الروض المربع شرح زاد المستقنع ط المؤيد

 [كتاب القضاء]
[القضاء] لغة: إحكام الشيء والفراغ منه، ومنه {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] واصطلاحا: تبيين الحكم الشرعي والإلزام به وفصل الحكومات. (وهو فرض كفاية) ، لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه. و (يلزم الإمام أن ينصب في كل إقليم) بكسر الهمزة (قاضيا) ، لأن الإمام لا يمكنه أن يباشر الخصومات في جميع البلدان بنفسه، فوجب أن يرتب في كل إقليم من يتولى فصل الخصومات بينهم لئلا تضيع الحقوق. (ويختار) لنصب القضاء (أفضل من يجده علما وورعا) ، لأن الإمام ناظر للمسلمين فيجب عليه اختيار الأصلح لهم. (ويأمره بتقوى الله) ، لأن التقوى رأس الدين (و) يأمره (بأن يتحرى العدل) أي إعطاء الحق لمستحقه من غير ميل. (ويجتهد) القاضي (في إقامته) أي إقامة العدل بين الأخصام، ويجب على من يصلح له ولم يوجد غيره ممن يوثق به أن يدخل فيه إن لم يشغله عما هو أهم منه. ويحرم بذل مال فيه، وأخذه وطلبه، وفيه مباشر أهل.
(فيقول) المولي لمن يوليه: (وليتك الحكم أو قلدتك) الحكم، (ونحوه) ، كفوضت، أو رددت، أو جعلت إليك الحكم، أو استنبتك، أو استخلفتك في الحكم، والكناية نحو: اعتمدت، أو عولت عليك لا ينعقد بها إلا بقرينة نحو فاحكم، (ويكاتبه) بالولاية (في البعد) أي إذا كان غائبا، فيكتب له الإمام عهدا بما ولاه، ويشهد عدلين عليها.

(وتفيد ولاية الحكم العامة الفصل بين الخصوم وأخذ الحق لبعضهم من بعض) أي أخذه لربه ممن هو عليه، (والنظر في أموال غير المرشدين) كالصغير والمجنون والسفيه،

(1/704)


وكذا مال غائب (والحجر على من يستوجبه لسفه أو فلس، والنظر في وقوف عمله ليعمل بشروطها، وتنفيذ الوصايا، وتزويج من لا ولي لها) من النساء، (وإقامة الحدود، وإمامة الجمعة والعيد) ما لم يختصا بإمام، (والنظر في مصالح عمله بكف الأذى عن الطرقات وأفنيتها ونحوه) ، كجباية خراج وزكاة لم يخصا بعامل، وتصفح شهوده وأمنائه ليستبدل بمن يثبت جرحه، لا الاحتساب على الباعة والمشترين، وإلزامهم بالشرع.
(ويجوز أن يولي) القاضي (عموم النظر في عموم العمل) بأن يوليه سائر الأحكام في سائر البلدان، ويجوز أن (يوليه خاصا فيهما) بأن يوليه الأنكحة بمصر مثلا، (أو) يوليه خاصا (في أحدهما) بأن يوليه سائر الأحكام ببلد معين، أو يوليه الأنكحة بسائر البلدان. وإذا ولاه ببلد معين نفذ حكمه في مقيم به وطارئ إليه فقط، وإن ولاه بمحل معين لم ينفذ حكمه في غيره، ولا يسمع ببينة إلا فيه، كتعديلها. وللقاضي طلب رزق من بيت المال لنفسه وخلفائه، فإن لم يجعل له شيء وليس له ما يكفيه، وقال للخصمين: لا أقضي بينكما إلا بجعل، جاز. ومن يأخذ من بيت المال لم يأخذ أجرة لفتياه ولا لخطه.

(ويشترط في القاضي عشر صفات: كونه بالغا عاقلا) ، لأن غير المكلف تحت ولاية غيره، فلا يكون واليا على غيره، (ذكرا) لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» (حرا) لأن الرقيق مشغول

(1/705)


بحقوق سيده (مسلما) لأن الإسلام شرط للعدالة، (عدلا) ولو تائبا من قذف، فلا يجوز تولية الفاسق، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] . . . الآية، (سميعا) لأن الأصم لا يسمع كلام الخصمين، (بصيرا) لأن الأعمى لا يعرف المدعي من المدعى عليه، (متكلما) لأن الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم ولا يفهم جميع الناس إشارته، (مجتهدا) إجماعا، ذكره ابن حزم، قاله في " الفروع "، (ولو) كان مجتهدا (في مذهبه) المقلد فيه لإمام من الأئمة، فيراعي ألفاظ إمامه ومتأخرها ويقلد كبار مذهبه في ذلك، ويحكم به ولو اعتقد خلافه، قال الشيخ تقي الدين: وهذه الشروط تعتبر حسب الإمكان، وتجب ولاية الأمثل فالأمثل، وعلى هذا يدل كلام أحمد وغيره، فيولي لعدم أنفع الفاسقين، وأقلهما شرا وأعدل المقلدين، وأعرفهما بالتقليد، قال في " الفروع ": وهو كما قال، ولا يشترط أن يكون القاضي كاتبا، أو ورعا، أو زاهدا، أو يقظا، أو مثبتا للقياس، أو حسن الخلق، والأولى كونه كذلك.
(وإذا حكم) بتشديد الكاف (اثنان) فأكثر بينهما (رجلا يصلح للقضاء) ،

(1/706)


فحكم بينهما نفذ حكمه، (في المال والحدود واللعان وغيرها) من كل ما ينفذ فيه حكم من ولاه إمام أو نائبه، لأن عمر وأبيا تحاكما إلى زيد بن ثابت، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم، ولم يكن أحد ممن ذكرنا قاضيا
[باب آداب القاضي]
أي أخلاقه التي ينبغي له التخلق بها، (ينبغي) أي يسن (أن يكون قويا من غير عنف) ، لئلا يطمع فيه الظالم، والعنف ضد الرفق، (لينا من غير ضعف) لئلا يهابه صاحب الحق، (حليما) لئلا يغضب من كلام الخصم، (ذا أناة) أي تؤدة وتأن، لئلا تؤدي عجلته إلى ما لا ينبغي، (و) ذا (فطنة) لئلا يخدعه بعض الأخصام. ويسن أيضا أن يكون عفيفا بصيرا بأحكام من قبله، ويدخل يوم اثنين، أو خميس، أو سبت لابسا هو وأصحابه أجمل الثياب، ولا يتطير، وإن تفاءل فحسن، (وليكن مجلسه في وسط البلد) إذا أمكن، ليستوي أهل البلد في المضي إليه. وليكن مجلسه (فسيحا) لئلا يتأذى فيه بشيء. ولا يكره القضاء في الجامع، ولا يتخذ حاجبا ولا بوابا بلا عذر، إلا في غير مجلس الحكم.
(و) يجب أن (يعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه ومجلسه ودخولهما عليه) ، إلا مسلما مع كافر، فيقدم دخولا ويرفع جلوسا، وإن سلم أحدهما رد ولم ينتظر سلام الآخر.
ويحرم أن يسار أحدهما، أو يلقنه حجته، أو يضيفه، أو يعلمه كيف يدعي إلا أن

(1/707)


يترك ما يلزم ذكره في الدعوى. (وينبغي) أي يسن (أن يحضر مجلسه فقهاء المذاهب، و) أن (يشاورهم فيما يشكل عليه) إن أمكن، فإن اتضح له الحكم حكم وإلا أخره لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] .
(ويحرم القضاء وهو غضبان كثيرا) لخبر أبي بكرة مرفوعا «لا يقضين حاكم بين اثنين وهو غضبان» متفق عليه، (أو) وهو (حاقن أو في شدة جوع، أو) في شدة (عطش أو) في شدة (هم، أو ملل، أو كسل، أو نعاس، أو برد مؤلم، أو حر مزعج) ، لأن ذلك كله يشغل الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب، فهو في معنى الغضب. وإن خالف وحكم في حال من هذه الأحوال، (فأصاب الحق نفذ) حكمه لموافقته الصواب.
(ويحرم) على الحاكم (قبول رشوة) لحديث ابن عمر قال: «لعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الراشي والمرتشي» قال الترمذي: حديث حسن صحيح، (وكذا) يحرم على القاضي
قبول (هدية) ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هدايا العمال غلول» رواه أحمد، (إلا) إذا كانت الهدية (ممن كان يهاديه قبل ولايته إذا لم تكن له حكومة) ، فله أخذها كمفت، قال القاضي: ويسن له التنزه عنها، فإن أحس أنه يقدمها بين يدي خصومه، أو فعلها حال الحكومة حرم أخذها في هذه الحالة لأنها كالرشوة. ويكره بيعه وشراؤه إلا بوكيل لا يعرف به.
(ويستحب أن لا يحكم إلا بحضرة الشهود) ليستوفي بهم الحق، ويحرم تعيينه قوما بالقبول، (ولا ينفذ حكمه لنفسه، ولا لمن لا تقبل شهادته له) ، كوالده وولده وزوجته،

(1/708)


ولا على عدوه، كالشهادة ومتى عرضت له أو لأحد ممن ذكر حكومة تحاكما إلى بعض خلفائه أو رعيته، كما حاكم عمر أبيا إلى زيد بن ثابت. ويسن أن يبدأ بالمحبوسين وينظر فيم حبسوا، فمن استحق الإبقاء أبقاه، ومن استحق الإطلاق أطلقه، ثم في أمر أيتام ومجانين ووقوف ووصايا لا ولي لهم، ولا ناظر، ولو نفذ الأول وصية موصى إليه أمضاها الثاني وجوبا، ومن كان من أمناء الحاكم للأطفال والوصايا التي لا وصي لها بحاله أقره، ومن فسق عزله، ولا ينقض من حكم صالح للقضاء، إلا ما خالف نص كتاب الله أو سنة، كقتل مسلم بكافر، وجعل من وجد عين ماله عند من فلس أسوة الغرماء أو إجماعا قطعيا، أو ما يعتقده، فيلزم نقضه والناقض له حاكمه إن كان.
(ومن ادعى على غير برزة) أي طلب من الحاكم أن يحضرها للدعوى عليها، (لم تحضر) أي لم يأمر الحاكم بإحضارها، (وأمرت بالتوكيل) للعذر، فإن كانت برزة، وهي التي تبرز لقضاء حوائجها أحضرت، ولا يعتبر محرم تحضر معه، (وإن لزمها) أي غير البرزة إذا وكلت (يمين أرسل) الحاكم (من يحلفها) ، فيبعث شاهدين لتستحلف بحضرتهما، (وكذا) لا يلزم إحضار (المريض) ، ويؤمر أن يؤكل، فإن وجبت عليه يمين، بعث إليه من يحلفه، ويقبل قول قاض معزول عدل لا يتهم: كنت حكمت لفلان على فلان بكذا، ولو لم يذكر مستنده، أو لم يكن بسجله.

[باب طريق الحكم وصفته]
طريق كل شيء ما توصل به إليه، والحكم فصل الخصومات. (إذا حضر إليه
خصمان) يسن أن يجلسهما بين يديه، و (قال: أيكما المدعي) لأن سؤاله عن المدعي منهما لا تخصيص فيه لواحد منهما، (فإن سكت) القاضي (حتى يبدأ) بالبناء للمفعول، أي حتى تكون البدأة بالكلام من جهتهما (جاز) له ذلك، (فمن سبق بالدعوى قدمه) الحاكم على خصمه، وإن ادعيا معا أقرع بينهما، فإذا انتهت حكومته

(1/709)


ادعى الآخر إن أراد، ولا تسمع دعوى مقلوبة ولا حسبة بحق الله تعالى، كعبادة وحد وكفارة، وتسمع بينة بذلك، وبعتق وطلاق من غير دعوى لا بينة بحق معين قبل دعواه، فإذا حرر المدعي دعواه فللحاكم سؤال خصمه عنها، وإن لم يسأله سؤاله، (فإن أقر له) بدعواه (حكم له عليه) بسؤاله الحكم، لأن الحق للمدعي في الحكم فلا يستوفيه إلا بسؤاله. (وإن أنكر) بأن قال المدعي: قرضا أو ثمنا، فقال المدعى عليه ما أقرضني، أو ما باعني، أو لا يستحق علي ما ادعاه، ولا شيئا منه، أو لا حق له علي، صح الجواب ما لم يعترف بسبب الحق، و (قال) الحاكم (للمدعي: إن كان لك بينة فأحضرها إن شئت، فإن أحضرها) أي البينة لم يسألها الحاكم ولم يلقنها، فإذا شهدت (سمعها) وحرم ترديدها وانتهارها وتعنتها، (وحكم بها) أي بالبينة إذا اتضح له الحكم وسأله المدعي، (ولا يحكم) القاضي (بعلمه) ولو في غير حد، لأن تجويز القضاء بعلم القاضي يفضي إلى تهمته وحكمه بما يشتهي. (وإن قال المدعي: ما لي بينة، أعلمه الحاكم أن له اليمين على خصمه) ، لما روي «أن رجلين اختصما إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حضرمي وكندي، فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي، فقال الكندي: هي أرض وفي يدي، وليس له فيها حق، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه» وهو حديث حسن صحيح، قاله في " شرح المنتهى "، وتكون يمينه (على صفة جوابه) للمدعي.
(فإن سأل) المدعي من القاضي (إحلافه، أحلفه وخلى سبيله) بعد تحليفه إياه، لأن

(1/710)


الأصل براءته، (ولا يعتد بيمينه) أي يمين المدعى عليه (قبل) أمر الحاكم له، و (مسألة المدعي) تحليفه، لأن الحق في اليمين للمدعي فلا يستوفي إلا بطلبه، (وإن نكل) المدعى عليه من اليمين (قضي عليه) بالنكول، رواه أحمد عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، (فيقول) القاضي للمدعى عليه: (إن حلفت) خليت سبيلك، (وإلا) تحلف (قضيت عليك)
بالنكول، (فإن لم يحلف قضي عليه) بالنكول، (فإن حلف المنكر) وخلى الحاكم سبيله (ثم إن أحضر المدعي بينة) عليه (حكم) القاضي (بها، لم تكن اليمين مزيلة للحق) ، هذا إذا لم يكن قال: لا بينة لي، فإن قال ذلك ثم أقامها لم تسمع، لأنه مكذب لها.

[فصل لا تصح الدعوى إلا محررة]
فصل (ولا تصح الدعوى إلا محررة) لأن الحكم مرتب عليها، ولذلك قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإنما أقضي على نحو ما أسمع» ولا تصح أيضا إلا (معلومة المدعى به) أي: تكون بشيء معلوم ليأتي الإلزام، (إلا) الدعوى (بما نصححه مجهولا، كالوصية) بشيء من ماله، (و) الدعوى بـ (عبد من عبيده) جعله (مهرا ونحوه) ، كعوض خلع، أو أقر به فيطالبه بما وجب له، ويعتبر أن يصرح بالدعوى، فلا يكفي: لي عنده كذا حتى يقول: وأنا مطالب به، ولا تسمع بمؤجل لإثباته غير تدبير واستيلاد وكتابة، ولا بد أن تنفك عما يكذبها، فلا تصح على إنسان أنه قتل أو سرق من عشرين سنة وسنة دونها، ولا يعتبر فيها ذكر سبب الاستحقاق.

(وإن ادعى عقد نكاح أو) عقد (بيع أو غيرهما) كإجارة، (فلا بد من ذكر

(1/711)


شروطه) ، لأن الناس مختلفون في الشروط، فقد لا يكون العقد صحيحا عند القاضي، وإن ادعى استدامة الزوجية لم يشترط ذكر شروط العقد، وإن ادعت امرأة نكاح رجل لطلب نفقة أو مهر أو نحوهما سمعت دعواها) ، لأنها تدعي حقا لها تضيفه إلى سببه، (وإن لم تدع سوى النكاح) من نفقة ومهر وغيرهما (لم تقبل) دعواها، لأن النكاح حق الزوج عليها، فلا تسمع دعواها بحق لغيرها. (وإن ادعى) إنسان (الإرث ذكر سببه) ، لأن أسباب الإرث تختلف، فلا بد من تعيينه ويعتبر تعيين مدعي به إن كان حاضرا بالمجلس، وإحضار عين بالبلد ليتعين، وإن كانت غائبة وصفها كسلم، والأولى ذكر قيمتها أيضا. (وتعتبر عدالة البينة ظاهرا وباطنا) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] إلا في عقد نكاح، فتكفي العدالة ظاهرا كما تقدم.

(ومن جهلت عدالته سأل) القاضي (عنه) ممن له به خبرة باطنة بصحبة أو معاملة
ونحوهما، وتقدم بينة جرح على تعديل، وتعديل الخصم وحده، أو تصديقه للشاهد تعديل له. (وإن علم) القاضي (عدالته) أي عدالة الشاهد (عمل بها) ، ولم يحتج لتزكية

(1/712)


وكذا لو علم فسقه. (وإن جرح الخصم الشهود كلف البينة به) أي بالجرح، ولا بد من بيان سببه عن رؤية أو استفاضة.
(وانظر) من ادعى الجرح (له ثلاثة إن طلبه، وللمدعي ملازمته) أي ملازمة خصمه في مدة الانتظار لئلا يهرب، (فإن لم يأت) مدعي الجرح (ببينة حكم عليه) ، لأن عجزه عن إقامة البينة على الجرح في المدة المذكورة دليل على عدم ما ادعاه. (وإن جهل) القاضي (حال البينة طلب من المدعي تزكيتهم) لتثبت عدالتهم، فيحكم له، (ويكفي فيها) أي في التزكية (عدلان يشهدان بعدالة الشاهد. (ولا يقبل في الترجمة وفي التزكية و) في (الجرح والتعريف) عند حاكم (والرسالة) إلى قاض آخر بكتابة ونحوه، (إلا قول عدلين) إن كان ذلك فيما يعتبر فيه شهادة عدلين، وإلا فحكم ذلك حكم الشهادة على ما يأتي تفصيله. وإن قال المدعي: لي بينة وأريد يمينه، فإن كانت بالمجلس فليس له إلا إحداهما، وإلا فله ذلك، وإن سأل ملازمته حتى يقيمها أجيب في المجلس، فإن لم يحضرها فيه صرفه لأنه لم يثبت له قبله حق حتى يحبس به.
(ويحكم على الغائب) مسافة القصر (إذا ثبت عليه الحق) لحديث «هند: قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي، قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» متفق عليه، فتسمع الدعوى والبينة على الغائب

(1/713)


مسافة قصر، وعلى غير مكلف، ويحكم بها، ثم إذا حضر الغائب فهو على حجته. (وإن ادعى) إنسان (على حاضر في البلد غائب عن مجلس الحكم) أو على مسافر دون مسافة قصر غير مستتر، (وأتى) المدعي (ببينة لم تسمع الدعوى ولا البينة) عليه حتى يحضر مجلس الحكم، لأنه لا يمكن سؤاله، فلم يجز الحكم عليه قبله.

[باب كتاب القاضي إلى القاضي]
أجمعت الأمة على قبوله -[أي كتاب القاضي إلى القاضي]- لدعاء الحاجة إليه، فـ (يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في كل حق) لآدمي، كالقرض والبيع والإجارة (حتى القذف) والطلاق والقود والنكاح والنسب، لأنها حقوق آدمي لا تدرأ بالشبهات. و (لا) يقبل
(في حدود الله) تعالى، (كحد الزنا ونحوه) ، كشرب الخمر، لأن حقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والستر والدرء بالشبهات. (ويقبل) كتاب القاضي (فيما حكم به) المكاتب (لينفذه) المكتوب إليه، (وإن كان) كل منهما (في بلد واحد) ، لأن حكم الحاكم يجب إمضاؤه على كل حال. (ولا يقبل) كتابه (فيما ثبت عنده ليحكم) المكتوب إليه (به، إلا أن يكون بينهما مسافة القصر) فأكثر، لأنه نقل شهادته إلى المكتوب إليه فلم يجز مع القرب، كالشهادة على الشهادة. (ويجوز أن يكتب) كتابه (إلى قاض معين، و) أن يكتبه (إلى كل من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين) من غير تعيين، ويلزم من وصل إليه قبوله، لأنه كتاب حاكم من ولايته وصل إلى حاكم، فلزمه قبوله كما لو كتب إلى معين.

(1/714)


(ولا يقبل) كتاب القاضي (إلا أن يشهد به القاضي الكاتب شاهدين) عدلين يضبطان معناه وما يتعلق به الحكم، (فيقرأه) القاضي الكاتب (عليهما) أي على الشاهدين، (ثم يقول: أشهد أن هذا كتابي إلى فلان بن فلان) ، أو إلى من يصل إليه من قضاة المسلمين، (ثم يدفعه إليهما) أي إلى العدلين اللذين شهدا بما في الكتاب، فإذا وصلا دفعاه إلى المكتوب إليه، وقالا: نشهد أن هذا كتاب فلان إليك كتبه بعمله. والاحتياط ختمه بعد أن يقرأ عليهما ولا يشترط، وإن أشهدهما عليه مدرجا مختوما ما لم يصح.

[باب القسمة]
من قسمت الشيء: إذا جعلته أقساما، والقسم - بكسر القاف -: النصيب، وهي نوعان: قسمة تراض، وأشار إليها بقوله: (لا تجوز قسمة الأملاك التي لا تنقسم إلا بضرر) ، ولو على بعض الشركاء، (أو) لا تنقسم إلا بـ (رد عوض) من أحدهما على الآخر، (إلا برضى الشركاء) كلهم لحديث «لا ضرر ولا ضرار» رواه أحمد وغيره، وذلك (كالدور الصغار، والحمام والطاحون الصغيرين) والشجر المفرد، (والأرض التي لا تتعدل بأجزاء ولا قيمة لبناء أو بئر) ، أو معدن، (في بعضها) أي بعض الأرض، (فهذه القسمة في حكم البيع) تجوز بتراضيهما، ويجوز فيها ما يجوز في البيع خاصة. (ولا يجبر من امتنع) منهما (من قسمتها) لأنها معاوضة، ولما فيها من الضرر،

(1/715)


ومن دعا شريكه فيها إلى بيع أجبر، فإن أبى باعه الحاكم عليهما وقسم الثمن بينهما على قدر حصصهما؛ وكذا لو طلب الإجارة ولو
في وقف، والضرر المانع من قسمة الإجبار نقص القيمة بالقسمة، ومن بينهما دار لها علو وسفل وطلب أحدهما جعل السفل لواحد والعلو لآخر لم يجبر الممتنع.
النوع الثاني: قسمة إجبار، وقد ذكرها بقوله: (وأما ما لا ضرر) في قسمته (ولا رد عوض في قسمته، كالقرية والبستان والدار الكبيرة والأرض) الواسعة، (والدكاكين الواسعة والمكيل والموزون من جنس واحد، كالأدهان والألبان، ونحوهما إذا طلب الشريك قسمتها أجبر) شريكه (الآخر عليها) إن امتنع من القسمة مع شريكه، ويقسم عن غير مكلف وليه، فإن امتنع أجبر. ويقسم حاكم على غائب من الشريكين بطلب شريكه أو وليه، ومن دعا شريكه في بستان إلى قسم شجره فقط لم يجبر، وإلى قسم أرضه أجبر، ودخل الشجر تبعا.
(وهذه القسمة) وهي قسمة الإجبار (إفراز) لحق أحد الشريكين من الآخر، (لا بيع) لأنها تخالفه في الأحكام، فيصح قسم لحم هدي وأضاحي وثمر يخرص خرصا وما يكال وزنا وعكسه، وموقوف ولو على جهة، ولا يحنث بها من حلف لا يبيع، ومتى ظهر فيها غبن فاحش بطلت.

(1/716)


(ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم و) أن يتقاسموا (بقاسم ينصبونه أو يسألوا الحاكم نصبه) ، وتجب عليه إجابتهم لقطع النزاع، ويشترط إسلامه وعدالته ومعرفته بها، ويكفي واحد إلا مع تقويم.
(وأجرته) - وتسمى القسامة بضم القاف - على الشركاء (على قدر الأملاك) ، ولو شرط خلافه، ولا ينفرد بعضهم باستئجاره، وتعدل سهام بالأجزاء إن تساوت كالمكيلات والموزونات غير المختلفة، وبالقيمة إن اختلفت، وبالرد إن اقتضته. (فإذا اقتسموا واقترعوا لزمت القسمة) ، لأن القاسم كالحاكم وقرعته كحكمه، (وكيفما اقترعوا جاز) بالحصى أو غيره، وإن خير أحدهم الآخر لزمت برضاهم وتفرقهم. ومن ادعى غلطا فيما تقاسماه بأنفسهما وأشهدا على رضاهما به لم يلتفت إليه، وفيما قسمه قاسم حاكم أو قاسم نصباه يقبل ببينة وإلا حلف منكر، وإن ادعى كل شيء أنه من نصيبه تحالفا ونقضت ولمن خرج في نصيبه عيب جهله إمساك مع أرش وفسخ.

[باب الدعاوى والبينات]
الدعوى لغة: الطلب، قال تعالى: {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 57] أي يطلبون،

(1/717)


واصطلاحا: إضافة
الإنسان إلى نفسه استحقاق شيء في يد غيره أو ذمته. والبينة: العلامة الواضحة كالشاهد فأكثر، و (المدعي: من إذا سكت) عن الدعوى (ترك) فهو المطالب، (والمدعى عليه: من إذا سكت لم يترك) فهو المطالب.
(ولا تصح الدعوى و) لا (الإنكار) لها (إلا من جائز التصرف) ، وهو الحر المكلف الرشيد، سوى إنكار سفيه فيما يؤاخذ به لو أقر به كطلاق وحد.
(وإذا تداعيا عينا) أي ادعى كل منهما أنها له، وهي (بيد أحدهما، فهي له) أي فالعين لمن هي بيده (مع يمينه، إلا أن تكون له بينة) ويقيمها، (فلا يحلف) معها اكتفاء بها، (وإن أقام كل واحد) منهما (بينة أنها) أي العين المدعى بها (له قضي) بها (للخارج ببينته ولغت بينة الداخل) لحديث ابن عباس مرفوعا: «لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه» رواه أحمد ومسلم، ولحديث «البينة على المدعي واليمين على من أنكر» رواه الترمذي، وإن لم تكن العين بيد أحد ولا ثم ظاهر تحالفا وتناصفاها، وإن وجد ظاهر لأحدهما عمل به، فلو تنازع الزوجان في قماش البيت ونحوه، فما يصلح لرجل فله، ولها فلها، ولهما فلهما، وإن كانت بيديهما تحالفا وتناصفاها، فإن قويت يد أحدهما كحيوان، واحد سائقه وآخر راكبه فهو للثاني لقوة يده.

(1/718)