فالكلام المثبج أي المعمّى الذي لا يعرف له معنى.

(14/333)


المجردة لا توقع الطلاق، وإن كان مردداً بين الاحتمالات، فليس إلا مراجعة صاحب اللفظ.
وإن اقتضى اللسان معنىً والمفهومُ في عرف الاستعمال غيره، فيختلف العلماء في أن المتبع اللسان، أو ما يسبق إلى الفهم في اطراد العرف، وعلى هذا التردد خرجت مسائل المعاياة، وذكرنا أن المختار اتباعُ العرف؛ فإن العبارات لا تُعنى لأعيانها، وهي على التحقيق أماراتٌ منصوبة على المعاني المطلوبة، وهذا منتهى المراد.
***

(14/334)