الشرح الكبير على متن المقنع

 (بسم الله الرحمن الرحيم، وبه نستعين)
(قال الشيخ الامام العالم العامل، شيخ الاسلام، قدوة الانام، بقية السلف الكرام، شمس الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الشيخ الامام العالم العامل الزاهد أبي عمر محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي قدس الله روحه، ونور ضريحه آمين انه جواد كريم) الحمد لله العلي الاعظم، الجواد الاكرم، الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم، فرض طلب العلم على عباده المؤمنين، وأمرهم به في الكتاب المبين، فقال وهو أصدق القائلين (فلولا نفر من كل فرقة

(1/2)


منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) أحمده على نعم جللها، وقسم أجزلها، وأشهد ان لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة لا يضل من شهد بها ولا يشقى، وكلمة أستمسك بها ومن يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله شاهدا ومبشرا ونذيرا، وداعيا إلى الله باذنه وسراجا منيرا، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما كثيرا.
هذا كتاب جمعته في شرح [كتاب المقنع] تأليف شيخنا الشيخ الامام العالم العلامة موفق الدين

(1/3)


أبي محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي رضي الله عنه اعتمدت في جمعه على كتابه المغني وذكرت فيه من غيره ما لم أجده فيه من الفروع والوجوه والروايات ولم أترك من كتاب المغني إلا شيئاً يسيراً من الادلة وعزوت من الاحاديث ما لم يعز مما أمكنني عزوه، والله المسئول أن يجعلنا ممن رسخت في العلم قدمه، وجبل على اتباع الكتاب والسنة لحمه ودمه، انه على كل شئ قدير، وهو بالاجابة جدير، وهو حسبنا ونعم الوكيل

(1/4)


كتاب الطهارة الطهارة في اللغة الوضاءة والنزاهة عن الأقذار وهي في الشرع رفع ما يمنع من الصلاة من حدث أو نجاسة بالماء أو رفع حكمه بالتراب أو غيره فعند إطلاق لفظ الشارع أو في كلام الفقهاء إنما ينصرف إلى الوضوء الشرعي دون اللغوي.
وكذلك كل ماله موضوع شرعي ولغوي كالوضوء والصلاة والصوم والحج والزكاة ونحوه إنما ينصرف المطلق منه إلى الموضوع الشرعي لأن الظاهر من الشارع التكلم بموضوعاته وكلام الفقهاء مبني عليه باب المياه وهي ثلاثة أقسام ماء طهور وهو الطاهر في نفسه الذي يجوز رفع الأحداث والنجاسات به والطهور بضم الطاء المصدر قاله اليزيدي وبالفتح ما ذكرناه.
هو من الأسماء المتعدية مثل الغسول وقال بعض الحنفية: هو لازم بمعنى الطاهر لأن العرب لا تفرق بين الفاعل والمفعول في اللزوم والتعدي

(1/5)


بدليل قاعد وقعود وهذا إن أريد به أن الماء مختص بالطهور كما سيأتي في موضعه إن شاء الله وإلا فالنزاع في هذه المسألة لفظي والا شبه قول أصحابنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " متفق عليه ولو أراد به الطاهر لم يكن له مزية على غيره لأنه طاهر في حق غيره ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء بماء البحر قال " هو
الطهور ماؤه الحل ميتته " ولو لم يكن الطهور متعديا بمعنى المطهر لم يكن ذلك جوابا للقوم حيث سألوه عن

(1/6)


التعدي إذ ليس كل طاهر مطهرا والعرب قد فرقت بين فاعل وفعول قالت فاعل لمن وجد منه مرة وفعول لمن تكرر منه فينبغي أن يفرق بينهما هاهنا وليس إلا من حيث التعدي واللزوم (مسألة) قال (وهو الباقي على أصل خلقته) وجملة ذلك أن كل صفة خلق الله عليها الماء من حرارة أو برودة أو عذوبة أو ملوحة أو غيرها سواء نزل من السماء أو نبع من الأرض وبقي على أصل خلقته فهو طهور لقول الله تعالى (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم طهرني بالثلج والبرد والماء البارد " رواه مسلم وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " رواه الإمام أحمد (1) وقول النبي صلى الله عليه وسلم " الماء طهور لا ينجسه شئ " (2) وهذا قول أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم إلا أنه روي عن ابن عمرو أنه قال في ماء البحر لا يجزي من الوضوء ولا من الجنابة والتيمم أعجب إلي منه، وروي ذلك عن عبد الله بن عمرو الاول أولى لقول الله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) وهذا واجد للماء فلا يجوز له التيمم ولحديث جابر الذي ذكرناه في البحر، وروي عن عمرانه قال من لم يطهره ماء البحر فلا طهر له (3) ولانه ماء بقي على أصل خلقته أشبه العذب
__________
1) وكذا ابن ماجه وابن حبان والدارقطني ورواه أحمد واصحاب السان وغيرهم من حديث أبي هريرة وحكى الترمذي تصحيحه عن البخاري وان لم يخرجه.
وهذا أتم مما سيأتي في المغني 2) رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي سعيد في شأن بئر بضاعة وروي عن غيره، واختلف فيه والتحقيق انه ضعيف وان المسلمين أجمعوا على أن الماء المتغير بالنجاسة نجس وتجد تفصيل الكلام عن علله في الاوطار 3) ترى في الصفحة 8 من المغنى: فلا طهره الله وهو أصح

(1/7)


(مسألة) قال (وما تغير بمكثه) الماء المتغير بطول المكث باق على إطلاقه قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الوضوء بالماء المتغير من غير نجاسة حلت فيه جائز سوى ابن سيرين فإنه كره ذلك.
ولنا أنه تغير من غير مخالطة أشبه التغير عن مجاورة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ من بئر كأن ماءه نقاعة الحناء
(مسألة) قال (أو بطاهر لا يمكن صونه عنه كالطحلب وورق الشجر) وجملته أن الماء المتغير بالطحلب وورق الشجر والخز وسائر ما ينبت في الماء أو يجري عليه الماء أو تحمله الريح أو السيول من التبن والعيدان أو ما يمر عليه الماء من الكبريت والقار ونحوه أو كان في الأرض التي يقف فيها الماء وكذلك ما يتغير في آنية الأدم والنحاس ونحوه يعفى عن ذلك كله ولا يخرج به الماء عن إطلاقه لأنه يشق التحرز منه فإن أخذ شئ من ذلك وألقي في الماء كان حكمه حكم؟؟ أمكن التحرز منه على ما يأتي وكذلك ما تغير بالسمك ونحوه من دواب البحر لأنه لا يمكن التحرز عنه فأشبه ما ذكرناه (مسألة) قال (أو لا يخالطه كالعود والكافور والدهن) على اختلاف أنواعه وكالعنبر إذا لم يستهلك في الماء ولم يتحلل فيه لا يخرج به الماء عن إطلاقه لأنه تغير عن مجاورة أشبه مالو تروح بريح شئ إلى جانبه وفي معناه ما تغير بالقطران والزفت والشمع لأن فيه دهنية يتغير بها الماء (مسألة) قال (أو ما أصله الماء كالملح البحري) لأن أصله الماء فهو كالثلج والبرد فإن كان

(1/8)


معدنيا فهو كالزعفران وكذلك الماء المتغير بالتراب لانه يرافق الماء في صفتيه أشبه الملح (مسألة) قال (أو ما تروح بريح ميتة إلى جانبه) لا نعلم في ذلك خلافا (أو سخن بالشمس) لأنه سخن بطاهر فلم تكره الطهارة به كما لو سخن بالحطب، وقال الشافعي: تكره الطهارة بماء قصد تشمسه لما روي عن عائشة قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سخنت له ماء في الشمس فقال " لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص " ولنا ما ذكرناه من القياس والحديث رواه الدارقطني وقال يرويه خالد بن إسماعيل وهو متروك الحديث وعمرو بن محمد الأعسم وهو منكر الحديث ولأنه لو كره لأجل الضرر لما اختلف بقصد التشميس وعدمه (مسألة) قال (أو بطاهر) كالحطب ونحوه فلا تكره الطهارة به لا نعلم فيه خلافاً إلا ما روي

(1/9)


عن مجاهد أنه كره الوضوء بالماء المسخن وقول الجمهور أولى لما روي عن الأسلع بن شريك رحال النبي صلى الله عليه وسلم قال أجنبت وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فجمعت حطبا فأحميت الماء فاغتسلت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكره علي رواه الطبراني بمعناه ولأنه صفة خلق عليها الماء أشبه
مطهر يرفع الأحداث ويزيل الأنجاس غير مكروه الاستعمال) لما ذكرنا (مسألة) قال (وإن سخن بنجاسة فهل يكره استعماله؟ على روايتين) الماء المسخن بالنجاسة ينقسم ثلاثة أقسام (أحدها) أن يتحقق وصولها إليه فهذا نجس إن كان يسيراً لما يأتي (الثاني) إن غلب على الظن أنها لا تصل إليه فهو طاهر بالأصل ولا يكره استعماله في أحد الوجهين اختاره الشريف أبو جعفر وابن عقيل لأن احتمال وصول النجاسة إليه يبعد أشبه غير المسخن والثاني يكره لاحتمال النجاسة اختاره القاضي (الثالث) ما عدا ذلك ففيه روايتان (إحداهما) يكره وهو ظاهر المذهب لأجل النجاسة (والثانية) لا يكره كالتي قبلها وكالماء إذا شك في نجاسته وهذا مذهب الشافعي وذكر أبو الخطاب في الماء المسخن بالنجاسة روايتين على الإطلاق والله أعلم (فصل) ولا يكره الوضوء والغسل بماء زمزم لما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف بعرفة وهو مردوف أسامة بن زيد فذكر الحديث وفيه ثم أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا

(1/10)


بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ.
رواه عبد الله بن أحمد في المسند عن غير أبيه وعنه يكره لقول العباس لا أحلها للمغتسل، ولأنه أزال به مانعا من الصلاة أشبه مالو أزال به النجاسة والأول أولى لما ذكرنا وكونه مباركا لا يمنع الوضوء به كالماء الذي وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده فيه (فصل) إذا خالط الماء طاهر لم يغيره لم يمنع الطهارة.
قال شيخنا لا نعلم فيه خلافاً، وحكي عن أم هانئ والزهري في كسر بلت في ماء غيرت لونه أو لم تغيره لا يجوز الوضوء به والأول أولى لأنه طاهر لم يغير صفة الماء فلم يمنع كبقية الطاهرات، وقد اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم هو وزوجته من قصعة فيها أثر العجين.
رواه النسائي (فصل) إذا وقع في الماء ماء مستعمل عفي عن يسيره.
رواه إسحاق بن منصور عن أحمد، وهذا ظاهر حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لأنهم كانوا يتوضأون من الأقداح ويغتسلون من الجفان، وقد اغتسل هو وعائشة من إناء واحد تختلف أيديهما فيه كل واحد منهما يقول لصاحبه " أبق لي: ومثل هذا لا يسلم من رشاش يقع في الماء، فان كثر الواقع فيه وتفاحش منع في إحدى
الروايتين.
وقال أصحاب الشافعي: إن كان الأكثر المستعمل منع وإلا فلا، وقال ابن عقيل أن كان الواقع بحيث لو كان خلاً غير الماء منع وإلا فلا.
وما ذكرنا من الخبر وظاهر حال النبي صلى الله عليه وسلم يمنع من اعتباره بالخل لسرعة نفوذه وسرايته فيؤثر قليله في الماء والحديث دل عن العفو عن اليسير مطلقا فينبغي أن يرجع في ذلك الى العرف فما عد كثيرا وإلا فلا، وإن شك في كثرته لم يمنع عملا بالأصل.
(فصل) فإن كان معه ماء لا يكفيه لطهارته فكمله بمائع آخر لم يغيره جاز الوضوء به في أحدى الروايتين لأنه طاهر لم يغير الماء فلم يمنع كما لو كان الماء قدرا يكفيه لطهارته (والثانية) لا يجوز لأنا نتيقن حصول غسل بعض أعضائه بالمائع والأول أولى لأن المائع استهلك في الماء فسقط حكمه أشبه مالو كان الماء يكفيه لطهارته فزاده مائعا آخر وتوضأ منه وبقي قدر المائع (فصل) قال الشيخ رحمه الله (القسم الثاني ماء طاهر غير مطهر وهو ما خالطه طاهر فغير اسمه أو غلب على أجزائه أو طبخ فيه) وجملته أن كل ماء خالطه طاهر فغير اسمه حتى صار صبغا

(1/11)


أو خلا أو غلب على أجزائه فصيره حبرا أو طبخ فيه فصار مرقا وتغير بذلك - الأنواع الثلاثة لا يجوز الغسل ولا الوضوء بها، لا نعلم فيه خلافاً إلا أنه حكي عن أصحاب الشافعي وجه في ماء الباقلا المغلي أنه يجوز الوضوء به، وحكي عن ابن أبي ليلى والاصم أنه يجوز الوضوء والغسل بالمياه المعتصرة وسائر أهل العلم على خلافهم لأن الطهارة إنما تجوز بالماء لقوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) وهذا لا يقع عليه اسم الماء (مسألة) (فإن غير أحد أوصافه - لونه أو طعمه أو ريحه ففيه روايتان) (إحداهما) أنه غير مطهر وهو قول مالك والشافعي واسحاق واختيار القاضي، قال وهي المنصورة عند أصحابنا لأنه ماء تغير بمخالطة ما ليس بطهور يمكن الاحتراز عن أشبه ماء الباقلا المغلي.
إذا ثبت هذا فإن أصحابنا لا يفرقون بين المذرور كالزعفران والاشنان وبين الحبوب من الباقلا والحمص والتمر كالتمر والزبيت

(1/12)


والورق ونحوه وقال الشافعية ما كان مذرورا منع إذا غير وما عداه لا يمنع إلا أن ينحل في الماء
فإن غير ولم ينحل لم يسلب الطهورية كما لو تغير بالكافور ووافقهم أصحابنا في الخشب والعيدان وخالفوا فيما ذكرنا لأن تغير الماء به إنما كان لاتصال أجزاء منه وانحلالها فيه فوجب أن يمنع كالمذرور وكما لو أغلي فيه (فصل) ولم يفرق أصحابنا في التغيير بين اللون والطعم والرائحة بل سووا بينهم قياسا لبعضها على بعض وشرط الخرقي الكثرة في الرائحة دون اللون والطعم لسرعة سرايتها ونفوذها ولكونها تحصل تارة عن مجاورة وتارة عن مخالطة فاعتبرت الكثرة ليلعم أنها عن مخالطة والرواية الثانية أنه باق على طهوريته نقله عن أحمد جماعة من أصحابنا أبو الحرث والميموني وإسحاق بن منصور وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه لأن الله تعالى قال (فلم تجدوا ماء فتيمموا) وهذا عام في كل ماء لأنه نكرة في سياق النفي والنكرة في سياق النفي تفيد العموم فلا يجوز التيمم مع وجوده وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم " التراب كافيك ما لم تجد الماء " وهذا ماء ولأنه ماء لم يسلبه اسمه ولا رقته ولا جريانه أشبه المتغير بالدهن فإن تغير وصفان من أوصافه أو ثلاثة وبقيت رقته وجريانه فذكر القاضي أيضا فيه روايتين (إحداهما) يجوز الوضوء به لما ذكرنا فأشبه المتغير بالمجاورة

(1/13)


ولأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسافرون وغالب أسقيتهم الأدم وهي تغير أوصاف الماء عادة ولم يكونوا يتيممون معها (والثانية) لا يجوز لأنه غلب على الماء أشبه مالو زال اسمه أو طبخ فيه وقال ابن أبي موسى في الذي تغيرت إحدى صفاته بطاهر يجوز التوضؤ به عند عدم الماء المطلق في إحدى الروايتين (و) لا يجوز مع وجوده (مسألة) قال (أو استعمل في رفع حدث أو طهارة مشروعة كالتجديد وغسل الجمعة) اختلف المذهب في المنفصل من المتوضئ عن الحدث والمغتسل من الجنابة فروي أنه طاهر غير مطهر وهو المشهور من مذهب أبي حنيفة والشافعي وإحدى الروايتين عن مالك لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة " رواه أبو داود ولولا أنه يفيد منعا لم ينه عنه ولأنه أزال به مانعا من الصلاة أشبه ما لو غسل به النجاسة، والرواية الثانية أنه مطهر
وهو قول الحسن وعطاء والنخعي وأهل الظاهر والرواية الأخرى عن مالك، والقول الثاني للشافعي وهو قول ابن المنذر، ويروى عن علي وابن عمر فيمن نسي مسح رأسه إذا وجد بللا في لحيته أجزأه أن يمسح رأسه بذلك البلل لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الماء لا يجنب " وأنه صلى الله عليه وسلم اغتسل من الجنابة فرأى لمعة لم يصبها الماء فعصر شعره عليها رواهما الإمام أحمد ولأنه ماء طاهر غسل به عضوا طاهرا أشبه مالو تبرد به أو غسل به الثوب - أو نقول أدى به فرضا فجاز أن يؤدي به غيره كالثوب يصلي فيه مرارا، وقال أبو يوسف هو نجس وهو رواية

(1/14)


عن أبي حنيفة وذكره ابن عقيل قولا لاحمد لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغسل في الماء الراكد كنهيه عن البول فيه فاقتضى أن الغسل فيه كالبول وكما لو غسل به نجاسة ولأنه يسمى طهارة والطهارة لا تعقل إلا عن نجاسة لأن تطهير الطاهر محال - ووجه طهارته أن النبي صلى الله عليه وسلم صب على جابر من وضوءه إذ كان مريضا وكان إذا توضأ يكادون يقتتلون على وضوئه رواهما البخاري ولو كان نجسا لم يجز فعل ذلك ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونساءه كانوا يغتسلون من الجفان ويتوضؤن من الأقداح ومثل هذا لا يسلم من رشاش يقع في الماء من المستعمل ولو كان نجسا لتنجس به الماء ولأنه ماء طاهر لاقى عضوا طاهرا أشبه مالو تبرد به والدليل على طهارة أعضاء المحدث قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن المؤمن لا ينجس " متفق عليه ولأنه لو مس شيئا رطبا لم ينجسه ولو حمله مصل لم تبطل صلاته وقولهم أنه نهى عن الغسل فيه كنهيه عن البول فيه قلنا يكفي اشتراكهما في أصل المنع من التطهر به ولا يلزم اشتراكهما في التنجس وإنما سمي الوضوء والغسل طهارة لكونه يطهر عن الذنوب والآثام كما جاء في الأخبار لما ذكرنا من الأدلة وجميع الأحداث سواء فيما ذكرنا الغسل والوضوء والحيض والنفاس وكذلك المنفصل من غسل الميت إذا قلنا بطهارته فأما المنفصل من غسل الذمية من الحيض فروي أنه مطهر لأنه لم يزل مانعا من الصلاة أشبه المتبرد وروي أنه غير مطهر لأنه زال به المانع من وطئ الزوج فأما ما اغتسلت به من الجنابة فهو مطهر وجهاً واحداً

(1/15)


لأنه لم يؤثر شيئاً ويحتمل أن يمنع استعماله كالمسلمة (فصل) فأما المستعمل في طهارة مشروعة كالتجديد وغسل الجمعة والإحرام وسائر الاغتسالات المستحبة والغسلة الثانية والثالثة والوضوء ففيه روايتان (أظهرهما) طهوريته لأنه لم يرفع حدثا، ولم يزل نجسا أشبه التبرد، (والثانية) تسلب طهوريته لأنه استعمل في طهارة مشروعة أشبه المستعمل في رفع الحدث، فإن لم تكن الطهارة مشروعة لم يؤثر في الماء استعماله فيها شيئا كالتبرد ولا نعلم خلافاً في المستعمل في التبرد والتنظيف لأنه باق على إطلاقه (مسألة) قال (أو غمس فيه يده قائم من نوم الليل قبل غسلها ثلاثا فهل يسلب طهوريته؟ على روايتين) المراد باليد ههنا اليد إلى الكوع لما نذكره في التيمم فمتى غمس القائم من نوم الليل يده في الماء اليسير قبل غسلها ثلاثاً ففيه روايتان (إحداهما) لا يسلب الطهورية وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لأن الماء قبل الغمس كان طهورا فيبقى على الأصل، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن غمس اليد كان لو هم النجاسة فالوهم لا يزيل الطهورية كما لم يزل الطهارة وإن كان تعبدا اقتصر على مورد النص وهو مشروعية الغسل (والرواية الثانية) أن يسلب الطهورية لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يده قبل أن يدخلها الإناء ثلاثا، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده " رواه مسلم ورواه البخاري ولم يذكر ثلاثا، فلولا أنه يفيد منعا لم ينه عنه ظاهرا وعلي

(1/16)


قال: أحب إلي أن يريقه إذا غمس يده فيه وهو قول الحسن وذلك لما روى أبو حفص العكبري عن النبي صلى الله عليه وسلم " فإن أدخلهما قبل الغسل أراق الماء " فيحتمل وجوب إراقته فلا يجوز استعماله لأنه مأمور بإراقته أشبه الخمر، ويحتمل أن لا تجب إراقته ويكون طاهرا غير مطهر كالمستعمل في رفع الحدث والأول اختيار ابن عقيل، وهل يكون غمس بعض اليد كغمس الجميع؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يكون وهو قول الحسن لأن الحديث ورد في غمس جميع اليد وهو تعبد لا يلزم من كون الشئ مانعا كون بعضه مانعا كما لا يلزم من كون الشئ سببا كون بعضه سببا والله أعلم (والثاني) حكم البعض حكم الكل لأن ما تعلق المنع بجميعه تعلق ببعضه كالحدث والنجاسة، وغمسها بعد غسلها دون
الثلاث كغمسها قبل غسلها سببا لبقاء النهي (فصل) ولا فرق بين كون يد النائم مطلقة أو مشدودة في جراب أو مكتوفا لعموم الأخبار ولأن الحكم إذا علق على المظنة لم يعتبر حقيقة الحكمة كالعدة الواجبة لاستبراء الرحم في حق الصغيرة والآيسة وربما تكون يده نجسة قبل نومه فينسى نجاستها لطول نومه على أن الظاهر عند من أوجب الغسل أنه تعبد لا لعلة التنجيس ولهذا لم تحكم بنجاسة اليد فيعم الوجوب كل من تناوله الخبر.
وقال ابن عقيل لا يجب الغسل إذا كان مكتوفا أو كانت يده في جراب لزوال احتمال النجاسة الذي لأجله شرع الغسل والأول أولى لما ذكرنا.
ولا يجب غسل اليد عند القيام من نوم النهار رواية واحدة وسوى الحسن

(1/17)


بين نوم الليل والنهار.
ولنا أن في الخبر ما يدل على تخصيصه بنوم الليل وهو قوله " فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده " والمبيت يكون في الليل خاصة ولا يصح قياس نوم النهار على نوم الليل لوجهين (أحدهما) أن الغسل وجب تعبدا فلا يقاس عليه (الثاني) أن نوم الليل يطول فيكون احتمال إصابة يده للنجاسة فيه أكثر (فصل) واختلفوا في النوم الذي يتعلق به هذا الحكم فذكر القاضي أنه النوم الذي ينقض الوضوء وقال ابن عقيل هو ما زاد على نصف الليل لأنه لا يكون بائتا إلا بذلك بدليل أن من دفع من مزدلفة قبل نصف الليل فعليه دم بخلاف من دفع بعده وما قاله يبطل بمن وافاها بعد نصف الليل فإنه لا يجب عليه دم مع كونه أقل من نصف الليل - وتجب النية للغسل في أحد الوجهين عند من أوجبه طهارة تعبد

(1/18)


أشبه الوضوء والغسل (والثاني) لا يفتقر لأنه علل بوهم النجاسة ولا تعتبر في حقيقتها النية فالوهم أولى ولأنه أتى بما أمر به وهو الغسل وفعل المأمور به يقتصي الإجزاء، ولا يفتقر الغسل إلى تسمية وقال أبو الخطاب يفتقر قياسا على الوضوء وهو بعيد لأن التسمية إن وجبت في الوضوء وجبت تعبدا فلا يقاس عليه لأن من شرط صحة القياس كون المعنى معقولا ليمكن تعدية الحكم والله أعلم، قال ابن عقيل ويستحب تقديم اليمنى على اليسرى في غسل اليدين لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيمن في طهوره وفي شأنه كله (فصل) فإن كان القائم من نوم الليل صبياً أو مجنوناً أو كافرا ففيه وجهان، أحدهما: هو كالمسلم
البالغ العاقل لأنه لا يدرى أين باتت يده.
والثاني لا يؤثر لأن الغسل وجب بالخطاب تعبدا ولا خطاب في حق هؤلاء ولا تعبد (1) (فصل) إذا وجد ماء قليلا ويداه نجستان وليس معه ما يغترف به فإن أمكنه أن يأخذ بفيه ويصب على يديه أو يغمس خرقة أو غيرها ويصب على يديه فعل وإن لم يمكنه يتيمم كيلا ينجس الماء ويتنجس به فإن كان لم يغسل يديه من نوم الليل فمن قال إن غمسهما لا يؤثر قال يتوضأ ومن جعله مؤثرا قال يتوضأ ويتيمم معه، ولو استيقظ المحبوس من نومه فلم يدر أهو من نوم النهار أو الليل لم يلزمه غسل يديه لأن الأصل عدم الوجوب (فصل) فإن توضأ القائم من نوم الليل من ماء كثير أو اغتسل منه بغمس أعضائه فيه ولم ينو غسل اليد من نوم الليل فعند من أوجب النية لا يرتفع حدثه ولا يجزئه من غسل اليد من النوم لانه
__________
1) الحديث في غسل اليدين خارج الاناء لمن قام من النوم قد علل في بعض رواياته بقوله صلى الله عليه وسلم (فإنه لا يدري أين باتت - أو - أين طاتف يده) ووضحه الشافعي وغيره بأنهم كانوا يستنجون بالحجارة فإذا ناموا عرقوا فربما تصيب يد أحدهم موضع النجاسة فالامر للاحتياط لا للتعبد وهو عند جمهور السلف والخلف للاستجاب ونظر له المجد بن تيمية بحديث (إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات فان الشيطان يبيت على خياشيمه) متفق عليه ولم يذهب إلى وجوب الاستنثار حد

(1/19)


لم ينوه لأن غسلها إما أنه وجب تعبدا أو لوهم النجاسة وبقاء النجاسة على العضو لا تمنعه من ارتفاع الحدث بدليل أنه لو غسل يده أو أنفه في الوضوء وهو نجس لارتفع حدثه وكذلك بقاء حدث لا يمنع من ارتفاع حدث آخر بدليل مالو توضأ الجنب ينوي رفع الحدث الأصغر أو اغتسل ينوي الكبرى وحدها فإنه يرتفع أحد الحدثين دون الآخر وهذا لا يخرج عن شبهه بأحد الأمرين والله أعلم (فصل) إذا انغمس الجنب أو المحدث في ماء دون القلتين ينوي رفع الحدث صار مستعملا ولم يرتفع حدثه وقال الشافعي يصير مستعملا ويرتفع حدثه لأنه إنما يصير مستعملا بارتفاع حدثه فيه ولنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب " والنهي يقتضي فساد
المنهي عنه ولأنه بأول جزء انفصل عنه صار مستعملا فلم يرتفع الحدث عن سائر البدن كما لو اغتسل به شخص آخر فإن كان الماء قلتين فصاعدا ارتفع الحدث والماء باق على إطلاقه لأنه لا يحمل الخبث (فصل) إذا اجتمع ماء مستعمل إلى قلتين مطهرتين صار الكل طهورا لأن المستعمل لو كان نجسا لم يؤثر في القلتين فالمستعمل أولى وإن انضم إلى ما دون القلتين ولم يبلغ الجميع قلتين فقد ذكرناه وإن بلغ قلتين باجتماعه فكذلك ويحتمل أن يزول المنع لحديث القلتين - وإن انضم مستعمل إلى مستعمل

(1/20)


ولم يبلغ القلتين فالجميع مستعمل، وإن بلغ قلتين ففيه احتمالان لما ذكرنا (مسألة) (وإن أزيلت به النجاسة فانفصل متنيرا أو قبل زوالها فهو نجس) أما إذا انفصل متنيرا بالنجاسة فلا خلاف في نجاسته، وأما إذا انفصل غير متغير مع بقاء النجاسة فهو مبني على تنجس الماء القليل لمجرد ملاقاة النجاسة من غير تغيير وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى (مسألة) قال (وإن انفصل غير متغير بعد زوالها فهو طاهر) رواية واحدة أن كان المحل أرضا، وقال أبو بكر إنما يحكم بطهارته إذا كانت قد نشفت أعيان البول، فإن كانت أعيانها قائمة فجرى الماء عليها فطهرها وفي المنفصل روايتان كغير الأرض.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " صبوا على بول الأعرابي ذنوبا من ماء " متفق عليه أمر بذلك لتطهير مكان البول فلو كان المنفصل نجسا لكان تكثيرا للنجاسة ولم يفرق بين نشافه وعدمه والظاهر أنه إنما أمر عقيب البول (مسألة) (وإن كان غير الأرض فهو طاهر في أصح الوجهين) وهو مذهب الشافعي لأنه انفصل عن محل محكوم بطهارته أشبه المنفصل من الأرض، ولأن المنفصل بعض المتصل والمتصل طاهر بالإجماع كذلك المنفصل (والوجه الثاني) أنه نجس وهو قول أبي حنيفة واختيار ابن حامد لأنه لاقى نجاسة أشبه مالو انفصل قبل زوالها أو وردت عليه وهل تكون طهورا؟ على وجهين بناء على المستعمل في رفع الحدث (مسألة) (وإن خلت بالطهارة منه امرأة فهو طهور) بالأصل لأنه يجوز لها أن تتوضأ به ولغيرها من النساء - أشبه الذي لم تخل به ولا يجوز للرجل الظهارة به في ظاهر المذهب لما روى الحكم بن عمرو

(1/21)


الغفاري قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة رواه الترمذي (1) وقال حديث حسن.
قال أحمد جماعة كرهوه منهم عبد الله بن عمرو وعبد الله بن سرجس وخصصناه بالخلوة لقول عبد الله بن سرجس توضأ أنت ههنا وهي ههنا، فأما إذا خلت به فلا تقربنه ومعنى الخلوة أن لا يشاهدها إنسان تخرج بحضوره عن الخلوة في النكاح، وذكر القاضي أنها لا تخرج عن الخلوة ما لم يشاهدها رجل مسلم، وذكر ابن عقيل في معنى الخلوة أن لا يشاركها أحد في الاستعمال وفيه رواية أخرى أنه يجوز للرجل أن يتطهر به لما روت ميمونة قالت أجنبت فاغتسلت من جفنة ففضلت فيها فضلة فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليغتسل منه فقلت إني اغتسلت منه فقال " الماء ليس عليه جنابة " رواه أبو داود (2) والظاهر خلوها به لأن العادة أن الإنسان يقصد الخلوة في غسل الجنابة وهذا أقيس إن شاء الله تعالى فإن خلت به في إزالة النجاسة فقال ابن حامد فيه وجهان (أظهرهما) جواز الوضوء به لأن الأصل الجواز وإن خلت بالطهارة في بعض أعضائها أو في تجديد طهارة واستنجاء ففيه وجهان (أحدهما) المنع قياسا على الوضوء (والثاني) لا يمنع لأن الطهارة المطلقة تنصرف إلى طهارة الحدث الكاملة فإن خلت به الذمية في غسل الحيض ففيه وجهان (أحدهما) المنع كالمسلمة لأنها أدنى منها وأبعد من الطهارة وقد تعلق به إباحة وطئها (والثاني) الجواز لأن طهارتها لا تصح، وكذلك النفاس والجنابة، ويحتمل التفرقة بين الحيض والنفاس وبين الجنابة لأن الجنابة لم تفد إباحة ولم تصح فهي كالتبرد والله أعلم وإنما تؤثر خلوتها في الماء اليسير لأن النجاسة لا تؤثر في الماء الكثير فهذا أولى ويجوز غسل النجاسة به وذكر القاضي وجها أنه لا يجوز للرجل غسل النجاسة به لان مالا يجوز الوضوء به لا يجوز غسل النجاسة به كالخل ويمكن القول بموجبه فإن هذا يجوز للمرأة الطهارة به (فصل) ويجوز للرجل والمرأة أن يغتسلا ويتوضآ من إناء واحد من غير كراهة لأن النبي صلى الله عليه وسلم
__________
1) بل رواه أحمد وأصحاب السنن الارعة وفي تصحيحه خلاف 2) وكذا أحمد والنسائي والترمذي وقال حسن صحيح ولكن بابهام زوج النبي صلى الله عليه وسلم ميمونة وهي المرادة به فقد رواه ابن عباس وهي حالته وقد روي عنه احمد ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة

(1/22)


كان يغتسل هو وزوجته من إناء واحد يغترفان منه جميعا رواه البخاري (فصل) ولا يجوز رفع الحدث إلا بالماء ولا يحصل بمائع سواه وبهذا قال مالك والشافعي وروي عن علي رضي الله عنه وليس بثابت أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بالنبيذ وبه قال الحسن وقال عكرمة النبيذ وضوء من لم يجد الماء وقال إسحاق النبيذ حلوا أعجب إلي من التيمم وجمعهما أحب إلي وعن (أبي حنيفة) كقول عكرمة وقيل عنه يجوز الوضوء بنبيذ التمر إذا طبخ واشتد عند عدم الماء في السفر لما روى ابن مسعود أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن فأراد أن يصلي صلاة الفجر فقال " أمعك وضوء؟ قال لا معي إداوة فيها نبيذ - فقال ثمرة طيبة وماء طهور " ولنا قوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) أوجب الانتقال إلى التيمم عند عدم الماء ولأنه لا يجوز الوضوء به في الحضر ولا مع وجود الماء فأشبه الخل والمرق وحديثهم لا يثبت لأن راويه أبو زيد وهو مجهول عند أهل الحديث لا يعرف له غير هذا الحديث ولا يعرف بصحبة عبد الله قاله الترمذي وابن المنذر وروى مسلم باسناده عن عبد الله بن مسعود قال لم أكن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ووددت أني كنت معه.
فأما غير النبيذ فلا نعلم بين أهل العلم خلافاً أنه لا يجوز به وضوء ولا غسل غير ما ذكرناه في الماء المعتصر فيما مضى والله أعلم

(1/23)


(فصل) قال رضي الله عنه (القسم الثالث ماء نجس وهو ما تغير بمخالطة النجاسة) كل ماء تغير بمخالطة النجاسة فهو نجس بالإجماع حكاه ابن المنذر فإن لم يتغير وهو يسير فهل ينجس على روايتين (إحداهما) ينجس وهو ظاهر المذهب روى ذلك عن ابن عمر وهو قول الشافعي وإسحاق لما روى ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسئل عن الماء يكون بالفلاة من الأرض وما ينوبه من الدواب والسباع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث " رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وتحديده القلتين يدل على تنجيس ما دونهما وإلا لم يكن التحديد مفيدا وصح نهى النبي صلى الله عليه وسلم القائم من نوم الليل عن غمس يده في الماء قبل غسلها فدل على أنه يفيد منعا وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الاناء من لوغ الكلب وإراقة سؤره ولم يفرق بين ما تغير وبين ما لم يتغير مع أن الظاهر عدم التغيير (والرواية الثانية) أن الماء لا ينجس إلا بالتغير روى ذلك عن حذيفة وأبي هريرة وابن عباس والحسن
وهو مذهب مالك والثوري وابن المنذر وروي أيضاً عن الشافعي لما روى أبو أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الماء لا ينجسه شئ إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولوغه " رواه ابن ماجه والدارقطني وروى أبو سعيد قال قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة؟ وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم والكلاب النتن قال " إن الماء طهور لا ينجسه شيئ " رواه الإمام أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن وصححه الإمام أحمد (مسألة) قال (وإن كان كثيرا فهو طاهر ما لم تكن النجاسة بولا أو عذرة)

(1/24)


بغير خلاف في المذهب روى ذلك عن عبد الله بن عمر وهو قول الشافعي وروي عن ابن عباس قال إذا كان الماء ذنوبين لم يحمل الخبث وقال عكرمة ذنوبا أو ذنوبين وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الماء الكثير يتنجس بالنجاسة من غير تغيير إلا أن يبلغ حدا يغلب على الظن أن النجاسة لا تصل إليه واختلفوا في حده فقال بعضهم ما إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الآخر وقال بعضهم ما بلغ عشرة أذرع في مثلها وما دون ذلك قليل وإن بلغ ألف قلة لقول النبي صلى الله عليه وسلم " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه " متفق عليه نهى عن الاغتسال من الماء الراكد بعد البول فيه ولم يفرق بين قليله وكثيره ولأنه ماء حلت فيه نجاسة لا يؤمن انتشارها إليه أشبه اليسير ولنا خبر القلتين وبئر بضاعة اللذان ذكرناهما مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر أن بئر بضاعة يلقى فيه الحيض والنتن ولحوم الكلاب مع أن بئر بضاعة لا يبلغ الحد الذي ذكروه قال أبو داود قدرت بئر بضاعة فوجدته ستة أذرع وسألت الذي فتح لي باب البستان هل غير بناؤها؟ قال لا وسألت قيمها عن عمقها فقلت أكثر ما يكون فيها الماء؟ فقال إلى العانة.
قلت فإذا نقص قال دون العورة ولأنه ماء يبلغ القلتين فأشبه الزائد على عشرة أذرع وحديثهم عام وحديثنا خاص فيجب تخصيصه به وحديثهم لابد من تخصيصه بما زاد على الحد الذي ذكروه فيكون تخصيصه بقول النبي صلى الله عليه وسلم أولى من

(1/25)


تخصيصه بالرأي والتحكم من غير أصل وما ذكروه من الحد تقدير من غير توقيف ولا يصار اليه بغير نص ولا إجماع ثم إن حديثهم خاص في البول وهو قولنا في إحدى الروايتين جمعاً بين الحديثين فنقصر
الحكم على ما تناوله النص وهو البول لأن له من التأكيد والانتشار ما ليس لغيره (مسألة) قال (إلا أن تكون النجاسة بولا أو عذرة مائعة ففيه روايتان إحداهما لا ينجس) وهو كسائر النجاسات وهو اختيار أبي الخطاب وابن عقيل ومذهب الشافعي وأكثر أهل العلم لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شئ " رواه الإمام أحمد ولأن نجاسة بول الآدمي لا تزيد على نجاسة بول الكلب وهو لا ينجس القلتين فهذا أولى وحديث النهي عن البول في الماء الدائم لابد من تخصيصه بما لا يمكن نزحه إجماعا فيكون تخصيصه بخبر القلتين أولى من تخصيصه بالرأي والتحكم ولو تعارضا ترجح حديث القلتين لموافقته القياس (والرواية الأخرى ينجس) يروى نحو ذلك عن علي بن أبي طالب فروى الخلال بإسناده أن علياً رضي الله عنه سئل عن صبي بال في بئر فأمرهم بنزحها، وهو قول الحسن لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه " متفق

(1/26)


عليه وهذا يتناول القليل والكثير وهو خاص في البول فيجمع بينه وبين حديث القلتين بحمل هذا على البول وحمل حديث القلتين على سائر النجاسات والعذرة المائعة في معنى البول لأن أجزاءها تتفرق في الماء وتنتشر فهي في معنى البول وهي أفحش منه وقال ابن أبي موسى حكم الرطبة حكم المائعة قياسا عليها والأولى التفريق بينهما لما ذكرنا من المعنى (مسألة) قال (إلا أن يكون مما لا يمكن نزحه لكثرته فلا ينجس) لا نعلم خلافاً أن الماء الذي لا يمكن نزحه إلا بمشقة عظيمة مثل المصانع التي جعلت موردا للحاج بطريق مكة يصدرون عنها ولا ينفد ما فيها أنها لا تنجس إلا بالتغيير قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الماء الكثير كالرجل من البحر ونحوه إذا وقعت فيه نجاسة فلم تغير له لونا ولا طعما ولا ريحا إنه بحاله يتطهر منه (فصل) ولا فرق بين قليل البول وكثيره قال مهنا سألت أحمد عن بئر غزيرة وقعت فيها خرقة أصابها بول قال: تنزح لأن النجاسات لا فرق بين قليلها وكثيرها كذلك البول
(فصل) إذا كان بئر الماء ملاصقا لبئر فيها بول أو غيره من النجاسة وشك في وصوله إلى الماء فالماء طاهر بالأصل.
وإن أحب علم حقيقة ذلك فليطرح في البئر النجسة نفطا فإن وجد رائحته في الماء علم وصوله إليه وإلا فلا وإن وجده متغيراً تغيراً يصلح أن يكون منها ولم يعلم له سبباً آخر فهو نجس

(1/27)


لأن الملاصقة سبب فيحال الحكم عليه والأصل عدم ما سواه ولو وجد ماء متغيرا في غير هذه الصورة ولم يعلم سبب تغيره فهو طاهر - وإن غلب على ظنه نجاسته لأن الأصل الطهارة.
وإن وقعت في الماء نجاسة فوجده متغيراً تغيراً يصلح أن يكون منها فهو نجس لأن الظاهر كونه منها والأصل عدم ما سواه فيحال الحكم عليه وإن كان التغيير لا يصلح أن يكون منها لكثرة الماء وقلتها أو لمخالفته لونها أو طعمها فهو طاهر لأن النجاسة لا تصلح أن تكون سببا هاهنا أشبه مالو لم يقع فيه شئ (فصل) فإن توضأ من الماء القليل وصلى ثم وجد فيه نجاسة أو توضأ من ماء كثير ثم وجده متغيرا بنجاسة شك هل كان قبل وضوئه أو بعده فالأصل صحة طهارته وصلاته وإن علم أن ذلك قبل وضوئه بأمارة أعاد وإن علم أن النجاسة قبل وضوئه ولم يعلم أكان دون القلتين أو كان قلتين فنقص بالاستعمال أعاد لأن الأصل نقص الماء (فصل) إذا وقعت في الماء نجاسة فغيرت بعضه فالمتغير نجس وما لم يتغير إن بلغ قلتين فهو طاهر وإلا فهو نجس لأن الماء اليسير ينجس بمجرد الملاقاة لما ذكرنا وقال ابن عقيل وبعض الشافعية يكون نجسا وإن كثر كما لو كان يسيرا ولأن المتغير نجس فينجس ما يلاقيه وما يلاقي ما يلاقيه حتى ينجس جميعه، فإن اضطرب فزال تغيره طهر لزوال علة النجاسة وهي التغير ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " إذا بلغ الماء قلتين لم ينجسه شئ " وغير المتغير كثير فيدخل في عموم الحديث ولكنه ماء كثير لم يتغير بالنجاسة الواقعة فيه فلم ينجس كما لو لم يتغير منه شئ

(1/28)


ولا يصح القياس على اليسير لأنه لا يدفع النجاسة عن نفسه، وقولهم أن الملاصق للمتغير ينجس ممنوع كالملاصق للنجاسة الجامدة وعلى قولهم ينبغي أن ينجس البحر.
إذا تغير جانبه والماء الجاري ولا قائل به
(فصل) قال ابن عقيل من ضرب حيوانا مأكولا (3) فوقع في ماء ثم وجده ميتاً ولم يعلم هل مات من الجراحة أو بالماء فالماء على أصله في الطهارة والحيوان على أصله في الحظر إلا أن تكون الجراحة موجبة فيكون الحيوان أيضا مباحا لأن الظاهر موته بالجرح والماء طاهر إلا أن يقع فيه دم (فصل) إذا كان الماء قلتين وفيه نجاسة فغرف منه بإناء فالذي في الإناء طاهر والباقي نجس إن قلنا القلتان تحديد لأنه ماء يسير فيه نجاسة، وإن قلنا بالتقريب لم ينجس إلا أن يكون الإناء كبيرا يخرجه عن التقريب، وإن ارتفعت النجاسة في الدلو فالماء الذي في الإناء نجس والباقي طاهر، ذكرها ابن عقيل.
(فصل) وإذا اجتمع ماء نجس إلى ماء نجس ولم يبلغ القلتين فالجميع نجس وإن بلغ القلتين فكذلك لأنه كان نجسا قبل الاتصال والأصل بقاء النجاسة، ولأن اجتماع النجس إلى النجس لا يولد بينهما طاهرا كما في سائر المواضع ويتخرج أن يطهر إذا بلغ قلتين وزال تغيره وهو مذهب الشافعي لزوال علة التنجيس، والغدير ان إذا كانت بينهما ساقية فيها ماء متصل بهما فهما كالغدير الواحد قل الماء أو كثر فمتى تنجس أحدهما ولم يبلغا القلتين لم يتنجس واحد منهما إلا أن يتغير بالنجاسة كما قلنا في الواحد
__________
3) أي بمحدد بقصد الصيد أو التذكية ولو قال من جرح أو رمي لكان أولى.
والضرب بالحجر غير المحدد قد يكشط الجلد وهو وقذوان جرح

(1/29)


(مسألة) قال (وإذا انضم إلى الماء النجس ماء طاهر كثير طهره إن لم يبق فيه تغير وإذا كان الماء النجس كثيرا فزال تغيره بنفسه أو بنزح بقي بعده كثير طهر) وجملة ذلك أن تطهير الماء النجس ينقسم ثلاثة أقسام (أحدها) أن يكون الماء النجس دون القلتين فتطهيره المكاثرة بقلتين طاهرتين أما أن ينبع فيه أو يصب فيه أو يجري إليها من ساقية أو نحو ذلك فيزول بهما تغيره إن كان متغيرا فيطهر وإن لم يكن متغيرا طهر بمجرد المكاثرة لأن القلتين تدفع النجاسة عن نفسها وعما اتصل بها ولا تنجس إلا بالتغير إذا وردت عليها النجاسة فكذلك إذا كانت واردة - ومن ضرورة الحكم بطهارتهما طهارة ما اختلط بهما (القسم الثاني) أن يكون قلتين فإن لم
يكن متغيرا بالنجاسة فتطهيره بالمكاثرة المذكورة وإن كان متغيرا بها فتطهيره بالمكاثرة المذكورة إذا أزالت التغير وبزوال تغيره بنفسه لأن علة التنجيس زالت وهي التغير أشبه الخمرة إذا انقلبت بنفسها خلا وقال ابن عقيل يحتمل أن لا يطهر إذا زال تغيره بنفسه بناء على أن النجاسة لا تطهر بالاستحالة (القسم الثالث) الزائد على القلتين فإن كان غير متغير فتطهيره بالمكاثرة لا غير وإن كان متغيرا فتطهيره بما ذكرنا من الأمرين وبأمر ثالث وهو أن ينزح منه حتى يزول التغير ويبقى بعد النزح قلتان فإن نقص عن القلتين قبل زوال تغيره ثم زال تغيره لم يطهر لأن علة التنجيس في القليل مجرد ملاقاة النجاسة فلم تزل العلة بزوال

(1/30)


التغيير ولا يعتبر في المكاثرة صب الماء دفعة واحدة لأنه لا يمكن ذلك لكن يوصله على حسب الإمكان في المتابعة على ما ذكرنا (مسألة) (فإن كوثر بماء يسير أو بغير الماء كالتراب ونحوه فأزال التغير لم يطهر في أحد الوجهين) لأن هذا لا يدفع النجاسة عن نفسه فعن غيره أولى (والثاني) يطهر لأن علة النجاسة زالت وهو التغير أشبه مالو زال تغيره بنفسه ولأن الماء اليسير إذا لم يؤثر فلا أقل من أن يكون وجوده كعدمه ويحتمل التفرقة بين المكاثرة بالماء اليسير وغيره فإذا كوثر بالماء اليسير طهر لما ذكرنا وإذا كوثر بالتراب أو غيره لم يطهر لأن ذلك ربما ستر التغير الحادث من النجاسة فيظن أنه قد زال ولم يزل (فصل) فأما الذي يقع فيه بول الآدمي إذا قلنا بنجاسته فلا يطهر بالمكاثرة بقلتين لأن القلتين بالنسبة إلى البول كما دونهما بالنسبة إلى غيره لكن يطهر بأحد ثلاثة أشياء المكاثرة بما لا يمكن نزحه.
الثاني: أن ينزح منه حتى يزول تغيره ويبقى مالا يمكن نزحه (الثالث) أن يزول تغيره بنفسه إن كان كذلك ذكره ابن عقيل (فصل) فأما غير الماء من المائعات إذا وقعت فيه نجاسة ففيه ثلاث روايات (إحداهن) أنه يتنجس وإن كثر وهو الصحيح إن شاء الله لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تموت في السمن فقال " إن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن كان مائعاً فلا تقربوه " رواه الإمام أحمد - نهى عنه ولم يفرق بين قليله وكثيره ولأنها لا تطهر غيرها فلا تدفع النجاسة عن نفسها كاليسير (والثانية) إنها كالماء

(1/31)


لا ينجس منها ما بلغ قلتين إلا بالتغير قياسا على الماء قال حرب سألت أحمد قلت كلب ولغ في سمن وزيت قال إذا كان في آنية كبيرة مثل حب أو نحوه رجوت أن لا يكون به بأس يؤكل وإن كان في آنية صغيرة فلا يعجبني (والثالثة) أن ما أصله الماء كالخل التمري يدفع النجاسة لأن الغالب فيه الماء وما لا فلا (فصل) وإذا قلنا: إن غير الماء من المائعات كالخل ونحوه يزيل النجاسة نبني على ذلك أن الكثير منه لا ينجس إلا بالتغيير لكون حكمه في دفع النجاسة حكم الماء والله أعلم (فصل) فأما الماء المستعمل في رفع الحدث وما كان طاهرا غير مطهر ففيه احتمالان (أحدهما) أنه يدفع النجاسة عن نفسه إذا كثر لحديث القلتين (والثاني) أنه ينجس لأنه لا يطهر أشبه الخل (فصل) ولا فرق بين يسير النجاسة وكثيرها ما أدركه الطرف وما لم يدركه الا أن ما يعفى عن يسيره كالدم - حكم الماء الذي يتنجس به حكمه في العفو عن يسيره وكذلك كل نجاسة نجست الماء حكمه حكمها لأن نجاسة الماء ناشئة عن نجاسة الواقع وفرع عليها والفرع يثبت له حكم أصله، وروي عن الشافعي أن مالا يدركه الطرف من النجاسة معفو عنه للمشقة اللاحقة به ونص في موضع أن الذباب إذا وقع على خلاء رقيق أو بول ثم وقع على الثوب غسل موضعه ونجاسة الذباب مما لا يدركها الطرف

(1/32)


ولنا أن دليل التنجيس لا يفرق بين قليل النجاسة وكثيرها ولا بين ما يدركه الطرف وما لا يدركه فالتفريق تحكم وما ذكروه من المشقة ممنوع - لأنا إنما نحكم بالنجاسة إذا علمنا وصولها ومع العلم لا يفترق القليل والكثير في المشقة ثم إن المشقة بمجردها حكمة لا يجوز تعلق الحكم بها بمجردها وجعل مالا يدركه الطرف ضابطا لها إنما يصح بالتوقيف أو باعتبار الشرع له في موضع ولم يوجد واحد منهما

(1/33)


(مسألة) قال (والكثير ما بلغ قلتين واليسير ما دونهما) القلة الجرة سميت قلة لأنها تقل بالايدي والمراد ههنا بالقلة قلال هجر لما يأتي وإنما جعلنا
القلتين حدا للكثير لأن حديث القلتين دل على نجاسة ما لم يبلغهما بطريق المفهوم وعلى دفعهما للنجاسة عن أنفسهما فلذلك جعلناهما حدا للكثير فمتى جاء لفظ الكثير هاهنا فالمراد به القلتان والله أعلم

(1/34)


(مسألة) قال وهما خمسمائة رطل بالعراقي) في ظاهر المذهب وهو قول الشافعي لأنه روي عن ابن جرير أنه قال رأيت قلال هجر فرأيت القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا والقربة مائة رطل بالعراقي باتفاق القائلين بتحديد الماء بالقرب والاحتياط أن يجعل الشئ نصفا فكانت القلتان بما ذكرنا خمسمائة رطل، وروى عن أحمد أن القلتين أربعمائة رطل بالعراقي.
رواه عنه الأثرم واسماعيل ابن سعيد، وحكاه ابن المنذر لما روى الجوزجاني بإسناده عن يحيى بن عقيل قال رأيت قلال هجر

(1/35)


وأظن كل قلة تأخذ قربتين.
وروي نحو ذلك عن ابن جريج وإنما خصصنا القلة بقلال هجر لوجهين (أحدهما) ما روى الخطابي بإسناده إلى ابن جريج عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا " إذا كان الماء قلتين بقلال هجر " (والثاني) ان قلال هجر أكبر ما يكون من القلال وأشهرها في عصر النبي صلى الله

(1/36)


عليه وسلم ذكره الخطابي فقال: هي مشهورة الصنعة، معلومة المقدار، لا تختلف كما لا تختلف الصيعان والمكاييل فلذلك حملنا الحديث عليها وعملنا بالاحتياط فإذا قلنا هما خمسمائة رطل بالعراقي فذلك بالرطل الدمشقي الذي هو ستمائة درهم - مائة وسبعة أرطال وسبع رطل (مسألة) (وهل ذلك تقريب أو تحديد؟ على وجهين) أحدهما: أنه تحديد وهو اختيار أبي

(1/37)


الحسن الآمدي وظاهر قول القاضي وأحد الوجهين لأصحاب الشافعي لأن اعتبار ذلك احتياط وما اعتبر احتياطا كان واجبا كغسل جزء من الرأس مع الوجه ولأنه قدر يدفع النجاسة فاعتبر تحقيقه كالعدد في الغسلات والثاني هو تقريب وهو الصحيح لأن الذين نقلوا تقدير القلال لم يضبطوها بحد إنما قال ابن جريج القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا ويحيى بن عقيل قال أظنها تسع قربتين وهذا

(1/38)


لا تحديد فيه وتقدير القربة بمائة رطل تقريب ولأن الزائد على القلتين وهو الشيئ مشكوك والظاهر استعماله فيما دون النصف والقرب تختلف غالبا وكذلك لو اشترى شيئا أو أسلم في شئ وقدره بها لم يصح وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم إن الناس لا يكيلون الماء ولا يزنونه فالظاهر أنه ردهم إلى التقريب فعلى هذا من وجد نجاسة في ماء فغلب على ظنه أنه مقارب للقلتين توضأ منه وإلا فلا

(1/39)


وفائدة الخلاف أن من اعتبر التحديد قال: لو نقص الماء نقصا يسيرا لم يعف عنه والقائلون بالتقريب يعفون عن النقص اليسير وإن شك في بلوغ الماء قدرا يدفع النجاسة ففيه وجهان (أحدهما) يحكم بطهارته لأن طهارته متيقنة قبل وقوع النجاسة فيه فلا يزول عن اليقين بالشك (والثاني) هو نجس لأن الأصل قلة الماء فيبني عليه ويلزم من ذلك النجاسة

(1/40)


(فصل في الماء الجاري) نقل عن أحمد ما يدل على التفرقة بينه وبين الواقف فإنه قال في حوض الحمام قد قيل انه بمنزلة الماء الجاري وقال في البئر يكون لها مادة وهو واقف ليس هو بمنزلة الماء الجاري، فعلى هذا لا يتنجس الجاري إلا بالتغيير لأن الأصل طهارته ولم نعلم في تنجيسه نصاً ولا إجماعاً فبقي على الأصل وقال عليه السلام " الماء طهور لا ينجسه شئ " وقال " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث " وهذا يدل على أنه لا ينجس لانه بمجموعه يزيد على القلتين فإن قيل فالجرية منه لا تبلغ

(1/41)


قلتين فتنجس لحديث القلتين قلنا تخصيص الجرية بهذا التقدير تحكم لأنه لا يصح قياسه على الراكد لقوته بجريانه واتصاله بمادته وهذا اختيار شيخنا وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
وقال القاضي وأصحابه كل جرية من الماء الجاري معتبرة بنفسها فإذا كانت النجاسة جارية مع الماء فما أمامها طاهر لأنها لم تصل إليه وما وراءها طاهر لأنه لم يصل إليها والجرية إن بلغت قلتين ولم تتغير فهي طاهرة وإلا فهي نجسة وإن كانت النجاسة واقفة في النهر فكل جرية تمر عليها إن بلغت قلتين فهي طاهرة وإلا فلا

(1/42)


قالوا والجرية هي الماء الذي فيه النجاسة وما قرب منها من خلفها وأمامها مما العادة انتشارها إليه إن كانت مما تنتشر مع ما يحاذي ذلك فيما بين طرفي النهر، فإن كانت النجاسة ممتدة فينبغي أن يكون لك جزء منها مثل تلك الجرية المعتبرة للنجاسة القليلة لأنا لو جعلنا جميع ما حاذى النجاسة الكثيرة جرية أفضى إلى تنجيس النهر الكبير بالنجاسة القليلة دون الكثيرة لأن ما يحاذي القليلة قليل فينجس وما يحاذي الكثيرة كثير فلا ينجس وهذا ظاهر الفساد (فصل) فإن كان في جانب النهر أو في وهدة منه ماء واقف مائل عن سنن الماء متصل

(1/43)


بالجاري وكان ذلك مع الجرية المقابلة له دون القلتين فالجميع نجس لأنه ماء يسير متصل فينجس بالنجاسة كالراكد، فإن كان أحدهما قلتين لم ينجس واحد منهما ماداما متلاقيين إلا بالتغيير، فإن كانت النجاسة في الجاري وهو قلتان فهو طاهر بكل حال وكذلك الواقف، وإن كان الواقف قلتين والجاري دون القلتين والنجاسة فيه فهو نجس قبل ملاقاته للواقف وبعد مفارقته له وطاهر في حال اتصاله به، وإن كانت في الواقف وهو قلتان لم ينجس بحال هو ولا الجاري وإن كان دون القلتين

(1/44)


والجاري كذلك إلا أنهما بمجموعهما قلتان فصاعدا وكانت النجاسة في الواقف لم ينجس واحد منهما لأن الماء الذي فيه النجاسة مع ما يلاقيه لا يزال كثيرا وإن كانت في الجاري فقياس قول اصحابنا إن الجميع نجس لأن الجاري ينجس قبل ملاقاته للواقف ومر على الواقف وهو يسير فنسه لأن الواقف لا يدفع عن نفسه فعن غيره أولى، ويحتمل أن يحكم بطهارة الجاري حال ملاقاته للواقف ولا يتنجس به الواقف لحديث القلتين وهو مذهب الشافعي - هذا كله إذا لم يتغير فإن تغير فهو نجس فإن كان الجاري متغيرا والواقف كثيرا فهو طاهر إن لم يتغير فإن تغير تنجس وكذلك الحكم في الجاري إن كان الواقف متغيرا وإن كان بعض الواقف متغيرا وبعضه غير متغير وكان غير المتغير مع الجرية الملاقية له قلتين لم ينجس وإن كان المتغير من الواقف يلي الجاري وغير المتغير لا يليه ولا يتصل به أصلا وكان كل

(1/45)


واحد منهما يسيرا فينبغي أن يكون الكل نجسا لأن كل ما يلاقي الماء النجس يسير وإن اتصل به من ناحية فكل ما لم يتغير طاهر إذا كان كثيراً كالغديرين إذا كان بينهما ماء متصل بهما فإن شك في في ذلك فالماء طاهر بالأصل ويحتمل أن يكون نجسا، وإن كان في الماء قلتان طاهرتان متصلة سابقة أو لاحقة فالمجتمع كله طاهر ما لم يتغير بالنجاسة لأن القلتين تدفع النجاسة عن نفسها وعما اجتمع إليها وإلا فالجميع نجس في ظاهر المذهب والله أعلم.
(مسألة) (وإذا شك في نجاسة الماء أو كان نجسا فشك في طهارته بني على اليقين) إذا شك في نجاسة الماء فهو طاهر لأن الأصل الطهارة فلا تزول بالشك وإن وجده متغيراً لأن التغير يحتمل أن

(1/46)


يكون بمكثه أو بما لا يمنع فلا يزول بالشك.
وإن تيقن نجاسته وشك في طهارته فهو نجس لما ذكرنا وإن أخبره بنجاسته صبي أو كافر أو فاسق لم يلزمه قبول خبره لأنه ليس من أهل الشهادة ولا الرواية أشبه الطفل والمجنون وإن كان بالغاً عاقلا مسلما مستور الحال وعين سبب النجاسة لزم قبول خبره رجلا كان

(1/47)


أو امرأة حرا أو عبدا بصيراً أو ضريراً لأن للأعمى طريقا إلى العلم بالحس والخبر كما لو أخبر بدخول وقت الصلاة وإن لم يعين سببها فقال القاضي: لا يلزم قبول خبره لاحتمال اعتقاد نجاسة الماء بسبب لا يعتقده المخبر كموت ذبابة عند الشافعي.
والحنفي يرى نجاسة الماء الكثير وإن لم يتغير والموسوس

(1/48)


يعتقد نجاسته بما لا ينجسه ويحتمل أن يلزم قبول خبره إذا انتفت هذه الاحتمالات في حقه (فصل) فإن أخبره أن كلبا ولغ في هذا الإناء ولم يلغ في هذا وقال آخر إنما ولغ في هذا حكم بنجاستهما لأنه يمكن صدقهما لكونهما في وقتين أو كانا كلبين فخفي على كل واحد منهما ما ظهر للآخر وإن عينا كلبا ووقتا يضيق الوقت فيه عن شربه منهما تعارض قولهما ولم ينجس واحد منهما وإن قال أحدهما ولغ في هذا الإناء وقال الآخر نزل ولم يشرب قدم قول المثبت إلا أن يكون المثبت لم يتحقق
شربه مثل الضرير الذي يخبر عن حس فيقدم قول البصير عليه (مسألة) (وإن اشتبه الماء الطاهر بالنجس لم يتحر فيهما على الصحيح من المذهب ويتيمم) وجمنلته أنه إذا اشتبهت الآنية الطاهرة بالنجسة لم يخل من حالين (أحدهما) أن يستوي عدد الطاهر والنجس فلا يجوز التحري بغير خلاف في المذهب فيما علمنا (الثاني) أن يكثر عدد الطاهر فقال أبو علي النجاد من أصحابنا يجوز التحري فيها وهو قول أبي حنيفة لأن الظاهر إصابة الطاهر ولأن جهة

(1/49)


الإباحة ترجحت أشبه مالو اشتبهت عليه أخته في نساء بلد وظاهر كلام أحمد أنه لا يجوز التحري فيها بحال وهو قول أكثر الأصحاب وقول المزني وأبي ثور وقال الشافعي يتحرى في الحالين لأنه شرط للصلاة فجاز التحري فيه كالو اشتبهت القبلة والثياب ولأن الطهارة تؤدي باليقين تارة وبالظن أخرى كما قلنا بجواز الوضوء بالماء المتغير الذي لا يعلم سبب تغيره، وقال ابن الماجشون: يتوضأ من كل واحد منهما وضوءا ويصلي به وبه قال محمد بن مسلمة إلا أنه قال يغسل ما أصابه من الأول لأنه أمكنه أداء فرضه بيقين أشبه من فاتته صلاة من يوم ولا يعلم عينها وكما لو اشتبهت الثياب ولنا أنه اشتبه المباح بالمحظور فيما لا تبيحه الضرورة فلم يجز التحري كما لو اشتبهت أخته بأجنبيات أو كما لو استوى العدد عند أبي حنيفة أو كان أحد الإناءين بولا عند الشافعي واعتذر أصحابه بأن البول لا أصل له في الطهارة قلنا وهذا الماء قد زال عنه أصل الطهارة وعلى أن البول قد كان

(1/50)


ماء فله أصل في الطهارة فهو كالماء النجس، وقولهم إذا كثر عدد الطاهر ترجحت الطهارة يبطل بما لو اشتبهت أخته بمائة أجنبية، وأما إذا اشتبهت أخته في نساء مصر فإنه يشق اجتنابهن جميعا ولذلك يجوز له النكاح من غير تحر بخلاف هذا، وأما القبلة فيباح تركها للضرورة وفي صلاة النافلة بخلاف مسألتنا، وأما الثياب فلا يجوز التحري فيها عندنا على ما يأتي وأما المتغير فيجوز الوضوء به استنادا إلى أصل الطهارة ولا يحتاج إلى تحر وفي مسألتنا عارض يقين الطهارة يقين النجاسة فلم يبق له حكم ولهذا احتاج إلى التحري، وما قاله ابن الماجشون باطل لأنه يتنجس يقينا وما قاله ابن مسلمة ففيه حرج
ويبطل بالقبلة حيث لم يوجبا الصلاة إلى أربع جهات والله أعلم (مسألة) قال (وهل يشترط إراقتهما أو خلطهما فيه روايتان) إحداهما تشترط ذكره الخرقي لأن معه ماء طاهرا بيقين فلم يجز له التيمم مع وجوده فإذا خلطهما أو أراقهما جاز له التيمم لأنه لم يبق

(1/51)


معه ماء طاهر (والثانية) يجوز التيمم قبل ذلك اختاره أبو بكر وهو الصحيح لأنه غير قادر على استعمال الطاهر أشبه مالو كان في بئر لا يمكنه الوصول إليه، فإن احتاج إليهما للشرب لم تجب إراقتهما بغير خلاف لأنه يجوز له التيمم لو كانا طاهرين فههنا أولى، فإذا أراد الشرب تحرى وشرب من الذي يظن طهارته فإن لم يغلب على ظنه شئ شرب من أحدهما لأنه حال ضرورة فإذا شرب من أحدهما أو أكل من المشتبهة بالميتة فهل يلزمه غسل فيه؟ يحتمل وجهين (احدهما) لا يلزمه لأن الأصل الطهارة (والثاني) يلزمه لأنه محل منع من استعماله لأجل النجاسة فلزمه غسل أثره كالمتيقن فإن علم عين النجس استحب إراقته ليزيل الشك، فإن احتاج إلى الشرب شرب من الطاهر وتيمم، وإن خاف العطش في ثاني الحال فقال القاضي يتوضأ بالطاهر ويحبس النجس لأنه غير محتاج إلى شربه في الحال فلم يجز التيمم مع وجوده.
قال شيخنا: والصحيح إن شاء الله أنه يحبس الطاهر ويتيمم لأن وجود النجس كعدمه عند الحاجة إلى الشرب في الحال فكذلك في المآل وخوف العطش في إباحة التيمم كحقيقته (مسألة) وإن اشتبه طهور بطاهر توضأ من كل واحد منهما وصلى صلاة واحدة.
لا نعلم فيه خلافاً

(1/52)


لأنه أمكنه إداء فرضه بيقين من غير حرج فلزمه ذلك كما لو كانا طهورين فلم يكفه أحدهما، فإن احتاج إلى أحد الإناءين للشرب تحرى وتوضأ بالطهور عنده وتيمم ليحصل له اليقين والله أعلم (مسألة) قال (وإن اشتبهت ثياب طاهرة بنجسة صلى في كل ثوب صلاة بعدد النجس وزاد صلاة) ولم يجز التحري وهذا قول ابن الماجشون لأنه أمكنه إداء فرضه بيقين من غير حرج فلزمه كما لو اشتبه الطاهر بالطهور وكما لو فاتته صلاة من يوم لا يعلم عينها وقال أبو ثور والمزني: لا يصلي في شئ منها وقال أبو حنيفة والشافعي يتحرى كقولهما في الأواني والقبلة والأول أولى والفرق بين
الثياب والأواني النجسة من وجهين (أحدهما) أن استعمال النجس في الأواني يتنجس به ويمنع صحة صلاته في الحال والمآل بخلاف الثياب (الثاني) أن الثوب النجس يباح له الصلاة فيه إذا لم يجد غيره بخلاف الماء النجس والفرق بينه وبين القبلة من ثلاثة أوجه (أحدها) أن القبلة يكثر فيها الاشتباه (الثاني) أن الاشتباه ههنا حصل بتفريطه لأنه كان يمكنه تعليم النجس بخلاف القبلة (الثالث) أن القبلة عليها أدلة من النجوم وغيرها فيغلب على الظن مع الاجتهاد فيها الإصابة بحيث يبقى احتمال الخطأ وهما ضعيفا بخلاف الثياب (فصل) فإن لم يعلم عدد النجس صلى حتى يتيقن أنه صلى في ثوب طاهر فإن كثر ذلك وشق

(1/53)


فقال ابن عقيل يتحرى في أصح الوجهين دفعا للمشقة (والثاني) لا يتحرى لأن هذا يندر جدا فالحق للغالب (فصل) فإن سقط على إنسان من طريق ماء لم يلزمه السؤال عنه قال صالح سألت أبي عن الرجل يمر بموضع فيقطر عليه قطرة أو قطرتان فقال إن كان مخرجا يعني خلاء فاغسله وإن لم يكن مخرجا فلا تسأل عنه فإن عمر رضي الله عنه مر هو وعمرو بن العاص على حوض فقال عمرو: يا صاحب الحوض أترد على حوضك السباع؟ فقال عمر يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد عليها وترد علينا، رواه مالك في الموطأ، فإن سأل فقال ابن عقيل: لا يلزم المسئول رد الجواب لخبر عمر قال شيخنا ويحتمل

(1/54)


أن يلزمه لأنه سئل عن شرط الصلاة فلزمه الجواب كما لو سئل عن القبلة وخبر عمر يدل على أن سؤر السباع طاهر والله أعلم