الشرح
الكبير على متن المقنع بسم الله الرحمن الرحيم (وبه نستعين) كتاب
البيع البيع مبادلة المال بالمال تمليكاً وتملكاً واشتقاقه من الباع لأن كل
واحد من المتبايعين يمد باعه للأخذ والإعطاء، ويحتمل أن كل واحد منهما كان
يبايع صاحبه أي يصافحه عند البيع ولذلك سمي البيع صفقة والأصل في جوازه
الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله سبحانه وتعالى (وأحل الله البيع) وقوله تعالى (وأشهدوا
إذا تبايعتم) وقوله (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) وقوله (ليس عليكم
جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) قال ابن عباس رضي الله عنهما كانت عكاظ ومجنة
وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فلما كان الإسلام تأثموا فيه فأنزلت (ليس
عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) يعني في مواسم الحج، وعن ابن الزبير
نحوه رواه البخاري، وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم
__________
ليعلم أن كتاب البيع في الشرح الكبير متأخر عن موضعه هنا فقدمناه لاجل
موافقته للمغني للاستفادة من الكتابين قراءة ومراجعة
(4/2)
" البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " متفق
عليه، وروى رفاعة أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى
المصلى فرأى الناس يتبايعون فقال " يا معشر التجار " فاستجابوا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه فقال " إن التجار يبعثون
يوم القيامة فجارا إلا من بر وصدق " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح في
أحاديث كثيرة سوى هذه، وأجمع المسلمون على جواز البيع في الجملة والحكمة
تقتضيه لأن حاجة الإنسان تتعلق بما في يد صاحبه ولا يبذله صاحبه بغير عوض
ففي تجويز البيع طريق إلى وصول كل واحد منهما إلى غرضه ودفع حاجته (مسألة)
(وله صورتان (إحداهما) الإيجاب والقبول.
فالإيجاب أن يقول البائع بعتك أو ملكتك أو نحوهما، والقبول أن يقول المشتري
ابتعت أو قبلت أو ما في معناهما فإن تقدم القبول الإيجاب جاز في إحدى
الروايتين) إذا تقدم القبول الإيجاب بلفظ الماضي كقوله ابتعت منك فقال بعتك
صح في أصح الروايتين لأن لفظ القبول والإيجاب وجد منهما على وجه تحصل منه
الدلالة على تراضيهما فيصح كما لو تقدم الإيجاب (والثانية) لا يصح لأنه عقد
معاوضة فلم يصح مع تقدم القبول كالنكاح ولأن القبول مبني على الإيجاب فإذا
لم يتقدم الإيجاب فقد أتى بالقبول في غير محله فوجوده كعدمه، فإن تقدم بلفظ
الطلب فقال: بعني ثوبك بكذا فقال بعتك ففيه روايتان أيضاً (إحداهما) يصح
لما ذكرنا وهو قول مالك والشافعي (والثانية) لا يصح وهو قول أبي حنيفة لأنه
لو تأخر عن الإيجاب لم يصح به البيع فلم يصح إذا تقدم كلفظ الاستفهام ولأنه
عقد عري عن القبول فلم ينعقد كما لو لم يطلب فأما إن تقدم بلفظ الاستفهام
مثل أن يقول أتبيعني ثوبك بكذا فيقول بعتك لم يصح بحال.
نص عليه أحمد
(4/3)
وبه يقول أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم عن
غيرهم خلافهم لأن ذلك ليس بقبول ولا استدعاء (مسألة) (وإن تراخى القبول عن
الإيجاب صح ماداما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه وإلا فلا) لأن حالة
المجلس كحالة العقد بدليل أنه يكتفى بالقبض فيه لما يشترط قبضه، فإن تفرقا
عن المجلس أو تشاغلا بما يقطعه لم يصح لأن العقد إنما يتم بالقبول فلم يتم
مع تباعده عنه كالاستثناء والشرط وخبر المبتدأ الذي لايتم الكلام إلا به
(مسألة) (الثانية المعاطاة) وهو أن يقول: أعطني بهذا الدينار خبزاً فيعطيه
ما يرضيه أو يقول البائع خذ هذا بدرهم فيأخذه، وقال القاضي لا يصح هذا إلا
في الشئ اليسير نص أحمد على صحة هذا البيع فيمن قال لخباز كيف تبيع الخبز؟
قال كذا بدرهم قال زنه وتصدق به فإذا وزنه فهو عليه وقول مالك نحو من هذا
فإنه قال: يقع البيع بما يعتقده الناس بيعاً، وقال بعض الحنفية يصح في
خسائس الأشياء: وهو قول القاضي لأن العرف إنما جرى به في الشئ اليسير ومذهب
الشافعي أن البيع لا يصح إلا بإيجاب وقبول، وذهب بعض أصحابه إلى مثل قولنا
ولنا أن الله تعالى أحل البيع ولم يبين كيفيته فوجب الرجوع فيه إلى العرف
كما رجع إليه في القبض والإحراز والتفريق، والمسلمون في أسواقهم وبياعاتهم
على ذلك، ولأن البيع كان موجوداً بينهم معلوماً عندهم.
وإنما علق الشرع عليه أحكاماً وأبقاه على ما كان فلا يجوز تغييره بالرأي
والتحكم ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه مع كثرة وقوع
البيع بينهم استعمال الإيجاب والقبول.
ولو استعملوا ذلك في بياعاتهم لنقل نقلاً شائعاً، ولو كان ذلك شرطاً لوجب
نقله ولم يتصور منهم اهماله والغفلة عن نقله ولأن البيع مما تعم به البلوى
فلو اشترط الإيجاب والقبول لبينه النبي صلى الله عليه وسلم بيانا عاما ولم
يخف حكمه لأنه يفضي إلى وقوع العقود الفاسدة كثيراً وأكلهم المال بالباطل
ولم ينقل ذلك
(4/4)
عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من
أصحابه فيما علمناه ولأن الناس يتبايعون بالمعاطاة
في كل عصر ولم ينقل إنكاره قبل مخالفينا فكان أجماعاً ولأن الإيجاب والقبول
انما يرادان للدلالة فإذا وجد ما يدل عليه من المساومة والتعاطي قام
مقامهما وأجزأ عنهما لعدم التعبد فيه (فصل) وكذلك الحكم في الإيجاب والقبول
في الهبة والهدية والصدقة فانه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن
أحد من أصحابه استعمال ذلك فيه وقد أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
من الحبشة وغيرها وكان الناس يتحرون بهداياهم يوم عائشة.
متفق عليه وروى البخاري عن أبي هريرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا أتى بطعام سأل عنه " أهديه أم صدقة؟ " فإن قيل صدقة قال لأصحابه "
كلوا " ولم يأكل وإن قيل هدية ضرب بيده فأكل معهم وفي حديث سلمان
رضي الله عنه حين جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر فقال: هذا شئ من
الصدقة رأيتك أنت وأصحابك أحق الناس به فقال النبي صلى الله عليه وسلم
لأصحابه " كلوا " ولم يأكل ثم أتاه ثانية بتمر فقال رأيتك لا تأكل الصدقة
وهذا شئ أهديته لك فقال النبي صلى الله عليه وسلم " بسم الله " وأكل ولم
ينقل قبول ولا أمر بإيجاب وإنما سأل ليعلم هل هو صدقة أو هدية ولو كان
الإيجاب والقبول شرطاً في هذه العقود لشق ذلك ولكانت أكثر العقود فاسدة
وأكثر أموالهم محرمة وهذا ظاهر إن شاء الله تعالى (فصل) قال رضي الله عنه
(ولا يصح البيع إلا بشروط سبعة (أحدها) التراضي به وهو أن يأتيا به
اختياراً لقول الله تعالى (إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) فإن كان أحدهما
مكرهاً لم يصح لعدم الشرط إلا أن يكره بحق كالذي يكرهه الحاكم على بيع ماله
لوفاء دينه فيصح لأنه قول حمل عليه لحق فصح كإسلام المرتد) (فصل) (الثاني
أن يكون العاقد جائز التصرف وهو المكلف الرشيد فلا يصح من غير عاقل
(4/5)
كالطفل والمجنون والمبرسم والسكران والنائم
لأنه قول يعتبر له الرضى فلم يصح من غير عاقل كالإقرار وسواء أذن له وليه
أو لم يأذن (فأما الصبي المميز والسفيه فيصح تصرفهما بإذن وليهما) في إحدى
الروايتين (ولا يصح بغير إذنهما إلا في الشئ اليسير) يصح تصرف الصبي المميز
بالبيع والشراء فيما أذن له الولي فيه في إحدى الروايتين.
وهو قول أبي حنيفة (والأخرى) لا يصح حتى يبلغ وهو قول الشافعي لأنه غير
مكلف فأشبه غير المميز، ولأن العقل لا يمكن الوقوف منه على الحد الذي يصح
به التصرف لخفائه وتزايده تزايدا خفي التدريج فجعل الشارع له ضابطاً وهو
البلوغ فلا تثبت له أحكام العقلاء قبل وجود المظنة ولنا قول الله تعالى
(وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم
أموالهم) معناه اختبروهم لتعلموا رشدهم وإنما يتحقق ذلك بتفويض التصرف
إليهم من البيع والشراء ليعلم هل تغير أولا ولأنه عاقل مميز محجور عليه
فيصح تصرفه بإذن وليه كالعبد، وفارق غير المميز فإنه لا تحصل له المصلحة
بتصرفه لعدم تمييزه ومعرفته ولا حاجة الى اختباره لأنه قد علم حاله، وقولهم
ان العقل لا يمكن الاطلاع عليه قلنا يعلم ذلك بتصرفاته وجريانها على وفق
المصلحة كما يعلم في حق البالغ
فإن معرفة رشده شرط لدفع ماله إليه وصحة تصرفه كذا ههنا، فأما إن تصرف بغير
إذن وليه
(4/6)
لم يصح تصرفه الا في الشئ اليسير، وكذلك
تصرف غير المميز لما روي أن أبا الدرداء رضي الله عنه اشترى من صبي عصفوراً
فأرسله ذكره ابن أبي موسى، ويحتمل أن يصح ويقف على إجازة الولي وهو قول أبي
حنيفة وهو مبني على تصرف الفضولي وسنذكره إن شاء الله تعالى، وكذلك الحكم
في تصرف السفيه بإذن وليه فيه روايتان (إحداهما) يصح لأنه عقد معاوضة فملكه
بالإذن كالنكاح وقياساً على الصبي المميز، يحقق هذا أن الحجر على الصبي
أعلى من الحجر عليه فههنا أولى بالصحة ولأننا لو منعنا تصرفه بالإذن لم يكن
لنا طريق إلى معرفة رشده واختباره) (والثانية) لا يصح لأن الحجر عليه
لتبذيره وسوء تصرفه فإذا أذن له فقد أذن فيما لا مصلحة فيه فلم يصح كما لو
أذن في بيع ما يساوي عشرة بخمسة وللشافعي وجهان كهاتين ويصح تصرفه في الشئ
اليسير كالصبي (فصل) (الثالث: أن يكون المبيع مالا وهو ما فيه منفعة مباحة
لغير ضرورة) (فيجوز بيع البغل والحمار ودود القز وبذره والنحل منفرداً أو
في كواراته) قوله لغير ضرورة احتراز من الميتة والمحرمات التي تباح في حال
المخمصة والخمر يباح دفع اللقمة بها، فكل عين مملوكة يجوز اقتناؤها
والانتفاع بها في غير حال الضرورة يجوز بيعها إلا ما استثناه الشرع كالكلب
وأم الولد والوقف لان الملك سبب إطلاق التصرف، والمنفعة المباحة يباح له
استبقاؤها فجاز له أخذ عوضها وأبيح لغيره بذل ماله فيها توصلا إليها ودفعاً
لحاجته بها كسائر ما أبيح نفعه، وسواء في ذلك ما كان طاهرا كالثياب والعقار
وبهيمة
(4/7)
الأنعام والخيل والصيود أو مختلفاً في
نجاسته كالبغل والحمار لا نعلم في ذلك خلافاً، ويجوز بيع الجحش الصغير
والفهد الصغير وفرخ البازي إذا قلنا بجواز بيعهما لأنه ينتفع به في المال
فأشبه طفل العبيد (فصل) ويجوز بيع دود القز وبذره وقال أبو حنيفة إن كان مع
دود القز قز جاز بيعه وإلا فلا لأنه لا ينتفع بعينه فهو كالحشرات وقيل لا
يجوز بيع بذره، ولنا أنه حيوان طاهر يجوز اقتناؤه لتملك ما يخرج منه أشبه
البهائم ولأن الدود وبذره طاهر منتفع به فجاز بيعه كالثوب، وقوله لا ينتفع
بعينه
يبطل بالبهائم التي لا يحصل منها نفع سوى النتاج ويفارق الحشرات التي لا
نفع فيها أصلا فإن نفع هذه كثير لأن الحرير الذي هو أشرف الملابس إنما يحصل
منها (فصل) ويجوز بيع النحل إذا شاهدها محبوسة بحيث لا يمكنها أن تمتنع،
وقال أبو حنيفة لا يجوز بيعها منفردة كما ذكر في دود القز، ولنا أنه حيوان
طاهر يخرج من بطنه شراب فيه منافع للناس فجاز بيعه كبهيمة الأنعام، واختلف
أصحابنا في بيعها في كواراتها فقال القاضي لا يجوز لأنه لا يمكن مشاهدتها
جميعا ولأنها لا تخلو من عسل يكون مبيعا معها وهو مجهول.
وقال أبو الخطاب يجوز بيعها في كواراتها منفردة عنها فإنه يمكن مشاهدتها في
كواراتها إذا فتح رأسها يعرف كثرته من قلته، وخفاء بعضه لايمنع صحة بيعه
كالصبرة وكما لو كان في وعاء فإن بعضه يكون على بعض فلا يشاهد إلا ظاهرة
والعسل يدخل في البيع تبعاً فلا تضر جهالته كأساسات الحيطان، فإن لم يمكن
مشاهدته لكونه مستوراً بأقراصه ولم يعرف لم يجز بيعه لجهالته
(4/8)
(فصل) وفي بيع العلق التي ينتفع بها كالتي
تعلق على صاحب الكلف فيمص الدم والديدان التي تترك في الشص فتصاد بها السمك
وجهان: أصحهما جواز بيعها لحصول نفعها فهي كالسمك (والثاني) لا يجوز بيعها
لأنها لا ينتفع بها إلا نادرا فشبهت ما لانفع فيه.
(مسألة) (ويجوز بيع الهر والفيل وسباع البهائم التي تصلح للصيد في إحدى
الروايتين إلا الكلب اختارها الخرقي.
والأخرى لا يجوز اختارها أبو بكر) يجوز بيع الهر وبه قال ابن عباس والحسن
وابن سيرين والحكم وحماد والثوري ومالك والشافعي واسحاق وأصحاب الرأي، وعن
أحمد أنه كره ثمنها وروي ذلك عن أبي هريرة وطاوس ومجاهد وجابر ابن زيد
اختاره أبو بكر لما روى مسلم عن جابر أنه سئل عن ثمن السنور فقال زجر النبي
صلى الله عليه وسلم عن ذلك وفي لفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن
السنور رواه أبو داود ولنا أنه حيوان يباح اقتناؤه من غير وعيد في حبسه
فجاز بيعه كالبغل والحمار، ويمكن حمل الحديث على غير المملوك منها وعلى ما
لانفع فيه منها بدليل ما ذكرناه (فصل) ويجوز بيع الفيل وسباع البهائم
والطير الذي يصلح للصيد كالفهد والصقر والبازي
والعقاب والطير المقصود صوته كالهزار والبلبل والببغة وأشباه ذلك وبهذا قال
الشافعي، وقال أبو بكر عبد العزيز وابن أبي موسى لا يجوز بيع الفهد والصقر
والفيل ونحوها لأنها نجسة فلم يجز بيعها كالكلب
(4/9)
ولنا أنه حيوان يباح اقتناؤه من غير وعيد
في حبسه فأبيح بيعه كالبغل والحمار وما ذكروه يبطل بالبغل والحمار وحكمهما
حكم سباع البهائم في الطهارة والنجاسة وإباحة الاقتناء والانتفاع.
فأما الكلب فإن الشرع توعد على اقتنائه وحرمه إلا في حال الحاجة فصارت
إباحته ثابتة بطريق الضرورة ولأن الأصل إباحة البيع لقول الله تعالى (وأحل
الله البيع) حرم منه ما استثناه الشرع لمعان غير موجودة في هذا فيبقى على
أصل الإباحة، فإن كان الفهد والصقر ونحوها ليس بمعلم ولا يقبل التعليم لم
يجز بيعه لعدم النفع به، وإن أمكن تعليمه جاز بيعه لأن مآله إلى الانتفاع
أشبه الجحش الصغير فأما ما يصاد عليه كالبومة التي يجعل عليها شباشاً ليجمع
الطير إليها فيصيده الصياد فيحتمل جواز بيعها للنفع الحاصل منها ويحتمل
المنع لأن ذلك مكروه لما فيه من تعذيب الحيوان وكذلك اللقلق ونحوه (فصل)
فأما بيض ما لا يؤكل لحمه من الطير فإن لم يكن فيه نفع لم يجز بيعه طاهراً
كان أو نجسا وإن كان ينتفع به بأن يصير فرخاً وكان طاهراً جاز بيعه لأنه
طاهر منتفع به أشبه أصله، وإن كان نجساً كبيض البازي والصقر ونحوه فحكمه
حكم فرخه، وقال القاضي لا يجوز بيعه لنجاسته وكونه لا ينتفع به في الحال
وما ذكر ملغى بفرخه وبالجحش الصغير (فصل) قال أحمد رحمه الله أكره بيع
القرد.
قال ابن عقيل هذا محمول على بيعه للإطافة به واللعب فأما بيعه لمن ينتفع به
لحفظ المتاع والدكان ونحوه فيجوز لأنه كالصقر وهذا مذهب الشافعي وقياس قول
أبي بكر وابن أبي موسى المنع من بيعه مطلقاً (مسألة) (ويجوز بيع العبد
المرتد المريض وفي بيع الجاني والقاتل في المحاربة ولبن الآدميات وجهان)
(4/10)
حكم بيع المرتد حكم القاتل في صحة بيعه
وسائر أحكامه، وبيعه جائز لأن قتله غير متحتم لاحتمال رجوعه إلى الاسلام
ولانه مملوك منتفع به، وخشية هلاكه لا تمنع صحة بيعه كالمريض فإنا لا نعلم
خلافاً
في صحة بيع المريض (فصل) ويصح بيع العبد الجاني في أصح الوجهين سواء كانت
جنايته عمداً أو خطأ على النفس أو ما دونها موجبة للقصاص أو غير موجبة
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وقال في الآخر لا يصح بيعه
لأنه تعلق برقبته حق آدمي فمنع صحة بيعه كالرهن.
بل حق الجناية آكد لأنها تقدم على حق المرتهن.
ولنا أنه حق غير مستقر في الجاني يملك أداءه من غيره فلم يمنع البيع
كالزكاة أو حق ثبت بغير رضى سيده فلم يمنع بيعه كالدين في ذمته أو تصرف في
الجاني فجاز كالعتق، وإن كان الحق قصاصاً فهو يرجى سلامته ويخشى تلفه وذلك
لا يمنع كالمريض، أما الرهن فإن الحق متعلق فيه لا يملك سيده إبداله ثبت
الحق فيه برضاه وثيقة للدين فلو أبطله بالبيع سقط حق الوثيقة الذي التزمه
برضاه واختياره (فصل) فأما القاتل في المحاربة فإن تاب قبل القدرة عليه فهو
كالجاني وإن لم يتب حتى قدر عليه فقال أبو الخطاب هو كالقاتل في غير محاربة
لأنه عبد قن يصح اعتاقه ويملك استخدامه فصح بيعه كغير القاتل، ولأنه يمكنه
الانتفاع به إلى حين قتله، ويعتقه فيجر به ولاء أولاده فجاز بيعه كالمريض
المأيوس من برئه، وقال القاضي لا يصح بيعه لأنه تحتم قتله وإتلافه وإذهاب
ماليته وحرم إبقاؤه فصار بمنزلة ما لا ينتفع به من الحشرات والميتات، وهذه
المنفعة اليسيرة مفضية به إلى قتله لا يتمهد بها محلا للبيع كالمنفعة
الحاصلة من الميتة لسد رمق أو إطعام كلب، والأولى أصح فإنه كان محلا للبيع
والأصل بقاء ذلك فيه وانحتام إتلافه لا يجعله تالفاً بدليل أن أحكام الحياة
من التكليف وغيره لا تسقط عنه ولا تثبت
(4/11)
أحكام الموتى له من إرث ماله ونفوذ وصيته
وغيرها، ولأن خروجه عن حكم الأصل لا يثبت إلا بدليل ولانص فيه ولا إجماع،
ولا يصح قياسه على الحشرات والميتات لأن تلك لم يكن فيها منفعة فيما مضى
ولافي الحال وعلى أن هذا المحتم يمكن زواله لزوال ما يثبت به من الرجوع عن
الإقرار والرجوع من الشهود ولو لم يمكن زواله فأكثر ما فيه تحقق تلفه، وهذا
يجعله كالمريض المأيوس من برئه وبيعه جائز (فصل) فأما بيع لبن الآدميات
فرويت الكراهة فيه عن احمد، واختلف أصحابنا في جوازه وهو قول ابن حامد
ومذهب الشافعي.
وذهب جماعة من أصحابنا إلى تحريم بيعه، وهو مذهب أبي
حنيفة ومالك لأنه مائع خارج من آدمية فلم يجز بيعه كالعرق ولأنه جزء من
آدمي فلم يجز بيعه أشبه سائر أجزائه.
والأول أصح لأنه طاهر منتفع به فجاز بيعه كلبن الشاة ولأنه يجوز أخذ العوض
عنه في إجارة الظئر فأشبه المنافع ويفارق العرق فانه لانفع فيه.
ولذلك لا يباع عرق الشاة ويباع لبنها وسائر أجزاء الآدمي يجوز بيعها فإنه
يجوز بيع العبد والأمة.
وإنما حرم بيع الحر لأنه غير مملوك وحرم بيع العضو المقطوع لأنه لانفع فيه
(مسألة) (وفي جواز بيع المصحف وكراهة شرائه وإبداله روايتان) قال أحمد لا
أعلم في بيع المصاحف رخصة ورخص في شرائها.
وقال الشراء أهون.
وممن كره بيعها ابن عمر وابن عباس وأبو موسى وسعيد بن جبير واسحاق قال ابن
عمر وددت أن الأيدي تقطع في بيعها.
وقال أبو الخطاب يجوز بيع المصحف مع الكراهة وهي رواية عن أحمد لأنه منتفع
به فأشبه سائر كتب العلم، وهل يكره شراؤه وإبداله؟ على روايتين ورخص في
بيعها الحسن والحكم وعكرمة والشافعي وأصحاب الرأي لأن البيع يقع على الورق
والجلد وبيعه مباح ولنا قول الصحابة ولم نعلم لهم مخالفاً في عصرهم، ولأنه
يشتمل على كلام الله تعالى فتجب صيانته عن البيع والابتذال (يقول الاخرون
ان المبتذل ما لا يباع وانفس الجواهر تباع وان بيعه يسهل على الناس
الانتفاع به تعميم هدايته وكتبه محمد رشيد رضا) أما الشراء فهو أسهل لأنه
استنقاذ للمصحف وبذل لماله فيه فجاز كما جاز شراء رباع مكة واستئجار دورها
ولم ير بيعها ولا أخذ أجرتها، وكذلك دفع الأجرة إلى الحجام لا يكره مع
كراهية كسبه والرواية الأخرى يكره لأن المقصود منه كلام الله تعالى فيجب
صيانته عن الابتذال وفي جواز شرائه التسبب إلى ذلك والمعونة عليه، ولا يجوز
بيعه لكافر فإن اشتراه فالبيع باطل وبه
(4/12)
قال الشافعي، وقال أصحاب الرأي يجوز ويجبر
على بيعه لأنه أهل للشراء والمصحف محل، له ولنا أنه يمنع من استدامة الملك
عليه فمنع من ابتدائه كسائر مالا يجوز بيعه، وقد نهى النبي صلى الله عليه
وسلم عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم، فلا يجوز
تمكينهم من التوسل إلى نيل أيديهم اياه {مسألة} (ولا يجوز بيع الحشرات ولا
الميتة ولا شئ منها ولا سباع البهائم التي لا تصلح للصيد)
لا يجوز بيع الميتة ولا الخنزير ولا الدم.
قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على القول به، وذلك لما روى جابر قال سمعت
رسول الله صلى الله عليه سلم وهو بمكة يقول " إن الله ورسوله حرم بيع
الميتة والخمر والخنزير والأصنام " متفق عليه ولا يجوز بيع مالا نفع فيه
كالحشرات كلها وسباع البهائم التي لا تصلح للاصطياد كالأسد والذئب، وما لا
يؤكل ولا يصاد به من الطير كالرخم والحدأة والغراب الأبقع وغراب البين
وبيضها لأنه لا نفع فيه فأخذ ثمنه أكل للمال بالباطل ولانه ليس فيها نفع
مباح أشبهت الخنزير {مسألة} (ولايجوز بيع الكلب أي كلب كان لا نعلم فيه
خلافا في المذهب) وبه قال الحسن وربيعة.
وحماد والشافعي وداود، ورخص في ثمن كلب الصيد خاصة جابر بن عبد الله وعطاء
والنخعي رو أجاز أبو حنيفة بيع الكلاب كلها وأخذ ثمنها، وعنه لا يجوز بيع
الكلب العقور واختلف أصحاب مالك فقال قوم لا يجوز.
وقال قوم يجوز بيع الكلب المأذون في إمساكه ويكره لما روي عن جابر أن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب الصيد ولأنه يباح
الانتفاع به.
ويصح نقل اليد فيه والوصية به فصح بيعه كالحمار ولنا أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهى متفق عليه وعن رافع
بن خديج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ثمن الكلب خبيث " رواه
مسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن ثمن الكلب فإن جاء يطلبه فاملؤا كفه تراباً رواه أبودواد ولأنه حيوان
نهي عن اقتنائه في غير حال الحاجة أشبه الخنزير، وأما حديثهم فقال الترمذي
لا يصح اسناد هذا الحديث.
قال الدارقطني الصحيح أنه موقوف على جابر وقال أحمد هذا من الحسن بن أبي
جعفر وهو ضعيف (فصل) ولا يحل قتل الكلب المعلم لأنه محل منتفع به مباح
اقتناؤه فحرم إتلافه كالشاة.
ولا نعلم في هذا خلافاً ولا غرم على قاتله وهذا مذهب الشافعي.
وقال مالك وعطاء عليه الغرم لما ذكرنا في تحريم قتله.
ولنا أنه محل يحرم أخذ عوضه لخبثه فلم يجب غرمه بإتلافه كالخنزير.
وإنما حرم إتلافه لما فيه من الاضرار وهو منهي عنه.
فأما قتله ما لا يباح إمساكه من الكلاب فإن كان أسود بهيما أبيح قتله لأنه
شيطان كما جاء في حديث أبي ذر ولما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "
لولا أن الكلاب
أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها كل أسود بهيم " وكذلك يباح قتل
الكلب العقور لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحل والحرم الغراب والحدأة
والعقرب والفأرة والكلب العقور " متفق عليه ويقتل كل واحد من هذين وإن كان
(4/13)
معلماً لما ذكرنا من الحديثين.
وعلى قياس الكلب العقور كل ما آذى الناس وضرهم في أنفسهم وأموالهم يباح
قتله ولأنه يؤذي بلا نفع أشبه الذئب وما لا مضره فيه لا يباح قتله للخبر
المذكور.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بقتل الكلاب ثم نهى عن قتلها
وقال " عليكم بالأسود البهيم ذي النقطتين فإنه شيطان " رواه مسلم (فصل)
ويحرم اقتناء الكلاب الاكلب الصيد والماشية والحرث لما روى أبو هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من اتخذ كلباً إلا كلب ماشية أوصيد
أوزرع نقص من أجره كل يوم قيراط " متفق عليه.
وإن اقتناه لحفظ البيوت لم يجز للخبر، ويحتمل الا باحة وهو قول بعض أصحاب
الشافعي لأنه في معنى الثلاثة والأول أصح لأن قياس غير الثلاثة عليها يبيح
ما تناول أول الخبر تحريمه قال القاضي وليس هو في معناها فقد يحتال اللص
باخراجه بشئ يطعمه إياه ليسرق المتاع، أما الذئب فلا يحتمل هذا في حقه ولأن
اقتناءه في البيوت يؤذي المارة بخلاف الصحراء (فصل) ويجوز تربية الجرو
الصغير لأحد الثلاثة في أقوى الوجهين لأنه قصده لذلك فيأخذ حكمه كما جاز
بيع الجحش الصغير الذى لانفع فيه في الحال لمآله إلى الانتفاع ولأنه لو لم
يتخذ الصغير لما أمكن جعل الكلب للصيد إذ لا يصير معلماً إلا بالتعلم ولا
يمكن تعلمه إلا بتربيته واقتنائه مدة يعلمه فيها قال الله تعالى (وما علمتم
من الجوارح مكلبين تعلمونهن) ولا يوجد كلب معلم بغير تعليم.
والثاني لا يجوز لأنه ليس من الثلاثة (فصل) ومن اقتنى كلب صيد ثم ترك الصيد
مدة وهو يريد العود إليه لم يحرم اقتناؤه في مدة تركه لأن ذلك لا يمكن
التحرز منه، وكذلك لو حصد صاحب الزرع زرعه أبيح اقتناؤه حتى يزرع زرعاً
آخر، وكذلك لو هلكت ماشيته أو باعها وهو يريد شراء غيرها فله إمساك كلبها
لينتفع به في التي
يشتريها، فإن اقتنى كلب الصيد من لا يصيد به احتمل الجواز لاستثنائه في
الخبر مطلقاً واحتمل المنع لأنه اقتناء من غير حاجة أشبه غيره من الكلاب،
ومعنى كلب الصيد أي كلب يصيد به وهكذا الاحتمالان فيمن اقتنى كلباً ليحفظ
له حرثاً أو ماشية إن حصلت أو يصيد به إن احتاج إلى الصيد وليس في الحال
حرث ولا ماشية، ويحتمل الجواز لقصده ذلك كما لو حصد الزرع وأراد زرع غيره
(مسألة) (ولا يجوز بيع السرجين النجس) وبهذا قال مالك والشافعي، وقال أبو
حنيفة يجوز ولأن أهل الأمصار يبتاعونه لزرعهم من غير نكير فكان إجماعاً
ولنا أنه مجمع على نجاسته فلم يجز بيعه كالميتة وما ذكروه ليس بإجماع لان
الاجماع اتفاق أهل العلم ولم يوجد ولأنه رجيع نجس فلم يجز بيعه كرجيع
الآدمي (فصل) ولا يجوز بيع الحر ولا ما ليس بمملوك كالمباحات قبل حيازتها
وملكها لا نعلم في ذلك خلافا وقد روى البخاري بإسناده أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال " قال الله عزوجل ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي
ثم غدر، ورجل باع حراً وأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفه
أجره " {مسألة} (ولايجوز بيع الادهان النجسة)
(4/14)
في ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه لأن أكله
حرام لا نعلم فيه خلافا لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الفأرة تموت
في السمن فقال " إن كان مائعاً فلا تقربوه " من المسند وإذا كان حراماً لم
يجز بيعه لقول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه
" ولأنه نجس فلم يجز بيعه قياساً على شحم الميتة وعنه يجوز بيعه لكافر يعلم
نجاستها لأنه يعتقد حلها ويستبيح أكلها ولأنه قد روي عن أبي موسى لتوا به
السويق وبيعوه ولا تبيعوه من مسلم وبينوه، والصحيح الأول لقول النبي صلى
الله عليه وسلم " لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها
وأكلوا ثمنها، إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه " متفق عليه.
ولأنه لا يجوز بيعها من مسلم فلا يجوز بيعها لكافر كالخمر والخنزير فإنهم
يعتقدون حله ولايجوز بيعه لهم ولأنه دهن نجس فلم يجز بيعه لكافر كشحوم
الميتة.
قال شيخنا ويجوز أن يدفع إلى الكافر في فكاك مسلم ويعلم الكافر بنجاسته
لأنه ليس ببيع في الحقيقة إنما هو استنقاذ المسلم به
{مسألة} (وفي جواز الاستصباح بها روايتان ويخرج على ذلك جواز بيعها) اختلفت
الرواية في الاستصباح بالزيت النجس فروي عنه أنه لا يجوز لقول النبي صلى
الله عليه وسلم في السمن الذي ماتت فيه الفأرة " وإن كان مائعاً فلا تقربوه
" ولا النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن شحوم الميتة تطلى بها السفن وتدهن
بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال " لا، هو حرام " متفق عليه.
وهذا في معناه وهو قول ابن المنذر وعنه إباحته لأن ذلك يروي عن ابن عمر وهو
قول الشافعي لأنه أمكن الانتفاع به من غير ضرر فجاز كالطاهر وهذا اختيار
الخرقي، فعلى هذا يستصبح به على وجه لا تتعدى نجاسته إما أن يجعل في إبريق
ويصب منه في المصباح ولا يمس وإما أن يدع على رأس الجرة التي فيها الزيت
سراجاً مثقوباً ويطبقه على رأس إناء الزيت، وكلما نقص زيت السراج صب فيه
ماء بحيث يرتفع الزيت فيملأ السراج وما أشبه هذا، وعلى قياس هذا كل انتفاع
لا يفضي إلى التنجيس بها يجوز ويتخرج على جواز الاستصباح به جواز بيعه
وهكذا ذكره أبو الخطاب لأنه يجوز الإنتفاع به من غير ضرورة فجاز بيعه
كالبغل والحمار، وهل تطهر بالغسل فيه وجهان ذكرناهما فيما مضى، وإذا قلنا
تطهر بالغسل فالقياس يقتضي جواز بيعها لأنها عين نجسة تطهر بالغسل أشبهت
الثوب النجس.
وكره أحمد رحمه الله أن تدهن بها بالجلود وقال تجعل منها الأسقية، ونقل عن
ابن عمر أنه يدهن بها الجلود وعجب أحمد من هذا فيحتمل أن يحمل على ما لا
تتعدى نجاسته كالنعال كما قلنا في جلود الميتة (فصل) فأما شحوم الميتة وشحم
الكلب والخنزير فلا يجوز الاستصباح به ولا الإنتفاع به في جلود ولا سفن ولا
غيرها لما ذكرنا من الحديث، وإذا استصبح بالزيت النجس فاجتمع من دخانه شئ
فهو نجس لأن جزء منه، والنجاسة لا تطهر بالاستحالة فان علق بشئ عفي عن
يسيره لمشقة التحرز عنه وإن كثر لم يعف عنه (فصل) ولايجوز بيع الترياق الذي
فيه لحوم الحيات لأن نفعه إنما يحصل بالأكل وهو محرم فخلا
(4/15)
من نفع مباح فلم يجز بيعه كالميتة، ولا
يجوز التداوي به ولا بسم الأفاعي، فأما سم النبات فإن كان لا ينتفع به أو
يقتل قليله لم يجز بيعه لعدم نفعه، وإن أمكن التداوي بيسيره كالسقمونيا جاز
بيعه لأنه طاهر منتفع به
(فصل) (الرابع أن يكون مملوكاً له أو مأذوناً له في بيعه فإن باع ملك غيره
بغير إذنه أو اشترى بعين ماله شيئاً بغير إذنه لم يصح وعنه يصح ويقف على
إجازة المالك) إذا اشترى بعين مال غيره أو باع ماله بغير إذنه ففيه روايتان
(إحداهما) لا يصح البيع وهذا مذهب الشافعي وأبي ثور وابن المنذر (والثانية)
يصح البيع والشراء ويقف على إجازة المالك فإن أجازه نفذ ولزم البيع وإن لم
يجزه بطل وهو قول مالك وإسحاق وبه قال أبو حنيفة في البيع.
فأما الشراء فيقع للمشتري عنده بكل حال لما روى عروة بن الجعد البارقي أن
النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه ديناراً ليشتري به شاة فاشترى شاتين ثم باع
إحداهما بدينار في الطريق، قال فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم بالدينار
والشاة وأخبرته فقال " بارك الله لك في صفقة يمينك " رواه ابن ماجه والاثرم
ولأنه عقد له مجيز حال وقوعه فصح وقفه على إجازته كالوصية بزيادة على الثلث
ووجه الرواية الأولى قول النبي صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام " لاتبع
ما ليس عندك " رواه ابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح يعني مالا تملك
لأنه ذكره جواباً له حين سأله أنه يبيع الشئ ويمضي ويشتريه ويسلمه.
ولاتفاقنا على صحة بيع ماله الغائب ولانه باع مالا يقدر على تسليمه فأشبه
الطير في الهواء.
فأما الوصية فيتأخر فيها القبول عن الإيجاب، ولا يعتبر ان يكون لها مجيز
حال وقوع العقد ويجوز فيها من الغرر مالايجوز في البيع، وحديث عروة نحمله
على أن وكالته كانت مطلقة بدليل أنه يسلم ويستلم وليس ذلك لغير المالك
باتفاقنا {مسألة} (وإن اشترى له في ذمته بغير إذنه صح فإن أجازه من اشترى
له ملكه وإلا لزم من اشتراه) إذا اشترى في ذمته لإنسان شيئاً بغير إذنه صح
لأنه متصرف في ذمته لا في مال غيره وسواء نقد الثمن من مال الغير أو لا لأن
الثمن هو الذي في الذمة والذي نقده عوضه ولذلك قلنا إنه إذا اشترى ونقده
الثمن بعد ذلك كان له البدل، وإن خرج مغصوباً لم يبطل العقد وإنما وقف
الأمر على إجازة الآخر لإنه قصد الشراء له فإن أجازه لزمه وعليه الثمن وإن
لم يقبله لزم من اشتراه (فصل) وإن باع سلعة وصاحبها حاضر ساكت فحكمه حكم
مالو باعها بغير إذنه في قول الأكثرين منهم أبو حنيفة وابو يوسف والشافعي
قال ابن أبي ليلى سكوته إقرار لأنه يدل على الرضا كسكوت
البكر في الاذن في النكاح.
ولنا أن السكوت محتمل فلم يكن إذنا كسكوت الثيب، وفارق سكوت البكر لوجود
الحياء المانع من الكلام في حقها وليس ذلك موجوداً هاهنا {مسألة} (ولايجوز
بيع مالا يملكه ليمضي ويشتريه ويسلمه رواية واحدة) وهو قول الشافعي ولا
نعلم فيه مخالفاً لأن حكيم بن حزام قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن الرجل
يأتيني يلتمس من البيع ما ليس عندي فأمضي إلى السوق فأشتريه ثم أبيعه منه
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لاتبع ما ليس عندك " حديث حسن صحيح ولانه
يبيع ما لا يقدر على تسليمه أشبه بيع الطير في الهواء
(4/16)
{مسألة} (ولا يجوز بيع ما فتح عنوة ولم
يقسم كأرض الشام والعراق ومصر ونحوها إلا المساكن وأرضاً من العراق فتحت
صلحاً وهي الحيرة والليس وبانقيا وأرض بني صلوبا لأن عمر رضي الله عنه
وقفها على المسلمين وأقرها في أيدي أربابها بالخراج الذي ضربه أجرة لها في
كل عام ولم تقدر مدتها لعموم المصلحة فيها) لا يجوز بيع شئ من الأرض
الموقوفة ولا شراؤه كأرض الشام ونحوها في ظاهر المذهب وقول أكثر أهل العلم
منهم عمر وعلي وابن عباس وعبد الله بن عمرو رضي الله عنهم، وروي ذلك عن عبد
الله ابن مغفل وقبيصة بن ذؤيب وميمون بن مهران والاوزاعي ومالك وأبي إسحاق
الفزاري.
قال الأوزاعي لم تزل أئمة المسلمين ينهون عن شراء أرض الجزية ويكرهه
علماؤهم، وقال: أجمع رأي عمر وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ظهروا
على أهل الشام على إقرار أهل القرى في قراهم على ما كان بأيديهم من أرضهم
يعمرونها ويؤدون خراجها إلى المسلمين ويرون أنه لا يصلح لأحد من المسلمين
شراء ما في أيديهم من الأرض طوعا ولاكرها وكرهوا ذلك لما كان من أيقاف عمر
وأصحابه الأرضين المحبوسة على آخر هذه الأمة من المسلمين لاتباع ولا تورث
قوة على جهاد من لم يظهر عليه بعد من المشركين، وقال الثوري إذا أقر الإمام
أهل العنوة في أرضهم توارثوها وتبايعوها، وروي نحو هذا عن ابن سيرين
والقرظي، لما روى عبد الرحمن بن زيد أن ابن مسعود اشترى من دهقان أرضاً على
أن يكفيه جزيتها، وروي عنه أنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
التبقر (1) في الأهل والمال، ثم قال
عبد الله وكيف بمال بزاذان وبكذا وكذا؟ وهذا يدل على أن له مالاً بزا ذان
ولأنها أرض لهم فجاز بيعها كأرض الصلح، وقد روي عن أحمد أنه قال: كان
الشراء أسهل يشتري الرجل ما يكفيه ويغنيه عن الناس وهو رجل من المسلمين
وكره البيع، قال شيخنا وإنما رخص في الشراء والله أعلم لأن بعض الصحابة
اشترى ولم يسمع عنهم البيع، ولأن الشراء استخلاص للأرض ليقوم فيها مقام من
كانت في يده والبيع.
أخذ عوض عما لا يملكه ولا يستحقه فلا يجوز ولنا إجماع الصحابة رضي الله
عنهم فإنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا تشتروا رقيق أهل الذمة ولا
أراضيهم.
وقال الشعبي اشترى عتبة بن فرقد أرضا على شاطئ الفرات ليتخذ فيها قصا فذكر
ذلك لعمر فقال ممن اشتريتها؟ قال من أربابها، فلما اجتمع المهاجرون
والأنصار قال هؤلاء أربابها فهل اشتريت منهم شيئاً؟ قال لا، قال فارددها
إلى من اشتريتها منه وخذ مالك.
وهذا قول عمر في المهاجرين والأنصار بمحضر سادة الصحابة وأئمتهم فلم ينكر
فكان إجماعاً ولا سبيل إلى وجود إجماع أقوى من هذا وشبهه إذ لا سبيل إلى
نقل قول جميع الصحابة في مسألة ولا إلى نقل قول العشرة ولم يوجد الإجماع
إلا القول المنتشر، فإن قيل فقد خالفه ابن مسعود بما ذكر عنه.
قلنا لا نسلم المخالفة وقولهم اشترى قلنا المراد به أكرى كذا قال أبو عبيد،
والدليل عليه قوله على أن يكفيه جزيتها ولا يكون مشتريا لها وجزيتها على
غيره وقد روي عنه القاسم أنه قال: من أقر بالطسق فقد أقر بالصغار والذل
وهذا يدل على أن الشراء هنا الاكتراء وكذلك كل من رويت عنه الرخصة في
الشراء محمول
__________
(1) التبقر التوسع
(4/17)
على ذلك وقوله فكيف بمال بزاذان ليس فيه
ذكر الشراء، ولأن المال الأرض فيحتمل أنه أراد من السائمة أو الزرع أو
نحوه، ويحتمل أنه أراد أرضاً اكتراها وقد يحتمل أنه أراد بذلك غيره وقد
يعيب الإنسان الفعل المعيب من غيره (جواب ثان) أنه يتناول الشراء وبقي قول
عمر في النهي عن البيع غير معارض، فأما المعنى فلأنها موقوفة فلم يجز بيعها
كسائر الوقوف والدليل على وقفها النقل والمعنى أما النقل فما نقل من
الأخبار أن عمر لم يقسم الأرض التي افتتحها وتركها لتكون مادة للمسلمين
الذين يقاتلون في سبيل الله إلى يوم القيامة وقد نقلنا بعض ذلك وهو مشهور
تغني شهرته عن نقله وأما المعنى فلانها لو قسمت لكانت للذين افتتحوها ثم
لورثته (الظاهر أن تكون لورثتهم) ولمن انتقلت إليه عنهم ولم تكن مشتركة بين
المسلمين، ولأنه لو قسمت لنقل ذلك ولم يخف بالكلية فإن قيل فهذا لا يلزم
منه الوقف لأنه يحتمل أنه تركها للمسلمين عامة فتكون فيئاً للمسلمين
والإمام نائبهم فيفعل ما يرى فيه المصلحة من بيع وغيره، ويحتمل أنه تركها
لاربابها كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، قلنا أما الأول فلا يصح
لأن عمر إنما ترك قسمتها لتكون مادة للمسلمين كلهم ينتفعون بها مع بقاء
أصلها وهذا معنى الوقف، ولو جاز تخصيص قوم بأصلها لكان الذين افتتحوها أحق
بها ولا يجوز أن يمنعها أهلها لمفسدة ثم يخص بها غيرهم مع وجود المفسدة
المانعة والثاني أظهر فساداً من الأول لأنه إذا منعها المسلمين المستحقين
كيف يخص بها أهل الذمة المشركين الذين لا حق لهم ولا نصيب؟ (فصل) وإذا بيعت
هذه الأرض فحكم بصحة البيع حاكم صح لأنه مختلف فيه فصح بحكم الحاكم كسائر
المختلفات، وإن باع الإمام شيئاً لمصلحة رآها مثل أن يكون في الأرض ما
يحتاج إلى عمارته ولا يعمرها إلا من يشتريها صح أيضاً لأن فعل الإمام كحكم
الحاكم، وقد ذكر ابن عائذ في كتاب فتوح الشام قال: قال غير واحد من مشايخنا
إن الناس سألوا عبد الملك والوليد وسليمان أن يأذنوا لهم في شراء الأرض من
أهل الذمة فأذنوا لهم على ادخال أثمانها في بيت المال، فلما ولى عمر بن عبد
العزيز أعرض عن تلك الأشرية لاختلاط الأمور فيها لما وقع فيها من المواريث
ومهور النساء وقضاء الديون ولما لم يقدر على تخليصه ولا معرفة ذلك كتب
كتاباً قرئ على الناس: ان من اشترى شيئاً بعد سنة مائة إن بيعه مردود.
وتسمى سنة مائة سنة المدة فتناهى الناس عن شرائها ثم اشتروا أشريه كبيرة
كانت يأيدي أهلها تؤدي العشر ولا جزية عليها، فلما أفضى الأمر إلى المنصور
ورفعت إليه تلك الأشرية وأن ذلك أضر بالخراج وكسره فأراد ردها إلى أهلها
فقيل له قد وقعت في المواريث والمهور واختلط أمرها.
فبعث المعدلين منهم عبد الله بن يزيد إلى حمص، وإسماعيل بن عباس إلى بعلبك،
وهضاب بن طوق ومحرز ابن زريق إلى الغوطة، وأمرهم أن لا يضعوا على القطائع
والأشرية القديمة خراجا ومنعوا الخراج
على ما بقي بأيدي الانباط وعى الأشرية المحدثة من سنة مائة إلى السنة التي
عدل فيها فعلى هذا ينبغي أن يجزئ ما باعه إمام أو بيع بإذنه أو تعذر رد
بيعه هذا المجزئ في أن يضرب عليه خراج بقدر ما يحتمله ويترك في يد مشتريه
أو من انتقل إليه إلا ما بيع قبل المائة سنة فإنه لا خراج عليه كما نقل في
هذا الخبر
(4/18)
(فصل) وحكم إقطاع هذه الأرض حكم بيعها في
أن ما كان من عمر رضي الله عنه أو ما كان قبل مائة سنة فهو لا هله وما كان
بعد المائة ضرب عليه الخراج كما فعل المنصور إلا أن يكون بغير إذن الإمام
فيكون باطلاً، وذكر ابن عائذ في كتابه باسناده عن سليمان بن عتبة إن أمير
المؤمنين عبد الله بن محمد أظنه المنصور سأله في مقدمة الشام سنة ثلاث أو
أربع وخمسين عن الأرضين التي بأيدي أبناء الصحابة يذكرون أنها قطائع
لآبائهم قديمة فقلت يا أمير المؤمنين أن الله تعالى لما أظهر المسلمين على
بلاد الشام وصالحوا أهل دمشق وأهل حمص كرهوا أن يدخلوها دون أن يتم ظهورهم
واثخانهم في عدوالله وعسكروا في مرج بردان المرة إلى مرج شعبان حسي بردا -
مروج كانت مباحة فيما بين أهل دمشق وقراها ليست لأحد منهم فأقاموا بها حتى
وطأ الله بهم المشركين قهراً وذلا فاختبأ كل قوم محلهم وهيئوا فيها بناء
فرفع إلى عمر فأمضاه عمر لهم وأمضاه عثمان من بعده إلى ولاية أمير المؤمنين
قال فقد أمضيناه لهم! وعن الأحوص بن حكيم أن المسلمين الذين فتحوا حمص لم
يدخلوها وعسكروا على نهر الأوند فأحيوه فأمضاه لهم عمر وعثمان وقد كان أناس
منهم تعدوا ذاك إلى حبس الاوند الذي على باب الرتبتين فعسكروا في برجه
مسلحة لمن خلفهم من المسلمين، فلما بلغهم ما أمضاه عمر للمعسكرين على نهر
الأوند سألوا أن يشركوهم في تلك القطائع فكتب إلى عمر فيه فكتب أن يعوضوا
مثله من المروج التي كانوا عسكروا فيها على باب الرتبتين فلم تزل تلك
القطائع على شاطئ الأوند وعلى باب حمص وعلى باب الرتبتين ماضية لاهلها
لاخراج عليها تؤدي العشر (فصل) وهذا الذي ذكرناه في الأرض المغلة، أما
المساكن فلا بأس بحيازتها وبيعها وشرائها وسكناها، قال أبو عبيد ما علمنا
أحداً كره ذلك وقد اقتسمت بالكوفة خططاً في زمن عمر رضي الله عنه بإذنه
وبالبصرة وسكنها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك الشام ومصر
وغيرهما من
البلدان فما غاب ذلك أحد ولا أنكره (فصل) وكذلك ما فتح صلحاً بشرط أن يكون
لأهله كأرض الحيرة والليس وبانقيا وأرض بني صلوبا وما في معناها فيجوز
بيعها لأنها ملك لاهلها فهي كالمساكن وكذلك كل أرض أسلم أهلها عليها كأرض
المدينة وشبهها فإنها ملك لأهلها يجوز بيعها لذلك {مسألة} (وتجوز إجارتها)
لأنها مستأجرة في أيدي أربابها وإجارة المستأجر جائزة على ما نذكره في
موضعه إن شاء الله تعالى (وعن أحمد أنه كره بيعها) لما ذكرنا (وأجاز
شراءها) لأنه كالاستنقاذ لها فجاز كشراء الأسير، ولأنه قد روي عن بعض
الصحابة رضي الله عنهم على ما ذكرنا في المسألة التي قبلها، وإذا قلنا بصحة
الشراء فإنها تكون في أيدي المشتري على ما كانت في يد البائع يؤدي خراجها
ويكون معنى الشراء ههنا نقل اليد من البائع إلى المشتري بعوض إلا ما كان
قبل مائة سنة أو ما كان من إقطاع عمر رضي الله عنه على ما ذكرناه، فإن
اشتراها وشرط الخراج على البائع كما فعل ابن مسعود فهو كراء لا شراء وينبغي
أن يشترط بيان مدته كسائر الاجارات {مسألة} (ولايجوز بيع رباع مكة ولا
إجارتها وعنه يجوز ذلك)
(4/19)
اختلف الرواية في بيع رباع مكة وإجارة
دورها فروي أن ذلك غير جائز وهو قول أبي حنيفة ومالك والثوري وأبي عبيد
وكرهه إسحاق لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى
الله عليه سلم في مكة " لاتباع رباعها، ولا تكرى بيوتها " رواه الأثرم، وعن
مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " مكة حرام بيع رباعها حرام
إجارتها " رواه سعيد بن منصور في سننه وروي أنها كانت تدعى السوائب على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره مسدد في مسنده ولأنها فتحت عنوة ولم
تقسم فصارت موقوفة فلم يجز بيعها كسائر الأرض التي فتحها المسلمون عنوة ولم
يقسموها ودليل أنها فتحت عنوة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان الله
حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين وإنها لم تحل لأحد قبلي ولا
تحل لأحد بعدي، وإنما حلت لي ساعة من نهار " متفق عليه.
وروت أم هانئ أنها قالت أجرت حموين لي فأراد علي قتلهما فأتيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقلت يارسول الله: إني أجرت
حموين لي فزعم ابن أمي علي أنه قاتلهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم " قد
أجرنا من أجرت وأمنا من أمنت " متفق عليه.
وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل أربعة فقتل منهم ابن خطل ومقيس بن
ضبابة فدل على أنها فتحت عنوة (والرواية الثانية) أنه يجوز ذلك روى ذلك عن
طاوس وعمر وبن دينار وهو قول الشافعي وابن المنذر وهو أظهر في الحجة لأن
النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له أين تنزل غداً؟ قال " وهل ترك لنا
عقيل من رباع؟ " متفق عليه، يعني أن عقيلا باع رباع أبي طالب لأنه ورثه دون
أخوته لكونه كان على دينه دونهما ولو كانت غير مملوكة لما أثر بيع عقيل شيأ
ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم دور بمكة كأبي بكر والزبير وحكيم
بن حزام وأبي سفيان وسائر أهل مكة فمنهم من باع ومنهم من ترك داره فهي في
يد أعقابهم، وقد باع حكيم بن حزام دار الندوة فقال له ابن الزبير بعت مكرمة
قريش فقال يا ابن أخي ذهبت المكارم إلى التقوى أو كما قال، واشترى معاوية
منه دارين، واشترى عمر رضي الله عنه دار السجن من صفوان بن أمية بأربعة
آلاف ولم يزل أهل مكة يتصرفون في دورهم تصرف الملاك بالبيع وغيره ولم ينكره
منكر فكان إجماعاً، وقد قرره النبي صلى الله عليه وسلم بنسبة دورهم إليهم
فقال " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
ومن أغلق بابه فهو آمن " وأقر هم في دورهم ورباعهم ولم ينقل أحداً عن داره
ولا وجد منه ما يدل على زوال أملاكهم وكذلك من بعده من الخلفاء حتى أن عمر
مع شدته في الحق لما احتاج إلى دار للسجن لم يأخذها إلا بالبيع.
ولأنها أرض حية لم يرد عليها صدقة محرمة فجاز بيعها كسائر الأرض وما روي من
الأحاديث في خلاف هذا فهو ضعيف.
وأما كونها فتحت عنوة فهو صحيح لا يمكن دفعه إلا أن النبي صلى الله عليه
وسلم أقر أهلها فيها على أملاكهم ورباعهم فيدل ذلك على أنه تركها لهم كما
ترك لهوازن نساءهم وابناءهم (1) كان الاولى أن يقول كما أعتقهم بقوله "
أنتم الطلقاء ") وعلى القول الأول من كان ساكن دار أو منزل فهو أحق به
يسكنه ويسكنه وليس له بيعه ولا أخذ أجرته.
ومن احتاج إلى مسكن فله بذلك الأجرة فيه.
وإن احتاج الى الشراء فله ذلك كما فعل عمر رضي الله عنه.
وكان أبو عبد الله إذا سكن أعطاهم أجرتها.
فإن سكن بأجرة جاز أن لا يدفع إليهم الأجرة إن أمكنه لأنهم لا يستحقونها.
وقد روي أن سفيان سكن
(4/20)
في بعض رباع مكة وهرب ولم يعطهم أجرة
فأدركوه فأخذوها منه، وذكر لأحمد فعل سفيان فتبسم فظاهر
هذا أنه أعجبه قال ابن عقيل وهذا الخلاف في غير مواضع المناسك.
أما بقاع المناسك كموضع المسعى والرمي فحكمه حكم المساجد بغير خلاف (فصل)
ومن بنى بمكة بآلة مجلوبة من غير أرض مكة جاز بيعها كما يجوز بيع أبنية
الوقوف وانقاضها، وان كانت من تراب الحرم وحجارته انبنى جواز بيعها على
الروايتين في بيع رباع مكة لأنها تابعة لها وهكذا تراب كل وقف وانقاضه قال
أحمد وأما البناء بمكة فإني أكرهه قال إسحاق البناء بمكة على وجه الاستخلاص
لنفسه لا يحل وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له ألا تبني لك بمنى
بيتا فقال " منى مناخ من سبق ".
{مسألة} (ولايجوز بيع كل ماء عد كمياه العيون ونقع البئر ولا ما في المعادن
الجارية من القار والملح والنفط ولا ما ينبت في أرضه من الكلأ والشوك ومن
أخذ منه شيئاً ملكه) الأنهار النابعة في غير ملك كالأنهار الكبار لا تملك
بحال ولا يجوز بيعها، ولو دخل إلى أرض رجل لم يملكه بذلك كالطير فدخل إلى
أرضه ولكل احد أخذه وتملكه، إلا أن يحتفر منه ساقيه فيكون أحق بها من غيره،
وأما ما ينبع في ملكه كالبئر والعين المستنبطة بنفس النهر وأرض العين
مملوكة لمالك الأرض فالماء الذي فيها غير مملوك في ظاهر المذهب لأنه يجزي
من تحت الأرض فأشبه الماء الجاري في النهر إلى ملكه وهذا أحد الوجهين
لأصحاب الشافعي، والوجه الآخر يملك لأنه نماء الملك.
وقد روي عن أحمد نحو ذلك فإنه قيل له قي رجل له أرض ولآخر ماء فيشترك صاحب
الأرض وصاحب الماء في الزرع يكون بينهما؟ فقال لا باس اختاره أبو بكر وهذا
يدل من قوله على أن الماء مملوك لصاحبه، وفي معنى الماء المعادن الجارية في
الأملاك كالقار والنفط والموميا والملح، وكذلك الحكم في الكلأ والشوك
النابت في أرضه فكذلك كله يخرج على الروايتين في الماء، والصحيح أن الماء
لا يملك فكذلك هذه وجواز بيع ذلك مبني على ملكه قال أحمد: لا يعجبني بيع
الماء البتة وقال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل عن قوم بينهم نهر تشرب
منه أرضوهم لهذا يوم ولهذا يومان يتفقون عليه الحصص فجاء يومي ولا أحتاج
إليه أكريه بدراهم؟ قال ما أدري أما النبي صلى الله عليه وسلم فنهى عن بيع
الماء قيل له إنه ليس يبيعه إنما يكريه قال إنما احتالوا بهذا ليحسنوه فأي
شئ هذا إلا البيع؟
وروى الأثرم باسناده عن جابر وإياس بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى أن يباع وروى أبو عبيد والا ثرم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" المسلمون شركاء في ثلاث في النار والكلأ والماء " فإن قلنا يملك جاز بيعه
وإن قلنا لا يملك فصاحب الارض أحق به من غيره لكونه في ملكه فإن دخل غيره
بغير إذنه فأخذه ملكه لأنه يباح في الاصل فأشبه مالو عشش في أرضه طائر أو
دخل إليها صيد أو نضبت عن سمك فدخل إليها داخل فأخذه {مسألة} (إلا أنه لا
يجوز له الدخول إلى ملك غيره بغير إذنه) لأنه تصرف في ملك الغير بغير
(4/21)
إذنه أشبه ما لو دخل لغير ذلك (وعنه يجوز
بيعه) وهذا مبني على أنه يملك وقد ذكرناه (فصل) والخلاف في بيع ذلك إنما هو
قبل حيازته.
فأما ما يحوزه من الماء في إنائه أو يأخذه من الكلأ في حبله أو يحوزه في
رحله أو يأخذه من المعادن فإنه يملكه بذلك بغير خلاف بين أهل العلم فإن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " لأن يأخذ أحدكم حبلاً فيأخذ حزمة حطب
فيبيعها فيكف بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطي أو منع " رواه
البخاري، وقد روى أبو عبيد في الأموال عن المشيخة أن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن بيع الماء إلا ما حمل منه.
وعلى ذلك مضت العادة في الأمصار ببيع الماء في الروايا والحطب والكلأ من
غير نكير وليس لأحد أن يشرب منه ولا يتوضأ ولا يأخذ إلا بإذن مالكه لأنه
ملكه.
قال أحمد: إنما نهى عن بيع فضل ماء البئر والعيون في قراره ويجوز بيع البئر
نفسها والعين ومشتريها أحق بملئها، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " من يشتري بئر رومة يوسع بها على المسلمين وله الجنة؟ " أو كما قال
فاشتراها عثمان بن عفان رضي الله عنه من يهودي بأمر النبي صلى الله عليه
وسلم وسبلها للمسلمين، وروي أن عثمان اشترى منه نصفها باثني عشر ألفاً ثم
قال لليهودي اختر إما أن تأخذها يوماً وآخذها يوماً وأما إن تنصب لك عليها
دلواً وأنصب عليها دلواً فاختار يوماً ويوماً فكان الناس يستقون منها في
يوم عثمان لليومين فقال اليهودي أفسدت علي بئري فاشتر باقيها فاشتراه
بثمانية آلاف، وفي هذا دليل على صحة بيعها وتسبيلها وملك ما يسقيه منها
وجواز قسمة مائها بالمهايأة وكون مالكها أحق بمائها وجواز قسمة ما فيه حق
وليس بمملوك
(فصل) فأما المصانع المتخذة لمياه الأمطار تجتمع فيها ونحوها من البرك
وغيرها فالأولى أنه يملك ماؤها ويصح بيعه إذا كان معلوماً لأنه مباح حصله
بشئ معد له كالصيد يحصل في شبكة والسمك في بركة معدة له ولا يحصل أخذ شئ
منه بغير إذن مالكه وكذلك إن جرى من نهر غير مملوك ماء إلى بركة في أرضه
يستقر الماء فيها لا يخرج منها فحكمه حكم مياه الأمطار تجتمع في البركة
قياساً عليه والله أعلم.
(فصل) إذا اشترى ممن في ماله حلال وحرام كالسلطان الظالم والمرابي فإن علم
أن المبيع من حلال فهو حلال وإن علم أنه من الحرام فهو حرام ولا يقبل قول
المشتري عليه في الحكم لأن الظاهر أن ما في يد الإنسان ملكه، فإن لم يعلمه
من أيها هو كره لاحتمال التحريم فيه ولم يبطل البيع لإمكان الحلال سواء قل
الحرام أو كثر وهذا هو الشبهة، وبقدر قلة الحرام أو كثرته تكثر الشبهة وتقل
قال أحمد لا يعجبني أن يأكل منه وذلك لما روى النعمان بن بشير أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا
يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبراء لدينه وعرضه ومن وقع في
الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه الاوان لكل
ملك حمى وإن حمى الله محارمه " متفق عليه واللفظ لمسلم ولفظ البخاري " فمن
ترك ما اشتبه عليه كان لما استبان أترك، ومن اجتزأ على ما يشك فيه من
المأثم أو شك أن يواقع ما استبان " وروى الحسن بن علي رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " دع ما يريبك الى ما لا يريبك " وهذا
مذهب الشافعي (فصل) والمشكوك فيه على ثلاثة أضرب ما أصله الحظر كالذبيحة في
بلده فيها مجوس وعبدة أو ثان
(4/22)
يذبحون فلا يجوز شراؤها وإن جاز أن تكون
ذبيحة مسلم لأن الأصل التحريم فلا يجوز إلا بيقين أو ظاهر وكذلك إن كان
فيها اخلاط من المسلمين والمجوس لم يجز شراؤها لذلك والأصل فيه حديث عدي بن
حاتم " إذا أرسلت كلبك فخالط أكلباً لم يسم عليها فلا تأكل فإنك لا تدري
أيها قتله " متفق عليه.
فأما إن كان ذلك في بلد الإسلام فالظاهر إباحتها لأن المسلمين لا يقرون في
بلدهم بيع مالا يحل بيعه ظاهرا (الثاني) ما أصله الاباحة كالماء يجده
متغيراً لا يعلم بنجاسة تغيره أو غيرها فهو طاهر في الحكم لأن الأصل
الطهارة لا يزول عنها إلا بيقين أو ظاهر ولم يوجد واحد منهما، والأصل في
ذلك
حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه قال شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم
الرجل يخيل إليه في الصلاة أنه يجد الشئ قال " لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو
يجد ريحا " متفق عليه (الثالث) ما لا يفرق له أصل كرجل في ماله حلال وحرام
فهذا هو الشبهة التي الأولى تركها على ما ذكرناه وعملا بما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه وجد تمرة ساقطة فقال " لولا أني أخشى أنها من
الصدقة لأكلتها " وهو من باب الورع (فصل) وكان أحمد لا يقبل جوائز السلطان
وينكر على ولده وعمه قبولها ويشدد في ذلك.
وممن كان لا يقبلها سعيد بن المسيب والقاسم وبشر بن سعيد ومحمد بن واسع
الثوري وابن المبارك، وكان هذا منهم على سبيل الورع لا على أنها حرام فإن
أحمد قال: جوائز السلطان أحب إلي من الصدقة وقال ليس أحد من المسلمين إلا
وله في هذه الدراهم نصيب فكيف أقول إنها سحت وممن كان يقبل جوائزهم ابن عمر
وابن عباس وعائشة وغيرهم مثل الحسن والحسين وابن جعفر ورخص فيه الحسن
البصري ومكحول الزهري والشافعي.
واحتج بعضهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من يهودي طعاماً ومات
ودرعه مرهونة عنده وأجاب يهودياً دعاه وأكل من طعامه وقد أخبر الله تعالى
أنهم أكالون للسحت، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال لا بأس بجوائز
السلطان فإن ما يعطيكم من حلال أكثر مما يعطيكم من الحرام وقال لا تسأل
السلطان شيئاً وإن أعطى فخذ فإن ما في بيت المال من الحلال أكثر مما فيه من
الحرام (فصل) قال أحمد رضي الله عنه فيمن معه ثلاثة دراهم فيها درهم حرام
يتصدق بالثلاثة وإن كان معه مائتا درهم فيها عشرة دراهم حرام تصدق بالعشرة
لأن هذا كثير وذاك قليل، قيل له قال سفيان ما كان دون العشرة يتصدق به وما
كان أكثر يخرج؟ قال نعم لا يجحف به قال القاضي ليس هذا على سبيل التحديد
وإنما هو على سبيل الاختيار لأنه كلما كثر الحلال بعد تناول الحرام وشق
التورع عن الجميع بخلاف القليل فإنه يسهل إخراج الكل والواجب في الموضعين
إخراج قدر الحرام والباقي له وهذا لأن تحريمه لم يكن لتحريم عينه وإنما حرم
لتعلق حق غيره به فإذا أخرج عوضه زال التحريم كما لو كان صاحبه حاضراً فرضي
بعوضه وسواء كان قليلاً أو كثيراً، والورع إخراج ما يتيقن به إخراج عين
الحرام ولا يحصل ذلك إلا بإخراج الجميع لكن لما شق ذلك في الكثير ترك لأجل
المشقة فيه
واقتصر على الواجب.
ثم يختلف هذا باختلاف الناس فمنهم من لا يكون له سوى الدراهم اليسيرة فيشق
إخراجها لحاجته إليها ومنهم من يكون له كثير فيستغني عنها فيسهل إخراجها
والله تعالى أعلم
(4/23)
(فصل) (الخامس أن يكون مقدوراً على تسليمه
فلا يجوز بيع الآبق ولا الشارد ولا الطير في الهواء ولا السمك في الماء ولا
المغصوب إلا من غاصبه أو ممن يقدر على أخذه منه) بيع العبد الآبق لا يجوز
سواء علم بمكانه أو جهله وكذلك ما في معناه من الجمل الشارد والفرس العائر
وشبههما وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي وروي عن
ابن عمر أنه اشترى من بعض ولده بعيراً شارداً وعن ابن سيرين لا بأس ببيع
الآبق إذا كان علمهما فيه واحداً وعن شريح مثله.
ولنا ماروى أبو هريرة قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة
وعن بيع الغرر رواه مسلم وهذا بيع غرر ولأنه غير مقدور على تسليمه فلم يجز
بيعه كالطير في الهواء فإن حصل في يد انسان جاز بيعه لإمكان تسليمه (فصل)
ولا يجوز بيع الطير في الهواء مملوكا كان اولا أما المملوك فلأنه غير مقدور
عليه وغير المملوك لا يجوز لعلتين عدم القدرة وعدم الملك لحديث أبي هريرة
قيل في تفسيره هو بيع الطير في الهواء والسمك في الماء ولا نعلم في هذا
خلافاً ولا فرق بين كون الطائر يألف الرجوع أولا يألفه لأنه لا يقدر على
تسليمه الآن وإنما يقدر إذا عاد.
فإن قيل فالغائب في مكان بعيد لا يقدر على تسليمه في الحال، قلنا الغائب
يقدر على استحضاره والطير لا يقدر صاحبه على رده إلا أن يرجع هو بنفسه ولا
يستقل مالكه برده فيكون عاجزاً عن تسليمه لعجزه عن الواسطة التي يحصل بها
تسليمه بخلاف الغائب وإن باعه الطير في البرج نظرت فإن كان البرج مفتوحاً
لم يجز لأن الطير إن لم يمكن تسليمه فإن كان مغلقاً ويمكن أخذه جاز بيعه
وقال القاضي إن لم يمكن أخذه إلا بتعب ومشقة لم يجز بيعه وهذا مذهب
الشافعي.
وهو ملغي بالبعيد الذي لا يمكن إحضاره إلا بتعب ومشقة، وفرقوا بينهما بأن
البعيد تعلم الكلفة التي يحتاج إليها في إحضاره بالعادة وتأخير التسليم
مدته معلومة، والصحيح أن تفاوت المدة في إحضار البعيد واختلاف المشقة أكبر
من التفاوت في إمساك طائر من البرج، والعادة
تكون في هذا كالعادة في ذلك فإذا صح في البعيد مع كثرة التفاوت وشدة اختلاف
المشقة فهذا أولى (فصل) ولا يجوز بيع السمك في الآجام هذا قول أكثر أهل
العلم وروى عن ابن مسعود أنه نهى عنه وقال إنه غرر وكرهه الحسن النخعي
ومالك وأبو حنيفة والشافعي وأبو يوسف وأبو ثور ولا نعلم لهم مخالفاً لما
ذكرنا من الحديث والمعنى، فإن باعه في الماء جاز بثلاثة شروط أحدها أن يكون
مملوكاً وأن يكون الماء رقيقا لايمنع مشاهدته ومعرفته، وأن يمكن اصطياده
لأنه مملوك معلوم يمكن تسليمه فجاز بيعه كالموضوع في طست في الماء.
وإن اختل شرط مما ذكرنا لم يجز بيعه لفوات الشرط وروي عن عمر بن عبد العزيز
وابن أبي ليلى فيمن له أجمة يحبس السمك فيها يجوز بيعه لأنه يقدر على
تسليمه ظاهراً أشبه ما يحتاج إلى مؤنة في الكيل أو الوزن والنقل.
ولنا قول ابن مسعود وابن عمر لا تشتروا السمك في الماء لأنه غرر ولأن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغرر وهذا منه ولأنه لا يقدر على تسليمه
إلا بعد اصطياده أشبه الطير في الهواء ولأنه مجهول أشبه اللبن في الضرع
ويفارق ما قاسوا عليه، لأن ذلك من مؤنة القبض وهذا يحتاج إلى مؤنة ليمكن
قبضه، فأما إن كانت له بركة له فيها سمك
(4/24)
يمكن اصطياده بغير كلفة والماء رقيق لايمنع
المشاهدة صح بيعه على ما ذكرنا، وإن لم يمكن إلا بكلفة ومشقة وكانت يسيرة
بمنزلة اصطياد الطائر من البرج فالقول فيه كالقول في بيع الطائر في البرج
على ما ذكرنا من الخلاف وإن كانت كثيرة تتطاول المدة فيه لم يجز بيعه للعجز
عن تسليمه في الحال والجهل بإمكان التسليم (فصل) ولا يجوز بيع المغصوب لعدم
إمكان تسليمه فإن باعه لغاصبه أو لقادر على أخذه منه جاز لعدم الغرر فيه
ولإمكان قبضه، وكذلك إن باع الآبق لقادر عليه صح كذلك وإن ظن أنه قادر على
استنقاذه ممن هو في يده صح البيع فإن عجز عن استنقاذه فله الخيار بين الفسخ
والإمضاء لأن العقد صح لكونه مظنون القدرة على قبضه وثبت له الفسخ للعجز عن
القبض فهو كما لو باعه فرساً فشردت قبل تسليمها أو غائباً بالصفة فعجز عن
تسليمه (فصل) (السادس أن يكون معلوما برؤية أو صفة يحصل بها معرفته فإن
اشترى ما لم يره ولم يوصف له أو رآه ولم يعلم ما هو أو ذكر له من صفته ما
لا يكفي في السلم لم يصح البيع وعنه يصح وللمشتري خيار الرؤية)
اختلفت الرواية عن أحمد رحمه الله في بيع الغائب الذي لم يوصف ولم تتقدم
رؤيته فالمشهور عنه أنه لا يصح بيعه وبهذا قال الشعبي والنخعي والحسن
والاوزاعي ومالك واسحاق وهذا أحد قولي الشافعي.
وفيه رواية أخرى أنه يصح وهو مذهب أبي حنيفة والقول الثاني للشافعي واحتج
من أجازه بعموم قوله تعالى (وأحل الله البيع) وبما روي عن عثمان وطلحة
أنهما تبايعا داريهما إحداهما بالكوفة والأخرى بالمدينة فقيل لعثمان إنك قد
غبنت فقال ما أبالي إني بعت ما لم أره.
وقيل لطلحة فقال لي الخيار لأنني اشتريت ما لم أره، فتحاكما إلى جبير فجعل
الخيار لطلحة.
وهذا اتفاق منهم على صحة البيع ولأنه عقد معاوضة فلم تفتقر صحته إلى رؤية
المعقود عليه كالنكاح.
ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر رواه مسلم،
ولأنه باع ما لم يره ولم يوصف له فلم يصح كبيع النوى في التمر، ولأنه بيع
فلم يصح مع الجهل بصفة المبيع كالسلم والآية مخصوصة بما ذكرنا من الأصل،
وأما حديث عثمان وطلحة فيحتمل أنهما تبايعا بالصفة ومع ذلك فهو قول صحابي
وقد اختلف في كونه حجة ولا يعارض به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم،
والنكاح لا يقصد منه المعاوضة ولا يفسد بفساد العوض ولا بترك ذكره ولا
يدخله شئ من الخيارات، وفي اشتراط الرؤية مشقة على المخدرات وإضرار بهن
ولأن الصفات التي تعلم بالرؤية ليست هي المقصودة بالنكاح فلا يضر الجهل بها
بخلاف البيع.
فإن قيل فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من اشترى ما لم يره
فهو بالخيار إذا رآه " والخيار لا يثبت إلا في عقد صحيح قلنا: هذا يرويه
عمربن إبراهيم الكردي وهو متروك الحديث ويحتمل أنه بالخيار بين العقد عليه
وتركه فعلى هذا يشترط رؤية ما هو مقصود بالبيع كداخل الثوب وشعر الجارية
ونحوهما، فلو باع ثوباً مطوياً أو عيناً حاضرة لا يشاهد منها ما يختلف
الثمن لأجله كان كبيع الغائب فإن قلنا بصحة بيع الغائب فللمشتري الخيار في
أشهر الروايتين وهو قول أبي حنيفة ويثبت الخيار عند رؤية المبيع في الفسخ
والإمضاء ويكون على الفور فإن اختار الفسخ انفسخ العقد وإن لم يختر لزم
العقد لأن الخيار خيار الرؤية فوجب أن يكون عندها وقيل يتقيد بالمجلس وإن
اختار الفسخ قبل
(4/25)
الرؤية انفسخ لأن العقد غير لازم في حقه
فملك الفسخ كحالة الرؤية وإن اختار إمضاء العقد لم يلزم لأن
الخيار يتعلق بالرؤية ولأنه يؤدي إلى إلزام العقد على المجهول فيفضي إلى
الضرر وكذلك لو تبايعا على أن لا يثبت الخيار للمشتري لم يصح الشرط كذلك.
وهل يفسد به البيع؟ على وجهين بناء على الشروط الفاسدة في البيع (فصل)
ويعتبر لصحة العقد الرؤية من المتعاقدين وإن قلنا بصحة البيع مع عدم الرؤية
فباع ما لم يره فله الخيار عند الرؤية، وإن لم يره المشتري فلكل منهما
الخيار وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لاخيار للبائع لحديث عثمان وطلحة
ولأننا لو أثبتنا له الخيار لثبت لتوهم الزيادة والزيادة في المبيع لا تثبت
الخيار بدليل مالو باع شيئاً على أنه معيب فبان غير معيب لم يثبت الخيار له
ولنا أنه جاهل بصفة المعقود عليه فأشبه المشتري.
فأما الخبر فإنه قول طلحة وجبير وقد خالفهما عثمان وقوله أولى لأن البيع
يعتبر فيه الرضا منهما فتعتبر الرؤية التي هي مظنة الرضا منهما {مسألة}
(وإن ذكر له من صفته ما يكفي في السلم أو رآه ثم عقدا بعد ذلك بزمن لا
يتغير فيه ظاهراً صح في أصح الروايتين ثم إن وجده لم يتغير فلا خيار له،
وإن وجده متغيراً فله الفسخ والقول في ذلك قول المشتري مع يمينه) إذا ذكر
له من صفات المبيع ما يكفي في صحة السلم صح بيعه في ظاهر المذهب وهو قول
أكثر أهل العلم وعنه لا يصح حتى يراه لأن الصفة لا تحصل بها معرفة المبيع
فلم يصح البيع بها كالذي لا يصح السلم فيه ولنا أنه بيع بالصفة فصح كالسلم
ولا نسلم أن الصفة لا يحصل بها المعرفة فإنها تحصل بالصفات الظاهرة التي لا
يختلف بها الثمن ظاهراً ولهذا اكتفي به في السلم ولأنه لا يعتبر في الرؤية
الاطلاع على الصفات الخفية.
وأما ما لا يصح السلم فيه فإنما لم يصح بيعه بالصفة لأنه لا يمكن ضبطه بها.
إذا ثبت هذا فانه متى وجده على الصفة لم يكن له الفسخ وبهذا قال ابن سيرين
وأيوب ومالك والعنبري واسحاق وأبو ثور وابن المنذر، وقال الثوري وأبو حنيفة
وأصحابه له الخيار بكل حال لأنه يسمى بيع خيار الرؤية ولان الرؤية من تمام
هذا العقد فأشبه غير الموصوف ولأصحاب الشافعي وجهان كالمذهبين، ولنا أنه
سلم له المعقود عليه بصفاته فلم يكن له خيار كالمسلم فيه ولأنه مبيع موصوف
فلم يكن للعاقد فيه الخيار في جميع الأحوال كالسلم.
وقولهم إنه يسمى بيع خيار الرؤية لا تعرف صحته فإن ثبت فيحتمل أنه يسميه من
يرى ثبوت الخيار فلا يحتج به على غيره فأما إن وجده بخلاف الصفة فله الخيار
ويسمى خيار الخلف في
الصفة لأنه وجد الموصوف بخلاف الصفة فلم يلزمه كالمسلم فيه وإن اختلفا في
اختلاف الصفة فالقول قول المشتري مع يمينه لأن لاصل براءة ذمته من الثمن
فلم يلزمه ما لم يقربه أو يثبت ببينة أو ما يقوم مقامها (فصل) والبيع
بالصفة نوعان (أحدهما) بيع عين معينه مثل أن يقول بعتك عبدي التركي ويذكر
صفاته فهذا ينفسخ العقد عليه برده على البائع وتلفه قبل قبضه لكون المعقود
عليه معينا فيزول العقد بزوال محله، ويجوز التفرق قبل قبض ثمنه وقبضه كبيع
الحاضر (الثاني) بيع موصوف غير معين مثل أن يقول بعتك عبداً تركياً ثم
يستقصي صفات السلم فهذا في معنى السلم فمتى سلم إليه عبداً على غير
(4/26)
ما وصف فرده أو على ما وصف فأبدله لم يفسد
العقد لأن العقد لم يقع على غير هذا فلم ينفسخ العقد برده كما لو سلم إليه
في السلم غير ما وصف له فرده ولا يجوز التفرق عن مجلس العقد قبل قبض المبيع
أو قبض ثمنه وهذا قول الشافعي لأنه بيع في الذمة فلم يجز التفرق فيه قبل
قبض أحد العوضين كالسلم وقال القاضي يجوز التفرق فيه قبل القبض لأنه بيع
حال فجاز التفرق فيه قبل القبض كبيع العين (فصل) فإن رأيا المبيع ثم عقدا
البيع بعد ذلك بزمن لا تتغير العين فيه جاز في قول أكثر أهل العلم وحكي عن
أحمد رواية أخرى لا يجوز حتى يرياها حالة العقد وحكي ذلك عن الحكم وحماد
ولأن ما كان شرطاً في صحة العقد يجب أن يكون موجوداً حال العقد كالشهادة في
النكاح، ولنا أنه معلوم عندهما أشبه ما لو شاهداه حال العقد والشرط إنما هو
العلم والرؤية طريق العلم ولهذا اكتفي بالصفة المحصلة للعلم والشهادة في
النكاح تراد لحل العقد والاستيثاق عليه فلهذا اشترطت حال العقد ويقرر ما
ذكرناه ما لو رأيا داراً أوقفا في بيت منها أو أرضاً ووقفا في طرفها
وتبايعاها صح بلا خلاف مع عدم المشاهدة للكل في الحال، ولو كانت الرؤية
المشروطة للبيع مشروطة حال العقد لا اشترط رؤية جميعه، إذا ثبت ذلك فمتى
وجد المبيع بحاله لم يتغير لزمه البيع، وإن كان ناقصاً ثبت له الخيار لأن
ذلك كحدوث العيب، وإن اختلفا في التغير فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه
يلزمه الثمن فلا يلزمه ما لم يعترف به فأما إن عقدا البيع بعد رؤية المبيع
بمدة يتحقق فيها فساد المبيع لم يصح البيع لأنه مما لا يصح بيعه، وإن كان
يتغير فيها لم يصح بيعه أيضاً لأنه مجهول، وكذلك إن كان الظاهر تغيره فإن
كان يحتمل التغير
وعدمه وليس الظاهر تغيره صح بيعه لأن الأصل السلامة ولم يعارضه ظاهر فيصح
بيعه كما لو كانت الغيبة يسيرة وهذا ظاهر مذهب الشافعي {مسألة} (ولايجوز
بيع الحمل في البطن، واللبن في الضرع، والمسك في الفأرة، والنوى في التمر)
بيع الحمل في البطن فاسد بغير خلاف، قال إبن المنذر اجمعوا على أن بيع
الملاقيح والمضامين غير جائز، وإنما لم يجز بيع الحمل في البطن لوجهين
(أحدهما) الجهالة فإنه لا تعلم صفته ولا حياته (والثاني) أنه غير مقدور على
تسليمه بخلاف الغائب فإنه يقدر على الشروع في تسليمه، وقد روى سعيد بن
المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع
الملاقيح والمضامين، قال أبو عبيد الملاقيح ما في البطون وهي الأجنة،
والمضامين ما في أصلاب الفحول فكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة وما
يضربه الفحل في عامة أو في أعوام وأنشد إن المضامين التي في الصلب * ماء
الفحول في الظهور الحدب وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
بيع المجر، قال ابن الأعرابي المجر ما في بطن الناقة والمجر الربا والمجر
القمار والمجر المحاقلة والمزابنة (فصل) وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه نهى عن بيع حبل الحبلة ومعناه نتاج النتاج قاله أبو عبيد وعن ابن عمر
قال: كان أهل الجاهلية يتبايعون لحم الجزور إلى حبل الحبلة، وحبل الحبلة أن
تنتج
(4/27)
الناقة ثم تحمل التي نتجت فنهاهم النبي صلى
الله عليه وسلم.
رواه مسلم وكلا البيعين فاسد، أما الأول فلأنه بيع معدوم، وإذا لم يجز بيع
الحمل فبيع حمله أولى، وأما الثاني فلأنه بيع إلى أجل مجهول (فصل) ولا يجوز
بيع اللبن في الضرع، وبه قال الشافعي واسحاق وأصحاب الرأي ونهى عنه ابن
عباس وأبو هريرة وكرهه طاوس ومجاهد.
وحكي عن مالك أنه يجوز أياما معلومة إذا عرفا حلابها لسقي الصبي كلبن الظئر
وأجازه الحسن وسعيد بن جبير ومحمد بن مسلمة، ولنا ما روى ابن عباس أن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع صوف على ظهر أو لبن في ضرع رواه الخلال
وابن ماجة، ولأنه مجهول الصفة والمقدار فأشبه الحمل، ولأنه بيع عين لم تخلق
فلم يصح كبيع ما تحمل الناقة والعادة في
ذلك تختلف وأما لبن الظئر فإنما جاز للحضانة لأنه موضع حاجة (فصل) ولا يجوز
بيع المسك في الفأرة وهو الوعاء الذي يكون فيه.
قال الشاعر: إذا التاجر الهندي راح بفأرة * من المسك راحت في مفارقهم تجري
فإن فتح وشاهد ما فيه جاز بيعه وإن لم يشاهد لم يجز بيعه للجهالة، وقال بعض
الشافعية يجوز لأن بقاءه في فأرته مصلحة له فإنه يحفظ رطوبته وذكاء رائحته
أشبه ما مأكوله في جوفه، ولنا أنه يبقى خارج وعائه من غير ضرورة وتبقى
رائحته فلم يجز بيعه مستوراً كالدر في الصدف وما مأكوله في جوفه إخراجه
يفضي إلى تلفه، فالتفصيل في بيعه مع وعائه كالتفصيل في بيع السمن في ظرفه
على ما نذكره (فصل) ولا يجوز بيع النوى في التمر والبيض في الدجاجة للجهل
بها ولا نعلم في هذا اختلافاً، فأما بيع الصوف على الظهر فالمشهور أنه لا
يجوز بيعه لما ذكرنا من الحديث، ولأنه متصل بالحيوان فلم يجز إفراده بالعقد
كأعضائه، وعنه أنه يجوز بشرط جزء في الحال لأنه معلوم يمكن تسليمه فجاز
بيعه كالرطبة وفارق الأعضاء لكونها لا يمكن تسليمها مع بقاء الحيوان سالماً
والخلاف فيه كالخلاف في اللبن في الضرع، فإن اشتراه بشرط القطع وتركه حتى
طال فحكمه حكم الرطبة إذا طالت على ما نذكره في موضعه {مسألة} (فأما بيع
الأعمى وشراؤه فإن أمكنه معرفة المبيع بالذوق إن كان مطعوماً أو بالشم إن
كان مشموماً صح بيعه وشراؤه، وإن لم يمكن جاز بيعه بالصفة كالبصير وله خيار
الخلف في الصفة) وبهذا قال مالك وقال أبو حنيفة له الخيار إلى معرفته
بالبيع إما بحسه أو ذوقه أو وصفه وقال عبيد الله بن الحسن شراؤه جائز وإذا
أمر إنساناً بالنظر إليه لزمه.
وقال الشافعي لا يجوز إلا على الوجه الذي يجوز فيه بيع المجهول أو يكون قد
رآه بصيراً ثم اشتراه قبل مضي زمن يتغير فيه المبيع لأنه مجهول الصفة عند
العاقد فلم يصح كبيع البيض في الدجاجة والنوى في التمر ولنا أنه يمكن
الاطلاع على المقصود ومعرفته فأشبه بيع البصير، ولأن إشارة الأخرس تقوم
مقام عبارته فكذلك شم الأعمى وذوقه، فأما البيض والنوى فلا يمكن الإطلاع
عليه ولا وصفه بخلاف مسئلتنا {مسألة} (ولايجوز بيع الملامسة) وهو أن يقول
بعتك ثوبي هذا إنك متى لمسته فهو عليك بكذا أو يقول أي ثوب لمسته فهو لك
بكذا
(ولا بيع المنابذة) وهو أن يقول أي ثوب نبذته إلي فهو علي بكذا (ولابيع
الحصاة) وهو أن يقول ارم هذه الحصاة
(4/28)
فعلى أي ثوب وقعت فهو لك بكذا أو يقول بعتك
من هذه الأرض قدر ما تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا لا نعلم بين أهل
العلم خلافاً في فساد هذه المبايعات، والملامسة أن يبيعه شيئاً ولا يشاهده
على أنه متى لمسه وقع البيع، والمنابذة أن يقول أي ثوب نبذته إلي فقد
اشتريته بكذا هكذا فسره أحمد في الظاهر عنه ونحوه قال مالك والاوزاعي،
وفيما روى البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المنابذة وهي
طرح الرجل ثوبه بالبيع إلى الرجل قبل ان يقلبه أو ينظر إليه، ونهى عن
الملامسة والملامسة لمس الثوب لا ينظر إليه.
وروى مسلم عن أبي هريرة في تفسيرهما قال هو لمس كل واحد منهما ثوب صاحبه
بغير تأمل، والمنابذة أن ينبذ كل واحد منهما ثوبه ولم ينظر كل واحد منهما
إلى ثوب صاحبه، وعلى التفسير الأول لا يصح البيع فيهما لعلتين (إحداهما)
الجهالة (والثانية) كونه معلقا على شرط وهو نبذ الثوب أو لمسه له، وإن عقد
البيع قبل نبذه ولمسه فقال بعتك ما تلمسه من هذه الثياب أو ما أنبذه إليك
فهو غير معين ولا موصوف فأشبه مالو قال بعتك واحداً منها.
فأما بيع الحصاة فقد روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن بيع الحصاة واختلف في تفسيره فقيل هو أن يقول ارم هذه الحصاة فعلى
أي ثوب وقعت فهو لك بدرهم، وقيل هو أن يقول بعتك من هذه الأرض مقدار ما
تبلغ هذه الحصاة إذا رميتها بكذا، وقيل هو أن يقول بعتك هذا بكذا على أني
متى رميت هذه الحصاة وجب البيع، وكل هذه البيوع فاسدة لما فيها من الغرر
والجهل والله تعالى أعلم {مسألة} (ولايجوز أن يبيع عبداً غير معين، ولا
عبداً من عبيد، ولا شاة من قطيع، ولا شجرة من بستان، ولا هؤلاء العبيد إلا
واحداً غير معين، ولا هذا القطيع الاشاة غير معينة، وإن استثنى معيناً من
ذلك جاز) لا يجوز أن يبيع عبداً غير معين لأنه مجهول ولأنه غرر وقد نهى
النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر، ولا عبداً من عبيده سواء قلوا أو
كثروا وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة إذا باعه عبداً من عبدين أو من
ثلاثة بشرط الخيار له صح لأن الحاجة تدعو إليه، ولو كانوا أكثر لم يصح لأنه
يكثر الغرر
ولنا أنه مما تختلف أجزاؤه وقيمته فلا يجوز شراء بعضه غير معين ولاشياع
كالأربعة ولأنه لا يصح من غير شرط الخيار فلا يصح مع شرطه كالأربعة ولا
حاجة الى هذا فإن الاختيار يمكن قبل العقد ويبطل ما قالوه بالاربعة،
ولايجوز بيع شاة من القطيع لأن شياه القطيع غير متساوية القيم فتكون مجهولة
ولأن ذلك يفضي إلى التنازع، وكذلك إن باع شجرة من بستان لا يصح لما ذكرنا
ولأن فيه غرراً فيدخل في عموم النهي عن بيع الغرر (فصل) وإن باع هؤلاء
العبيد إلا واحداً غير معين، أو هذا القطيع إلا شاة غير معينة لم يصح نص
عليه وهو قول أكثر أهل العلم، وقال مالك يصح أن يبيع مائة شاة إلا شاة
يختارها، ويبيع ثمرة حائط ويستثني ثمرة نخلات يعدها ولنا أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم، قال الترمذي هذا حديث صحيح، ونهى عن
بيع الغرر ولأنه مبيع مجهول فلم يصح كما لو قال إلا شاة مطلقة ولأنه مبيع
مجهول فلم يصح كما لو قال بعتك شاة تختارها من القطيع، وضابط هذا الباب أنه
لا يصح استثناء ما لا يصح بيعه منفرداً أو بيع
(4/29)
ما عداه منفرداً عن المستثنى ونحوه مذهب
أبي حنيفة والشافعي إلا أن أصحابنا استثنوا من هذا سواقط الشاة للأثر
الوارد فيبقى فيما عداه على قضية الأصل، فإن استثنى معيناً من ذلك جاز لأن
المبيع معلوم بالمشاهدة لكون المستثنى معلوماً ولا يبقى فيه غرر ولأن نهى
النبي صلى الله عليه وسلم عن الثنيا إلا أن تعلم يدل على الصحة إذا كانت
معلومة ولا نعلم في هذا خلافاً {مسألة} (وإن باع قفيزاً من هذه الصبرة صح)
لأنه معلوم لكون أجزائها لا تختلف فلا تفضي إلى الجهالة، وكذلك إذا باعه
رطلا من دن أو من زبرة حديد يصح لذلك، وحكي عن داود أنه لا يصح لأنه غير
مشاهد ولا موصوف.
ولنا أن المبيع مقدر معلوم من جملة يصح بيعها أشبه إذا باع نصفها وما ذكره
قياس وهو لا يحتج بالقياس ثم لا يصح لأنه إذا شاهد الجميع فقد شاهد البعض
{مسألة} (وإن باعه الصبرة إلا قفيزاً أو ثمرة الشجرة إلا صاعاً لم يصح وعنه
يصح) إذا باع صبرة واستثنى منها قفيزاً أو أقفزة أو باع ثمرة بستان واستثنى
منها صاعاً أو آصعاً لم يصح في ظاهر المذهب، روى ذلك عن سعيد بن المسيب
والحسن والشافعي والاوزاعي واسحاق وأبي ثور وأصحاب
الرأي.
وفيه رواية أخرى أنه يجوز وهو قول ابن سيرين وسالم بن عبد الله ومالك لأن
النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم وهذه ثنيا معلومة
ولأنه معلوم أشبه إذا استثنى منها جزءاً مشاعاً ووجه الأولى ما روى البخاري
أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا ولأن المبيع إنما علم بالمشاهدة
لا بالقدر، والاستثناء يغير حكم المشاهدة لأنه لا يدرى كم يبقى في حكم
المشاهدة فلم يجز، ويخالف الجز فإنه لا يعتبر حكم المشاهدة ولا يمنع
المعرفة بها، وكذلك إذا باع ثمرة شجرة واستثنى أرطالاً فالحكم فيه على ما
ذكرا.
وقال القاضي في شرحه يصح لأن الصحابة رضي الله عنهم أجازوا استثناء سواقط
الشاة والصحيح ما ذكرناه، وهذه المسألة أشبه بمسألة استثناء الصاع من
الحائط والمعنى الذي ذكرناه ثم متحقق هاهنا (فصل) فإن استثنى من الحائط
شجرة بعينها جاز لأن المستثنى معلوم ولا يؤدي إلى الجهالة في المستثنى منه،
وإن استثنى شجرة غير معينة لم يصح لأن المستثنى مجهول.
وقال مالك يصح أن يستثنى ثمرة نخلات يعدها وقد ذكرناه، وقد روي عن ابن عمر
أنه باع ثمرة بأربعة آلاف واستثنى طعام القنيان وهذا يحتمل أنه استثنى نخلا
معينا بقدر طعام القنيان لأنه لو حمل على غير ذلك كان مخالفاً لنهي النبي
صلى الله عليه وسلم عن الثنيا إلا أن تعلم، ولأن المستثنى متى كان مجهولاً
لزم أن يكون الباقي بعده مجهولاً فلم يصح بيعه كما لو قال بعتك من هذه
الثمرة طعام القنيان (فصل) وإن استثنى جزءاً معلوماً من الصبرة أو الحائط
مشاعاً كثلاث أو أربع أو أجزاء كثلاثة أثمان صح البيع والاستثناء ذكره
أصحابنا وهو مذهب الشافعي، وقال أبو بكر وابن أبي موسى لا يجوز ولنا أنه
لايؤدي إلى جهالة المستثنى ولا المستثنى منه فصح كما لو استثنى شجرة بعينها
وذلك لا معنى بعتك هذه الصبرة إلا ثلثها اي بعتك ثلثيها، وإن باع حيواناً
واستثنى ثلثه جاز ومنع منه القاضي قياساً على استثناء الشحم ولا يصح لأن
الشحم مجهولا لا يصح إفراده بالبيع وهذا معلوم يصح إفراده بالبيع
(4/30)
فصح استثناؤه كالشجرة المعينة، وقياس
المعلوم على المجهول في الفساد لا يصح فعلى هذا يصيران شريكين فيه للمشتري
ثلثاه وللبائع ثلثه
(فصل) وإذا قال بعتك قفيزاً من هذه الصبرة إلا مكوكاً جاز لأن القفيز معلوم
والمكوك معلوم ولا يفضي إلى جهالة، ولو قال بعتك هذه الثمرة بأربعة دراهم
إلا بقدر درهم صح لأن قدره معلوم من المبيع وهو الربع فكأنه قال بعتك ثلاثة
أرباع هذه الثمرة بأربعة دراهم، وإن قال إلا ما يساوي درهماً لم يصح لأن ما
يساوي الدرهم يكون الربع وأكثر وأقل فيكون مجهولاً فيبطل {مسألة} (وإن باعه
أرضاً إلا جريباً أو جريباً من أرض يعلمان جربانها صح وكان مشاعاً فيها
وإلا لم يصح) إذا باعه أرضاً إلا جريباً يريدان بذلك قدراً غير مشاع لم يصح
لأن الأرض لا تساوي اجزاؤها فيكون البيع مجهولاً فهو كما لو باعه شاة من
قطيع أو عبداً من عبيد، وإن كان الجريب المستثنى مشاعاً في الأرض وهما
يعلمان جربانها صح لأنها إذا كانت عشرة أجربه فقد باع تسعة أعشار هذه الأرض
وهو معلوم بالمشاهدة وإن لم يعلما جربانها لم يصح لأن المبيع غير معلوم فهو
كما لو باع هؤلاء العبيد إلا واحداً غير معين وكذلك إن باعه جريباً من هذه
الأرض إن أراد قدراً غير مشاع لم يصح، وإن باعه مشاعاً وهما يعلمان جربانها
صح، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة لا يصح لأن الجريب عبارة عن بقعة
بعينها وموضعه مجهول.
ولنا أن الجريب من عشرة عشرها ولو قال بعتك عشر هذه الأرض صح فكذلك إذا
باعه منها جريباً مشاعاً وهي عشرة.
وما قالوه غير مسلم لأنه عبارة عن قدر كما أن المكيال عبارة عن قدر فإذا
أضافه إلى جملة كان ذلك جزأ منها، وإن كانا لا يعلمان ذرعان الدار لم يصح
لأن الجملة غير معلومة وأجزاء الأرض مختلفة فلا يمكن أن يكون معيناً ولا
مشاعاً، وإن قال بعتك من الأرض من هنا إلى هنا جاز لأنه معلوم، وإن قال
عشرة أذرع ابتداؤها من هنا إلى حيث ينتهي الذرع لم يصح لأن الموضع الذي
ينتهي إليه الذرع لا يعلم حال العقد، وإن قال بعتك نصيبي من هذه الدار ولا
يعلم قدر نصيبه أو قال نصيباً منها أو سهما لم يصح للجهالة وان علماه صح،
وإن قال بعتك نصف داري مما يلي دارك لم يصح نص عليه لأنه لا يدري إلى أين
ينتهي فيكون مجهولاً (فصل) وحكم الثوب حكم الأرض إلا أنه إذا قال بعتك من
هذا الثوب من هذا الموضع إلى هذا صح فإن كان القطع لا ينقصه قطعاه، وإن كان
ينقصه وشرط البائع أن يقطع له أو رضي بقطعه هو والمشتري جاز، وإن تشاحا في
ذلك كانا شريكين فيه كما يشتركان في الأرض، وقال القاضي
لا يصح لأنه لا يقدر على التسليم إلا بضرر أشبه مالو باعه نصفاً معيناً من
الحيوان، ولنا أن التسليم ممكن ولحوق الضرر لايمنع التسليم إذا حصل الرضا
فهو كما لو باعه نصف حيوان مشاعاً وفارق نصف الحيوان المعين فإنه لا يمكن
تسليمه مفرداً إلا بإتلافه وإخراجه عن المالية {مسألة} (وإن باعه حيواناً
مأكولا إلا رأسه أو جلده أو أطرافه صح وإن استثنى حمله أو شحمه لم يصح) إذا
باعه حيواناً مأكولاً واستثنى رأسه أو جلده أو أطرافه صح نص عليه أحمد رحمه
الله وقال مالك يصح في السفر دون الحضر لأن المسافر لا يمكنه الانتفاع
بالجلد والسواقط فجوز له شراء اللحم دونها.
وقال
(4/31)
أبو حنيفة والشافعي لا يجوز لأنه لا يجوز
إفراده بالبيع فلم يجز استثناؤه كالحمل ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن الثنيا إلا أن تعلم وهذه معلومة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم
لما هاجر إلى المدينة ومعه أبو بكر وعامر بن فهيرة مروا براعي غنم فذهب أبو
بكر وعامر فاشتريا منه شاة وشرطا له سلبها، وروى أبو بكر في الشفاء باسناده
عن جابر عن الشعبي قال: قضى زيد بن ثابت وأصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم في بقرة باعها رجل واشترط رأسها فقضى بالشروى يعني أن يعطى رأساً مثل
رأس، ولأن المستثنى والمستثنى منه معلومان فصح كما لو باع حائطاً واستثنى
منه نخلة معينة، وكونه لا يجوز إفراده بالبيع لا يمنع صحة استثنائه كما أن
الثمرة قبل التأبير لا يجوز إفرادها بالبيع بشرط كشرط التبقية ويجوز
استثناؤها والحمل مجهول وفيه منع.
فإن امتنع المشتري من ذبحها لم يجبر ويلزمه قيمة ذلك على التقريب نص عليه
لما روي عن علي رضي الله عنه انه قضى في رجل اشترى ناقة وشرط ثنياها فقال
اذهبوا إلى السوق فإذا بلغت أقصى ثمنها فاعطوه بحساب ثنياها من ثمنها (فصل)
فإن استثنى شحم الحيوان لم يصح نص عليه أحمد، قال أبو بكر لا يختلفون عن
أبي عبد الله أنه لا يجوز ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا
إلا أن تعلم، ولأنه مجهول لا يصح إفراده بالبيع فلم يصح استثناؤه كفخذها،
وإن استثنى الحمل لم يصح الاستثناء لما ذكرنا وهو قول أبي حنيفة ومالك
والثوري والشافعي، نقل عن أحمد صحته، وبه قال الحسن والنخعي واسحاق وأبو
ثور لما روى نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما باع جارية واستثنى ما في
بطنها، ولأنه يصح استثناؤه في العتق
فصح في البيع قياساً عليه.
ولنا ما تقدم في الصحيح من حديث ابن عمر أنه أعتق جارية واستثنى ما في
بطنها لأن الثقات الحفاظ حدثوا بالحديث فقالوا أعتق جارية والإسناد واحد.
قاله أبو بكر ولا يلزم من الصحة في العتق الصحة في البيع لأن العتق لا
تمنعه الجهالة ولا العجز عن التسليم، ولا تعتبر فيه شروط البيع (فصل) وإن
باع جارية حاملاً بحر، فقال القاضي لا يصح وهو مذهب الشافعي لأنه يدخل في
البيع فكأنه مستثنى.
والاولى صحته لا المبيع معلوم وجهالة الحمل لا تضر لأنه ليس بمبيع ولا
مستثنى باللفظ، وقد يستثنى بالشرع ما لا يصح استثناؤه باللفظ كما لو باع
أمة مزوجة صح ووقعت منفعة البضع مستثناة بالشرع ولو استثناها بلفظه لم يجز،
ولو باع أرضاً فيها زرع للبائع أو نخله مؤبرة وقعت منفعتها مستثناة مدة
بقاء الزرع والثمرة ولو استثناها بقوله لم يجز (فصل) ولو باعه سمسماً
واستثنى الكسب لم يجز لأنه قد باعه الشريج في الحقيقة وهو غير معلوم فإنه
غير معين ولا موصوف ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن
تعلم، وكذلك إن باعه قطناً، واستثنى الحب لم يجز للجهالة، وكذلك إن باعه
السمسم واستثنى الشيرج لم يجز لذلك {مسألة} (ويجوز بيع ما مأكوله في جوفه
وبيع الباقلا والجوز واللوز في قشريه والحب المشتد في سنبله) يجوز بيع ما
مأكوله في جوفه كالرمان والبيض والجوز لا نعلم فيه خلافا لأن الحاجة تدعو
إلى بيعه كذلك لكونه يفسد إذا أخرج من قشره
(4/32)
(فصل) ويجوز بيع الجوز واللوز والفستق
والباقلا والرطب في قشريه مقطوعاً وفي شجره وبيع الطلع قبل تشقيقه مقطوعاً
وفي شجره وبيع الحب المشتد في سنبله، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وقال
الشافعي لا يجوز حتى ينزع قشره الا على إلا في الطلع والسنبل في أحد
القولين، واحتج بأنه مستور بما لا يدخر عليه ولا مصلحة فيه فلم يجز بيعه
كتراب الصاغة والمعادن وبيع والحيوان المذبوح في سلخه.
ولنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها وعن
بيع السنبل حتى يبيض وتؤمن العاهة فمفهومة إباحة بيعه إذا بدا صلاحه وأبيض
سنبله ولأنه مستور بحائل من أصل خلقته فجاز بيعه كالرمان والبيض والقشر
الأسفل، ولا يصح قولهم ليس من مصلحته فإنه لاقوام له في شجرة إلا به،
والباقلا
يؤكل رطباً وقشره يحفظ رطوبته ولأن الباقلا يباع في أسواق المسلمين من غير
نكير وهذا إجماع، وكذلك الجوز واللوز في شجرهما والحيوان المذبوح يجوز بيعه
في سلخه فإنه إذا جاز بيعه قبل ذبحه وهو مراد للذبح فكذلك إذا ذبح كما أن
الرمانة إذا جاز بيعها قبل كسرها فكذلك إذا كسرت، وأما تراب الصاغة
والمعادن فلنا فيهما منع وإن سلم فليس ذلك من أصل الخلقة في تراب الصاغة
ولا بقاؤه فيه من مصلحته بخلاف مسألتنا.
(فصل) (السابع أن يكون الثمن معلوماً فإن باعه السلعة برقمها أو بألف درهم
ذهباً وفضة أو بما ينقطع به السعر أو بما باع به فلان أو بدينار مطلق وفي
البلد نقود لم يصح البيع وإن كان فيه نقد واحد انصرف إليه) يشترط أن يكون
الثمن في البيع معلوماً عند المتعاقدين لأنه أحد العوضين فاشترط العلم به
كالآخر وقياساً على رأس مال السلم فإن باعه السلعة برقمها وهما لا يعلمانه
أو أحدهما لم يصح البيع للجهالة فيه وكذلك إن باعه بألف درهم ذهباً وفضه
لأنه مجهول ولأنه بيع غرر فيدخل في عموم النهي عن بيع الغرر، وإن باعه
بمائة ذهباً وفضة لم يصح البيع، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة يصح
ويكون نصفين لأن الإطلاق يقتضي التسوية كالإقرار، ولنا أن قدر كل واحد
منهما مجهول فلم يصح كما لو قال بمائة بعضها ذهب وقوله إنه يقتضي التسوية
ممنوع فإنه لو فسره بغير ذلك صح.
وكذلك لو أقر له بمائة ذهباً وفضة فالقول قوله في قدر كل واحد منهما.
وإن باعه بما ينقطع السعر به أو بما باع به فلان عبده وهما لا يعلمانه أو
أحدهما لم يصح لأنه مجهول، وإن باعه بدينار مطلق وفي البلد نقود لم يصح
لجهالته وإن كان فيه نقد واحد انصرف إليه لأنه تعين بانفراده وعدم مشاركة
غيره ولهذا لو أقر بدينار أو أوصى به انصرف إليه.
{مسألة} (وإن قال بعتك بعشرة صحاح أو إحدى عشرة مكسرة أو بعشرة نقد أو
عشرين نسيئة لم يصح) لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعه
وهذا هو كذلك فسره مالك والثوري واسحاق، وهذا قول أكثر أهل العلم لأنه لم
يجزم له ببيع واحد أشبه ما لو قال بعتك أحد هذين ولأن الثمن مجهول فلم يصح
كالبيع بالرقم المجهول، وقد روي عن طاوس والحكم وحماد أنهم قالوا لا بأس ان
يقول أبيعك بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا فيذهب إلى أحدهما فيحتمل انه جرى
بينها بعد ما يجري في العقد فكأن المشتري قال أنا آخذه بالنسيئة بكذا
(4/33)
فقال خذه أو قد رضيت ونحو ذلك فيكون عقداً
كافياً فيقول كقول الجمهور، فعلى هذا إن لم يوجد ما يدل على الإيجاب أو ما
يقوم مقامه لم يصح لأن ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجاباً.
وقد روي عن أحمد أنه قال فيمن قال إن خطته اليوم فلك درهم وإن خطته غدا فلك
نصف درهم أنه يصح فيتحمل أن لا يلحق به هذا البيع فيخرج وجهاً في الصحة
ويحتمل أن يفرق بينهما من حيث إن العقد ثم يمكن أن يصح لكونه جعالة بخلاف
البيع ولان العمل الذي يستحق به الأجرة لا يمكن وقوعه إلا على إحدى الصفتين
فتتعين الأجرة المسماة عوضاً فلا يفضي إلى التنازع وهذا بخلافه {مسألة}
(وإن باعه الصبرة كل قفيز بدرهم والثوب كل ذراع بدرهم والقطيع كل شاة بدرهم
صح) إذا باعه الصبرة كل قفيز بدرهم صح وإن لم يعلما قدر قفزانها حال العقد
وبهذا قال مالك والشافعي وقال أبو حنيفة يصح في قفيز واحد ويبطل فيما سواه
لأن جملة الثمن مجهولة فلم يصح كبيع المتاع برقمه، ولنا أن المبيع معلوم
بالمشاهدة والثمن معلوم لإشارته إلى ما يعرف مبلغه بجهة لا تتعلق
بالمتعاقدين وهو وكيل الصبرة فجاز كما لو باع ما رأس ماله اثنان وسبعون لكل
ثلاثة عشر درهم فإنه لا يعلم في الحال وإنما يعلم بالحساب كذا ههنا ولأن
المبيع معلوم بالمشاهدة والثمن معلوم قدر ما يقابل كل جزء من المبيع فصح
كالأصل المذكور وكذلك حكم الثوب والأرض والقطيع من الغنم إذا كان مشاهداً
فباعه إياه كل ذراع بدرهم أو كل شاة بدرهم صح وإن لم يعلما قدر ذلك حال
العقد لما ذكرنا في الصبرة {مسألة} (وإن باعه من الصبرة كل قفيز بدرهم لم
يصح لأن من للتبعيض وكل للعدد فيكون ذلك العدد منها مجهولاً) ويحتمل أن يصح
البيع بناء على قوله في الإجارة إذا أجره كل شهر بدرهم.
قال ابن عقيل وهو الاشبهة كالمسألة التي قبلها لأن من وإن أعطيت البعض فما
هو بعض مجهول بل قد جعل لكل جزء معلوم منها ثمناً معلوماً فهو كما لو قال
قفيزاً منها وكمسألة الإجارة (فصل) وإن قال بعتك هذه الصبرة بعشرة دراهم
على أن أزيدك قفيزاً أو أنقصك قفيزاً لم يصح لأنه لا يدري أيزيده أم ينقصه.
وإن قال على أن أزيدك قفيزاً لم يجز لأن القفيز مجهول.
وإن قال على أن
أزيدك قفيزاً من هذه الصبرة الاخرى أو بصفة يعلم بها صح لأن معناه بعتك هذه
الصبرة وقفيزاً من هذه الأخرى بعشرة دراهم، وإن قال على أن أنقصك قفيزاً لم
يصح لأن معناه بعتك هذه الصبرة إلا قفيزاً كل قفيز بدرهم وشئ مجهول، ولو
قال بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم على أن أزيدك قفيزاً من هذه الصبرة
الأخرى لم يصح لإفضائه إلى جهالة في الثمن في التفصيل لأنه يصير قفيزاً
وشيئاً بدرهم وهما لا يعرفانه لعدم معرفتهما بكمية ما في الصبرة من
القفزان.
ولو قصد أني أحط ثمن قفيز من الصبرة ولا أحتسب به لم يصح للجهالة التي
ذكرناها.
وإن علما قدر فقزان الصبرة أو قال هذه عشرة أقفزة بعتكها كل قفيز بدرهم على
أن أزيدك قفيزاً من هذه الصبرة أو وصفه بصفة يعلم بها صح لأن معناه بعتك كل
قفيز وعشرة بدرهم وإن لم يعلم القفزان وجعله هبة لم يصح وإن أراد أني لا
احتسب
(4/34)
عليك بثمن قفيز منها صح أيضاً لأنهما لما
علما جملة الصبرة علما ما ينقص من الثمن، ولو قال على أن أنقصك قفيزاً صح
لأن معناه بعتك تسعة أقفزة بعشرة دراهم، وحكي عن أبي بكر أنه يصح في جميع
المسائل على قياس قول أحمد لأنه يجيز الشرط ولا يصح ما قاله لأن المبيع
مجهول فلا يصح بيعه بخلاف الشرط الذي لا يفضي إلى الجهالة.
وما لا تتساوى أجزاؤه كالأرض والثوب والقطيع من الغنم فيه نحو من مسائل
الصبرة.
وإن قال بعتك هذه الأرض أو هذه الدار أو هذا الثوب أو هذا القطيع بألف درهم
صح إذا شاهداه وإن قال بعتك نصفه أو ثلثه أو ربعه بكذا صح وإن قال بعتك من
الثوب كل ذراع بدرهم أو من القطيع كل شاة بدرهم لا يصح لأنه مجهول (فصل)
ويصح بيع الصبرة جزافاً مع جهل المتبايعين بقدرها لا نعلم فيه خلافاً وقد
نص عليه أحمد ودل عليه حديث ابن عمر وهو قوله، كنا نشتري الطعام من الركبان
جزافاً فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبيعه حتى ننقله من مكانه
متفق عليه، ولأنه معلوم بالرؤية فصح بيعه كالثياب والحيوان، ولا يضر عدم
مشاهدة باطن الصبرة فإن ذلك يشق لكون الحب بعضه على بعض ولا يمكن بسطها حبة
حبة، ولأن الحب تتساوى أجزاؤه في الظاهر فاكفتي برؤية ظاهره بخلاف الثوب
فإن نشره لا يشق وتختلف أجزاؤه ولايحتاج إلى معرفة قدرها مع المشاهدة لأنه
علم ما اشترى بأبلغ الطرق وهو
الرؤية، وكذلك لو قال بعتك نصف هذه الصبرة أو جزأ منها معلوماً لأن ما جاز
بيع جملته جاز بيع بعضه كالحيوان، قال ابن عقيل ولا يصح هذا إلا أن تكون
الصبرة متساوية الأجزاء، فإن كانت مختلفة مثل صبرة بقال القرية لم يصح،
ويحتمل أن يصح لأنه يشتري منها جزءاً مشاعاً فيستحق من جيدها ورديئها بقسطه
ولا فرق بين الأثمان والمثمنات في صحة بيعها جزافاً، وقال مالك لا يجوز في
الأثمان لأن لها خطراً ولا يشق وزنها ولا عددها فأشبه الرقيق والثياب ولنا
أنه معلوم بالمشاهدة أشبه المثمنات والنقرة والحلي ويبطل بذلك ما قال.
وأما الرقيق فإنه يجوز بيعهم إذا شاهدهم ولم يعدهم، وكذلك الثياب إذا شراها
ورأى جميع أجزائها (فصل) فإن كان البائع يعلم قدر الصبرة لم يجز بيعها
جزافاً نص عليه أحمد وهو اختيار الخرقي.
وكرهه عطاء وابن سيرين ومجاهد وعكرمة، وبه قال مالك واسحاق وروي ذلك عن
طاوس، قال مالك لم يزل أهل العلم ينهون عن ذلك، وعن أحمد رحمه الله أنه
مكروه غير محرم فقد روى بكر بن محمد عن أبيه عنه أنه سئل عن الرجل يبيع
الطعام جزافاً وقد عرف كيله، فقلت له وإن مالكاً يقول إذا باع الطعام ولم
يعلم المشتري فإن اختار أن يرده رده قال: هذا تغليظ شديد ولكن لا يعجبني
إذا عرف كيله إلا أن يخبره فإن باعه فهو جائز عليه وقد أساء.
ولم ير أبو حنيفة والشافعي بذلك بأسا لأنه إذا جاز البيع مع جهلهما بمقداره
فمع العلم من أحدهما أولى.
ووجه الأول ما روى الأوزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من عرف مبلغ
شئ فلا يبيعه جزافاً حتى يبينه " قال القاضي وقد روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام مجازفة وهو يعلم كيله وأيضاً الاجماع الذي
نقله مالك ولأن البائع لا يعدل إلى البيع جزافاً مع علمه بقدر الكيل إلا
للتغرير ظاهراً وقد قال عليه السلام " من غشنا
(4/35)
فليس منا " فصار كتدليس البيع فإن باع ما
علم كيله صبرة فظاهر كلام أحمد في رواية محمد بن الحكم إن البيع صحيح لازم
وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأن المبيع معلوم لهما ولا تغرير من أحدهما
أشبه مالو علما كيله أو جهلاه ولم يثبت ما روي من النهي فيه، وانما كرهه
أحمد كراهة تنزيه لاختلاف العلماء فيه ولأن تسويتهما في العلم أو الجهل
أبعد من التغرير.
وقال القاضي وأصحابه هذا بمنزلة التدليس والغش
إن علم به المشتري فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة فهو كمن اشترى مصراة
يعلم تصريتها، وإن لم يعلم أن البائع كان عالماً بذلك فله الخيار في الفسخ
والإمضاء وهذا قول مالك لأنه غش وغرر من البائع فصح العقد معه ويثبت
للمشتري الخيار، وذهب بعض أصحابه إلى أن البيع فاسد والنهي يقتضي الفساد
(فصل) فإن أخبره البائع بكيله ثم باعه بذلك الكيل فالبيع صحيح، فإن قبضه
باكتياله تم البيع والقبض، وإن قبضه بغير كيل كان بمنزلة قبضه جزافاً إن
كان البيع باقياً كاله عليه، فإن كان قدر حقه الذي أخبره فقد استوفاه، وان
كان زائداً رد الفضل وإن كان ناقصاً أخذ النقص، وإن كان قد تلف فالقول قول
القابض مع يمينه سواء قل القبض أو كثر لأن الأصل عدم القبض وبقاء الحق وليس
للمشتري التصرف في الجميع قبل كيله لأن للبائع فيه علقة فإنه لو زاد كانت
الزيادة له ولا يتصرف في أقل من حقه بغير كيل لأن ذلك يمنعه من معرفة كيله،
وان تصرف فيما يتحقق أنه مستحق له مثل أن يكون حقه قفيزاً فيتصرف في ذلك أو
في أقل منه بالكيل ففيه وجهان (أحدهما) له ذلك لأنه تصرف في حقه بعد قبضه
فجاز كما لوكيل له (والثاني) لا يجوز لأنه لا يجوز له التصرف في الجميع فلم
يجز له التصرف في البعض كما قبل القبض، فإن قبضه بالوزن فهو كما لو قبضه
جزافاً، فأما إن أعلمه بكيلة ثم باعه إياه مجازفة على أنه له بذلك الثمن
سواء زاد أو نقص لم يجز لما روى الأثرم باسناده عن الحكم قال: قدم طعام
لعثمان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " إذهبوا بنا إلى عثمان
نعينه على طعامه " فقام إلى جنبه فقال عثمان في هذه الغرارة كذا وكذا
وأبيعها بكذا وكذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا سميت الكيل
فكل " قال أحمد إذا أخبره البائع أن في كل قارورة منها كذا رطلاً فأخذ بذلك
ولا يكتاله فلا يعجبني لقوله فعثمان " إذا سميت الكيل فكل " قيل له إنهم
يقولون إذا فتح فسد.
قال فلم لا يفتحون واحدة ويتركون الباقي (فصل) ولو كان طعاماً وآخر يشاهده
فلمن شاهد الكيل شراؤه بغير كيل ثان لأنه شاهد كيله أشبه مالو كيل له وعنه
يحتاج إلى كيل للخبر وكالبيع الأول ولو كاله بائع للمشتري ثم اشتراه منه
فكذلك لما ذكرنا، ولو اشترى اثنان طعاماً فاكتالاه ثم اشترى أحدهما حصة
شريكه قبل تفرقهما فهو جائز، وإن لم يحضر المشتري الكيل لم يجز إلا بكيل.
وقال ابن أبي موسى فيه رواية أخرى
لابد من كيله، وإن باعه الثاني في هذه المواضع على أنه صبرة جاز ولم يحتج
إلى كيل ثان ينقله كالصبرة (فصل) قال أحمد في رجل يشتري الجوز فيعد في مكيل
ألف جوزه ثم يأخذ الجوز كله على ذلك العيار لا يجوز.
وقال في رجل ابتاع أعكاماً كيلا وقال للبائع كل لي عكما منها وأخد ما بقي
على هذا الكيل أكره هذا حتى يكيلها كلها.
قال الثوري كان أصحابنا يكرهون هذا وذلك لأن ما في
(4/36)
العكوم يختلف فلا يعلم ما في بعضها بكيل
البعض، والجوز يختلف فيكون في أحد المكيلين أكثر من الآخر فلا يصح تقديره
بالكيل كما لا يصح تقدير المكيل بالوزن ولا الموزون بالكيل (فصل) وإن باع
الأدهان في ظروفها جملة وقد شاهدها جاز لأن أجزاءها لا تختلف فهي كالصبرة
وكذلك الحكم في العسل والدبس والخل وسائر المائعات التي لا تختلف، فإن باعه
كل رطل بدرهم أو باعه رطلاً منه أو أرطالاً معلومة يعلم أن فيها أكثر منها
أو باعه أجزاء مشاعة أو أجزاء أو باعه إياه مع الظرف بعشرة دراهم أو بثمن
معلوم جاز، وإن باعه السمن والظرف كل رطل بدرهم وهما يعلمان مبلغ كل واحد
منهما صح لأنه قد علم المبيع والثمن، وإن لم يعلما ذلك جاز أيضاً لأنه قد
رضي أن يشتري الظرف كل رطل بدرهم وما فيه كذلك فأشبه مالو اشترى ظرفين في
أحدهما سمن وفي آخر زيت كل رطل بدرهم.
وقال القاضي لا يصح لأن وزن الظرف يزيد وينقص فيدخل على غرر.
والأول أصح لأن بيع كل واحد منهما منفرداً يصح كذلك، فكذلك إذا جمعهما
كالأرض المختلفة الأجزاء والثياب وغيرها.
فأما إن باعه كل رطل بدرهم على أن يزن الظرف فيحسب عليه بوزنه ولا يكون
مبيعاً وهما يعلمان زنة كل واحد منهما صح لأنه إذا علم أن الدهن عشرة
والظرف رطل كان معناه بعتك عشرة أرطال باثني عشر درهما، وإن كانا لا يعلمان
زنة الظرف والدهن لم يصح لأنه يؤدي إلى جهالة الثمن في الحال، وسواء جهلا
زنتهما جميعاً أو زنة أحدهما كذلك (فصل) وإن وجد في ظرف الدهن ربا فقال ابن
المنذر قال أحمد واسحاق إن كان سمانا عنده سمن أعطاه بوزنه سمناً، وإن لم
يكن عنده سمن أعطاه بقدر الرب من الثمن وألزمه شريح بقدر الرب سمناً بكل
حال، وقال الثوري إن شاء أخذ الذي وجد ولا يكلف أن يعطيه بقدر الرب سمناً.
ولنا أنه وجد المبيع بكيل ناقصاً فأشبه ما لو اشترى صبرة فوجد تحتها ربوة
أو اشتراها على أنها عشرة أقفزة فبانت تسعة فإنه يأخذ الموجود بقسطه من
الثمن، كذلك هذا فعلى هذا إنما يأخذ الموجود بقسطه من الثمن ولا يلزم
البائع أن يعطيه سمناً سواء كان موجوداً عنده أو لم يكن، فإن تراضيا على
إعطائه سمناً جاز (فصل) وإن باعه بمائة درهم إلا ديناراً لم يصح ذكره
القاضي لأنه قصد استثناء قيمة الدينار وذلك غير معلوم، واستثناء المجهول من
المعلوم يصيره مجهولاً ولأنه استثناء من غير الجنس فلم يصح كما لو قال
بمائة إلا قفيزاً من حنطة ويجئ على قول الخرقي أنه يصح فيمن استثنى في
الإقرار عيناً من ورق أو ورقاً من عين فإنه يصح، فعلى هذا يحذف من الجملة
بقيمة الدينار، ولو قال بمائة إلا قفيزاً من حنطة لم يصح لأنه استثناء من
غير الجنس.
فأما الذهب والفضة فهما كالجنس الواحد (فصل في تفريق الصفقة) (وهو أن يجمع
بين ما يجوز بيعه وبين ما لا يجوز) صفقة واحدة بثمن واحد (وله ثلاث صور
(إحداها) أن يبيع معلوماً ومجهولاً) كقولك بعتك هذه الفرس وما في بطن هذه
الفرس الأخرى بكذا فهذا بيع باطل بكل حال ولا أعلم في بطلانه خلافاً لأن
المجهول لا يصح بيعه بجهالته والمعلوم مجهول الثمن ولا سبيل إلى معرفته لأن
معرفته إنما تكون بتقسيط الثمن عليهما والمجهول لا يمكن تقويمه فيتعذر
التقسيط
(4/37)
(الثانية) باع مشاعاً بينه وبين غيره بغير
إذن شريكه كعبد مشترك بينهما أو ما يقسم عليه الثمن بالأجزاء كقفيزين
متساويين لهما فيصح في ملكه بقسطه من الثمن ويفسد في نصيب الآخر، والثاني
لا يصح فيهما وأصل الوجهين أن أحمد نص فيمن تزوج حرة وأمة على روايتين
(إحداهما) يفسد فيهما (والثانية) يصح في الحرة.
الوجه الأول قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي، وقال في الآخر لا يصح
وهو قول أبي ثور لأن الصفقة جمعت حلالاً وحراماً فغلب التحريم، ولأن الصفقة
إذا لم يمكن تصحيحها في جميع المعقود عليه بطلت في الكل كالجمع بين الأختين
وبيع درهم بدرهمين، ووجه الأول أن كل واحد منهما له حكم لو كان منفرداً
فإذا جمع بينهما ثبت لكل واحد حكمه كما لو باع شقصا وسيفاً ولأن ما يجوز
بيعه قد صدر فيه البيع من أهله في محله بشرطه فصح كما لو انفرد، ولأن البيع
سبب اقتضى الحكم في محلين
فامتنع حكمه في أحد المحلين لنبوته عن قبوله فيصح في الآخر كما لو وصى بشئ
لآدمي وبهيمة.
وأما الدرهمان والأختان فليس واحد منهما أولى بالفساد من الآخر فلذلك فسد
فيهما وهذا بخلافه (فصل) ومتى حكمنا بالصحة ههنا وكان المشتري عالماً
بالحال فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة وإن لم يعلم مثل أن اشترى عبداً
يظنه كله للبائع فبان أنه لا يملك إلا نصفه فله الخيار بين الفسخ والإمساك
لأن الصفقة تبعضت عليه، وأما البائع فلا خيار له لأنه رضي بزوال ملكه عما
يجوز بقسطه ولو وقع العقد على شيئين يفتقر الى القبض فيهما فتلف أحدهما قبل
قبضه، فقال القاضي للمشتري الخيار بين إمساك الباقي بحصته وبين الفسخ لأن
حكم ما قبل القبض في كون المبيع من ضمان البائع حكم ما قبل العقد بدليل أنه
لو تعيب قبل قبضه ملك المشتري الفسخ به (الثالثة باع عبده وعبد غيره بغير
إذنه أو عبداً وحراً أو خلاً وخمراً ففيه روايتان) اختلفت الرواية عن أحمد
في هذا المسألة فنقل صالح عن أحمد فيمن اشترى عبدين فوجد أحدهما حراً رجع
بقيمته من الثمن، ونقل عنه مهنا فيمن تزوج امرأة على عبدين فوجد أحدهما
حراً فلها قيمة العبدين فأبطل الصداق فيهما جميعاً.
وللشافعي قولان كالروايتين وأبطل مالك العقد فيهما إلا أن يبيع ملكه وملك
غيره فيصح في ملكه يقف في ملك غيره على الإجازة ونحوه قول أبي حنيفة فإنه
قال إن كان أحدهما لا يصح بيعه بنص أو بإجماع كالحر والخمر لم يصح العقد
فيهما وإن لم يثبت بذلك كملكه وملك غيره صح فيما يملكه لان ما اختلف فيه
يمكن أن يلحقه حكم الإجازة بحكم حاكم بصحة بيعه، وقال أبو ثور لا يصح بيعه
لما تقدم في القسم الثاني، ولأن الثمن مجهول لأنه إنما يبين بالتقسيط للثمن
على القيمة وذلك مجهول في الحال فلم يصح البيع به كما لو قال بعتك هذه
السلعة برقمها أو بحصتها من رأس المال، ولأنه لو صرح به فقال بعتك هذا
بقسطه من الثمن لم يصح فكذلك إذا لم يصرح وهذا هو الصحيح إن شاء الله تعالى
ووجه الرواية الأولى أنه متى سمى ثمناً في مبيع فتقسط بعضه لا يوجب جهالة
تمنع الصحة كما لو وجد بعض المبيع معيباً فأخذ أرشه، وإذا قلنا بالصحة
فللمشتري الخيار إذا لم يكن عالماً كالقسم
(4/38)
الثاني لتبعض الصفقة عليه والحكم في الرهن
والهبة وسائر العقود إذا جمعت ما يجوز وما لا يجوز كالحكم في البيع إلا أن
الظاهر فيها الصحة لأنها ليست عقود معاوضة فلا تؤثر جهالة العوض فيها (فصل)
وإن وقع العقد على مكيل أو موزون فتلف بعضه قبل قبضه لم ينفسخ العقد في
الباقي رواية واحدة سواء كانا من جنس واحد أو جنسين ويأخذ المشتري الباقي
بحصته من الثمن لأن العقد وقع صحيحاً فذهاب بعضه لا يفسخه كما بعد القبض
وكما لو وجد أحد المبيعين معيباً فرده أو أقال أحد المتبايعين الآخر في بعض
المبيع {مسألة} (وإن باع عبده وعبد غيره بإذنه بثمن واحد فهل يصح؟ على
وجهين) (أحدهما) يصح فيهما ويتقسط الثمن على قدر قيمتهما وهو قول مالك وأبي
حنيفة وأحد قولي الشافعي لأن جملة الثمن معلومة فصح كما لو كانا لرجل واحد
وكما لو باعا عبداً واحدا لهما (والثاني) لا يصح لأن كل واحد منهما مبيع
بقسطه من الثمن وهو مجهول على ما قدمنا وفارق ما إذا كانا لرجل واحد فإن
جملة المبيع مقابلة بجملة الثمن من غير تقسيط والعبد المشترك ينقسم عليه
الثمن بالأجزاء فلا جهالة فيه، فأما إن باع قفيزين متساويين له ولغيره بثمن
واحد بإذنه صح لأن الثمن يتقسط عليهما بالأجزاء فلا يفضي إلى جهالة الثمن،
وكذلك إن باعه عبداً لهما بثمن واحد صح لما ذكرنا {مسألة} (وإن جمع بين بيع
وإجارة، أو بيع وصرف صح فيهما ويقسط العوض عليهما في أحد الوجهين) إذا جمع
بين عقدين مختلفي الحد كالبيع والإجارة والبيع والصرف بعوض واحد صح فيهما
لأن اختلاف حكم العقدين لا يمنع الصحة كما لو جمع ما فيه شفعة وما لا شفعة
فيه، وكذلك إن باع سيفاً محلى بذهب وفضة، وفيه وجه آخر أنه لا يصح لأن
حكمهما مختلف وليس أحدهما أولى من الآخر فبطل فيهما فإن البيع فيه خيار ولا
يشترط فيه التقابض في المجلس، ولا ينفسخ العقد بتلف المبيع والصرف يشترط له
التقابض، وينفسخ العقد بتلف العين.
وإن جمع بين نكاح وبيع بعوض واحد فقال زوجتك ابنتي وبعتك داري بمائة صح
النكاح لكونه لا يفسد بفساد العوض وفي البيع وجهان وللشافعي قولان كالوجهين
{مسألة} (وإن جمع بين كتابه وبيع فكاتب عبده وباعه شيئاً صفقة واحدة مثل أن
يقول بعتك
عبدي هذا وكاتبتك بمائة كل شهر عشرة بطل البيع وجهاً واحداً) لأنه باع عبده
لعبد فلم يصح كبيعه إياه من غير كتابة وهل تبطل الكتابة؟ ينبني على روايتين
في تفريق الصفقة (فصل) قال رضي الله عنه (ولا يصح البيع ممن تلزمه الجمعة
بعد ندائها) لا يحل البيع بعد نداء الجمعة قبل الصلاة لمن تجب عليه الجمعة
لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة
فاسعوا إلى ذكر الله تعالى وذروا البيع) فإن باع لم يصح البيع للنهي عنه.
والنداء الذي يتعلق به المنع هو النداء عقيب جلوس الإمام على المنبر لأنه
النداء الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلق الحكم به،
والنداء الثاني زيد في زمن عثمان رضي الله عنه، وحكي القاضي رواية عن أحمد
أن البيع يحرم
(4/39)
بزوال الشمس وإن لم يجلس الإمام على
المنبر، ولا يصح هذا لأن الله تعالى علقه على النداء لا على الوقت، ولأن
المقصود بهذا إدراك الجمعة وهو حاصل بما ذكرنا دون ما ذكره، ولا نه لو اختص
تحريم البيع بالوقت لما اختص بالزوال فإن ما قبله وقت أيضا، فأما من لا تجب
عليه الجمعة من النساء والمسافرين وغيرهم فلا يثبت في حقه هذا الحكم وذكر
ابن أبي موسى فيه روايتين لعموم النهي، والصحيح ما ذكرنا إن شاء الله تعالى
فإن الله تعالى إنما نهى عن البيع من أمره بالسعي فغير المخاطب بالسعي لا
يتناوله النهي، ولأن تحريم البيع معلل بما يحصل به من الاشتغال عن الجمعة
وهذا معدوم في حقهم، فان كان المسافر في غير المصر أو كان مقيماً بقرية
لاجمعة على أهلها لم يحرم البيع ولم يكره وجهاً واحدا، فإن كان أحدهما
مخاطباً بالجمعة دون الآخر حرم على المخاطب وكره للآخر لما فيه من الإعانة
على الإثم، ويحتمل أن يحرم لقوله تعالى (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)
{مسألة} (ويصح النكاح وسائر العقود في أصح الوجهين كالإجارة والصلح ونحوهما
وفيه وجه آخر أنه يحرم ولا يصح لأنه عقد معاوضة أشبه البيع.
ولا أن النهي مختص بالبيع وغيره لا يساويه في الشغل عن السعي لقلة وجوده
فلا يؤدي إلى ترك الجمعة فلا يصح قياسه على البيع) {مسألة} (ولا يصح بيع
العصير لمن يتخذه خمراً، ولا بيع السلاح في الفتنة ولا لأهل الحرب ويحتمل
أن يصح مع التحريم)
بيع العصير ممن يعتقد أنه يتخذه خمراً محرم وكرهه الشافعي، وذكر بعض أصحابه
إن البائع إذا اعتقد أنه يصيره خمراً محرم وإنما يكره إذا شك فيه، وحكى ابن
المنذر عن الحسن وعطاء والثوري أنه لا بأس ببيع التمر ممن يتخذه مسكراً،
قال الثوري بع الحلال من شئت لقول الله تعالى (وأحل الله البيع) ولأن البيع
تم بأركانه وشروطه، ولنا قول الله تعالى (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)
وهذا نهي يقتضي التحريم، وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم
أتاه جبريل فقال يا محمد: إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها، وحاملها
والمحمولة إليه، وشاربها وبائعها ومبتاعها وساقيها، وأشار إلى كل معاون
عليها ومساعد فيها.
أخرجه الترمذي من حديث أنس، وقد روى هذا الحديث عن ابن عباس وابن عمر عن
النبي صلى الله عليه وسلم وروى ابن بطة باسناده عن محمد ابن سيرين أن قيماً
كان لسعد بن أبي وقاص في أرض له، وأخبره عن عنب أنه لا يصلح زبيباً ولا
يصلح أن يباع إلا لمن يعصره فأمره بقلعه وقال بئس الشيخ أنا إن بعت الخمر،
ولأنه يعقد عليها لمن يعلم أنه يريدها للمعصية فأشبه إجارة أمته لم يعلم
أنه يستأجرها للزنا بها والآية مخصوصة بصور كثيرة فيخص منها صورة النزاع
بدليلنا، وقولهم تم البيع بشروطه وأركانه قلنا لكن وجد المانع منه إذا ثبت
هذا فإنما يحرم البيع إذا علم البائع قصد المشتري ذلك إما بقوله أو بقرائن
محتفه بقوله تدل عليه، وإن كان الأمر محتملاً كمن لا يعلم حالة أو من يعمل
الخل والخمر معاً ولم يلفظ بما يدل على إرادة الخمر فالبيع جائز.
فإن باعها لمن يتخذها خمراً فالبيع باطل ويحتمل أن يصح، وهو مذهب الشافعي
(4/40)
لأن المحرم في ذلك اعتقاده بالعقد دونه فلم
يمنع صحة العقد كما لو دلس العيب ولنا أنه عقد على عين لمعصية الله تعالى
بها فلم يصح كإجارة الأمة للزنا والغناء، وأما التدليس فهو المحرم دون
العقد ولأن التحريم هنا لحق الله تعالى فأفسد العقد كبيع الربا وفارق
التدليس فإنه لحق آدمي (فصل) وهكذا الحكم في كل ما قصد به الحرام كبيع
السلاح في الفتنة أو لأهل الحرب أو لقطاع الطريق، وبيع الأمة للغناء أو
إجارتها لذلك فهو حرام والعقد باطل لما قدمنا.
قال ابن عقيل
وقد نص أحمد على مسائل نبه بها على ذلك فقال في القصاب والخباز إذا علم أن
من يشتري منه يدعو عليه من يشرب المسكر لا يبيعه، ومن يخرط الأقداح لا
يبيعها لمن يشرب فيها ونهى عن بيع الديباج للرجال ولا بأس ببيعه للنساء،
وروي عنه لا يبيع الجوز من الصبيان للقمار وعلى قياسه البيض فيكون بيع ذلك
كله باطلاً (فصل) قال أحمد في رجل مات وخلف جارية مغنيه وولداً يتيماً وقد
احتاج إلى بيعها قال يبيعها على أنها ساذجة فقيل له إنها تساوي ثلاثين ألف
درهم فإذا بيعت ساذجة تساوي عشرين ديناراً.
فقال لاتباع الاعلى أنها ساذجة.
ووجهه ما روى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يجوز بيع
المغنيات ولا أثمانهن ولا كسبهن " قال الترمذي لا نعرفه إلا من حديث علي بن
يزيد وقد تكلم فيه بعض أهل العلم ورواه ابن ماجة وهذا يحمل على بيعهن لأجل
الغناء، فأما ماليتهن الحاصلة بغير الغناء فلا تبطل كبيع العصير لمن لا
يتخذه خمراً فإنه لا يحرم لصلاحيته للخمر (فصل) (ولايجوز بيع الخمر ولا
التوكل في بيعه ولا شرائه) قال إبن المنذر أجمع أهل العلم على أن بيع الخمر
غير جائز، وعند أبي حنيفة يجوز للمسلم أن يوكل ذمياً في بيعها وشرائها ولا
يصح.
فإن عائشة روت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " حرمت التجارة في الخمر "
وعن جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح وهو بمكة يقول " إن
الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام فقيل يا رسول الله
أرأيت شحوم الميتة فإنه تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها
الناس؟ فقال " لا، هو حرام " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " قاتل
الله اليهود، أن الله تعالى حرم عليهم شحومها فجعلوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه
" متفق عليه ومن وكل في بيع الخمر وأكل ثمنه فقد أشبههم في ذلك، ولأن الخمر
نجسه محرمة فحرم بيعها والتوكيل فيه كالميتة والخنزير {مسألة} (ولا يصح بيع
العبد المسلم لكافر إلا أن يكون ممن يعتق عليه فيصح في إحدى الروايتين) لا
يصح شراء الكافر مسلماً، وهذا إحدى الروايتين عن مالك وأحد قولي الشافعي،
وقال أبو حنيفة يصح ويجبر على إزالة ملكه لأنه يملك المسلم بالإرث ويبقى
ملكه عليه إذا أسلم في يده فصح أن يشتريه كالمسلم.
ولنا أنه يمنع استدامة ملكه عليه فمنع من ابتدائه كالنكاح ولأنه عقد يثبت
الملك
للكافر على المسلم فلم يصح كالنكاح وإنما ملكه بالإرث وبقي ملكه عليه إذا
أسلم في يده لأن الاستدامة أقوى من الابتداء بالفعل والاختيار بدليل ثبوته
بهما للحوم الصيد مع منعه من ابتدائه فلا يلزم من
(4/41)
ثبوت الاقوى ثبوت ما دونه مع أنا نقطع
الاستدامة عليه بإجباره على إزالتها، فإن كان ممن يعتق عليه بالقرابة صح في
إحدى الروايتين وعتق عليه وهذا قول بعض الأصحاب، والأخرى لا يصح ولا يعتق
لأنه شراء يملك به المسلم فلم يصح كالذي لا يعتق عليه، ولأن ما منع من
شرائه لم يبح له شراؤه وإن زال ملكه عقيب الشراء المحرم الصيد.
وجه الرواية الأولى أن الملك لا يستقر عليه وإنما يعتق بمجرد الملك في
الحال ويزول الملك عنه بالكلية ويحصل له من نفع الحرية أضعاف ما حصل من
الإماء بالملك في لحظة يسيرة.
ويفارق من لا يعتق عليه فإن ملكه لا يزول إلا بإزالته وكذا شراء المحرم
الصيد {مسألة} (وإن أسلم عبد الذمي أجبر على إزالة مكله عنه) لأنه لا يجوز
استدامة الملك للكافر على المسلم إجماعاً وليس له كتابته لأن الكتابة لا
تزيل ملك السيد عنه ولايجوز اقرار ملك الكافر عليه وقال القاضي له ذلك لأنه
يزيل يده عنه فأشبه بيعه والأول أولى {مسألة} (ولايجوز بيع الرجل على بيع
أخيه وهو أن يقول لمن اشترى سلعة بعشرة أنا أعطيك مثلها بتسعة، ولا شراؤه
على شراء أخيه وهو أن يقول لمن باع سلعة بتسعة عندي فيها عشرة ليفسخ البيع
ويعقد معه فإن فعل فهل يصح؟ على وجهين) أما البيع فهو محرم لقول النبي صلى
الله عليه وسلم " لابيع بعضكم على بيع بعض " ومعناه ما ذكرنا ومثله أن يقول
أبيعك خيراً منها بثمنها أو يعرض عليهما سلعة يرغب المشتري ليفسخ البيع
ويعقد معه فلا يجوز ذلك للنهي عنه ولما فيه من الاضرار بالمسلم والإفساد
عليه، وفي معنى ذلك شراؤه على شراء أخيه لأنه في معنى المنهي عنه، ولأن
الشراء يسمى بيعاً فيدخل في عموم النهي، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
أن يخطب الرجل على خطبة أخيه متفق عليه.
وهو في معنى الخاطب، وإن خالف وفعل فالبيع باطل للنهي عنه والنهي يقتضي
الفساد، وفيه وجه أنه يصح لأن المحرم هو عرض سلعته على المشتري أو قوله
الذي فسخ البيع من أجله وذلك سابق على البيع، ولأنه إذا صح الفسخ الذي حصل
به الضرر فالبيع
المحصل للمصلحة أولى ولأن النهي لحق آدمي فأشبه بيع النجش وهذا مذهب
الشافعي (فصل) وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "
لا يسم الرجل على سوم أخيه " ولا يخلو من أربعة اقسام (أحدها) أن يوجد من
البائع تصريح بالرضا بالبيع.
فهذا يحرم السوم على غير ذلك المشتري، وهو الذي تناوله النهي والثاني أن
يظهر منه ما يدل على عدم الرضا فلا يحرم السوم لأن النبي صلى الله عليه
وسلم باع فيمن يزيد فروى أنس أن رجلا من الأنصار شكا إلى النبي صلى الله
عليه وسلم الشدة والجهد فقال له " أما تبقى لك شئ؟ " قال بلى قدح وحلس قال
" فائتني بهما " فأتاه بهما فقال " من يبتاعهما؟ " فقال رجل أخذتهما بدرهم
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " من يزيد على درهم؟ " فأعطاه رجل درهمين
فباعهما منه: رواه الترمذي وقال حديث حسن وهذا أيضاً إجماع فإن المسلمين
يبيعون في أسواقهم بالمزايدة (الثالث) أن لا يوجد منه ما يدل على الرضا ولا
عدمه فلا يحرم السوم أيضاً ولا الزيادة استدلالاً
(4/42)
بحديث فاطمة بنت قيس حين ذكرت له أن معاوية
وأبا جهم خطباها فأمرها أن تنكح أسامة، وقد نهى عن الخطبة على خطبة أخيه
كما نهى عن السوم على سوم أخيه فما أبيح في أحدهما أبيح في الآخر (الرابع)
أن يظهر منه ما يدل على الرضا من غير تصريح.
فقال القاضي لا تحرم المساومة، وذكر أن أحمد نص عليه في الخطبة استدلالاً
بحديث فاطمة ولأن الأصل إباحة السوم والخطبة فحرم منه ما وجد فيه التصريح
بالرضا وما عداه يبقى على الأصل (قال شيخنا) لو قيل بالتحريم ههنا لكان
وجها حسناً فإن النهي عام خرجت منه الصورة المخصوصة بأدلتها فتبقى هذه
الصورة على مقتضى العموم ولأنه وجد منه دليل على الرضا أشبه مالو صرح به،
ولا يضر اختلاف الدليل بعد التساوي في الدلالة وليس في حديث فاطمة ما يدل
على الرضا لانها جات مستشيرة للنبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك دليلاً على
الرضا وكيف ترضى وقد نهاها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله " لا تفوتينا
بنفسك " فلم تكن تفعل شيئاً قبل مراجعة النبي صلى الله عليه وسلم والحكم في
الفساد كالحكم في البيع على بيع أخيه في الموضع الذي حكمنا بالتحريم فيه
(فصل) وبيع التلجئة باطل وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة والشافعي
هو صحيح
لأن البيع تم بأركانه وشروطه خالياً عن مقارنة مفسدة فصح كما لو اتفقا على
شرط فاسد ثم عقد البيع بغير شرط.
ولنا أنهما ما قصدا البيع فلم يصح منهما كالهازلين، ومعنى بيع التلجئة أن
يخاف أن يأخذ السلطان أو غيره ملكه فيواطئ رجلا على أن يظهر أنه اشتراه منه
ليحتمي بذلك ولا يريدان بيعاً حقيقيا {مسألة} (وفي بيع الحاضر للبادي
روايتان إحداهما يصح والأخرى لا يصح بخمسة شروط أن يحضر البادي لبيع سلعة
بسعر يومها جاهلاً بسعرها ويقصده الحاضر وبالناس حاجة إليها، وإن اختل شرط
منها صح البيع) البادي ههنا من يدخل البلد من غير أهلها سواء كان بدوياً أو
من قرية أو من بلدة أخرى، ولا يجوز أن يبيع الحاضر للبادي لقول ابن عباس
نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن تتلقى الركبان وأن يبيع حاضر لباد.
قال فقلت لابن عباس ما قوله حاضر لباد؟ قال لا يكون له سمساراً، متفق عليه،
وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يبيع حاضر لباد دعوا
الناس يرزق الله بعضهم من بعض " رواه مسلم والمعنى في ذلك أنه متى ترك
البدوي بيع سلعته اشتراها الناس رخص وتوسع عليهم السعر، وإذا تولى الحاضر
بيعها وامتنع من بيعها إلا بسعر البلد ضاق على أهل لبلد، وقد أشار النبي
صلى الله عليه وسلم في تعليله إلى هذا.
وممن كره بيع الحاضر للبادي طلحة بن عبيد الله وابن عمر وأبو هريرة وأنس
وعمر بن عبد العزيز ومالك والليث والشافعي، ونقل أبو إسحاق ابن شاقلا أن
الحسن بن علي المصري سأل أحمد عن بيع حاضر لباد فقال لا بأس به قال له
فالخبر الذي جاء بالنهي.
قال كان ذلك مرة، فظاهر هذا أن النهي اختص بأول الإسلام لما كان عليهم من
الضيق في ذلك.
هذا قول مجاهد وأبي حنيفة وأصحابه، والمذهب الأول لعموم النهي وما ثبت في
حقهم ثبت في حقنا ما لم يقم على اختصاصهم به دليل، وهو مذهب الشافعي وظاهر
كلام الخرقي أنه يحرم بثلاثة شروط (أحدها) أن يكون الحاضر قصد البادي
ليتولى البيع له فان كان هو القاصد للحاضر جاز لان التضيق حصل منه لامن
الحاضر.
(الثاني) أن يكون
(4/43)
البادي جاهلاً بالسعر قال أحمد في رواية
أبي طالب: إذا كان البادي عارفاً بالسعر لم يحرم لأن التوسعة لا تحصل بتركه
يبيعها لأنه لا يبيعها إلا بسعرها ظاهراً (الثالث) أن يكون قد جلب السلعة
للبيع، فأما
إن جلبها ليأكلها أو يخزنها فليس في بيع الحاضر له تضييقا بل توسعة، وذكر
القاضي شرطين آخرين (أحدهما) أن يكون مريداً لبيعها بسعر يومها، فأما إن
كان أحضرها وفي نفسه أن لا يبيعها رخيصة فليس في بيعه تضييق (الثاني) أن
يكون بالناس حاجة إليها وضرر في تأخير بيعها كالأقوات ونحوها، وقال أصحاب
الشافعي إنما يحرم بشروط أربعة وهي ما ذكرنا إلا حاجة الناس إليها فمتى
اختل شرط منها لم يحرم البيع وإن اجتمعت هذه الشروط فالبيع حرام وظاهر
المذهب أنه باطل نص عليه أحمد في رواية اسماعيل بن سعيد.
وذكر الخرقي رواية أخرى أن البيع صحيح وهو مذهب الشافعي لأن النهي لمعنى في
غير المنهي عنه فلم يبطل كتلقي الركبان ولنا أنه منهي عنه والنهي يقتضي
الفساد والله أعلم {مسألة} (فأما شراؤه له فيصح رواية واحدة) وهو قول الحسن
وكرهت طائفة الشراء لهم أيضاً كما كرهت البيع فروى أنس قال: كان يقال هي
كلمة جامعة يقول لا تبيعن له شيئاً ولا تبتاعن له شيئا وهو إحدى الروايتين
عن مالك ولنا أن النهي غير متناول للشراء بلفظه ولا هو في معناه فإن النهي
عن البيع للرفق بأهل الحضر ليتسع عليهم السعر ويزول عنهم الضرر، وليس ذلك
في الشراء لهم ولا يتضررون لعدم الغبن للبادين بل هو دفع الضرر عنهم والخلق
في نظر الشارع على السواء فكما شرع ما يدفع الضرر عن أهل الحضر لا يلزم أن
يلزم أهل البدو الضرر.
فأما إن أشار الحاضر على البادي من غير أن يباشر البيع فقد رخص فيه طلحة بن
عبيد الله والاوزاعي وابن المنذر وكرهه مالك والليث وقول الصحابي أولى
(فصل) وليس للإمام أن يسعر على الناس بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون
وهذا مذهب الشافعي، وكان مالك يقول يقال لمن يريد أن يبيع أقل ما يبيع
الناس بع كما يبيع الناس وإلا فاخرج عنا، واحتج بما روي الشافعي وسعيد بن
منصور عن داود بن صالح التمار عن القاسم بن محمد عن عمر أنه مر بحاطب في
سوق المصلى وبين يديه غرارتان فيهما زبيب فسأله عن سعرهما فسعر له مدين بكل
درهم فقال له عمر قد حدثت بعير مقبلة من الطائف تحتمل زبيباً وهم يعتبرون
سعرك فإما أن ترفع في السفر وإما أن تدخل زبيبك فتبيعه كيف شئت ولأن في ذلك
إضراراً بالناس إذا زاد وإذا نقص أضر بأصحاب المتاع.
ولنا ما روى أبو داود والترمذي وابن ماجة عن أنس قال: غلا السعر على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالوا يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا فقال " إن الله هو المسعر القابض
الباسط الرازق إني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد يطلبني بمظلمة في دم ولا
مال " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وعن أبي سعيد مثله فوجه الدلالة من وجهين (أحدهما) أنه لم يسعر وقد سألوه
ذلك ولو جاز لا جابهم إليه (الثاني) أنه علل بكونه مظلمة والظلم حرام ولأنه
ماله فلم يجز منعه من بيعه بما تراضى عليه المتبايعان كما لو اتفق الجماعة
عليه، والظاهر أنه سبب الغلاء لأن الجالبين إذا بلغهم ذلك لم يقدموا
بسلعتهم بلداً يكرهون على بيعها فيه بغير ما يريدون ومن عنده البضاعة يمتنع
من بيعها ويكتمها ويطلبها المحتاج
(4/44)
ولا يجدها إلا قليلاً فيرفع في ثمنها
ليحصلها فتغلو الأسعار ويحصل الأضرار بالجانبين جانب الملاك في منعهم من
بيع أملاكهم، وجانب المشتري في منعه من الوصول إلى غرضه فيكون حراماً، فأما
حديث عمر فقد روي فيه سعيد والشافعي أن عمر لما رجع حاسب نفسه ثم أتى
حاطباً في داره فقال: أن الذي قلت لك ليس بعزيمة مني ولا قضاء وانما هو شئ
أردت به الخير لأهل البلد فحيث شئت فبع كيف شئت وهذا رجوع إلى ما قلنا وما
ذكروه من الضرر موجود فيما إذا باع في بيته ولا يمنع منه {مسألة} (من باع
سلعة بنسيئة لم يجز أن يشتريها بأقل مما باعها إلا أن تكون قد تغيرت صفتها،
وإن اشتراها أبوه أو ابنه جاز) من باع سلعة بثمن مؤجل ثم اشتراها بأقل منه
نقداً لم يجز روى ذلك عن ابن عباس وعائشة والحسن وابن سيرين والشعبي
والنخعي وبه قال الثوري والاوزاعي ومالك واسحاق وأصحاب الرأي وأجازه
الشافعي لأنه ثمن يجوز بيعها به من غير بائعها فجاز من بائعها كما لو باعها
بمثل ثمنها ولنا ما روى غندر عن شعبة عن أبي إسحاق السبيعي عن امرأته
العالية بنت أيفع بن شرحبيل أنها قالت دخلت أنا وأم ولد زيد بن أرقم
وامرأته على عائشة فقالت أم ولد زيد بن أرقم إني بعت غلاما من زيد بن أرقم
بثمانمائة درهم إلى العطاء ثم اشتريته منه بستمائة درهم فقالت لها: بئس ما
شريت بئس ما اشتريت أبلغي زيد بن أرقم قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم ألا إن يتوب.
رواه أحمد وسعيد بن منصور، والظاهر أنها لا تقول مثل هذا التغليظ وتقدم
عليه إلا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم
فجرى مجرى روايتها ذلك عنه لأن ذلك ذريعة إلى الربا فإنه يدخل السلعة
ليستبيح بيع ألف بخمسمائة إلى أجل، ولذلك قال ابن عباس في مثل هذه المسألة
أرى مائة بخمسين بينهما حريرة يعني خرقة حرير جعلاها في بيعهما والذرائع
معتبرة، فأما إن باعها بمثل الثمن أو أكثر جاز لأنه لا يكون ذريعة وهذا إن
كانت السلعة لم تنقص عن حالة البيع، فإن نقصت مثل أن هزل العبد أو نسي
متاعه أو تخرق الثوب ونحوه جاز له شراؤها بما شاء لأن نقص الثمن لنقص
المبيع لا للتوسل إلى الربا (فصل) فإن اشتراها بعرض أو كان بيعها الأول
بعرض فاشتراها بنقد جاز ولا نعلم فيه خلافا لأن التحريم إنما كان لشبهة
الربا ولا ربا بين الأثمان والعروض، فإن باعها بنقد ثم اشتراها بنقد آخر
فقال أصحابنا يجوز لأنهما جنسان لا يحرم التفاضل بينهما أشبه ما لو اشتراها
بعرض، وقال أبو حنيفة لا يجوز استحساناً لأنهما كالشئ الواحد في معنى
الثمنية ولان ذلك يتخذ وسيلة إلى الربا فهو كما لو باعها بجنس الثمن الأول
قال شيخنا وهذا أصح إن شاء الله تعالى وهذه المسألة تسمى مسألة العينة قال
الشاعر: أندان أم نعتان أم ينبري لنا * فتى مثل نصل السيف ميزت مضاربة
ومعنى نعتان أي نشتري عينه كما وصفنا، وقد روى أبو داود بإسناده عن ابن عمر
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم
أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى
ترجعوا إلى دينكم " وهذا وعيد يدل على التحريم، وقد روي عن أحمد أنه قال:
العينة أن يكون عند الرجل المتاع فلا يبيعه إلا بنسيئة فإن باع بنقد ونسيئة
فلا بأس وقال أكره
(4/45)
للرجل أن لا يكون له تجارة غير العينة لا
يبيع بنقد قال ابن عقيل إنما كره النسيئة لمضارعته الربا فإن البائع بنسيئة
يقصد الزيادة بالاجل غالبا ويجوز أن تكون العينة اسماً لهذه المسألة وللبيع
نسيئة جميعاً لكن البيع بنسيئة مباح اتفاقاً ولا يكره إلا أن لا يكون له
تجارة غيره (فصل) فإن باع سلعة بنقد ثم اشتراها بأكثر منه نسيئة فقال أحمد
في رواية حرب لا يجوز إلا أن تتغير السلعة لأن ذلك يتخذ وسيلة إلى الربا
فهي كمسألة العينة، فإن اشتراها بسلعة أخرى أو بأقل من ثمنها أو بمثله
نسيئة جاز لما ذكرنا في مسألة العينة، وإن اشتراها بنقد آخر بأكثر من ثمنها
فهو كمسألة العينة على ما ذكرنا من الخلاف، قال شيخنا ويحتمل أن يكون له
شراؤها بجنس الثمن بأكثر منه إذ لم يكن ذلك عن مواطأة ولا حيلة بل وقع
اتفاقاً من غير قصد لأن الأصل حل البيع وإنما حرم في مسألة العينة للأثر
الوارد فيه وليس هذا في معناه لأن التوسل بذلك أكثر فلا يلحق به ما دونه
(فصل) وفي كل موضع قلنا لا يجوز له أن يشتري لا يجوز ذلك لوكيله لأنه قائم
مقامه ويجوز لغيره من الناس سواء كان أباه أو ابنه أو غيرهما لأنه غير
البائع اشترى بنسيئة أشبه الأجنبي {مسألة} (وإن باع ما يجري فيه الربا
بنسئية ثم اشترى منه بثمنه قبل قبضه من جنسه أو ما لا يجوز بيعه به نسيئة
لم يجز) روى ذلك عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وطاوس وبه قال مالك وإسحاق
وأجازه جابر بن زيد وسعيد بن جبير وعلي بن حسين والشافعي وابن المنذر
وأصحاب الرأي.
قال علي بن حسين إذا لم يكن لك في ذلك رأي.
وروى محمد بن عبد الله بن أبي مريم قال بعت تمراً من التمارين كل سبعة آصع
بدرهم ثم وجدت عند رجل منهم تمراً يبيعه أربعة آصع بدرهم فاشتريت منه فسألت
عكرمة عن ذلك فقال لا بأس أخذت أنقص مما بعت، ثم سألت سعيد بن المسيب عن
ذلك وأخبرته بقول عكرمة فقال كذب قال عبد الله ابن عباس ما بعت من شئ مما
يكال بمكيال فلا تأخذ منه شيئاً مما يكال بمكيال إلا ورقاً أو ذهباً، فإذا
أخذت ذلك فابتع ممن شئت منه أو من غيره، فرجعت فإذا عكرمة قد طلبني فقال
الذي قلت لك هو حلال هو حرام، فقلت لسعيد بن المسيب ان فضل لي عنده فضل قال
فاعطه أنت الكسر وخذ منه الدراهم ووجه تحريم ذلك أنه ذريعة إلى بيع الطعام
بالطعام نسيئة فحرم كمسألة العينة، وقد نص أحمد على ما يدل على هذا، قال
شيخنا والذي يقوى عندي جواز ذلك إذا لم يفعله حيلة ولاقصد ذلك في ابتداء
العقد كما قال علي بن الحسين فيما روى عنه عبد الله بن زيد قال قدمت على
علي بن الحسين فقلت له إني أجذ نخلي وأبيع فيمن حضرني إلى أجل فيقدمون
بالحنطة وقد حل الاجل فيوقفونها بالسوق فابتاع منهم وأقاصهم، قال لا بأس
بذلك إذا لم يكن منك على رأي وذلك لأنه اشترى الطعام بالدراهم التي في
الذمة بعد لزوم العقد الأول فصح كما لو كان المبيع الأول حيواناً أو ثياباً
ولما ذكرنا في الفصل الذي قبل هذا، فإن لم يأخذ بالثمن طعاماً لكن اشترى من
المشتري طعاماً بدراهم
وسلمها إليه ثم أخذها منه وفاء أو لم يسلمها إليه لكن قاصه بها جاز كما في
حديث علي بن الحسين (فصل) والاحتكار حرام لما روى أبو أمامة أن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى أن يحتكر الطعام، وعن
(4/46)
سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال " من احتكر فهو خاطئ رواهما الأثرم، وروي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون " والاحتكار المحرم ما جمع
ثلاثة شروط: (أحدها) أن يشتري فلو جلب شيئاً أو أدخل عليه من غلته شيئاً
فادخره لم يكن محتكراً روى ذلك عن الحسن ومالك، قال الاوازعي الجالب ليس
بمحتكر لقوله " الجالب مرزوق والمحتكر ملعون " ولأن الجالب لا يضيق على أحد
ولا يضر بل ينفع، فإن الناس إذا علموا أن عنده طعاماً معداً للبيع كان أطيب
لقلوبهم (الثاني) أن يكون قوتاً، فأما الادام والعسل والزيت وعلف البهائم
فليس احتكاره بمحرم.
قال الأثرم سئل أبو عبد الله عن أي شئ الاحتكار؟ قال إذا كان من قوت الناس
فهذا الذي يكره وهذا قول عبد الله بن عمرو، وكان سعيد بن المسيب يحتكر
الزيت وهو راوي حديث الاحتكار، قال أبو داود وكان يحتكر النوى والخبط
والبزر ولأن هذه الأشياء لاتعم الحاجة إليها أشبهت الثياب والحيوان
(الثالث) أن يضيق على الناس بشرائه ولا يحصل ذلك إلا بأمرين (أحدهما) أن
يكون في بلد يضيق بأهله الاحتكار كالحرمين والثغور قاله أحمد، فظاهر هذا أن
البلاد الواسعة الكبيرة كبغداد والبصرة ومصر ونحوها لا يحرم فيها الاحتكار
لأن ذلك لا يؤثر فيها غالباً (الثاني) أن يكون في حال الضيق بأن يدخل البلد
قافلة فيتبادر ذوو الأموال فيشترونها ويضيقون على الناس، وأما ان اشتراه في
حال الاتساع والرخص على وجه لا يضيق على أحد لم يحرم (فصل) ويستحب الإشهاد
في البيع لقوله تعالى (وأشهدوا إذا تبايعتم) أقل أحوال الأمر الندب ولأنه
أقطع للنزاع وأبعد من التجاحد، ويختص ذلك ماله خطر فأما مالا خطر له كحوائج
البقال والعطار وشبهها فلا يستحب ذلك فيها لأنها تكثر فيشق الاشهاد عليها
وتقبح إقامة البينة عليها، والترافع إلى الحاكم بخلاف الكثير وليس ذلك
بواجب في واحد منها ولا شرطاً له روى ذلك عن أبي سعيد الخدري وهو قول
الشافعي وأصحاب الرأى واسحاق، وقال قوم هو فرض لا يجوز تركه
روى ذلك عن ابن عباس وممن رأى الإشهاد في البيع عطاء وجابر بن زيد والنخعي
لظاهر الأمر قياساً على النكاح.
ولنا قوله تعالى (فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته) قال أبو
سعيد: صار الأمر الى الأمانة وتلا هذه الآية، ولأن النبي صلى الله عليه
وسلم اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعه ومن رجل سراويل ومن أعرابي فرساً
فجحده الأعرابي حتى شهد له خزيمة بن ثابت، ولم ينقل أنه أشهد في شئ من ذلك
وكان الصحابة يتبايعون في عصره في الأسواق فلم يأمرهم بالإشهاد ولانقل عنهم
فعله ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ولو كانوا يشهدون في كل
بياعاتهم لنقل، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم عروة بن الجعد البارقي أن
بشتري له أضحية ولم يأمره بالإشهاد، ولأن المبايعة تكثر بين الناس في
أسواقهم وغيرها فلو وجب الإشهاد في كل ما يتبايعونه أفضى إلى الحرج المحطوط
عنا بقوله تعالى (ما جعل عليكم في الدين من حرج) والآية المراد بها الإرشاد
إلى حفظ الأموال والتعليم كما أمر بالرهن والكاتب، وليس بواجب وهذا ظاهران
شاء الله تعالى (فصل) ويكره البيع والشراء في المسجد لما روى أبو هريرة أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد
فقولوا لا أربح الله تجارتك " رواه الترمذي وقال حديث حسن غريب وقال
(4/47)
قوم لا بأس به.
والصحيح الأول للحديث المذكور فإن باع فالبيع صحيح لأنه تم بأركانه وشروطه
ولم يثبت وجود مفسد له وكراهة ذلك لا توجب الفساد كالغش في البيع والتدليس
والتصرية، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم " قولوا لا أربح الله تجارتك "
من غير أخبار بفساد البيع دليل على صحته والله أعلم {بسم الله الرحمن
الرحيم} باب الشروط في البيع وهي ضربان: صحيح وهو ثلاثة أنواع (أحدها) شروط
من مقتضى البيع كالتقابض وطول الثمن ونحوه فهذا لا يؤثر فيه لأنه بيان
وتأكيد لمقتضى العقد فوجوده كعدمه (الثاني) شرط من مصلحة العقد كاشتراط صفة
في الثمن كتأجيله أو الرهن أو الضمين أو الشهادة أو صفة في المبيع مقصودة
نحو كون العبد كاتباً أو خطيباً أو صانعاً أو مسلماً أو الأمة بكراً أو
الدابة هملاجة أو الفهد صيوداً فهو شرط صحيح يلزم الوفاء به فإن لم يف به
فللمشتري الفسخ والرجوع بالثمن والرضا به لأنه شرط وصفاً مرغوباً فيه فصار
الشرط مستحقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم " المؤمنون عند شروطهم " ولا
نعلم في صحة هذين القسمين خلافاً {مسألة} (فإن شرطها ثيباً كافرة فبانت
بكراً مسلمة فلا فسخ له لأنه زاده خيراً وليس ذلك يزيد في الثمن فاشبه مالو
شرطه غير صانع فبان صانعاً) وهذا قول الشافعي في البكر واختيار القاضي
واستبعد كونه يقصد الثيوبة لعجزه عن البكر ويحتمل أن له الفسخ لأن له فيه
قصداً صحيحاً وهو أن طالب الكافرة أكثره لصلاحيتها للمسلمين والكفار أو
ليستريح من تكليفها العبادات وقد يشترط الثيب لعجزه عن البكر أو لبيعها
لعاجز عن البكر فقد فات قصده وقد دل اشتراطه على أن له قصداً صحيحاً.
فأما إن شرط صفة غير مقصودة فبانت بخلافها مثل أن يشرطها سبطة فبانت جعده
أو جاهلة فبانت عالمة فلا خيار له لأنه زاده خيراً.
(فصل) فإن شرط الشاة لبوناً صح وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة لا يصح
لأنه لا يجوز بيع اللبن في الضرع فلم يجز شرطه، ولنا أنه أمر مقصود يتحقق
من الحيوان ويأخذ قسطاً من الثمن فصح اشراطه كالصناعة في الأمة والهملجة في
الدابة وإنما لم يجز بيعه مفرداً للجهالة والجهالة فيما كان تبعاً لا تمنع
الصحة ولذلك لو اشتراها بغير شرط صح بيعه معها.
وكذلك يصح بيع أساسات الحيطان والنوى في التمر وإن لم يجز بيعهما منفردين
فإن شرط أنها تحلب قدراً معلوما لم يصح لأن اللبن يختلف ولا يمكن ضبطه
فتعذر الوفاء به، وإن شرطها غزيرة اللبن صح لأنه يمكن الوفاء به وإن شرطها
حاملاً صح.
وقال القاضي قياس المذهب أن لا يصح لأن الحمل لاحكم له.
ولهذا لا يصح اللعان على الحمل ويحتمل أنه ريح ولنا أنه صفة مقصودة يمكن
الوفاء بها فصح شرطه كالصناعة وكونها لبوناً.
وقوله إن الحمل لاحكم له لا يصح فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم في
الدية بأربعين خلفة في بطونها أولادها، ومنع أخذ الحوامل في الزكاة ومنع
وطئ الحبالى المسبيات وأرخص للحامل في الفطر في رمضان إذا اخافت على ولدها
ومنع من
(4/48)
اقامة الحد عليها من أجل حملها.
وظاهر الحديث المروي في اللعان يدل على أنه لاعنها حال حملها فانتفى عنه
ولدها، فإن شرط أنها تضع الولد في وقت بعينه لم يصح وجهاً واحداً لأنه لا
يمكن الوفاء به، وكذلك إن شرط أنها لا تحمل لذلك، وقال مالك لا يصح في
المرتفعات ويصح في غيرهن، ولنا أنه
باعها بشرط البراءة من الحمل فلم يصح كالمرتفعات، وإن شرطها حائلاً فبانت
حاملاً فإن كانت أمة فهو عيب يثبت الخيار وإن كان في غيرها فهو زيادة لا
يستحق به فسخاً، ويحتمل أن يستحق لأنه قد يريدها لسفر أو حمل شئ لا تتمكن
منه مع الحمل، وإن شرط البيض في الدجاجة فقيل لا يصح لأنه لا علم عليه يعرف
به ولم يثبت له في الشرع حكم وقيل يصح لأنه يعرف بالعادة فأشبه اشتراط
الشاة لبونا {مسألة} (وإن اشترط الطائر مصوتاً أو انه يجئ من مسافة معلومة
صح وقال القاضي لا يصح) إذا شرط في الهزار والقمري ونحوهما أنه مصوت فقال
بعض أصحابنا لا يصح وبه قال أبو حنيفة لأن صياح الطير يجوز أن يوجد وأن لا
يوجد ولأنه لا يمكنه اكراهه على التصويت.
والأولى جوازه لأن فيه قصداً صحيحاً وهو عادة له وخلقه فيه فأشبه الهملجة
في الدابة والصيد في الفهد، وإن شرط في الحمام انه يجئ من مسافة معلومة صح
أيضاً اختاره أبو الخطاب لأن هذه عادة مستمرة وفيها قصد صحيح لتبليغ
الأخبار وحمل الكتب فجرى مجرى الصيد والهملجة وقال القاضي لا يصح وهو قول
أبي حنيفة لأن فيه تعذيباً للحيوان أشبه مالو شرط الكبش مناطحاً.
وإن شرط الغناء في الجارية لا يصح لأن الغناء مذموم في الشرع فلم يصح
اشتراطه كالزنا.
وإن شرط في الكبش النطاح أو في الديك كونه مناقراً لم يصح لأنه منهي عنه في
الشرع فجرى مجرى الغناء في الجارية.
وإن شرط إن الديك يوقظه للصلاة لم يصح لأنه لا يمكن الوفاء به وإن شرط أنه
يصيح في أوقات معلومة جرى مجرى التصويت في القمري على ما ذكرنا (والثالث)
أن يشترط نفعاً معلوماً في المبيع كسكنى الدار شهراً وحملان البعير إلى
موضع معلوم أو يشترط المشتري نفع البائع في المبيع كحمل الحطب أو تكسيره أو
خياطة الثوب أو تفصيله ويصح أن يشترط البائع نفع المبيع مدة معلومة مثل أن
يبيع داراً ويستثنى سكناها سنة، أو دابة ويشترط ظهره إلى مكان معلوم أو
عبداً ويستثنى خدمته مدة معلومة نص عليه أحمد وهو قول الأوزاعي وأبي ثور
وإسحاق وابن المنذر، وقال الشافعي وأصحاب الرأي لا يصح لأنه يروى أن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط ولأنه ينافي مقتضى البيع فأشبه مالو
شرط أن لا يسلمه ذلك لأنه شرط تأخير تسليم المبيع إلى أن يستوفي البائع
منفعته وقال ابن عقيل فيه رواية أخرى انه يبطل البيع والشرط نقلها عبد الله
بن محمد في الرجل يشتري من الرجل الجارية ويشترط أن تخدمه فالبيع باطل
قال شيخنا وهذه الرواية لاتدل على محل النزاع في هذه المسألة فإن اشتراط
خدمة الجارية باطل لوجهين (أحدهما) أنها مجهولة فإطلاقه يقتضي خدمتها أبداً
وهذا لا خلاف في بطلانه إنما الخلاف في اشتراط منفعة معلومة (الثاني) أن
يشترط خدمتها بعد زوال ملكه عنها وذلك يفضي إلى الخلوة بها والخطر برؤيتها
وصحبتها وهذا لا يوجد في غيرها ولذلك منع إعارة الأمة الشابة لغير محرمها
وقال
(4/49)
مالك ان اشرط ركوباً إلى مكان قريب جاز وإن
كان إلى مكان بعيد كره لأن اليسير تدخله المسامحة ولنا ماروى جابرانه باع
النبي صلى الله عليه وسلم جملاً واشترط ظهره إلى المدينة وفي لفظ قال فبعته
بأوقية واستثنيت حملانه إلى أهلي متفق عليه وفي لفظ فبعته بخمس أواق قال
قلت على أن لي ظهره إلى المدينة قال " ولك ظهره إلى المدينة " رواه مسلم
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الثنيا إلا أن تعلم وهذه معلومة ولأن
المنفعة قد تقع مستثناة بالشرع على المشتري فيما إذا اشترى نخلاً مؤبرة أو
أرضاً مزروعة أو داراً مؤجرة أو أمة مزوجة فجاز أن يستثنيها كما لو اشترط
البائع الثمرة قبل التأبير ولم يصح نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع
وشرط إنما نهى عن شرطين في بيع فمفهومة إباحة الشرط الواحد وقياسهم منقوض
بشرط الخيار والتأجيل في الثمن (فصل) وإن باع أمة واستثنى وطأها مدة معلومة
لم يصع لان الوطئ لا يباح في غير ملك أو نكاح لقول الله تعالى (والذين هم
لفروجهم حافظون * إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين *
فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) وفارق اشتراط وطئ المكاتبة حيث
نبيحه لأنها مملوكة فيستباح وطؤها بالشرط في المحل المملوك.
واختار ابن عقيل عدم الإباحة أيضاً وهو قول أكثر الفقهاء (فصل) وإن باع
المشتري العين المستثناة منفعتها صح البيع وتكون في يد المشتري الثاني
مستثناة ايضاً فإن كان عالماً بذلك فلا خيار له لأنه دخل على بصيرة فلم
يثبت له خيار كما لو اشترى معيباً يعلم عيبه وإن لم يعلم فله خيار الفسخ
كمن اشترى أمة مزوجة أو داراً مؤجرة وإن أتلف المشتري العين فعليه أجرة
المثل لتفويت المنفعة المستحقة لغيره وثمن البيع وإن تلفت العين بتفريطه
فهو كتلفها بفعله نص عليه أحمد وقال يرجع البائع على المبتاع باحرة المثل
قال القاضي: معناه عندي القدر الذي نقصه
البائع لأجل الشرط وظاهر كلام أحمد خلاف هذا لأنه يضمن ما فات بتفريطه
فضمنه بعوضه وهو أجرة المثل فأما إن تلفت بغير فعله وتفريطه لم يضمن قال
الأثرم: قلت لأبي عبد الله فعلى المشتري أن يحمله على غيره لأنه كان له
حملان؟ قال الا إنما شرط عليه هذا بعينه لأنه لا يملكها البائع من جهته فلم
يلزمه عوضها كما لو تلفت النخلة المؤبرة بثمرتها أوغير المؤبرة إذا اشترط
البائع ثمرتها وكما لو باع حائطاً واستثنى منه شجرة بعينها فتلفت، وقال
القاضي عليه ضمانها أخذا من عموم كلام أحمد وإذا تلفت العين رجع البائع على
المبتاع بأجرة المثل وكلامه محمول على حالة التفريط على ما ذكرناه (فصل)
إذا اشترط البائع منفعة المبيع فأراد المشتري أن يعطيه ما يقوم مقام المبيع
في المنفعة أو يعوضه عنها لم يلزمه قبوله وله استيفاء المنفعة من غير
المبيع نص عليه أحمد لأن حقه تعلق بعينها أشبه ما لو استأجر عينا فبذل له
الآخر مثلها ولأن البائع قد يكون له غرض في استيفاء منافع تلك العين فلا
يجبر على قبول عوضها فإن تراضيا على ذلك جاز لأن الحق لهما وإن أراد البائع
إعارة العين أو إجارتها لمن يقوم مقامه فله ذلك في قياس المذهب لأنها منافع
مستحقة له فملك ذلك فيها كمنافع الدار المستأجرة الموصى بمنافعها ولا تجوز
إجارتها إلا لمثله في الانتفاع فإن أراد إجارتها أو إعارتها لمن يضر بالعين
بانتفاعه لم يجز ذلك كما لا يجوز له إجارة العين المستأجرة لمن لا يقوم
مقامه ذكر ذلك ابن عقيل.
(4/50)
(فصل) وإن قال بعتك هذه الدار وأجرتكها
شهراً لم يصح لأنه إذا باعه فقد ملك المشتري المنافع فإذا أجره إياها فقد
شرط أن يكون له بدل في مقابلة ما ملكه المشتري فلم يصح قال ابن عقيل وقد
نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قفيز الطحان ومعناه أن يستأجره طحاناً
ليطحن له كذا بقفيز منه فيصير كأنه شرط له القفيز عوضاً عن عمله في باقي
الكر المطحون ويحتمل الجواز بناء على اشتراط منفعة البائع في المبيع على ما
نذكره إن شاء الله تعالى.
(فصل) ويصح أن يشترط المشتري نفع البائع في المبيع مثل أن يشتري ثوبا ويشرط
على بائعه خياطته قميصا أو بغلة ويشرط حذوها نعلاً أو حزمة حطب ويشرط حملها
إلى موضع معلوم نص عليه أحمد في رواية مهنا وغيره، واحتج أحمد بما روي أن
محمد بن مسلمة اشترى من نبطي حزمة حطب
وشارطه على حملها، وبه قال إسحاق وأبو عبيدة، وقال أبو حنيفة يجوز أن يشري
بغلة ويشرط على البائع حذوها، وحكي عن أبي ثور والثوري أنهما أبطلا العقد
بهذا الشرط لأنه شرط فاسد أشبه الشروط الفاسدة وروي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه نهى عن بيع وشرط ولنا ما تقدم في قضية محمد بن مسلمة ولأنه بيع
وإجارة لأنه باعه الثوب وأجره نفسه على خياطته وكل واحد منهما يصح إفراده
بالعقد فإذا جمعهما جاز كالعينين ولم يصح أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن بيع وشرط قال أحمد: إنما نهى عن شرطين في بيع وهو يدل بمفهومه على جواز
الشرط الواحد ولابد من العلم بالمنفعة لهما ليصح اشتراطها لأننا نزلنا ذلك
منزلة الإجارة فلو اشترط حمل الحطب إلى منزله والبائع لايعرف منزله لم يصح
وإن شرط حذوها نعلاً فلا بد من معرفة صفتها كما لو استأجره على ذلك ابتداء.
قال أحمد: في الرجل يشتري البغلة على أن يحذوها جائز إذا أراد الشراك فإن
تعذر العمل بتلف المبيع قبله أو بموت البائع انفسخت الإجارة ورجع المشتري
عليه بعوض ذلك، وإن تعذر بمرض أقيم مقامه من يعمل العمل والأجرة عليه
كقولنا في الإجارة.
(فصل) وإذا اشترط المشتري منفعة البائع في المبيع فأقام البائع مقامه من
يعمل العمل فله ذلك بمنزلة الأجير المشترك يجوز أن يعمل العمل بنفسه وبمن
يقوم مقامه وإن أراد بذل العوض عن ذلك لم يلزم المشتري قبوله وإن أراد
المشتري أخذ العوض عنه لم يلزم البائع بذله لأن المعاوضة عقد تراض فلا يجبر
عليه أحد وإن تراضيا عليه احتمل الجواز لأنها منفعة يجوز أخذ العوض عنها لو
لم يشترطها فإذا ملكها المشتري جاز له أخذ العوض عنها كما لو استأجرها وكما
يجوز أن تؤجر المنافع الموصى بهامن ورثة الموصى ويحتمل أن لا يجوز لأنه
مشترط بحكم العادة والاستحسان لأجل الحاجة فلم يجز أخذ العوض عنه كالقرض
فإنه يجوز أن يرد في الخبز والخمير قل أو كثر ولو أراد أن يأخذ بقدر خبزه
وكسره بقدر الزيادة لم يجز ولأنه أخذ عوضاً عن مرفق معتاد جرت العادة
بالعفو عنه دون أخذ العوض فأشبه المنافع المستثناة شرعاً وهو ما إذا باع
أرضاً فيها زرع للبائع واستحق تبقيته إلى حين الحصاد فلو أخذه قصيلاً
لينتفع بالأرض إلى وقت الحصاد لم يكن له ذلك {مسألة} (وذكر الخرقي في جز
الرطبة إن شرطه على البائع لم يصح فيخرج ههنا مثله)
(4/51)
إذا اشترى زرعاً أو جزه من الرطبة أو ثمرة
على الشجر فالحصاد وجز الرطبة وجذاذ الثمرة على المشتري لأن نقل المبيع
وتفريغ ملك البائع منه على المشتري كنقل الطعام المبيع من دار البائع بخلاف
الكيل والوزن والعدد فإنها على البائع من مؤنة تسليم المبيع إلى المشتري
والتسليم على البائع، وههنا حصل التسليم بالتخلية بدون القطع بدليل جواز
بيعها والتصرف فيها وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه خلافا.
فإن شرطه على البائع فاختلف أصحابنا فقال الخرقي يبطل البيع وقال ابن أبي
موسى لا يجوز وقيل يجوز فإن قلنا لا يجوز فهل يبطل البيع لبطلان الشرط على
روايتين، وقال القاضي: المذهب جواز الشرط ذكره أبو بكر وابن حامد وقال
القاضي ولم أجد بما قاله الخرقي رواية في المذهب، واختلف فيه أصحاب الشافعي
فقال بعضهم إذا شرط الحصاد على البائع بطل البيع قولا واحداً وقال بعضهم
يكون على قولين فمن أفسده قال لا يصح لثلاثة معان (أحدها) شرط العمل في
الزرع قبل أن يملكه (والثاني) أنه شرط مالا يقتضيه العقد (والثالث) أنه شرط
تأخير التسليم لأن معنى ذلك تسليمه مقطوعاً، ومن أجازه هذا بيع وإجارة وكل
واحد منهما يصح إفراده فصح جمعهما كالعينين وقولهم شرط العمل فيما لا يملكه
يبطل بشرط رهن المبيع على الثمن في البيع (والثاني) يبطل بشرط الرهن
والكفيل والخيار (والثالث) ليس بتأخير لأنه يمكنه تسليمه قائماً ويبقى
الشرط من المستلم فليس ذلك بتأخير التسليم فإذا فسدت هذه المعاني صح لما
ذكرناه.
فإن قيل فالبيع يخالف حكمه حكم الإجارة لأن الضمان ينتقل في البيع بتسليم
العين بخلاف الإجارة فكيف يصح الجمع بينهما؟ قلنا كما يصح بيع الشقص والسيف
وحكمهما مختلف بدليل ثبوت الشفعة في الشقص دون السيف، وقد صح الجمع بينهما.
وقول الخرقي أن العقد ههنا يبطل يحتمل أن يختص هذه المسألة وشبهها مما يفضي
الشرط فيه إلى التنازع فإن البائع قد يريد قطعها من أعلاها ليبقى له منها
بقية والمشتري يريد الاستقصاء عليها ليزيد له ما يأخذه فيفضي إلى التنازع
وهو مفسدة فيبطل البيع من أجله، ويحتمل أن يقاس عليه ما أشبهه من اشتراط
منفعة البائع في البيع كما ذكرنا في صدر المسألة والأول أولى لوجهين
(أحدهما) أنه قد قال في موضع آخر ولا يبطل البيع شرط واحد (والثاني) أن
المذهب أنه يصح اشتراط منفعة
البائع في البيع كما ذكرنا والله أعلم {مسألة} وإن جمع بين شرطين لم يصح)
ثبت عن أحمد رحمه الله أنه قال: الشرط الواحد لا بأس به إنما نهى عن
الشرطين في البيع وهو ماروي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال " لا يحل سلف وبيع ولا شرطان في بيع ولا بيع ما ليس عندك "
أخرجه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح.
قال الأثرم قيل لأبي عبد الله أن هؤلاء يكرهون الشرط في البيع فنفض يده
وقال: الشرط الواحد لا بأس به في البيع إنما نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن شرطين في البيع وحديث جابريدل على إباحة الشرط حين باعه جملة وشرط
ظهره إلى المدينة.
واختلف في تفسير الشرطين المنهي عنهما فروي عن أحمد أنهما شرطان صحيحان
ليسامن مصلحة العقد فحكى ابن المنذر عنه وعن إسحاق فيمن اشترى ثوباً واشترط
على
(4/52)
البائع خياطته أوقصارتة أو طعاما واشترط
طحنه وحمله إن شرط أحد هذه الاشياء فالبيع جائز، وإن اشترط شرطين فالبيع
باطل وكذلك فسر القاضي في شرحه الشرطين المبطلين بنحو هذا التفسير وروى
الأثرم عن أحمد تفسير الشرطين أن يشتريها على أنه لا يبيعها من أحد ولا
يطؤها ففسره بشرطين فاسدين، وروى عنه اسماعيل بن سعيد في الشرطين في البيع
أن يقول إذا بعتها فأنا أحق بها بالثمن، وأن تخدمني سنة فظاهر كلام أحمد أن
الشرطين المنهي عنهما ماكان من هذا النحو، وأما إن شرط شرطين أو أكثر من
مقتضى العقد أو من مصلحته مثل أن يبيعه بشرط الخيار والتأجيل والرهن
والضمين أو بشرط أن يسلم إليه المبيع أو الثمن فهذا لا يؤثر في العقد وإن
كثر، وقال القاضي في المجرد ظاهر كلام أحمد أنه متى شرط في العقد شرطين بطل
سواء كانا صحيحين أو فاسدين لمصلحة العقد أو لغير مصلحته أخذاً من ظاهر
الحديث وعملاً بعمومة ولم يفرق الشافعي وأصحاب الرأي بين الشرط والشرطين
ورووا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع وشرط ولأن الصحيح لا يؤثر في
البيع وإن كثر والفاسد يؤثر فيه وإن اتحد والحديث الذي رويناه يدل على
الفرق ولأن العذر اليسير إذا احتمل في العقد لا يلزم احتمال الكثير، حديثهم
ليس له أصل وقد أنكره أحمد ولا يعرفه مروياً في
مسند فلا يعول عليه، والذي ذكره القاضي في المجرد بعيد أيضاً.
فإن شرط ما يقتضيه العقد لا يؤثر فيه بغير خلاف وشرط ما هو من مصلحة العقد
كالأجل والخيار والرهن والضمين وشرط صفة في المبيع كالكتابة والصناعة فيه
مصلحة العقد فلا ينبغي أن يؤثر في بطلانه قلت أو كثرت.
ولم يذكر أحمد في هذه المسألة شيئاً من هذا القسم فالظاهر أنه غير مراد له
والأولى تفسيره بما حكاه ابن المنذر والله أعلم (فصل) (الثاني) فاسد وهو
ثلاثة أنواع (أحدها) أن يشرط على صاحبه عقد آخر كسلف أو قرض أو بيع أو
إجارة أو صرف للثمن أوغير فهذا يبطل البيع، ويحتمل أن يبطل الشرط وحده)
المشهور في المذهب أن هذا الشرط فاسد يبطل به البيع لأن النبي صلى الله
عليه وسلم قال " لا يحل بيع وسلف ولا شرطان في بيع " قال الترمذي هذا حديث
صحيح ولأن النبي صلى الله عليه سلم نهى عن بيعتين في بيعه، حديث صحيح وهذا
منه، قال أحمد وكذلك كل ما في معنى ذلك مثل أن يقول على أن تزوجني ابنتك أو
على أن أزوجك ابنتي فهذا كله لا يصح، قال ابن مسعود صفقتان في صفقة ربا
وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وجمهور العلماء وجوزه مالك وجعل العوض المذكور
في الشرط فاسداً قال ولا ألتفت إلى اللفظ الفاسد إذا كان معلوماً حلالاً
فكأنه باع السلعة بالدراهم التي ذكر أنه يأخذها بالدنانير ولنا الخبر
والنهي يقتضي الفساد ولأن العقد لا يجب بالشرط لكونه لا يثبت في الذمة
فيسقط فيفسد العقد لأن البائع لم يرض به إلا بالشرط فإذا فات فات الرضا به
ولأنه شرط عقداً في عقد فلم يصح كنكاح الشغار، وقوله لاألتفت إلى اللفظ لا
يصح لأن البيع هو اللفظ كان فاسداً فكيف يكون صحيحاً، ويحتمل أن يصح البيع
ويبطل الشرط بناء على ما ينافي مقتضى العقد على ما نذكره إن شاء الله تعالى
(4/53)
(الثاني) شرط ما ينافي مقتضى البيع نحو أن
يشترط أن لا خسارة عليه أو متى نفق المبيع وإلا رده أو إلا يبيع ولا يهب
ولا يعتق وإن أعتق فالولاء له أو يشترط أن يفعل ذلك فهذا الشرط باطل في
نفسه لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بريرة حين شرط أهلها الولاء "
ماكان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل " نص على بطلان هذا الشرط وقسنا
عليه سائر الشروط لأنها في معناه وهل يبطل
بها البيع؟ على روايتين، قال القاضي: المنصوص عن أحمد أن البيع صحيح وهو
ظاهر كلام الخرقي وبه قال الحسن والشعبي والنخعي والحكم وابن أبي ليلى وأبو
ثور (والثانية) البيع فاسد وهو قول أبي حنيفة والشافعي لأنه شرط فاسد فأفسد
البيع كما لو اشترط فيه عقداً آخر، ولأن الشرط إذا فسد وجب الرجوع بما نقصه
الشرط من الثمن وذلك مجهول فيصير الثمن مجهولاً ولأن البائع إنما رضي بزوال
ملكه عن المبيع بشرطه والمشتري كذلك إذا كان الشرط له فلو صح البيع بدونه
لزال ملكه بغير رضاه، والبيع ممن شرطه التراضي ولأنه قد روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع وشرط ووجه الأولى ماروت عائشة قالت: جاءتني
بريرة فقالت: كاتبت أهلي على تسع أواق في كل عام أوقيه فأعينيني، فقلت إن
أحب أهلك أعدها لهم عدة واحدة ويكون ولاؤك لي فعلت، فذهبت بريرة إلى أهلها
فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت من عندهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس
فقالت: إني عرضت عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم، فسمع النبي صلى الله
عليه وسلم فأخبرت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فقال " خذيها واشترطي لهم
الولاء فإنما الولاء لمن أعتق " ففعلت عائشة فقام رسول الله صلى الله عليه
وسلم في الناس فحمد الله واثنى عليه ثم قال " أما بعد فما بال رجال يشترطون
شروطاً ليست في كتاب الله تعالى، ماكان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل
وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق "
متفق عليه فأبطل الشرط ولم يبطل العقد قال إبن المنذر خبر بريرة ثابت ولا
نعلم خبراً يعارضه فالقول به يجب فإن قيل المراد بقوله " اشترطي لهم الولاء
" أي عليهم بدليل أنه أمرها به ولا يأمرها بفاسد قلنا لا يصح هذا التأويل
لوجهين أحدهما أن الولاء لها بإعتاقها فلا حاجة الى اشتراطه (الثاني) لهم
أبوا البيع إلا أن يشترط لهم الولاء فكيف يأمرها بما علم أنهم لا يقبلونه
منها وأما أمرها بذلك فليس هو أمراً على الحقيقة، وإنما هو صيغة الأمر
بمعنى التسوية بين الا شتراط وتركه كقول الله تعالى (استغفر لهم) وقوله
(اصبروا اولا تصبروا) والتقدير واشترطي لهم الولاء اولا تشترطي ولهذا قال
عقيبه " فإنما الولاء لمن أعتق " وحديثهم لااصل له على ما ذكرنا وما ذكروه
من المعنى في مقابلة النص لا يقبل (فصل) وإذا حكمنا بصحة البيع فللبائع
الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن ذكره القاضي وللمشتري
الرجوع يزيادة الثمن إن كان هو المشترط لأن البائع إنما سمح بالبيع بهذا
الثمن لما يحصل له من الغرض بالشرط والمشتري إنما سمح له بزيادة الثمن من
أجل شرطه فإذا لم يحصل غرضه ينبغي أن يرجع بما سمح به كما لو وجده معيباً
ويحتمل أن يثبت الخيار ولا يرجع بشئ كمن شرط رهناً اوضمينا فامتنع
(4/54)
الراهن والضمين ولأن ما ينقصه الشرط من
الثمن مجهول فيصير الثمن مجهولاً ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحكم
لأرباب بريرة بشئ مع فساد الشرط وصحة البيع.
وإن حكمنا بفساد العقد لم يحصل به ملك سواء قبضه أو يقبضه على ما نذكره إن
شاء الله تعالى {مسألة} (إذا شرط العتق ففي صحته روايتان) إحداهما يصح وهو
مذهب مالك وظاهر مذهب الشافعي لأن عائشة اشترت بريرة وشرط عليها أهلها
عتقها وولاءها فأنكر النبي صلى الله وسلم شرط الولاء دون العتق (والثانية)
الشرط فاسد وهو مذهب أبي حنيفة لأنه شرط ينافي مقتضى العقد أشبه ما لو شرط
أن لا يبيعه ولانه شرط إزالة ملكه عنه أشبه ما إذا اشترط أن يبيعه وليس في
حديث عائشة أنها شرطت لهم العتق إنما اخبرهم أنها تريد ذلك من غير شرط
فاشرطوا ولاءها فإن حكمنا بفساده فحمكه حكم سائر الشروط الفاسدة على مابينا
وإن حكمنا بصحته فاعتقه المشتري فقد وفى بما شرط عليه وإن لم يعتقه ففيه
وجهان (أحدهما) يجبر لأن شرط العتق إذا صح تعلق بعينه فيجبر كما لو نذر
عتقه (والثاني) لا يجبر لأن الشرط لا يوجب فعل المشروط بدليل ما لو شرط
الرهن والضمين فعلى هذا يثبت للبائع خيار الفسخ لأنه لم يسلم له ما شرط
أشبه ما لو شرط عليه رهناً فلم يف به، وإن تعيب المبيع أو كان أمة فأحبلها
أعتقه وأجزأه لأن الرق باق فيه وإن استغله أو أخذ من كسبه شيئاً فهو له وإن
مات المبيع رجع البائع على المشتري بما نقصه شرط العتق فيقال كم قيمته لو
بيع مطلقاً وكم قيمته إذا بيع بشرط العتق؟ فيرجع بقسط ذلك من ثمنه في أحد
الوجهين كالارش وفي الآخر يضمن بما نقص من قيمته {مسألة} (وعنه فيمن باع
جارية وشرط على المشتري أنه إن باعها فهو أحق بها بالثمن أن البيع جائز)
روى المروذي عن أحمد أنه قال هو في معنى حديث النبي صلى الله عليه وسلم "
لا شرطان
في بيع " يعني أنه فاسد لأنه شرط أن يبيعه إياه وأن يبيعه بالثمن الاول
فهما شرطان في بيع نهي عنهما ولأنه ينافي مقتضى العقد لأنه شرط أن لا يبيعه
من غيره إذا أعطاه ثمنه فهو كما لو شرط أن لا يبيعه إلا من فلان وروى عنه
اسماعيل بن سعيد البيع جائز لما روي عن ابن مسعود أنه قال ابتعت من امرأتي
زينب الثقفية جارية وشرطت لها إن بعتها فهي لها بالثمن الذي ابتعتها به
فذكرت ذلك لعمر فقال لا تقربها ولأحد فيها شرط قال إسماعيل فذكرت لأحمد
الحديث قال البيع جائز ولا تقربها لأنه كان فيها شرط واحد للمرأة لم يقل
عمر في ذلك البيع فاسد فحمل الحديث على ظاهره وأخذه به وقد اتفق عمر وابن
مسعود على صحته والقياس يقتضي فساده قال شيخنا ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في
رواية المروذي على فساد الشرط وفي رواية اسماعيل بن سعيد على جواز البيع
فيكون البيع صحيحاً والشرط فاسداً كما لو اشتراها بشرط أن لا يبيعها وقول
أحمد لاتقربها قد روي مثله فيمن اشترط في الأمة أن لا يبيعها ولا يهبها أو
شرط عليه ولاءها أولا يقربها والبيع جائز لحديث عمر المذكور.
وقال القاضي
(4/55)
وهذا يدل على الكراهة لا على التحريم قال
ابن عقيل عندي أنه إنما منع من الوطئ لمكان الخلاف في العقد لكونه يفسد
بفساد الشرط في بعض المذاهب {مسألة} (وإن شرط رهناً فاسداً كالخمر ونحوه
فهل يبطل البيع على وجهين؟) أصلهما الروايتان في الشروط الفاسدة وقد مضى
ذكرهما (فصل) وإذا قال رجل لغريمه: بعني هذا على أن أقضيك دينك منه، ففعل،
فالشرط باطل لأنه شرط أن لا يتصرف فيه بغير القضاء وهل يفسد البيع؟ ينبني
على الشروط الفاسدة في البيع على ما ذكرنا.
وإن قال اقبضني حقي على أن أبيعك كذا وكذا فالشرط باطل والقضاء صحيح لأنه
أقبضه حقه وإن قال أقبضني أجود من مالي على أن أبيعك كذا فالقضاء والشرط
باطلان وعليه رد ما قبضه ويطالب بماله (فصل) ومتى حكمنا بفساد العقد لم
يثبت به ملك سواء اتصل به القبض أو لا ولا ينفذ تصرف المشتري فيه ببيع
ولاهبة ولا عتق ولا غيره وبهذا قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة يثبت الملك فيه إذا
اتصل به القبض وللبائع الرجوع فيه فيأخذه مع زيادته المتصلة إلا أن يتصرف
فيه المشتري تصرفاً يمنع الرجوع فيه فيأخذ قيمته محتجاً بحديث بريرة فإن
عائشة اشترتها بشرط الولاء فاعتقها فأجاز النبي صلى الله عليه وسلم العتق
والبيع فاسد ولأن المشتري على صفة يملك المبيع ابتداء بعقد وقد حصل عليه
الضمان للبدل غير أنه عقد فيه تسليط فوجب أن يملكه كالعقد الصحيح.
ولنا أنه مقبوض بعقد فاسد فلم يملكه كما لو كان الثمن ميتة أو دما فأما
حديث بريرة فإنما يدل على صحة العقد لاعلى ما ذكروه وليس في الحديث أن
عائشة اشترتها بهذا الشرط بل الظاهر أن أهلها حين بلغهم إنكار النبي صلى
الله عليه وسلم هذا الشرط تركوه ويحتمل أن الشرط كان سابقاً للعقد فلم يؤثر
فيه (فصل) وعليه رد المبيع مع نمائه المنفصل وأجرة مثله مدة بقائه في يديه،
وإن نقص ضمن نقصه لأنها جملة مضمونة فأجزاؤها تكون مضمونة أيضاً وإن تلف
المبيع في يد المشتري فعليه ضمانه بقيمته يوم التلف قاله القاضي ولأن أحمد
نص عليه في الغصب ولأنه قبضه بإذن مالكه فأشبه العارية، وذكر الخرقي في
الغصب أنه يلزمه قيمته أكثر ما كانت فيخرج ههنا كذلك ولأصحاب الشافعي وجهان
كهذين (فصل) فإن كان المبيع أمة فوطئها المشتري فلا حد عليه لاعتقاده أنها
ملكه، ولأن في الملك اختلافاً وعليه مهر مثلها لأن الحد إذا سقط للشبهة وجب
المهر، ولأن الوطئ في ملك الغير يوجب المهر وعليه أرش البكارة إن كانت
بكراً، فان قيل أليس إذا تزوج امرأة تزويجاً فاسداً فوطئها فأزال بكارتها
لا يضمن البكارة؟ قلنا لأن النكاح تضمن الإذن في الوطئ المذهب للبكارة لأنه
معقود على الوطئ ولا كذلك البيع لانه ليس معقود على الوطئ بدليل أنه يجوز
شراء من لا يحل وطؤها.
فإن قيل إذا أوجبتم
(4/56)
مهر بكر فكيف توجبون ضمان البكارة وقد دخل
ضمانها في المهر؟ وإذا أوجبتم ضمان البكارة فكيف توجبون مهر بكر وقد أدى
عوض البكارة بضمانه له فجرى مجرى من أزال بكارتها بأصبعه ثم وطئها؟ قلنا
لأن مهر البكر ضمان المنفعة وأرش البكارة ضمان جزء فلذلك اجتمعا، وأما
الثاني فإنه إذا وطئها بكراً فقد استوفى نفع هذا الجزء فوجبت قيمة ما
استوفى من نفعه وإذا أتلفه وجب ضمان عينه ولايجوز
أن يضمن العين ويسقط ضمان المنفعة كما لو غصب عيناً ذات منفعة فاستوفى
منفعتها ثم أتلفها أو غصب ثوباً فلبسه حتى أبلاه وأتلفه فإنه يضمن القيمة
والمنفعة كذا ههنا (فصل) وإن ولدت كان ولدها حراً لأنه وطئها بشبهة ويلحق
به لذلك ولاولاء عليه لأنه حر الأصل وعلى الواطئ قيمته يوم وضعه لأنه يوم
الحيلولة بينه وبين صاحبه فإن سقط ميتاً لم يضمن لأنه إنما يضمنه حين وضعه
ولا قيمة له حينئذ.
فإن قيل فلو ضرب بطنها فألقت جنيناً ميتاً وجب ضمانه قلنا الضارب يجب عليه
غرة وههنا يضمنه بقيمته ولا قيمة له ولأن الجاني أتلفه وقطع نماءه وههنا
يضمنه بالحيلولة بعينه فإن كان الضارب أجنبياً فألقت جنيناً ميتاً فعلى
الضارب غرة عبد أو أمة وللسيد أقل الأمرين من دية الجنين أو قيمته يوم سقط
لأن ضمان الضارب له قام مقام خروجه حياً ولذلك ضمنه للبائع وإنما كان للسيد
أقل الأمرين لأن الغرة إن كانت أكثر من القيمة فالباقي منها لورثته لأنه
حصل بالحرية فلا يستحق السيد منها شيئاً وإن كانت أقل لم يكن على الضارب
أكثر منها لأنه بسبب ذلك ضمن، وإن ضرب الواطئ بطنها فألقت الجنين ميتاً
فعليه الغرة أيضاً ولا يرث منها شيئاً، وللسيد أقل الأمرين كما ذكرنا، وان
سلم الجارية المبيعة إلى البائع حاملاً فولدت عنده ضمن نقص الولادة وإن
تلفت بذلك ضمنها لأن تلفها بسبب منه وإن ملكها الواطئ لم تصر بذلك أم ولد
على الصحيح من المذهب لأنها علقت منه في غير ملكه فأشبهت الزوجة وهكذا كل
موضع حبلت في ملك غيره لا تصير له أم ولد بهذا (فصل) إذا باع المشتري
المبيع الفاسد لم يصح لأنه باع ملك غيره بغير إذنه، وعلى المشتري رده على
البائع الأول لأنه مالكه ولبائعه أخذه حيث وجده، ويرجع المشتري الثاني
بالثمن على الذي باعه ويرجع الأول على بائعه فإن تلف في يد الثاني فللبائع
مطالبة من شاء منهما لأن الأول ضامن والثاني قبضه من يد ضامنه بغير إذن
صاحبه فكان ضامناً.
فإن كانت قيمته أكثر من ثمنه فضمن الثاني لم يرجع بالفضل على الاول لأن
التلف في يده فاستقر الضمان عليه، وإن ضمن الأول رجع بالفضل على الثاني
(فصل) وإن زاد المبيع في يد المشتري بسمن أو نحوه ثم نقص حتى عاد إلى ما
كان عليه أو ولدت الأمة في يد المشتري ثم مات ولدها احتمل أن يضمن تلك
الزيادة لأنها زيادة في عين مضمونة أشبهت الزيادة في المغصوب واحتمل أن لا
يضمنها لأنه دخل على أن لا يكون في مقابلة الزيادة عوض، فعلى
هذا تكون الزيادة أمانة في يده إن تلفت بتفريطه أو عدوانه ضمنها والافلا،
وإن تلفت العين بعد
(4/57)
زيادتها أسقطت تلك الزيادة من القيمة
وضمنها بما بقي من القيمة حين التلف، قال القاضي وهذا ظاهر كلام أحمد (فصل)
وإذا باع بيعاً فاسداً وتقابضا ثم أتلف البائع الثمن ثم أفلس فله الرجوع في
المبيع والمشترى أسوة الغرماء وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة المشتري
أحق بالمبيع من سائر الغرماء لأنه في يده فكان أحق به كالمرتهن.
ولنا أنه لم يقبضه وثيقة فلم يكن أحق به كما لو كان وديعة عنده بخلاف
المرتهن فإنه قبضه على أنه وثيقة بحقه (فصل) وإذا قال بع عبدك من فلان بألف
على ان على خمسمائة فباعه بهذا الشرط فالبيع فاسد لأن الثمن يجب أن يكون
جميعه على المشتري، فإذا شرط كون بعضه على غيره لم يصح لأنه لا يملك المبيع
والثمن على غيره، ولا يشبه هذا ما لو قال " أعتق عبدك أو طلق امرأتك وعلي
خمسمائة.
لكون هذا عوضاً في مقابلة فك الزوجة ورقبة العبد ولذلك لم يجز في النكاح.
أما في مسألتنا فإنه معاوضة في مقابلة نقل الملك فلا يثبت لأن العوض على
غيره، وإن كان هذا القول على وجه الضمان صح البيع ولزم الضمان (الثالث أن
يشترط شرطاً يعلق البيع كقوله بعتك إن جئتني بكذا أو أن رضي فلان) فلا يصح
البيع لأنه علق البيع على شرط مستقبل فلم يصح كما إذا قال: بعتك إذا جاء
رأس الشهر {مسألة} (وكذلك إذا قال المرتهن إن جئتك بحقك في محله وإلا
فالرهن لك، فلا يصح البيع، إلا بيع العربون وهو أن يشتري شيئاً ويعطي
البائع درهماً ويقول ان اخدته وإلا فالدرهم لك.
فقال أحمد يصح لأن عمر فعله وعند أبي الخطاب أنه لا يصح) وممن روي عنه
القول بفساد الشرط ابن عمر وشريح والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأصحاب
الرأي ولا نعلم احداً خالفهم، والأصل في ذلك ما روى معاوية بن عبد الله بن
جعفر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يغلق الرهن " رواه الأثرم
قال الأثرم قلت لأحمد ما معنى قوله لا يغلق الرهن؟ قال لا يدفع رهن إلى رجل
ويقول: إن جئتك بالدراهم إلى كذا وكذا وإلا فالرهن لك.
قال إبن المنذر هذا معنى قوله لا يغلق الرهن عند مالك والثوري واحمد وإنما
فسد البيع لانه معلق بشرط مستقبل فلم
يصح كالمسألة قبلها، وكما لو قال إن ولدت ناقتي فصيلاً فقد بعتكه بدينار
(فصل) والعربون في البيع هو أن يشتري السلعة ويدفع إلى البائع درهماً أو
أكثر على أنه ان أخذ السلعة احتسب به من الثمن وإن لم يأخذها فهو للبائع.
يقال عربون وعربون وعربان وأربان.
قال أحمد ومحمد بن سيرين لا بأس به وفعله عمر رضي الله عنه، وعن ابن عمر
أنه أجازه وقال ابن المسيب وابن سيرين لا بأس إذا كره السلعة أن يردها ويرد
معها شيئاً قال أحمد هذا في معناه، وقال أبو الخطاب لا يصح وهو قول مالك
والشافعي وأصحاب الرأي ويروى عن ابن عباس والحسن ولأن النبي صلى الله عليه
وسلم نهى عن بيع العربون رواه ابن ماجه ولأنه شرط للبائع شيئاً بغير عوض
فلم يصح كما لو شرطه لاجنبي ولأنه بمنزلة الخيار المجهول فإنه اشترط أن له
رد المبيع من غير ذكر مدة فلم يصح كما
(4/58)
لو قال ولي الخيار متى شئت رددت السلعة
ومعها ردهم (قال شيخنا) وهذا هو القياس وإنما صار أحمد فيه إلى ما روي عن
نافع بن الحارث أنه اشترى لعمر دار السجن من صفوان بن أمية فإن رضي عمر
وإلا فله كذا وكذا، قال الأثرم قلت لأحمد تذهب إليه قال أي شئ أقول هذا عمر
رضي الله عنه؟ وضعف الحديث المروي.
روى هذه القصة الأثرم بإسناده (فصل) فأما إن دفع إليه قبل البيع درهما وقال
لاتبع هذه السلعة لغيري وإن لم اشترها منك فهذا الدرهم لك ثم اشتراها منه
بعد ذلك بعقد مبتدأ وحسب الدرهم من الثمن صح لأن البيع خلا عن الشرط
المفسد، ويحتمل أن الشراء الذي اشترى لعمر كان على هذا الوجه فيحمل عليه
جمعاً بين فعله وبين الخبر وموافقة القياس والأئمة القائلين بفساد بيع
العربون.
وان لم يشتر السلعة في هذه الصورة لم يستحق البائع الدرهم لانه يأخذه بغير
عوض ولصاحبه الرجوع فيه ولا يصح جعله عوضا من انتظاره وتأخر بيعه من أجله
لأنه لو كان عوضاً عن ذلك لما جاز جعله من الثمن في حال الشراء ولأن
الانتظار بالبيع لا تجوز المعاوضة عنه ولو جازت لوجب أن يكون معلوم المقدار
كما في الإجارة {مسألة} (وإن قال بعتك على أن تنقدني الثمن إلى ثلاث أو مدة
معلومة وإلا فلا بيع بيننا فالبيع صحيح نص عليه) وهذا قول أبي حنيفة
والثوري وإسحاق ومحمد بن الحسن، وقال به أبو ثور
إذا كان إلى ثلاث، وحكي مثل قوله عن ابن عمر، وقال مالك يجوز في اليومين
والثلاثة ونحوها وإن كان عشرين ليلة فسخ البيع، وقال الشافعي وزفر البيع
فاسد لأنه علق فسخ البيع على غرر فلم يصح كما لو علقه بقدوم زيد.
ولنا أنه يروى عن عمر ولأنه علق رفع العقد بأمر يحدث في مدة الخيار فجاز
كما لو شرط الخيار ولأنه بيع فجاز أن ينفسخ بتأخير القبض كالصرف ولأن هذا
بمعنى شرط الخيار لانه كما يحتاج إلى التروي في المبيع - هل يوافقه أولا -
يحتاج إلى التروي في الثمن هل يصير منقودا أولا فهما شبيهان في المعنى وإن
تغايرا في الصورة إلا أنه في الخيار يحتاج إلى الفسخ وهذا ينفسخ إذا لم
ينقد في المدة المذكورة لأنه جعله كذلك.
{مسألة} (وإن باعه وشرط البراءة من كل عيب لم يبرأ وعنه يبرأ إلا أن يكون
البائع علم العيب فكتمه) اختلفت الرواية عن أحمد في هذه المسألة فروي عنه
أنه لا يبرأ إلا أن يعلم المشتري بالعيب وهو قول الشافعي.
وقال إبراهيم والحكم وحماد لا يبرأ إلا مما سمى، وقال شريح لا يبرأ إلا مما
أراه أو وضع يده عليه، وروي عنه أنه يبرأ من كل عيب لم يعلمه ولا يبرأ من
عيب علمه يروي ذلك عن عثمان ونحوه عن زيد بن ثابت، وهو قول مالك وقول
الشافعي في الحيوان خاصة لما روي أن عبد الله ابن عمر باع زيد بن ثابت
عبداً بشرط البراءة بثمانمائة درهم فأصاب به زيد عيباً فأراد رده على ابن
عمر فلم يقبله فترافعا إلى عثمان فقال عثمان لابن عمر تحلف إنك لم تعلم
بهذا العيب؟ قال لا فرده عليه فباعه ابن عمر بألف درهم رواه الإمام أحمد،
وهذه قصة اشتهرت فلم تنكر فكانت إجماعاً ويتخرج
(4/59)
أن يبرأ من العيوب كلها بالبراءة وحكاه بعض
أصحابنا رواية عن أحمد بناء على جواز البراءة من المجهول، وروى هذا عن ابن
عمر، وهو قول أصحاب الرأي وقول الشافعي لما روت ام سلمة أن رجلين اختصما في
مواريث درست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " استهما وتوخيا وليحلل كل واحد منكما صاحبه " وهذا يدل على أن
البراءة من المجهول جائزة ولأنه إسقاط حق لا تسليم فيه فصح في المجهول
كالطلاق والعتاق ولافرق بين المجهول وغيره فما يثبت في أحدهما يثبت في
الآخر وقول عثمان قد خالفه ابن عمر فلا يبقى حجة
(فصل) وإذا قلنا بفساد هذا الشرط لم يفسد به البيع في ظاهر المذهب وهو وجه
لأصحاب الشافعي لما ذكرنا من قضية ابن عمر فانهم أجمعوا على صحتها فعلى هذا
لايمنع الرد بوجود الشرط.
ويكون وجوده كعدمه وعن أحمد في الشروط الفاسدة روايتان (إحداهما) يفسد بها
العقد فيدخل فيها هذا البيع لأن البائع إنما رضي بهذا الثمن عوضاً عن ماله
بهذا الشرط فإذا فسد الشرط فات الرضا به فيفسد البيع لعدم التراضي.
(فصل) قال رضي الله عنه (وإن باعه داراً أو ثوباً على أنه عشرة أذرع فبان
أحد عشر فالبيع باطل) لأنه لا يمكن اجبار البائع على تسليم الزيادة انما
باع عشرة، ولا المشتري على أخذ البعض وإنما اشترى الكل وعليه ضرر في الشركة
أيضاً، عنه أنه صحيح والزيادة للبائع لأن ذلك نفص على المشتري فلم يمنع صحة
البيع كالمعيب، ثم يخير البائع بين تسليم المبيع زائداً وبين تسليم العشرة
فإن رضي بتسليم الجميع فلا خيار للمشتري لأنه زاده خيراً وإن أبى تسليمه
زائداً فللمشتري الخيار بين الأخذ والفسخ بجميع الثمن المسمى فإن رضي
بالأخذ أخذ بالعشرة والبائع شريك له بالذراع، وهل للبائع خيار الفسخ؟ على
وجهين (أولهما) له الفسخ لأن عليه ضرراً في المشاركة (والثاني) لاخيار له
لأنه رضي ببيع الجميع بهذا الثمن فإذا وصل إليه الثمن مع بقاء جزء له فيه
كان زيادة فلا يستحق بها الفسخ ولأن هذا الضرر حصل بتغريره واختياره بخلاف
مجبره فلا ينبغي أن يسلط به على فسخ عقد المشتري، فإن بذلها البائع للمشتري
بثمن أو طلبها المشتري بثمن لم يلزم الآخر القبول لأنها معاوضة يعتبر فيها
التراضي منهما فلا يجبر واحد منهما عليها وإن تراضيا على ذلك جاز، وإن بانت
تسعة فالبيع باطل لما ذكرنا وعنه أنه صحيح والمشتري بالخيار بين الفسخ وأخذ
المبيع بقسطه من الثمن، وقال أصحاب الشافعي ليس له إمساكه إلا بجميع الثمن
أو الفسخ بناء على المبيع المعيب عندهم، ولنا أنه وجد المبيع ناقصاً في
القدر فكان له إمساكه بقسطه من الثمن كالصبرة إذا اشتراها على أنها مائة
فبانت خمسين وسنبين في المعيب أن له إمساكه وأخذ الأرش، فإن أخذها بقسطها
من الثمن فللبائع الخيار بين الرضا بذلك وبين الفسخ لأنه إنما رضي ببيعها
بكل الثمن فإذا لم يصل إليه ثبت له الفسخ، فإن بذل له المشتري جميع الثمن
لم يملك الفسخ لأنه وصل إليه الثمن الذي رضيه فأشبه مالو اشترى معيباً
فرضيه بجميع الثمن وإن اتفقا على تعويضه عنه جاز لأنها
(4/60)
معاوضة فجازت بتراضيهما كغيرها (فصل) وإن
اشترى صبرة على أنها عشرة أقفزة فبانت أحد عشر رد الزائد ولاخيار له ههنا
لأنه لاضرر في رد الزيادة وإن بانت تسعة أخذها بقسطها من الثمن، وقد ذكرنا
فيما تقدم أنه متى سمى الكيل في الصبرة لا يكون قبضها إلا بالكيل فإن وجدها
قدر حقه أخذها وإن كانت زائدة رد الزيادة وإن نقصت أخذها بقسطها من الثمن
وهل له الفسخ وإذا وجدها ناقصة؟ على وجهين (أحدهما) له الخيار وهو مذهب
الشافعي لأنه وجد المبيع ناقصاً فكان له الفسخ كغير الصبرة وكنقصان الصفة
(والثاني) لاخيار له لأن نقصان القدر ليس بعيب في الباقي من الكيل بخلاف
غيره {باب الخيار في المبيع} (وهو على سبعة أقسام: أحدها خيار المجلس ويثبت
في البيع والصلح بمعناه والإجارة ويثبت في الصرف والسلم وعنه لا يثبت فيهما
ولا يثبت في سائر العقود إلا في المساقاة والحوالة والسبق في أحد الوجهين)
وجملته أن خيار المجلس يثبت في البيع بمعنى أنه يقع جائزاً ولكل واحد من
المتبايعين الخيار في فسخه ماداما مجتمعين لم يتفرقا، وهو قول أكثر أهل
العلم يروي ذلك عن عمر وابنه وابن عباس وأبي هريرة وأبي برزة، وبه قال سعيد
بن المسيب وشريح والشعبي وعطاء وطاوس والزهري والاوزاعي وابن أبي ذئب
والشافعي واسحاق وأبو عبيد وأبو ثور، وقال مالك وأصحاب الرأي يلزم العقد
بالإيجاب والقبول والخيار لهما لأنه روي عن عمر رضي الله عنه: البيع صفقة
أو خيار ولأنه عقد معاوضة فلزم بمجرده كالنكاح والخلع ولنا ماروى ابن عمر
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا " تبايع الرجلان فلكل واحد
منهما الخيار ما لم يتفرقا وكانا جميعاً أو يخير أحدهما الآخر فإن خير
أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم
يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع " متفق عليه وقال عليه الصلاة والسلام "
البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " رواه الأئمة ورواه عبد الله بن عمر وعبد
الله بن عمرو وحكيم بن حزام وأبو ثور الاسملي ورواه عن نافع عن ابن عمر
مالك وأيوب وعبيد الله بن عمر وابن جريج والليث
ابن سعد وغيرهم وهو صريح في حكم المسألة وعاب كثير من أهل العلم على مالك
مخالفته الحديث مع روايته له وثوبته عنده قال الشافعي لاأدري هل أيهم مالك
نفسه أو نافعاً وأعظم أن أقول عبد الله بن عمر.
وقال ابن أبي ذئب يستتاب مالك في تركه لهذا الحديث.
فإن قيل المراد بالتفرق هاهنا التفرق بالأقوال كقوله تعالى (وما تفرق الذين
أو توا الكتاب الامن بعد ما جاءتهم البينة) وقول النبي صلى الله عليه وسلم
" ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة " أي بالأقوال والاعتقادات قلنا هذا
باطل لوجوه منها أن اللفظ لا يحتمل ما قالوه إذ ليس بين المتبايعين تفرق
بقول ولا اعتقاد إنما بينهما اتفاق على
(4/61)
البيع بعد الاختلاف فيه (الثاني) أن هذا
يبطل فائدة الحديث إذ قد علم أنه بالخيار قبل العقد في إنشائه وإتمامه أو
تركه (الثالث) أنه قال في الحديث " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما
بالخيار بعد تبايعهما " وقال " وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما
البيع فقد وجب البيع " (والرابع) أنه يرده تفسير ابن عمر للحديث بفعله فإنه
كان إذا بايع رجلاً مشى خطوات ليلزم البيع وتفسير أبي برزة بقوله مثل قولنا
وهما راويا الحديث وأعلم معناه وقول عمر لبيع صفقة أو خيار معناه أن البيع
ينقسم إلى بيع شرط فيه الخيار وبيع لم يشرط فيه سماه صفقة لقصر مدة الخيار
فيه لأنه قد روي عن الحوزجاني مثل مذهبنا ولو أراد ما قالوه لم يجز أن
يعارض به قول النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لاحجة في قول احد مع قول رسول
الله صلى الله عليه وسلم على أن قول الصحابي لا يحتج به إذا خالفه غيره من
الصحابة وقد خالفه ابنه وأبو برزة وغيرهما، ولا يصح قياس البيع على النكاح
لأن النكاح لا يقع الابعد رؤية ونظر غالباً فلا يحتاج إلى الخيار بعده ولأن
في ثبوت الخيار فيه مضرة لما يلزم من رد المرأة بعد ابتذالها بالعقد وذهاب
حرمتها بالرد وإلحاقها بالسلع المبيعة فلم يثبت الخيار لذلك ولهذا لم يثبت
فيه خيار الشرط ولاخيار الرؤية والحكم في هذه المسألة ظاهر لظهور دليله
وضعف ما يذكره المخالف في مقابلته (فصل) ويثبت الخيار في الصلح بمعنى البيع
لأنه عقد معاوضة أشبه البيع.
والهبة إذا شرط فيها عوضاً معلوماً ثبت فيها الخيار في إحدى الروايتين بناء
على الاختلاف فيها هل تصير بيعاً أو لا ويثبت في الإجارة لأنه عقد معاوضة
أشبه البيع ويثبت في الصرف والسلم وما يشترط فيه القبض في المجلس
كبيع مال الربا بجنسه في الصحيح لما ذكرنا من الخبر والمعنى.
وعنه لا يثبت فيها قياساً على خيار الشرط فإنه لا يثبت فيها رواية واحدة
لأن موضوعها على أن لا يبقى بينهما علقة بعد التفرق بدليل اشتراط القبض،
وثبوت الخيار يبقى بينهما علقة ولا يثبت في سائر العقود وهي.
على اضرب (أحدها) لازم لا يقصد به العوض كالنكاح والخلع فلا يثبت فيهما
خيار لأن الخيار إنما يثبت لمعرفة الحظ في كون العوض جابراً لما يذهب من
ماله والعوض هاهنا ليس هو المقصود وكذلك الوقف والهبة بغير عوض ولأن في
ثبوت الخيار في النكاح ضرراً ذكرناه (الضرب الثاني) لازم من أحد طرفيه
كالرهن لازم في حق الراهن وجده فلا يثبت فيه خيار لأن المرتهن يستغني
بالجواز في حقه عن ثبوت الخيار والراهن يستغني بثبوت الخيار له إلى أن يقبض
وكذلك الضامن والكفيل لاخيار لهما لأنهما دخلا متطوعين راضيين بالغبن،
وكذلك المكاتب (الضرب الثالث) عقد جائز من الطرفين كالشركة والمضاربة
والجعالة والوكالة والوديعة والوصية فلا يثبت فيها خيار استغناء بجوازها
والتمكن من فسخها بأصل وضعها (الضرب الرابع) ما هو متردد بين الجواز
واللزوم كالمساقاة والمزارعة، وظاهر المذهب أنهما جائزان فلا يدخلهما خيار،
وقيل هما إجارة فلهما حكمها، والسبق والرمي الظاهر أنهما جعالة فلا
(4/62)
يثبت فيهما خيار وقيل هما إجارة وقد
ذكرناه، فأما الحوالة والأخذ بالشفعة فهو عقد لازم يستقل به أحد المتعاقدين
فلا خيار فيهما لأن من لا يعتبر رضاه الخيار له، إذا لم يثبت في أحد طرفيه
لا يثبت في الآخر كسائر العقود، ويحتمل أن يثبت الخيار للمحيل والشفيع لأنه
يقصد فيهما العوض فأشبها سائر عقود المعاوضات {مسألة} (ولكل واحد من
المتبايعين الخيار ما لم يتفرقا بأبدانهما لما ذكرناه) ولا خلاف في لزوم
العقد بعد التفرق ما لم يكن سبب يقتضي جوازه مثل أن يجد في السلعة عيباً
فيردها به أو يكون قد شرط الخيار مدة معلومة فيملك الرد فيها بغير خلاف
علمناه بين أهل العلم، وفي معنى العيب أن يدلس المبيع بما يختلف به الثمن
أو يشرط في المبيع صفة يختلف بها الثمن فيبين بخلافه أو يخبره في المرابحة
بثمن حال وهو مؤجل ونحو ذلك وقد دل على لزوم البيع بالتفرق قول النبي صلى
الله عليه وسلم " وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك أحدهما البيع فقد وجب
البيع " والمرجع في التفرق إلى عرف الناس وعاداتهم لأن الشارع علق عليه
حكما ولم يبينه فدل على أنه أراد ما يعرفه الناس كالقبض والإحراز، فإن كانا
في فضاء واسع كالمسجد الكبير والصحراء فبأن يمشي أحدهما مستدبراً لصاحبه
خطوات وقيل هو أن يبعد منه بحيث لا يسمع كلامه الذي يتكلم به في العادة.
قال أبو الحارث سئل أحمد عن تفرقه الأبدان فقال إذا أخذ هذا هكذا وأخذ هذا
هكذا فقد تفرقا.
وروى مسلم عن نافع قال فكان ابن عمر إذا باع فأراد أن لا يقيله مشى هنيهة
ثم رجع، وإن كانا في دار كبيرة ذات مجالس وبيوت فالمفارقة أن يفارقه من بيت
إلى بيت أو إلى مجلس أو صفة أو من مجلس إلى بيت ونحو ذلك، فإن كانا في دار
صغيرة فإذا صعد أحدهما السطح أو خرج منها فقد فارقه، وإن كانا في سفينة
صغيرة خرج أحدهما منها ومشى، وإن كانت كبيرة صعد أحدهما إلى أعلاها ونزل
الآخر في أسفلها وهذا كله مذهب الشافعي، فإن كان المشتري هو البائع مثل أن
اشترى لنفسه من مال ولده أو اشترى لولده من نفسه لم يثبت فيه خيار المجلس
لأنه يتولى طرفي العقد فلم يثبت له خيار كالشفيع ويحتمل أن يثبت فيه كغيره
فعلى هذا يعتبر لزومه مفارقة مجلس العقد لأن الافتراق لا يمكن هاهنا لكون
البائع هو المشتري، ومتى حصل التفرق لزم العقد قصدا ذلك أو لم يقصداه علماء
أو جهلاه لأن النبي صلى الله عليه وسلم علق الخيار على التفرق وقد وجد، ولو
هرب أحدهما من الآخر لزم العقد لأنه فارقه ولا يقف لزوم العقد على رضاهما
ولهذا كان ابن عمر يفارق صاحبه ليلزم البيع، ولو أقاما في المجلس وسدلا
بينهما ستراً أو بنيا بينهما حاجزاً أو ناما وقاما فمضيا جميعاً ولم يتفرقا
فالخيار بحاله وإن طالت المدة لعدم التفرق، وقد روى أبو داود والاثرم
بإسنادهما عن أبي الوضئ قال غزونا غزوة لنا فنزلنا منزلا فباع صاحب لنا
فرساً بغلام ثم أقاما بقية يومهما وليلتهما فلما أصبحنا من الغد وحضر
الرحيل قام إلى فرسه يسرجه فندم فأتى الرجل وأخذه بالبيع فأبى الرجل أن
يدفعه اليه فقال بيني وبينك
(4/63)
أبوبرزة صاحب رسول الله صلى الله وعليه
وسلم فأتيا أبا برزة في ناحية العسكر فقالوا له هذه القصة
فقال أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " وما أراكما
افترقتما.
فإن فارق أحدهما الآخر مكرهاً احتمل بطلان الخيار لوجود التفرق ولأنه لا
يعتبر رضاه في مفارقة صاحبه له فكذلك في مفارقته لصاحبه، وقال القاضي لا
ينقطع الخيار لأنه حكم علق على التفرق فلم يثبت مع الإكراه كما لو علق عليه
الطلاق ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين، فعلى قول من لا يرى انقطاع الخيار إن
أكره أحدهما على فرقة صاحبه انقطع خيار صاحبه كما لو هرب منه يبقى الخيار
للمكره منهما في المجلس الذي يزول عنه الإكراه فيه حتى يفارقه، وإن أكرها
جميعاً انقطع خيارهما لأن كل واحد منهما يقطع خياره بتفرقة الآخر له فأشبه
مالو أكره صاحبه دونه، وذكر ابن عقيل من صور الإكراه مالو رأيا سبعاً أو
ظالما خشياه فهربا فزعا منه أو حملهما سبيل أو فرقت بينهما ريح.
فان خرس أحدهما قامت اشارته مقام نطقه فإن لم تفهم إشارته أو جن أو أغمي
عليه قام أبوه أو وصيه أو الحاكم مقامه وهذا مذهب الشافعي (فصل) ولو ألحقا
في العقد خياراً بعد لزومه لم يلحق وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة
وأصحابنا يلحقه لأن لهما فسخ العقد فكان لهما إلحاق الخيار به كالمجلس.
ولنا أنه عقد لازم فلم يصر جائزاً بقولهما كالنكاح وفارق المجلس فإنه جائز
فجاز إبقاؤه على جوازه (فصل) وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "
البائع والمبتاع بالخيار حتى يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار فلا يحل له أن
يفارق صاحبه خشية أن يستقيله " رواه الترمذي وقال حديث حسن وقوله " إلا أن
يكون صفقة خيار " يحتمل أنه أراد البيع المشروط فيه الخيار فإنه لا يلزم
بتفرقهما لكونه ثابتاً بعده بالشرط، ويحتمل أنه أراد البيع الذي شرط فيه أن
لا يكون فيه خيار فيلزم بمجرد العقد من غير تفرق.
وظاهر الحديث تحريم مفارقة أحد المتبايعين لصاحبه خشية من فسخ البيع وهذا
ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم فإنه ذكر له فعل ابن عمر وهذا الحديث فقال
هذا الان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو اختيار أبي بكر، وقال
القاضي ظاهر كلام أحمد جواز ذلك لأن ابن عمر فعله والأول أصح لأن قول النبي
صلى الله عليه وسلم يقدم على فعل ابن عمر، والظاهر أن ابن عمر لم يبلغه هذا
ولو علمه لما خالفه
{مسألة} (إلا أن يتبايعا على أن لاخيار بينهما أو يسقطا الخيار بعده فيسقط
في إحدى الروايتين، وإن اسقطه أحدهما بقي خيار صاحبه) اختلفت الرواية عن
أحمد رحمه الله في ذلك فروي عنه أن الخيار يمتد إلى التفرق ولا يبطل
بالتخاير ولا بالإسقاط قبل العقد ولابعده وهو ظاهر كلام الخرقي لأن أكثر
الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " من
غير تقييد ولا تخصيص في رواية حكيم بن حزام وأبي برزة
(4/64)
وأكثر الروايات عن عبد الله بن عمرو.
والتقييد إنما هو في حديث ابن عمر، ومتى انفرد بعض الرواة بزيادة قدم قول
الأكثرين وذوي الضبط (والرواية الثانية) أن الخيار يبطل بالتخاير اختارها
ابن أبي موسى وهذا مذهب الشافعي وهو الصحيح إن شاء الله تعالى لقول النبي
صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر " فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على
ذلك فقد وجب البيع " يعني لزم، وفي لفظ المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا
إلا أن يكون البيع كان عن خيار، فإن كان البيع عن خيار فقد وجب البيع "
متفق عليه.
والأخذ بالزيادة أولى وهي صريحة في الحكم، والتخاير في ابتداء العقد وبعده
في المجلس واحد فالتخاير في ابتدائه أن يقول بعتك ولا خيار بيننا ويقبل
الآخر على ذلك فلا يكون لهما خيارا، والتخاير بعده أن يقول كل واحد منهما
بعد العقد اخترت إمضاء العقد والزامه أو اخترت العقد أو أسقطت خياري فيلزم
العقد من الطرفين، وإن اختار أحدهما دون الآخر لزم في حقه وحده كما لو كان
خيار الشرط فاسقطه أحدهما، وقال أصحاب الشافعي في التخاير في ابتداء العقد
قولان أظهرهما لا يقطع الخيار لأنه إسقاط للحق قبل سببه فلم يجز كخيار
الشفعة، فعلى هذا هل يبطل به العقد؟ على وجهين بناء على الشروط الفاسدة.
ولنا ما ذكرنا من حديثي ابن عمر وذلك صريح في الحكم فلانعول على ما خالفه
ولأن ما أثر في الخيار في المجلس أثر فيه مقارناً للعقد كاشتراط الخيار
ولأنه أحد الخيارين في البيع فجاز إخلاؤه عنه كخيار الشرط، وقولهم أنه
إسقاط للخيار قبل سببه ممنوع فإن سبب الخيار البيع المطلق، فأما البيع مع
التخاير فليس سبباً له ثم لو ثبت أنه سبب للخيار لكن المانع مقارن له فلم
يثبت حكمه، والشفعة لنا فيها منع وإن سلم فالفرق بينهما أن الشفيع أجنبي من
العقد فلم يصح اشتراط إسقاط
خياره في العقد بخلاف مسئلتنا (فصل) فإن قال أحدهما لصاحبه اختر ولم يقل
الآخر شيئاً فالساكت على خياره لأنه لم يوجد منه ما يبطله وأما القائل
فيحتمل أن يبطل خياره لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "
البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه اختر " رواه البخاري
ولأنه جعل لصاحبه ما ملكه من الخيار فسقط خياره وهذا ظاهر مذهب الشافعي
ويحتمل أن لا يبطل خياره لأنه خيره فلم يختر فلم يؤثر كما لو جعل لزوجته
الخيار فلم تختر شيئاً ويحمل الحديث على أنه خيره فاختار، والأول أولى
لظاهر الحديث ولأنه جعل الخيار لغيره ويفارق الزوجة لأنه ملكها مالا تملك
فإذا لم تقبل سقط وههنا كل واحد منهما يملك الخيار فلم يكن قوله تمليكاً
إنما كان إسقاطاً فسقط (فصل) قال رضي الله عنه (الثاني خيار الشرط وهو أن
يشترط في العقد خيار مدة معلومة فيثبت فيها وإن طالت) هذا قول أبي يوسف
ومحمد وابن المنذر وحكي ذلك عن الحسن بن صالح وابن أبي ليلى واسحاق وأبي
ثور وأجازه مالك فيما زاد على الثلاث بقدر الحاجة مثل قرية لا يصل إليها في
(4/65)
أقل من أربعة أيام لأن الخيار لحاجته فيقدر
بها، وقال أبو حنيفة والشافعي لا يجوز أكثر من ثلاث لما روي عن عمر رضي
الله عنه أنه قال ما أجد لكم أوسع مما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
لحبان جعل له الخيار ثلاثة أيام أن رضي أخذ وإن سخط ترك.
ولأن الخيار ينافي مقتضى البيع لأنه يمنع الملك واللزوم وإطلاق التصرف،
وإنما جاز للحاجة فجاز القليل منه وآخر حد القلة ثلاث قال الله تعالى (فقال
تمتعوا في داركم ثلاثة أيام - بعد قوله - فيأخذكم عذاب قريب) ولنا أنه حق
يعتمد الشرط فرجع في تقديره إلى مشترطه كالأجل ولم يثبت ما روي عن عمر رضي
الله عنه وقد روي عن أنس خلافه، وتقدير مالك بالحاجة لا يصح فإنها لا يمكن
ضبط الحكم بها لخفائها واختلافها وإنما يرتبط بمظنتها وهو الاقدام فإنه
صالح أن يكون ضابطاً وربط الحكم به في الثلاث وفي السلم والأجل، وقول
الآخرين: أنه ينافي مقتضى البيع لا يصح لأن مقتضى البيع نقل الملك والخيار
لا ينافيه وإن سلمنا ذلك لكن متى خولف الأصل لمعنى في محل وجب تعدية الحكم
لتعدي ذلك المعنى
{مسألة} (ولايجوز مجهولاً في ظاهر المذهب، وعنه يجوز وهما على خيارهما ما
لم يقطعاه أو تنتهي مدته) إذا شرط الخيار أبداً أو متى شاء، أو قال أحدهما
ولي الخيار ولم يذكر مدته أو شرطاه إلى مدة مجهولة كقدوم زيد أو نزول المطر
أو مشاورة إنسان ونحو ذلك لم يصح في الصحيح من المذهب هذا اختيار القاضي
وابن عقيل ومذهب الشافعي وعن أحمد أنه يصح وهما على خيارهما أبداً أو
يقطعاه أو تنتهي مدته إن كان مشروطاً إلى مدة وهو قول ابن شبرمة لقول النبي
صلى الله عليه وسلم المسلمون على شروطهم وقال مالك يصح ويضرب لهما مدة
يختبر المبيع في مثلها في العادة لأن ذلك مقرر في العادة فإذا أطلقا حمل
عليه، وقال أبو حنيفة إن اسقطا الشرط قبل مضي الثلاث أو حذفا الزائد عليها
وبينا مدته صح لانهما حذفا المفسد قبل اتصاله بالعقد فوجب أن يصح كما لو لم
يشترطاه ولنا أنها مدة ملحقة بالعقد فلا تجوز مع الجهالة كالأجل، ولأن
اشتراط الخيار أبداً يقتضي المنع من التصرف على الأبد وذلك ينافي مقتضى
العقد فلم يصح كما لو قال بعتك بشرط أن لا تتصرف، وقول مالك أنه يرد إلى
العادة لا يصح فإنه لاعادة في الخيار يرجع إليها واشتراطه مع الجهالة نادر،
وقول أبي حنيفة لا يصح فإن المفسد هو الشرط وهو مقترن بالعقد، ولأن العقد
لا يخلو من أن يكون صحيحا أو فاسداً فإن كان صحيحاً مع الشرط لم يفسد بوجود
ما شرطناه وإن كان فاسداً لم ينقلب صحيحاً كبيع درهم بدرهمين إذا حذف
أحدهما، وإذا قلنا يفسد الشرط هل يفسد به البيع؟ على روايتين (إحداهما)
يفسد وهو مذهب الشافعي لأنه عقد قارنه شرط فاسد كنكاح الشغار، ولأن البائع
إنما رضي ببذله بهذا الثمن مع الخيار في استرجاعه والمشتري إنما رضي ببذل
هذا الثمن فيه مع الخيار في فسخه فلو صححناه لأزلنا ملك كل واحد منهما عنه
بغير رضاه وألزمناه ما لم يرض به ولأن الشرط يأخذ قسطاً من الثمن فإذا
حذفناه وجب رد ما سقط من الثمن من أجله وذلك مجهول فيكون الثمن مجهولاً
فيفسد به
(4/66)
العقد (والثانية) لا يفسد به العقد وهو قول
ابن أبي ليلى لحديث بريرة ولأن العقد قد تم بأركانه والشرط زائد فإذا فسد
وزال سقط الفاسد وبقي العقد بركنيه كما لو لم يشترط (فصل) وإن شرطه إلى
الحصاد أو الجذاذ احتمل أن يكون كتعليقه على قدوم زيد لأنه يختلف
ويتقدم ويتأخر فكان مجهولاً، ويحتمل أن يصح لأن ذلك يتفاوت في العادة ولا
يكثر تفاوته، وإن شرطه إلى العطاء وأراد وقت العطاء وكان معلوماً صح، وإن
أراد نفس العطاء فهو مجهول (فصل) وإن شرطا الخيار شهراً يوماً يثبت ويوماً
لا، فقال ابن عقيل يصح في اليوم الأول لامكانه ويبطل فيما بعده لأنه إذا
لزم في اليوم الثاني لم يعد إلى الجواز، ويحتمل أن يبطل الشرط كله لأنه شرط
واحد تناول الخيار في أيام فإذا فسد بعضه فسد جميعه كما لو شرطه إلى الحصاد
{مسألة} (ولا يثبت إلا في البيع والصلح بمعناه والإجارة في الذمة أو على
مدة لاتلي العقد) لا نعلم خلافاً في ثبوت خيار الشرط في البيع الذي لا
يشترط فيه القبض في المجلس وكذلك الصلح بمعنى البيع لأنه بيع بلفظ الصلح
والهبة بعوض على إحدى الروايتين والإجارة في الذمة نحو أن يقول استأجرتك
لتخيط لي هذا الثوب ونحوه لأن الإجارة بيع المنافع فأشبهت بيع الأعيان،
فأما الإجارة المعينة فإن كانت مدتها من حين العقد دخلها خيار المجلس دون
خيار الشرط لأن دخوله يفضي إلى فوت بعض المنافع المعقود عليها أو استبقائها
في مدة الخيار وكلاهما لا يجوز وهذا مذهب الشافعي، وذكر القاضي مرة مثل هذا
ومرة قال يثبت فيها خيار الشرط قياساً على البيع، وقد ذكرنا ما يقتضي الفرق
بينهما، فإن كانت المدة لاتلي العقد يثبت فيها خيار الشرط إذا كانت مدة
الخيار لا تشتمل على شئ من مدة العقد فإن كانت بعض مدة العقد تدخل في مدة
الخيار لم يجز لما ذكرنا {مسألة} (وإن شرطاه إلى الغد لم يدخل في المدة)
وهذا مذهب الشافعي، وعنه يدخل وهو مذهب أبي حنيفة لان إلى تستعمل بمعنى مع
كقوله تعالى (وأيديكم إلى المرافق * ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم)
والخيار ثابت بيقين فلا نزيله بالشك ولنا أن موضوع (إلى) لانتهاء الغاية
فلا يدخل ما بعدها فيما قبلها كقوله تعالى (ثم أتموا الصيام إلى الليل)
وكالأجل وليس ههنا شك فإن الأصل حمل اللفظ على موضوعه فكأن الواضع قال متى
سمعتم هذه اللفظة فافهموا منها انتهاء الغاية.
وفيما استشهدوا به حملت إلى على معنى مع بدليل، أو لتعذر حملها على موضوعها
ولأن الأصل لزوم العقد وإنما خولف فيما اقتضاه الشرط فيثبت ما تيقن منه وما
شككنا فيه رددناه إلى الأصل.
(فصل) وإن شرط الخيار إلى طلوع الشمس أو إلى غروبها صح، وقال بعض أهل العلم
لا يصح توقيته بطلوعها لأنها قد تتغيم فلا يعلم وقت طلوعها، ولنا أنه تعليق
للخيار بأمر ظاهر معلوم فصح كتعليقه بغروبها، وطلوع الشمس بروزها من الأفق
كما أن غروبها سقوط القرص، ولذلك لو علق طلاق
(4/67)
امرأته أو عتق عبده بطلوع الشمس وقع
ببروزها من الأفق، وإن عرض غيم يمنع المعرفة بطلوعها فالخيار ثابت حتى
يتيقن طلوعها كما لو علقه بغروبها فمنع الغيم المعرفة بوقته، ولو جعل
الخيار إلى طلوع الشمس من تحت السحاب أو إلى غيبتها تحته كان خياراً
مجهولاً {مسألة} (وإن شرطاه مدة فابتداؤها من حين العقد ويحتمل أن يكون من
حين التفرق) إذا شرط الخيار مدة معلومة اعتبرنا مدة الخيار من حين العقد في
أظهر الوجهين والآخر من حين التفرق لأن الخيار ثابت في المجلس حقاً فلا
حاجة الى إثباته بالشرط ولأن حالة المجلس كحالة العقد لأن لهما فيه الزيادة
والنقصان فكان كحالة العقد في ابتداء مدة الخيار بعد انقضائه والأول أصح
لأنها مدة ملحقة بالعقد فأشبهت الأجل، ولأن الاشتراط سبب ثبوت الخيار فيجب
أن يتعقبه حكمه كالملك في البيع ولأنا لو جعلنا ابتداءها من حين التفرق أدى
إلى جهالته لأنا لا نعلم متى يتفرقان فلا نعلم متى ابتداؤه ولا وقت
انتهائه، ولا يمنع ثبوت الحكم بسببين كتحريم الوطئ بالصيام والإحرام، فعلى
هذا لو شرط ابتداءه من حين التفرق لم يصح إلا على قولنا بصحة الخيار
المجهول، وإن قلنا ابتداؤه من حين التفرق فشرط ثبوته من حين العقد صح لأنه
معلوم الابتداء والانتهاء، ويحتمل أن لا يصح لأن خيار المجلس يغني عن خيار
آخر فيمنع ثبوته والأول أولى ومذهب الشافعي في هذا الفصل على ما ذكرنا
{مسألة} (وإن شرط الخيار لغيره جاز وكان توكيلاً له فيه) إذا شرط الخيار
لأجنبي صح وكان اشتراطاً لنفسه وتوكيلاً لغيره فيه وهذا قول أبي حنيفة
ومالك وللشافعي قولان (أحدهما) لا يصح وهو قول القاضي إذا أطلق الخيار
لفلان أو قال لفلان دوني لأن الخيار شرع لتحصيل الحظ لكل واحد من
المتعاقدين بنظره فلا يكون لمن لاحظ له، وإن جعل الأجنبي وكيلاً صح ولنا أن
الخيار يعتمد شرطهما ويفوض إليهما وقد أمكن تصحيح شرطهما وتنفيذ تصرفهما
على الوجه
الذي ذكرناه فلا يجوز إلغاؤه مع إمكان تصحيحه لقول النبي صلى الله عليه
وسلم " المسلمون على شروطهم " فعلى هذا يكون لكل واحد من المشترط ووكيله
الذي شرط له الخيار الفسخ، ولو كان المبيع عبداً فشرط الخيار له صح سواء
شرطه له البائع أو المشتري لأنه بمنزلة الأجنبي، وإن كان العاقد وكيلاً
فشرط الخيار لنفسه صح فإن النظر في تحصيل الحظ مفوض إليه، وإن شرطه للمالك
صح لأنه المالك والحظ له، وإن شرطه لأجنبي انبنى على الروايتين في صحة
توكيل الوكيل (فصل) ولو قال بعتك على أن أستأمر فلاناً أو حد ذلك بوقت
معلوم فهو خيار صحيح وله الفسخ قبل أن يستأمره لأنا جعلنا ذلك كناية عن
الخيار وهذا قول بعض أصحاب الشافعي، وإن لم يظبطه بمدة معلومة فهو خيار
مجهول فيه من الخلاف ما ذكرناه
(4/68)
{مسألة} (وإن شرطا الخيار لأحدهما دون
صاحبه صح) يجوز شرط الخيار لأحد المتعاقدين دون الآخر ويجوز أن يشرطا
لأحدهما مدة وللآخر دونها لأن ذلك حقهما وإنما جوز رفقاً بهما فكيفما
تراضيا به جاز، ولو اشترى شيئين وشرط الخيار في أحدهما بعينه دون الآخر صح
لأن أكثر ما فيه أنه جمع بين مبيع فيه الخيار وبين مبيع لاخيار فيه وذلك
جائز بالقياس على شراء ما فيه شفعة وما لا شفعة فيه فإنه يصح ويكون كل واحد
منهما مبيعاً بقسطه من الثمن فإن فسخ البيع فيما فيه الخيار رجع بقسطه من
الثمن كما لو وجد أحدهما معيباً فرده، وإن شرط الخيار في أحدهما لا بعينه
أو شرط الخيار لأحد المتعاقدين لا بعينه لم يصح لأنه مجهول فأشبه مالو
اشترى واحداً من عبدين لا بعينه، ولأنه يفضي إلى التنازع فربما طلب كل واحد
من المتعاقدين ضد ما يطلبه الآخر ويدعي أنني المستحق للخيار أو يطلب من له
الخيار رد أحد المبيعين ويقول ليس هذا الذي شرطت لك الخيار فيه، ويحتمل أن
لا يصح شرط الخيار في أحد المبيعين بعينه كما لا يصح بيعه بقسطه من الثمن
وهذا كله مذهب الشافعي {مسألة} (ولمن له الخيار الفسخ بغير حضور صاحبه
ولارضاه) وبهذا قال مالك والشافعي وأبو يوسف وزفر، وقال أبو حنيفة ليس له
الفسخ إلا بحضور صاحبه
كالوديعة.
ولنا أنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضى صاحبه فلم يفتقر إلى حضوره كالطلاق، وما
ذكره ينتقض بالطلاق، والوديعة لاحق للمودع فيها ويصح فسخها مع غيبته
{مسألة} (فإن مضت المدة ولم يفسخا بطل خيارهما) إذا انقضت مدة الخيار ولم
يفسخ أحدهما بطل الخيار ولزم العقد، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وقال
القاضي لا يلزم بمضي المدة وهو قول مالك لان مدة الخيار ضربت لحق له لا لحق
عليه فلم يلزم الحكم بنفس مرور الزمان كمضي الأجل في حق المولي.
ولنا أنها مدة ملحقة بالعقد فبطلت بانقضائها كالأجل، ولأن الحكم ببقائها
يفضي إلى بقاء الخيار في غير المدة التي شرطاه فيها والشرط يثبت الخيار فلا
يجوز أن يثبت به ما لم يتناوله ولأنه حكم مؤقت ففات بفوات وقته كسائر
المؤقتات.
ولأن البيع يقتضي اللزوم وإنما يختلف موجبه بالشرط ففيما لم يتناوله الشرط
يجب أن يثبت موجبه لزوال المعارض كما لو أمضياه.
وأما المولي فإن المدة إنما ضربت لاستحقاق المطالبة وهي تستحق بمضي المدة
والحكم في هذه المسألة ظاهر (فصل) فإن قال أحد المتعاقدين عند العقد
(لاخلابة) فقال أحمد: أرى ذلك جائزاً وله الخياران كان خلبه وإن لم يكن
خلبه فليس له خيار وذلك لأن رجلاً ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يخدع
في البيع فقال " إذا بايعت فقل لاخلابة " متفق عليه ولمسلم " من بايعت فقل
لاخلابة " فكان إذا بايع يقول لاخلابة قال شيخنا ويحتمل أن لا يكون له خيار
ويكون هذا الخبر خاصاً بحبان لأنه روي أنه عاش إلى زمن عثمان فكان
(4/69)
يبايع الناس ثم يخاصمهم فيمر بهم بعض
الصحابة فيقول لمن يخاصمه ويحك أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له الخيار
ثلاثاً وهذا يدل على اختصاصه بهذا لأنه لو كان للناس عامة لقال لمن يخاصمه
أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الخيار لمن قال لاخلابة، وقال بعض
الشافعية إن كانا عالمين أن ذلك عبارة عن خيار الثلاث ثبت وإن علم أحدهما
دون الآخر فعلى وجهين لأنه روي أن حبان بن منقذ بن عمرو كان لا يزال يغبن
فأتى الني صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال " إذا أنت بايعت فقل
لاخلابة ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال فإن رضيت أمسكت وإن
سخطت فارددها على صاحبها " وما ثبت في حق واحد
من الصحابة ثبت في حق غيره ما لم يقم على اختصاصه دليل، ولنا أن هذا اللفظ
لا يقتضي الخيار مطلقاً ولا يقتضي تقييده بثلاث والأصل اعتبار اللفظ فيما
يقتضيه، والخبر الذي احتجوا به إنما رواه ابن ماجه مرسلاً وهم لا يرون
المرسل حجة ثم لم يقولوا بالحديث على وجهه إنما قالوا إنه في حق من يعلم أن
مقتضاه ثبوت الخيار ثلاثاً ولا يعلم ذلك أحد لأن اللفظ لا يقتضيه فكيف يعلم
أن مقتضاه مالا يقتضيه ولا يدل عليه، وعلى أنه إنما كان خاصاً لحبان بدليل
ما رويناه ولأنه كان يثبت له الرد على من لم يعلم مقتضاه.
(فصل) إذا شرط الخيار حيلة على الانتفاع بالقرض ليأخذ غلة المبيع ونفعه في
مدة انتفاع المقترض بالثمن ثم يرد المبيع بالخيار عند رد الثمن فلا خيار
فيه لأنه من الحيل ولا يحل لآخذ الثمن الإنتفاع به في مدة الخيار ولا
التصرف فيه قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل عن الرجل يشتري من الرجل
الشئ ويقول لك الخيار إلى كذا وكذا مثل العقار قال هو جائز إذا لم يكن حيلة
أراد أن يقرضه فيأخذ منه العقار فيستغله ويجعل له فيه الخيار ليربح فيما
أقرضه بهذه الحيلة، فإن لم يكن أراد هذا فلا بأس.
قيل لأبي عبد الله فإن أراد إرفاقه أراد أن يقرضه مالاً، يخاف أن يذهب
فاشترى منه شيئاً وجعل له الخيار لم يرد الحيلة، فقال أبو عبد الله هذا
جائز إلا أنه إذا مات انقطع الخيار لم يكن لورثته.
وقول أحمد بالجواز في هذه المسألة محمول على المبيع الذي لا ينتفع إلا
بإتلافه أو على أن المشتري لا ينتفع بالمبيع في مدة الخيار لئلا يفضي إلى
أن القرض جر منفعة {مسألة} (وينتقل الملك إلى المشتري بنفس العقد في أظهر
الروايتين) ينتقل الملك في بيع الخيار بنفس العقد في ظاهر المذهب ولا فرق
بين كون الخيار لهما أو لأحدهما أيهما كان وهو أحد أقوال الشافعي وعن أحمد
إن الملك لا ينتقل حتى ينقضي الخيار وهو قول مالك والقول الثاني للشافعي
وبه قال أبو حنيفة إذا كان الخيار لهما أو للبائع وإن كان للمشتري خرج عن
ملك البائع ولم يدخل في ملك المشتري لأن البيع الذي فيه الخيار عقد قاصر
فلم ينقل الملك كالهبة قبل القبض، وللشافعي قول ثالث أن الملك موقوف فإن
أمضيا البيع تبينا أن الملك للمشتري وإلا تبينا أنه لم ينتقل عن البائع
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " من باع عبداً وله مال فماله للبائع
إلا أن يشترطه المبتاع " وقوله " من
(4/70)
باع نخلاً بعد أن يؤبر فثمره للبائع إلا أن
يشترط المبتاع " متفق عليه " فجعله للمبتاع بمجرد اشتراطه وهو عام في كل
بيع، ولأنه بيع صحيح فنقل الملك عقيبه كالذي لا خيار فيه، ولأن البيع
تمليك، بدليل أنه يصح بقوله ملكتك فيثبت به الملك كسائر البيع لأن التمليك
يدل على نقل الملك إلى المشتري ويقتضيه لفظه وقد اعتبره الشرع وقضى بصحته
فوجب اعتباره فيما يقتضيه ويدل عليه لفظه وثبوت الخيار فيه لا ينافيه كما
لو باع عرضاً بعوض فوجد كل واحد منهما بما اشتراه عيباً، وقولهم إنه قاصر
غير صحيح وجواز فسخه لا يوجب قصوره ولا يمنع نقل الملك فيه كبيع المعيب،
وامتناع التصرف إنما كان لأجل حق الغير فلا يمنع ثبوت الملك كالمرهون،
وقولهم أنه يخرج عن ملك البائع ولا يدخل في ملك المشتري لا يصح لأنه يفضي
إلى وجود ملك بغير مالك وهو محال ويفضي أيضاً إلى ثبوت الملك للبائع في
الثمن من غير حصول عوضه للمشتري، أو إلى نقل ملكه عن المبيع من غير ثبوته
في عوضه وكون العقد معاوضة يأبى ذلك، وقول أصحاب الشافعي إن الملك موقوف إن
أمضيا البيع تبينا أنه انتقل وإلا فلا غير صحيح فإن انتقال الملك إنما
ينبني على سببه الناقل وهو البيع وذلك لا يختلف بامضائه وفسخه، فإن امضاءه
ليس من المقتضي ولا شرطاً فيه إذ لو كان كذلك لما ثبت الملك قبله والفسخ
ليس بمانع فإن المنع لا يتقدم المانع كما أن الحكم لا يسبق سببه ولا شرطه،
ولأن البيع مع الخيار سبب يثبت الملك عقيبة فيما إذا لم يفسخ فوجب أن يثبته
وإن فسخ كبيع المعيب وهو ظاهر إن شاء الله تعالى {مسألة} (فما حصل من كسب
أو نماء منفصل فهو له أمضيا العقد أو فسخاه) ما يحصل من غلات المبيع ونمائه
في مدة الخيار فهو للمشتري أمضيا العقد أو فسخاه، قال أحمد فيمن اشترى
عبداً ووهب له مال قبل التفرق ثم اختار البائع العبد فالمال للمشتري، وقال
الشافعي إن أمضيا العقد وقلنا الملك للمشتري أو موقوف فالنماء المنفصل له،
وإن قلنا الملك للبائع فالنماء له وإن فسخا العقد وقلنا الملك للبائع أو
موقوف فالنماء له وإلا فهو للمشتري ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم "
الخراج بالضمان " قال الترمذي هذا حديث صحيح وهذا من ضمان
المشتري فيجب ان يكون خراجه له، ولأن الملك ينتقل بالبيع على ما بينا فيجب
ان يكون نماؤه للمشتري كما بعد انقضاء الخيار ويتخرج أن يكون النماء
المنفصل للبائع إذا فسخا العقد بناء على قولنا إن الملك لا ينتقل، وأما
النماء المتصل فهو تابع للمبيع بكل حال كما يتبعه في الرد بالعيب والمقايلة
(فصل) وضمان المبيع على المشتري إذا قبضه أو لم يكن مكيلاً ولا موزوناً فإن
تلف أو نقص أو حدث به عيب في مدة الخيار فهو من ضمانه لأنه ملكه وغلته له
فكان من ضمانه كما بعد انقضاء الخيار ومؤنته عليه، وإن كان عبداً فهل هلال
شوال ففطرته عليه لذلك، وإن اشترى حاملاً فولدت عنده في مدة الخيار ثم ردها
على البائع لزمه رد ولدها لانه مبيع حدث فيه زيادة منفصلة فلزم رده
(4/71)
بزيادته كما لو اشترى عبدين فسمن أحدهما
عنده، وقال الشافعي في أحد قوليه لايرد الولد لأن الحمل لاحكم له لأنه جزء
متصل بالأم فلم يأخذ قسطاً من الثمن كأطرافها.
ولنا أن كل ما يقسط عليه الثمن إذا كان منفصلاً يقسط عليه إذا كان متصلاً
كاللبن وما قالوه يبطل بالجزء المشاع كالثلث والربع، والحكم في الأصل ممنوع
ثم يفارق الحمل الأطراف لأنه يؤول إلى الانفصال وينتفع به منفصلاً ويصح
إفراده منفصلاً والوصية به وله، ويرث إن كان من أهل الميراث ويفرد بالدية
ويرثها ورثته وقولهم لا حكم للحمل لا يصح لهذه الأحكام وغيرها مما قد
ذكرناه {مسألة} (وليس لواحد من المتبايعين التصرف في المبيع في مدة الخيار
إلا بما يحصل به تجربة المبيع) إنما لم يجز لواحد منهما التصرف في المبيع
في مدة الخيار لأنه ليس بملك للبائع فيتصرف فيه ولا انقطعت عنه غلته فيتصرف
فيه المشتري فأما تصرفه بما يحصل به تجربة المبيع كركوب الدابة لينظر
سيرها، والطحن على الرحى ليعلم قدر طحنها، وتحلب الشاة ليعلم قدر لبنها
ونحو ذلك فيجوز لأن ذلك هو المقصود بالخيار وهو اختبار المبيع {مسألة} (فإن
تصرفا فيه ببيع أو هبة أو نحوهما لم ينفذ تصرفهما) إذا تصرف أحد المتبايعين
في مدة الخيار في المبيع تصرفاً ينقل الملك كالبيع والهبة والوقف أو يستغله
كالإجارة والتزويج والرهن والكتابة ونحوهما لم يصح تصرفه إلا العتق على ما
نذكره سواء وجد تصرف
من البائع أو المشتري لأن البائع تصرف في غير ملكه والمشتري يسقط حق البائع
من الخيار واسترجاع المبيع فلم يصح تصرفه فيه كالتصرف في الرهن إلا أن يكون
الخيار للمشتري وحده فينفذ تصرفه ويبطل خياره لأنه لاحق لغيره فيه وثبوت
الخيار له لا يمنع تصرفه فيه كالمعيب، قال أحمد إذا اشترط الخيار فباعه قبل
ذلك بربح فالربح للمبتاع لأنه قد وجب عليه حين عرضه يعني بطل خياره ولزمه
وهذا فيما إذا اشترط الخيار له وحده، وكذلك إذا قلنا إن البيع لا ينقل
الملك وكان الخيار لهما أو للبائع وحده فتصرف فيه البائع نفذ تصرفه وصح
لأنه ملكه وله إبطال خيار غيره، وقال ابن أبي موسى في تصرف المشتري في
المبيع قبل التفرق ببيع أو هبة روايتان (إحداهما) لا يصح لأن في صحته اسقاط
حق البائع من الخيار (والثانية) هو موقوف فإن تفرقا قبل الفسخ صح، وإن
اختار البائع الفسخ بطل بيع المشتري قال أحمد في رواية أبي طالب إذا اشترى
ثوباً بشرط فباعه بربح قبل انقضاء الشرط يرده إلى صاحبه إن طلبه فإن لم
يقدر على رده فللبائع قيمة الثوب لأنه استهلك ثوبه أو يصالحه.
فقوله يرده إن طلبه يدل على أن وجوب رده مشروط بطلبه، وقد روى البخاري عن
ابن عمر أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فكان على بكر صعب
لعمر فكان يتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول له أبوه لا يتقدم النبي
صلى الله عليه وسلم أحد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم " بعنيه " فقال
عمر فهو لك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هو لك يا عبد الله ابن عمر
فاصنع به ما شئت " وهذا يدل على التصرف قبل التفرق، والأول أصح وحديث ابن
عمر ليس فيه
(4/72)
تصريح بالبيع فإن قول عمر هو لك يحمل على
أنه أراد هبته وهو الظاهر فإنه لم يذكر ثمناً والهبة لا يثبت فيها الخيار،
وقال الشافعي تصرف البائع في المبيع بالبيع والهبة ونحوهما صحيح لأنه إما
أن يكون على ملكه فيملك العقد عليه، إما أن يكون للمشتري والبائع يملك
فسخه، فجعل البيع والهبة فسخاً وأما تصرف المشتري فلا يصح إذا قلنا الملك
لغيره وإن قلنا الملك له ففي صحة تصرفه وجهان ولنا على إبطال تصرف البائع
أنه تصرف في ملك غيره بغير ولاية شرعية ولا نيابة عرفية فلم يصح كما بعد
الخيار، وقولهم يملك الفسخ قلنا إلا أن ابتداء التصرف لم يصادف ملكه فلم
يصح كتصرف الأب فيما وهبه لولده قبل استرجاعه وتصرف الشفيع في الشقص
المشفوع قبل أخذه
(فصل) فإن تصرف المشتري بإذن البائع أو البائع بوكالة المشتري صح التصرف
وانقطع خيارهما لأنه يدل على تراضيهما بإمضاء البيع فينقطع به خيارهما كما
لو تخايرا، وانما صح تصرفهما لأن قطع الخيار حصل بالإذن في البيع فيقع بعد
البيع انقطاع الخيار ويحتمل أن لا يصح تصرف البائع بإذن المشتري لأن البائع
لا يحتاج إلى إذن المشتري في استرجاع المبيع فيصير كتصرفه بغير إذن المشتري
وقد ذكرنا أنه لا يصح كذا ههنا، وكل موضع قلنا إن تصرف البائع لا ينفذ ولكن
ينفسخ به البيع فإنه متى أعاد ذلك التصرف أو تصرف تصرفاً سواه صح لأن الملك
عاد إليه بفسخ البيع فصح تصرفه فيه كما لو فسخ البيع بصريح قوله ثم تصرف
فيه إلا إذا قلنا أن تصرفه لا ينفسخ به البيع وكذلك إن تقدم تصرفه بما
ينفسخ به البيع صح تصرفه لما ذكرنا {مسألة} (ويكون تصرف البائع فسخا لبيع
وتصرف المشتري إسقاطاً لخياره في أحد الوجهين وفي الآخر البيع والخيار
بحالهما، وان استخدام المبيع لم يبطل خياره في أصح الوجهين وكذلك إن قبلته
الجارية ويحتمل أن يبطل إذا لم يمنعها) إذا تصرف البائع في المبيع بما
يفتقر إلى الملك كان فسخاً للبيع وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن تصرفه
يدل على رغبته في المبيع فكان فسخاً للبيع كصريح القول لأن الصريح إنما كان
فسخاً للبيع لدلالته على الرضا به فما دل على الرضا به يقوم مقامه ككنايات
الطلاق، وعن أحمد رواية أخرى لا ينفسخ البيع بذلك لأن الملك انتقل عنه فلم
يكن تصرفه فيه استرجاعاً له كمن وجد متاعه عند مفلس فتصرف فيه، وإن تصرف
المشتري في المبيع في مدة الخيار بما ذكرنا ونحوه مما يختص الملك كاعتاق
العبد وكتابته ووطئ الجارية ومباشرتها ولمسها بشهوة ووقف المبيع وركوب
الدابة لحاجته أو سكنى الدار ورمها وحصاد الزرع فما وجد من هذا فهو رضا
بالمبيع ويبطل به خياره لأن الخيار يبطل بالتصريح بالرضى وبدلالته ولذلك
بطل خيار المعتقة بتمكينها من نفسها وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إن وطئك فلا خيار لك " وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي، فأما ما يستعلم به
المبيع كركوب الدابة ليختبر فراهتها والطحن على الرحى ليعلم قدره ونحو ذلك
فلا يدل على الرضا ولا يبطل به الخيار لانه
(4/73)
المقصود بالخيار وفيه وجه آخر أن تصرف
المشتري لا يبطل خياره ولا يبطل إلا بالتصريح كما لو ركب الدابة ليختبرها،
والأول أصح لأن هذا يتضمن إجازة البيع ويدل على الرضى به فيبطل به الخيار
كصريح القول، ولأن صريح القول إنما يبطل به الخيار لدلالته على الرضى فما
دل على الرضى بالمبيع يقوم مقام القول ككنايات الطلاق، وإن عرضه على البيع
أو باعه بيعاً فاسداً، أو عرضه على الرهن، أو وهبه فلم يقبل الموهوب له بطل
خياره على الوجه الأول لأن ذلك يدل على الرضى به، قال أحمد إذا شرط الخيار
فباعه قبل ذلك يربح فالربح للمبتاع لأنه وجب عليه حين عرضه (فصل) وإن
استخدم المشتري المبيع ففيه روايتان (إحداهما) لا يبطل خياره، قال أبو
الصقر قلت لأحمد رجل اشترى جارية وله الخيار فيها يومين فانطلق بها فغسلت
رأسه أو غمزت رجله أو طبخت له أو خبزت هل يستوجبها بذلك؟ قال لا حتى يبلغ
منها مالا يحل لغيره قلت فإن مشطها أو خظبها أو حفها هل استوجبها بذلك؟ قال
قد بطل خياره لأنه وضع يده عليها.
وذلك لأن الاستخدام لا يختص الملك ويراد به تجربة المبيع فأشبه ركوب الدابة
ليعلم سيرها.
ونقل حرب عن أحمد أنه يبطل خياره لأنه انتفاع بالمبيع أشبه لمسها بشهوة.
ويمكن أن يقال ما قصد به من الاستخدام تجربة المبيع لا يبطل الخيار كركوب
الدابة ليعلم سيرها وما لا يقصد به ذلك يبطل الخيار كركوب الدابة لحاجته،
وإن قبلت الجارية المشتري لم يبطل خياره وهذا مذهب الشافعي، ويحتمل أن يبطل
ذكره أبو الخطاب إذا لم يمنعها لأن إقراره لها على ذلك يجري مجرى استمتاعه
بها، وقال أبو حنيفة إن قبلته بشهوة بطل خياره لأنه استمتاع يختص الملك
فأبطل خياره كما لو قبلها ولنا أنها قبلة لأحد المتعاقدين فلم يبطل خياره
كما لو قبلت البائع ولأن الخيار له لا لها فلو ألزمناه بفعلها لألزمناه
بغير رضاه ولا دلالة عليه بخلاف ما إذا قبلها فإنه يدل على الرضى بها، ومتى
بطل خيار المشتري بتصرفه فخيار البائع باق بحاله لأن خياره لا يبطل برضى
غيره إلا أن يكون تصرف بإذن البائع وقد ذكرناه {مسألة} (وإن أعتقه المشتري
نفذ عتقه وبطل خيارهما، وكذلك إن تلف المبيع، وعنه لا يبطل خيار البائع وله
الفسخ والرجوع بالقيمة) إذا تصرف أحد المتعاقدين بعتق المبيع في مدة الخيار
نفذ عتق من حكمنا بالملك له، وظاهر
المذهب أن الملك للمشتري فنفذ عتقه سواء كان الخيار لهما أو لأحدهما لأنه
عتق من مالك جائز التصرف فنفذ كما بعد المدة وقول النبي صلى الله عليه وسلم
" لا عتق فيما لا يملك ابن آدم " يدل بمفهومه على أنه ينفذ في الملك وملك
البائع الفسخ لا يمنع نفوذ العتق من المشتري كما لو باع عبداً بجارية معيبة
فإن عتق المشتري ينفذ مع أن للبائع الفسخ.
ولو وهب رجل ابنه عبداً فاعتقه نفذ عتقه مع ملك الأب استرجاعه ولا ينفذ عتق
البائع في ظاهر المذهب، وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي ينفذ عتقه لأنه
ملكه، وإن كان الملك انتقل فإنه يسترجعه بالعتق، ولنا أنه إعتاق من غير
مالك فلم ينفذ كعتق الأب عبد ابنه
(4/74)
الذي وهبه إياه، وقد دللنا على أن الملك
انتقل إلى المشتري، وإن قلنا بالرواية الأخرى وإن الملك لم ينتقل إلى
المشتري نفذ عتق البائع دون المشتري، وإن أعتق البائع والمشتري جميعاً فإن
تقدم عتق المشتري فالحكم على ما ذكرناه، وإن تقدم عتق البائع فينبغي أن لا
ينفذ عتق واحد منهما لأن البائع لم ينفذ عتقه لكونه أعتق غير مملوكة، ولكن
حصل بإعتاقه فسخ البيع واسترجاع العبد فلم ينفذ عتق المشتري، ومتى أعاد
البائع الاعتاق مرة ثانية نفذ إعتاقه لأنه عاد العبد إليه أشبه مالو
استرجعه بصريح قوله إلا على الرواية التي تقول إن تصرف البائع لا يكون
فسخاً للبيع فينبغي أن ينفذ إعتاق المشتري.
ولو اشترى من يعتق عليه جرى مجرى إعتاقه بصريح قوله وقد ذكرنا حكمه، وإن
باع عبداً بجارية بشرط الخيار فاعتقها نفذ عتق الأمة دون العبد، وإن أعتق
أحدهما ثم أعتق الآخر نظرت فإن أعتق الأمة أولاً نفذ عتقها وبطل خياره ولم
ينفذ عتق العبد، وإن أعتق العبد أولاً انفسخ البيع ورجع إليه العبد ولم
ينفذ اعتاقه ولا ينفذ عتق الأمة لأنها خرجت بالفسخ عن ملكه وعادت إلى سيدها
الذي باعها.
(فصل) وإذا قال لعبده إذا بعتك فأنت حر ثم باعه صار حراً نص عليه أحمد، وبه
قال الحسن وابن أبي ليلى ومالك والشافعي وسواء شرطا الخيار أو لم يشرطاه،
وقال أبو حنيفة والثوري لا يعتق لأنه إذا تم بيعه زال ملكه عنه فلم ينفذ
اعتاقه له، ولنا أن زمن انتقال الملك زمن الحرية لأن البيع سبب لنقل الملك
وشرط للحرية فيجب تغليب الحرية كما لو قال لعبده إذا مت فأنت حر ولأنه علق
حريته على فعله للبيع، والصادر منه في البيع إنما هو الإيجاب فمتى قال
للمشتري بعتك فقد وجد شرط الحرية فيعتق قبل قبول المشتري وعلله القاضي بأن
الخيار ثابت في كل بيع فلا ينقطع تصرفه فيه فعلى هذا لو تخايرا ثم باعه لم
يعتق، ولا يصح هذا التعليل على مذهبنا لأننا قد ذكرنا أن البائع لو أعتق في
مدة الخيار لم ينفذ إعتاقه (فصل) وإذا اعتق المشتري العبد بطل خياره وخيار
البائع، وهذا اختيار الخرقي كما لو تلف المبيع على ما نذكره، وفيه رواية
أخرى أنه لا يبطل خيار البائع لقول النبي صلى الله عليه وسلم " البيعان
بالخيار ما لم يتفرقا " فعلى هذه الرواية له الفسخ ولا رجوع بالقيمة يوم
العتق (فصل) وإن تلف المبيع في مدة الخيار فلا يخلوا إما أن يكون قبل القبض
أو بعده فإن كان قبل القبض وكان مكيلا أو موزونا انفسخ البيع، وكان من مال
البائع ولا نعلم في هذا خلافاً إلا أن يتلفه المشتري فيكون من ضمانه، ويبطل
خياره في خيار البائع روايتان وإن كان المبيع غير المكيل والموزون فلم يمنع
البائع والمشتري من قبضه فظاهر المذهب أنه من ضمان المشتري ويكون كتلفه بعد
القبض، وأما إن تلف المبيع بعد القبض في مدة الخيار فهو من ضمان المشتري
ويبطل خياره وفي خيار البائع روايتان (إحداهما) يبطل وهو اختيار الخرقي
وأبي بكر لأنه خيار فسخ فبطل بتلف
(4/75)
المبيع كخيار الرد بالعيب إذا تلف المعيب
(والثانية) لا يبطل وللبائع الفسخ ويطالب المشتري بقيمته أو مثله إن كان
مثلياً اختارها القاضي وابن عقيل لقول النبي صلى الله عليه وسلم " البيعان
بالخيار ما لم يتفرقا " ولأنه خيار فسخ فلم يبطل بتلف المبيع كما لو اشترى
ثوباً بثوب فتلف أحدهما ووجد الآخر بالثوب عيباً فإنه يرده ويرجع بقيمة
ثوبه كذا ههنا {مسألة} (وحكم الوقف حكم البيع في أحد الوجهين وفيه وجه آخر
أنه كالعتق لأنه تصرف يبطل الشفعة فأشبه العتق) والصحيح أن حكمه حكم البيع
فيما ذكرنا لأن المبيع يتعلق به حق البائع فقلنا يمنع جواز التصرف فمنع صحة
الوقف كالرهن ويفارق الوقف العتق لأنه مبني على التغليب والسراية بخلاف
الوقف ولا
نسلم أن الوقف يبطل الشفعة والله أعلم {مسألة} (وإن وطئ المشتري الجارية
فأحبلها صارت أم ولد له وولده حر ثابت النسب) لا يجوز للمشتري وطئ الجارية
في مدة الخيار إذا كان الخيار لهما أو للبائع وحده لأنه يتعلق بها حق
البائع فلم يصح وطئها كالمرهونة ولا نعلم في هذا خلافاً، فإن وطئها فلا حد
عليه لأن الحد يدرأ بشبهة الملك فبحقيقته أولى ولا مهر لها لأنها مملوكته،
وإن علقت منه فالولد حر يلحقه نسبه لأنه من أمته ولا يلزم قيمته لذلك وتصير
أم ولد له، فإن فسخ البائع البيع رجع بقيمتها لأنه تعذر الفسخ فيها ولا
يرجع بقيمة ولدها لأنه حدث في ملك المشتري، وإن قلنا إن الملك لا ينتقل الى
المشتري فلا حد عليه أيضاً لأن له فيها شبهة لوجود سبب نقل الملك إليه
فيها، واختلاف أهل العلم في ثبوت الملك له، والحد يدرأ بالشبهات وعليه
المهر وقيمة الولد وحكمهما حكم نمائهما، وإن علم التحريم وإن ملكه غير ثابت
فولده رقيق {مسألة} (وإن وطئها البائع وقلنا البيع ينفسخ بوطئه فكذلك، وإن
قلنا لا ينفسخ فعليه المهر وولده رقيق إلا إذا قلنا الملك له ولا حد فيه
على كل حال) وقال أصحابنا عليه الحد إذا علم زوال ملكه وإن البيع لا ينفسخ
بوطئه وهو المنصوص، وأما البائع فلا يحل له الوطئ قبل فسخ البيع، وقال بعض
الشافعية له وطؤها لأن البيع ينفسخ بوطئه فإن كان الملك انتقل رجعت إليه،
وإن لم يكن انتقل انقطع حق المشتري منها فيكون واطئا لمملوكته التي لا حق
لغيره فيها، ولنا أن الملك انتقل عنه فلم يحل له وطؤها لقول الله تعالى
(إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين * فمن ابتغى وراء
ذلك فأولئك هم العادون) ولأن ابتداء الوطئ يقع في غير ملكه حراماً، ولو
انفسخ البيع قبل وطئه لم يحل حتى يستبرئها ولاحد عليه، وبهذا قال أبو حنيفة
ومالك والشافعي، وقال بعض أصحابنا أن علم التحريم وان مكله قد زال ولا
ينفسخ بالوطئ فعليه الحد، وذكر أن أحمد نص عليه لأنه لم يصادف ملكاً ولا
شبهة ملك.
ولنا ان ملكه
(4/76)
يحصل بابتداء وطئه فيحصل تمام الوطئ في
ملكه مع اختلاف العلماء في كون الملك له وحل الوطئ له
ولا يجب الحد مع واحدة من هذه الشبهات فكيف إذا اجتمعت مع أنه يحتمل أن
يحصل الفسخ باللامسة قبل الوطئ فيكون الملك قد رجع إليه قبل وطئه، ولهذا
قال أحمد في المشتري إنها قد وجبت عليه فيما إذا مشطها أو خضبها أو حفها
فبوضع يده عليها للجماع ولمس فرجها أولى، وعلى هذا يكون ولده منها حراً
ثابت النسب ولا يلزمه قيمته ولا مهر عليه، وتصير أم ولد له، وقال أصحابنا
إن علم التحريم فولده رقيق لا يلحقه نسبه، وإن لم يعلم لحقه النسب وولده حر
وعليه قيمته يوم الولادة وعليه المهر ولا تصير أم ولد له لأنه وطئها في غير
ملكه (فصل) ولا بأس بنقد الثمن وقبض المبيع في مدة الخيار وهو قول أبي
حنيفة والشافعي وكرهه مالك قال لأنه في معنى بيع وسلف إذا أقبضه الثمن ثم
تفاسخا البيع صار كأنه أقرضه إياه.
ولنا أن هذا الحكم من أحكام البيع فجاز في مدة الخيار كالإجارة وما ذكره لا
يصح لأننا لا نجيز له التصرف فيه {مسألة} (ومن مات منهم بطل خياره ولم
يورث) إذا مات أحد المتبايعين في مدة الخيار بطل خياره في ظاهر المذهب،
ويبقى خيار الآخر بحاله إلا أن يكون الميت قد طالب بالفسخ قبل موته فيكون
لورثته، وهو قول الثوري وأبي حنيفة ويتخرج أن الخيار لا يبطل، وينتقل إلى
ورثته لأنه حق مالي فينتقل إلى الوارث كالأجل وخيار الرد بالعيب ولأنه حق
فسخ فينتقل إلى الوارث كالفسخ بالتحالف، وهذا قول مالك والشافعي.
ولنا أنه حق فسخ لا يجوز الاعتياض عنه فلم يورث كخيار الرجوع في الهبة
{فصل} (الثالث) خيار الغبن ويثبت في ثلاث صور (إحداها) إذا تلقى الركبان
فباعهم أو اشترى منهم فلهم الخيار إذا هبطوا السوق وعلموا أنهم قد غبنوا
غبناً يخرج عن العادة، روي أنهم كانوا يتلقون الاجلاب فيشترون منهم الأمتعة
قبل أن يهبطوا الا سواق فربما غبنوهم غبناً بيناً فيضروا بهم وربما أضروا
بأهل البلد لأن الركبان إذا وصلوا باعوا أمتعتهم والذين يتلقونهم لا
يبيعونها سريعاً ويترابصون بها السعة فهو في معنى بيع الحاضر للبادي فنهي
النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فروى ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " لا تلقوا الركبان ولا يبيع حاضر لباد " وعن أبي هريرة مثله
متفق عليهما، وكرهه أكثر العلماء منهم عمر بن عبد العزيز ومالك والليث
والاوزاعي والشافعي واسحاق
وحكي عن أبي حنيفة أنه لم ير بذلك بأساً، وسنة رسول الله صلى الله عليه
وسلم أحق أن تتبع فإن خالف وتلقى الركبان واشترى منهم فالبيع صحيح في قول
الجميع قاله ابن عبد البر، وعن أحمد أن البيع باطل لظاهر النهي والأول أصح
لما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تلقوا الجلب
فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار " رواه مسلم والخيار لا
يكون إلا في عقد صحيح، ولأن النهي لا لمعنى في البيع بل يعود إلى ضرب من
الخديعة يمكن استدراكها بإثبات الخيار فأشبه بيع المصراة وفارق
(4/77)
بيع الحاضر للبادي فإنه لا يمكن استدراكه
بالخيار إذ ليس الضرر عليه إنما هو على المسلمين، إذا تقرر هذا فللبائع
الخيار إذا علم أنه قد غبن، وقال أصحاب الرأي لا خيار له وقد روينا قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا ولا قول لأحد مع قوله، وظاهر المذهب
أنه لاخيار له إلا مع الغبن لأنه إنما يثبت لأجل الخديعة ودفع الضرر عن
البائع ولا ضرر مع عدم الغبن وهذا ظاهر مذهب الشافعي ويحمل إطلاق الحديث في
إثبات الخيار على هذا لعلمنا بمعناه ومراده ولأن النبي صلى الله عليه وسلم
جعل له الخيار إذا أتى السوق فيفهم منه أنه أشار إلى معرفته بالغبن في
السوق ولولا ذلك لكان الخيار له من حين البيع، وظاهر كلام الخرقي إن الخيار
يثبت له مجرد الغبن وان قل والأولى أن يتقيد بما يخرج عن العادة لأن ما دون
ذلك لا ينضبط، وقال أصحاب مالك إنما نهى عن تلقي الركبان لما يفوت به من
الرفق بأهل السوق لئلا ينقطع عنهم ماله جلسوا من ابتغاء فضل الله، قال ابن
القاسم فإن تلقاها متلق فاشتراها عرضت على أهل السوق فيشتركون فيها، وقال
الليث بن سعد يباع في السوق وهذا مخالف لمدلول الحديث فإن النبي صلى الله
عليه وسلم جعل الخيار للبائع إذا هبط السوق ولم يجعلوا له خيار أو جعل
النبي صلى الله عليه وسلم الخيار له يدل على أن النهي عن التلقي لحقه لا
لحق غيره، ولأن الجالس في السوق كالمتلقي في أن كل واحد منهما مبتغ لفضل
الله ولا يليق بالحكمة فسخ عقد أحدهما والحاق الضرر به دفعاً للضرر عن
مثله، وليس رعاية حق الجالس أولى من رعاية حق المتلقي، ولا يمكن اشتراك أهل
السوق كلهم في سلعته فلا يعرج على مثل هذا (فصل) فإن تلقاهم فباعهم شيئاً
فهو كمن اشترى منهم ولهم الخيار إذا غبنهم غبناً يخرج عن العادة
وهذا أحد الوجهين للشافعية وقالوا في الآخر النهي عن الشراء دون البيع فلا
يدخل البيع فيه وهذا مقتضى قول أصحاب مالك لأنهم عللوه بما ذكرنا عنهم ولا
يتحقق ذلك في البيع لهم.
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " ولا تلقوا الركبان " والبائع داخل فيه
ولأن النهي عنه لما فيه من خديعتهم وغبنهم، وهذا في البيع كهو في الشراء،
والحديث قد جاء ملطقا، ولو كان مختصاً بالشراء لألحق به ما في معناه وهذا
في معناه (فصل) فإن خرج لغير قصد التلقي فلقي ركباً فقال القاضي: ليس له
الابتياع منهم ولا الشراء وهذا أحد الوجهين لأصحاب الشافعي، ويحتمل أن لا
يحرم عليه ذلك وهو قول الليث بن سعد والوجه الثاني لأصحاب الشافعي لأنه لم
يقصد التلقي فلم يتناوله النهي ولأنه نادر فلا يكثر ضرره كمن يقصد ذلك ووجه
الأول أنه إنما نهى عن التلقي دفعاً للخديعة والغبن عنهم وذلك متحقق سواء
قصد التلقي أو لم يقصده فأشبه ما لو قصد {مسألة} (الثانية النجش وهو أن
يزيد في السلعة من يريد شراها ليغر المشتري فله الخيار إذا غبن)
(4/78)
النجش حرام وخداع قال البخاري الناجش آكل
ربا خائن وهو خداع باطل لا يحل لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم نهى عن النجش متفق عليه، ولأن في ذلك تغريراً بالمشتري وخديعة له، وقد
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " الخديعة في النار " فإن اشترى
مع النجش فالشراء صحيح في قول أكثر العلماء منهم الشافعي وأصحاب الرأي، وعن
أحمد أن البيع باطل اختاره أبو بكر وهو قول مالك لأن النهي يقتضي الفساد.
ولنا أن النهي عاد إلى الناجش لا إلى العاقد فلم يؤثر في البيع ولأن النهي
لحق آدمي فلم يفسد العقد كبيع المدلس، وفارق ماكان لحق الله تعالى فإن حق
الآدمي يمكن جبره بالخيار أو زيادة في الثمن، لكن إن كان في البيع غبن لم
تجر العادة بمثله فللمشتري الخيار بين الفسخ والإمضاء كما في تلقي الركبان
فإن كان يتغابن بمثله فلا خيار له، وسواء كان النجش بمواطأة من البائع أو
لم يكن، وقال أصحاب الشافعي إن لم يكن ذلك بمواطأة من البائع وعلمه فلا
خيار،
واختلفوا فيما إذا كان بمواطأة منه فقال بعضهم لاخيار للمشتري لأن التفريط
منه حيث اشترى ما لايعرف قيمته.
ولنا أنه تغرير بالعاقد فإذا غبن ثبت له الخيار كما في تلقي الركبان، وبذلك
يبطل ما ذكروه ولو قال البائع أعطيت بهذه السلعة ما لم يعط فصدقه المشتري
ثم كان كاذباً فالبيع صحيح وللمشتري الخيار أيضاً لأنه في معنى النجش
{مسألة} (الثالثة المسترسل إذا غبن الغبن المذكور) يعني إذا غبن غبناً يخرج
عن العادة كما ذكرنا في تلقي الركبان، والنجش يثبت له الخيار بين الفسخ
والإمضاء، وبه قال مالك قال ابن أبي موسى وقد قيل قد لزمه البيع ولا فسخ له
وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن نقصان قيمة السلعة مع سلامتها لا يمنع
لزوم العقد كغير المسترسل وكالغبن اليسير.
ولنا أنه غبن حصل لجهله بالمبيع فأثبت الخيار كالغبن في تلقي الركبان.
فأما غير المسترسل فإنه دخل على بصيرة بالغبن فهو كالعالم بالعيب وكذا لو
استعجل فجهل مالو تثبت لعلمه لم يكن له خيار لأنه انبنى على تفريطه
وتقصيره، والمسترسل هو الجاهل بقيمة السلعة ولا يحسن المبايعة قال أحمد:
المسترسل الذي لا يحسن أن يما كس وفي لفظ الذي لا يماكس فكأنه استرسل إلى
البائع فأخذ ما أعطاه من غير مما كسة ولا معرفة بغبنه.
ولا تحديد للغبن في المنصوص عن أحمد، وحده أبو بكر في التنبيه وابن أبي
موسى في الإرشاد بالثلث وهو قول مالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم "
والثلث كثير " وقيل السدس والأولى تحديده بما لا يتغابن الناس به في العادة
لأن ما لا يرد الشرع بتحديده يرجع فيه إلى العرف (فصل) وإذا وقع البيع على
غير متعين كقفيز من صبرة ورطل من دن فظاهر قول الخرقي أنه يلزم بالتفرق
سواء تقابضا أولا، وقال القاضي في موضع المبيع الذي لا يلزم الا بالقبض
كالمكيل والموزون فقد صرح بأنه لا يلزم قبل قبضه، وذكر في موضع آخر: من
اشترى فقيزا من صبرتين فتلفت إحداهما قبل القبض بطل العقد في التالف دون
الباقي رواية واحدة، ولا خيار للبائع وهذا
(4/79)
تصريح باللزوم في حق البائع قبل القبض،
وأنه لو كان جائزاً كان له الخيار سواء تلفت احداهما أو لم تتلف.
ووجه الجواز أنه مبيع لا يملك بيعه ولا التصرف فيه فكان جائزاً كما قبل
التفرق، ولأنه لو
تلف لكان من ضمان البائع.
ووجه اللزوم قول النبي صلى الله عليه وسلم " وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم
يترك أحدهما البيع فقد وجب البيع " وما ذكرناه للقول الأول ينتقض ببيع
الموصوف والسلم فإنه لازم مع ما ذكرناه وكذلك سائر البيع في إحدى
الروايتين.
(فصل) قال رضي الله عنه (الرابع خيار التدليس بما يزيد الثمن كتصرية اللبن
في الضرع وتحمير وجه الجارية وتسويد شعرها وتجعيده وجمع ماء الرحى وارساله
عند عرضها فهذا يثبت للمشتري خيار الرد) التصرية جمع اللبن في الضرع يقال
صرى الشاة وصرى اللبن في ضرع الشاة بالتشديد والتخفيف ويقال صرى الماء في
الحوض، وصرى الطعام في فيه وصرى الماء في ظهره إذا ترك الجماع وأنشد أبو
عبيدة: رأيت غلاماً قد صرى في فقرته * ماء الشباب عنفوان شرته قال البخاري
أصل التصرية حبس الماء.
يقال صريت الماء ويقال للمصراة المحفلة وهو من الجمع أيضاً ومنه سميت مجامع
الناس محافل، والتصرية حرام إذا أريد بها التدليس على المشتري لقول النبي
صلى الله عليه وسلم " لا تصروا الإبل " وقوله " من غشنا فليس منا " وروى
ابن ماجة بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " بيع المحفلات
خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم " وراه ابن عبد البر " ولا تحل خلابة مسلم "
فمن اشترى مصراة من بهيمة الأنعام وهو لا يعلم تصريتها ثم علم فله الخيار
في الرد والإمساك روى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وأبي هريرة وأنس وإليه ذهب
مالك وابن أبي ليلى والشافعي واسحاق وأبو يوسف وعامة أهل العلم، وذهب أبو
حنيفة ومحمد إلى أنه لا خيار له لأن ذلك ليس بعيب بدليل أنها لو لم تكن
مصراة فوجدها أقل لبنا من أمثالها لم يملك ردها، والتدليس بما ليس بعيب لا
يثبت الخيار كما لو علفها فانتفخ بطنها فظن المشتري أنها حامل ولنا ما روى
أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " لا تصروا الإبل والغنم
فمن ابتاعها فإنه بخير النظرين بعد أن يحلبها إن شاء أمسك وإن شاء ردها
وصاعاً من تمر " متفق عليه، وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال " من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام فإن ردها رد معها مثل أو مثلي
لبنها فمحا " رواه أبو داود ولأنه تدليس بما يختلف الثمن باختلافه فوجب به
الرد كالشمطاء إذا سود شعرها،
وبه يبطل قياسهم فإن بياضه ليس بعيب كالكبر، وإذا دلسه ثبت له الخيار، وأما
انتفاخ البطن فقد يكون لغير الحمل فلا معنى لحمله عليه وعلى أن هذا القياس
يخالف النص واتباع قول النبي صلى الله عليه وسلم أولى، إذا ثبت هذا فإنما
يثبت الخيار إذا لم يعلم المشتري بالتصرية فإن كان عالماً لم يثبت له خيار،
وقال أصحاب الشافعي يثبت له الخيار في وجه للخبر ولأن انقطاع اللبن لم يوجد
وقد يبقى على حاله كما لو
(4/80)
تزوجت عنيناً ثم طلبت الفسخ.
ولنا أنه اشتراها عالماً بالتدليس فلم يكن له خيار كما لو اشترى من سود
شعرها عالماً بذلك ولأنه دخل على بصيرة فلم يثبت له الرد كما لو اشترى
معيباً يعلم عيبه وبقاء اللبن على حاله نادر بعيد لا يعلق عليه حكم، والأصل
الذي قاسوا عليه ممنوع (فصل) وكذلك كل تدليس يختلف الثمن لأجله مثل أن يسود
شعر الجارية أو يجعده أو يحمر وجهها أو يضمر الماء على الرحى ويرسله عند
عرضها على المشتري يثبت الخيار أيضاً لأنه تدليس يختلف الثمن باختلافه
فأثبت الخيار كالتصرية، وبهذا قال الشافعي، ووافق أبو حنيفة في تسويد الشعر
وقال في تجعيده لا يثبت به خيار لانه تدليس بما ليس بعيب أشبه ما لو سود
أنامل العبد ليظنه كاتباً أو حدادا وما ذكروه ينتقض بتسويد الشعر، وأما
تسويد أنامل العبد فليس بمنحصر في كونه كاتباً لأنه يحتمل أن يكون قد ولع
بالدواة أو كان غلاماً لكاتب يصلح له الدواة فظنه كاتبا طمعا لا يستحق به
فسخاً، فإن حصل هذا من غير تدليس مثل أن اجتمع اللبن في الضرع من غير قصد،
أو احمر وجه الجارية لخجل أو تعب أو يسود شعرها بشئ وقع عليه، فقال القاضي
له الرد أيضاً لدفع الضرر اللاحق بالمشتري والضرر واجب الدفع سواء قصد أو
لم يقصد أشبه العيب، ويحتمل أن لا يثبت الخيار بحمرة الوجه بخجل أو تعب
لأنه يحتمل ذلك فتعين ظنه من خلقته الأصلية لطمع فأشبه سواد أنامل العبد
(فصل) وإن دلسه بما لا يختلف به الثمن كتبييض الشعر وتسبيطه فلا خيار
للمشتري لأنه لا ضرر في ذلك، وإن علف الشاة فظنها المشتري حاملاً أو سود
أنامل العبد أو ثوبه ليظنه كاتباً أو حداداً أو كانت الشاة عظيمة الضرع
خلقة فظنها كثيرة اللبن فلا خيار له لأن ذلك لا ينحصر فيما ظنه المشتري لأن
سواد الأنامل قد يكون لو لع أو خدمة كاتب أو حداد أو شروع في الكتابة
وانتفاخ
البطن يكون للأكل فظنه المشتري غير ذلك طمعاً لا يثبت به الخيار (فصل) فإن
أراد إمساك المدلس مع الأرش لم يكن له ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم
يجعل له في المصراة أرشاً بل خيره بين الإمساك والرد مع صاع من تمر ولأن
المدلس ليس بمعيب فلم يستحق له أرشاً، فإن تعذر عليه الرد بتلف فعليه الثمن
لأنه تعذر عليه الرد ولا أرش له أشبه غير المدلس، فإن تعيب عنده قبل العلم
بالتدليس فله رده ورد أرش العيب عنده وأخذ الثمن وإن شاء أمسك ولا شئ له،
وإن تصرف في المبيع بعد علمه بالتدليس بطل رده كما لو تصرف في المبيع،
المعيب وإن أخر الرد من غير تصرف فحكمه حكم تأخير رد المعيب على ما نذكره
إن شاء الله {مسألة} (ويرد مع المصراة عوض اللبن صاعا من تمر فان لم يجد
التمر فقيمته في موضعه سواء كانت ناقة أو بقرة أو شاة) إذا رد المصراة لزمه
بدل اللبن في قول كل من جوز ردها وهو مقدر بصاع من تمر كما جاء في
(4/81)
الحديث، وهذا قول الليث وإسحاق والشافعي
وأبي عبيد وأبي ثور، وذهب مالك وبعض الشافعية إلى أن الواجب صاع من قوت
البلد لأن في بعض الأحاديث " ورد معها صاعاً من طعام " وفي بعضها " ورد
معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً " فجمع بين الأحاديث وجعل تنصيصه على التمر
لأنه غالب قوت البلد في المدينة لأنه غالب قوت بلد أخر، وقال أبو يوسف يرد
قيمة اللبن لأنه ضمان متلف فيقدر بقيمته كسائر المتلفات وحكي ذلك عن ابن
أبي ليلى، وحكي عن زفر أنه يرد صاعا من تمر أو نصف صاع بر كقولهم في
الفطرة.
ولنا الحديث الصحيح الذي أوردناه وقد نص فيه على التمر فقال " إن شاء ردها
وصاعاً من تمر " وللبخاري " من اشترى غنماً مصراة فاحتلبها فإن رضيها
أمسكها وإن سخطها ففي حلبها صاع من تمر " ولمسلم " ردها ورد صاعا من تمر
لاسمرا " يعني لايرد قمحاً والمراد بالطعام في الحديث التمر لأنه مطلق في
أحد الحديثين مقيد في الآخر في قضية واحدة، والمطلق فيما هذا سبيله يحمل
على المقيد وحديث ابن عمر في روايته جميع بن عمير التيمي قال ابن نمير هو
من أكذب الناس، وقال ابن حبان كان يضع الحديث مع أن الحديث متروك الظاهر
بالاتفاق إذ لا قائل بإيجاب مثل لبنها أو مثلي لبنها
قمحاً ثم قد شك فيه الراوي مع مخالفة الحديث الصحيح فلا يعول عليه، وقياس
أبي يوسف مخالف للنص فلا يقبل ولا يبعد أن يقدر الشارع بدل هذا المتلف
قطعاً للخصومة والتنازع كما قدر دية الآدمي ودية أطرافه، ولا يمكن حمل
الحديث على أن الصاع كان قيمة اللبن، فلذلك أوجبه لوجوه ثلاثة (أحدها) أن
القيمة هي الأثمان لا التمر (الثاني) أنه أوجب في المصراة من الإبل والغنم
جميعاً صاعا من تمر مع اختلاف لبنها (الثالث) أن لفظه للعموم فيتناول كل
مصراة ولا يتفق أن تكون قيمة لبن كل مصراة صاعاً وإن أمكن أن يكون كذلك
فيتعين إيجاب الصاع لأنه القيمة التي عين الشارع إيجابها فلا يجوز العدول
عنها، ويجب أن يكون صاع التمر جيداً غير معيب لأنه واجب بإطلاق الشارع
فينصرف إلى ما ذكرناه كالصاع الواجب في الفطرة، ويكفي فيه أدنى ما يقع عليه
اسم الجيد، ولا فرق بين أن تكون قيمة التمر أقل من قيمة الشاة أو أكثر أو
مثلها نص عليه وليس فيه جمع بين البدل والمبدل لان التمر بدل اللبن قدره
الشارع به كما قدر في يدي العبد قيمته وفي يديه ورجليه قيمته مرتين مع بقاء
العبد على ملك السيد، وإن عدم التمر في موضعه فعليه قيمته في موضع العقد
لأنه بمنزلة عين أتلفها فيجب عليه قيمتها (فصل) ولا فرق بين الناقة والبقرة
والشاة فيما ذكرنا، وقال داود لا يثبت الخيار بتصرية البقرة لأن الحديث "
لا تصروا الإبل والغنم " فدل على أن ما عداهما بخلافهما ولأن الحكم ثبت
فيهما بالنص، والقياس لا تثبت به الاحكام.
ولنا عموم قوله " من اشترى مصراة ومن ابتاع محفلة " ولم يفصل والخبر فيه
تنبيه على تصرية البقر لأن لبنها أكثر وأنفع فيثبت بالتنبيه وهو حجة عند
الجميع (فصل) إذا اشترى مصراتين أو أكثر في عقد فردهن رد مع كل مصراة صاعاً
وبه قال الشافعي وبعض المالكية، وقال بعضهم في الجميع صاع لأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال " من
(4/82)
اشترى غنماً مصراة فاحتلبها فإن رضيها
أمسكها وإن سخطها ففي حلبتها صاع من تمر ".
ولنا قوله " من اشترى مصراة " وهذا يتناول الواحدة ولأن ما جعل عوضاً عن شئ
في صفقتين وجب إذا كان في صفقة واحدة كأرش العيب وأما الحديث فإن الضمير
فيه يعود إلى الواحدة {مسألة} (فإن كان اللبن بحاله لم يتغير رده وأجزأه
ويحتمل أن لا يجزئه إلا التمر)
إذا احتلبها واللبن بحاله ثم ردها مع لبنها فلا شئ عليه لأن المبيع إذا كان
موجوداً فرده لم يلزمه بدله فإن أبى البائع قبوله وطلب التمر فليس له ذلك
إذا كان اللبن لم يتغير ويحتمل أن يلزمه قبوله لظاهر الخبر ولأنه قد نقص
بالحلب لأن كونه في الضرع أحفظ له ولنا أنه قدر على رد المبدل فلم يلزمه
البدل كسائر المبدلات مع أبدالها.
والحديث المراد به رد التمر حاله عدم اللبن لقوله " في حلبتها صاع من تمر "
وقولهم الضرع أحفظ له لا يصح لأنه لا يمكن إبقاؤه في الضرع على الدوام لأنه
يضر بالحيوان، فإن تغير اللبن ففيه وجهان (أحدهما) لا يلزمه قبوله وهو قول
مالك للخبر ولأنه قد نقص بالحموضة أشبه تلفه (والثاني) يلزمه قبوله لأن
التعهد حصل باستعلام المبيع بتعين البائع وتسليطه على حلبه فلم يمنع الرد
كلبن غير المصراة (فصل) فإن رضي بالتصرية فأمسكها ثم وجد بها عيباً ردها به
لأن رضاه بعيب لا يمنع الرد لعيب آخر كما لو اشترى أعرج فرضي به فوجده أبرص
فإن رد لزمه صاع من تمر عوض اللبن لأنه عوض به فيما إذا ردها بالتصرية
فيكون عوضاً له مطلقاً (فصل) ولو اشترى شاة غير مصراة فاحتلبها ثم وجد بها
عيباً فله الرد، ثم إن لم يكن في ضرعها لبن حال العقد فلا شئ عليه لأن
اللبن الحادث بعد العقد يحدث على ملكه، وإن كان فيه لبن حال العقد إلا أنه
يسير لا يخلو الضرع من مثله عادة فلا شئ فيه لأنه لا عبرة به ولا قيمة له
في العادة، وإن كان كثيراً وكان قائماً بحاله انبنى رده على رد لبن المصراة
وقد سبق، فإن قلنا ليس له رده فبقاؤه كتلفه، وهل له رد المبيع؟ يخرج على
الروايتين فيما إذا اشترى شيئاً فتلف بعضه أو تعيب فإن قلنا برده رد مثل
اللبن لأنه من المثليات والأصل ضمانها بمثلها إلا أنه خولف في لبن المصراة
للنص ففيما عداه يبقى على الأصل، ولأصحاب الشافعي في هذا الفصل نحو مما
ذكرنا (فصل) قال ابن عقيل إذا علم التصرية قبل حلبها مثل أن أقربه البائع
أو شهد به من تقبل شهادته فله ردها ولا شئ معها لأن التمر إنما وجب بدلا
للبن المحتلب ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من اشترى غنماً مصراة
فاحتلبها فإن رضيها أمسكها وإن سخطها ففي حلبها صاع من تمر " ولم يأخذ لها
ههنا لبناً فلم يلزمه رد شئ معها وهذا قول مالك، قال ابن عبد البر: هذا مما
لا خلاف فيه
{مسألة} (ومتى علم التصرية فله الرد، وقال القاضي ليس له ردها إلا بعد
ثلاث) اختلف أصحابنا في مدة الخيار فقال القاضي هو مقدر بثلاثة أيام ليس له
الرد قبل مضيها ولا
(4/83)
إمساكها بعدها فإن أمسكها بعدها سقط الرد
قال وهو ظاهر كلام أحمد وقول بعض أصحاب الشافعي لأن أبا هريرة روي أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال " من اشترى مصراة فهو فيها بالخيار ثلاثة أيام
أن شاء أمسكها وإن شاء ردها ورد معها صاعا من تمر " رواه مسلم، قالوا هذه
الثلاثة قدرها الشارع لمعرفة التصرية فإنها لا تعرف قبل مضيها لأن لبنها في
أول يوم لبن التصرية وفي الثاني يجوز أن يكون نقص لتغير المكان واختلاف
العلف وكذلك الثالث، فإذا مضت الثلاث استبانت التصرية وثبت الخيار على
الفور ولا يثبت قبل انقضائها، وقال أبو الخطاب متى تبينت التصرية جاز له
الرد قبل الثلاث وبعدها لأنه تدليس يثبت الخيار فملك الرد به إذا ظهر كسائر
التدليس وهو قول بعض المدلسين، فعلى هذا فائدة التقدير في الخبر بالثلاث
لأن الظاهر أنه لا يحصل العلم إلا بها فاعتبرها لحصول العلم ظاهراً، فإن
حصل العلم بها أولم يحصل فالاعتبار به دونها كما في سائر التدليس، وظاهر
قول ابن أبي موسى أنه متى علم التصرية ثبت له الخيار في الأيام الثلاثة إلى
تمامها وهو قول ابن المنذر وأبي حامد من الشافعية وحكاه عن الشافعي لظاهر
حديث أبي هريرة فإنه يقتضي ثبوت الخيار في الأيام الثلاثة كلها، وقول
القاضي لا يثبت في شئ منها، وقول أبي الخطاب يسوى بينها وبين غيرها، والعمل
بالخبر أولى والقياس ما قاله أبو الخطاب قياساً على سائر التدليس {مسألة}
(وإن صار لبنها عادة لم يكن له الرد في قياس قوله: إذا اشترى أمة مزوجة
فطلقها الزوج لم يملك الرد.
وقال أصحاب الشافعي له الرد في أحد الوجهين للخبر ولأن التدليس كان موجوداً
في حال العقد فأثبت الرد كما لو نقص اللبن.
ولنا أن الرد جعل لدفع الضرر بنقص الثمن ولم يوجد فامتنع الرد ولأن العيب
لم يوجد ولم تختلف صفة البيع عن حالة العقد فلم يثبت التدليس ولأن الخيار
يثبت لدفع الضرر ولا ضرر {مسألة} (فإن كانت التصرية في غير بهيمة الأنعام
كالأمة والأتان والفرس ثبت له الخيار في
أحد الوجهين) اختاره ابن عقيل وهو ظاهر مذهب الشافعي لعموم قوله صلى الله
عليه وسلم " من اشترى مصراة " ولأنه تصرية بما يختلف به الثمن فأثبت الخيار
كتصرية بهيمة الأنعام لأن الآدمية تراد للرضاع ويرغب فيها ظئراً، ولذلك لو
اشترط كثرة لبنها فبان بخلافه ملك الفسخ، والفرس تراد لولدها (والثاني) لا
يثبت به الخيار لأن لبنها لا يعتاض عنه في العادة ولا يقصد كلبن بهيمة
الأنعام، والخبر ورد في بهيمة الأنعام ولا يصح القياس عليه لذلك، واللفظ
العام أريد به الخاص لأنه أمر في ردها بصاع من تمر ولا يجب في لبن غيرها
ولأنه ورد عاماً وخاصاً في قضية واحدة فيحمل العام على الخاص فإن قلنا
بردها لم يلزمه بذل لبنها ولا يرد معها شيئاً لأن هذا اللبن لا يباع عادة
ولا يعتاض عنه {مسألة} (ولا يحل للبائع تدليس سلعته ولا كتمان عيبها) لقوله
عليه السلام " من غشنا فليس منا " قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح.
وقال عليه الصلاة والسلام " المسلم أخو المسلم لا يحل
(4/84)
لمسلم باع من أخيه بيعاً إلا بينه " رواه
ابن ماجه، فإن فعل فالبيع صحيح في قول أكثر أهل العلم منهم مالك وأبو حنيفة
والشافعي بدليل حديث التصرية فإن النبي صلى الله عليه وسلم صححه مع نهيه
عنه، وقال أبو بكر إن دلس العيب فالبيع باطل لأنه منهي عنه والنهي عنه
والنهي يقتضي الفساد، فقيل له ما تقول في التصرية؟ فلم يذكر جواباً فدل على
رجوعه (فصل) قال رضي الله عنه (الخامس خيار العيب وهو النقص كالمرض وذهاب
جارحة أو سن أو زيادتها ونحو ذلك، وعيوب الرقيق من فعله كالزنا والسرقة
والإباق والبول في الفراش إن كان من مميز) العيوب النقائص الموجبة لنقص
المالية في عادات التجار لأن المبيع إنما صار محلا للعقد باعتبار صفة
المالية فما يوجب نقصاً فيها يكون عيباً والمرجع في ذلك إلى العادة في عرف
التجار، فالعيوب في الخلقة كالجنون والجذام والبرص والصمم والعمى والعور
والعرج والعفل والقرن والفتق والرتق والقرع والطرش والخرس وسائر المرض
والأصبع الزائدة والناقصة والحول والخوص والسبل وهو زيادة في الأجفان
والتخنيث وكونه خنثى والخصاء والتزوج في الأمة والبخر فيها وهذا كله قول
أبي حنيفة والشافعي، قال إبن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم في
الجارية تشترى ولها زوج
أنه عيب، وكذلك الدين في رقبة العبد إذا كان السيد معسراً، والجناية
الموجبة للقود، ولأن الرقبة صارت كالمستحقة لوجوب الدفع في الجناية والبيع
في الدين ومستحقة الإتلاف بالقصاص، والزنا والبخر عيب في العبد والأمة وبه
قال الشافعي، وقال أبو حنيفة ليس بعيب في العبد لأنه لايراد للفراش
والاستمتاع بخلاف الأمة.
ولنا أن ذلك ينقص قيمته وماليته فإنه بالزنا يتعرض لإقامة الحد عليه
والتعزير ولا يأمنه سيده على عائلته؟ والبخر يؤذي سيده ومن جالسه أوساره،
والسرقة والإباق والبول في الفراش عيوب في الكبير الذي جاوز العشر، وقال
أصحاب أبي حنيفة في الذي يأكل وحده ويشرب وحده، وقال الثوري واسحاق ليس
بعيب حتى يحتلم لأن الأحكام تتعلق به من التكليف ووجوب الحد فكذلك هذا.
ولنا أن الصبي العاقل يتحرز من هذا عادة كتحرز الكبير فوجوده منه في تلك
الحال يدل على أن البول لداء في بطنه، والسرقة والإباق لخبث في طبعه.
وحد ذلك بالعشر لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتأديب الصبي على ترك الصلاة
عندها والتفريق بينهم في المضاجع.
فأما من دون ذلك فتكون هذه الأمور منه لضعف عقله وعدم تثبته، وكذلك إن كان
العبد يشرب الخمر ويسكر من النبيذ نص عليه أحمد لأنه يوجب الحد فهو كالزنا،
وكذلك الحمق الشديد والاستطالة على الناس لأنه يحتاج إلى التأديب وربما
تكرر فأفضى الى تلفه، ويختص الكبير دون الصغير لأنه منصوب إلى فعله، وعدم
الختان ليس بعيب في العبد الصغير لأنه لم يفت وقته ولا في الأمة الكبيرة
وبه قال الشافعي، وقال أصحاب أبي حنيفة هو عيب فيها لأنه زيادة ألم أشبهت
العبد.
ولنا أنه لا يجب عليها والألم فيه يقل
(4/85)
ولا يخشى منه التلف بخلاف العبد الكبير،
فأما الكبير فإن كان مجلوباً من الكفار فليس ذلك بعيب فيه لأن العادة أنهم
لا يختنون فصار ذلك معلوماً عند المشتري فهو كديتهم، وان كان مسلما مولداً
فهو عيب فيه لأنه يخشى عليه منه وهو خلاف العادة (فصل) والثيوبة ليست بعيب
لانها الغالب على الجواري فالاطلاق لا يقتضي خلافها هذا اختيار القاضي،
وقال ابن عقيل إذا أطلق الشراء اقتضى سلامتها من الثيوبة وبقاء البكارة،
فالثيوبة إتلاف جزء والأصل عدم الإتلاف والثمن يختلف باختلافه فنقول جزء
يختلف الثمن ببقائه وزواله فزواله
عيب كتلف بعض أجزائها.
وتحريمها على المشتري بنسب أو رضاع ليس بعيب إذ ليس في المحل ما يوجب خللا
في المالية ولا نقصاً والتحريم يختص به، وكذلك الإحرام والصيام لأنهما
يزولان قريباً وبه قال أبو حنيفة والشافعي ولا نعلم فيه خلافاً وكذلك عدة
البائن.
فأما عدة الرجعية فهي عيب لأن الرجعية زوجة لا يؤمن ارتجاعها، ومعرفة
الغناء والحجامة ليس بعيب، وحكي عن مالك في الجارية المغنية أنه عيب فيها
لأنه محرم.
ولنا أنه ليس بنقص في عينها ولا قيمتها فهو كالصناعة وكونه محرماً ممنوع
وإن سلم فالمحرم استعماله لا معرفته، والعسر ليس بعيب وكان شريح يرد به
ولنا أنه ليس بنقص وعمله بإحدى يديه يقوم مقام عمله بالأخرى، والكفر ليس
بعيب وبه قال الشافعي وهو عيب عند أبي حنيفة لأنه نقص لقول الله تعالى
(ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم) ولنا أن العبيد فيهم المسلم والكافر
والأصل فيهم الكفر، فالاطلاق لا يقتضي خلاف ذلك وكون المؤمن خيراً من
الكافر لا يقتضي كون الكفر عيباً كما أن المتقي خير من غيره، قال الله
تعالى (أن أكرمكم عند الله أتقاكم) وليس عدمه عيبا.
وكونه ولد زنا ليس بعيب وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة هو عيب في الجارية
لأنها تراد للافتراش بخلاف العبد، قلنا أن النسب في الرقيق غير مقصود بدليل
أنهم يشترون مجلوبين غير معروفي النسب.
وكون الجارية لا تحسن الطبخ أو الخبز ونحوه ليس بعيب لأن هذا حرفة فلم يك
فقدها عيباً كسائر الصنائع.
وكونها لا تحيض ليس بعيب، وقال الشافعي هو عيب إذا كان لكبر لأن من لا تحيض
لا تحمل.
ولنا أن الإطلاق لا يقتضي الحيض ولاعدمه فلم يكن فواته عيباً كما لو كان
لغير الكبر {مسألة} (فمن اشترى معيباً لا يعلم عيبه فله الخيار بين الرد
والإمساك مع الأرش وهو قسط ما بين قيمة الصحيح والمعيب من الثمن) من اشترى
معيباً يعلم عيبه أو مدلساً أو مصراة وهو عالم فلا خيار له لأنه بذل الثمن
فيه عالماً راضياً به عوضاً أشبه ما لا عيب فيه لا نعلم خلاف ذلك، وإن علم
به عيباً لم يكن عالماً به فله الخيار بين الإمساك والفسخ سواء كان البائع
علم العيب فكتمه أو لم يعلم لا نعلم فيه خلافاً ولأن إثبات النبي صلى الله
عليه وسلم الخيار بالتصرية تنبيه على ثبوته بالعيب ولأن مطلق العقد يقتضي
السلامة من العيب بدليل ما روي
(4/86)
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اشترى
مملوكاً فكتب " هذا ما اشترى محمد بن عبد الله من العداء بن خالد اشترى منه
عبداً - أو أمة - لا دابة ولا غائلة بيع المسلم للمسلم " ولأن الأصل
السلامة والعيب حادث أو مخالف للظاهر، فعند الإطلاق يحمل عليها فمتى فاتت
فات بعض مقتضى العقد فلم يلزمه أخذه بالعوض وكان له الرد وأخذ الثمن كاملاً
(فصل) فإن اختار إمساك المعيب وأخذ الأرش فله ذلك وبه قال اسحاق، وقال أبو
حنيفة والشافعي ليس له إلا الإمساك أو الرد ولا أرش له إلا أن يتعذر رد
المبيع وروي ذلك عن أحمد حكاه صاحب المحرر لأن النبي صلى الله عليه وسلم
جعل لمشتري المصراة الخيار بين الإمساك من غير أرش أو الرد ولأنه يملك الرد
فلم يملك أخذ جزء من الثمن كالرد بالخيار.
ولنا أنه ظهر على عيب لم يعلم به فكان له الأرش كما لو تعيب عنده ولأنه فات
عليه جزء من المبيع فكانت له المطالبة بعوضه كما لو اشترى عشرة أقفزة فبانت
تسعة أو كما لو أتلفه بعد البيع، فأما المصراة فليس فيها عيب وإنما ملك
الخيار بالتدليس لا لفوات جزء وكذلك لا يستحق أرشاً إذا تعذر الرد، إذا ثبت
هذا فمعنى الأرش أن يقوم المبيع صحيحاً ثم يقوم معيباً فيؤخذ قسط ما بينهما
من الثمن.
مثاله أن يقوم المعيب صحيحاً بعشرة ومعيباً بتسعة والثمن خمسة عشر فقد نقصه
العيب عشر قيمته فيرجع على البائع بعشر الثمن وهو درهم ونصف، وعلة ذلك أن
المبيع مضمون على المشتري بثمنه ففوات جزء منه يسقط عنه ضمان ما قابله من
الثمن ولأننا لو ضمناه نقص القيمة أفضى إلى اجتماع الثمن والمثمن للمشتري
فيما إذا اشترى شيئاً بعشرة وقيمته عشرون فوجد به عيبا ينقصه عشرة فأخذها
حصل له المبيع ورجع بثمنه، وهذا لاسبيل إليه وقد نص أحمد على ما ذكرناه.
وذكره الحسن البصري فقال يرجع بقيمة العيب في الثمن يوم اشتراه.
قال أحمد هذا أحسن ما سمعته {مسألة} (وما كسب فهو للمشتري وكذلك نماؤه
المنفصل وعنه لا يرده إلا مع نمائه) وجملة ذلك أنه إذا أراد رد المبيع فلا
يخلو إما أن يكون بحاله أو أن يكون قد زاد أو نقص فإن كان بحاله رده وأخذ
الثمن، وإن زاد بعد العقد أو حصلت له فائدة فذلك قسمان (أحدهما) أن تكون
الزيادة متصلة كالسمن والكبر وتعلم صنعة والحمل والثمرة قبل الظهور فانه
يردها بمائها فإنه يتبع
في العقود والفسوخ (القسم الثاني) أن تكون الزيادة منفصلة وهي نوعان
(أحدهما) أن تكون من غير المبيع كالكسب والأجرة وما يوهب له أو يوصى له به
فهو للمشتري في مقابلة ضمانه لأن المبيع لو هلك كان من مال المشتري وهو
معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان " ولا نعلم في هذا
خلافا وقد روى ابن ماجة بإسناده عن عائشة أن رجلاً اشترى عبداً فاستغله ما
شاء الله ثم وجد به عيباً فرده فقال يا رسول الله إنه استغل غلامي فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " الخراج بالضمان " رواه أبو داود وبهذا قال
أبو حنيفة ومالك والشافعي ولا نعلم عن غيرهم خلافهم (النوع الثاني) أن تكون
الزيادة من عين المبيع كالولد والثمرة واللبن فهي للمشتري أيضاً ويرد
(4/87)
الأصل بدونها، وبهذا قال الشافعي إلا أن
الولد إن كان لآدمية لم يملك ردها دونه وسنذكر ذلك وعنه ليس له رده دون
نمائه قياساً على النماء المتصل، والمذهب الأول لما ذكرناه من حديث عائشة
وقال مالك، إن كان النماء ثمرة لم يردها، وإن كان ولداً رده لأن الرد حكم
فسرى إلى الولد كالكتابة، وقال أبو حنيفة: النماء الحادث في يد المشتري
يمنع الرد لأنه لا يمكن رد الأصل بدونه لأنه من موجبه فلا يرفع العقد مع
بقاء موجبه، ولا يمكن رده معه لأنه لم يتناوله العقد.
ولنا أنه نماء حدث في ملك المشتري فلم يمنع الرد كما لو كان في يد البائع
وكالكسب ولأنه نماء منفصل فجاز رد الأصل بدونه كالكسب والثمرة عند مالك،
وقولهم إن النماء من موجب العقد لا يصح إنما موجبه الملك ولو كان موجباً
للعقد لعاد إلى البائع بالفسخ، وقول مالك لا يصح، لأن الولد ليس بمبيع فلا
يمكن رده بحكم رد الأم، ويبطل ما ذكره بنقل الملك بالهبة والبيع وغيرهما
فإنه لا يسري إلى الولد بوجوده في الأم فإن اشتراها حاملا فولدت عند
المشتري فردها رد ولدها معها لأنه من جملة المبيع والولادة نماء متصل، وإن
نقص المبيع فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى {مسألة} (ووطئ الثيب لايمنع الرد
وعنه يمنع) إذا اشترى أمة ثيباً فوطئها المشتري قبل علمه بالعيب فله ردها
ولا شئ عليه روي ذلك عن زيد بن ثابت، وبه قال مالك والشافعي وأبو ثور
وعثمان البتي، وعن أحمد رواية أخرى أنه يمنع الرد
يروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وبه قال الزهري والثوري وأبو حنيفة واسحاق
لان الوطئ كالجناية لأنه لا يخلو في ملك الغير من عقوبة أو مال فوجب أن
يمنع الرد كوطئ البكر، وقال شريح والشعبي والنخعي وسعيد بن المسيب وابن أبي
ليلى يردها ومعها أرش واختلفوا فيه فقال شريح والنخعي نصف عشر ثمنها، وقال
الشعبي حكومة وقال سعيد بن المسيب دنانير، وقال ابن أبي موسى مهر مثلها
وحكي نحوه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وذكره ابن أبي موسى رواية عن احمد
لأنه إذا فسخ صار واطئاً في ملك الغير لكون الفسخ رفعاً للعقد من أصله.
ولنا أنه معنى لا ينقص عينها ولا قيمتها ولا يتضمن الرضا بالعيب فلم يمنع
الرد كالاستخدام وكوطئ الزوج.
وما قالوه يبطل بوطئ الزوج، ووطئ البكر ينقص ثمنها.
وقولهم يكون واطئاً في ملك الغير لا يصح لأن الفسخ رفع العقد من حينه لامن
أصله بدليل أنه لا يبطل الشفعة ولا يوجب رد الكسب فيكون وطؤه في ملكه (فصل)
ولو اشتراها مزوجة فوطئها الزوج لم يمنع ذلك الرد بغير خلاف نعلمه، فإن
زوجها المشتري فوطئها الزوج ثم أراد ردها بالعيب فإن كان النكاح باقياً فهو
عيب حادث، وإن كان قد زال فحكمه حكم وطئ السيد، وقد استحسن أحمد أنه يمنع
الرد وهو محمول على الرواية الأخرى إذ لا فرق بين هذا وبين وطئ السيد، وإن
زنت في يد المشتري ولم يكن عرف ذلك منها فهو عيب حادث حكمه حكم العيوب
الحادثة، ويحتمل أن يكون عيباً بكل حال لأنه لزمها حكم الزنا في يد المشتري
(4/88)
{مسألة} (وإن وطئ البكر أو تعيبت عنده فله
الأرش، وعنه أنه مخير بين الأرش وبين الرد وأرش العيب الحادث عنده ويأخذ
الثمن) إذا وطئ المشتري البكر قبل علمه بالعيب ففيه روايتان (إحداهما) لا
يردها ويأخذ أرش العيب وبه قال مالك وابن سيرين والزهري والثوري والشافعي
وأبو حنيفة واسحاق قال ابن أبي موسى وهو الصحيح عن أحمد (والرواية الأخرى)
يردها ومعها شئ اختارها الخرقي وبه قال شريح وسعيد بن المسيب والشعبي
والنخعي ومالك وابن أبي ليلى وأبو ثور، والواجب رد ما نقص قيمتها بالوطئ
فإذا كانت قيمتها بكراً مائة وثيباً ثمانين رد معها عشرين لأنه بفسخ العقد
يصير مضموناً عليه بقيمته بخلاف
أرش العيب الذي يأخذه المشتري، وهذا قول مالك وأبي ثور، وقال شريح والنخعي
يرد عشر ثمنها وقال سعيد بن المسيب يرد عشرة دنانير وما قلناه إن شاء الله
أولى، واحتج من منع ردها بأن الوطئ نقص عينها وقيمتها فمنع الرد كما لو
اشترى عبداً فخصاه فنقصت قيمته، ووجه الرواية الأخرى أنه عيب حدث عند أحد
المتبايعين لا للاستعلام فيثبت معه الخيار كالعيب الحادث عند البائع قبل
القبض (فصل) وكذلك كل مبيع كان معيباً ثم حدث به عيب عند المشتري قبل علمه
بالأول ففيه روايتان (إحداهما) ليس له الرد وله أرش العيب القديم، وبه قال
الثوري وابن شبرمة والشافعي وأصحاب الرأي، وروي ذلك عن ابن سيرين والزهري
والشعبي لأن الرد يثبت لإزالة الضرر، وفي الرد على البائع إضرار به ولا
يزال الضرر بالضرر (والثانية) له الرد ويرد أرش العيب الحادث عنده ويأخذ
الثمن وإن شاء أمسكه وله الأرش، وبه قال مالك واسحاق وقال الحكم يرده ولم
يذكر معه شيئاً، ولنا حديث المصراة فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بردها
بعد حلبها ورد عوض لبنها ولأنه روي عن عثمان أنه قضى في الثوب إذا كان به
عوار يرده وإن كان قد لبسه، ولأنه عيب حدث عند المشتري فكان له الخيار بين
رد المبيع وأرشه وبين أرش العيب القديم كما لو حدث لا ستعلام المبيع ولأن
العيبين قد استويا والبائع قد دلس والمشتري لم يدلس فكان رعاية جانبه أولى،
ولأن الرد كان جائزاً قبل حدوث العيب الثاني فلا يزول إلا بدليل وليس في
المسألة إجماع ولا نص، والقياس إنما يكون على أصل وليس لما ذكروه أصل فيبقى
الجواز بحاله.
إذا ثبت هذا فإنه يرد أرش العيب الحادث عنده لأن المبيع بجملته مضمون عليه
بقيمته فكذلك أجزاؤه.
فإن زال العيب الحادث عنده رده ولا شئ معه على كلتا الروايتين وبه قال
الشافعي لأنه زال المانع مع قيام السبب المقتضي للرد فثبت حكمه، ولو اشترى
أمة فحملت عنده ثم أصاب بها عيباً فالحمل عيب للآدميات دون غيرهن لأنه يمنع
الوطئ ويخاف منه التلف فإن ولدت فالولد للمشتري، وإن نقصتها الولادة فذلك
عيب، وإن لم تنقصها الولادة ومات الولد ردها لزوال
(4/89)
العيب فإن كان ولدها باقياً لم يكن له ردها
دون ولدها لما فيه من التفريق بينهما وهو محرم، وقال الشريف ابن جعفر وأبو
الخطاب في مسائلهما له ردها دون ولدها وهو قول أكثر أصحاب الشافعي لأنه
موضع
حاجة فأشبه مالو ولدت حراً فإنه يجوز بيعها دون ولدها ولنا قول النبي صلى
الله عليه وسلم " من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم
القيامة " رواه الترمذي وقال حديث حسن ولأنه أمكن منع الضرر بأخذ الأرش أو
برد ولدها معها فلم يجز ارتكاب نهي الشرع بالتفريق بينهما كما لو أراد
الإقالة فيها دون ولدها، وقولهم أن الحاجة داعية إليه قلنا قد اندفعت
الحاجة بأخذ الأرش.
أما إذا ولدت حراً فلا سبيل إلى بيعه معها بحال ولو كان المبيع حيواناً غير
الآدمي فحدث فيه حمل عند المشتري لم يمنع الرد بالعيب لأنه زيادة، وإن علم
بالعيب بعد الوضع ولم تنقصه الولادة فله رد الأم وإمساك الولد لأن التفريق
بينهما لا يحرم ولا فرق بين حملها قبل القبض وبعده، ولو اشتراها حاملاً
فولدت عنده ثم اطلع على عيب فردها رد الولد معها لأنه من جملة المبيع
والزيادة فيه نماء متصل فاشبه مالو سمنت الشاة، وإن تلف الولد فهو كتعيب
المبيع عنده فإن قلنا له الرد فعليه قيمته، وعن أحمد لا قيمة عليه للولد،
وحمل القاضي كلام أحمد على أن البائع دلس العيب، وإن نقصت الأم بالولادة
فهو عيب حادث حكمه حكم العيوب الحادثة، ويمكن حمل كلام أحمد على أنه لاحكم
للحمل وهو أحد أقوال الشافعي فعلى هذا يكون الولد حينئذ للمشتري فلا يلزمه
رده مع بقائه ولاقيمته مع التلف، والأول أصح وعليه العمل (فصل) فإن كان
المبيع كاتباً أو صانعاً فنسي ذلك عند المشتري ثم وجد به عيباً فالنسيان
عيب حادث فهو كغيره من العيوب وعنه يرده ولا شئ عليه وعلله القاضي بأنه ليس
بنقص في العين، ويمكن عوده بالتذكر، قال وعلى هذا لو كان سميناً فهزل
والقياس ما ذكرناه فإن الصناعة والكتابة مقومة تضمن في الغصب وتلزم بشرطها
في البيع فأشبهت الأعيان والمنافع من السمع والبصر والعقل وإمكان العود
منتقض بالسن والبصر والحمل، وما روي عن أحمد محمول على ما إذا دلس بعيب
(فصل) وإذا تعيب المبيع عند البائع بعد العقد وكان المبيع من ضمانه فهو
كالعيب القديم، وإن كان من ضمان المشتري فهو كالعيب الحادث بعد القبض، فأما
الحادث بعد القبض فهو من ضمان المشتري لا يثبت الخيار وهو قول أبي حنيفة
والشافعي، وقال مالك عهدة الرقيق ثلاثة أيام فما أصابه فيها فهو من مال
البائع إلا في الجنون والجذام والبرص، فإن تبين إلى سنة ثبت الخيار لما روى
الحسن عن
عقبة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل عهدة الرقيق ثلاثة أيام ولأنه إجماع
أهل المدينة ولأن الحيوان يكون فيه العيب ثم يظهر.
ولنا أنه ظهر في يد المشتري ويجوز أن يكون حادثاً فلم يثبت به الخيار كسائر
المبيع وكما بعد الثلاثة والسنة وحديثهم لا يثبت قال أحمد ليس فيه حديث
صحيح، وقال ابن المنذر لا يثبت
(4/90)
في العهدة حديث، والحسن لم يلق عقبة،
وإجماع أهل المدينة ليس بحجة، والداء الكامن لا عبرة به وإنما النقص بما
ظهر لا بماكمن {مسألة} (قال الخرقي إلا أن يكون البائع دلس العيب فيلزمه رد
الثمن كاملا) قال القاضي ولو تلف المبيع عنده ثم علم أن البائع دلس العيب
رجع بالثمن كله نص عليه في رواية حنبل.
معنى دلس العيب أي كتمه عن المشتري أو غطاه عنه بما يوهم المشتري عدمه مشتق
من الدلسة وهي الظلمة فكأن البائع يستر العيب، وكتمانه جعله في ظلمة فخفي
على المشتري فلم يره ولم يعلم به والتدليس حرام وقد ذكرناه فمتى فعله
البائع فلم يعلم به المشتري حتى تعيب المبيع في يده فله رد المبيع وأخذ
ثمنه كاملاً ولا أرش عليه سواء كان بفعل المشتري كوطئ البكر وقطع الثوب أو
بفعل آدمي آخر مثل أن يجني عليه أو بفعل العبد كالسرقة أو بفعل الله تعالى،
وسواء كان ناقصاً للمبيع أو مذهباً لجملته قال أحمد في رجل اشترى عبداً
فأبق وأقام البينة أن إباقه كان موجوداً في يد البائع يرجع على البائع
بجميع الثمن لأنه غر المشتري ويتبع البائع عبده حيث كان، ويحكى هذا عن
الحكم ومالك لأنه غره فرجع عليه كما لو غره بحرية أمة (قال شيخنا) ويحتمل
أن يلزمه عوض العين إذا تلفت، وأرش البكر إذا وطئها لقوله عليه السلام "
الخراج بالضمان " وكما يجب عوض لبن المصراة على المشتري مع كونه قد نهى عن
التصرية وقال " بيع المحفلات خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم " وقد جعل الشارع
الضمان عليه لوجوب الخراج، فلو كان ضمانه على البائع لكان الخراج له لوجود
علته، ولأن وجوب الضمان على البائع لا يثبت إلا بنص أو إجماع، ولا نعلم
لهذا أصلا ولا يشبه هذا التغرير بحرية الامة في النكاح لأنه يرجع على من
غره وإن لم يكن سيد الأمة، وههنا لو كان التدليس من وكيل البائع لم يرجع
عليه بشئ نص عليه
{مسألة} (وإن أعتق العبد أو تلف المبيع يرجع بأرشه، وكذلك ان باعه غيره
عالم بعيبه، وكذلك إن وهبه وإن فعله عالماً بعيبه فلا شئ له) إذا زال ملك
المشتري عن المبيع بعتق أو موت أو وقف أو قتل أو تعذر الرد لا ستيلاد ونحوه
قبل علمه بالعيب فله الأرش، وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي إلا أن أبا
حنيفة قال في المقتول خاصة لاارش له لأنه زال ملكه بفعل مضمون أشبه البيع
ولنا أنه عيب لم يرض به ولم يستدرك ظلامته فكان له الأرش كما لو أعتقه،
والبيع ممنوع وإن سلم فقد استدرك ظلامته فيه، وأما الهبة فمن أحمد فيها
روايتان (إحداهما) أنها كالبيع لأنه لم ييأس من إمكان الرد لاحتمال رجوع
الموهوب إليه.
(والثانية) له الأرش وهو أولى ولم يذكر القاضي غيرها لأنه لم يستدرك ظلامته
أشبه الوقف، وإمكان الرد ليس بمانع من أخذ الأرش عندنا بدليل
(4/91)
ما قبل الهبة، وإن أكل الطعام أو لبس الثوب
فأتلفه رجع بأرشه وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة لا يرجع بشئ لأنه
أهلك العين فأشبه مالو قتل العبد.
ولنا أنه ما استدرك ظلامته ولارضي بالعيب فلم يسقط حقه من الأرش كما لو تلف
بفعل الله تعالى (فصل) إذا باع المشتري المبيع قبل علمه بالعيب فله الأرش
نص عليه أحمد لأن البائع لم يوفه ما أوجبه له العقد ولم يوجد منه الرضى به
ناقصاً فكان له الرجوع عليه كما لو أعتقه، وظاهر كلام الخرفي أنه لا أرش له
سواء باعه عالما بيعه أو غير عالم.
وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن امتناع الرد كان بفعله فأشبه ما لو أتلف
المبيع ولأنه استدرك ظلامته ببيعه فلم يكن له أرش كما لو زال العيب (فصل)
وإن باعه عالماً بعيبه أو وهبه أو أعتقه أو وقفه أو استولد الأمة ونحوه فلا
شئ له.
ذكره القاضي لأن تصرفه فيه مع علمه بالعيب يدل على رضاه به أشبه مالو صرح
بالرضا (قال شيخنا) وقياس المذهب أن له الأرش بكل حال، وقد روي عن أحمد
فيما إذا باعه أو وهبه لانا خيرناه ابتداء بين رده وامساكه مع الأرش فبيعه
والتصرف فيه بمنزلة إمساكه ولأن الأرش عوض الجزء الفائت من المبيع فلم يسقط
ببيعه، كما لو باعه عشرة أقفزة وسلم إليه تسعة فباعها المشتري، وقولهم إنه
استدرك
ظلامته لا يصح فإن ظلامته من البائع ولم يستدركها منه، وإنما ظلم المشتري
الثاني فلا يسقط حقه بذلك من الظالم له وهذا هو الصحيح من قول مالك، وذكر
أبو الخطاب رواية أخرى فيمن باعه ليس له شئ إلا أن يرد عليه المبيع فيكون
له حينئذ الرد أو الأرش لأنه إذا باعه فقد استدرك ظلامته، فعلى هذا إذا علم
به المشتري الثاني فرده به أو أخذ أرشه منه فللأول أخذ أرشه وهو قول
الشافعي إذا امتنع على المشتري الثاني رده بعيب حدث عنده لأنه لم يستدرك
ظلامته، وكل واحد من المشتريين يرجع بحصة العيب من الثمن الذي اشتراه به
على ما تقدم (فصل) وإذا ردها المشتري الثاني على الأول وكان الاول باعها
عالما بالعيب أو وجد منه ما يدل على الرضى به فليس له رده لأن تصرفه رضى
بالعيب، وإن لم يكن علم فله رده على بائعه وبه قال الشافعي، وقال أبو حنيفة
ليس له رده إلا أن يكون المشتري فسخ بحكم الحاكم لأنه سقط حقه من الرد
ببيعه فأشبه مالو علم بعيبه.
ولنا أنه أمكنه استدراك ظلامته برده فملك ذلك كما لو فسخ الثاني بحكم حاكم
أو كما لو لم يزل ملكه عنه ولا نسلم سقوط حقه، وإنما امتنع لعجزه عن رده
فإذا عاد إليه زال المانع فظهر جواز الرد كما لو امتنع الرد لغيبة البائع
أو لمعنى آخر، وسواء رجع إلى المشتري الأول بالعيب الاول أو بإقالة أو هبة
أو شراء ثان أو ميراث في ظاهر كلام القاضي، وقال أصحاب الشافعي إن رجع بغير
الفسخ بالعيب الاول ففيه وجهان (أحدهما) ليس له رده لأنه استدرك ظلامته
ببيعه ولم يزل فسخه.
ولنا أن سبب استحقاق الرد قائم وإنما امتنع لتعذره بزوال ملكه فإذا زال
المانع وجب
(4/92)
أن يجوز الرد كما لو رد عليه بالعيب، فعلى
هذا إذا باعها المشتري لبائعها الأول فوجد بها عيباً كان موجوداً حال العقد
الأول فله الرد على البائع الثاني ثم للثاني رده عليه وفائدة الرد ههنا
اختلاف الثمنين فإنه قد يكون الثمن الثاني أكثر (فصل) وإن استغل المشتري
المبيع أو عرضه على البيع أو تصرف فيه تصرفاً دالاً على الرضى به قبل علمه
بالعيب لم يسقط خياره لأن ذلك لا يدل على الرضى به معيباً، وإن فعله بعد
علمه بعيبه بطل خياره في قول عامة أهل العلم.
قال ابن المنذر كأن الحسن وشريح وعبيد الله بن الحسن وابن أبي ليلى
والثوري واسحاق وأصحاب الرأي يقولون إذا اشترى سلعة فعرضها على البيع بعد
علمه بالعيب بطل خياره، وهذا قول الشافعي ولا أعلم فيه خلافاً، فأما الأرش
فقال ابن أبي موسى لا يستحقه أيضاً، وقد ذكرنا أن قياس المذهب استحقاق
الأرش.
قال أحمد أنا أقول إذا استخدم العبد فأراد نقصان العيب فله ذلك، فأما ان
احتلب اللبن الحادث بعد العقد لم يسقط رده لأن اللبن له فملك استيفاءه من
المبيع الذي يريد رده، وكذلك إن ركب الدابة لينظر سيرها أو استخدم الأمة
ليختبرها أو لبس القميص ليعرف قدره لم يسقط خياره لأن ذلك ليس برضا بالمبيع
ولهذا لا يسقط به خيار الشرط وإن استخدمها لغير ذلك استخداماً كثيراً بطل
رده، وإن كان يسيراً لا ينقص الملك لم يبطل الخيار، قيل لأحمد إن هؤلاء
يقولون إذا اشترى عبداً فوجده معيباً فاستخدمه بأن يقول ناولني هذا الثوب
بطل خياره فأنكر ذلك وقال من قال هذا أو قال من أين أخذوا هذا؟ ليس هذا
برضا حتى يكون شئ يبين ويطول وقد نقل عنه في بطلان خيار الشرط بالاستخدام
روايتان فكذلك يخرج ههنا (فصل) فإن أبق العبد ثم علم عيبه فله أخذ أرشه فإن
أخذه ثم قدر على العبد فإن لم يكن معروفاً بالإباق قبل البيع فقد تعيب عند
المشتري فهل يملك رده ورد أرش العيب الحادث عنده والأرش الذي أخذه على
روايتين، وإن كان آبقاً فله رده ورد ما أخذه من الأرش وأخذ ثمنه، وقال
الثوري والشافعي ليس للمشتري أخذ أرشه سواء قدر على رده أو عجز عنه إلا أن
يهلك لأنه لم ييأس من رده فهو كما لو باعه، ولنا أنه معيب لم يرض به ولم
يستدرك ظلامته فيه فكان له أرشه كما لو أعتقه وفي البيع استدرك ظلامته
بخلاف مسئلتنا.
(فصل إذا اشترى عبداً فأعتقه ثم علم به عيباً فأخذ أرشه فهو له.
وعنه رواية أخرى أنه يجعله في الرقاب وهو قول الشعبي لأنه من جملة الرقبة
التي جعلها الله فلا يرجع إليه شئ من بدلها، ولنا أن العتق إنما صادف
الرقبة المعينة والجزء الذي أخذ بدله ما تناوله عتق ولا كان موجوداً وليس
الأرش بدلاً عن العبد إنما هو عن جزء من الثمن جعل مقابلاً للجزء الفائت
فلما لم يحصل ذلك الجزء من المبيع رجع بقدره من الثمن لامن قيمة العبد،
وكلام أحمد في الرواية الأخرى يحمل على استحباب ذلك لا على
(4/93)
وجوبه.
قال القاضي إنما الروايتان فيما إذا أعتق عن كفارته لأنه إذا أعتقه عن
الكفارة لا يجوز أن يرجع إليه شئ من بدله كالمكاتب إذ أدى بعض كتابته.
ولنا أنه أرش عبدا عتقه فهو كما لو تبرع بعتقه {مسألة} (وإن باع بعضه فله
أرش الباقي وفي أرش المبيع الروايتان وقال الخرقي له رد ملكه منه بقسطه من
الثمن أو أرش العيب بقدر ملكه فيه) إذا باع بعض المبيع ثم ظهر على عيب فله
أرش الباقي لأنه كان له ذلك والأصل في كل ثابت بقاؤه وفي أرش المبيع ما
ذكرنا من الخلاف فيما إذا باع الجميع فإن أراد رد الباقي بحصته من الثمن
ففيه روايتان (إحداهما) له ذلك اختارها الخرقي لأنه مبيع رده ممكن أشبه ما
لو كان الجميع باقياً (والأخرى) لا يجوز وهي الصحيحة إذا كان المبيع عيناً
واحدة أو عينين ينقصهما التفريق لما فيه من الضرر على البائع بنقص القيمة
أو ضرر الشركة وامتناع الانتفاع بها على الكمال كوطئ الامة وليس الثوب،
وبهذا قال شريح والشعبي والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، وقد ذكر أصحابنا
في غير هذا الموضع فيما إذا كان المبيع عينين ينقصهما التفريق أنه لا يجوز
رد إحداهما وحدها لما فيه من الضرر، وفيما إذا اشترى معيباً وتعيب عنده أنه
لا يملك رده إلا أن يرد أرش العيب الحادث عنده فكذلك لا يجوز أن يرده في
مسئلتنا معيباً بعيب الشركة أو نقص القيمة بغير شئ.
وما ذكره الخرقي يحمل على ما إذا دلس البائع العيب على ما ذكرنا فيما مضى.
وإن كان المبيع عينين لا ينقصهما التفريق فهل له رد الباقية في ملكه؟ يخرج
على الروايتين في تفريق للصفقة.
قال القاضي: المسألة مبنية على تفريق الصفقة سواء كان المبيع عيناً واحدة
أو عينين، والتفصيل الذي ذكرناه أولى {مسألة} (وإن صبغه أو نسجه فله الارش
ولارد له في أظهر الروايتين) فيما إذا صبغه وهو قول أبي حنيفة لأن فيه
ضرراً على البائع وتشق المشاركة فلم تجز كما لو فصله وخاطه أو خلط المبيع
بما لا يتميز منه، وعنه له الرد ويكون شريكاً للبائع بقيمة الصبغ والنسج
لأنه رد المبيع بعينه أشبه مالو لم يصبغه ولم ينسجه، ومتى رده لزمت الشركة
ضرورة، وعنه يرده ويأخذ زيادته بالصبغ كما لو قصره وهو بعيد لأن إجبار
البائع على بذل ثمن الصبغ إجبار على المعاوضة فلم يجز لقوله سبحانه (إلا أن
تكون تجارة عن تراض منكم) وإن قال البائع أنا آخذه وأعطي قيمة الصبغ لم
يلزم المشتري ذلك، وقال
الشافعي ليس للمشتري إلا رده لأنه أمكنه رده فلم يملك أخذ الأرش كما لو سمن
عنده، ولنا أنه لا يمكنه رده إلا برد شئ من ماله معه فلم يسقط حق من الأرش
بامتناعه من رده كما لو تعيب عنده فطلب البائع أخذه مع أخذ أرش العيب
الحادث والأصل لا يسلمه فإنه يستحق أخذ الأرش إذا رده {مسألة} (وإن اشترى
ما مأكوله في جوفه فكسره فوجده فاسداً فإن لم يكن له مكسوراً قيمة كبيض
الدجاج رجع بالثمن كله، وإن كان له مكسوراً قيمة كبيض النعام وجوز الهند
فهو مخير بين أخذ أرشه وبين رده، وعنه ليس له رد ولا أرش في ذلك كله)
(4/94)
إذا اشترى ما لا يطلع على عيبه إلا بكسره
كالبيض والجوز والرمان والبطيخ فكسره فظهر عيبه ففيه روايتان (إحداهما) لا
يرجع على البائع بشئ وهو مذهب مالك لأنه ليس من البائع تدليس ولا تفريط
لعدم معرفته بعيبه وكونه لا يمكنه الوقوف عليه إلا بكسره فجرى مجرى البراءة
من العيوب (والثانية) يرجع عليه وهي ظاهر المذهب وقول أبي حنيفة والشافعي
لأن عقد البيع اقتضى السلامة من عيب ليطلع عليه المشتري فإذا بان معيباً
ثبت له الخيار كالعبد ولأن البائع إنما يستحق ثمن المعيب دون الصحيح لأنه
لم يملكه صحيحاً فلا معنى لإيجاب الثمن كله، وكونه لم يفرط لا يقتضي أن يجب
له ثمن ما لم يسلمه بدليل العيب الذي لم يعلمه في العبد.
إذا ثبت هذا فإن المبيع إن كان مما لا قيمة له مكسوراً كبيض الدجاج الفاسد
والرمان الأسود والجوز الخرب رجع بالثمن كله لأن هذا يبين به فساد العقد من
أصله لكونه وقع على ما لا نفع فيه فهو كبيع الحشرات والميتات وليس عليه رد
المبيع إلى البائع لأنه لا فائدة فيه، وإن كان الفاسد في بعضه رجع بقسطه
(الثاني) أن يكون مما لعيبه قيمة كبيض النعام وجوز الهند والبطيخ الذي فيه
نفع ونحوه فإذا كسره نظرت.
فإن كان كسراً لا يمكن استعلام المبيع بدونه فالمشتري مخير بين رده ورد أرش
الكسر وأخذ الثمن وبين أخذ أرش عيبه.
هذا ظاهر كلام الخرقي، وقال القاضي عندي لا أرش عليه لكسره لأنه حصل بطريق
استعلام العيب والبائع سلطه عليه حيث علم أنه لا يعلم صحته من فساده بغير
ذلك، وهذا قول الشافعي.
ووجه قول الخرقي أنه نقص لم يمنع الرد فلزم رد أرشه كلبن المصراة إذا
احتلبها والبكر إذا وطئها، وبها يبطل ما ذكره
بل ههنا أولى لأنه لا تدليس من البائع والتصرية تدليس، وإن كان كسراً يمكن
استعلام المبيع بدونه إلا أنه لا يتلف المبيع بالكلية فالحكم فيه كالذي
قبله عند الخرقي والقاضي والمشتري مخير بين رده وأرش الكسر وأخذ الثمن وبين
أخذ أرش العيب، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد والرواية الثانية ليس له رده
وله أرش العيب، وهذا قول أبي حنيفة والشافعي وقد ذكرناه، وإن كسره كسراً لا
يبقى له قيمة فله أرش العيب لا غير لأنه أتلفه.
وقدر أرش العيب قسط ما بين الصحيح والمعيب من الثمن فيقوم المبيع صحيحاً ثم
يقوم معيباً غير مكسور فيكون للمشتري قدر ما بينهما من الثمن (فصل) ولو
اشترى ثوباً فنشره فوجده معيباً فإن كان مما لا ينقصه النشر رده وإن كان
ينقصه النشر كالهسجاني الذي يطوي طاقين ملتصقين جرى ذلك مجرى جوز الهند على
التفصيل المذكور فيما إذا لم يزد على ما يحصل به استعلام المبيع أو زاد
كنشر من لا يعرف، وإن أراد أخذ أرشه فله ذلك بكل حال {مسألة} (ومن علم
العيب وأخر الرد لم يبطل خياره إلا أن يوجد منه ما يدل على الرضا من التصرف
ونحوه) وهكذا ذكر أبو الخطاب لأنه خيار لدفع الضرر المتحقق فكان على
التراخي كخيار القصاص وعنه أنه على الفور وهو مذهب الشافعي، فمتى علم العيب
وأخر الرد مع إمكانه بطل خياره لأنه يدل
(4/95)
على الرضى فأسقط خياره كالتصرف ولأنه خيار
ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال فأشبه خيار الشفعة والأول أولى، ولا نسلم
أن الإمساك يدل على الرضى والشفعة تثبت لدفع ضرر غير متحقق بخلاف الرد
بالعيب {مسألة} (ولا يفتقر الرد إلى رضى ولا قضاء ولا حضور صاحبه قبل القبض
ولا بعده) وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة إن كان قبل القبض افتقر إلى
حضور صاحبه دون رضاه، وإن كان بعده افتقر إلى رضا صاحبه أو حكم حاكم لأن
ملكه قد تم على الثمن فلا يزول إلا رضاه ولنا أنه رفع عقد مستحق له فلم
يفتقر إلى رضا صاحبه ولا حضوره كالطلاق ولأنه مستحق الرد بالعيب فلم يفتقر
إلى رضا صاحبه كقبل القبض {مسألة} (فإن اشترى اثنان شيئاً وشرطا الخيار أو
وجداه معيباً فرضي أحدهما فللآخر الفسخ في نصيبه، وعنه ليس له ذلك)
نقل عن أحمد رحمه الله في ذلك روايتان حكاهما أبو بكر وابن أبي موسى
(إحداهما) لمن لم يرض الفسخ، وبه قال ابن أبي ليلى والشافعي وأبو يوسف
ومحمد، وإحدى الروايتين عن مالك والأخرى لا يجوز له رد مشترك رده ناقصاً
أشبه مالو تعيب عنده.
ولنا أنه رد جميع ما ملكه بالعقد فجاز كما لو انفرد بشرائه، والشركة إنما
حصلت بإيجاب البائع وإنما باع كل واحد منهما نصفها فخرجت عن ملك البائع
مشقصة بخلاف العيب الحادث (فصل) وإن ورث اثنان خيار عيب فرضي أحدهما سقط حق
الآخر من الرد لأنه لو رد وحده شقصت السلعة على البائع فتضرر بذلك وإنما
أخرجها من ملكه إلى واحد غير مشقصة فلا يجوز رد بعضها إليه مشقصاً بخلاف
المسألة التي قبلها، فإن عقد الواحد مع الاثنين عقدين فكأنه باع كل واحد
منهما نصفها منفرداً فرد عليه أحدهما جميعا ما باعه إياه وههنا بخلافه
(فصل) ولو اشترى رجل من رجلين شيئاً فوجده معيباً فله رده عليهما فإن كان
أحدهما غائباً رد على الحاضر حصته بقسطها من الثمن ويبقى نصيب الغائب في
يده حتى يقدم، ولو كان أحدهما باع العين كلها بوكالة الآخر فالحكم كذلك
سواء كان الحاضر الوكيل أو الموكل.
نص أحمد على نحو من هذا، وإن أراد رد نصيب أحدهما وإمساك نصيب الآخر جاز
لأنه يرد على البائع جميع ما باعه ولم يحصل برده تشقيص لأنه كان مشقصاً قبل
البيع (فصل) وإن اشترى حلي فضة بوزنه دراهم فوجده معيباً فله رده وليس له
أخذ الارش لا فضائه إلى التفاضل فيما يجب فيه التماثل، فإن حدث به عيب عند
المشتري فعلى إحدى الروايتين يرده ويرد أرش العيب الحادث عنده وبأخذ ثمنه،
وقال القاضي ليس له رده لا فضائه إلى التفاضل ولا يصح لأن الرد فسخ للعقد
ورفع له فلا تبقى المعاوضة وإنما يدفع الأرش عوضاً عن العيب الحادث عنده
(4/96)
بمنزلة ما لو خفي عليه في ملك صاحبه من غير
بيع وكما لو فسخ الحاكم عليه، وعلى الرواية الأخرى يفسخ الحاكم البيع ويرد
البائع الثمن ويطالب بقيمة الحلي لأنه لم يمكن إهمال العيب ولا أخذ الأرش.
ولأصحاب الشافعي وجهان كهاتين الروايتين وإن تلف الحلي فسخ العقد، ويرد
قيمته ويسترجع الثمن
فإن تلف المبيع لا يمنع جواز الفسخ، واختار شيخنا أن الحاكم إذا فسخ وجب رد
الحلي وأرش نقصه كما قلنا فيما إذا فسخ المشتري على إحدى الروايتين وإنما
يرجع إلى قيمته عند تعذره بتلف أو عجز عن رده أما مع بقائه وإمكان رده فيجب
رده دون بدله كسائر المبيع إذا انفسخ العقد فيه وليس في رده ورد أرشه تفاضل
لأن المعاوضة قد زالت بالفسخ ولم يبق له مقابل، وإنما هذا الأرش بمنزلة
الجناية عليه ولأن قيمته إذا زادت على وزنه أو نقصت عنه أفضى إلى التفاضل
لأن قيمته عوض عنه فلا يجوز ذلك إلا أن يأخذ القيمة من غير الجنس.
ولو باع قفيزاً مما فيه الربا بمثله فوجد أحدهما بما أخذه عيباً ينقص قيمته
دون كله لم يملك أخذ أرشه لئلا يفضي إلى التفاضل والحكم فيه على ما ذكرنا
في الحكم بالدراهم {مسألة} (وإن اشترى واحد معيبين صفقة واحدة ليس له إلا
ردهما أو إمساكهما والمطالبة بالأرش) قاله القاضي، وعنه له رد أحدهما بقسطه
من الثمن كما لو كان أحدهما معيب والآخر صحيحاً لأن المانع من الرد إنما هو
تشقيص المبيع على البائع وهو موجود فيما إذا كان أحدهما صحيحاً، فإن تلف
أحدهما فله رد الباقي بقسطه من الثمن في إحدى الروايتين، هذا قول الحادث
العكلي والاوزاعي واسحاق وقول أبي حنيفة فيما بعد القبض لأنه رد المعيب على
وجه لا ضرر فيه على البائع فجاز كما لورد الجميع (والثانية) ليس له إلا أخذ
الأرش مع إمساك الباقي منهما وهو ظاهر قول الشافعي وقول أبي حنيفة فيما قبل
القبض لأن في الرد تبعيض الصفقة على البائع وذلك ضرر أشبه إذا كانا مما
ينقصه التفريق، والقول في قيمة التالف قول المشتري مع يمينه لأنه منكر لما
يدعيه البائع من زيادة قيمته ولأنه بمنزلة الغارم لأن قيمة التالف إذا زادت
قدر ما يغرمه فهو بمنزلة المستعير والغاصب {مسألة} (وإن كان أحدهما معيباً
فله رده بقسطه من الثمن وعنه ليس له إلا ردهما أو إمساكهما) ووجه الروايتين
ما ذكرنا فيما إذا تلف أحدهما وفيه من التفصيل والخلاف ما ذكرنا {مسألة}
(فإن كان المبيع مما ينقصه التفريق كمصراعي باب أو زوجي خف أو من لا يجوز
التفريق بينهما كجارية وولدها فليس له رد أحدهما) لما فيه من الضرر على
البائع بنقص القيمة وسوء المشاركة ولقول النبي صلى الله عليه وسلم " من فرق
بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة " رواه الترمذي وفي
ذلك اختلاف ذكرنا فيما مضى وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله تعالى
(4/97)
{مسألة} (وإن اختلفا في العيب هل كان عند
البائع أو حدث عند المشتري ففي أيهما يقبل قوله؟ روايتان إلا أن لا يحتمل
إلا قول أحدهما فالقول قوله بغير يمين) اذا اختلف المتبايعان في العيب هل
كان في المبيع قبل العقد أو حدث عند المشتري، فإن كان لا يحتمل الاقول
أحدهما كالاصبع الزائدة والشجة المندملة التي لا يمكن حدوث مثلها والجرح
الطارئ الذي لا يمكن كونه قديماً فالقول قول من يدعي ذلك بغير يمين لأنا
نعلم صدقة فلا حاجة الى استحلافه وإن احتمل قول كل واحد منهما كالخرق في
الثوب والرفو ونحوهما ففيه روايتان (إحداهما) القول قول المشتري فيحلف
بالله أنه اشتراه وبه هذا العيب أو أنه ما حدث عنده ويكون له الخيار
اختارها الخرقي لأن الأصل عدم القبض في الجزء الفائت واستحقاق ما يقابله من
الثمن ولزوم العقد في حقه فكان القول قول من ينفي ذلك كما لو اختلفا في قبض
المبيع (والثانية) القول قول البائع مع يمينه فيحلف على حسب جوابه إن أجاب
أنه باعه بريئاً من العيب حلف على ذلك، وإن أجاب أنه لا يستحق ما يدعيه من
الرد حلف على ذلك.
ويمينه على البت لأن الإيمان كلها على البت إلا ما كان على النفي في فعل
الغير وعنه أنها على نفي العلم فيحلف أنه ما يعلم به عيباً حال البيع ذكرها
ابن أبي موسى والرواية الثانية مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن الأصل سلامة
المبيع وصحة العقد ولأن المشتري يدعي عليه استحقاق فسخ البيع والبائع ينكره
والقول قول المنكر (فصل) وإذا باع الوكيل ثم ظهر المشتري على عيب كان
بالمبيع فله رده على الموكل لأن المبيع يرد بالعيب على من كان له، فان كان
العيب مما يمكن حدوثه فأقربه الوكيل وأنكره الموكل فقال أبو الخطاب يقبل
إقراره على موكله بالعيب لأنه أمر يستحق به الرد فقبل إقراره به على موكله
كخيار الشرط، وقال أصحاب أبي حنيفة والشافعي لا يقبل إقرار الوكيل بذلك،
قال شيخنا وهو أصح لأنه اقرار على الغير فلم يقبل كالأجنبي، وفارق خيار
الشرط من حيث إن الموكل يعلم صفة سلعته ولا يعلم صفة العقد لغيبته عنه،
فعلى هذا إذا رده المشتري على الوكيل لم يملك الوكيل رده على الموكل لأن
رده كإقراره وهو غير مقبول على غيره ذكره القاضي، فان أنكره الوكيل فتوجهت
اليمين عليه
فنكل عنها فرد عليه بنكوله فهل له رده على الموكل على وجهين (أحدهما) ليس
له رده لأن ذلك يجري مجرى إقراره (والثاني) له رده لأنه رجع إليه بغير رضاه
أشبه مالو قامت به بينة (فصل) ولو اشترى جارية على أنها بكرا فقال المشتري
هي ثيب أو النساء الثقات ويقبل قول واحدة، فإن وطئها المشتري وقال ما
وجدتها بكراً خرج فيه وجهان بناء على الاختلاف في العيب الحادث
(4/98)
(فصل) فإن رد المشتري السلعة بعيب فأنكر
البائع أنها سلعته فالقول قول البائع مع يمينه وبه قال أبو ثور وأصحاب
الرأي ونحوه قال الأوزاعي فإنه قال فيمن صرف دراهم فقال للصيرفي هذا درهمي
يحلف الصيرفي بالله لقد وفيتك ويبرأ لأن البائع منكر كون هذه سلعته ومنكر
استحقاق الفسخ والقول قول المنكر، فأما إن جاء ليرد السلعة بخيار فأنكر
البائع أنها سلعته فحكى ابن المنذر عن أحمد أن القول قول المشتري وهو قول
الثوري واسحاق وأصحاب الرأي لأنهما اتفقا على استحقاق فسخ العقد والرد
بالعيب بخلافه {مسألة} (ومن باع عبداً يلزمه عقوبة من قصاص أو غيره ويعلم
المشتري ذلك فلا شئ له) لأنه رضي به معيباً أشبه سائر المعيبات وهذا قول
الشافعي، وإن علم بعد البيع فله الرد أو الأرش على أصلنا كغيره من العيوب
{مسألة} (فإن لم يعلم حتى قتل فله الأرش لتعذر الرد) وهو قسط ما بين قيمته
جانياً وغير جان، ولا يبطل البيع من أصله وبه قال بعض أصحاب الشافعي، وقال
أبو حنيفة والشافعي يرجع بجميع الثمن لأن تلفه كان بمعنى استحق عند البائع
فجرى مجرى إتلافه إياه، ولنا أنه تلف عند المشتري بالعيب الذي كان فيه فلم
يوجب الرجوع بجميع الثمن كما لو كان مريضاً فمات بدائه أو مرتداً فقتل
بردته وبهذا ينتقض ما ذكروه ولا يصح قياسهم على إتلافه لأنه لم يتلفه فلم
يشتركا في المقتضي، وإن كانت الجناية موجبة للقطع فقطعت يده عند المشتري
فقد تعيب عنده لأن استحقاق القطع دون حقيقته فهل يمنع ذلك رده بعيبه؟ على
روايتين {مسألة} (وإن كانت الجناية موجبة للمال والسيد معسر قدم حق المجني
عليه، وللمشتري الخيار
إذا لم يكن عالماً، فإن كان السيد موسراً تعلق الأرش بذمته والبيع لازم)
إذا كانت الجناية موجبة للمال أو للقود فعفي عنه الى مال فعلى السيد فداؤه
ويزول الحق عن رقبة العبد ببيعه لأن للسيد الخيرة بين تسليمه وفدائه.
فإذا باعه تعين عليه فداؤه لإخراج العبد عن ملكه ولاخيار للمشتري لعدم
الضرر عليه إذ الرجوع على غيره هذا إذا كان السيد موسراً وقال بعض أصحاب
الشافعي لا يلزم السيد فداؤه لأن أكثر ما فيه أنه التزم فداءه ولا يلزمه
كما لو قال الراهن أنا أقضي الدين من الرهن ولنا أنه أزال ملكه عن الجاني
فلزمه فداؤه كما لو أتلفه وبهذا قال أبو حنيفة، وإن كان البائع معسراً لم
يسقط حق المجني عليه من رقبة الجاني لأن المالك إنما يملك نقل حقه عن رقبته
بفدائه أو ما يقوم مقامه ولا يحصل ذلك من ذمة المعسر فيبقى الحق في رقبته
بحاله مقدماً على حق المشتري وللمشتري خيار الفسخ إن لم يكن عالماً فإن فسخ
رجع بالثمن وإن لم يفسخ وكانت الجناية مستوعبة لرقبة العبد فأخذ
(4/99)
بها رجع المشتري بالثمن أيضاً لأن أرش مثل
هذا جميع ثمنه وإن لم تكن مستوعبة رجع بقدر أرشه وإن كان عالماً بعيبه
راضياً بتعلق الحق به لم يرجع بشئ لأنه اشترى معيباً عالما بعيبه فإن اختار
المشتري فداءه فله ذلك والبيع بحاله لأنه يقوم مقام البائع بين تسليمه
وفدائه، وحكمه في الرجوع بما فداه به على البائع حكم قضاء الدين عنه على ما
نذكره في موضعه.
{فصل} قال رضي الله عنه (السادس خيار يثبت في التولية والشركة والمرابحة
والموضعة ولابد في جميعها من معرفة المشتري برأس المال) هذه أنواع من أنواع
البيع وأنا اختصت بأسماء كاختصاص السلم ويثبت فيها الخيار إذا أخبره بزيادة
في الثمن أو نحو ذلك فيثبت للمشتري الخيار كما لو أخبره بأنه كاتب أو صانع
فاشتراه بثمن فبان بخلافه ولا بد في جميع هذه الأنواع من معرفة المشتري
برأس المال لأن معرفة الثمن متوقفة على العلم به والعلم بالثمن شرط فمتى
فات لم يصلح البيع لفوات شرطه {مسألة} (ومعنى التولية البيع برأس المال
فيقول وليتكه أو بعتك برأس ماله أو بما اشتريته أو برقمه) قال أحمد رحمه
الله لا بأس ببيع الرقم والرقم هو الثمن المكتوب عليه إذا كان معلوماً لهما
حال العقد وهذا قول عامة العلماء وكره طاوس بيع الرقم، ولنا أنه بيع بثمن
معلوم فأشبه ما لو ذكر مقداره
أو إذا قال بعتك هذا بما اشتريته وقد علماه فإن لم يعلم فالبيع باطل لجهالة
الثمن {مسألة} (والشركة بيع بعضه بقسطه من الثمن ويصح بقوله شركتك في نصفه
أو ثلثه) إذا اشترى شيئاً فقال له رجل أشركني في نصفه بنصف الثمن فقال له
أشركتك صح وصار شركا بينهما إذا كان الثمن معلوماً لهما، ولو قال أشركني
فيه أو قال الشركة فقال شركتك أو قال ولني ما اشتريت ولم يذكر الثمن فقال
وليتك صح إذا كان الثمن معلوماً لأن الشركة تقتضي ابتياع جزء منه بقسطه من
الثمن على ما ذكر والتولية ابتياعه بمثل الثمن فإذا ذكر اسمه انصرف إليه
كما إذا قال أقلني فقال أقلتك، وفي حديث عن زهرة بن معبد أنه كان يخرج به
جده عبد الله بن هشام إلى السوق فيشتري الطعام فيلقاه ابن عمر وابن الزبير
فيقولان له أشركنا فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لك بالبركة فيشركهم
فربما أصاب الراحلة كما هي فبعث بها إلى المنزل ذكره البخاري، ولو اشترى
شيئاً فقال له رجل أشركني فشركه انصرف إلى النصف لأنها تنصرف إلى التسوية
بإطلاقها، فإن اشترى إثنان عبداً فقال لهما رجل أشركاني فيه فقالا شركناك
احتمل أن يكون لهما النصف لأن اشراكهما لو كان من كل واحد منهما منفرداً
لكان له النصف فكذلك حال الاجتماع، ويحتمل أن يكون له الثلث لأن الاشتراك
يفيد التساوي ولا يحصل التساوي إلا بجعله بينهم أثلاثاً وهذا أصح لأن إشراك
الواحد إنما اقتضى النصف لحصول التسوية به وإن شركه كل واحد منهما منفرداً
كان له النصف ولكل
(4/100)
واحد منهما الربع، وإن قال أشركاني فيه
فشركه أحدهما فعلى الوجه الأول يكون له نصف حصة الذي شركه وهو الربع وعلى
الآخر له السدس لأن طلب الشركة بينهما يقتضي طلب ثلث ما في يد كل واحد
منهما ليكون مساوياً لهما فإذا أجابه أحدهما ثبت له الملك فيما طلب منه وإن
قال له أحدهما أشركناك انبنى على تصرف الفضولي.
فإن قلنا يقف على الإجازة فأجازه فهل يثبت له الملك في نصفه أو ثلثه على
الوجهين، ولو قال لاحدهما أشكرني في نصف هذا العبد فإن قلنا يقف على
الإجازة من صاحبه فأجازه فله نصف العبد ولهما نصفه وإلا فله نصف حصة الذي
شركه، فإن اشترى عبداً فلقيه رجل فقال أشركني في هذا العبد فقال قد شركتك
فله نصفه فإن لقيه آخر فقال أشركني في هذا
العبد وكان عالماً بشركه الأول فله ربع العبد وهو نصف حصة الذي شركه لأن
طلبه للشركة رجع إلى ما ملكه المشارك وهو النصف فكان بينهما، وإن لم يعلم
بشركه الأول فهو طالب نصف العبد لاعتقاده أن جميع العبد لمن طلب منه
المشاركة، فإذا قال له شركتك احتمل ثلاثة أوجه (أحدها) أن يصير له نصف
العبد ولا يبقى للذي شركه شئ لأنه طلب منه نصف العبد فأجابه إليه فصار كأنه
قال بعني نصف هذا العبد فقال بعتك، وهذا قول القاضي (الثاني) أن ينصرف قوله
شركتك فيه إلى نصف نصيبه ونصف نصيب شريكه فيمتد في نصف نصيبه ويقف الزائد
على إجازة صاحبه على إحدى الروايتين لأن لفظ الشركة يقتضي بعض نصيبه
ومساواة المشتري له فلو باع جميع نصيبه لم يكن له شركة لأنه لا يتحقق فيه
ما طلب منه (الثالث) لا يكون للثاني إلا الربع بكل حال لأن الشركة إنما
تثبت بقول البائع شركتك لأن ذلك هو الإيجاب الناقل للملك وهو عالم أنه ليس
له إلا نصف العبد فينصرف إيجابه إلى نصف ملكه، وعلى هذين الوجهين لطالب
الشركة الخيار لأنه إنما طلب النصف فلم يحصل له جميعه إلا أن نقول بوقوفه
على الإجازة في الوجه الثاني فيخير الآخر، ويحتمل أن لا تصح الشركة أصلا
لأنه طلب شراء النصف فاجيب في الربع فصار بمنزلة مالو قال بعني نصف هذا
العبد بعتك ربعه.
(فصل) ولو اشترى قفيزاً من الطعام فقبض نصفه فقال له رجل بعني نصف هذا
القفيز فباعه انصرف إلى النصف المقبوض لأن البيع ينصرف إلى ما يجوز له بيعه
وهو المقبوض وإن أشركني في هذا القفيز بنصف الثمن ففعل لم تصح الشركة إلا
فيما قبض منه فيكون النصف المقبوض بينهما لكل واحد منهما ربعه بربع الثمن
لأن الشركة تقتضي التسوية هكذا ذكر القاضي، قال شيخنا والصحيح إن شاء الله
أن الشركة تنصرف إلى النصف كله فيكون بائعاً لما يصح بيعه وما لا يصح فيصح
في نصف المقبوض في أصح الوجهين ولا يصح فيما لم يقبض كما في تفريق الصفقة.
(4/101)
{مسألة} (والمرابحة أن يبيعه بربح فيقول
رأس مالي فيه مائة بعتكه بها وربح عشرة) فهذا جائز لا خلاف في صحته ولا
نعلم احدا كرهه وإن قال على أن أربح في كل عشرة درهماً
أو قال ده يازدة أو دوازده.
فقد كرهه أحمد ورويت فيه الكراهة عن ابن عمر وابن عباس والحسن ومسروق
وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء بن يسار، وقال إسحاق لا يجوز لأن الثمن مجهول
حال العقد فلم يجز كما لو باعه بما يخرج به في الحساب، ورخص فيه سعد بن
المسيب وابن سيرين وشريح والنخعي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي وابن
المنذر لأن رأس المال معلوم والربح معلوم أشبه ما إذا قال وربح عشرة دراهم
ووجه الكراهة أن ابن عمر وابن عباس كرهاه ولم يعلم لهما في الصحابة مخالف
ولأن فيه نوعاً من الجهالة فالتحرز عنها أولى وهذه كراهة تنزيه والبيع صحيح
والجهالة يمكن إزالتها بالحساب فلم تضر كما لو باعه صبرة كل قفيز بدرهم أما
مايخرج به الحساب فمجهول في الجملة والتفصيل {مسألة} (والمواضعة أن يقول
بعتكه بها ووضيعة درهم من كل عشرة فيلزم المشتري تسعون درهما) المواضعة أن
يخبر برأس ماله ويقول بعتك هذا به وأضع لك عشرة فيصح من غير كراهة، وإن قال
بوضيعة درهم من كل عشرة كره لما ذكرنا في المرابحة وصح فإذا كان رأس ماله
مائة لزمه تسعون ويكون الحط عشرة، وقال قوم يكون الحط درهماً من كل أحد عشر
فيكون ذلك تسعة دراهم وجزأ من أحد عشر جزأ من درهم ويبقى تسعون وعشرة أجزاء
من أحد عشر جزأ من درهم، وهذا غلط لأن هذا يكون حطاً من كل أحد عشر وهو غير
ماقاله، فأما إن قال بوضعية درهم لك عشرة كانت الوضيعة من كل أحد عشر
درهماً درهم ويكون الباقي تسعين وعشرة أجزاء من أحد عشر جزأ من درهم وهذا
قول أبي حنيفة والشافعي، وحكي عن أبي ثور أنه قال الحط ههنا عشرة مثل
الأولى ولا يصح فإنه إذا قال لكل عشرة درهم يكون الدرهم من غيرها فكأنه قال
من كل أحد عشر درهماً درهم، وإذا قال من كل عشرة درهما كان الدرهم من
العدة، ولأن من للتبعيض فكأنه قال آخذ من العشرة تسعة وأحط منها درهما
(فصل) فإن باعه السلعة مرابحة مثل أن يخبره أن ثمنها مائة ويربح عشرة ثم
علم ببينة أو إقرار أن ثمنها تسعون فالبيع صحيح لأنه زيادة في الثمن فلم
يمنع الصحة كالعيب وللمشتري الرجوع على البائع بما زاد في الثمن وهو عشرة
وحطها من الربح وهو درهم فيبقى على المشتري تسعة وتسعون درهماً، وبهذا قال
الثوري وابن أبي ليلى وهو أحد قولي الشافعي، وقال أبو حنيفة يخير بين الأخذ
بكل الثمن
أو يترك قياساً على المبيع.
ولنا انه باعه برأس ماله وما قدره من الربح فإذا بان رأس ماله قدراً كان
مبيعاً به وبالزيادة التي
(4/102)
اتفقا عليها والمعيب كذلك عندنا فإن له أخذ
الأرش ثم الفرق بينهما أن المسيب لم يرض إلا بالثمن المذكور وههنا رضي فيه
برأس المال والربح المقدر، وهل للمشتري الخيار؟ فالمنصوص عن أحمد أن
المشتري مخير بين أخذ المبيع برأس ماله وحصته من الربح وبين تركه نقل ذلك
حنبل وهو قول للشافعي لأن المشتري لا يأمن الخيانة في هذا الثمن أيضاً،
ولأنه ربما كان له غرض في الشراء بذلك الثمن لكونه خالفا أو وكيلاً أو غير
ذلك فظاهر كلام الخرقي أنه لا خيار له وحكي قولا للشافعي لأنه رضيه بمائة
وعشرة فإذا حصل له بدون ذلك فقد زاده خيراً فلم يثبت له الخيار كما لو
اشتراه على أنه معيب فبان صحيحاً أو وكل في شراء معين بمائة فاشتراه
بتسعين، وأما البائع فلا خيار له لأنه باعه برأس ماله وحصته من الربح وقد
حصل له ذلك.
(فصل) وإن قال في المرابحة رأس مالي فيه مائة وأربح عشرة ثم قال غلطت رأس
مالي فيه مائة وعشرة لم يقبل قوله إلا ببينة تشهد أن رأس ماله عليه ماقاله
ثانياً ذكره ابن المنذر عن أحمد وإسحاق وروى أبو طالب عن احمد إذا كان
البائع معروفاً بالصدق قبل قوله وإن لم يكن صدوقاً جاز البيع، قال القاضي
وظاهر كلام الخرقي أن القول قول البائع مع يمينه لأنه لما دخل معه في
المرابحة فقد ائتمنه والقول قول الأمين مع يمينه كالوكيل والمضارب، والصحيح
الأول وكون البائع مؤتمناً لا يوجب قبول دعواه في الخلط كالمضارب إذا أقر
بربح ثم قال غلطت، وعن أحمد رواية ثالثة أنه لا يقبل قول البائع وإن أقام
بينة حتى يصدقه المشتري وهو قول الثوري والشافعي لأنه أقر بالثمن وتعلق به
حق الغير فلا يقبل رجوعه وإن أقام بينة لإقراره بكذبها ولنا أنها بينة
عادلة شهدت بما يحتمل الصدق فتقبل كسائر البينات ولا نسلم أنه أقر بخلافها
فإن الإقرار يكون لغير المقر وحالة اخباره بثمنها لم يكن عليه حق لغيره فلم
يكن إقراراً، فإن لم يكن له بينة أو كانت له بينة وقلنا لا تقبل فادعى أن
المشتري يعلم غلطه فأنكر المشتري فالقول قوله، فإن طلب
بيمينه فقال القاضي لا يمين عليه لأنه مدع واليمين على المدعى عليه، ولأنه
قد أقر فيستغني بالإقرار عن اليمين، والصحيح أن عليه اليمين أنه لا يعلم
ذلك لأنه ادعى ما يلزمه رد السعلة أو زيادة في ثمنها فلزمه اليمين كموضع
الوفاق وليس هو ههنا مدع إنما هو مدعى عليه العلم بمقدار الثمن الأول، وإن
قلنا يقبل قول البائع أو قامت له بينة بما ادعاه وقلنا تقبل بينته فللمشتري
أن يحلفه أن وقت ما باعها لم يعلم أن شراءها أكثر ذكره الخرقي فإنه لو
باعها بدون ثمنها عالماً لزمه البيع بما عقد عليه لكونه تعاطى سببه عالماً
فلزمه كمشتري المعيب عالماً بعيبه، وإذا كان البيع يلزمه بالعلم فادعى عليه
لزمته اليمين فإن نكل قضي عليه بالنكول، وإن حلف خير المشتري بين قبوله
بالثمن والزيادة التي غلط بها وحطها من الربح وبين
(4/103)
فسخ العقد (قال شيخنا) ويحتمل أنه إذا قال
بعتك بمائة وربح عشرة ثم تبين أنه غلط بعشرة أنه لا يلزمه حط العشرة من
الربح لأن البائع رضي بربح عشرة في هذا المبيع فلا يكون له أكثر منها،
وكذلك إن تبين أنه زاد في رأس المال لا ينقص الربح من عشرة لأن البائع لم
يبعه إلا بربح عشرة، فأما إن قال وأربح في كل عشرة درهماً فإنه يلزمه حط
العشرة من الربح في الصورتين وإنما أثبتنا للمشتري الخيار لأنه دخل على أن
الثمن مائة وعشرة فإذا بان أكثر كان عليه ضرر في التزامه فلم يلزمه
كالمعيب، وإن اختار أحدهما بمائة واحد وعشرين لم يكن للبائع خيار لأنه قد
زاده خيراً فلم يكن له خيار كبائع المعيب إذا رضيه المشتري، وإن اختار
البائع إسقاط الزيادة عن المشتري فلا خيار له أيضاً لأنه قد بذلها بالثمن
الذي وقع عليه العقد ورضيا به {مسألة} (ومتى اشتراه بثمن مؤجل أو ممن لا
تقبل شهادته له أو بأكثر من ثمنه حيلة أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن
فلم يبين ذلك للمشتري في تخييره بالثمن فللمشتري الخيار بين الإمساك والرد)
إذا اشتراه بثمن مؤجل لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين أمره فان لم يفعل لم
يفسد البيع وللمشتري الخيار بين أخذه بالثمن الذي وقع عليه حالاً وبين
الفسخ في إحدى الروايتين وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي لأن البائع لم يرض
بذمة المشتري وقد تكون ذمته دون ذمة البائع فلا يلزم الرضى بذلك وحكى ابن
المنذر عن أحمد أنه إن كان المبيع قائما فهو مخير بين الفسخ وأخذه بالثمن
مؤجلاً لأنه الثمن
الذي اشترى به البائع والتأجيل صفة له فهو كما لو أخبره بزيادة في الثمن
وإن كان قد استهلك حبس الثمن بقدر الأجل وهذا قول شريح (فصل) وإن اشتراه
بدنانير فأخبر أنه اشتراه بدراهم أو بالعكس أو اشتراه بعوض فأخبر أنه
اشتراه بثمن أو بالعكس واشباه ذلك فللمشتري الخيار بين الفسخ وبين الرضى به
بالثمن الذي تبايعا به كسائر المواضع التي يثبت فيها ذلك.
(فصل) وإن اشتراه ممن لاتقبل شهادته له كأبيه وابنه لم يجز بيعه مرابحة حتى
يبين ذلك وبهذا قال أبو حنيفة، وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد يجوز وإن لم
يبين لأنه اشتراه بعقد صحيح وأخبر بثمنه فأشبه مالو اشتراه من أجنبي.
ولنا أنه متهم في الشراء منهم لكونه يحابيهم ويسمح لهم فلم يجز أن يخبر بما
اشترى منهم مطلقاً كما لو اشترى من مكاتبه فانه يجب عليه أن يبين أمره لا
نعلم فيه خلافا وبه يبطل قياسهم (فصل) وإن اشتراه بأكثر من ثمنه حيلة مثل
أن يشتريه من غلام دكانه الحر أو غيره على وجه الحيلة لم يجز بيعه مرابحة
حتى يبين أمره لأن ذلك تدليس وحرام على ما بيناه، وإن لم يكن حيله
(4/104)
فقال القاضي إذا باع غلام دكانه سلعة ثم
اشتراها منه بأكثر من ذلك لم يجز بيعه مرابحة حتى يبين أمره لأنه يتهم في
حقه فهو كمن لا تقبل شهادته له والصحيح إن شاء الله أن ذلك يجوز لأنه أجنبي
فأشبه غيره (فصل) إذا اشترى شيئين صفقة واحدة ثم أراد بيع أحدهما مرابحة أو
اشترى اثنان شيئا فتقاسماه وأراد أحدهما بيع نصيبه مرابحة بالثمن الذي أداه
فيه فإن كان من المتقومات التي لا ينقسم عليها الثمن بالاجزاء كالثياب
ونحوها لم يجز حتى يبين الحال على وجهه نص عليه وهذا مذهب الثوري واسحاق
وأصحاب الرأي، وقال الشافعي يجوز بيعه بحصته من الثمن لأن الثمن ينقسم على
المبيع على قدر قيمته كما لو كان المبيع شقصاً وشفعاً فإن الشفيع يأخذ
الشقص بحصته من الثمن، وذكر ابن أبي موسى فيما إذا اشتراه اثنان فتقاسماه
رواية عن أحمد أنه يجوز بيعه مرابحة بما اشتراه لأن ذلك ثمنه فهو صادق فيما
أخبر به.
ولنا ان قسمة الثمن على المبيع طريقه الظن واحتمال الخطأ فيه
كثير وبيع المرابحة أمانة فلم يجز فيه هذا وصار هذا كالخرص الحاصل بالظن لا
يجوز أن يباع به ما يجب التماثل فيه، وأما الشفيع فلنا فيه منع وإن سلم فإن
ما أخذه الشفيع بالقيمة للحاجة الداعية إليه لكونه لا طريق له سوى التقويم
ولأنه لو لم يأخذه به لا تخذه الناس طريقاً إلى إسقاط الشفعة فيؤدي إلى
تقويتها وهاهنا يمكن الاخبار بالحال وبيعه مساومة ولا تدعوا الحاجة إليه
فإن باعه ولم يبين فللمشتري الخيار بين الامساك والرد كالمسائل المذكورة
وإن كان من المتماثلات التي ينقسم عليها الثمن بالأجزاء كالبر والشعير
المتساوي جاز بيع بعضه مرابحة بقسطه من الثمن لا نعلم فيه خلافا لان ثمن
ذلك الجزء معلوم يقيناً ولذلك جاز بيع قفيز من الصبرة.
وإن أسلم في ثوبين بصفة واحدة فأخذهما على الصفة فله بيع أحدهما مرابحة
بحصته من الثمن على قياس ذلك لأن الثمن ينقسم عليهما نصفين لا باعتبار
القيمة، ولذلك لو أقال في أحدهما أو تعذر تسليمه كان له نصف الثمن من غير
اعتبار قيمة المأخوذ منهما فكأنه أخذ كل واحد منهما منفرداً وإن حصل في
أحدهما زيادة على الصفة جرت مجرى الحادث بعد البيع على ما نذكر إن شاء الله
{مسألة} (وما يزاد في الثمن أو يحط منه في مدة الخيار أو يؤخذ أرشاً للعيب
أو جناية عليه يلحق برأس المال ويخبر به) وجملة ذلك إن البائع إذا أراد
الاخبار بثمن السلعة وكانت بحالها لم تتغير أخبر بثمنها، فإن تغير سعر
السلعة بأن حط البائع بعض الثمن عن المشتري أو اشتراه في مدة الخيار لحق
بالعقد واخبر به في الثمن، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ولا نعلم عن غيرهم
خلافهم، وأن تغير سعر السلعة وهي
(4/105)
بحالها فإن غلت لم يلزمه الإخبار بذلك لأنه
زيادة فيها، وإن رخصت فكذلك نص عليه أحمد لأنه صادق بدون الإخبار بذلك،
ويحتمل أن يلزمه الأخبار بالحال، فإن المشتري لو علم بذلك لم يرضها بذلك
الثمن فكتمانه تغرير به فإن أخبره بدون ثمنها ولم يبين الحال لم يجز لأنه
كذبه، فأما ما يؤخذ أرشاً للعيب أو جناية عليه فذكر القاضي أنه يخبر به على
وجهه، وقال أبو الخطاب يحط أرش العيب من الثمن ويخبر بالباقي وهو الذي ذكره
شيخنا في هذا الكتاب لأن أرش العيب عوض عما فات
به فكان ثمن الموجود ما بقي، وفي أرش الجناية وجهان (أحدهما) يحط من الثمن
كأرش العيب وهو الأولى (والثاني) لا يحطه كالنماء، وقال الشافعي يحطهما من
الثمن ويقول: تقوم علي بكذا.
لأنه صادق فيما أخبر به أشبه مالو أخبره بالحال على وجهه ولنا أن الإخبار
بالحال أبلغ في الصدق وأقرب إلى البيان وبقي التغيير والتدليس فلزمه ذلك
كما يلزمه بيان العيب وقياس أرش الجناية على النماء والكسب لا يصح لأن أرش
الجناية عوض نقصه الحاصل بالجناية عليه فهو بمنزلة ثمن جزء منه باعه أو
كقيمة أحد الثوبين إذا تلف أحدهما، والنماء زيادة لم ينقص بها المبيع ولا
هي عوض عن شئ منه {مسألة} (وإن جنى ففداه المشتري أو زيد في الثمن أو حط
منه بعد لزومه لم يلحق به) أما إذا جنى ففداه المشتري، فإنه لا يلحق بالثمن
ولا يخبر به في المرابحة بغير خلاف علمناه لأن هذا لم يزد به المبيع قيمة
ولا ذاتاً وإنما هو مزيل لنقصه بالجناية والعيب الحاصل بتعلقها برقبته
فأشبهت الدواء المزيل لمرضه الحادث عند المشتري، فأما الأدوية والمؤنة
والكسوة وعمله في السلعة بنفسه أو عمل غيره له بغير أجرة فإنه لا يخبر بذلك
في الثمن وجها واحدا، وان أخبر بالحال على وجهه فحسن وكذلك ما زيد في الثمن
أو حط منه بعد لزوم العقد لا يخبر به، ويخبر بالثمن الأول لأن ذلك هبة من
أحدهما للآخر فلا يكون عوضاً وبهذا قال الشافعي، وقال أبو حنيفة يلحق
بالعقد ويخبر به في المرابحة لانه بسبب العقد {مسألة} (وإن اشترى ثوباً
بعشرة وقصره بعشرة أخبر بذلك على وجهه، فإن قال تحصل علي بعشرين فهل يجوز
ذلك؟ على وجهين، وإن عمل فيه بنفسه عملا يساوي عشرة لم يجز ذلك وجهاً
واحداً) وجملة ذلك أن من أراد البيع مرابحة والسلعة بحالها أخبر بثمنها.
وإن تغيرت فهو على ضربين (أحدهما) أن تتغير بزيادة وذلك نوعان (أحدهما) أن
تزيد لنمائها كالسمن وتعلم صنعة أو يحدث منها نماء منفصل كالولد والثمرة
والكسب فهذا إذا أراد بيعها مرابحة اخبر الثمن من غير زيادة لأنه الذي
ابتاعها به، وإن أخذ النماء المنفصل أو استخدم الأمة أو وطئ الثيب أخبر
برأس المال ولم يجب تبيين الحال، وروى ابن المنذر عن أحمد أنه يبين ذلك كله
وهو قول إسحاق، وقال أصحاب الرأي
(4/106)
في الغلة يأخذها لا بأس ان يبيع مرابحة،
وفي الولد والثمرة لا يبيع مرابحة حتى يبين لأنه موجب العقد ولنا أنه صادق
فيما أخبر به من غير تغرير بالمشتري فجاز كما لو لم يزد، ولأن الولد
والثمرة نماء منفصل، فلم يمنع من بيع المرابحة كالغلة (النوع الثاني) أن
يعمل فيها عملا مثل أن يقصرها أو يرفوها أو يخيطها أو يحملها فمتى أراد
بيعها مرابحة أخبر بالحال على وجهه سواء عمل ذلك بنفسه أو استأجر من عمله
هذا ظاهر كلام أحمد فإنه قال: يبين ما اشتراه وما لزمه ولا يجوز أن يقول
تحصلت علي بكذا وبه قال الحسن وابن سيرين وابن المسيب وطاوس والنخعي
والاوزاعي وابو ثور، وفيه وجه آخر أنه يجوز فيما استأجر عليه أن يضم الأجرة
إلى الثمن ويقول.
تحصلت علي بكذا لأنه صادق، وبه قال الشعبي والحكم والشافعي.
ولنا أنه تغرير بالمشتري فإنه عسى أنه لو علم أن بعض ما تحصلت به لأجل
الصناعة لم يرغب فيها لعدم رغبته في ذلك فأشبه ما ينفق على الحيوان في
مؤنته وكسوته، وعلى المتاع في خزنه (الضرب الثاني) أن يتغير بنقص كالمرض
والجناية عليه أو تلف بعضه أو الولادة أو أن يتعيب أو يأخذ المشتري بعضه
كالصوف واللبن ونحوه فإنه يخبر بالحال ولا نعلم فيه خلافاً {مسألة} (وإن
اشتراه بعشرة ثم باعه بخمسة عشر ثم اشتراه بعشرة أخبر بذلك على وجهه وإن
قال اشتريته بعشرة جاز وقال أصحابنا يحط الربح من الثمن الثاني ويخبر أنه
اشتراه بخمسة) المستحب في هذه المسألة وأمثالها أو يخبر بالحال على وجهه
لأن فيه خروجاً من الخلاف وهو أبعد من التغرير بالمشتري، فإن أخبر أنه
اشتراه بعشرة ولم يبين جاز وهذا قول الشافعي وأبي يوسف ومحمد لأنه صادق
فيما أخبر به وليس فيه تهمة فأشبه مالو لم يربح، وروي عن ابن سرين أنه يطرح
الربح من الثمن الثاني ويخبر أن رأس ماله عليه خمسة، وأعجب أحمد قول ابن
سيرين قال فإن باعه على ما اشتراه يبين أمره يعني أنه ربح مرة ثم اشتراه
وهذا من أحمد على الاستحباب لما ذكرناه، ولأنه الثمن الذي حصل به الملك
الثاني أشبه مالو خسر فيه، وقال أبو حنيفة لا يجوز بيعه مرابحة إلا أن يبين
أمره أو يخبر أن رأس ماله عليه خمسة وهو قول القاضي وأصحابه لأن المرابحة
تضمن فيها العقود فيخبر بما تقوم عليه كما تضم أجرة الخياط والقصاب، وقد
استفاد بهذا العقد الثاني تقرير الربح في العقد الأول لأنه أمن أن يرد
عليه، فعلى هذا ينبغي إذا طرح الربح من الثمن الثاني أن يقول تقوم علي
بخمسة ولا يقول اشتريته بخمسة لأنه كذب وهو حرام فيصير كما لو ضم أجرة
القصارة ونحوها إلى الثمن وأخبر به.
ولنا ما ذكرناه، وما ذكروه من ضم القصارة والخياطة فشئ بنوه على أصولهم لا
نسلمه ثم لا يشبه هذا ما ذكروه لأن المؤنة لزمته في هذا البيع الذي يلي
المرابحة وهذا الربح في عقد آخر قبل هذا الشراء فأشبه الخسارة فيه، وأما
تقويم الربح فغير صحيح فإن العقد الأول قد لزم ولم يظهر
(4/107)
العيب ولم يتعلق به حكمه، وقد ذكرنا في مثل
هذه المسألة أن للمشتري أن يرده على البائع إذا ظهر على عيب قديم وإذا لم
يلزمه طرح النماء والغلة فههنا أولى، ويجئ على قولهم أنه لو اشترى بعشرة ثم
باعه بعشرين ثم اشتراها بعشرة فإنه يخبر أنها حصلت عليه بغير شئ، وإن
اشتراها بعشرة ثم باعها بثلاثة عشر ثم اشتراها بخمسة أخبر أنها تقومت عليه
بدرهمين، وإن اشتراها بخمسة عشر أخبر أنها تقومت عليه باثني عشر نص أحمد
على نظير هذا، فان لم يربح ولكن اشتراها ثانية بخمسة أخبر بها لأنها ثمن
للعقد الذي يلي المرابحة، ولو خسر فيها مثل أن اشتراها بخمسة عشر ثم باعها
بعشرة ثم اشتراها بأي ثمن كان أخبر به ولم يجز أن يضم الخسارة إلى الثمن
الثاني ويخبر به في المرابحة بغير خلاف نعلمه وهو يدل على صحة ما ذكرناه
(فصل) وإن ابتاع اثنان ثوباً بعشرين ثم بذل لهما فيه اثنان وعشرون فاشترى
أحدهما نصيب صاحبه فيه بذلك السعر فإنه يخبر في المرابحة بأحد وعشرين نص
عليه وهذا قول النخعي، وقال الشعبي يبيعه على اثنين وعشرين لأن ذلك الدرهم
الذي كان أعطيه قد كان أحرزه ثم رجع إلى قول النخعي بعد ذلك ولا نعلم احدا
خاف ذلك لأنه اشترى نصفه الأول بعشرة والثاني بأحد عشر فصار أحداً وعشرين
(فصل) قال أحمد المساومة عندي أسهل من بيع المرابحة لأن بيع المرابحة
يعتريه أمانة واسترسال من المشتري ويحتاج فيه إلى تعيين الحال على وجهه ولا
يؤمن هوى النفس في نوع تأويل وخطر فيكون على خطر وغرر فتجنب ذلك أسلم وأولى
(فصل) وإن اشترى رجل نصف سلعة بعشرة واشترى آخر نصفها بعشرين ثم باعاها
مساومة بثمن واحد فهو بينهما نصفان لا نعلم فيه خلافاً لأن الثمن عوض عنها
فكان بينهما على حسب ملكهما فيها
كالإتلاف وإن باعها مرابحة أو مواضعة أو تولية فكذلك نص عليه أحمد وهو قول
ابن سيرين والحكم قال الأثرم قال أبو عبد الله إذا باعها فالثمن بينهما
نصفان.
قلت أعطى أحدهما أكثر مما أعطى الآخر؟ فقال وإن اليس الثوب بينهما الساعة
سواء؟ فالثمن بينهما لأن كل واحد منهما يملك مثل الذي يملك صاحبه.
وحكى أبو بكر عن أحمد أن الثمن بينهما على قدر رءوس أموالهما لأن بيع
المرابحة يقتضي أن يكون الثمن في مقابلة رأس المال فيكون مقسوماً بينهما
على حسب رءوس أموالهما، قال شخينا ولم أجد عن أحمد رواية بما قال أبو بكر،
وقيل هذا وجه خرجه أبو بكر وليس برواية والمذهب الأول لأن الثمن عوض المبيع
وملكهما متساو فيه فكان ملكهما لعوضه متساوياً كما لو باعه مساومة (فصل)
قال رضي الله عنه (السابع خيار يثبت لاختلاف المتبايعين فمتى اختلفا في قدر
الثمن تحالفا فيبدأ بيمين البائع فيحلف ما بعته بكذا وإنما بعتكه بكذا ثم
يحلف المشتري ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا)
(4/108)
إذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة
قائمة فقال البائع بعتك بعشرين، وقال المشتري بعشرة ولأحدهما بينة حكم
بينهما وإن لم يكن لهما بينة تحالفا، وبه قال شريح وأبو حنيفة والشافعي وهي
رواية عن مالك وله رواية أخرى القول قول المشتري مع يمينه، وبه قال أبو ثور
وزفر لأن البائع يدعي عشرة ينكرها المشتري والقول قول المنكر، وقال الشعبي
القول قول البائع أو يترادان البيع وحكاه ابن المنذر عن أحمد لما روى ابن
مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا اختلف البيعان وليس
بينهما بينة فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع " رواه سعيد وابن ماجة
وغيرهما والمشهور في المذهب الأول.
ويحتمل أن يكون معنى القولين واحداً وأن القول قول البائع مع يمينه فإذا
حلف فرضي المشتري بذلك أخذ به وإن أبى حلف أيضاً وفسخ البيع لأن في بعض
ألفاظ حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا اختلف
المتبايعان والسلعة قائمة ولا بينة لأحدهما تحالفا " ولأن كل واحد منهما
مدع ومدعى عليه فإن البائع يدعي عقداً بعشرين ينكره المشتري والمشتري يدعي
عقداً بعشرة ينكره البائع والعقد بعشرة غير العقد بعشرين فشرعت اليمين في
حقهما وهذا الجواب عما ذكروه (فصل) والمبتدئ باليمين البائع فيحلف ما بعته
بكذا وإنما بعته بكذا فإن شاء المشتري أخذه بما قال
البائع والاحلف ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا، وبهذا قال الشافعي،
وقال أبو حنيفة يبدأ يبين المشتري لأنه منكر واليمين في جنبته أقوى ولأنه
يقضى بنكوله ينفصل الحكم وما كان أقرب إلى فصل الخصومة كان أولى ولنا قول
النبي صلى الله عليه وسلم " فالقول ما قال البائع أو يترادان البيع " وفي
لفظ " فالقول قول البائع والمشتري بالخيار " رواه أحمد ومعناه إن شاء أخذ
وإن شاء حلف ولأن البائع أقوى جنبة لانها إذا تحالفا عاد المبيع إليه فكان
أقوى كصاحب اليد وقد بينا أن كل واحد منهما منكر فيتساويان من هذا الوجه
والبائع إذا حلف فهو بمنزلة نكول المشتري يحلف الآخر ويقتضى به فهما سواء
ويكفي كل واحد منهما يمين واحدة لأنه أقرب إلى فصل القضاء {مسألة} (فإن نكل
أحدهما لزمه ما قال صاحبه) يعني إذا حلف البائع فنكل المشتري عن اليمين قضي
عليه وإن نكل المشتري حلف المشتري وقضي له، ووجه ذلك حديث ابن عمر لما باع
زيداً عبداً واختلفا في عيب فيه فاحتكما إلى عثمان فوجبت علي عبد الله
اليمين فلم يحلف فرد عثمان عليه العبد رواه الإمام أحمد {مسألة} (فإن
تخالفا فرضي أحدهما بقول صاحبه أقر العقد وإلا فلكل واحد منهما الفسخ) إذا
تخالفا لم ينفسخ البيع بنفس التخالف لأنه عقد صحيح فلم ينفسخ باختلافهما
وتعارضهما في الحجة كما لو قامت البينة لكل واحد منهما، لكن إن رضي احدهما
مما قال الآخر أجبر الآخر عليه وأقر
(4/109)
العقد بينهما وإن لم يرض واحد منهما فلكل
واحد منهما الفسخ هذا ظاهر كلام أحمد ويحتمل أن يقف الفسخ على الحاكم وهو
ظاهر مذهب الشافعي لأن العقد صحيح وأحدهما ظالم وإنما يفسخه الحاكم لتعذر
إمضائه في الحكم أشبه نكاح المرأة إذا زوجها الوليان وجهل السابق منهما
ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم " أو يترادان البيع " وظاهره استقلالهما
بذلك، وروي أن ابن مسعود باع الأشعث بن قيس رقيقاً من رقيق الإمارة فقال
عبد الله بعتك بعشرين ألفاً، وقال الأشعث شريت منك بعشرة آلاف، فقال عبد
الله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " إذا اختلف المتبايعان وليس
بينهما بينة والبيع قائم بعينه فالقول قول البائع أو يترادان البيع " قال
فإني أرد البيع رواه سعيد
وروى أيضا حديثاً عن عبد الملك بن عبيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم " إذا اختلف المتبايعان استحلف البائع ثم كان للمشتري الخيار إن شاء
أخذ وإن شاء ترك " وهذا ظاهر في انه يفسخ من غير حاكم لأنه جعل الخيار إليه
فأشبه من له خيار الشرط ولأنه فسخ لا ستدراك الظلامة أشبه الرد بالعيب ولا
يشبه النكاح لأن لكل واحد من الزوجين الاستقلال بالطلاق {مسألة} (وإن كانت
السلعة تالفة رجعاً إلى قيمة مثلها فإن اختلفا في صفتها فالقول قول المشتري
وعنه لا يتحالفان إذا كانت تالفة والقول قول المشتري مع يمينه) إذا اختلفا
في ثمن السلعة بعد تلفها فعن أحمد فيها روايتان (إحداهما) يتحالفان هكذا
ذكره الخرقي مثل لو كانت قائمة، وهو قول الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك
(والاخرى) القول قول المشتري مع يمينه اختارها أبو بكر وهو قول النخعي
والثوري والاوزاعي وابي حنيفة لقوله عليه السلام في الحديث " والسلعة قائمة
" مفهومه أنه لا يشرع التحالف عند تلفها ولأنهما اتفقا على نقل السلعة إلى
المشتري واستحقاق عشرة في ثمنها، واختلفا في عشرة زائدة البائع يدعيها
والمشتري ينكرها والقول قول المنكر وتركنا هذا القياس حال قيام السلعة
للحديث الوارد فيه ففيما عداه يبقى على القياس، ووجه الرواية الأولى عموم
قوله عليه السلام " إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع والمشتري
بالخيار " قال أحمد ولم ينقل فيه " والبيع قائم " إلا يزيد بن هارون قال
أبو عبد الله وقد أخطأ، رواه الخلق عن المسعودي ولم يقولوا هذه الكلمة،
ولأن كل واحد منهما مدع ومنكر فيشرع اليمين كحال قيام السلعة فإن ذلك لا
يختلف بقيام السلعة وتلفها، وقولهم تركناه للحديث قلنا لم يثبت في الحديث،
قال إبن المنذر وليس في هذا الباب حديث يعتمد عليه، وعلي أنه إذا خولف
الأصل لمعنى وجب تعديه الحكم بتعدي ذلك المعنى فنقيس عليه بل يثبت الحكم
بالبينة فإن التحالف إذا ثبت مع قيام السلعة مع أنه يمكن معرفة ثمنها
للمعرفة بقيمتها فإن الظاهر أن الثمن يكون بالقيمة فمع تعذر ذلك أولى، فإذا
تحالفا
(4/110)
فإن رضي أحدهما بما قال الآخر لم يفسخ
العقد لعدم الحاجة إلى فسخه وإن لم يرضيا فلكل واحد منهما فسخه كما إذا
كانت السلعة باقية ويرد الثمن إلى المشتري ويدفع المشتري قيمة السلعة إلى
البائع فإن
كانا من جنس واحد وتساويا بعد التقابض تقاصا، وينبغي أن لا يشرع التحالف
ولا الفسخ فيما إذا كانت قيمة السلعة مساوية للثمن الذي ادعاه المشتري
ويكون القول قول المشتري مع يمينه لأنه لا فائدة في ذلك لأن الحاصل به
الرجوع إلى ما ادعاه المشتري.
وإن كانت القيمة أقل فلا فائدة للبائع في الفسخ فيحتمل أن لا يشرع له
اليمين ولا الفسخ لأن ذلك ضرر عليه من غير فائدة، ويحتمل أن يشرع لتحصل
الفائدة للمشتري، ومتى اختلفا في قيمة السلعة رجعا إلى قيمة مثلها موصوفاً
بصفاتها، فإن اختلفا في الصفة فالقول قول المشتري مع يمينه لأنه غارم (فصل)
وإن تقايلا المبيع أو رد بعيب بعد قبض البائع الثمن ثم اختلفا في قدره
فالقول قول البائع لأنه منكر لما يدعيه المشتري بعد انفساخ العقد أشبه ما
إذا اختلفا في القبض {مسألة} (وإن ماتا فورثتهما في منزلتهما) في جميع ما
ذكرناه لأنهم يقومون مقامهما في أخذ مالهما وارث حقوقهما فكذلك فيما
يلزمهما أو يصير لهما، ولأنها يمين في المال فقام الوارث فيها مقام الموروث
كاليمين في الدعوى {مسألة} (ومتى فسخ المظلوم منهما انفسخ العقد ظاهراً
وباطناً وإن فسخ الظالم لم ينفسخ قي حقه باطناً وعليه إثم الغاصب) وجملة
ذلك أن الفسخ إذ وجد منهما فقال القاضي ظاهر كلام أحمد أن الفسخ ينفذ
ظاهراً وباطناً لأنه فسخ لا ستدراك الظلامة فهو كالرد بالعيب أو فسخ عقد
بالتحالف فأشبه الفسخ باللعان.
وقال أبو الخطاب إن كان البائع ظالم لم ينفسخ العقد في الباطن لأنه لا
يمكنه إمضاء العقد واستيفاء حقه فلا ينفسخ العقد في الباطن ولا يباح له
التصرف في المبيع لأنه غاصب، وإن كان المشتري ظالماً انفسخ البيع ظاهراً
وباطناً لعجز البائع عن استيفاء حقه فكان له الفسخ كما لو أفلس المشتري،
ولأصحاب الشافعي وجهان كهذين، ولهم وجه ثالث أنه لا ينفسخ في الباطن بحال
وهذا فاسد لأنه لو علم أنه لا ينفسخ في الباطن بحال لما أمكن فسخه في
الظاهر فإنه لا يباح لكل واحد منهما التصرف فيما رجع إليه بالفسخ ومتى علم
أن ذلك محرم منع منه، ولأن الشارع جعل للمظلوم منهما الفسخ ظاهراً وباطناً
فانفسخ بفسخه في الباطن كالرد بالعيب (قال شيخنا) ويقوى عندي أن فسخه
المظلوم منهما انفسخ ظاهراً وباطناً
كذلك، وإن فسخه الكاذب عالماً بكذبه لم ينفسخ بالنسبة إليه لأنه لا يحل به
الفسخ فلم يثبت حكمه بالنسبة إليه ويثبت بالنسبة إلى صاحبه فيباح له التصرف
فيما رجع إليه لأنه رجع إليه بحكم من غير
(4/111)
عدوان منه فأشبه مالو رد عليه المبيع بدعوى
العيب ولا عيب فيه {مسألة} (وإن اختلفا في صفة الثمن تحالفا إلا أن يكون
للبلد نقد معلوم فيرجع إليه) إذا اختلفا في صفة الثمن رجع إلى نقد البلد نص
عليه في رواية الأثرم لأن الظاهر انهما لا يعقدان إلا به، وإن كان في البلد
نقود رجع إلى أوسطها نص عليه في رواية جماعة فيحتمل أنه أراده إذا كان هو
الأغلب والمعاملة به أكثر لأن الظاهر وقوع المعاملة به أشبه إذا كان في
البلد نقد واحد، ويحتمل أنه ردهما إليه مع التساوي لأن فيه تسوية بينهما في
الحق وتوسطاً بينهما وفي العدول الى غيره ميل على أحدهما فكان التوسط أولى،
وعلى مدعي ذلك اليمين لأن قول خصمه محتمل فيجب اليمين لنفي ذلك الاحتمال
كوجوبها على المنكر، وإن لم يكن في البلد إلا نقدان تحالفا لأنهما اختلفا
في الثمن على وجه لم يترجح قول أحدهما فيتحالفان كما لو اختلفا في قدره
{مسألة} (وإن اختلفا في أجل أو شرط فالقول قول من ينفيه، وعنه يتحالفان إلا
أن يكون شرطاً فاسداً فالقول قول من يثبته) إذا اختلفا في أجل أو شرط أو
رهن أو ضمين أو في قدر الأجل أو الرهن فالقول قول من ينفيه في إحدى
الروايتين مع يمينه وهذا قول أبي حنيفة لأن الأصل عدمه فكان القول قول من
يدعيه كأصل العقد (والثانية) يتحالفان وهو قول الشافعي لأنهما اختلفا في
صفة العقد فوجب أن يتحالفا كما لو اختلفا في الثمن فأما إن اختلفا فيما
يفسد العقد فقال بعتك بخمس أو خيار مجهول أو في شرط فاسد، وقال لابل بعتني
بنقد معلوم أو خيار معلوم إلى ثلاث فالقول قول من يدعي الصحة مع يمينه لأن
ظهور تعاطي المسلمين الصحيح أكثر من تعاطي الفاسد، وإن قال بعتك مكرهاً
فأنكر فالقول قول المشتري لأن الأصل عدم الإكراه وصحة البيع كذلك، وإن قال
بعتك وأنا صبي فالقول قول المشتري نص عليه وهو قول الثوري واسحاق لأنهما
اتفقا على العقد واختلفا فيما يفسده فكان القول
قول من يدعي الصحة كالتي قبلها، ويحتمل أن يقبل قول من يدعي الصغر لأنه
الأصل وهو قول بعض أصحاب الشافعي ويفارق ما إذا اختلفا في الإكراه والشرط
الفاسد من وجهين (أحدهما) أن الأصل عدمه وههنا الأصل بقاؤه (والثاني) أن
الظاهر من المكلف أنه لا يتعاطى إلا الصحيح وههنا ما ثبت أنه كان مكلفاً،
وإن قال بعتك وأنا مجنون فإن لم يعلم حال جنون فالقول قول المشتري لأن
الأصل عدمه، وإن ثبت أنه كان مجنوناً فهو كالصبي، وإن قال بعتك وأنا غير
مأذون لي في التجارة فالقول قول المشتري نص عليه في رواية منها لأنه مكلف
فالظاهر أنه لا يعقد إلا عقداً صحيحاً {مسألة} (وإن قال بعتني هذين قال بل
أحدهما فالقول قول البائع)
(4/112)
أما إذا قال بعتني هذا العبد والأمة بمائة
قال بل بعتك العبد بخمسين فالقول قول البائع لأن المشتري يدعي عقداً ينكره
البائع والقول قول المنكر، وإن قال البائع بعتك هذا العبد بألف فقال بل هو
والعبد الآخر بألف فالقول قول البائع مع يمينه وهو قول أبي حنيفة لان
البائع ينكر بيع العبد الزائد فكان القول قوله مع يمينه كما لو ادعى شراءه
منفرداً.
وقال الشافعي يتحالفان لأنهما اختلفا في أحد عوضي العقد أشبه ما لو اختلفا
في الثمن وهذا القول أقيس وأولى إن شاء الله تعالى {مسألة} (وإن قال بعتني
هذا قال بل هذا حلف كل واحد منهما على ما أنكره ولم يثبت بيع واحد منهما)
وذلك مثل أن يقول البائع بعتك هذا العبد قال بل بعتني هذه الجارية لأن كل
واحد منهما يدعي عقداً على عين ينكرها المدعى عليه والقول قول المنكر فإذا
حلف البائع ما بعتك هذه الجارية أقرت في يده وإن كان مدعيها قد قبضها ردت
عليه وأما العبد فان كان في يد البائع أقر في يده ولم يكن للمشتري طلبه
لأنه لا يدعيه وعلى البائع رد الثمن اليه لأنه لم يصل إليه المعقود عليه،
وإن كان في يد المشتري فعليه رده إلى البائع لأنه يعترف أنه لم يشتره وليس
للبائع طلبه إذا بذل ثمنه لاعترافه بيعه، وإن لم يعطه ثمنه فله فسخ البيع
واسترجاعه لتعذر الثمن عليه فملك الفسخ كما لو أفلس المشتري، وإن أقام كل
واحد منهما بينة بدعواه ثبت العقدان لأنهما لا يتنافيان فأشبه مالو ادعى
أحدهما البيع فيهما جميعاً وأنكره الآخر، وإن أقام أحدهما بينة دون
الأخر ثبت ما قامت عليه البينة دون الآخر {مسألة} (وإن قال البائع لا أسلم
المبيع حتى أقبض الثمن، وقال المشتري لا أسلمه حتى أقبض المبيع وكان الثمن
عيناً أو عرضاً جعل بينهما عدل يقبض منهما ويسلم إليهما) لأن حق البائع قد
تعلق بعين الثمن كما تعلق حق المشتري بعين المبيع فاستويا وقد وجب لكل واحد
منهما على الآخر حق قد استحق قبضه فأجبر كل واحد منهما على إيفاء صاحبه حقه
وهذا قول الثوري وأحد أقوال الشافعي، وعن أحمد ما يدل على أن البائع يجبر
على تسليم المبيع أولا وهو قول ثان للشافعي والأول أولى لما ذكرنا، وقال
أبو حنيفة ومالك يجبر المشتري على تسليم الثمن قبل الاستيفاء كالمرتهن ولنا
أن تسليم المبيع يتعلق به استقرار البيع وتمامه فكان تقديمه أولى ويخالف
الرهن فإنه لا تتعلق به مصلحة عقد الرهن والتسليم ههنا يتعلق به مصلحة عقد
البيع وإن كان ديناً أجبر البائع على تسليم المبيع ثم أجبر المشتري على
تسليم الثمن لأن حق المشتري تعلق بعين المبيع وحق البائع تعلق بالذمة
وتقديم ما تعلق بالعين أولى لتأكده وكذلك تقديم الدين الذي به الرهن على ما
في الذمة
(4/113)
وكذلك تقديم أرش الجناية على الدين لذلك،
وقال مالك وأبو حنيفة يجبر المشتري أولاً على تسليم الثمن كالمسألة قبلها
وقد ذكرنا ما يدل على خلافه، إذا ثبت هذا وأجبنا على البائع التسليم فسلم
فإن كان المشتري موسراً والثمن حاضراً أجبر على تسليمه وإن كان الثمن
غائباً عن البلد في مسافة القصر أو كان المشتري معسراً فللبائع الفسخ لأن
عليه ضرراً في تأخير الثمن فكان له الفسخ والرجوع في عين ماله كالمفلس، وإن
كان الثمن في بيته أو بلده حجر على المشتري في المبيع وسائر ماله حتى يسلم
الثمن لئلا يتصرف في ماله تصرفاً يضر بالبائع، وإن كان غائباً عن البلد
قريباً دون مسافة القصر فللبائع الفسخ في أحد الوجهين لأن عليه ضرراً في
تأخير الثمن أشبه المفلس (والثاني) لا يثبت له خيار الفسخ لأنه كالحاضر
فعلى هذا يحجر على المشتري كما لو كان في البدل وهذا كله مذهب الشافعي،
وقال شيخنا ويقوى عندي أنه لا يجب على البائع تسليم المبيع حتى يحضر الثمن
ويتمكن من تسليمه لأن البائع إنما رضي ببذل المبيع بالثمن فلا يلزمه دفعة
قبل حصول عوضه ولأن المتعاقدين سواء في المعاوضة
فيستويان في التسليم وإنما يؤثر ما ذكر في الترجيح في تقديم التسليم مع
حضور العوض الآخر لعدم الضرر فيه أما مع الحظر المحوج إلى الحجر أو المجوز
الفسخ فلا ينبغي أن يثبت ولأن شرع الحجر لا يندفع به الضرر لأنه يقف على
الحاكم ويتعذر ذلك في الغالب ولأن ما أثبت الحجر والفسخ بعد التسليم أولى
أن يمنع التسليم لأن المنع أسهل من الرفع، والمنع قبل التسليم أسهل من
المنع بعده ولذلك ملكت المرأة منع نفسها من التسليم قبل قبض صداقها ولم
تملكه بعد التسليم على أحد الوجهين.
وكل موضع قلنا له الفسخ فإنه يفسخ بغير حكم حاكم لأنه فسخ للبيع فتعذر ثمنه
فملكه البائع كالفسخ في عين ماله إذا أفلس المشتري وكل موضع قلنا يحجر عليه
فذلك إلى الحاكم لأن ولاية الحجر إليه (فصل) فإن هرب المشتري قبل وزن الثمن
وهو معسر فللبائع الفسخ في الحال لأنه يملك الفسخ مع حضوره فمع هربه أولى
وإن كان موسراً أثبت البائع ذلك عند الحاكم ثم إن وجد الحاكم له ما لا قضاه
وإلا باع المبيع وقضى ثمه منه وما فضل فللمشتري وإن أعوز ففي ذمته، قال
شيخنا ويقوى عندي أن للبائع الفسخ بكل حال لأنا أبحنا له الفسخ مع حضوره
إذا كان الثمن بعيداً عن البلد للضرر في التأخير فههنا مع العجز عن
الاستيفاء بكل حال أولى، ولا يندفع الضرر برفع الأمر إلى الحاكم لأنه قد
يعجز عن إثباته عنده وقد يكون المبيع في مكان لاحاكم فيه والغالب أن لا
يحضره من يعرفه الحاكم بالعدالة فاحالته على هذا تضييع لماله وهذه الفروع
تقوي ما ذكرته من أن للبائع منع المشتري من قبض المبيع قبل إحضار الثمن لما
في ذلك من الضرر
(4/114)
(فصل) وليس للبائع الامتناع من تسليم
المبيع بعد قبض الثمن لأجل الاستبراء وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وحكي عن
مالك في القبيحة وقال في الجميلة يضعها على يدي عدل حتى تستبرأ لأن التهمة
تلحقه فيها فمنع منها.
ولنا أنه بيع عين لاخيار فيها قد قبض ثمنها فوجب تسليمها كسائر المبيعات
وما ذكره من التهمة لا يمكنه من المنع كالقبيحة ولأنه إن كان استبرأها قبل
بيعها فاحتمال وجود الحمل منها بعيد نادر وإن كان لم يستبرئها فهو الذي ترك
التحفظ لنفسه، ولو طالب المشتري البائع بكفيل لئلا تظهر حاملاً لم يكن له
ذلك لأنه ترك التحفظ لنفسه حال العقد فلم يكن له كفيل كما لو طالب كفيلا
بالثمن المؤجل
{مسألة} (ويثبت الخيار للتخلف في الصفة وتغير ما تقدمت رؤيته وقد ذكرناه)
في الفصل السادس من كتاب البيع بما يغني عن إعادته (فصل) قال رضي الله عنه
(ومن اشترى مكيلا أو موزونا لم يجز بيعه حتى يقبضه، وإن تلف قبل قبضه فهو
من مال البائع إلا أن يتلفه آدمي فيخير المشتري بين فسخ العقد وإمضائه
ومطالبة متلفه ببدله وعنه في الصبرة المتعينة أنه يجوز بيعها قبل قبضها،
وإن تلفت فهي من ضمان المشتري) ظاهر المذهب أن المكيل والموزون لا يدخل في
ضمان المشتري إلا بقبضه، وهو ظاهر كلام الخرقي وكذلك قال في المعدود سواء
كان متعيناً كالصبرة أو غير متعين كقفيز منها، وهو ظاهر كلام أحمد ونحوه
قول إسحاق، وروي عن عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحسن والحكم وحماد بن
أبي سليمان أن كل ما بيع على الكيل والوزن لا يجوز بيعه قبل قبضه وما ليس
بمكيل ولا موزون يجوز بيعه قبل قبضه، وقال القاضي وأصحابه المراد بالمكيل
والموزون والمعدود ما ليس بمتعين كالقفيز من صبرة والرطل من زبده، فأما
المتعين فيدخل في ضمان المشتري كالصبرة يبيعها من غير تسمية كيل، وقد نقل
عن أحمد نحو ذلك فإنه قال في رواية أبي الحارث في رجل اشترى طعاماً فطلب من
يحمله فرجع وقد احترق فهو من مال المشتري.
وذكر الجوز جاني عنه فيمن اشترى ما في السفينة صبرة لم يسم كيلاً فلا بأس
أن يشترك فيها ويبيع ما شاء إلا أن يكون بينهما كيل فلا يولى عليه، ونحو
هذا قال مالك فإنه قال فيما بيع من الطعام مكايلة أو موازنة لم يجز بيعه
قبل قبضه وما بيع مجازفة أو بيع من غير الطعام مكايلة أو موازنة جاز بيعه
قبل قبضه، ووجه ذلك ماروى الأوزاعي عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر
أنه سمع عبد الله بن عمر يقول: مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حياً مجموعاً
فهو من مال المبتاع رواه البخاري عن ابن عمر من قوله تعليقاً.
وقول الصحابي مضت السنة يقتضي سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولأن المبيع
المعين لا يتعلق به حق توفيه فكان من مال المشتري كغير المكيل والموزون
ونقل عن أحمد أن المطعوم لا يجوز بيعه قبل قبضه سواء كان مكيلا أو موزونا
أو لم يكن، فعلى هذا
(4/115)
يختص ذلك بالمطعوم في أنه لايدخل في ضمان
المشتري إلا بقبضه فإن الترمذي روي عن أحمد أنه
أرخص في بيع ما لا يكال ولا يوزن مما لا يؤكل ولا يشرب قبل قبضه، وقال
الأثرم سألت أبا عبد الله عن قوله نهى عن ربح ما لا يضمن قال هذا في الطعام
وما أشبهه من مأكول أو مشروب فلا يبيعه حتى يقبضه، وقال ابن عبد البر الأصح
عن أحمد بن حنبل أن الذي يمنع من بيعه قبل قبضه هو الطعام وذلك لأن النبي
صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه فمفهومه إباحة بيع ما سواه
قبل قبضه وروى ابن عمر قال رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة يضربون على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم إن يبيعوه حتى يؤووه إلى رحالهم وهذا نص في
بيع المعين وعموم قوله عليه السلام " من ابتاع طعاماً فلا يبيعه (بالرفع
وفي رواية فلا يبعه بالجزم والخبر في الاولى بمعنى الانشاء) حتى يستوفيه "
متفق عليهما.
ولمسلم عن ابن عمر قال.
كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أن نبيعه حتى ننقله من مكانه.
وقال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن من اشترى طعاماً فليس له أن يبيعه
حتى يستوفيه ولو دخل في ضمان المشتري جاز بيعه والتصرف فيه كما بعد قبضه،
وهذا يدل على تعميم المنع في كل طعام مع تنصيصه على البيع مجازفة بالمنع
وهو خلاف قول القاضي وأصحابه ويدل بمفهومه على أن ما عدا الطعام يخالفه في
ذلك (فصل) وكل مالا يدخل في ضمان المشتري إلا بقبضه لا يجوز له بيعه حتى
يقبضه وقد ذكرنا ذلك وذكرنا الذي يحتاج الى قبض والخلاف فيه لما ذكرنا من
الأحاديث ولأنه من ضمان بائعه فلم يجز بيعه كالسلم ولم نعلم بين أهل العلم
في ذلك خلافا إلا ما حكى عن البتي أنه لا بأس ببيع كل شئ قبل قبضه.
قال ابن عبد البر وهذا قول مردود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام أظنه لم
يبلغه الحديث ومثل هذا لا يلتفت إليه.
(فصل) والمبيع بصفة أو برؤية متقدمة من ضمان البائع حتى يقبضه المبتاع فعلى
هذا لا يجوز بيعه قبل قبضه لأنه يتعلق به حق توفيه فجرى مجرى المكيل
والموزون (فصل) وما يحتاج إلى القبض إذا تلف قبل قبضه فهو من ضمان البائع،
فإن تلف بآفة سماوية بطل العقد ورجع المشتري بالثمن وإن بان بفعل المشتري
استقر عليه الثمن وكان كالقبض لأنه تصرف فيه، وإن أتلفه أجنبي لم يبطل
العقد على قياس قوله في الجائحة ويثبت للمشتري الخيار بين الفسخ والرجوع
بالثمن لأن التلف حصل في يد البائع فهو كحدوث العيب في يده وبين البقاء على
العقد ومطالبة
المتلف بالمثل إن كان مثلياً وبالقيمة إن لم يكن مثلياً، وبهذا قال الشافعي
ولا نعلم فيه مخالفاً، وإن أتلفه البائع فقال أصحابنا الحكم فيه كما لو
أتلفه أجنبي، وقال الشافعي: ينفسخ العقد ويرجع المشتري بالثمن لاغير لأنه
تلف يضمنه به البائع أشبه تلفه بفعل الله تعالى، وفرق أصحابنا بينهما لكونه
إذا تلف بفعل
(4/116)
الله تعالى لم يوجد مقتض للضمان سوى حكم
العقد بخلاف ما إذا أتلفه، فإن إتلافه يقتضي الضمان بالمثل وحكم العقد
يقتضي الضمان بالثمن فكانت الخيرة الى المشتري في التضمين بأيهما شاء (فصل)
وإن تعيب في يد البائع أو تلف بعضه بأمر سماوي فالمشتري مخير بين أخذه
ناقصاً ولا شئ له وبين فسخ العقد والرجوع بالثمن لأنه إن رضيه معيباً فكأنه
اشترى معيباً عالما بعيبه لا يستحق شيئاً من أجل العيب، وإن فسخ العقد لم
يكن له أكثر من الثمن لأنه لو تلف المبيع كله لم يكن له أكثر من الثمن أو
تلف بعضه لم يكن له الفسخ لذلك لانه أتلف ملكه فلم يرجع على غيره وإن كان
بفعل البائع فقياس قول اصحابنا إن المشتري مخير بين الفسخ والرجوع بالثمن
وبين أخذه والرجوع على البائع بعوض ما أتلف أو عيب، وقياس قول الشافعي أنه
بمنزلة ما لو تلف بفعل الله تعالى وإن كان بفعل أجنبي فله الفسخ والمطالبة
بالثمن وأخذ المبيع ومطالبة الأجنبي بعوض ما أتلف (فصل) ولو باع شاة بشعير
فأكلته قبل قبضه فإن كانت في يد المشتري فهو كما لو أتلفه، وإن كانت في يد
البائع فهو كإتلافه وكذلك إن كانت في يد أجنبي فهو كإتلافه، وإن لم يكن في
يد أحد انفسخ البيع لأن المبيع هلك قبل قبضه بأمر لا ينسب إلى آدمي فهو
كتلفه بفعل الله تعالى (فصل) ولو اشترى شاة أو عبداً أو شقصاً بطعام فقبض
الشاة أو العبد وباعهما أو أخذ الشقص بالشفعة ثم تلف الطعام قبل قبضه انفسخ
الأول دون الثاني ولا يبطل الأخذ بالشفعة لأنه كمل قبل فسخ العقد ويرجع
مشتري الطعام على مشتري الشاة أو العبد أو الشقص بقيمة ذلك لتعذر رده، وعلى
الشفيع مثل الطعام لأنه عوض الشقص {مسألة} (وعنه في الصبرة المتعينة أنه
يجوز بيعها قبل قبضها وإن تلفت فهي من ضمان المشتري) نقلها عنه أبو الحارث
والجوزجاني واختاره القاضي وأصحابه ونحوه قول مالك لقول ابن عمر مضت
السنة أن ما أدركته الصفقة حياً مجموعاً فهو من مال المتاع وقد ذكرنا ذلك
{مسألة} (وما عدا المكيل والموزون يجوز التصرف فيه قبل قبضه وإن تلف فهو من
مال المشتري) وحكى أبو الخطاب رواية أخرى أنه كالمكيل والموزون في ذلك كله
ما عدا المكيل والموزون والمعدود والمطعوم على ما ذكرنا فيه من الخلاف يجوز
التصرف فيه قبل قبضه في أظهر الروايتين ويروى مثل هذا عن عثمان بن عفان
وسعيد بن المسيب والحكم وحماد والاوزاعي واسحاق، وعن أحمد رواية أخرى لا
يجوز بيع شئ قبل القبض اختارها ابن عقيل، وروي ذلك عن ابن عباس وهو قول أبي
حنيفة والشافعي إلا أن أبا حنيفة اختار بيع العقار قبل قبضه وإذا قلنا
بجواز التصرف فيه فتلف فهو من ضمان المشتري، وقال أبو حنيفة كل مبيع قبل
قبضه من ضمان البائع إلا العقار، وقال الشافعي
(4/117)
هو من ضمان البائع في الجميع، وحكى أبو
الخطاب عن أحمد مثل ذلك.
واحتجوا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم إن يباع الطعام قبل قبضه، وبما روي
عن ابن عباس أنه قال أرى كل شئ بمنزلة الطعام (1) (الطعام ربوي وعليه مدار
المعيشة فلا يقاس عليه ما ليس مثله في ذلك) وبما روى أبو داود أن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى أن تباع السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم،
وروى ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شرا الصدقات حيث تقبض،
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث عتاب بن أسيد إلى مكة قال "
انههم عن بيع ما لم يقبضوا وعن ربح ما لم يضمنوا " ولأنه لم يتم الملك عليه
فلم يجز بيعه كغير المتعين أو كالمكيل والموزون.
ولنا على جواز بيعه قبل قبضه ما روى ابن عمر قال كنا نبيع الإبل بالبقيع
بالدراهم فنأخذ بدل الدراهم الدنانير ونبيع بالدنانير فنأخذ بدلها الدراهم
فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال " لا بأس إذا تفرقتما وليس
بينكما شئ " وهذا تصرف في الثمن قبل قبضه وهو أحد العوضين، وروى ابن عمر
أنه كان على بكر صعب يعني لعمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر " بعنيه
" فقال هو لك يا رسول فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هو لك يا عبد الله
ابن عمر فاصنع به ما شئت " وهذا ظاهر في التصرف في المبيع بالهبة قبل قبضه،
واشترى من جابر جملاً ونقده ثمنه ثم وهبه إياه قبل قبضه ولأنه أحد نوعي
المعقود عليه فجاز التصرف فيه قبل قبضه كالمنافع في الإجارة يجوز له إجارة
العين المستأجرة قبل قبض
المنافع ولأنه مبيع لا يتعلق به حق توفيه فصح بيعه كالمال في يد المودع
والمضارب ولنا على أنه إذا تلف فهو من ضمان المشتري قول النبي صلى الله
عليه وسلم " الخراج بالضمان " وهذا المبيع نماؤه للمشتري فضمانه عليه وقول
ابن عمر مضت السنة أن ما أدركته الصفقة حياً مجموعاً فهو من مال المبتاع،
وأما أحاديثهم فقد قيل لم يصح منها إلا حديث الطعام وهو حجة لنا بمفهومة
فإن تخصيص الطعام بالنهي عن بيعه قبل قبضه يدل على جوازه فيما سواه وقولهم
لم يتم الملك عليه ممنوع فإن السبب المقتضي للملك متحقق وأكثر ما فيه تخلف
القبض واليد ليست شرطاً في صحة البيع بدليل جواز بيع المال المودع والموروث
والتصرف في الصداق وعوض الخلع عند أبي حنيفة (فصل) وما لا يجوز بيعه قبل
قبضه لا يجوز بيعه لبائعه لعموم الخبر فيه قال القاضي ولو ابتاع شيئاً مما
يحتاج إلى قبض فلقيه ببلد آخر لم يكن له أخذ بدله إن تراضيا لأنه مبيع لم
يقبض فإن كان مما لا يحتاج إلى قبض جاز أخذ البدل عنه إلا أن يكون سلماً
لأنه لا يجوز بيع السلم قبل قبضه (فصل) وكل عوض ملك بعقد ينفسخ بهلاكه قبل
القبض لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه كالذي ذكرنا والاجرة وبدل الصلح اذا
كانا من المكيل أو الموزون أو المعدود.
وما لا ينفسخ العقد بهلاكه يجوز التصرف فيه قبل القبض كعوض الخلع والعتق
على مال وبدل الصلح عن دم العمد وأرش الجناية وقيمة المتلف لأن المقتضي
للتصرف الملك وقد وجد لكن ما يتوهم فيه غرر الانفساخ بهلاك المعقود
(4/118)
عليه لم يجز بناء عقد آخر عليه تحرزاً من
الغرر ومالا يتوهم فيه ذلك الغرر انتفى المانع فجاز العقد عليه وهذا قول
أبي حنيفة، والمهر كذلك عند القاضي، وهو قول أبي حنيفة لأن العقد لا ينفسخ
بهلاكه، وقال الشافعي لا يجوز التصرف فيه قبل قبضه ووافقه أبو الخطاب في
غير المتعين لأنه يخشى رجوعه بانتقاض سببه بالردة قبل الدخول أو انفساخه
بسبب من جهة المرأة أو بصفة بالطلاق أو انفساخه بسبب من غير جهتها وكذلك
قال الشافعي في عوض الخلف وهذا التعليل باطل بما بعد القبض فإن قبضه لايمنع
الرجوع فيه قبل الدخول، فأما ما ملك بإرث أو وصيه أو غنيمة أو تعين ملكه
فيه فإنه يجوز له التصرف فيه بالبيع وغيره قبل قبضه لأنه غير مضمون بعقد
معاوضة فهو كالمبيع المقبوض، وهذا
مذهب أبي حنيفة والشافعي وإن كان لإنسان في يد غيره وديعة أو عارية أو
مضاربة أو جعله وكيلاً فيه جاز له بيعه ممن هو في يده ومن غيره لأنه عين
مال مقدور على تسليمها لا يخشى انفساخ الملك فيها فهي كالتي في يده فإن كان
غصباً فقد ذكرنا حكمه (فصل) فإن اشترى اثنان طعاماً فقبضاه ثم باع أحدهما
الآخر نصيبه قبل أن يقسماه احتمل أن لا يجوز وكرهه الحسن وابن سيرين فيما
يكال أو يوزن لأنه لم يقبض نصيبه منفرداً فأشبه غير المقبوض ويحتمل الجواز
لأنه مقبوض لهما يجوز بيعه لا جنبي فجاز بيعه لشريكه كسائر الأموال فإن
تقاسماه وتفرقا ثم باع أحدهما نصيبه بذلك الكيل الذي كاله له لم يجز كما لو
اشترى من رجل طعاماً فاكتاله وتفرقا ثم باعه إياه بذلك الكيل وإن لم يتفرقا
خرج على الروايتين اللتين ذكرناهما (فصل) وكل مالا يجوز بيعه قبل قبضه لا
يجوز فيه الشركة ولا التولية ولا الحوالة به، وبهذا قال أبو حنيفة
والشافعي، وقال مالك يجوز هذا كله في الطعام قبل قبضه لأنها تختص بمثل
الثمن الأول فجازت قبل القبض كالإقالة، ولنا أن التولية والشركة من أنواع
البيع فإن الشركة بيع بعضه بقسطه من ثمنه والتولية بيع جميعه بمثل ثمنه
فيدخل في عموم النهي عن بيع الطعام قبل قبضه ولأنه تمليك لغير من هو في
ذمته فأشبه البيع.
وأما الإقالة فهي فسخ للبيع فأشبهت الرد بالعيب، وكذلك لا يصح هبته ولا
رهنه ولا دفعه أجرة وما أشبه ذلك ولا التصرفات المنعقدة إلى القبض لانه غير
مقبوض فلاسبيل إلى اقباضه
(4/119)
{مسألة} (ويحصل القبض فيما بيع بالكيل
والوزن بكيله ووزنه) وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة التخلية في ذلك قبض،
وقد روي عن أحمد رواية أخرى أن القبض في كل شئ بالتخلية مع التمييز لأنه
خلي بينه وبين المبيع من غير حائل فكان قبضاً له كالعقار.
ولنا ماروى عثمان بن عفان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا بعت فكل
وإذا ابتعت فاكتل " رواه البخاري وروي أبو هريرة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال " من اشترى طعاماً فلا يبيعه حتى يكتاله " رواه مسلم وعن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع
البائع وصاع المشتري رواه ابن ماجه وهذا فيما بيع كيلا
{مسألة} (وفي الصبرة وما ينقل بالنقل) لأن ابن عمر قال كانوا يضربون على
عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتروا الطعام جزافاً أن لا يبيعوه
في مكانه حتى يحولوه، وفي لفظ كنا نبتاع الطعام جزافاً فيبعث علينا من
يأمرنا بانتقاله من مكانه الذي ابتعناه إلى مكان سواه قبل أن نبيعه، وفي
لفظ كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً فنهانا رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن نبيعه حتى ننقله رواهن مسلم وهذا يبين أن الكيل إنما وجب فيما بيع
بالكيل، وقد دل على ذلك أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام " إذا سميت الكيل
فكل " {مسألة} (وفيما يتناول بالتناول وفيما عدا ذلك بالتخلية) وعنه أن قبض
جميع الأشياء بالتخلية مع التمييز إذا كان البيع دراهم أو دنانير فقبضها
باليد وإن كان ثياباً فقبضها نقلها وإن كان حيوانًا فقبضه بمشيه من مكانه
وإن كان ما لا ينقل ويحول فقبضه التخلية بينه وبين مشتريه لا حائل دونه
ولأن القبض مطلق في الشرع فيجب فيه الرجوع إلى العرف كالإحراز والتفرق
والعادة في قبض هذه الاشياء ما ذكرناه (فصل) وأجرة الكيال والوزان في
المكيل والموزون على البائع لأن عليه تقبيض المبيع للمشتري والقبض لا يحصل
إلا بذلك فكان على البائع كما أن على بائع الثمرة سقيها وكذلك أجرة العداد
في المعدودات وأما نقل المنقولات وما أشبهها فهو على المشتري لأنه لا يتعلق
به حق توفيه نص عليه أحمد (فصل) ويصح القبض قبل نقد الثمن وبعده باختيار
البائع وبغير اختياره لأنه ليس للبائع حبس المبيع على قبض الثمن ولأن
التسليم من مقتضيات العقد فمتى وجد بعده وقع موقفه كقبض الثمن
(4/120)
{مسألة} (والإقالة فسخ يجوز في المبيع قبل
قبضه ولا يستحق بها شفعة ولايجوز إلا بمثل الثمن وعنه أنها بيع فلا يثبت.
فيها ذلك إلا بمثل الثمن في أحد الوجهين إقالة النادم مستحبة لما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " من أقال نادماً بيعته أقاله الله عثرته
يوم القيامة " رواه ابن ماجه وأبو داود ولم يقل أبو داود يوم القيامة، وهي
فسخ في أصح الروايتين اختارها أبو بكر وهي مذهب الشافعي (والثانية) هي بيع
وهي مذهب مالك لأن المبيع عاد إلى البائع على الجهة
التي خرج عليها فكانت بيعاً كالأول، وكونها بمثل الثمن لا يمنع من كونها
بيعاً كالتولية، وحكي عن أبي حنيفة أنها فسخ في حق المتعاقدين بيع في حق
غيرهما فلا تثبت أحكام البيع في حقهما بل يجوز في المبيع قبل قبضه وفي
السلم ويثبت حكم البيع في حق الشفيع فيجوز له أخذ الشقص الذي تقايلا فيه
بالشفعة ولنا أن الإقالة هي الرفع والإزالة يقال أقالك الله عثرتك أي
أزالها فكانت فسخاً للعقد الأول بدليل جواز الإقالة في السلم مع إجماعهم
على أنه لا يجوز بيع المسلم فيه قلب قبضه، ولأنها مقدرة بالثمن الأول ولو
كانت بيعاً لم تقدر به ولأنه عاد إليه المبيع بلفظ لا ينعقد به البيع فكان
فسخاً كالرد بالعيب، ويدل على أبي حنيفة ما كان فسخاً في حق المتعاقدين كان
فسخاً في حق غيرهما كالرد بالعيب والفسخ بالخيار ولأن حقيقة الفسخ لا تختلف
بالنسبة إلى شخص دون شخص والأصل اعتبار الحقائق، فإن قلنا هي فسخ جازت قبل
القبض وبعده وقال أبو بكر لابد من كيل ثان ويقوم الفسخ مقام البيع في إيجاب
كيل ثان كقيام فسخ النكاح مقام الطلاق في العدة ولنا أنه فسخ للبيع فجاز
قبل القبض كالرد بالعيب والتدليس والفسخ بالخيار أو لاختلاف المتبايعين
وفارق العدة فإنها اعتبرت للاستبراء والحاجة داعية إليه في كل فرقة بعد
الدخول بخلاف مسئلتنا.
وإن قلنا هي بيع لم يجز قبل القبض فيما يعتبر فيه القبض لأن بيعه من بائعه
قبل قبضه لا يجوز كما لا يجوز من غيره ولا يستحق بها الشفعة إن كانت فسخاً
لأنها رفع للعقد وإزالة له وليست معاوضة فأشبهت سائر الفسوخ، ومن حلف لا
يبيع فأقال لم يحنث، وإن كانت بيعاً استحقت الشفعة وحنث الحالف على ترك
البيع بفعلها كالتولية.
والصحيح أنها لا تجوز إلا بمثل الثمن سواء قلنا هي فسخ أو بيع لانها خصت
بمثل الثمن كالتولية وفيه وجه آخر أنها تجوز بأكثر من الثمن الأول وأقل منه
كسائر البياعات فإذا
(4/121)
قلنا لا تجوز إلا بمثل الثمن وأقال بأقل منه أو أكثر لم تصح الإقالة وكان
الملك باقياً للمشتري، وبهذا قال الشافعي، وعن أبي حنيفة أنها تصح بالثمن
الأول ويبطل الشرط لأن لفظها اقتضى مثل الثمن والشرط ينافيه فيبطل ونفي
الفسخ على مقتضاه كسائر الفسوخ، ولنا أنه شرط التفاضل فيما يعتبر فيه
التماثل فيبطل كبيع درهم بدرهمين ولأن القصد بالإقالة رد كل حق إلى صاحبه
فإذا اشترط زيادة أو نقصاً
أخرج العقد عن مقصوده فيبطل كما لو باعه بشرط أن لا يسلم إليه وفارق سائر
الفسوخ لأنه لا يعتبر فيه الرضى منهما بل يسأل به أحدهما فإذا شرط عليه شئ
لم يلزمه لتمكنه من الفسخ بدونه وإن شرط لنفسه شيئاً لم يلزم أيضاً لأنه لا
يستحق أكثر من الفسخ وفي مسئلتنا لا تجوز الإقالة إلا برضاهما وإنما رضي
بها أحدهما مع الزيادة أو النقص فإذا أبطلنا شرطه فات رضاه فتبطل الإقالة
لعدم رضاه بها |